المقالات

21 نوفمبر 2020

المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت

إن سيرة الصديقين لبهية ؛ وكيف صارت بَهية جميلة إلا بالصبر، فحب الصبر أيها العابد بما أنه أم الشجاعة، أما المترنم داود فطوب قائلاً: ” أصطبر للرب وأحفظ طريقه “. وأما بولس فيعلم كيف تقتنى هذه الفضيلة بقوله: ” إن الحزن يصنع صبراً “.فإذا تصرفت في هذه الفضيلة تجد الرجاء ينبوع الصالحات، والرجاء لن يخزى، فأخضع الآن للرب، وتضرع إليه، فتصادف من هذه ما يتلوه فيعطيك كافة مسائلات قلبك.فماذا يكون أسعد غبطة من هذا، أن تقتني سمعاً من الملك هكذا صارخاً بوداعة، من ذا لا يؤثر أن تكون مسامع القاضي مفتوحة وسامعة له، أنت أيها الأخ فاعل الفضيلة أستأجرك المسيح لكرمه فما دام لك وقت أعمل الصلاح.أسمع بولس الرسول قائلاً: ” مهما زرعه الإنسان إياه يحصد “. أزرع في الروح فتحصد حياة أبدية، لأنه زعم من يزرع في جسده من جسده يحصد بلاء.أسمع الواعظ النصوح قائلاً: ” ازرعوا في ذاتكم العدل فتقطفون ثمر الحياة “.لا تسأم من العمل إذ تشاهد قدامك الرجاء، لأنه حيث الجهادات فهناك رايات الغلبة، وأين ما تكون الحروب فهناك الكرامات، وحيث ما يكون الصراع فهناك الأكاليل، فإذ تشاهد هذه الفوائد فروض نفسك بالصبر.أصرخ مع ذاتك كل حين مع القديسين قائلاً: تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب. هيئ للانصراف أعمالك وأستعد في الحقل، فالحقل هو هذا العالم، خذ مثالاً نافعاً العهد العتيق والعهد الجديد.سيج حول قطعانك بالأشواك، متكاتفاً بالصوم والصلاة بالتعليم إن كان لك مثل هذا السياج، فلا يدخل الوحش أعني المحال.فلح نفسك مثل كرم جيد، وكما أن محافظي الكروم يصفقون بأيديهم ويزعقون بصوتِهم ويُعرِّفون بذلك الذين يغتالونَهم، كذلك أهتف أنت بالصلاة، وكبر بالترنيم، فتطرد الثعلب الوحش الخبيث الذي هو المحال، الذي عنه يقول الكتاب: ” اقتنصوا بذاتكم ثعالباً صغاراً…. الخ “.صد العدو كل حين، إن رشق قلبك بشهوة قبيحة، إن رمى بمقلاع نفسك، وزج فيها أفكاراً دنسة، فأنصب نحوه ترس الأمانة، وألبس خوذة الرجاء، وأستل سيف الروح الذي هو قول اللـه، وإذا تسلحت مقابل العدو فأصبر ولا تسأم في الحرب.فُقْ في كل شيء، وقل: أنا لا تخفى عني معقولاته، أفرح في كل حين كما كتب قائلاً: فليعرف كافة الناس دعتكم، وليبرق تقوى اللـه في قلبك. لا تكن جندياً طارحاً سلاحه، ولا فاعلاً جباناً وعاجزاً. لا تَهرب من الأكاليل، فالعمر قصير والدينونة طويلة، تبصر في هذه أيها العابد.أصرخ بقلبك وقل مع القديسين: “تشجع وليتأيد قلبك وأصبر للرب”.شابه داود برميه حجر واحد مع المحارب، فالملائكة وقوف يبصرون سيرتك. لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والناس، فإن رأوك تقوِّم الفضيلة ظافراً يُسرون، وإن رأوك مغلوباً ينصرفون مقطبين، لأنَهم لا يحتملون أن يشاهدوا الشياطين يقهقهون عليك. أخرط عوض السيف مخافة اللـه، لأن خشية اللـه هي كسيف ذي حدين يقطع كل شهوة خبيثة.فأتخذ في عقلك كل وقت خشية اللـه، متذكراً في عقلك اليوم الأخير المخوف، حين تضطرم السماوات وتنحل، وتحترق الأرض وكافة الأعمال التي فيها، حين تنتشر النجوم كالورق، والشمس والقمر يظلمان، ولا يمنحان ضوءهما.حين يظهر ابن اللـه وينحدر من السماوات إلى الأرض، وقوات السماوات تضطرب حين يتسارع إحضار الملائكة، وتتواتر أصوات الأصوار، وقدامة نار محرقة جارية عدواً تنظف المسكونة، وحوله زوبعة شديدة حين تصير زلازل مرهبة، وبروق لم تصر أبداً ولن تصير إلا في ذلك اليوم، حتى قوات السماوات يشملهم الرعب والرعدة.فكيف مزمع أن نكون يا إخوتي ؟ أية خشية أو أي رعب يشملنا ؟ تأمل يا أخي بني إسرائيل في البرية، أنَهم ما استطاعوا أن يحتملوا الضباب والظلام وخوار الأصوار، وصوت المتكلم في وسط النار، بل أبو أن يزيدهم كلمة. لأنَهم بالحقيقة ما احتملوا ما كان بازائهم، ومع هذا أنه لم ينحدر بغضب، ولا خاطبهم بسخط بل بتسلية محققاً عندهم أن الذي معهم هو الإله.أسمع إذا يا أخي إن لم يستطيعوا احتمال وروده الذي كان بتسلية حين لم تلتهب السماوات وتنحل ؛ وما الأرض وما فيها احترقت ؛ ولا ضربت الأصوار شديداً كما يزمع هو أن يتوق ذلك الصور فينبه الراقدين منذ الدهر، ولا ظهرت نار تغسل كافة المسكونة، ولا صار شيء من الخوف العتيد أن يصير، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحتملوا.فماذا نصنع إذاً، إذا أنحدر بغضب وغيظ لا يقاسان، وجلس على عرش مجده، وأستدعى الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربِها، وكافة الأقطار إلى محاكمة شعبه، ليجازي كل أحد نظير أعماله.الويل لنا، كيف سبيلنا أن نكون حين نمثل عراة بادية أعناقنا ؛ مزمعين أن ندخل إلى الموقف المرهوب، أفِّ أين حينئذ شجاعة البشرة ؟ أين الجمال المزور الغير نافع ؟ أين التذاذ الناس بالآلام ؟ أين حينئذ الدالة الموقحة الفاقدة الحياء ؟ أين حينئذ زينة الثياب ؟ أين وقتئذٍ لذة الخطيئة النجسة ؟ أين حينئذ المحتسبون أن الزنا بالذكور لذة ؟ أين حينئذٍ الذين كانوا يشربون الخمر على الطبول والأغاني الموسيقية، ولا يعاينون أعمال الرب ؟ أين حينئذ العائشون بالنفاق والتواني ؟ أين حينئذٍ التنعم والبطر ؟. كل تلك عبرت وزالت وانحلت بمنزلة الرياح. أين محبة الفضة وحب الاقتناء ؟ أين الكبرياء النافرة الإنسانية الرافضة الكل، المحتسبة ذاتِها وحدها أنَها شيء ؟ أين وقتئذٍ الشرف الفارغ الباطل والمجد الإنساني ؟ أين التمرد ؟ أين الملك ؟ أين الرئيس ؟ أين المدبر ؟ أين السلطان ؟ أين المتبدخون بكثرة الغنى ؟ والمتهاونون باللـه ؟. هناك إذا أبصروا يتعجبون هكذا، ويقلقون ويتزلزلون، ويشملهم الرعب والمخاض كالتي تلد، ويسحقون بريح عاصف. أين حينئذٍ حكمة الحكماء ؟ أين مكرهم الباطل ؟ اضطربوا وناموا كالسكارى وابتلعت كافة حكمتهم، أين حينئذٍ الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ أين الملتمس هذا الدهر الباطل ؟ يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون إذا طولبنا أن نؤدي جواباً عن الأعمال التي عملناها ؛ إن كانت صغاراً أم كباراً، لأنه على كلمة بطالة سنعطي القاضي العادل جواباً. كيف يجب أن نكون لنجد في تلك الساعة نعمة أمامه ؟ وأي فرح يستقبلنا إذا عُزلنا عن يمين الملك. كيف نزمع أن نكون إذا سلم علينا الصديقون وصافحونا ؟ هناك يقبلك إبراهيم واسحق ويعقوب، وموسى وداود وباقي الأنبياء، والرسل والشهداء وجماعة القديسين الذين أرضوا اللـه في حياة أجسادهم، وجماعة الذين سمعت هنا سيرتِهم وتعجبت منها وكنت تريد أن تعاينهم، هم يجيئون إليك هناك فيقبلونك ويسلمون عليك مبتهجين بخلاصك. كيف تكون حينئذٍ ؟ وكيف هو ذاك الفرح الذي لا ينعته وصف، إذا قال الملك للواقفين عن يمينه ببشاشة: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “. فحينئذٍ يا أخي تأخذ ملك حسن البهاء ؛ وتاج الجمال من يد الرب، وتملك مع المسيح، وترث الخيرات التي أعدها اللـه للذين يحبونه، وتكون بلا هم ؛ ولا يذهلك حزن. تفكر يا أخي ما هو التملك في السماوات، والملك مع المسيح الذي هو معاينة وجهه الأقدس كل حين، وأنه هو يكون لك نجماً، لأنه في ذلك الحين تعطيك الشمس لا أنواراً للنهار كما قال إشعياء، ولا القمر يضئ لك بالليل، لكن الرب يكون لك نوراً أبدياً، والإله مجدك. أنظر يا أخي أي شرف ومجد قد أعد للذين يتقونه وللحافظين وصاياه ؛ وأفتكر في هلاك الخطاة إذا دخلوا إلى المجلس الرهيب، أي خزي يشملهم أمام القاضي العادل حين لا يكون لهم جواب اعتذار. أي خجل يكتنفهم إذا افرزوا إلى يسار الملك، أي ظلمة تسقط عليهم إذا كلمهم بسخطه، وأقلقهم بغضبه قائلاً: ” انصرفوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة للمحال ورسله “. بأي ندب يولولون منتحبين نائحين ؛ مساقين ليعذبوا إلى الدهور التي لا أخر لها، كيف مكان البكاء وصرير الأسنان الذي يفرق منه الشيطان نفسه ؟ كيف جهنم النار ؟ كيف الدود الذي لا يرقد ونفثات السم ؟ ما أصعب تلك الظلمة البرانية، كيف الملائكة الموكلون بعذاب الغير رحومين يعيرون ويقرعون بجفاوة، يزعق المعذبون بدوام وليس من يخلصهم، والرب لا يستجيب لهم. وحينئذٍ يعرفون أن كل أمور العالم باطلة، والأشياء التي ظنوها هنا مستلذة وجدوها أمر من المر والصدى. أين حينئذ لذة الخطيئة المسماة لذة كاذبة ؛ لأن ليست لذة إلا مخافة الرب ومحبته، وبالحقيقة هذه اللذة تملأ النفس وتشبعها شحم وسمن. حينئذ يعرفون ذاتِهم، والأفعال التي فعلوها، ويعترفون أن حكومة اللـه مقسطة قائلين: أننا سمعنا بِهذا، ولم نشاء أن نرجع عن أعمالنا الخبيثة. فلا ينتفعون من هذه إذا قالوها. ويلي ويلي أنا المقتنص بخطايا لا تقاس، لأنني أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، وقد انحنيت تحتها كما من حمل حديد، وليس لي دالة أتفرس وأبصر علو السماء. إلى من ألتجئ إلا إليك أيها المحب للإنسان، إلا إليك أيها المحتمل السوء، ألهم ارحمني كرحمتك العظمى، وككثرة رأفاتك أمح أثمي، أغسلني كثيراً من ذنوبي، وطهرني من خطيئتي. فأنني عارف أثمي، وخطيئتي أمامي كل حين، إليك وحدك أخطأت، وقدامك صنعت الإثم، فإذ صنعته ألتجئ إليك بما أنك عديم الحقد، إياك خالفت، وإليك لجأت من أجل كثرة خيريتك وتعطفك. وأتوسل هاتفاً أعرض بوجهك عن خطاياي، وأمح كافة آثامي من أجل اسمك، لأن ليس لي شيئاً أقربه إليك، لا عملاً صالحاً، ولا قلباً نقياً، لكنني أثق برأفاتك، وأطرح ذاتي أمامك، لكي ما تجدد فيَّ قلباً نقياً، وتوطدني بروح رئاسي حتى لا أتكردس بسهولة في الخطية بل أعبدك منذ الآن ببر وعدل كافة أيامي، لأنه إياك تسبح كافة قوات السماوات، ولك المجد والعز إلى الدهور. فأطلب إليكم إذاً يا إخوتي، بما أن هذه الأشياء تنتظر، فلنسارع لنكون عنده بسلامة غير مدنسين ولا عيب فينا. إذا وافتك شهوة خبيثة أو فكر ردىء، فأستل هذا السيف الذي هو التفكر في مخافة اللـه، فيقطع كل قوة العدو. عوض البوق لك الكتب الإلهية، لأنه كما أن البوق إذا ضُرب يجمع الجند، هكذا الكتب الإلهية إذا هتفت إلينا تجمع أفكارنا إلى مخافة اللـه، لأن أفكارنا مثل الجند الذين يحاربون أعداء الملك. وأيضاً كما أن البوق إذا ضُرب في وقت القتال يُنهض نشاط المجاهدين الشجعان على الذين يقاتلونَهم، هكذا الكتب الإلهية تستنهض نشاطك إلى الخير، وتشجعك على الآلام. فلذلك يا أخي كلف ذاتك بكل طاقتك أن تقرأها بمداومة، لتقرع أفكارك التي شتتها العدو برداوة صناعته وسوء حيلة، لأنه ينشئ نتائج خبيثة، وربما يجلب أحزاناً أو رفاهية وسعة كثيرة، لأنه يصنع هذه بمكره وخبثه حتى يغرب الإنسان من اللـه. لأنه إذا صارع إنساناً بالأفكار، ولا يستطيع أن يقهره ويحطمه، فحينئذٍ يجلب غموماً لكي ما يسود ذهنه ويظلمه، فيجد فسحة أن تزرع المقاصد التي يؤثرها، ويبدي أن يخطر للإنسان فيقول بأقسام: أنني منذ صرت أعمل الخير رأيت أياماً رديئة، فأعمل إذاً المساوئ لكي ما تجئ الخيرات. فحينئذٍ إن لم يكن الإنسان مستفيقاً يبتلعه كالهاوية حياً. فإن لم يمكنه بِهذه أن يقتسره، يجلب له حينئذٍ السعة، ويعليه ويطغيه بالسعة التي هي أصعب وأشر كافة الآلام، لأنَها تجعل الإنسان متكبراً لا يتقي اللـه، تجذب العقل وتسحبه إلى قعر اللذات. وتصيره أن يجعل في السماء فم التجديف، لأنه قد كتب ” جعلوا أفواههم في السماء “. هذه تجعل الإنسان لا يعرف اللـه، ولا يعرف ضعف طبيعته، ولا يوم الوفاة، هذا طريق كافة الشرور، من يحب أن يمشي في هذا الطريق يصل إلى أبواب الموت، هذه هي الطريق التي قال عنها الرب أنَها عريضة واسعة مؤدية إلى الهلاك. فها قد سمعت يا أخي أن العدو يجلب وقتاً سعة ووقتاً غموماً وضيقة، فالشىء الذي يختبر به نية الإنسان ويراها جانحة إليه يحاربه بِها. فلذلك تيقظ يا أخي بتحرز وحرص دائماً أن تلاصق قراءة الكتب الإلهية، ولا تفصل ذاتك منها، لتتعلم كيف يجب أن تَهرب من فخاخ العدو، وتستدرك الحياة الأبدية. لأن قراءة الكتب الإلهية تسلي القلب الحقيقي، فلذلك لا تتوانى في نفسك بل ثابر على القراءة والصلوات، وأشتغل بَها ليستضئ ذهنك وتصير تاماً كاملاً لا ناقصاً. آخرون يتفاخرون بمخاطبة الرؤساء المعظمين والملوك، فأفتخر أنت أمام الملائكة بأنك تخاطب اللـه بالروح القدس بالكتب الإلهية، لأن الروح القدس هو المتكلم بِها. فأحرص إذاً أن تفاوض الكتب الإلهية، وواظب على الصلوات، لأنه بمقدار ما تخاطب اللـه بِها يتقدس جسمك ونفسك وروحك. فأعرف هذا أنك تتقدس بمقدار قراءتك واستماعك، وأحرص أن تفاوضها بمداومة، وإن كانت يداك مشغولتين فصلي بذهنك، فإن حنه المغبوطة صلت، فشفتاها كانتا تتحركان فقط، وأما صلاتِها فدخلت في مسامع الرب الصباؤوت، لأنه أعطاها سؤالها. فلهذا إن كانت يداك مشغولتين، فأتلُ بذهنك، فإن اللـه يستمع من الساكتين. وإن كنت لا تعرف أن تقرأ، فأذهب إلى حيث تسمع وتنتفع دائماً، فأنه قد كتب: إذا رأيت إنساناً فقيهاً فادلج ( أسرع ) إليه، ولتسحق قدماك درج ( سُلَم ) أبواب منزله. وهذا يا أخي يفهمه لا الذين يعرفون أن يقرءوا فقط بل والذين لا يعرفون معاني الأقوال التي يقرءونَها. أحذر أيها العابد أن تتوانى في الموهبة التي مُنحتها من المسيح، لكن أحرص وأطلب كيف ترضيه، وتنال تطويب القديسين، فقد كتب: مغبوطون الذين يفحصون شواهده ويتبعونه بكل قلوبِهم. وأحذر أن يقطعك العدو إذا عزمت أن تقرأ، إذ يجلب عليك الضجر ويلقيك في تغلبات يسحب بِها ذهنك إلى كل جهة ويقول لك: أعمل هذا الأمر ما دام عمله يسيراً ثم أقرأ بلا اهتمام. فيبتدئ يخطر لك هذه، ويمنحك نشاطاً في عمل اليد ليشغلك بِها، ويعوقك عن أن تقرأ وتنتفع، لأنه إذا رأى أخاً يداوم القراءة وينتفع بِهذه الحجج وأكثر منها يجتهد أن يعيقه، فلا تذعن له، وصر كالآيل الذي يعطش ويشتاق أن يجئ إلى عيون المياه أي الكتب الإلهية لتشرب منها وتبرد عطشك الملتهب فيك بالآلام. ولاتركنَّ أن أصف لك المنفعة الصائرة من القراءة، فكما قلت: إذا منحك اللـه أن تعرف منها كلمة لا تُهملها تعبر عنك، بل أتلوها درساً، وأكتبها في قلبك، وأحفظها في حاسة ذكرك غير ممحوة. فقد كتب: ” أني أتلو حقوقك “. وأيضاً: ” خبأت في قلبي أقوالك لكي لا أخطئ إليك “. وأيضاً: “بماذا يقوم الشاب سبله؟ بحفظه أقوالك”. أرأيت أيها الأخ أنه بتكرار أقوال الرب يقوَّم طريق الإنسان، لأن من ذا يتذكر أقوال الرب فلا يتقوم، اللهم إلا إن كان غير مختبر وشقي، فمثل هذا لا يذكر بالجملة بل والذى يشعر أنه يذكره ينساه. ولمثل هذا يقول اللـه: ” لم تُحدث بحقوقي وتأخذ بفمك ميثاقي “. ويأمر أن ينزع منه الشىء الذي يظنه له، فماذا يظن في ماله ؟ يظن أن له أمانة لأنه يدعى مسيحياً، وبأفعاله يجحد ذلك، فهو أشر من الكافر. فلذلك يأمر أن ينتزع ما له من الروح القدس، الذي أخذه في يوم الافتداء، فيصير ذلك الإنسان بمنزلة جرة نبيذ، ترشح رشحاً كثيراً، وبرشحها تضيع النبيذ. فكافة الذين يبصرونَها ولا يعرفون الأمر الصائر، يظنون أنَها مملوءة، فإذا فتشت حينئذ يظهر للجماعة أنَها موضوعة فارغة. هكذا ذلك الإنسان إذا أختبر في يوم الدينونة المهول، وصودف مصفراً حينئذٍ تصير أموره ظاهرة للكل، ونظيره الذين في ذلك اليوم يقولون للملك: أيها الرب أليس باسمك تنبأنا وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فيجيب الملك ويقول لهم: حقاً أقول لكم لست أعرفكم. أرأيت أيها الأخ أن مثل هذا ليس بالجملة شيئاً، فتذكر أنت إذاً الأقوال التي سمعتها وقوم طريقك، أحذر أن تدع النسيان أن ينحدر فيخطفها من قلبك، أحذر أن تترك الطير الخبيث ينزل فيأكل زرع ابن اللـه، فإنه هو قال: أن البذار هو القول الذي سمعتموه. أخفِ البذار في بطون الأرض لكي ما يثمر، أي أخفِ قول التعليم في صميم قلبك ليثمر للـه بالتقوى، فإذا قرأت أقرأ باهتمام وتعب، وأعبر في الفصل بثبات كثير، ولا تسر في تقليب الورق فقط، فإن كانت الحاجة ماسة فلا تعجز أن تكرر الفصل مرتين وثلاثة ومراراً كثيرة لتفهم قوته. وإذا عزمت أن تجلس لتقرأ، فأطلب أولاً إلى اللـه قائلاً: يا ربي يسوع المسيح أفتح مسامع قلبي وناظري لأسمع أقوالك وأفهمها، فأصنع مشيئتك، فأنني ساكن في الأرض، فلا تكتم عني وصاياك. أكشف حجاب عيني، فأتأمل عجائبك من شريعتك، لأنني عليك أتوكل يا إلهي أن تضئ قلبي. نعم يا أخي أطلب إليك أن تبتهل إلى اللـه كل حين هكذا، لكي ما يضئ عقلك، ويوضح لك قوة أقواله. فإن كثيرين ضلوا إذ وثقوا بذهنهم، وزعموا أنَهم حكماء فحمقوا، وإذ لم يتفطنوا ويفهموا المكتوبات تكردسوا في التجديف وهلكوا. وإن وجدت في كل قراءتك كلمة مستعجم فهمها، فأحذر أن يعلمك الخبيث أن تقول في ذاتك ليس هكذا المعني كما يذكر هذا القول، لأنه كيف يمكن أن يكون هكذا أو نظيره. لكن إن كنت تؤمن باللـه فصدق أقواله، وقل للخبيث: أنصرف ورائي يا شيطان فإنني اعرف أن كلمات اللـه كلمات طاهرة فضة محماة مصفاة سبعة أضعاف، وليس فيها شئ صعب ولا معوج، لكنها كلها ظاهرة للذين يفقهون، ومستقيمة لذوي العلم. وأنا إذ لا فهم لي لست اعرفها، أنا اعرف أنَها مكتوبة بمعنى روحاني لأن الرسول يقول: إن الناموس روحاني. ثم بعد هذا ارفع طرفك إلى السماء وقل: يارب أنا أصدق أقوالك ولا أقاومها بل أني أرتضي بأقوال روحك القدوس، أنت يارب خلصني لأجد نعمة أمامك، أنا لست ألتمس شيئاً آخر إلا أن أخلص فقط وأنال رحمتك أيها المتحنن. لأن لك الملك والمجد والعز والاقتدار إلى الدهور. آمين. أقتنِ السكوت أيها الأخ بما أنه سور حصين، لأنه يجعلك أعلى من الآلام. فأنت تقصد في الاستعلاء، والآلام تروم إحدارك إلى أسفل، فأقتنِ السكوت بمخافة اللـه، فلا تصل إليك كافة نبل العدو ولا تضرك.الصمت المقترن بمشيئة اللـه هو مركبة نارية من أقتناها يصعد إلى السماء، ويقنعك بذلك إيليا النبي كيف أحب السكوت وتقوى اللـه فصعد إلى السماء. يا للسكوت نجاح العُبَّاد، يا للسكوت السُلَّم السماوي، السكوت طريق ملك السماء، السكوت أم التخشع، السكوت مسبب التوبة، السكوت مرآة ترى الخطايا، موضح للإنسان ذنوبه، سبيل الدموع، والد الوداعة، مسكن للتواضع.يجيب الإنسان إلى الترتيب السلامي، مقترن بمخافة اللـه، منير الذهن، جاسوس الأفكار، ومحتسب الإفراز، والد كل خير، توطيد الصوم، ومعوق هيام البطن، مسبب المثابرة على الصلاة والقراءة، سكون الأفكار، وميناء صاحي، جاعل النفس بلا اهتمام.نير صالح ووقر خفيف ينيح ويحمل من يحمله، سرور النفس والقلب، لجام العينين والسمع واللسان.يا لك من سكون مبغض العربدة وعدو الوقاحة، أم الوداعة سجن الآلام، مؤازر كل فضيلة، مسبب هجر الاقتناء، حقل المسيح المثمر الأثمار الصالحة، مقترن بخشية اللـه، سور وحصن للمريدين أن يجاهدوا من أجل ملك السماوات.نعم أقتنِ يا أخي هذا الحظ النفيس كما اقتنته مريم ولن ينتزع منها.أرأيت أيها الأخ ما قدر السكوت، وكيف الرب يمدح من أقتناه، أقتنيه فتتنعم بربك جالساً عند رجليه ملتصقاً به وحده وقل بدالة: لصقت نفسي وراءك وإياي عضدت يمينك، من أجل هذا تمتلئ نفسي كأنَها ممتلئة من شحم ودسم.أقتنِ هذا السكوت فإنه أحلى من العسل، لأن خبزاً وملحاً في سكوت أفضل من تنضديد ألوان الأغذية الفاخرة بِهم وحزن.أسمع القائل: تعالوا إليَّ يا معشر المتعوبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.فالرب يشاء أن يريحكم من الهموم والغضب والأتعاب، وغموم هذا الدهر، يشاء أن تكون بلا هم من عمل لبن مصر، يريد أن يدخلك البرية أي السكوت، ليضئ سبلك بعمود السحاب لكي يطعمك المن أي خبز السكوت وعدم الهم، ويورثك الأرض الصالحة أعني أورشليم التي في العلا.نعم يا حبيبي حب السكوت وإياه أقتنِ لتتنعم بطرق شواهد اللـه كمن يتنعم بكافة الغنى، أقتنيه بمخافة اللـه فيكون إله السلامة معك.لأن به يليق المجد والعز الآن وإلى آباد الدهور. آمين. أطلب إليكم أيها الإخوة المحبوبون من اللـه، أن تحرصوا كل يوم، وتتذكروا هذه التعاليم، متذكري الأمانة الرجاء المحبة التواضع.اختموا كل حين الصلوات وتلاوة الكتب الإلهية بالسكوت، لأن هذه الفضائل إذا كانت حاضرة عندكم وذائدة فيكم فلا تكونوا في معرفة ربنا يسوع المسيح بطالين ولا غير مثمرين.والعابد الذي لم يقتني هذه بل يتوانى في خلاصه هو أعمى شحاذ قد أشتمله نسيان خطاياه القديمة، وصح علية المثل أنه كالكلب الراجع إلى قيئه، كالخنزير الذي يستحم ويتمرغ في حمأته.فإن الذين هربوا من أدناس العالم بمعرفة ربنا يسوع المسيح ويلتفون بِها ويلتفتون ثانياً وينغلبون فقد صارت أواخرهم أشر من أوائلهم، ولقد كان أفضل لهم ألا يعرفوا طريق الحق، أوفق لهم من أنَهم بعد ما عرفوا عادوا إلى ورائهم.فمنذ الآن يا أحباء المسيح وجنده المصطفين ؛ لنتناول الأسلحة من التعاليم المقدم ذكرها، ونحفظها في قلبنا، لنستطيع أن نجاهد الجهاد النفيس، ونطأ كافة قوة العدو، وننجى من السخط الموافي الذي يحل بأبناء المعصية، ونجد رحمة ونعمة في ذلك اليوم المرهوب أمام القاضي العادل المجازي كل أحد نظير أعماله.الذي به وحده يليق المجد إلى آباد الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
19 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس آسا

"أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة" 2أي 14: 11 مقدمة تذكرني قصة آسا بقصة ذلك الجندي الذي يقولون إن الأطباء حكموا بأن مرضه غير قابل للشفاء، وأنه لابد سيموت، وإذ سمع الجندي هذا القرار، سأل نفسه إذا كان لابد من الموت، فلماذا لا يموت نبيلاً شريفاً في المعركة؟!! ولماذا يبقى في انتظار موت قد يقصر أو يطول أمده، مع بقية من حياة ممتلئة بالعذاب والمعاناة؟!!… وتحول الجندي إلى أسطورة في المعركة،… فإذا تراجع الجنود، كان هو الوحيد المتقدم؟!! وإذا هاجم كان هجومه ليس هجوم فرد واحد بل كأنه هجوم ألف من الرجال،.. وحول الجندي الهزيمة إلى نصر، والتقهقر إلى اكتساح عجيب!!... وعجب القائد من أمر هذا الجندي الغريب، وإذ سأل عن سره، أدرك قصته، وقال له: لا ينبغي أن تموت.. وجمع له عدداً من أعظم الأطباء الذين نجحوا في القضاء على علته، والانتصار على مرضه!!. وهنا حدث الشيء الغريب، إن الجندي وقد أيقن من نجاته استمرأ الراحة، وفقد روح البطولة، وأصبح واحداً عادياً من الجنود، عاد يخشى الموت، ويمسك بأسباب الحياة، ولم يعدله ذلك القول العظيم "إذا لم يكن من الموت بد، فمن العجز أن تموت جباناً!!".. وهكذا... كان آسا الملك في قلب المخاوف والمتاعب والصعاب. والموت ارتقى إلى أعظم ذري الشجاعة والقوة والبطولة، وعندما سارت الحياة هادئة ولينة ووادعة، طافت غلالة من الضعف والهوان حول شمسه البارعة،.. ومع ذلك فإنه سيبقى دون أدنى شك واحداً من أعظم الأبطال في ملوك يهوذا الذين ارتفعوا إلى آفاق من الإيمان قل أن يرتفع إليها الكثيرون، وكان مصلحاً من المصلحين الذين قاموا بالإصلاح بشجاعة قل أن توجد عند العديد من أبطال الإصلاح أنفسهم، وها نحن نتابع قصته فيما يلي: آسا والظروف السيئة التي أحاطت به لا نستطيع أن نقدر مدى ما في حياة الإنسان من قوة أو ضعف، من شجاعة أو جبن، من بطولة أو إسفاف، قبل أن ندرك الظروف المحيطة به، ومدى ما معه أو عليه من رصيد أو إفلاس،.. ولا حاجة إلى القول بأن آسا الملك قد تفتحت عيناه على ظروف من أسوأ ما يمكن أن تكون الظروف، فأبوه أبيام وجده رحبعام كانا ملكين آثمين شريرين، أوغلا في الشر والخطية، وطبعا المملكة بأشر طابع، وجدته -وهي بهذا المعنى سميت أمه- معكة ابنة أبشالوم، وهي التي جاء وصفها في سفر أخبار الأيام الثاني: "وأحب رحبعام معكة بنت أبشالوم أكثر من جميع نسائه وسراريه، لأنه اتخذ ثماني عشرة امرأة وستين سرية"... وقد كانت بهذا المعنى المرأة القوية الأثر الطاغية النفوذ، الوثنية الحياة، والتي عملت تمثالاً لسارية، لتتعبد أمامه،.. كانت المرتفعات والسواري الوثنية قد ملأت كل مكان!! وإذا دخلت العبادة الوثنية، فلابد أن يلحق بها كل أنواع الفساد والشرور، وقد انتشرت الدعارة، وبلغت الأمة أحط الدركات: "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق"... ولا ينبغي أن ننسى أن هذا النوع من الفساد يطلق عليه "السدومية" لما هو معروف بأن الخطية التي اشتهرت في سدوم، قبل أن يحرقها الله،... وتفتحت عيناً آسا ليرى بلده وقد أصبح سدوم وعمورة من هذا القبيل.ولم يكن آسا غبياً عن أن يدرك أن الخراب الذي وصلت إليه البلاد، قد جاء نتيجة الشر الذي انغمست فيه، ولعله دخل الهيكل مرات متعددة، ليمتلئ أسى وألما، وهو يرى كيف تبدلت الأواني والأتراس الذهبية بأوان وأتراس نحاسية، لأن رحبعام عملها بعد أن أستولى شيشيق على أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ولم يترك شيئاً ثميناً لم يأخذه!!.. لقد ولد آسا على كوم من الرماد والخراب الذي شمل كل شيء في أرض يهوذا!!... وما أكثر الذين يولدون كآسا في أتعس الظروف وأشدها، وهم غير مسئولين عنها، ولكنهم مع ذلك، فإن واجبهم الحتمي لا أن يتجاهلوها أو يهربوا منها،... بل لأبد أن يروا فيه النقطة التي منها يبدءون ويعملون!!... آسا والقدوة الصالحة التي اقتداها لعل "آسا" الشاب، وهو يواجه الظروف السيئة التي واجهها، كان أدنى إلى ذلك الشاعر الغربي الذي قال: في ضغط الحوادث لم أدمدم أو أصرخ عالياً، تحت ضغط الظروف جرحت هامتي، ولكنها لم تنحن،.. بل لعل الظروف نفسها أنشأت عنده رد فعل عظيم،.. وكما أبصر برناردشو -وهو طفل صغير - أباه يدخل البيت وهو مترنح من المسكر، فعاش يكره الخمر طوال حياته، هكذا أبصر "آسا" أباه وجده، وما خلفا وراءهما من آثار بشعة،... وتحول من دخان خرابهما إلى الصورة اللامعة، صورة جده العظيم داود،... وكانت هذه الصورة أشبه بالمصباح الهادي الذي يحمله الإنسان في الليلة الداجية،.. وإذا كانوا قد قالوا: أن الجنود في معركة قاسية قد اجتمعوا حول مائدة، وهم يفكرون في الاستسلام للعدو، وبينما هم يهمون بفعل ذلك، رفع أحدهم بصره فرأى صورة القيصر معلقة على حائط، فما كان منه إلا أن أدارها إلى الحائط، لأنهم لا يستطيعون أن يسلموا، وعين القيصر تنظر إليهم!!... لقد كافح الركابيون على مختلف الأجيال والعصور في مواجهة الصعاب والمشكلات والمتاعب: "لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا"... وسعيد ذلك الإنسان الذي يستطيع في تاريخ أجداده وآبائه أن يجد يوناداب بن ركاب أو بالأحرى داود بن يسى،.. ولكل إنسان على أي حال القدوة التي تتغلغل في كيانه، وتسري في دمه، وتصبح له المثل الأعلى الذي يروم تقليده، وإذا كان نابليون قد تعود أن يضع في غرفته وهو شاب أعظم أبطال الحروب، أمثال الإسكندر، وقيصر، وهانيبال، وغيرهم ممن كانوا في نظره سادة الناس وأبطال الحروب، وتشبع بهم إلى درجة المحاكاة التي ملأت أوربا بالدم خمسة عشر عاماً،.. فإن آسا ويهوشافاط وعزيا وحزقيا ويوشيا كانوا يضعون على الدوام أباهم المثل والقدوة الصالحة التي يقتدون بها،.. وكان الواحد منهم يوصف بالقول: "عمل... كداود أبيه"... وعلى العكس من ذلك، كان النسل الشرير مثل أبيام الذي وصف بالقول: "ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه".. كان داود هو المقياس الذي تمتحن به قلوب أولاده، ومع أن هذا المقياس كان به الضعفات البشرية التي تحيط بنا جميعاً، لكنه -على أي حال- كان مقاساً مقارناً لأجيال تأتي بعده،.. وقد شجع هذا بولس على أن يقول للفلبيين: "أخيراً أيها الإخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم"... ويقول للتسالونيكيين: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتمثل بنا... لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتى تتمثلوا بنا".. ترى هل نستطيع أن نكون لأولادنا ولأجيال آتية بعد، مثل هذه القدوة الصحيحة السليمة الكاملة؟!! آسا والسلوك القويم أمام الله كان آسا واحداً من أعظم الملوك الذين وصفوا بالقول: "وعمل آسا ما هو مستقيم في عيني الرب كداود أبيه"... ولسنا نظن أن هناك صفة مجيدة يمكن أن يوصف بها إنسان كمثل القول أنه يعمل المستقيم في عيني الرب، وهو بذلك يصل إلى أعلى مدارج السمو الخلقي بين الناس... قد يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، عندما يرى الناس سمو حياته اللامعة التي تبدو كالمنار العالي المرتفع على قمة جبل، وقد يكون من ذلك النوع العظيم الذي وصفه الرسول بولس في قوله: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم" أو ما ذكره الرسول بطرس "وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها".. وقد يبدو المسيحي أكثر من ذلك مستقيماً في عيون الأتقياء والقديسين، وهذا أعظم وأمجد،.. وذلك لأن قياس المؤمنين أعلى وأكمل وأنقى وأقدس، وهم مرات كثيرة ما يرفضون أشياء كثيرة متعددة، يرى العالم أنه لا غبار منها على الإطلاق، وهي في نظر المؤمنين كلها غبار وعفار،.. وأنه حسن أن يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، وأحسن منه أن يبدو كذلك في عيني المؤمنين، على أن الأحق والأمجد أن يكون مستقيماً في عيني الله، الذي يعرف السرائر، ويكشف الخبايا والظلمة هكذا كالنور أمام عينيه،... فإذا كان أحدهم قد قال: إن النظافة في مفهوم الناس تختلف، إذ يمكن أن نصف الشارع بالنظافة، ولكن نظافة الشارع شيء يختلف تماماً عن نظافة البلاط في المنزل،.. والبلاط النظيف يختلف بالكلية عن نظافة الأطباق وأواني الطعام، وهذه لا يمكن أن تقارن، بنظافة الأدوات الطبية المعقمة،.. فإذا ظهر الإنسان مستقيماً أمام عيني الله، فإن هذا أعلى ضرب من النظافة والحياة الخلقية السامية التي تبدو كالآنية المعقمة، بالمقارنة مع الحياة العالمية الشديدة الاتساخ،.. ومن المجيد حقاً أن توصف الحياة أمام عيني الله بحياة الاستقامة، أو حياة الخط المستقيم، أو حياة الطريق المستقيم، والطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وأيسر الطرق، وآمن الطرق، وأمجد الطرق، فإذا كانت الدول الراقية والمتحضرة، توصف طرقها بمثل هذه الأوصاف، فإن أرقى إنسان على الأرض، وأصدق إنسان، وأعظم إنسان، وآمن إنسان هو ذلك الإنسان الذي يسلك طريق الحياة دون أن ينحرف إلى هذا الجانب أو ذلك،.. وهو الذي يسير هادئاً آمناً مبتهجاً سعيداً، في طريق الله المستقيم بين الناس!!... آسا المصلح الثائر وكم أود أن يتعلم الكثيرون من آسا كيف يكون الإصلاح، وكيف يضرب في العمق، وكيف يسير بلا هوادة أو تريث، وقد يصاحبنا الحياة كلها!!.وجمال الإصلاح أنه أولاً وقبل كل شيء، الإصلاح الصادر من شاب، إذ بدأ به منذ الدقيقة الأولى لتوليه العرش، ويبدو أن الشاب- لو كان على الأغلب في العشرين من العمر- عندما أصبح ملكاً، أشبه الأشياء ببرميل من بارود، لم يكن اعتلاؤه العرش، إلا بمثابة الشرارة التي تفجرت لتكتسح أمامها كل شيء، ولقد ظل مدة العشر سنوات الأولى يعمل بهمة لا تعرف الكلل، في إصلاح كل شيء تصل إليه يده،.. كان شاباً في طراوة الحياة ومطلع الأيام، وقد أعطى المثل بحياته، قبل أن يعطيه بكفاحه وجهاده، إذ كان أشبه بالزنبقة التي احتفظت بنقاوتها في أرض الأوحال، والزهرة التي عاشت بجمالها في وسط القاذورات،.. ولعل أروع ما في الشاب، أنه استدار إلى بيته، يطهره من المفاسد والأوشاب،.. أغلب الظن أن أمه ماتت وهو صغير وحلت ملكة بنت أبشالوم عابدة البعل والوثنية، محل أمه، وأضحت كل شيء بسلطانها القوي المفسد في البيت والأمة جميعاً، فإذا به يقوم عليها، ويحطم ساريتها، ويهدم نفوذها، ويستأصل شرها، ويعلن للجميع مدى عزمه وصدقه وقوته في القضاء على الوثنية والشر، ابتداء من أقرب الناس وألصقهم به،.. لقد أعلن آسا أنه وقف إلى جانب الحق، وهو إذا كان يحب أمه ويكرمها، لكنه لا يستطيع أن يحب أمه على حساب الحق الإلهي، ومجد الله، وهنا يجوز له أن ينقلب عليها ويقف ضدها، وهو لا يفعل هذا في الخفاء، بل يفعله على مر أى من الأمة كلها، بل ومن التاريخ بأكمله!!... وإذا كان أرسطو في واحد من أقواله المشهورة قال: "أنا أحب أفلاطون، ولكني أحب الحق أكثر من أفلاطون"، فإن كل ابن من أبناء الله جدير به أن يصل إلى شيء أبعد من ذلك: "إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً. ثم كان الإصلاح ثانياً: الإصلاح الروحي، وهو لب الإصلاح وجوهره إذ لا إصلاح البتة، قبل إصلاح العلاقة مع الله، والجانب السلبي لهذا الإصلاح هو هدم المرتفعات الوثنية، التي أقامها الناس تعبداً للبعل وعشتاروث والآلهة الوثنية، بما يرتبط بها من عبادة شهوانية حسية، والجانب الإيجابي هو الاهتمام ببيت الله: "وأدخل أقداس أبيه وأقداسه إلى بيت الله من الفضة والذهب والآنية"... ولست أظن أن هناك إصلاحاً في الأرض يمكن أن يحدث بعيداً عن بيت الله، والارتباط به،.. ولا يمكن لأحد أن يقنعني بأي إصلاح اجتماعي أو علمي أو اقتصادي أو أدبي، يمكن أن يحل بديلاً للإصلاح الروحي،... إن قلب الإصلاح، هو إصلاح القلب البشري، ولن تقنعني أعظم درجات الحضارة الغربية التي تعطي ظهرها لله، ولبيت الله، وللشركة مع الله،.. قال بلي جراهام ذات مرة: "إن مشكلة العالم ليست القنبلة الهيدروچينية أو حتى الشيوعية، إن المشكلة الحقيقية هي في فساد الطبيعة البشرية، فليس هناك من فرق بين الإنسان المتوحش الذي يعيش في الأدغال، حاملاً السهم في يده، وأمريكي متعلم مثقف يطير بقاذفلة قنابل محملة".. أجل وهذا حقيقي تماماً... ولعله يذكرنا بما حدث ذات مرة في انجلترا، إذ كان على أحد الشواطئ الإنجليزية كنيسة قديمة بنيت على أكمة، وكان للكنيسة برج عال يكاد يبلغ السحاب، وقد دمرت إحدى الطائرات هذا البرج، وأصابت الكنيسة في أكثر من موضع بتلف بالغ، وانقضت شهور دون أن يفكر أحد في إصلاح التلف، وفي يوم من الأيام جاء أحد قواد الأسطول البريطاني إلى راعي الكنيسة وسأله: لماذا لم يعيدوا بناء الكنيسة؟ وإذ أخبره الراعي بأن الأعضاء فقراء وعاجزون عن بنائها مرة أخرى، أجاب: إذاً فالبحرية الإنجليزية ستتولى العمل لأن البرج المرتفع كان من سنوات متعددة هو المرشد الوحيد للسفن المقتربة للشاطئ، وقد أضحت السفن في خطر بالغ لسقوطه"... أجل... وكل سفن حياتنا ستضحى في خطر، ما لم نسترشد في كل شيء بالله والدين وكنيسة الله!!... ثم كان الإصلاح ثالثاً: هو الإصلاح الأدبي، وقد قلنا هذا الكلام تجوزاً لأننا لا نفرق بين الإصلاح الروحي والأدبي، لأن الأدبي في حقيقته ليس إلا روحياً، في الشكل أو المضمون،... ولكننا اثرنا أن نذكر هذا لأن آسا قاوم ما يمكن أن نطلق عليه الشذوذ الجنسي: "وأزال المأبونين من الأرض".. ومع أن الإنسان يقشعر من هذا الانحدار الخلقي الذي سجله الكتاب عن سدوم وعمورة، وندد به بولس في الأصحاح الأول من رومية، واعتبره قاع السقوط في المستنقع الذي سقط فيه الإنسان البعيد عن الله،.. لكننا نتعجب غاية العجب، أن الدول التي يقال عنها أرقى دول العالم، لا تستنكر هذا الشذوذ، بل يزعم الكثيرون فيها أنه مظهر لحرية الإنسان التي لا ينبغي الاعتراض عليها، بل بالحري يكسبونها الشرعية فيما وصلوا إليه من إمكانية الزواج بين رجل ورجل،.. وأليس من الحق أن نقول بعد هذا القول المشهور: إيه أيتها الحرية كم من الآثام ترتكب باسمك الجميل!!... إن الغرب في حاجة إلى الملك القديم آسا لإزالة جميع المأبونين في الأرض!!... ثم كان الإصلاح هو الإصلاح المصحوب بالوعظ وكلمة الله،... ونحن نشك في أي إصلاح يبقى أو يستمر إن لم تصحبه الكلمة الإلهية، وقد وعظ عزريا بن عوبيد الشعب، وذكرهم بالقانون الخالد الذي ينص على أن الرب مع من يريده ويطلبه، كما أنه يترك من يريد تركه، ولم يذكر الواعظ القاعدة اعبتاطاً، بل عاد وإياهم إلى تاريخهم واختباراتهم، وكيف أن الله تركهم مرات متعددة أيام القضاة: "ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق، وبلا كاهن معلم، وبلا شريعة، ولكن لما رجعوا عندما تضايقوا إلى الرب إله إسرائيل وطلبوه وجد لهم وفي تلك الأزمان لم يكن أمان للخارج والداخل لأن اضطربات كثيرة كانت على سكن الأراضي".. إن تاريخ الكنيسة الطويل يشهد أن النهضات تقوم أو تنعدم على قدر ما يرتفع النبر المسيحي وينادي بكلمة الله أو يخيب عنها ويهجرها!!.. وقد توج الإصلاح بالعهد المقطوع أمام الله أخيراً،.. والعهد شيء جوهري يؤمن به وليم چيمس عالم النفس الأمريكي الكبير، إذ يترك في الذاكرة أثراً عميقاً، ليس من السهل أن يتجاوز الإنسان أو يتخطاه، ولعل هذا هو السبب الذي جعل المرنم يقول: "أوفي بنذوري قدام خائفيه.. حتى يجد نفسه مقيداً بهذه النذور أمام الله والمؤمنين!!... كان آسا نموذجاً رائعاً في ثورته الإصلاحية، كل من يريد أن يتعلم ويحاكي إصلاحه!!... آسا المحارب واجه الملك آسا حربين مختلفتين، كانت الأولى في صدر الشباب، وعلى الأغلب في السنة العاشرة من حكمه، وكانت الثانية في السنة السادسة والثلاثين من الحكم،.. وكانت الأولى أرهب وأقسى من الأخيرة، إذ زحف زارح الكوشي عليه بجيش من أكبر الجيوش القديمة، وقوامه مليون من الجنود، وقد كان من المتصور أنه مهما تكن قوة آسا واستعداده العسكري، فإنه لا قبل له أو طاقه للوقوف أمام هذا الجيش العظيم الرهيب،.. ولكن آسا لجأ إلى حليفه الأعظم القادر على كل شيء، وواجه آسا معركة من أكبر المعارك القديمة بصلاته العظيمة: "ودعا آسا الرب إلهة وقال: أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة فساعدنا أيها الرب إلهنا لأننا عليك اتكلنا، وباسمك قدمنا على هذا الجيش فساعدنا أيها الرب أنت إلهنا. لا يقو عليك إنسان"... فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا، أي أنه كان واضحاً أن النصر بيد إلهية،.. وكان حريَّاً بآسا وقد حفرت هذه المعركة في أعماق ذاكرته، أن يستند إليها في مواجهة المتاعب والمصاعب والحروب التي قد تواجهه فيما بعد!!.. لكن آسا في معركته مع بعشا ملك إسرائيل فعل شيئاً مخالفاً لتصرفه الأول،.. لم يذهب إلى بيت الله ليصلي هناك، بل ليخرج من هذا البيت ومن بيته خزائن فضة وذهب ليقدمها الملك آرام لمعاونته في الحرب ضد ملك إسرائيل، واستجاب له الملك، وأعانه في الحرب، ونحن نعجب للملك الذي يترك الحليف الأقوى الذي لا يقوى عليه إنسان، إلى الحليف الأضعف الذي مهما كانت قوته، فهو لا شيء بالنسبة لقوة الله، ونحن أكثر عجباً لمن هو على استعداد أن يعطينا المعونة والخلاص، دون فضة أو ذهب أو مقابل، ومع ذلك لا نذهب إليه ونتركه لنذهب إلى من يكلفنا الغالي والثمن، وأكثر من ذلك سيتحول ضدنا يوماً من الأيام. وقال حناني الرائي هذا الكلام وغيره للملك آسا الذي كان عليه أن يعلم أن العدو الحقيقي المقبل هو الجيش الأرامي: "لذلك قد نجا جيش ملك آرام من يدك".. هل تسخط على الملك، وتنظر إليه كالأرعن الأحمق!! قبل أن تفعل هذا تذكر المعارك المختلفة في حياتك، وتذكر كيف واجهت أضخم المعارك بالإيمان العظيم، إن الله لا يقوى عليه إنسان، وتذكر أنك خرجت مترنماً صداحاً، تشهد بعظمة الله وقدرته العجيبة!!.. ثم سارت بك الأيام ودارت بك الحياة، لتلتقي بمعارك أصغر وأضأل وأقل، ولكنك واجهتها بروح أخرى أضعف وأيأس،.. لماذا حدث هذا؟!!.. هل أصابك ملل الحياة؟ هل دخلت في دور من الشيخوخة الروحية، والإعياء النفسي؟!! أم أنت بطرس يسير فوق الماء مثبتاً نظره نحو السيد، ولكنه إذ يحول النظر عنه يهوى في الحال، ولولا رحمة من المسيح وعون منه، لما طفا على الشاطئ، ولابتلعته الأعماق!!.. إيه أيتها النفس! أهكذا تتلونين وتتغيرين مع الزمن في اليوم الواحد!!... أجل، ولعل الصرخة الدائمة في -حياتنا وعلى لساننا: أؤمن فأعن عدم إيماني!!.. تذكر يا صديقي من يواجهك في المعركة وبأي روح تقاتل؟!! وهل تقاتل زارح الكوشي أو بعشا ملك إسرائيل!!.. آسا المريض ومرض آسا يعطينا تحذيراً بالغاً قوياً، إذ يرينا الرجل وهو يركض في قصة الحياة، حتى صاح عندما لم يعد قادراً على الركض ليسقط متداعياً وهو يمسك برجليه، وهو يقول آه يا رجلي؟!!.. وقال الأطباء: إن الرجل مريض بقدميه، وقد اشتد مرضه، أما نحن فقد رأينا أن قدميه الروحيتين لم تعودا قادرتين على السير، لقد أصيب الرجل بمرض الحماقة التي جعلته يغتاظ من الناصح، ويزج به في السجن،.. وكما امتلأ بالحماقة أمام بعشا فلجأ إلى المعونة البشرية، امتلأ هنا أيضاً، فلم يطلب الرب، وآمن بالأطباء البشريين، فانتهى إلى الأردأ نفساً وجسداً،.. ونحن نسأل: هل كان من الضروري أن يحدثنا الكتاب عن هذه الغيمة، التي شابت شمس الرجل وقت الغروب؟ ولماذا لم يعطنا صورة لامعة مغطاة يمكن أن تخفي الأخطاء والهنات الضعفات... إن كتاب الله لا يمكن أن يكون ككتب البشر، إذ: "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح"... إن السؤال الذي يلقيه علينا آسا الملك العظيم، ليس مجرد البدء أو الشوط الطويل الناجح في قصة الحياة!!.. بل أكثر من ذلك، وماذا عن النهاية وهل هي أقوى أو أضعف؟!!... عاد الشاب بعد خمسة وعشرين عاماً من تخرجه في الجامعة، وكان عند التخرج في القمة في كل شيء، وكانوا قد اختاروه الشاب المثالي،.. عاد في زيارة للجامعة، وقد بدا عليه الجلال والبهاء، وإذا بأحدهم يسأله: إنك تبدو جليلاً، ويظهر أنك وفقت في حياتك العملية كثيراً... وأجاب الشاب: جل.. وقال السائل: يبدو أنك أصبحت غنياً!!... فأجاب: نعم.. أصبحت غنياً ولم أخطئ.. فقال له: يبدو أن عندك ثروة كبيرة من الذهب.. فقال: كلا. بل الله ثروتي!!.. كم أصلي أن تكون حياتنا إلى النهاية أقرب إلى هذا الشاب، دون أن نصاب في أرجلنا أو حياتنا بمرض آسا القديم، بل نملك كل أمانة وشجاعة أن نقول: "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً"!!..
المزيد
14 نوفمبر 2020

المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشرواستعداد النفس للدينونة

هلموا يا إخوتي فأسمعوا مشورة إفرآم الخاطئ الفاقد الأدب ؛ فها قد بلغ إلينا يا أحبتي ذلك اليوم المخوف المرعب ؛ ونحن بما أننا متوانون نتنزه غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ؛ ونحرص أن نستغفر اللـه ؛ لأن الأيام والشهور تعبر كمنام، ومثل ظلال مسائي ليوافي بإسراع ورود المسيح المرهوب العظيم ؛ لأن ذلك اليوم بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة اللـه ويخلصوا. فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح هنا الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ لأن كافة الأشياء تزول كلها وتبيد، لا ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها من هنا، لأن كل واحد مزمع أن يحمل أقواله وأعماله قدام مجلس قضاء الحاكم المقسط. فالقلب يرتعد والكليتين تتغيران إذا صار هناك إشهار الأعمال وتحقيق الفحص عن الأفكار والأقوال ؛ خوف عظيم يا إخوتي ؛ رعدة عظيمة يا خلاني، من ترى لا يرتعد من لا يبكي من لا ينتحب، لأن هناك تُشهر الأفعال التي عملها كل واحد في السر والظلمة. أفهموا يا إخوتي هذا المعنى الذي أقوله لكم ؛ إذ أمنح مودتكم إقناعاً حقيقياً. الأشجار المثمرة من باطنها تبرز الثمر مع الورق في أوان الإثمار، ولا تكتسي الشجر من خارجها جمالها حسن بَهائها لكن من باطنها بأمر اللـه تينع الثمر، كل واحدة منها بطباعها. هكذا في ذلك اليوم المرهوب تبرز كافة أجسام الناس، وتينع كل الأشياء التي عملتها إن كانت صالحة أو خبيثة، ويحمل كل واحد قدام مجلس قضاء الحاكم المهول عمله كثمر، وكلامه كورق. فالصديقون يحملون ثمراً جيداً ومطرباً، القديسون يحملون الثمر العطر نضارته، الشهداء يحملون فخر اصطبارهم على العذابات والعقوبات، النساك يحملون النسك والحمية والسهر والصلاة. والناس الخطاة المدنسون المنافقون يحملون هناك ثمراً قبيحاً متهرياً ؛ ويكونون مملوءين نحيباً وحزناً وعبرات حيث دود لا يرقد ونار لا تخمد. مهول يا إخوتي مجلس القضاء لأن كافة الأشياء تظهر بغير شهود، الأفعال، الكلام، الأفكار، النتائج، وبمحضر الماثلين ربوات ربوات، وألوف ألوف، ملائكة ورؤساء ملائكة، الشاروبيم والساروفيم، الصديقون والقديسون، الأنبياء والرسل، الجماهير التي لا تحصى. فلِمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ. حين يبدي الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور. فلو عرفنا يا إخوتي ما أستعد لنا لبكينا كل حين في النهار والليل متضرعين إلى اللـه أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة، لأن فم الخاطئ ينسد أمام الموقف، والبرية كلها ترتعد، ومواكب الملائكة القديسين ترهب من ذلك المجد مجد وروده. ماذا نقول له يا إخوتي في يوم الدينونة إن توانينا في هذا الوقت ؟ لأنه هو تمهل وجذبنا كلنا إلى ملكه، وسيطالبنا بجواب عن التواني في هذا الزمان اليسير. فيقول لنا بذاته: من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض ظاهراً جهاراً، من أجلكم جُلدت، من أجلكم بُصق عليَّ، من أجلكم لُطمت، من أجلكم صُلبت مرفوعاً على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سُقيت خلاً لكي أجعلكم قديسين سمائيين. وَهَبت لكم الملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس، سميتكم إخوة لي، قربتكم إلى الآب، أرسلت إليكم الروح القدس، فأية أشياء أكثر من هذه لم أصنعها لتخلصوا أنتم، سوى أني لست أشاء أن أقتسر النية لكي لا يكون لكم الخلاص بشدة وإلزام. قولوا لي أيها الخطاة والمائتون بالطبع، ماذا أصابكم من أجلي أنا السيد المتألم من أجلكم. فها الآن قد أستعد المُلك والجائزة والنياحة والفرح، العذاب الخالد في ظلمة قصوى، فأين ما شاء كل واحد يسلك في ذات سلطانه. هلموا فلنسجد له باتفاق، ولنبكِ كلنا أمام الرب الذي خلقنا قائلين: يا سيدنا هذه كلها إنما صبرت عليها من أجلنا بما أنك إله، ونحن بما أننا خطاة نجحد كل وقت إحساناتك، وأنت بما أنك لم تذل إلهاً لابدَّ لك بالطبيعة غير مدرك بلا لوم غير محتاج. أثرت بألم صليبك أن تخلص مجاناً الخطاة الذين لم يعرفوك، وأعطيتهم نور المعرفة بك، فبماذا نجازيك نحن جنس الخطاة ؟ وبماذا نكافئ الإله الذي لا يدرك الصالح المتحنن ؟ نحن الذين صرنا بالنية منافقين لا بالطبيعة، لأنه من قبل أن نخلص كان جنسنا منافقاً. ونحن الآن بعد هذه الإحسانات كلها خطاة بالنية، أنت أيها السيد كل حين صالح ومتحنن ومرهوب وممجد ؛ خالق الدهور محتمل منذ القديم صعوبة أمرنا برأفاتك الجزيلة التي أوضحتها فينا نحن البشر، فغلبت من محبتك ورأفاتك وعانقت الصليب من أجل خلاص المسكونة كلها. فهذا لائق أن يقال من قبل نعمتك أمام مجدك، لأنه لو لم تغلب أيها المسيح من قبل تحنناتك، لما كنت بذلت ذاتك ذبيحة وقرباناً عن الخطاة. قد شبع عقل عبدك أيها السيد، وامتلأ من حلاوة نعمتك البهية ؛ ومحبتك النفيسة، فلذلك أيها المحب للناس فيما هو يزداد حلاوة، ويستنير متواتراً، ويتأيد دائماً، يخالف كل حين ويعود وينتقل إلى مرارته غير مؤثر أن تكون له حلاوة سيده دائماً. أيها الابن الوحيد الجنس، يا شعاع الآب الساكن في الضياء الذي لا يدنى منه، النور الذي لا يدرك، المنير كافة المسكونة، أضئ الناظر المظلم الذي فيَّ، لأنه قد خفي فيَّ ناظر مظلم فائضة بنعمتك ورأفاتك لئلا يدلهم العدو الغاش، لأن عقلنا المريض يضاهي النصبة الجديد نصبها التي تحتاج إلى سقي الماء دائماً. هكذا ذهننا هو ضعيف مريض محتاج بلا انقطاع إلى الاستنارة من نعمتك، قولك يارب فتح عين المكفوف منذ مولده، عجب عظيم صار أيها السيد بسلوام، إذ الضرير حين أبصر بعينيه الجسدانيتين، أضاء ناظر ذهنه للحين ليبشر بلا خوف بخبره إنه إله الكل. أضئ أيها السيد أعين قلبنا لنحبك، ونكمل بشوق مشيئتك دائماً، وإذ عين سلوام نائية عنا بعيداً، فها كأس دمك الرهيبة موعوبة نوراً وحياة فهبها لنا للفقه وللاستنارة. فلنتقدم إليها بأمانة وشوق وقداسة، لتصير لنا تمحيصاً للخطايا لا للدينونة، لأن من يتقدم للأسرار الإلهية بنفس غير مستحقة يشجب ذاته، إذ لم ينظفها ليقبل الملك في حجلته. فنفسنا هي عروس مقدسة للختن الذي لا يموت، والعرس هو الأسرار الإلهية، مأكولة بتقوى ومشروبه بجزع في النفس المقدسة. فأصغِ إلى ذاتك حافظاً حجلتك بلا دنس، وكن مشتاقاً أن تقبل الختن السمائي المسيح الملك، لكي في يوم وروده يصنع فيك منزلاً مع أبيه، فيكون مديحاً كبيراً قدام الملائكة ورؤساء الملائكة القديسين، وتدخل إلى الفردوس فرح عظيم. أيها الأخ ماذا يلتمس اللـه منك سوى خلاصك، فإن توانيت ولم تؤثر أن تخلص، ولم تسلك في طريق اللـه الممهدة، ولم تشاء أن تكمل وصاياه، فإنك تقتل نفسك، وتُخرج ذاتك من الخدر السمائي. فإن الإله القدوس والغير خاطئ وحده لم يشفق من أجلك على ابنه الوحيد، وأنت يا شقي لا ترحم ذاتك. فُقْ من نومك قليلاً يا مسكين، أفتح فمك مستغيثاً به، أطرح عنك ثقل الخطايا، ارحم نفسك، تضرع دائماً، أبكِ متواتراً، أهرب من الاسترخاء، أمقت الخبث، أرفض الرذيلة، حب الوداعة، تُقْ إلى الحمية، أدرس الترنم. أحرص أيها الأخ ما دام يوجد وقت، حب اللـه من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلاً للـه فيسكن فيك الإله العلي، فإن النفس الحاوية اللـه في ذاتِها هي هيكل للـه مقدس ونقي، تخدم فيها الأسرار العالية الإلهية أي مجد اللاهوت ويتبادر إلى افتقادها موكب الذين لا أجسام لهم. فمنذ يسكن الرب في النفس، فالملائكة السمائيون يبتهجون بِها، ويحرصون أن يوقروها لأنَها هي هيكل سيدهم. مغبوط الإنسان الذي أحبك من كل قلبه، ومقت العالم والأشياء التي فيه كلها ليقتنيك وحدك أيها الإله الكلي الطهارة، الدرة النفيسة، كنز الحياة. فمن أحب اللـه هكذا حباً صافياً، وذهنه ليس على الأرض بل في العلا أبداً، حيث أحب واشتهى أن ينال، من هناك يتحلى، من هناك يستضىء، ومن هناك يشبع من محبة اللـه، بالحقيقة هي مملوءة سروراً وحلاوة، ومغبوط من ذاقها. فمن يستطيع أن يصف حلاوة محبة اللـه وصفاً كما يجب، فإن بولس الرسول الذي ذاقها وشبع منها يهتف قائلاً: لا العلو بما معناه الذي فوق، ولا العمق الذي أسفل، ولا هذه الحياة نفسها، ولا الموت المنتظر، ولا جماعة الملائكة الرؤساء والسلاطين، ولا خليقة أخرى، فهذه كلها لا تستطيع أن تفصل من محبة اللـه النفس التي ذاقت حلاوته. نار لا تموت، محبة اللـه في النفس المشتاقة إليه، فإنَها تجعل حواسها متلألئة الضياء، فترفعها من الأرض لتبغض الأرضيات وتعاين الإله الذي أحبته. والشهداء والقديسون يعلموننا الذين ذاقوها وتملوا منها، أن محبة اللـه قيد لين ناعم، ولا يمكن السيف ذو الحدين أن يقطعها، فالأمراء قطعوا أعضاء القديسين، فأما محبتهم فما استطاعوا أن يقطعوها. يا لقيد محبة اللـه الناعم الذي لا يمكن أن يفك، إن المحبة لا يقطعها سيف، ولا تطفئها نار. قطعوا الأعضاء والمحبة ما صرموها، حرقوا الأعضاء وقيود المحبة لم يفكوها، حرقوا أجساد القديسين أيضاً ومحبتهم لم يحرقوها، قيدوا أعضاء الأبرار ولم يقيدوا محبتهم. من ماذا ترى لا يتعجب من قيد المحبة اللين الترف الذي لا ينقطع قط ولا ينفك أبداً، من أحب اللـه حباً صافياً فقد أقتنى مثل هذه المحبة، لأن هذه المحبة أعطاها المسيح لكنيسته أن تتزين دائماً بِهذه المحبة، لأن هذه المحبة عربون اللـه للنفس. المحبة قاعدة راسية في النفس القديسة، هذه المحبة أنزلت الابن الوحيد إلينا، بِهذه المحبة تأنس الإله، بِهذه المحبة شوهد من لا يرى، بِهذه المحبة فُتح الفردوس، بِهذه المحبة قُيد القوي، بِهذه المحبة صارت النفس عروساً للختن الذي لا يموت، لكي ترتأي حسن نَهاية في ذاتِها دائماً. من أجل هذه المحبة تألم الختن الطاهر الذي لا يتألم، لأن النفس إن كانت مصفرة من المحبة لا يرضى بِها السيد السماوي، ولا يشاء أن يظهر بالكلية اختيار نيتها. فلذلك خولها سلطاناً دفعة أن تسير دائماً كما تشاء وترتأي، أفترى من يستطيع ومن يكون كفواً أن يمجد ويسبح الإله المخلص عن الموهبة التي أخذناها كلنا بنعمة اللـه. المجد والسجود لمسرته. فإذ قد سمعتم يا إخوتي مشورة حقارتي النافعة، فلنحرص دائماً ما دام لنا زمان أن نسير بطهارة، وبما هو أهل للـه ليسكن فينا الروح القدس، وتتكاثر محبة اللـه فينا، مكملين مسرته كل حين. لا نقتني يا إخوتي سوى هذا الاهتمام، وهو أن نجد نفوسنا في النور، وأن لا نطفأها بأحد الأمور الأرضية، والهموم العالمية، والقنية والأموال. ولنزينها بالصلوات والأصوام والأسهار والدموع، حتى تجد النفس دالة يسيرة أمام منبر المسيح المرهوب، حيث تقف النفوس كلها بخوف، حيث يصير تمييز المختارين من الخطاة، ويقف الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار. فأيقنوا يا أولادي أن ورود المسيح قريب ليعطي كل واحد نظير عملة، ويسكن مختاريه في الضياء والسرور الخالد، والخطاة الذين أغاظوه يقطنهم في الظلمة. فمغبوط الإنسان الذي يجد في تلك الساعة دالة ويسمع ذلك الصوت السعيد القائل: تعالوا يا مباركي أبى، ويا جماعة مختاري رثوا مملكتي. حينئذ يشاهد كل واحد ذاته في النور، ويتأمل بذاته مجداً لا يقاس قدره، فيتعجب متفكراً في ذاته قائلاً: أترى أنا هو، فكيف وجدت هكذا أنا الحقير مستحقاً. وحينئذ تتقدم الملائكة بسرور يشرفون القديسين ويمجدونَهم ويشرحون ويصفون لهم سيرتِهم، وهي النسك، الحمية، السهر، الصلاة، الفقر الاختيارى، هجر القنية الكامل، الصبر في العطش، الثبات في الجوع، الدوام في الصلاة، الفرح في العري من أجل المحبة التامة التي للمسيح. تقول هذه الملائكة للصديقين بفرح، فيجيبهم الصديقون قائلين: يوماً واحداً من أيامنا على الأرض لم نصنع فيه تقويماً حسناً. فتذكرهم الملائكة أيضاً بالموضع والوقت، فإذا تعجبوا في ذاتِهم يمجدون اللـه ناظرين أجسام القديسين ألمع من النور، لأنَهم حزنوا على الأرض باختيارهم، وبصبرهم خبئوا فيهم الدرة النفيسة، وصنعوا لهم حلة لا دنس فيها للعرس. وجدوا في الحقل كنزاً، فباعوا كل الموجودات التي لهم على الأرض، واقتنوا ذلك الكنز. تعب النسك قليل يا إخوتي، والراحة عظيمة، تعب النسك زمان قصير، وراحته في جنة النعيم إلى أبد الدهر. فمن عرف ذاته أنه أخطأ إلى اللـه، وتراخى بنيته، وأخطأ عمداً، فما دام يجد زماناً؛ فليبكِ باشتياق، ولينتحب بلا انقطاع، ليجذب الدموع إلى قلبه سروراً، وليقتنِ تخشعاً، ويحمِ جسمه بالدموع والزفرات. هل اختبرتم يا إخوتي الدموع ؟ هل استضاء أحدكم بنعمة الدموع من أجل اللـه ؟ فأيقنوا يا إخوتي أن ليس على الأرض ألذ حلاوة من الفرح والتخشع في تلك الساعة. إذا صلي الإنسان ورأى الإله جالساً في قلبه دائماً، من منكم أختبر هذا، أو أستطعم الدموع حين صلى بارتياح وشوق، وأرتفع من الأرض وصار بجملته خارج الجسم، أليس يصير خارج هذا الدهر كله، ولا يكون على الأرض، لأنه يناجي الإله نفسه، ويستضئ بالمسيح، ويتقدس بالروح القدس. يا إخوتي عجب عظيم أن يخاطب إنسان ترابي في صلاته الإله الذي لا يُرى، مغبوط الرجل الذي له كل وقت تخشع من أجل اللـه. التخشع يا إخوتي هو شفاء النفس، الخشوع هو استنارة النفس، التخشع يفيد دائماً غفران الخطايا، التخشع يجذب إليه الروح القدس، الخشوع يُسكن فينا الابن الوحيد إذا صبونا إليه، وإني لخائف أن أصف لكم اقتدار الدموع. حنة بالدموع أخذت من اللـه صموئيل النبي بسمو وفخر لقلبها، المرأة الخاطئة في منزل سمعان أخذت من المسيح غفران خطاياها حين بكت وبلت رجليه المقدستين. عظيمة قوة الدموع وتقتدر كثيراً، الدموع التي من أجل اللـه تُجلى دائماً النفس من الخطايا، وتنظفها من الأثام، العبرات تمنح دالة لدى اللـه القدوس، والأفكار الدنسة لا تقدر قط أن تقارب النفس الحاوية التخشع. فماذا ترى يكون أعلى سمواً من هذه الحلاوة ؟ وأي شيء يكون مأثوراً أكثر من تطويبها إذا ما حوت الإله الذي تصلي وتبتهل إليه ؟ أيها الإخوة إذا صبت النفس إلى اللـه تبصره دائماً في صلاتِها وتدرس في الليل والنهار، التخشع هو كنز لا يُسلب، النفس الحاوية التخشع تفرح فرحاً لا ينطق به، وقلت التخشع لا يوماً واحداً فقط بل إنما أعني التخشع الصائر دائماً باطناً في النفس ليلاً ونَهاراً. التخشع في النفس هو كعين صافية، تسقي أغصانِها المثمرة فيها، وقلت أغصانَها المثمرة، أعني بذلك الفضائل التي تسقى دائماً بالدموع والزفرات، فتثمر ثمراً رائقاً نضارته في نفسك نافعاً أبداً. فلتكونن غروسك مختارة وبَهية، أسقِ أيها الأخ غروسك بلا انقطاع مبتهلاً بدموع حتى إذا سقيت تنمو وتثمر يوماً فيوماً، لا تصر متشبهاً بي أنا المسترخي الخاطئ الذي أقول كل يوم ولا أعمل ألبته. لا تصر هكذا متوانياً بنيتك مسترخياً باختيارك، فإنه لا يكون لك خشوع ولا صلاة نقية، فأنني أعرف نفسي كل حين خاطئاً، وأنا متخوف دائماً من الدينونة المنتظرة، وليس لي اعتذار عن جرائمي. فأطلب إليكم يا إخوتي القديسين الخائفين من اللـه، والعاملين دائماً الأفعال التي ترضيه، أن تشفعوا إليه عني أنا الحقير لتوافي إليَّ نعمة بصلاتكم، وتخلص نفسى في تلك الساعة المخيفة المرعبة إذا جاء المسيح ليكافئ كل واحد نظير أعماله. المجد للإله وحده القدوس الذي لا يموت، الصالح المرهوب الطاهر المتحنن، الجاعل لساننا الحقير بنعمته مترنماً بألفاظ العدل والمحبة والتخشع لإبتناء النفس، وإنارة القلب، ومنفعة الذهن، حتى تتحلى النفس بتلاوة هذه الأقوال، وتجتذب إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح.الذي له المجد والعز والقدرة الآن ودائماً وإلى آباد الدهور آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
12 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إرميا

" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى "" إر 9: 1 " مقدمة لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل، فى مطلع الحرب العالمية الثانية، وهو يقول للشعب الإنجليزى: « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع»، ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً، إذ تصورت قرب نهاية الحرب، يابانياً محباً لبلاده وشعبه، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين!!.. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه: « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك ».. " لو 19: 41 - 44 "كان إرميا نبى الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى »،... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى؟! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات فى مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات، وقد تحول رأسه إلى ماء، وعيناه إلى ينبوع دموع، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال!!.. لم أعطي هذا الحظ، ولم سار فى الطريق المنكوب!!؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى: إرميا ومن هو!!؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم، فبينما يراه جيروم « مرفوع الرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى »، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس، ويوجد من اعتقد أن المعنى « اللّه يؤسس ».. وعلى أية حال، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه، وأخرجه من الرحم، وأقامه: « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1: 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى: « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت، وكان إرميا هو نبى إسرائيل، لما دنت شمس أورشليم للغروب. فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام، والحريق والدمار الذى ألم بها »... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة، بل كان واحداً منهم فقط، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم!!.. وكان يتنقل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم!!ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه... كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية، ونعنى بها آشور، ومصر، وبابل. وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية، وقد غزا مصر فيها مرتين، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب، بل إلى السيطرة والقوة،.. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة، وتولى ابنه يهوحاز الملك، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً!!ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفى الغالب، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهى محاصرة، وعندما دمرت عام 586 ق.م.، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل. لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا،... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر، رغم ارتدادهم عن اللّه، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه، ورجموه، فمات فى مصر!! عاش إرميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها،... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة، التى يسكن فيها إلى بيت وولد، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد: « ثم صار إلى كلام الرب قائلا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16: 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب، ولم يكن له متسع، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج.... بل إن الرسول أوصى: « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7: 27: 28 " كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة، طالما هى على الحقوين،.. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها. وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ،... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر، كانت جديدة ولكنها لم تغسل،.. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه،... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب، ففسد، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل،... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً،... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب، فإذا فسد الطين، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد،... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء، إذا اجتاز فى النار، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم، أمام شيوخ الشعب، وشيوخ الكهنة، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل، وقد ضاع الرجاء فيها، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم، والذى أضحى رمزاً لجهنم، مكان العذاب الأبدى، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم، وكان مباءة للديان والجراثيم، يجمع بين الظلمة الدائمة، والنار التى لا تطفأ، ومن ثم قيل: « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9: 44 ". ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه، نير الثور، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه،... وفى مصر، فى أخريات حياته، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعدة، والتى لا جدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها!! ولعل العصر الذى عاش فيه، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع، وآخرون نبى الفشل، وغيرهم نبى الأحزان،.. أو نبى التناقض، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به، وبعصره، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة، ازداد اتساعاً، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات، وقد كان إرميا من هذا النوع، فقد جمع، على أعظم صورة، بين: الرقة البالغة، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا، إلا بهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح: « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1: 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره، وهو بطبعه حيى خجول متضع، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حد الدموع، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة،... وهو يقف مع موسى الذى رفض، فى مطلع الأمر، الدعوة، وهو يقول للّه: « أرسل بيد من ترسل » " خر 4: 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية، يهرب إلى ترشيش، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته،... إن هذا النوع من الخدام، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول: « ها أنذا أرسلنى " إش 6: 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل، » " أع 9: 6 ".. ولكنه مع ذلك، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض ».. " إر 1: 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم!!... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه، وهل تكلم إليه بصوت مسموع، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق!!.. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد،... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هى قوة روح اللّه فيه، ولمس اللّه شفتيه، وجعل كلامه فى فمه!!.. فإذا قيل، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس، قبل وبعد، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة، أو كما صوره أحدهم: نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة، كمن يهرب من أسد يطارده، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك: إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم، وإلى العواطف التى تملكهم، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر!! وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والأضطهاد، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى: « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20: 7 - 9 "... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه. اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً. ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا: قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20: 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد، ومن سجن إلى سجن، وغاص فى حمأة الجب، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر!!... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال،... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة!!... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ!!... الحنان الذى لا يوصف، والقسوة الشديدة كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4: 19 "... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى. ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9: 1 و2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها، أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق فى المسيح. لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9: 1 - 3".. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه، لكنه كان فى وسطهم: « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه. فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11: 19 - 23 ".. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة!على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض، هو الموقف بين الوطنية والدين،... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض،... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه، ولا عيب فيه البتة، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه،... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة، والاستسلام لنبوخذ ناصر،... ومن لى، فى تلك الساعة، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال!!.. كان يتمزق بين الحنان المرهف، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب،... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو: هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن،... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين!!؟.. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض!!... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام!!.. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره: أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء!!.. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال: أنا مع وطنى فى الحق،... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه!!.. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل، حيث أعلى له الحق فى ذلك،... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام، وهم يشبهون أمريكا، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها، بسدوم وعمورة،... ويصرحون، وهم وطنيون مخلصون، بأنها على شفا الهلاك، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض!!.. إرميا ونموذج الخادم العظيم أما وقدأطلنا الحديث عن شخصية إرميا ومقوماته كإنسان متسع، يبدو ممزقاً أو موزعاً بين عواطفه الذاتية، والنداء الإلهى الموجه إليه، فإنه يجمل بنا أن نراه كخادم أمين للّه، وهو فى هذا المجال، من أروع خدام اللّه العظام فى كل التاريخ، وربما نستطيع التركيز فى الأصحاح الثانى والعشرين من سفره، عندما كلفه اللّه بأن يذهب إلى الملك ورجاله فى القصر الملكى ليتحدث إليهم برسالة الرب، وهنا نرى الخادم فى أجل أوصافه: الخادم والرسالة العلوية قال الرب لإرميا: « انزل إلى بيت ملك يهوذا » " إر 22: 1 " ويبدو إن إرميا كان فى الهيكل، والهيكل كان فى أعلى بقعة، فمن يترك الهيكل لابد سينزل نزولا جغرافياً، لكن المعنى أشمل وأعمق من مجرد النزول الجغرافى، إذ أن من يحمل رسالة اللّه عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو فى مركزها وسلطانها وأمرها على كل عظماء الأرض وسادتها، وملوكها،... ويبدو أن النبى قد أمر بالذهاب إلى العائلة المالكة لأنه يعلم مدى نفوذها فى الخير أو الشر على حد سواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائماً على منوالهم، إذ يرغبون فى تتبع اثارهم ومحاكاتهم وتقليدهم فى كافة الظروف والأوضاع، وليس أدل على ذلك من أنه فى أيام الرئيس ترومان رئيس الولايات المتحدة، بدأ هذا الرجل يلبس القمصان المشجرة، فإذا بها تنتشر فى كل الولايات المتحدة، بل فى العالم بأجمعه،... وإذا أدركنا ذلك كم يبدو لنا كقادة أو آباء أو أمهات، عمق تأثيرنا فيمن يتطلعون إلينا، ويسيرون فى أثرنا ويحاكوننا، عن دراية أو عن غير دراية!!ومن اللازم أن نلاحظ ههنا شجاعة النبى وبراعته وحكمته... فالشجاعة أن تذكر القادة بأن عليهم أن يتقبلوا كلمة اللّه وأمره لا تفضلا أو تجملا بل امتثالا وخضوعاً وانتظاراً، وعلى الخادم أن يتحرك فيذهب حاملا الرسالة، دون أن ينتظر أن يأتى إليه السامع، أو كما قال أحدهم، إن من واجب الخادم ألا ينتظر من سامعيه أن يجروا وراءه، بل من واجبه أن يخلق الاجتماع، وعليه أن يجعل رسالته رسالة علانية واضحة، لا أن يخفيها فى حيز ضيق صغير، وعليه ألا يخدم فقط بين جدران الكنيسة، حيث من السهل أن يتقبل السامعون الرسالة، بل عليه أن يخرج إلى الخارج ليتحدث بها بين أناس قد يعادونه ويؤذونه بسببها!!... إن الدين ليس لمن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً للعشارين والخطاة، ومن يظنهم الناس أنهم أبعد الجميع منه!!.. الخادم والرسالة المشجعة ذهب إرميا إلى الملك والقادة يحمل رسالة إيجابية مشجعة: « أجروا حقاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكياً فى هذا الموضع » " إر 22: 3 " وهذا وعظ إيجابى عملى واضح، لم يحلق فيه الواعظ نحو النجوم، أو يتحدث بلغة الفلسفة، ولم يلجأ إلى المنحنيات والدروب فى التعبير، بل هو كلام مستقيم لا التواء فيه، كما أنه وعظ يبدأ بالتشجيع والترغيب قبل التوبيخ والانتهار، وهذا يعلمنا أن نضع الشجاعة فى موضعها، وأن نمتنع عن كل تهور واندفاع فى غير موضعهما، بل هذا فى الواقع حسن الاستهلال الذى ينبغى أن يبدأ به الواعظ رسالته، ليكتسب الأذان ويجتذب المشاعر، ولم يكتف النبى بهذا التشجيع بل لوح بالوعود المباركة إذ قال: « إن فعلتم هذا الأمر يدخل فى أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين فى مركبات وعلى خيل » (عدد 4) وكم كان من الواجب أ ن يشرح هذا قلب الملك لأنه سيجد حماية وحراسة رب الجنود ملك إسرائيل، فى الوقت الذى فيه تتهدده الجيوش الأجنبية، بل إن فى القول: « ملوك جالسون لداود على كرسيه »... إعلان عن إمكانية عودة المملكة إلى مجدها القديم أيام داود، وامتداد رفاهيتها وسلطانها أجيالا طويلة!!.. الخدام والرسالة المحذرة ومن الواضح أن إرميا، عندما اتجه إلى أعلى الطبقات فى البلاد وأكثرها سطوة وجاهاً ونفوذاً، لم يجعل من صفاتهم أو مناصبهم معطلاً له عن إتمام الرسالة على أكمل وجه، وقد كان عليه أن يوجهها إليهم كما توجه إلى أضعف الناس أو أقلهم نفوذاً... ومن الوعاظ من يتحدث بالسهل اللين اليسير من الكلام، دون التحذير الواضح، لكن إرميا لم يفعل هكذا،... لقد تحدث إلى الملك والقادة بأن سر عظمة المملكة يرجع أولاً وأخيراً، إلى ما عندها من أخلاق أكثر مما عندها من مادة، إذ لم يقل للملك أن سر النجاح والنجاة للملكة يرجع إلى ما عندها من جيوش، وما تملك من قوات، أو تنال يدها من ذهب،..إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا هذه هى الحقيقة الدائمة فى كل العصور، وقد كان على الملك أن يجرى أولا، الحق والعدل،... والحق أوسع وأشمل من العدل، إذ أن الحق يشمل كل ما هو ضد الباطل والكذب والاستبداد والاستعباد سواء فى علاقة الناس بعضهم ببعض أو فى تصرفاتهم الفردية، بينما يتحدث العدل عن موازنة الحقوق بين الأطراف المتنازعة ويبدو هنا أن الملك يهوياقيم كان قد داس الحق والعدل معاً، فى أعماله، إذ سخر الشعب فى بناء قصره، دون أجر أو رحمة،... وكان الأمر الثانى معونة الضعيف، ويبدو هذا فى الوقوف إلى جانب المغصوب ضد الظالم، وعدم اضطهاد اليتيم والأرملة والغريب، ويجمل بنا هنا أن نذكر أن مساعدة هؤلاء ليست مجرد عمل اجتماعى تمليه الديموقراطية أو الاشتراكية الحقة، بل هو العمل الذى يسر به قلب اللّه!! » وجدير بالذكر أن التحذير كان واضح التعبير، ظاهر الدلالة، وعدم الانتباه له، سيجلب نتيجته المؤكدة، النتيجة التى أقسم الرب بها فى خراب المملكة، والبيت المالك معاً،... وكانت المأساة الكبرى أيام إرميا هى التعلق بالشكليات، فمدينة أورشليم فى تصور شعبها مدينة محبوبة من اللّه، ومادام الهيكل موجوداً بها، فلا يمكن أن تمسها قوة فى الأرض،......... وكان حديثهم: « هيكل الرب هيكل الرب هو » " إر 7: 4 ".. وكأنما اللّه يسكت على الشر والفساد مادام الظاهر من الدين موجوداً،.. وإذا باللّه يقول: "حى أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتماً على يدى اليمنى فإنى من هناك أنزعك، وأسلمك ليد طالبى نفسك وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذ ناصر ملك بابل وليد الكلدانيين »... " إر 22: 24 و25 ". أجل إنه من الحماقة أن يظن إنسان أو شعب أنه لمجرد أن اسم اللّه قد وضع عليه، فإنه آمن من كل خطر أو ضرر أو شر، مهما يرتكب من إثم أو خطية أما عن يهوياقيم نفسه، الذى قسى قلبه وأحرق الدرج، وفعل الظلم والشر والفساد، فقد بين له الفرق بينه وبين أبيه يوشيا: « هل تملك لأنك أنت تحاذى الأرز أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلا؟ حينئذ كان له خير. قضى قضاء الفقير والمسكين. حينئذ كان له خير. أليس ذلك معرفتى يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين آه يا أخى أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد أو آه ياجلالة، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم!! " إر 22: 15 - 19 ". إرميا والفكر اللاهوتى فى سفره سنلم ببعض الأفكار اللاهوتية التى جاءت فى سفر إرميا ولعل أهمها: كلمة اللّه وكلمة اللّه عند إرميا تبلغ مركزها الأعلى، إذ هى الكلمة التى ينبغى عليه أن يعلنها، وقد جاءته هو واضحة فى الدعوة إلى النبوة، وقد وضعت هذه الكلمة باللمسة الإلهية على شفتيه، لينادى بنتائجها البالغة للأمم والممالك، وكلمة اللّه ليست مجرد ألفاظ ينطق بها، بل هى الكلمة التى تحمل قصد اللّه وإرادته، والمصحوبة بفاعليته وسلطانه، وفى صراعه مع الأنبياء الذين إدعوا النبوة فى عصره، كشف إرميا لهم عن إعلانات اللّه له، وبين الفارق بينه وبينهم، إذ أن اللّه أعلن أنه لم يرسل هؤلاء الأنبياء قط: « لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا " إر 23: 21 ".. ولا يستطيع الإنسان أن يتكلم باسم اللّه، إلا بعد أن يجلس فى حضرة اللّه، وينصت بعمق وتأمل إلى اللّه: « لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته؟ من أصغى لكلمته وسمع؟... ولا وقفوا فى مجلسى لأخبروا شعبى بكلامى وردوهم عن طريقهم الردئ وعن شر أعمالهم » " إر 23: 18، 22 "... إن الأنبياء المضلين يحلمون أحلاماً من ذواتهم: « قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمى بالكذب قائلين حلمت حلمت. حتى متى يوجد فى قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن ينسوا شعبى اسمى بأحلامهم التى يقصونها الرجل على صاحبه كما نسى آباؤهم اسمى لأجل البعل. النبى الذى معه حلم فليقص حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق ما للتبن مع الحنطة يقول الرب » " إر 23: 25 - 28 ".. « فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمى وأنا لم أرسلهم وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع فى هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء » " إر 14: 14، 15 " والسمة البارزة فى كلام هؤلاء الأنبياء هى تملق السامعين، والمناداة لهم بما يطيب لهم أن يسمعوه،... على العكس من كلمة اللّه التى تظهر كالحنطة، إذ قورنت بالتبن الذى تذروه الرياح،... وهى المطرقة التى تحطم قساوة القلوب الصلدة، والنار التى تلهب حياة الناس ومشاعرهم وتسيطر على إرادتهم!!.. وذلك لأنها مصحوبة بفاعلية روح اللّه!!.. معرفة اللّه والحقيقة الثانية التى تبدت أمام إرميا: المعرفة المتبادلة مع اللّه، معرفة اللّه له، ومعرفته هو للّه » وهو يصف اللّه بالقول: « وأنا العارف والشاهد يقول الرب»..... وقد عرف اللّه إرميا: « قبلما صورتك فى البطن عرفتك " إر 1: 5 " وحياته من البدء مكشوفة أمام اللّه، وهى مكشوفة فى الأزمات: « وأنت يارب عرفتنى » " إر 12: 3 "، « والرب عرفنى فعرفت. حينئذ أريتنى أفعالهم » " إر 11: 18 "، « أنت يارب عرفت. أذكرنى وتعهدنى وانتقم لى من مضطهدى. بطول أناتك لا تأخذنى. أعرف احتمالى العار لأجلك » " إر 15: 15 " « أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك » " إر 17: 16).. « وأنت يارب عرفت كل مشورتهم على للموت » " إر 18: 23 " كان إرميا يدرك أن اللّه يعرف حياته جملة وتفصيلاً، بل يعرف من قبل أن يولد إرميا هذه الحياة فى كافة أو ضاعها، وعلى وجه الخصوص، فى الضيقات والأزمات... ومن الجانب الآخر، كان إرميا يعرف اللّه، وهو يختلف هنا عن غيره من الكهنة: « الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفونى، والرعاة عصوا على، والأنبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع » " إر 2: 8 ".. « أما أنا فقلت إنهم مساكين. قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم » " إر 5: 4 ".. « لأن شعبى أحمق، إياى لم يعرفوا، هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء فى عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون » " إر 4: 22 ".. « وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها » " إر 7: 9 ".. « بل اللقلق فى السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئها، أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب » " إر 8: 7 "... لكن إرميا كان يؤمن باليوم الآتى الذى سيقطع اللّه فيه عهداً جديداً مع شعبه: « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ليس كالعهد الذى قطعه مع ابائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى اقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتى فى داخلهم، واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين أعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفوننى من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد » " إر 31: 31 - 34 "... وقد تحقق هذا فى قول المسيح المبار ك: « وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى » " يو 10: 14 ". نشاط اللّه فى حياة البشر لم تكن عقيدة إرميا أن اللّه خلق الناس ليتركهم دون أن يبالى بهم كما كان يتصور توماس كارليل، أو ليقف متفرجاً على آلامهم وأحلامهم وتعاساتهم كما كان يزعم لورد بيرون، بل أن نشاط اللّه له الدور الكامل فى حياة الناس، على أن هذا النشاط يختلف ولا شك عند إرميا بالنسبة للمؤمنين، ولشعب اللّه، وللأمم، وللوجود كله،... ففى حياة النبى مثلا، يدرك إرميا مدى تدخل اللّه فى حياته، من مجرد دعوته التى أشار إليها فى الأصحاح الأول من سفره، أو كما قال أحدهم: تكفى الإشارة إلى الأفعال الواردة من " عدد 5: 10 " " صورتك " " عرفتك " "قدستك " " جعلتك " " أرسلك " " آمرك " " لأنقذك " " جعلت كلامى فى فمك " " وكلتك "... وهذه الأفعال تغطى حياة النبى جملة وتفصيلا، مما لا يترك واردة أو شاردة، دون تدخل اللّه، ومن ثم نراه يقول: «عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته» " إر 10: 23 ".. وفى حياة الشعب، مهما تلونت ظروفه، وتغيرت، وسواء وقع تحت التأديب أو الحض أو الوعد، فهو الشعب المختار من اللّه: « إسرائيل قدس للرب أوائل غلته. كل آكليه يأثمون. شر يأتى عليهم يقول الرب » " إر 2: 3 ".. « وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها. فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة » " إر 2: 21 ".. وهو المحبوب: "ما لحبيبتى فى بيتى. قد عملت فظائع كثيرة " " إر 11: 15 " « قد تركت بيتى رفضت ميراثى دفعت حبيبة نفسى ليد أعدائها ». " إر 12: 7 ".. وهو الميراث: « رعاة كثيرون أفسدوا كرمى، داسوا نصيبى، جعلوا نصيبى المشتهى برية خربة » " إر 21: 01 " وهو قطيع الرب: « وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسى تبكى فى أماكن مسترة من أجل الكبرياء، وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب » " إر 13: 17 " وهو البكر: « لأنى صرت لإسرائيل أباً وأفرايم هو بكرى » " إر 31: 9 ".. وهو المرتبط بالعهد مع اللّه: « لا ترفض لأجل اسمك، لاتهن كرسى مجدك. اذكر ألا تنقض عهدك معناً » "إر 14: 21 "... « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب » " إر 31: 31، 32 "... ومن المعلوم أن إرميا جاء بعد هوشع بزمن،... وقد اتفق الإثنان على تصوير العلاقة بين اللّه وشعبه فى صورة الزوجة والبنين،... يقول إرميا: « قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة » " إر 2: 2 " « ألست من الآن تدعيننى يا أبى أليف صباى أنت » " إر 3: 4 "... « وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم. وقلت تدعيننى ياأبى ومن ورائى لا ترجعين » " إر 3: 19".. « إرجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » " إر 3: 22 "... هذه هى العلاقة الخاصة بين اللّه وشعبه، مع تفوق العهد الجديد الذى يعلن لنا اللّه فيه بالروح القدس تلك الرابطة التى لا يمكن أن تنفصم أو تنقطع بين المسيح وكنيسته إلى أن يأتى فى مجيئه الثانى العتيد!!..ومن الواضح أن تاريخ الأمم خاضع لسيطرة اللّه وسلطانه: « والآن قد دفعت كل هذه الأراضى ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدى وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب، وابنه وابن ابنه حتى يأتى وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام » " إر 27: 6، 7 "... بل إن الوجود كله يخضع للسلطان الإلهى: « أنى أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذى على وجه الأرض بقوتى العظيمة وبذراعى الممدودة وأعطيتها لمن حسن فى عينى » " إر 27: 5 ".. وهو الذى يعطى المطر: « ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة » " إر 5: 24 ".. « هل يوجد فى أباطيل الأمم من يمطر، أو هل تعطى السموات وابلا، أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه » " إر 8: 7 ".. كان إرميا يؤمن بالتدخل والنشاط الإلهى، فى كل شئ، فى حياة الجميع بصورة كاملة دائمة كل يوم!!. الخطية والدينونة والتوبة والخلاص أعلن اللّه لشعبه إرادته المقدسة، وقد أعلنها فى التوراة وعن طريق الكهنة والأنبياء، وكان المطلوب من إسرائيل أن يخضع لهذه الإرادة الإلهية ويتمسك بها: «هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار.. بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر: بأنه يفهم ويعرفنى أنى أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا ً فى الأرض لأنى بهذه أسر يقول الرب » " إر 9: 23، 24 " وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد قواعد أدبية أو خلقية، بل هى أوامر إلهية أعطاها اللّه إفصاحاً عن طبيعته وكمالاته الإلهية، وهو لهذا يسر بها، فخروج شعبه عنها، أو خروج الإنسان عنها، هو الضياع بعينه: « هل بدلت أمة آلهة وهى ليست آلهة. أما شعبى فقد بدل مجده بما لا ينفع » " إر 2: 11 "..، وهو السير وراء الباطل: « هكذا قال الرب ماذا وجد فى اباؤكم من جور حتى ابتعدوا عنى وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً " إر 2: 5 "، وهو الشرود والنسيان: « لماذا قال شعبى قد شردنا لانجئ إليك بعد. هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها. أما شعبى فقد نسينى أياماً بلا عدد » " إر 2: 31، 32 " وهو الأعوجاج: « لأنهم عوجوا طريقهم» " إر 3: 21 ".. وهو الزنا: « لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية » " إر 2: 20 ".. « حقاً أنه كما تخون الامرأة قرينها هكذا خنتمونى يا بيت إسرائيل يقول الرب » " إر 3: 20 "، وهو المرض: « ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » "إر 3: 22 "، والدينونة الواقعة على الشعب، والعقوبة القاسية، لأن الخطية تمكنت منهم وتغلغلت فى حياتهم، وأصبحوا كأتان الفرا التى فى شهوتها تستنشق الريح " إر 2: 24 ".. أو فى الصورة الأخرى: « هل يغير الكوشى جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر » " إر 13: 13 ". « سمعاً سمعت أفرايم ينتحب. أدبتنى فتأدبت كعجل غير مروض. توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى. لأنى بعد رجوعى ندمت، وبعد تعلمى صفقت على فخذى. خزيت وخجلت لأنى حملت عار صباى. هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر، لأنى كلما تكلمت به أذكره بعد ذكراً، من أجل ذلك حنت أحشائى إليه. رحمة أرحمه يقول الرب » " إر 31: 18 - 20 " كان إرميا نبى الدموع، ولن يعرف العالم مرة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسى فى كل العصور،... لكنه لم يعرف واعظاً، وكاتباً، وراثيا مرة أخرى كإرميا، وإذا كانت القديسة تريزا قد قالت: إن الدموع تكسب كل شئ،... فإن دموع إرميا التى بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخربة، إلا أنها، - ويا للعجب - لم تنفد إلى الآن، فقد تحول رأسه فعلاً إلى ماء لا يكف عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوعاظ منها عبرة ومثالا وهم يبكون على قتلى الخطية نهاراً وليلاً فى الطريق المنحدر إلى الضياع الأبدى، والعذاب والتعاسة، فى جهنم التى كتب على بابها دانتى فى الكوميديا الإلهية: « أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!.. »
المزيد
07 نوفمبر 2020

المقالة السادسة عشرة في كيف تبتهل النفس إذا جربها العدو

أيها السيد القدوس ؛ قد تقدمت إليك نفس حزينة متضرعة إليك بعبرات لتنقذها من العدو المفسد ؛ ساجدة لك بتواضع ؛ مستغيثة بك من المعاند الذي يحزنَها.فإذ قد دنت إليك بوقاحة أستجب لها سريعاً، وإذ قد لجأت إليك بشوق فتعاهدها باهتمام، فإنك إن أعرضت عنها هلكت حزينة، وإن أبطأت عن استجابتها فنيت بالحضرة، فإن تفقدتَها من أجل رأفاتك فقد ظفرت ؛ وإن أقبلت بناظرك إليها خلصت، إن استجبت لها تأيدت.أيقظ الغيرة من أجلها لأنَها خطيبتك، لأن الذي خطبها لك هو بولس الرسول، لا تعرض عنها لئلا يتخذها العدو. أيها السيد أدبني برأفاتك ؛ ولا تسلمني إلى أيدى المفسد ؛ فإننى هاأنذا قد جمعت أفكاري من كل جهة، فلم أجد شيئاً صالحاً أذكره قدامك سوى هذا فقد، أنني لست أعرف آخر سواك. إن نعمة أشفيتك هي لا يقدر عرضها ولا يحصى ؛ وتمنح الشفاء لكافة المتقدمين إليك، لأن جراحاتي برأفاتك تشفى ثم يعاودها الوجع من أجل ونيتي، في حال صحتي أنسى الطبيب فينساني في مرضي لأن خطاياي تتعبك.وأنا أعلمك إذا رحمتني أغيظك ؛ ولا أنسى أنك تتحملني من أجل تحننك، لأن الأم المتحننة إذا خالفها طفلها لا تحتمل أن تعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت كذلك فكم أولى بتحننك.وها يا سيدي تحننات الطائر مسكوبة على فراخه ؛ وفي كل ساعة يفتقدها ويقدم لها طعاماً ؛ ويغذيها بتعب لأنه يغلب من تحنناته، فإن كانت المخلوقات العديمة النظر لها مثل هذا التحنن ؛ فكم بالحري نعمتك أن تغلب ربوات أضعاف من قبل تحنناتِها ؛ فترحم المقبلين إليها والطالبين إياها بالحقيقة. وها أيضاً عين الماء مملوءة مياهاً تنبع بلا انقطاع ؛ وتمنح المقبلين إليها ماءها بلا حسد ؛ وهي غير محتاجة إلى المدائح البشرية لأنَها ليس لها أن تمدح على ذلك بل الذين ينالون منها يمدحونك بِها، لأنه من البين أن من أجل إحسان نعمتك تمنح تلك العين مشروبَها. فها قد شاع ذكر عين لجة رأفاتك التي لا يمكن اختبارها ؛ أنَها بلا حسد تروي القوات السمائية والبرايا التي على الأرض ؛ مدبراً كل نسمة وأنت غير محتاج إلى مديح وتمجيد سائر المخلوقات، لأنك لم تزل ممجداً بجوهر عظمتك وعظم جلالك.إن محبتك تائقة لخلاصنا، فأمر بِها إلينا لكي ما إذا مجدناها نتعظم وننال مجداً، لأنني موقن أن محبة نعمتك تعتنق وتقبل المقبلين إليها.وبما أنك لم تزل عالماً بعلم سابق ؛ فتتقدم وتعرف قلب المقبل إليك إن كان خلع العالم بالكلية ؛ فقبل أن يصل إلى الباب تفتح له، وقبل أن يجثو ساجداً تناوله يداً، قبل أن يفيض دموعاً تقطر عليه رأفاتك، وقبل أن يعترف بجرائمه تعطيه الغفران. ولا تقول له كيف أجزت زمانك ؟ أين أفنيت وقتك ؟ ولا تطلب كتاب خطاياه، ولا تتذكر إغاظة توانيه، ولا تعير إنكاره إحساناتك.لكنك تتقدم فتبصر التواضع والبكاء وسجية القلب ؛ وتَهتف أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه إياها، اذبحوا العجل المسمن للفرح والسرور ؛ ليحضر الملائكة ويفرحوا معنا بوجود الابن الضال ؛ وعودة الوارث الضائع ؛ وبمنزلة تاجر عائد من سفره بغنى جزيل.هكذا نعمتك تقبل المقبل إليها من كل نفسه، لأنَها تتوق أن تبصر الدموع ؛ وتعطش إلى معاينة التوبة ؛ وتسر بحرص الحريصين أن يتوبوا. فأوضح إذاً فيَّ تحننك الجزيل ؛ وأرثِ لي ؛ وارحمني من محاضرة المفسد فإنه بعد أن جرحني وقف يستهزئ بي.فكما تقدم التلاميذ في البحر وأيقظوك ؛ وبصوت فمك المبارك انقطعت زوبعة الريح ؛ وسكن اهتياج البحر، هكذا أستجب لعبراتي فإنَها نَهاراً وليلاً تيقظك. إن الأطباء تعبوا أثنتا عشر سنة ؛ ولم يستطيعوا أن يشفوا نزف المرأة السقيمة ؛ بل سببوا لها وجعاً زائداً ؛ وكل ما لم يكن لأولئك منحته لها ؛ وبمقدار ما شهروها إنَها لم تبرأ صحتها ؛ منحتها شفاء بلا وجع.لأنَها رجت أن تكتم أمرها عنك ؛ فتقدمت سراً ودنت على هدب ثيابك، تقدمت لا لتلتمس جسدك الأقدس بل لتلمس لباسك وحده ؛ فمنحتها البرء وأرحتها من الخجل من أطباء كثيرين.فأرح نفسي الحزينة من تعير محزني العدو، أيها الطبيب المتحنن أظهر في أعضائي حكمتك الجزيلة ؛ وأجعل جراحاتي غير مدنسة ؛ وألمع فيها نور جمال الفضيلة، ولتكرز نعمتك إنَها هي نجتني.أيها الخروف غير الخاطئ الذي ذُبحت عن خلاص المسكونة، وصنعت الصلح بين السماء والأرض ؛ لا تطرحني فإنني بوقاحة أقبلت إليك، ولا تحاكمني بما احتملته من أجلي في ذلك اليوم المرهوب المرعب.فإنك ستقول بلا محالة لنا نحن الخطاة: أما قد عرفتم ما صبرت عليه من أجلكم ؛ كنت غير مرئي فشوهدت منكم، كنت غير مائت فحوكمت من أجلكم، كنت بلا تبعة فلطمت من أجلكم، وكمال ذلك أنني صلبت فما سخطت، وأستهزئ بي فما لعنت.فأنا السيد لم أزل أعلى من كل الخطايا والزلات احتملت كل هذه ؛ وأنتم المجرمون ماذا احتملتم من أجلي ؟.فمن أجل هذا ليس لأحد منا اعتذار، أذكر يا سيدي أن هذه كلها من أجل تحننك وصلاحك وعدلك اصطبرت عليها من أجل تقويماتنا، فكما سُلمت من أجلنا وأنت الصالح القدوس الغير خاطئ، وأنت الآن أيضاً هو لأنه لم ينتقل تحنن لاهوتك الطبيعي ولم يتغير.أما نحن فكنا منافقين وأشراراً ؛ والآن خطاة وضعفاء ؛ فالموهبة التي وهبتها لنا بتحننك لا تنتزعها منا ؛ لأنك لو كنت افتديتنا من أجل برنا لكنت الآن إذ أخطأنا تسخط وتنتزع نعمتك، فكنا نقول بواجب إنك افتديتنا من أجل برنا. والآن إذ أخطأنا ابتعدت منا والحال إننا كنا منافقين والآن خطاة، فالموهبة التي حبوتنا بِها من أجل تعطفك على البشر ثبتها لنا إلى النهاية.أما أنا يا سيدي فبنفس مغمومة أصرخ إليك ؛ وأتضرع إليك من أجل عدوي فإنه قد آذاني، انظر يا سيدي وصر لي رجاء، وأخزِ المجربين فإنَهم في كل ساعة يذهلونني.يسرقوني ولا أعلم ؛ ينزهوني ويعيقوني لئلا أتخشع من الاستغاثة بك ؛ لأنَهم قد عرفوا أنني إن هتفت إليك بدموع لا تبعدني.ويلي أي مصارع لي في المقام، والغبطة لي أي منقذ لي ومعطي جائزة في الجهاد.أما ملك الحيات والوحوش الردىء فهو مهلك ردىء في كل حركاته بنظره وبمروره، وهذا الثعبان في الأمرين كلاهما أخبث منه كثيراً في مصارعته وفي وقاحته.فبالقوة الإلهية التي قلبت العصى إلى ثعابين أزجر هذا الثعبان ؛ فإنه بوقاحة يجىء إليَّ، فاحتمال وقاحة صراعه تذخر للصابرين كنزاً نفيساً، والحزن الذي يحتملونه من تَهويلاته يجعل لهم تطويباً محيياً ؛ لأن فرح هذا الدهر موعوب حزناً. فأما الحزن والتنهد يسببان سروراً وحياة خالدة.أيها السيد أنا كل حين أسقط وأمرض ؛ لكن نعمتك كل حين تفتقدني وتشفيني، ولئن كل ساعة أنكر صلة أشفيتها، إذ أشفية نعمتك لا ثمن لها ولا قيمة، تمنحها مجاناً.وإذ كنت بالدموع تَهبها، فهب لي بعبراتي أشفية نفسي ؛ لأن أمراً بيناً واضحاً عند الكل، إن الدهر يضاهي موقف الجهاد، والثعبان القوي يجتهد أن يغلب الكل، فيغلب من قوم ويداس، ويغلب قوماً ويطأهم.وأناس في مصارعتهم ينغلبون وقوم بالصراع يكللون، وأناس بمرارته ينالون حلاوة الحياة الدائمة، وقوم بحلاوته ورخاوتَهم يكتسبون مرارة العذاب الأبدي.قوم بتناهيهم في عدم القنية يقهرونه بسهولة، وقوم من أجل اشتمالهم بالأمور الأرضية والتفافهم بِها يقهرون.فالذين يحبون اللـه من كل نفوسهم ؛ محاربته ليست عندهم شيئاً، أما الذين يحبون العالم فمحاربته عندهم مستصعبة وغير محتملة، فمغبوطون الذين يحبون اللـه ؛ وبمحبته يحتقرون كل الأشياء. مغبوطون الذين يبكون نَهاراً وليلاً لينجو من الرجز المستأنف، الطوبى للذين يواضعون ذاتَهم باختيارهم فإنَهم هناك يُرفعون. الطوبى للمساكين وذوي الحمية فإن فردوس النعيم ينتظرهم، الطوبى للذين صاروا طوعاً هيكلاً للروح القدس فإنَهم عن الميامن يقفون. الطوبى للذين صلبوا ذاتَهم ؛ فإن دراستهم قد صارت في ذكر اللـه نَهاراً وليلاً، الطوبى للذين منطقوا أحقائهم بالحق ؛ ومصابيحهم معدة ؛ ويتوقعون ختنهم متى يأتي العرس. مغبوط المقتني أعيناً عقلية لمعاينة الخيرات العتيدة والعذاب المؤبد ؛ وحرص أن يتعب لينال الخيرات الخالدة، الطوبى لمن نصب أمام عينيه تلك الساعة المرهوبة دائماً وحرص أن يرضي اللـه ما دام توجد ساعة. الطوبى لمن صار على الأرض بلا ألم مثل ملاك ليمكنه أن يبصر مع الملائكة المطربات التي في العلا ؛ ويتفطن الأسرار التي فوق ؛ ويتذكر الأمور التي في العلا ؛ وينطق بالأمور التي فوق.ويعمل الأعمال التي في العلا، ويتجر ويستفاد الفوائد التي فوق، ويتلو الخيرات التي في العلا.ولا يميل إلى الأمور التي أسفل حيث لذات وشهوات هذا الدهر الباطل الحامل الموت، وأمر حسن أن يبصر بناظر القلب لئلا يسقط شيء في حدقة العين، إما فكر خبيث أو شيء آخر من الأشياء التي لا ترضي الإله السيد وتظلم العقل.لكن أسمع معي أيها القارئ ما أقول: ماذا لنا نتفكر فيه دائماً ؟ لنا الملائكة، لنا رؤساء الملائكة، لنا القوات، لنا الأمجاد التي للربوات، لنا الشاروبيم، لنا السارافيم، لنا ذاتنا، لنا الإله سيد الكل الاسم الفائق الجود الأقدس.لنا الأنبياء، لنا الرسل، لنا الأناجيل المقدسة أقوال الرب، لنا الشهداء القديسون المعترفون الآباء القديسين البطاركة، الرعاة الكهنة، السماوات وكل البرايا التي فيها. أفتكر في هذا وتفطن فيها ؛ فتصير ابن السيد الإله. بنعمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد. آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
05 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس آدم

"وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" تك 1: 26 مقدمة قد لا يعرف التاريخ البشري شخصيات كثيرة اختلف حولها الكتاب والشعراء ورجال الدين والعلم والأدب والفلسفة والاجتماع والفن كما اختلفوا حول أبينا آدم، وقد لا يعرف التاريخ شخصيات كثيرة استعصت على الفكر البشري، واختلف الناس في الحكم عليها، وتنوعت وتباينت نظرياتهم ومذاهبهم وآراؤهم كما اختلفوا حول أول إنسان ظهر على هذه الأرض!! فمنهم من رفعه إلى قمة المجد، وألهه، كما فعل ايبكتيتوس الفيلسوف الرواقي القديم!! ومنهم من هوى به إلى أسفل وأحط الدركات، كما فعل منتاني، الذي رآه حيواناً قذراً من أحط وأقذر الحيوانات!! ومنهم من عاد به إلى أزمان قديمة، كصاحب نظرية النشوء والارتقاء؟! ومنهم من رده إلى عصور أقرب وأحدث، آخذاً بنظرية الكتاب، كما فعل تويبني أعظم مؤرخ في القرن العشرين، الذي كتب مؤخراً في مجلة اتلانتيك منثلي يقول: "إن عمر الجنس البشري لا يمكن لآن يزيد بحال ما على ستة آلاف سنة!!"على أنه مهما تختلف هذه النظريات وتتنوع، ومهما يكن حظها من الاقتراب إلى الحق أو البعد عنه، فمما لا شبهة فيه، أن العصور الحديثة أخذت تؤكد -أكثر من أي وقت مضى- أن قصة آدم، كما وردت في الكتاب، هي أدق وأصح القصص عن الإنسان الأول، وأنها لا تتدانى أو تباري في الإيجاز والعمق والبساطة والجمال!! وأن البشر ية، كما يقول بروفيسور مور "لم تتقدم بعد خطوة واحدة، رغم القرون الطويلة، وراء الوصف الأخاذ المدون في سفر التكوين عن الخليقة"!!كم يكون إذاً فذاً وجميلاً، ونحن ندرس شخصية أبينا آدم الأول، أن نقف قليلاً من هذه القصة، وما حف بها من قصص وتقاليد وأساطير ونظريات، لنخرج بصورة واضحة مجلوة عن آدم!! من هو!! وكيف جرب وسقط وعوقب؟!! وكيف خلص وأخذ طريقه مرة أخرى إلى الفردوس؟!! آدم من هو؟!! لا مندوحة، ونحن بصدد دراسة وتحليل شخصية آدم، من الاعتراف بأن شخصيته من أعقد وأعسر الشخصيات التي واجهها العقل البشري، وذلك لأنه فضلاً عن كونه أول وأقدم إنسان، وقد باعد بيننا وبينه التاريخ. ولم يترك لنا من قصته سوى بضع صفحات متناثرة هنا وهناك بين أساطير وتقاليد الشعوب، فإن المؤرخين والكتاب والشراح والمفسرين لا ينظرون إليه كشخصية مجردة منفردة تتميز وتختلف عن غيرها من الشخصيات، بل ينظرون إليه كمثال ورمز للجنس البشري بأكمله، بما في هذا الجنس من مزايا وعيوب وأمجاد وسقطات، ومن ثم عجزنا عن أن ندرك ملامحه الحقيقية، إذ اختفت شخصيته الخاصة وراء شخصيته الرمزية!! كما أن موسى عندما تحدث عنه لم يقصد أن يعطينا تاريخاً مفصلاً أو مجملاً لحياته بقدر ما آثر أن يرينا إياه كصنعة يدي الله، ونقطة البدء في التاريخ البشري، وكيف تفاضلت نعمة الله عليه، فأعدت له وللأجيال المنحدرة منه الفداء المجاني العجيب!!على أنه مهما تكن الصعوبة في فهم شخصيته، مما لا شك فيه أن الجمال والحكمة، والعظمة كانت من أظهر صفاته!! الجمال.. ومن المؤكد أن آدم لم يكن جميلاً فحسب، بل لعله أجمل رجل خلق على هذه الأرض، وقد كان الربيون اليهود يعتقدون أن الله عندما أراد أن يصنعه، تمثل بشراً سوياً، ثم أبدعه على الصورة التي تمثل بها، وقد ساير الكثيرون في الكتاب المسيحيين هذه الفكرة، فقالوا أن آدم كان أشبه جماله بابن الله على جبل التجلي!! وسواء صح رأي هؤلاء أو أولئك أو لم يصح، فمن المؤكد أن آدم كان يتمتع بجمال مذهل أخاذ، وكيف لا يكون كذلك وهو ختام عمل الله المبدع في الخليقة؟!! وكيف لا يكون كذلك، وقد صنعه الله بكيفية متميزة متفردة عن غيره من المخلوقات؟!! فهذه كان يقول لها: لتكن فيكون؟!! أما هو فقد قال فيه: "لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" وقد اختلف الشراح في المقصود بصيغة الجمع الواردة في هذه العبارة، فذهب البعض إلى أنها دليل التعظيم والإجلال اللائقين بشخص الله، وهو دليل، فيما نعتقد ضعيف، لأن صيغة الجمع لم تظهر في لغة البشر كدليل التعظيم والإجلال عند الملوك وغيرهم من السادة والعظماء إلا في وقت متأخر نسبياً من التاريخ، ولو صح هذا المعنى لكان من اللازم أن تكون كل كلمة تقال من الله أو توجه إليه تعالى ترد في صيغة الجمع، لأنه هو وحده المتفرد في العظمة الدائمة الأبدية!! وذهب غيرهم إلى أن الله كان يتحدث في تلك اللحظة مع الملائكة وجند السماء!! وذهب آخرون إلى أنه كان يتحدث إلى الأرض ذاتها، وما بها من مخلوقات! على أن الرأي الراجح أن المقصود بصيغة الجمع هنا هو أن الله كان يتحدث إلى ذاته في الثالوث الأقدس العظيم!وأن الإنسان بهذا المعنى، لم يخلق كغيره من المخلوقات السابقة، بل جاء نتيجة المشورة والتدبر والحكمة الإلهية الخاصة، أو في لغة أخرى، جاء وليد قرار خاص متميز منفرد عن غيره من قرارات الله! وهل يمكن لآن يحدث هذا دون أن يأتي آدم قطعة فريدة رائعة في الجمال؟!! يضاف إلى هذا كله، أن آدم خلق بدون خطية، فخلق بذلك محرراً من المرض والضعف والوهن والقبح والتشويه والدمامة التي تسببها الخطية!!.. وألا يتفق هذا مع التقليد اليهودي الطريف الذي يقول: أن آدم بعد أن طرد من جنة عدن قال للملاك الواقف لحراسة طريق شجرة الحياة: ولكن متى أعود إلى الجنة مرة أخرى؟!! فأجابه الملاك: عندما ترجع بالوجه الذي أعطاه لك الله في الجنة!! أجل فلقد غيرت الخطيئة وجهه الجميل البريء الحلو، ورسمت عليه سحابة قاتمة سوداء من الظلال، بعد أن سلبته النقاوة والدعة والهدوء والبراءة والرقة والبهجة وغيرها من المقومات الأساسية الأصلية لكل جمال ملائكي دائم!!. الحكمة.. وقد اختلف الشراح والمفسرون في مدى الحكمة التي أوتيها آدم، فذهب بعضهم مذهب التقليد اليهودي الذي زعم أنه أوتي من الحكمة ما لم يؤته الأولون والآخرون، وأنه كان أعلى فهماً وإدراكاً من موسى وسليمان وغيرهما من الحكماء، بل ومن الملائكة أنفسهم، وأن الله قال لهؤلاء، عندما خلقه، أنه سيكون أكثر فطنة وحكمة منهم جميعاً، ولكي يبرهن على هذا جاء لهم بحيوانات البرية وطيور السماء، وطلب إليهم أن يدعوها بأسماء، فعجزوا، وعندما أحضرها إلى آدم قسمها جميعاً إلى أجناس وفصائل، ودعا كل ذات نفس باسمها الخاص كجنسها وفصيلتها.. وسار التقليد في طريقه الخيالي، فقال أن حكمة آدم ترجع في جوهرها إلى السماء التي أنزلت إليه جميع مفاتيح الحكمة والفهم البالغ عددها ألف وخمسمائة مفتاح وأن آدم فقد هذه المفاتيح بالسقوط إذ استردتها السماء مرة أخرى، وقد شارك بعض الكتاب المسيحيين الأوائل هذا الرأي، وأن يكن في غير جموح، إذ قالوا أن أرسطو الفيلسوف اليوناني العظيم كان مثل آدم في حكمته!!.. وذهب الرأي المعاكس إلى أن آدم لم يؤت من الحكمة شيئاً، وأنه كان أدنى إلى الطفولة الساذجة وعدم الفهم، ومن هنا نشأت أسطورة الإنسان الوحشي القديم!!. على أننا نعتقد أن كلا المذهبين غير صحيح، وأن كليهما مغرق في الخيال بعيد عن الواقع والحق.. لقد خلق آدم، كما يرى كل متأمل متعمق في قصة الكتاب ذا ملكات ومواهب، وخلقت له الجنة، ووضع فيها ليعملها ويحفظها، أو في لغة أخرى ليدرب هذه الملكات والمواهب، كما وضعت له شجرة معرفة الخير والشر، وحرمت عليه ثمرتها، لا لأن الله يريد أن يحرمه من معرفة الفارق بين الخير والشر بل لأنه يريد له هذه المعرفة، ولكن بطريقته هو لا بطريق الشيطان، كان الله يريد لآدم أن يعرف الخير، وبضده يمكنه معرفة الشر، وكان الشيطان يريد العكس، إذ يريد أن يعرف آدم الشر، وبضده يمكنه معرفة الخير! ومن هنا نعلم أن الجنة كانت مدرسة آدم ومركز تعليمه وتدربه! كما أن الأسلوب الرمزي الذي استعمله الله في تعليمه وتدريبه يشجع على الاعتقاد بأنه كان وسطاً في المعرفة والإدراك. وأنه كان يحتاج إلى زمن وكفاح طويلين، حتى يصل إلى ما تخيله له المغرقون في الخيال والتصوير من علم وإدراك وحكمة! يضاف إلى ذلك أن قصة الكتاب تشجعنا على الاعتقاد أن آدم كان أذكى من حواء وأقل عاطفة، أو في لغة أخرى، أنه كان يتفوق عليها في الذكاء، وكانت تتفوق عليه في العاطفة.. وإذا سرنا في طريق الاستطراد، يمكننا أن نقول ونحن نوازن بين عقله وقلبه، أن عقله كان أقوى من قلبه، وأكثر تنبهاً وأصالة وإدراكاً.. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الشيطان يبدأ التجربة بالانفراد بالمرأة دون الانفراد به. العظمة.. وما من شك بأن آدم كان عظيماً، وإن كنا لا نتفق مع التقاليد اليهودية التي زعمت، بأنه كان مهيب الطلعة، رائع المنظر، فارع القوام، إلى درجة أنه كان يستطيع خوض المحيطات دون أن يغطيه ماؤها إلى النصف كما كان يمكنه أن يرى الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وهو واقف على قدميه، وقد بدت عظمته هذه أمام الملائكة فأخطأوه ذات مرة وحسبوه الله فسجدوا له، لولا أنه زجرهم، ونبههم إلى شخصه، كما تقول ذات التقاليد، أن الله داس على رأسه بعد السقوط، فتقلص طوله، ومع ذلك بقى أطول رجل على ظهر الأرض!!ومع ذلك، فمما لا شبهة فيه أن آدم كان عظيماً وكيف لا يكون كذلك. وقد خلقه الله على صورته وشبهه إذ قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" ومن المتفق عليه أن الصورة والشبهة يفيدان معنى واحداً. وإن كانت كلمة الشبه تعتبر تأكيداً وتخصيصاً للصورة. إذ تعبر عن التماثل القوي الكائن بين الأصل والصورة. ولكن كيف يمكن لآن يكون آدم على صورة الله وشبهه، وكيف يمكن لآن يكون هناك تماثل بين الله وبينه؟!! لقد ظن البعض أن التماثل قائم في الشبه بين الله المثلث الأقانيم، والإنسان ذي الطبيعة المثلثة -في نظر هؤلاء- الروح والنفس والجسد، ولكن الكثيرين من المفسرين يستبعدون هذا التفسير، إذ يستبعدون التثليث في طبيعة الإنسان!! كما يستبعد الجميع، بداهة التماثل بين الإنسان من الوجهة البدنية، والله، إذ أن الله منزه عن اللحم والدم!!والرأي المسلم به أن التماثل قائم أولاً بين الإنسان، من الوجهة الطبيعية، والله، أو في معنى آخر، بين الإنسان، كإنسان ذي ملكات خاصة، وبين الله، أو في تعبير آخر بين الإنسان، كشخص، وبين الله، كشخص.فالإنسان هنا كشخص الله له مقومات الشخصية الثلاثة: الفكر، والشعور والإرادة، مع هذا الفارق الحاسم أن الله له هذه المقومات في كمالها اللانهائي بينما يحوزها الإنسان في المعنى الجزئي المحدود، فمثلاً هناك فرق بين فكر الله وفكر الإنسان، فالله هو الإله المدرك لذاته، والمدرك لكل شيء صنعه، وما إدراكنا نحن مهما امتد واتسع إلا كومضة ضعيفة باهتة، إزاء نور معرفته الكامل، وإدراكه اللانهائي، بل أن المسافة القائمة بين إدراك أي إنسان أو ملاك، وإدراك الله أكثر بما لا يقاس من المسافة القائمة بين إدراك الإنسان نفسه وإدراك الملاك، أو المسافة القائمة بين إدراك الطفل وإدراك الفيلسوف!!..وما يقال عن الفكر يمكن أن يقال عن الشعور أيضاً، والشعور هو ذلك الإحساس المثير العام الذي ينهض في أعماق الشخصية ويعبر عما بها من عواطف وانفعالات!! وهو بهذا المعنى أساس كل ما نعرف أو نختبر من لذة أو بدونه يفقد الفكر حوافزه، والإرادة دوافعها ومحركاتها، وإذا جاز للشعور البشري أن يضعف أو يخبو فإن مشاعر الله هي النار الآكلة والوقائد الأبدية!!وما يصح في القول عن الشعور يصح أيضاً في القول عن الإرادة، وفي الواقع، أن الإرادة -كما وصفها أحدهم- إن هي إلا النفس في العمل، أو النفس حين تضبط عن نفسها، ولا يمكن للأفكار أو المشاعر أن تنساب إلى الوقائع العملي، ما لم تكن هناك إرادة تحولها إلى ذلك!! وقد أعطى الله هذه الإرادة للإنسان واحترامها على الدوام فيه!!..ويكفي الإنسان عظمة أن يكون على صورة الله وشبهه في هذه كلها، مهما يكن الفارق بينهما كالفرق بين شعاعة النور والشمس الكاملة!!..على أن التماثل قائم أكثر من ذلك بين الإنسان، من الوجهة الروحية، وبين الله، إذ أنه لا يمكن أن يستريح أو يهدأ أو يشبع بعيداً عن الله ولو أعطيته الدنيا بأكملها، ولعل هذا ما حدا بتوماس كارليل أن يقول ذات مرة: "إن شقاء الإنسان يرجع فيما أعتقد إلى عظمته، أو إلى اللانهائية الكامنة فيه، اللانهائية التي لم يستطع أن يغطيها أو يدفنها تحت نهائيته، ولو أن وزراء المال في أوربا الحديثة تكاتفوا مع تجار الأثاث والأطايب لما أمكنهم أن يحققوا السعادة لإنسان واحد من ماسحي الأحذية" كان ثلاثة من الشبان يزورون المتحف الأهلي بواشنطون، وقد توقفوا عند صندوق زجاجي بداخله عدة أباريق زجاجية، اثنان منها ممتلئان ماء، وبآخر مواد من جير وفسفور وحديد وكلسيوم، وبغيره أيدروجين ونيتروجين وأوكسجين، وكتب على الصندوق: جسد رجل يزن مائة وخمسين رطلاً، وقال الثاني: وهل هذا كل ما في؟! وهل لا يوجد ما هو أكثر؟!! فأجابه رجل كان واقفاً إلى جواره: نعم توجد نسمة القدير التي تجعل من كل هذه المواد إنساناً حياً!!.وهنا عظمة الإنسان ومجده!! العظمة التي تجعلنا نغني مع شكسبير: أي قطعة من العمل هذا الإنسان!! كم هو رائع في عقله!! لا نهائي في ملكاته!! وفي صورته وحركته!! وكم هو مندفع ومثير!! في أعماله كملاك!! وفي إدراكه كإله!! آدم ولماذا خُلِّق؟!! أما وقد عرفنا من هو آدم فمن السهل أن نعرف لماذا خلق؟!! لقد خلق كما يقول قانون الإيمان ليمجد الله أو كما قال أغسطينس: "قد خلقتنا لنفسك، وقلوبنا لن تجد الراحة إلا بين يديك" وبهذا المعنى يمكن أن نقول أن آدم خلق ليمجد الله بالعبادة، والسيادة، والإثمار في الأرض!! العبادة.. وربما ندرك هذه الحقيقة في الاسم الذي أطلقه الله على آدم، وقد اختلف الشراح في معنى هذا الاسم، فقال البعض أنه من الأديم أي من التراب الذي يذكره على الدوام بمركزه في حضرة الله، ومن الله، وقال آخرون. أنه يعني الأحمر إذ كانت بشرته حمراء، أو من التراب الأحمر!! فإذا أضفنا إلى ذلك أن كلمة "إنسان" تعني في اللغة اليونانية المرفوع النظرة، وفي اللغة الإنجليزية الكائن المفكر، وعند علماء فلسفة اللغات "الكائن النبيل الطلعة" أدركنا أن الإنسان خلق قبل كل شيء، وبعد كل شيء ليعبد الله، عبادة الإنسان الوديع المتضع، الذي يرفع عينيه على الدوام إلى الأعالي، مستغرقاً في الفكر والشعور والتعبد، لامع الوجه كأنه ملاك!! وهنا يبلغ المرء لذته الكاملة ونشوته العميقة، بل هنا يمكنه أن ينشد مع الشاعر المتصوف: وليت الذي بيني وبينك عامر وليتك ترضى والأنام غضاب إذا نلت منك الود يا غاية المنى وبيني وبين العالمين خراب فليتك تحلو والحياة مريرة فكل الذي فوق التراب تراب السيادة.. وخلق آدم أيضاً ليسود، إذ هو وكيل الله ونائبه على هذه الأرض. ومن ثم أعطاه الله أن يملأها ويخضعها، ويتسلط على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض، وهذا التسلط لخير هذه المخلوقات وخيره، أو كما قال جورج آدم سميث "إن علاقة الإنسان بالحيوان نوع من العناية، فهو يرعاها بحكمته فلا تهيم، وهي تخدمه وتعينه في أعماله" وهنا لا نملك ألا أن نقول مع دكتور ديل: "إني أرفض أن أتنازل عن عظمتي وسيادتي في مواجهة الكون المادي، إذ أني أعظم من الشمس، وأعظم من البحر، وأعظم من الكواكب، وأعظم من النجوم، أعظم منها جميعاً، إذ أنها خاضعة لي، وأنا سيد، وهي مربوطة، وأنا حر". الأثمار.. وما كان آدم ليبقى في الأرض بمفرده، أو هو وحواء فقط، بل خلق على صورة الله، وخلق ذكر وأنثى، وخلق لينال بركة الله ويثمر ويكثر ويملأ الأرض، وذلك لأنه بالطبيعة التي صنعه الله عليها يأبى الانفراد والعزلة إذ هو دائب الحنين للاتصال بالآخرين ومعاشرتهم، وسجنه القاسي البعد عن المجتمع، والحرمان من التجارب مع غيره، يضاف إلى ذلك أن هذا الإثمار فيه الزيادة المستمرة الدائمة في تمجيد الله وتعظيمه!! إذ أنه يلد على مدى الأجيال ما لا يعد أو يحصى من بني البشر الذين يرفعون أيديهم وشفاههم وقلوبهم بالحمد والسبح لله وخدمته كل يوم!! ويكفي ما قاله أحدهم: إن الله عندما يريد أن يصنع في الأرض عملاً عظيماً ومجيداً يخلق طفلاً!! آدم وكيف جرب وسقط وعوقب؟!! ومن واجبنا ونحن نبحث تجربة آدم وسقوطه أن نستضيء بقول الرسول: "وآدم لم يغو لكن المرأة أغويت" 1تي 2: 14 لنرى أن التجربة عند آدم تختلف عنها عند حواء، إذ أن سقوط المرأة كان وليد الخداع "الحية غرتني".. لقد جاءت الحية إلى المرأة كمن يطلب لها الخير، ويريد أن يرفعها إلى مركز الله، وأخفت عنها الجنة المهدمة والحزن والشقاء والدموع والمأساة والموت، وما إلى ذلك مما سيصيب الجنس البشري على توالي الأجيال!! أما آدم فقد سقط بعين مفتوحة، إذ يظن البعض أنه شك في كلمة الله، عندما أبصر حواء تأكل من الشجرة، دون أن تموت في الحال، كما كان يتوقع.. على أن ملتون يذهب في التفسير مذهباً آخر، إذ يقول في خياله الشعري في الفردوس المفقود: أن آدم أكل من الشجرة مدفوعاً بحبه لحواء، إذ آثر أن يموت معها، دون أن تهلك وحدها!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك فإن سقوط أبوينا استتبع أكثر من نتيجة وعقاب!! العار.. لقد جاءتهما الخطية بالخجل والخزي والعار، إذ أدركا أول كل شيء أنهما عريانان، ولعل هذا أول ما يحس به المرء عند ارتكاب الخطية!! ولعل هذا هو الدافع الذي يجعله يرتكب الخطية في الظلام!! "وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 19- 20)، وكلمة الخطية على الدوام مقارنة وملاصقة للعار والخزي، إذ أنها تهدر في الإنسان كل ما هو آدمي وإلهي إذ تقتل فيه المروءة والشرف والكرامة والنبل والإنسانية، وتسفل به إلى الحيوانية القذرة المنحطة، ألم تعر آدم، وتكشف نوحاً، وتغطي داود بالوحل، وتنحط بأمنون إلى أسفل الدركات!! على ألا تنسى على الدوام ما اصطلح رجال النفس على تسميته بعقدة أوديب، عقدة ذلك الفتى اليوناني القديم، الذي قتل أباه، وتزوج أمه، وعندما أدرك بشاعة عمله، فقأ عينيه، ووقع بنفسه أفظع عقاب يجرؤ عليه إنسان!! الخوف.. وإذ سمع آدم وحواء صوت الرب الإله ماشياً في وسط الجنة عند هبوب ريح النهار فزعاً وخافاً، وهذا ما تصنعه الخطية دائماً بمرتكبها، إذ تظهره في مظهر الضعيف الأعزل الذي تمسك به حبال آثامه وشروره، فلا يستطيع الهروب من عدل الله، مهما حاول إلى ذلك سبيلاً، لقد ظن آدم وحواء في باديء الأمر، أن التعدي والأكل من الشجرة، سيجعلها مثل الله، وفي مستواه تعالي، ولكنهما تبينا آخر الأمر، أنهما أضافا إلى ضعفهما ضعفاً، إذ لم يجسرا على النظر إلى الله فحسب، بل خشيا حتى من مجرد الاستماع إلى صوته عند هبوب ريح النهار!! والخطية توهم المرء على الدوام أنه قوي، وجسور، حتى يرتكبها، فإذا به يكتشف أنه ضعيف، وجبان، وأنه أعجز من أن يواجه نفسه، أو المجتمع، أو صوت الله!! وقد جاء صوت الله إلى أبوينا عند هبوب ريح النهار، أو قبيل الغروب، كما يرجح بعض المفسرين عندما سكنت الطيور إلى الأعشاش، والحيوانات إلى المرابض، ولم تكن هناك نأمة أو حركة، ما خلا الريح التي هبت، وجاء معها صوت الله، قوياً مؤثراً، يبلغ الشغاف والأعماق، وهكذا يأتينا هذا الصوت عندما نرتكب الخطية، بقوة لا تغالب أو تناهض، في الحوادث والأحداث التي تمر بحياتنا وفي تأنيب الضمير المرهب، وعذاباته، وضرباته التي هي أقسى من لذع السياط، أو طعنات السيوف، فننكمش، ونتقلص، ونفزع، وتصنع منا الخطية جبناء كما يقول شكسبير!! العداوة.. والخطية سر كل نزاع وخصام وعداوة في الأرض، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، وإذ سقط أبوانا الأولان، ضعفت المحبة بينهما، فلم تكن في جمالها الأول، كما نشأت بينهما وبين الحية عداوة قاسية، وأكثر من ذلك قتلت محبتهما لله!! أما أن محبتهما لم تكن كالأول، فذلك يبدو من محاولة آدم إلقاء التبعة على زوجته، دون أن يهتم بحمايتها أو تحمل ذنبها، كما كان ينتظر منه كمحب مخلص غيور، ولا ننسى أيضاً أنه عندما ذكرها أمام الله لم يقل "زوجتي" و"حواء" بل قال "المرأة التي أعطيتني" مما يدل على أن محبته لها لم تعد في قوتها الأولى!!.. أما العداوة للحية فقد أضحت عداوة دائمة مستمرة أبدية!! ومن المستطاع ملاحظتها إذا ذكرنا العداوة القائمة بين الجسد والروح في الإنسان الواحد، وبين المؤمن وغير المؤمن على طوال الأجيال!!..أما العداوة لله فتبدو في البعد عنه، وعدم الشوق إليه، ومن هنا نعلم لماذا يعيش الإنسان على الدوام في الفزع والرعب والقلق والفوضى وعدم الاستقرار؟!! بل هنا نعلم لماذا تبدو حياته مجموعة من الأشتات والمتناقضات، أو كما يصفه بسكال الفيلسوف: "مزاج فريد من المتناقضات، جمع الكرم والخسة، والسمو والصغار، والقوة والضعف، حتى أصبح لغزاً عسير الحل… وهو بطبعه يميل إلى التصديق، ويميل إلى الشك، شجاع وجبان، راغب في الاستقلال وخاضع لشهواته، محتاج دائماً إلى شيء ما، مضطرب، قلق، سريع الملل، تخدعه حواسه، ويخدعه خياله، ويخدعه حبه لنفسه، فلا يرى الأشياء كما هي وإنما يراها من وراء ستار، ولا أدل على ذلك من اختلاف نظرات الناس إلى شيء واحد باختلاف أشخاصهم وبيئاتهم وعواطفهم ونزعاتهم.. يستطيع أن يقتل إنساناً مثله، ولكن ذبابة تستطيع أن تقتله هو"!! الموت.. وأجرة الخطية هي موت، وقد مات آدم وحواء في اللحظة التي سقطا فيها، وانفصلا عن الله، لقد ماتا في الحال الموت الروحي والأدبي، إذ لم تعد لهما الشركة الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب وأبيهما القدوس، بل لم يعد لهما ذلك الإحساس، الذي ألفاه ودرجا عليه، إحساس الحنين إليه والشوق إلى رؤياه!! بل لقد شعرا للمرة الأولى بأن غبشة من الظلام استولت على عيونهما، فلم يعودا يميزان للمرة الأولى بالفرق بين الحق والباطل، والنور والظلام، والجمال والقبح، والخير والشر، بل شعروا بما يشبه السم الزعاف القاتل يسري في بدنيهما فيخدر في كيانهما كل المعاني والحقائق ويقتلهما في بطء وعذاب وقسوة!! وإلى جانب هذا كله شعرا بالموت المادي يأخذ السبيل إلى جسديهما بالضعف والوهن والتعب والمرض والانحلال!!وهكذا أدركا صدق الله القائل: "لأنك يوم تأكل منهما موتاً تموت". الحياة المعذبة.. طرد آدم وحواء من الجنة فطردا بذلك من الحياة الوادعة الآمنة المستريحة، ولعنت الأرض بسببهما، فضعفت خصوبتها، وتحول الشطر الأكبر من اليابسة إلى البراري والصحاري والقفار، وكان على آدم أن يجد لقمته بالتعب والجهد وعرق الجبين: "ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى تراب تعود" وكان على حواء أن تعيش حياتها متألمة كزوجة وأم، وفقد الاثنان سيادتهما على العدد العديد من الحيوانات إذ استضرت وتوحشت وسار الركب البشري يئن مجهداً مثقلاً متعباً يقول مع يعقوب عن الحياة: "قليلة وردية" ومع موسى في مزموره الباكي: "وأفخرها تعب وبلية" ومع بولس: "فإننا نعلم أن الخليقة تئن وتتمخض معاً" آدم كيف خلص وأخذ طريقه مرة أخرى إلى الفردوس!!؟ على أن قصة آدم لم تنته بالطرد أو الموت أو الهلاك، وهيهات لها أن تكون كذلك، وقد سبقت نعمة الله فأعدت له الخلاص المجاني الكامل العظيمولعلنا نستطيع ونحن نتابع هذا الخلاص أن نلاحظ!! إن الله أعلن خلاص آدم قبل إعلان عقابه وهذا واضح مما نقرأ في سفر التكوين إذ قال الله للحية، قبل أن يحكم على آدم: "وأضع عداوة بينك وبين المرأة نسلك وبين نسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" أو في لغة أخرى، إن آدم سمع حكم الخلاص قبل أن يسمع حكم الموت!! وهل هناك برهان على عمق رغبة الله في خلاص البشر كهذا البرهان؟!! وهل هناك دليل على أن الله يسر بالرحمة والرأفة ولا يسر بموت الخاطيء كهذا الدليل؟!!.. سار الشاب البائس في إحدى ليالي الشتاء القارسة البرد يتخبط في ظلمات المدينة، وقد أفقده الإدمان على المسكر كل شيء كان يمتلكه، إذ باع ملابسه وأثاثه وكل ممتلكاته، ولم يتبق له منزل أو ثوب أو حذاءفخرج في شوارع المدينة حاسر الرأس، حافي القدم، ممزق الثياب، وأخذ يضرب في الطرقات والشوارع والأزقة على غير هدى، حتى بلغ ملجأ من ملاجيء اللقطاء والبؤساءوإذ دلف بقدميه المتعبين، وبطنه الجائع، يطلب لقمة واداما، ومبيت ليلة واحدة إذا أمكن، وجد عدداً كبيراً من أمثاله التعساء والمساكين ينتظرون ما ينتظر، ويطلبون ما يطلب، فجلس في وسطهم، وإذا بواعظ يتحدث إليهم قبل تناول الطعام عن الله وجوده وحبه ورحمته وحنانه بانياً كلامه على ما ورد في سفر أيوب الأصحاح السادس والثلاثين والعدد الخامس: "هوذا الله عزيز ولكنه لا يرذل أحداً" وأكد الواعظ أن الله لا يرذل أو يحتقر المنبوذ والضائع والمتروك والمهمل من جميع الناس، وأن رحمته واسعة وبعيدة ولا نهائية، وأن محبته موجودة وإحسانه كالبحر الطامي ومن غير حدودوإذ سمع الشاب هذه الأقوال استيقظ في قلبه شعاع من نور وأمل، وبدا له كما لو أن الظلمة العميقة الضاربة حوله توشك أن تتمزق، فركع على قدميا وصرخ إلى الله وهو يقول: "إني أعلم يا إلهي أنك قوي عزيز، ولكنك لا تحتقرني، لقد دمرت نفسي بالمسكر، ولكن لا تحتقرني!! اغفر لي خطاياي وساعدني لأحيا حياة جديدة" وسمع الله له، وأنقذه من وهدته، وجلب له سلام القلب، وخير الحياة، حتى لقد ألف أن يقول في حياته الجديدة. فقد كنت في الخطية قبلا بدون حذاء، وبدون مأوى، وبدون مسيح!! أما الآن فقد نلت في المسيح كل شيء!! أن الله أعلن خلاص آدم بالدم لقد حاول آدم وحواء تغطية الخطية تغطية مشوهة حمقاء: "إذ خاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" وهما أول من يعلم أنها لا يمكن أن تبقى أو تستر، أما الله فقد ستر عريهما وخزيهما بذبيحة: "وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما" إذ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة".وهنا ندرك أمرين أساسيين أصيلين في الخلاص، أنه أولاً وقبل كل شيء، من صنع الله، والله وحده: "وصنع الرب الإله.." وأنه ليس للإنسان في إعداده وترتيبه أدنى نصيب أو مجهود أو مشاركة، إذ يرجع في جملته وتفصيله إلى فضل النعمة الإلهية المجانية الكاملة.. والأمر الثاني أن الخلاص بالدم، والدم وحده! وهنا نلمح كما قال أحدهم: "شجرة الخلاص في بذرة أو نسر الإنجيل في بيضة" بل هنا نرى النبوة الأولى عن الصليب، والتفسير الحاسم لما جاء في الكتاب من تعاليم وشرائع ورموز ونبوات وطقوس وفرائض!! الأمر الذي بدونه تضحى هذه كلها ألغازاً وأحاجي ومعميات، بل هنا نجد الجواب الأوحد من الله المخلص للعالم الخاطيء الآثم الملوث الشرير، والدواء الناجع للينبوع البشري الدفاق الممتليء بالصديد، والإعلان الشامل لما ينشده البشر في كل جيل من راحة إزاء الآلام، وتعزية في الضيقات، وستر للخجل، وتهدئة للخوف، وتغطية للعار، وما إلى ذلك مما تئن به الخليقة وتتخمض!!..ألا يجمل بنا إذاً -ونحن في هذا المقام- أن نحول أنظارنا قليلاً من آدم الأول إلى آدم الثاني، ومن أبي البشرية في الخطية إلى إلهها في الخلاص، وألا يجمل بنا ونحن في هذا المقام أن نهتف مع الرسول قائلين: "فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع.. وهكذا مكتوب أيضاً صار آدم الإنسان الأول نفساً حية وآدم الأخير روحاً محيياً.. الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء" بل ألا يمكننا أن نقول هنا أيضاً مع هنري فان دايك: "أنه لو انتزع الرجاء المبارك من الكتاب المقدس أن نسل المرأة يسحق رأس الحية فلن يتبقى هناك سوى جنة مهدمة، وإنسان مشرد، وطوفان غامر، ونيران ملتهبة، وناموس رهيب، ومرامير يائسة، ونبوات صارخة: "من مفرج على الحزن قلبي في سقيم، هوذا صوت استغاثة بنت شعبي من أرض بعيدة.. ألعل الرب ليس في صهيون أو ملكها ليس فيها".. "أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب فلماذا لم تعصب بنت شعبي" ولكن شكراً لله لأنه لم يعطنا هذا الرجاء فحسب بل أعطانا إياه منذ فجر التاريخ، وعلى الصفحات الأولى من كتابه العظيم!! إن الحكم على آدم كان لإتمام هذا الخلاص فالعقاب الذي أوقعه الله على أبوينا الأولين لم يكن لمجرد العدالة الإلهية فحسب، بل كان أكثر من ذلك تحتمه وتلزم به رحمته الفائقة!! فلو أن آدم وحواء أكلا من شجرة الحياة وهما خاطئان، لكانت الحياة لهما أمر عقاب وعذاب، ولكان بقاؤهما في الجنة هو الجحيم بعينه، ولكن الطرد والتشريد والتعب والألم ولذعة الضمير لهما الباب الضيق والطريق الكرب إلى الفردوس المردود.عندما حكم على دانتي بالنفي، وطرد من فلورنسا، وحرم عليه أن يراها حتى الموت، سار الشاعر الشريد يضرب في المنفى على غير هدى، وإذ امتلأت نفسه من الأحزان والمتاعب والعذابات، صدف عن الأرض، وحن إلى السماء وكتب كتابه العظيم الخالد "الكوميديا الإلهية"!! وهل أنا وأنت والمؤمنين جميعاً إلا دانتي الشريد تنتزعه نعمة الله من التعلق بالأرض عن طريق الآلام والأوجاع والضيقات!! وهل أنا وأنت والمؤمنون جميعاً إلا ذلك الركب الذي يسير في موكب الحياة وقد قيل عنه: "تجربوا في هزء وجلد ثم في قيود أيضاً وحبس رجموا نشروا ماتوا قتلاً بالسيف طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض.."؟دعونا إذاً نشكر الله لا على الشمس المشرقة فحسب بل على الغيوم أيضاً!! ولا على الماء الرقراق بل على الأمواج المزبدة كذلك، ولنهتف من الأعماق مع الرسول قائلين: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده، لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين والذين سبق فعينهم فهؤلاء بررهم أيضاً. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً"!!..
المزيد
31 أكتوبر 2020

المقالة الخامسة عشرة في ذكر الآباء المتوفين

يوجعني قلبي فتوجعوا معي يا إخوتي العبيد المباركين، تعالوا فأسمعوا أن نفسي توجعني وجوانحي تؤلمني، أين الدموع ؟ وأين التخشع ؟ حتى أحمِ جسمي بالدموع والزفرات. من ذا ينقلني ويخلصني من مكان غير مسكون ؛ حيث لا يوجد ألبته صوت أبناء البشر ؛ حيث يكون الصمت وعدم جلبة، حيث لا يكون رهج يقطع الدموع، ولا مفاوضة شعب تعوق البكاء.فكنت أرفع صوتي وأبكي لدى الإله بعبرات مرة، وأقول بزفرات: أشفيني يارب لكي أبرأ ؛ لأن قلبي يوجعني فوق الإفراط ؛ وزفراته لا تتركني لحظة أن أنال راحة. لأنني أعاين قديسيك كذهب منتخب، تأخذهم من هذا العالم الباطل إلى نياحة الحياة. بمنزلة الفلاح الفهيم العاقل الذي إذا رأى الأثمار بالغة حسناً يقطعها بإسراع لئلا تضرها عوارض ما وتفسدها.هكذا أنت أيها المخلص تجمع المصطفين العاملين أعمالهم ببر ؛ ونحن الوانيين والمسترخين بالنية تبقينا في قساوتنا وثمرنا لا يتغير عن ماهيته. لأن ليس له نية ليبلغ في الأعمال بلوغاً حسناً ؛ ويقطف كما يليق ؛ ويجعل في مخزن الحياة ؛ لأن ثمرنا ليس له دموع لتوصله إلى تناهي البلوغ ؛ ولا تخشع لتتناهى نضارته من نسيم العبرات.ولا تواضع ليظلله من الحر الكثير، ولا هجر قنية لينتقل من الأمور المضادة، ولا محبة اللـه الأرومة القوية الحاملة الثمر، ولا عدم الاهتمام بالأمور الأرضية، ولا سهر، ولا عقل متيقظ في الصلاة.فعوض هذه الأشياء الحسنة ؛ والفضائل الصالحة له أضدادها غيظ مذموم، وغضب ييبسان الثمر لئلا ينمو فينتفع به، وكثرة قنية، والضجر العظيم ينقلانه إلى أسفل.هذه المصائب كلها تشتمله ؛ ولا تتركه ينتهي إلى البلوغ كما يليق ليستوي ؛ ويصلح لصاحبه الفلاح السماوي.ويلك ويلك يا نفس تكلمي وأبكي إذ فقدت بسرعة الآباء الكاملين ؛ والنساك الأبرار.أين الآباء ؟ أين الكاملون ؟ أين القديسون ؟ أين المستفيقون ؟ أين المتيقظون ؟ أين المتواضعون ؟ أين الودعاء؟ أين الصامتون ؟ أين الساكتون؟ أين المتورعون ؟ أين العادمون القنية ؟أين المتخشعون المرضو اللـه الذين كانوا يقفون في الصلاة النقية قدام اللـه كملائكة منيرين يبكون حتى يبلوا الأرض بعبرات الخشوع الحلوة ؟ أين المحبو اللـه الموعبو محبة ؛ الذين لم يقتنوا شيئاً على الأرض ؛ بل حملوا صليبهم ؛ وأتبعوا المخلص أتباعاً دائماً ؛ وسلكوا في الطريقة الضيقة متأملين حذرين أن يسقطوا في الهفوات.أو في برية غير مسلوكة ؛ وفاقدة الماء ؛ ومظلمة ؛ بل سلكوا طريق الحق الممهد ؛ طريق وصايا الرب ؛ سائرين في الطريق المملوء استنار ؛ إلا وهو أوامر المسيح ؛ خادمين اللـه بسيرة حسنة وبحرارة، حزناء باختيارهم في العالم الباطل.فلهذا أحبهم اللـه جداً ؛ وضمهم إلى ميناء الحياة ؛ وإلى الفرح الخالد وليستبشروا هناك ؛ ويتنعموا في فردوس النعيم ؛ وفي خجلة الختن الباقي ؛ لأنَهم ساروا من هنا بفرح إلى الإله القدوس ومعهم المصابيح معدة.فليس فينا نحن فضيلة أولئك ؛ ولا نسكهم؛ ولا حميتهم ؛ ولا مسكهم؛ ولا ترتيبهم ؛ ولا ورعهم ووداعتهم وتخشعهم ؛ ولا زهدهم في القنية ؛ وليس لنا سهرهم، وليست فينا محبة اللـه ؛ ولا تحنن الإله ؛ ولا تألم الأعضاء.لكننا متنمرون غير مستأنسين، ولا يحتمل بعضنا بعضاً ألبته، فألسنتنا هي محمية ؛ نتكلم بِها على بعضنا البعض، كلنا نلتمس الكرامة ؛ ونؤثر التشرف ؛ ونبتغي الراحة لأنفسنا ؛ ونحب القنيات.نحن مسترخون غير مثابرين على الصلوات، أقوياء في الهذيان وفي الدوران غير خاضعين، ضعفاء في السكوت، نشيطون إلى التنعم، مقطبون في الحمية والمسك، باردون في المحبة، حارون في الغضب، عاجزون في الصالحات، حرصون في السيئات.ترى من لا ينتحب، من لا يبكي على محبتنا الموعبة رخاوة، إن أولئك الآباء إذ صاروا قبلنا مرضين للرب خلصوا أنفسهم، ما كانوا متراخين، ولم يتخذ الكاملون فكرين لكن فكراً واحداً وهو كيف يخلصون.وكانوا مرآة صافية للناظرين، وكان الواحد منهم يستطيع أن يبتهل إلى اللـه من أجل أُناس كثيرين ؛ واثنان منهم إذا وقفا أمام اللـه في الصلوات النقية كانا يقدران أن يستعطفا الإله المتعطف كما يليق عن ألوف أناس.ويلك يا نفس في أي زمان أنت.ويلنا يا أحبائي إلى أية حمأة المساوي بلغنا ؛ ونحن نريد أن ينكتم أمرنا؛ ولكون ناظر النفس لا يتيقظ من كثرة العمي والتنزه فلذلك لسنا قادرين أن نتأمل الحزن المنصوب.وها الآن الأبرار والصديقون يختارون ؛ ويجمعون إلى ميناء الحياة ؛ لكي لا يعاينوا الحزن والشكوك التي تتبعنا من أجل خطايانا. كان أولئك ينتحبون ونحن نتناعس، أولئك يجمعون ونحن نتناوم، أولئك يحفظون ونحن ننجذب إلى العالم الباطل، أولئك يذهبون إلى اللـه بدالة ونحن نتنزه على الأرض. حضور الرب قد وقف على الأبواب ونحن نتشكك ونتقسم، الصوت السماوي متهيئ أن يبوق بأمر الرب ويزعزع الكل بصوته المفزع فينهض الموتى ليستوفي كل أحد نظير عمله. قوات السماوات مستعدة وقوفاً في مواكبهم ؛ أيوافوا بتقوى أمام الختن إذا جاء بمجد في سحب السماء ليدين الأحياء والأموات ؛ ونحن غير مصدقين.أترى كيف نكون يا إخوتي في تلك الساعة المخوفة ؟ كيف نعتذر إلى اللـه هناك عن توانينا في خلاصنا ؟ إن لم نحرص الآن ونبكي بوقاحة ونتوب توبة حسنة بتواضع نفس ووداعة كثيرة، فكم كل واحد منا مزمع أن ينتحب في ضغطته ؟وإذا تندم يقول بدموع غزيرة: ويلي أنا الخاطئ، ماذا داهمنى بغتة ؟ كيف عبر عمري وغاب عني بالجملة ؟ كيف سُرق زماني أنا المتنزه الطموح ؟ أين تلك الأيام الهادئة التي قضيتها في التنزه حتى أتوب بمسوح ورماد ؟ لكن لا ينتفع من كثرة هذه الأقوال.وإذا شاهدنا القديسين يتطايرون بمجد في السحب ؛ سحب الأهوية لاستقبال الرب ملك المجد ؛ ونعاين ذاتنا في ضغطة عظيمة. ترى من منا يستطيع أن يحتمل ذلك الخزي والتعيير المض ؟فلنفيق يا إخوتي ؛ فلنستفق يا أحبتي، ولنتيقظ أيها المحبو اللـه، ولننهض يا خلان اللـه.أيها الأولاد المحبوبون من الإله الآب، لنصغين إلى ذاتنا ؛ ولنجمعن أفكارنا قليلاً من هذا العالم الباطل ؛ ولنبحث أمام اللـه بعبرات غزيرة متضرعين بوقاحة وحرص وزفرات قلب ؛ لينجينا من النار التي لا تطفأ، والعذاب المر، لئلا نفارق السيد الحلو الذى أحبنا وبذل ذاته على الصليب من أجلنا.وأنا غير المستحق الخاطئ، أتضرع إليكم وأطلب إلى جماعتكم ؛ أن تذرفوا من أجلي دموعاً في صلواتكم وطلباتكم النقية ؛ طالبين لي التخشع لأبكي معكم ؛ وليستضئ قليلاً قلبي الأعمى.وأطلب إلى الإله المخلص القدوس ؛ لكي ما يعطيني نشاطاً وحرصاً فأتوب ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع ؛ وأخلص معكم. يا إخوتي أنا غير مستحق الحياة، يا أحبتي أطلب إليكم أن تقبلوا استغاثة إفرآم الخاطئ أخيكم المسترخي ؛ ولنحرص كلنا أن نستغفر الإله القدوس ما دام لنا زمان ؛ لأن ها الرب قد وقف على الأبواب ليفني العالم الباطل.وله السبح إلى الأبدآمـين هذا هو اليوم المتقدم والمشرف ؛ فلنسبح بتشريف أسرار الابن الوحيد ؛ ولنصرخ بالتسبيح في الكنيسة التي هي عروس المسيح ؛ مشيدين بانتصار الآباء الأبرار ؛ ولنرتل مدائح القاطنين القفر ؛ واصفين جهاد الذين تركوا المدن ؛ وآثروا بشوق أن يسكنوا البرية لمنفعة كافة الذين يسمعونه ؛ لكي بصلوات الآباء الأبرار ؛ وبصلوات السامعين يخلص المتكلم. لأن الآباء الأبرار لم يبتعدوا منا إذ اشتقنا إليهم ؛ ولم نفارق جلالهم كأنَهم غرباء عنا لأنَهم يبتهلون دائماً من أجل هفواتنا.وليسوا ذوي مقامات دنيئة بل مشرفون ولا حقيرين بل مكرمون، ولا فاقدي العلم بل علماء لأنَهم كانوا معلمين لكل الناس بأعمالهم الصالحة لأنَهم كانوا قد تعلموا من سيدهم أن يجولوا الجبال مغتذين كاغتذاء الوحوش.كانوا تامين مملوءين عدلاً ؛ وإذ صاروا أعضاء الكنيسة لم يفصلوا أنفسهم من الرعية لأنَهم أولاد الاستنارة المقدسة ؛ ولم ينقضوا الناموس بل حفظوا الكهنوت ؛ وحفظوا الوصايا ؛ ولم يقاوموا الشريعة بل كانوا حارين في الأمانة.وحين كان الكهنة المكرمون يقفون قدام المائدة المقدسة يقربون الخدمة كانوا هم أول من يمدون أيديهم فيقبلون بأمانة جسد السيد الذي كان معهم دائماً.كانوا كحمام طائر في العلاءِ، نصبوا مساكنهم في الصليب ؛ تائهين في مواضع مقفرة كالغنم.فحين سمعوا صوت الراعي عرفوا في الحين سيدهم الصالح، كانوا تجاراً قد خرجوا يلتمسون الدرة النفيسة، كانوا مجتهدين مختبرين في جهاد العبادة الحسنى.أصغوا إلى مسامعكم ؛ أميلوا آذانكم حتى أصف لكم سيرة الآباء القاطنين البرية، أجمعوا فكركم وسافروا به معنا إلى وسط الصقع المقفر فسنشاهد هناك عجباً عظيماً ؛ ومجداً ؛ ولنذهبن في طرفة فنسطر رسوماً صالحة وعجيبة رسوم سيرتِهم.فإن الشوق إليهم يضطرني كثيراً أن أذهب فأعرف من كنوز سيرتِهم، وأرهب أن أتقدم إليهم سراً ؛ وإذا حضرت عندهم ولو مدة يسيرة وأراهم يحنون ركبهم ليبتهلوا إلى اللـه ؛ يستطيعون أن يجعلوني أنا الموجود الضعيف متأيداً متوطداً.إذا مدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء ؛ يقوموا نطقي لكي ما أمدحهم بأمانة، إذا تضرعوا يقف معقولي ثابتاً ويفرح بوداعتهم، وكذلك لساني يتلذذ إذا تنغم بوصف سيرتِهم.إذا سكب واحد منهم سحابة دموع عن هفواتي فللحال يستجاب له، أولئك القديسون شابَهوا المسيح نفسه، واقتنوا البيوت في البرية لأنه لا يمنع من كنوزه الصالحة الذين يقصدونه في الساعة التاسعة والعاشرة ؛ بل يعطيهم أولاً بما أنه سيد صالح كإعطاء الأجرة للفاعل الذي عمل في الساعة الحادية عشرة في كرمه بنشاط ؛ فقد فتح المخزن والغنى يعطي للمريدين أن يتقدموا ويتسربلوا بالمجد الذي كانوا يلتمسونه دائماً.فلنتخذ رسماً حسنة شريفة ؛ ونصير مشابِهين لسيرتِهم، فمن يريد أن يحرص ويذهب فيلبس الحلة التي لهم ويستغنى بثروتِهم.ومن قام عندهم يبدأ في الحين أن يعطي للذين يسألونه طلباتِهم، لأنَهم يعطون لكافة من يسألهم، ويمنحون الكل المواهب التي اقتنوها.فلنتقدم فنأخذ منهم عطية نفيسة صلاة وترتيلاً، نأخذ محبتهم التي هي أشرف وأرفع من جواهر كريمة وزبرجداً شريفاً، وعوض اللؤلؤ فلنأخذ أمانتهم القوية المشرفة التي من أجلها صاروا تائهين في الجبال والآكام والمغائر والثقوب.هب لي يارب قوة وتأييداً للساني لئلا ينغلب من تعب سيرتِهم ولأصف شيئاً من جهادهم البهي، فلهذه الحال إذا نَهضنا فلنطرح أسلحة الشيطان ونعطف قلبنا ونجعل لنا أجنحة حمامة ؛ ونطير فنبلغ حتى نشاهد سيرتِهم.لأنَهم تركوا المدن وضوضاءها ؛ وتاقوا إلى الجبال والبراري أكثر منها، فنمضي فنشاهد مساكن أولئك، وكيف هم جالسون كالموتى في القبور، نذهب فنعاين تنعم الذين يتنعمون بفرح بين الجبال.نمضي فنبصر الماقتين للعالم والمؤثري التصرف في البراري أكثر جداً، نذهب فنشاهد أجساد أولئك كيف قد تسربلت بشعورهم، نمضي فنعاين مسوحهم التي لبسوها بسرور ممجدين اللـه، نذهب فنشاهد وجوههم كيف بتقطيبها قد ضاعفوا بِها نفوسهم. نمضي فنبصر الملائكة معهم مهللين ومرتلين بسرور جزيل ؛ نذهب فنشاهد طاساتِهم الممزوجة بدموعهم، نمضي فنبصر موائدهم مملوءة دائماً من البقول البرية، هلموا فلنبصر حجارة أولئك التي يضعونَها تحت رؤوسهم.فلنذهب ونأخذ من شعور القديسين ؛ لنتخذ السيد متعطفاً علينا، إن شاهدهم لص يجثوا ساجداً لأنَهم متدرعوا الصليب دائماً.إذا أبصرت الحيوانات الوحشية مسوحهم ؛ للحين تبتعد منهم ناظرين عجباً عظيماً، كل ما يدب يدوسونه بأرجلهم ؛ لأنَهم لابسون ومحتذون أمانة العدل.إذا أبصرهم الشيطان في الحال يفرق منهم ويعج بتوجع هارباً في الحين، لأنَها تكسرت ربوات فخاخ نصبها وراءهم ؛ ولم يمكنه بالجملة أن يضرهم لأنَهم لم يكونوا مسترخين مثلنا نحن الجهال بل منتصبون بشهامة في محاربة العدو إلى أن سحقوه تحت أقدامهم إلى النهاية، وسحقوا أفكاره واغتيالاته، ولم يجزعوا من كافة حيلة.فكان إن أراهم غنى لم يعتدوا به شيئاً بل يحتقرونه ويطئونه كالصخرة، لأن الغنى كان لهم في السماوات مع الملائكة القديسين.والجوع ما كان يحزنَهم لأنَهم كانوا يغتذون من خبز المسيح النازل من السماوات القدسية، إن العطش لم يلهبهم لأن المسيح كان لهم في أنفسهم وفي لسانَهم عين الحياة. لم يستطع الخبيث أن يزعج فكراً واحداً من أفكارهم ؛ لأنَهم وضعوا أساس أمرهم على الصخرة.وقطنوا المغائر والكهوف كأنَهم في القصور المزخرفة، والجبال والروابي التي كانت تكتنفهم كانوا يؤثرونَها بمنزلة أسوار عالية، وكانت الأرض والجبال لهم مائدة، وعشائهم كانت الحشائش البرية، ومشربَهم اللذيذ الماء من الأودية، وخمرهم الماء من ثقوب الصخور.وكانت لهم كنائس ألسنتهم التي بِها كانوا يكملون صلواتَهم الاثنتا عشر ساعة التي يشتمل عليها النهار، كانت لهم صلاة إلى سيدهم، والتمجيد الذي كانوا يرتلون به في الجبال والمغائر كان يقدم إلى اللـه ذبيحة حسنة مقبولة. هم كانوا كهنة لأنفسهم.ويشفون بصلواتِهم أمراضنا لأنَهم شفعاء لنا كل حين،لم يعقلوا رؤيات عالية، ولا كانوا يلتمسون التصدر في المجالس لأن شرفهم كان التواضع. صاروا مشابِهين للسيد المسيح الذي تمسكن من أجلنا نحن الأشقياء.لم يعطوا أنفسهم نياحاً في العالم إذ كانوا منتظري النياح الذي هناك.فلنصيرن متشبهين بالقاطنين في الجبال ؛ ومشاركين لسيرتِهم، لأن أولئك كانوا جائلين مع الوحوش كأنَهم وحوش، وكالطيور كانوا يطيرون في الجبال، يرعون كالآيلة مع الوحوش الوحشية.ومائدتِهم كانت مستعدة دائماً ؛ لأنَهم كانوا يرتعون العشب الأخضر والحشائش بمداومة ؛ جائلين في الجبال كسروج واضح ضيائها، وكان الذين بشوق كثير يقتربون إليهم يستضيئون بضيائهم.كان الآباء الذين في البرية سوراً منيعاً ؛ فلذلك أي موضع كانوا يسكنونه يجعلونه أميناً أنيساً، إلى أي صقع انتهى واحد من الآباء يصير جميع الموضع الذي يحيط به أنيساً موعباً سلامة.كانوا يتطايرون إلى الروابي نظير جمع الحمام ؛ ومثل النسور في الجبال الشامخة، لا يتنعم رؤساء العالم بالقصور والسقوف المذهبة كما يسر هؤلاء بالجبال والمغائر، وربما الملك يضيق به البلاط أما هؤلاء فواسعة عليهم ثقوب الأرض ورحبة كثيراً.الثياب الشعرية التي لبسها الآباء الأبرار وابتهجوا بِها أكثر من الملابس البرفيرية ؛ فهذه رثت وبليت، والمسح من أجل صبر الآباء القديسين بُجل ووقر، لأنَهم رفضوا الكبرياء وآثروا التواضع الجزيل، مقتوا كل شرف العالم الباطل ؛ وها هم يشرفون من كافة الناس من أجل غزارة تواضعهم ووداعتهم.فالملوك ما اقتنوا مثل هذه الراحة ؛ نظير الراحة التي أقتناها الآباء في البرية، لأن المسيح كان بَهجتهم، رعوا في البرية الحشائش كالوحوش كانوا ينتظرون الفردوس المطرب.إذا ضعفوا من الجولان في الجبال كانوا يضجعون على الأرض كأنَهم في نعيم لذيذ، إذا ناموا كانوا يقومون بإسراع كأنَهم أصوات أبواق ملوكية يسبحون المسيح المشتهى، وكانت مواكب الملائكة معهم دائماً وتحصنهم وتحفظهم كل وقت، ونعمة السيد كانت معهم سرمداً.ولم يخدعهم العدو، وحين كانوا يحنون ركبهم يصنعون قدامهم طيناً وينشدون من عبراتِهم غدراناً، إذا ختموا تسبيحهم يقوم السيد وعبيده يخدمون مرادهم.إذا حلك الظلام ؛ في الحين يرفعون أجنحتهم ؛ ويطيرون في كافة المسكونة، لأنَهم لم يكن لهم مسكن ظاهر ؛ لأن مسكن الآباء القديسين الحقيقي هو عدن، حيث تغرب لهم الشمس هناك يحلون، وحيث ما يلحقهم الليل هناك يجعلون منزلهم.ما كانوا يذكرون قبراً ؛ لأنَهم كانوا موتى ؛ وإنصلبوا للعالم بالشوق إلى المسيح ؛ لأنه حيث كان أحدهم يسكن يصير له ذلك الموضع قبراً.وكثيرون منهم إذا أحنوا رؤوسهم في الصلاة ؛ تنيحوا بِهدوء أمام السيد، آخرون استندوا إلى صخرة ؛ وسلموا نفوسهم إلى سيدهم، آخر بينما كان يتمشى في الجبال مات وصار له الموضع قبراً ومدفناً معاً.آخر دفن ذاته بارتسام الشكل فقبض بنعمة سيده، آخر بينما كان يرعى خضرة السيد نعس فتوفى في مائدته، آخر حين كان واقفاً في تلاوة التمجيد خطفت منه نعمة نسمته.آخر بينما هو واقف في الجبال مرتلاً ومتضرعاً ختم الصلاة بنفسه، كانوا منتظرين النهاية القدسية، الصوت الذي ينهض فيزهرون كالأزهار الفائحة نسيم الطيب.إذا أمرت الأرض أن تبرز الموتى يينعون في الحين ويزهرون كالسوسن الأبيض، وحينئذٍ السيد عوض العمل الكثير والتعب الذي احتملوه من أجل محبة المسيح يعطيهم الحياة الدائمة سرمداً.وبدل شعورهم يمنحهم إكليلاً مضفوراً شريفاً، وعوض المسوح التي شقوا بلبسها يعطيهم حلة العرس المجيدة، عوض الحشائش وضيقة الماء يصير لهم المسيح مطعماً ومشرباً، وبدل ثقوب الأرض التي سكنوها يمنحهم المسيح الفردوس المعظم، ولكونَهم لم يأثروا أن يكون لهم حِرز في العالم هو يخول لهم السرور العظيم.أنه غير ممكن أن نوضح بالكلام الفرح الجزيل الذي يحصل فيه كافة القديسين ؛ الذين باختيارهم حزنوا وضيقوا على أنفسهم في هذا العالم، الذين ناصبوا وجاهدوا الآلام النجسة ؛ وغلبوا العدو ؛ وحفظوا وصايا الإله العلى.فلذلك يطوب الملائكة القديسين ؛ ويقولون لهم: مغبوطون أنتم الذين من أجل شوق المسيح دبرتم مركبكم تدبيراً سديداً في الأرض بفطنتكم ؛ وبغزارة صبركم، وقومتم وصايا المسيح السيد الصالح بحق.فلذلك وصلتم إلى الميناء الصاحي واتخذتم المسيح الذي تُقتم إليه، نَسر معكم أيها المغبوطون لأنكم نجوتم من فخاخ العدو ؛ وجئتم إلى المسيح الذي كللكم وصرتم وارثين ملكه، وحين يرى الخبيث نفسه مغلوباً يجلس فينتحب ويقول ببكاء:الويل لي أنا الشقي ؛ وماذا أصابني أنا المُحطم ؟ كيف غُلبت ؟ أني أنا سبب هذا الأستخزاء، لأني أنشأت معهم الحرب بإلحاح كثير، ولما هُزمت من المعركة الأولى والثانية كان يجب أن أفطن أن المسيح معهم.فالآن إذ حاربت القديسين العجيبين فازداد ثوابِهم بذلك وغُلبت، فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ملطخاً رأسي بالدماء من جراحاتي ؛ لأنني نصبت الفخاخ لاقتنصهم ؛ فأخذوها وكسروا بِها رأسي، ونشابي الحاد الذي أرسلته إليهم تناولوه بدهاء وقتلوني به.أنا حاربتهم بآلام مختلفة ؛ وهزموني بقوة الصليب، فبواجب تألمت بِهذه أنا الجزيل الغباوة، إذ أوضحت المجاهدين بغير اختياري مدربين مختبرين، لأنه كان سبيلي أن أرتدع من آلام المسيح لأنه هدم كافة قوتي، كنت عملت كل الأشياء حتى يُصلب ؛ فبموته دفعني إلى الموت.وهذا الأمر أصابني نظيره من الشهداء؛ إذ صرت عاراً وخزياً وضحكاً، لأنني حركت الملوك، وأعددت لكي ما إذا عاينوها يُذهلون ويجحدون المسيح، فليس أنَهم لم يُذهلوا فقط من آلام العذاب المختلفة بل إلى الموت اعترفوا بالمسيح.هكذا الآن لما أردت أن أغلب هؤلاء بالقتالات غُلبت فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ولن أستطيع أن أحمل العار الذي حل بي أنا المتشامخ بالعظائم، تحطم عزي وكافة اقتداري من أناس حقيرين.أما بعد فلست أعلم ماذا اصنع أو بماذا أعتذر، إن الحقيرين والأميين قد أخذوا إكليل الظفر وأنا الشقي احتضنت بالخزي، أظلميت تحيرت نفذت قوتي.ماذا أعمل أنا الشقي ؟ وماذا أصنع ؟فأهرب إذاً من هؤلاء المجاهدين الشجعان ؛ وأذهب إلى أصدقائي المتوانيين بنيتهم ؛ حيث لا يكون لي تعب ؛ ولا أحتاج لحيل.لأنني آخذ منهم رباطات وأشدهم بِها ؛ وإذا قيدتَهم بالقيود التي يسرون بِها يكونون فيما بعد تحت يدي ؛ ويحصلون لي مثل عبيد، ويعملون دائماً مشيئتي باختيارهم.وإذا غلبتهم أعود إلى ذاتي قليلاً مفتخراً كبطل ظافر ؛ فإنَهم وإن كانوا يسقطون إلى الهوة لكن مع هذا أتلذذ أنا بِهلاكهم، وأسر إذا اقتدتَهم إلى طريق التهلكة ليكونوا لي مشاركين في النار التي لا تطفأ.فإذ قد عرفنا يا إخوتي ضعفه ؛ فلنصغين إلى ذاتنا مغايرين الآباء ؛ فإنَّا إن سلكنا الطرق التي سلكوها ؛ فسنجد فيها يسوع المسيح مرشداً وموازراً إيانا ؛ فإذا أبصر العدو معنا المسيح النور الحقيقي فهو لا يجترئ بالجملة أن ينثني بنظره إلينا، لأن النور الذي فينا يعمي عينيه.وكما تقدمت فقلت لكم أيها الإخوة المحبون للمسيح أقول: احرصوا بنا أن ننقي قلوبنا حتى نجذب إلينا معونة نعمة المخلص حتى لا يقتدر العدو علينا، لأن السفهاء الأغنياء يرومون أن يعطوه قوة علينا بإبعادنا من اللـه بمخالفتنا وصاياه المقدسة ؛ ليجدنا العدو عراة من النعمة ؛ فيقتادنا ويرشدنا إلى طريقه.فأتضرع إذاً وأتوسل إليكم دائماً ؛ أن نَهرب من الخبيث مبتعدين منه ؛ ولنحل ونفك القيود التي قيدنا بِها باختيارنا ؛ ملتجئين إلى المسيح حاملين نير تحننه الصالح الخفيف ؛ حتى إذا سلكنا في طرق وصاياه الصالح نصل إلى المدينة التي أعدها اللـه للذين أحبوه. ويليق المجد والكرامة وعظم الجلالة بالآب والابن والروح القدس ؛ إلى أبد الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
29 أكتوبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أخيتوفل

"وخنق نفسه ومات" 2صم 17: 23 مقدمة كان أخيتوفل واحداً من أقرب الناس إلى الملك داود، وهو الرجل الذي يطلقون عليه "يهوذا الاسخريوطي العهد القديم"،... إذ كانت له نفس الشركة والمكانة التي كانت ليهوذا الاسخريوطي، من ابن داود، ابن الله،.. وكلاهما باع صديقه، ووصل إلى نفس المصير!!... كان الرجل من أبرع الحكماء وأعظمهم، ولم يوجد له نظير بين رجال داود في الفهم والحكمة،... ولكنه على قدر ما امتلأ من المعرفة والحكمة، فرغ من الحب والفضيلة، -في لغة أخرى- كان عقلاً دون قلب، ومن ثم حق أن يوصف أنه الميكافيلي الإسرائيلي، الذي لا مبدأ له، والذي ظهر قبل أن يعرف العالم الميكافيلي الحديث في العصور الأخيرة، الميكافيلي الذي وضع أبشع قاعدة خلقية: إن الغاية تبرر الواسطة!!كان أخيتوفل كتلة من الحكمة والذكاء، ولكنه وقد تخلى عن الحق والرحمة لم تعد له الحكمة النازلة من فوق، بل الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية، الممتلئة بالتحزب والغيرة والتشويش، وكل أمر رديء،... وأضحت مأساته مأساة العالم كله، المتقدم في المعرفة، والمتخلف في الأخلاق، والغارق في الدم والتعاسات والأحزان والآلام،.. لم يقتل داود أخيتوفل، ولم يشتر أحد الحبل ليهوذا سمعان الاسخريوطي،... ولكن كليهما مضى وخنق نفسه ومات،... وإذا كانوا في العادة يقولون إن ذكاء المرء محسوب عليه، وإذا كان الكتاب يقول إن أخيتوفل انطلق إلى بيته إلى مدينته وأوصى لبيته وخنق نفسه، ونحن لا نعلم ماذا أوصى لبيته، لكننا سنجتهد أن نفتح وصيته الرهيبة التي خلفها وراءه للأجيال وللتاريخ، ومن ثم يحق لنا أن نراه من النواحي التالية: أخيتوفل الصديق القديم أغلب الظن أننا لانستطيع أن نفهم أخيتوفل قبل أن نقرأ المزمور الخامس والخمسين، ومع أن داود تنبأ في هذا المزمور عن يهوذا سمعان الاستخريوطي، إلا أن عينه في الوقت نفسه كانت على أخيتوفل الجيلوني صديقه الخائن الذي تمرد عليه، وشارك أبشالوم في ثورته ضده، ولم يكن أخيتوفل إلا رمزاً لذلك الذي قبل يسوع المسيح، وهو يسمعه يقول: "يا صاحب لماذا جئت؟".. وسنعرف أخيتوفل من داود إذا عرفنا يهوذا سمعان الاسخريوطي من ابن داود، من يسوع المسيح، ومع أن الفارق بعيد ولا شك بين داود والمسيح، وما فعل داود مع أخيتوفل، وفعل يسوع المسيح مع يهوذا الاسخريوطي إلا أن كليهما كان الشخص الذي قيل فيه: "لأنه ليس عدو يعيرني فاحتمل ليس مبغضي تعظم علي فأختبيء منه، بل أنت إنسان عديلي ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" فإذا أحسست معه حرارة الحب والود، في ذاك الذي رفعه داود إلى مستوى العديل الأليف الصديق، فإنك تقترب من ذاك الذي رفعه يسوع المسيح إلى المركز بين تلاميذه الاثنى عشر، وإذ تقرأ من خلال القول: "الذي معه كانت تحلو لنا العشرة" وهي تحمل رنين الماضي الجميل الحافل بأرق المشاعر وأجمل الذكريات، فإنك يمكن أن ترتفع إلى العتبات المقدسة، وأنت تذكر السنوات اثلاث التي قضاها الاسخريوطي مع يسوع المسيح،.. وإذا أردت أن تتغور في حنايا الماضي، فإنك لا يمكن أن تجد أفضل من اللحظات التي كان يذهب فيها داود وصاحبه، ويسوع المسيح وتلميذه، إلى بيت الله في وسط الجمهور المرنم المتعبد!!... فإذا أردت أن تتعرف أكثر على هذه الصداقة، فإنك ستجدها واضحة الملامح، من حيث كونها الصداقة النافعة، والصداقة الحلوة والصداقة الدينية،.. أما أنها كانت الصداقة النافعة، فهذا مما لا شك فيه، فداود لا يختار صديقاً أو المسيح لا يأخذ تلميذاً، إلا إذا كان هذا المختار يتميز بميزات ووزنات وهبات تؤهله لهذا الاختيار، ومع أننا سنترك الآن يهوذا الاسخريوطي كالتلميذ المؤتمن على أمانة الصندوق، والوحيد بين التلاميذ الذي أختير من اليهودية ولم يؤخذ من الجيل، فإنه مما لا شك فيه أن الذكاء الخارق لأخيتوفل كان يقف على رأس الأسباب التي جعلت داود يقربه إلى ذاته ودائرته، وأن هذا الذكاء كان لازماً جداً في حل الكثير من العوائص والمشكلات التي كانت تجابه داود والأمة بأكملها، ومن ثم كانت مشورة أخيتوفل على ما وصفت به كمن يسأل بكلام الله!!.. وكانت من أهم أسباب تعلق داود به،... على أنه واضح أيضاً أن الرجل لم يكن ذكياً مجرداً من الإحساس والعاطفة، بل كان متقد المشاعر، حلو الحديث، دافق العاطفة: "تحلو العشرة معه" أو في -لغة أخرى- أنه لم يكن قريباً إلى عقل داود فحسب، بل إلى قلبه أيضاً، ولعل داود عاش طوال حياته يذكره بالأسى والألم، كلما ذكر الأوقات الجميلة الحلوة التي امتدت في حياتهما سنوات متعددة طويلة،.. ولم تكن صداقة الرجل لداود بعيدة عن محراب الله،.. أو هي نوع من الصداقة الأدبية أو الاجتماعية التي تربط الناس بعضهم ببعض، بل هي أكثر من ذلك كثيراً، إذ كانت الصداقة التي عاشت كثيراً تحت محراب الله في بيته المقدس، وكان من الممكن لهذه الصداقة أن تستمر وتبقى، لو عاشت في ظلال الله،.. ولكن أخيتوفل، قبل أن يفقد صداقته لداود فقد الصلة والصداقة بالله، وتهاوت مشاعره الدينية الأولى، وأضحت مجرد ذكريات لماضي لم يعد، وتاريخ ولى وتباعد!!.. أخيتوفل الخائن المتمرد ولعلنا هنا نلاحظ أكثر من أمر، فنحن أول كل شيء نصدم بالصداقة المتغيرة المتقلبة، وما أكثر ما نراها في اختبارات الناس، وحياة البشر، على اختلاف التاريخ والعصور والأجيال،.. فإذا كان السياسيون يؤكدون بأنه لا توجد بين الدول ما يمكن أن نطلق عليه الصداقة الدائمة أو العداوة الدائمة، فأعداء الأمس قد يكونون أصدقاء اليوم، والعكس صحيح إذ يتحول أوفى الأصدقاء، إلى أقسى الخصوم وأشر الأعداء،... فإن هذه القاعدة تكاد تكون مرادفة للطبيعة البشرية المتقلبة، وليست وقفاً على السياسة أو السياسيين،.. ومع أني لا أعلم مدى الصدق أو العمق، في القول الذي ألف الناس أن يقولوه، إنه ليست هناك صداقة قوية حارة عميقة إلا بعد عداوة، إلا أني أؤمن بتبادل المواقع بين الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، فما أكثر ما يقف الصديق موقف العدو، وما أكثر ما يتحول العدو إلى الصديق المخلص المحب الوفي... وأغلب الظن أن أخيتوفل في مطلع صداقته مع داود، لم يكن يتصور بتاتاً أنه سيأتي اليوم الذي سيتحول فيه عدواً، لا يخاصم داود فحسب، بل يطلب حياته أيضاً!!... وهل لنا هنا أن نتعلم الحكمة، فنعرف أنه يوجد صديق واحد لا يمكن أن يتغير أو يتبدل في حبه على الإطلاق،.. وهو أقرب إلينا من أقرب الأقربين، ومهما تكن العوامل التي تقربنا أو تفصلنا عن أقرب الناس إلينا، لكننا نستطيع -على أي حال- أن نقول مع داود: "إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني"، أو مع بولس: "في احتياجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني لا يحسب عليهم ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم فأنقذت من فم الأسر"... وفي الوقت عينه علينا ألا نضع رجاءنا كثيراً في الصداقة البشرية، فهي -مهما امتدت أو قويت أو استعت- لا تأمن الثبات أو التغير أو الانقلاب!!وإذا كان السؤال الملح بعد ذلك: لماذا انقلب أخيتوفل على داود، ويهوذا الاسخريوطي على يسوع المسيح،... ومع أنه من الواجب أن نضع هنا مرة أخرى التحفظ ونحن نقارن بين الصداقتين، إذ أن يهوذا الاسخريوطي لم يكن له أدنى عذر في الانقلاب على المسيح أو الغدر به على النحو البشع، الذي جعله يبيعه بثلاثين من الفضة، أو يسلمه بالقبلة الغاشة المخادعة المشهورة، وإن كان من الواضح أنه سلمه بعد أن تبين أنه لم يعد هناك ثمة لقاء بين أطماعه وأحلامه في مركز أو جاه أو مال، وبين حياة المسيح وخدمته ورسالته في الأرض!!.. أما أخيتوفل فقد كان وضعه يختلف، إذ كان له من الأسباب ما يمكن أن يثير ضيقه وحفيظته من داود، وقد جاءت هذه الأسباب أثر سقوط داود في خطيته الكبرى مع بثشبع، وبثشبع بنت أليعام، وأليعام هو ابن أخيتوفل الجيلوني، وقد كانت هذه الخطية بمثابة الذبابة الميتة التي سقطت في طيب العطار، لتنته وتفسده، ومن تلك اللحظة تباعد الرجلان، وامتلأ قلب أخيتوفل بالكبرياء والحقد والضغينة، ولم يكن يرضيه البتة، إلا دم داود، سواء بسواء مثل دم أوريا الحثي الذي ذهب ضحية هذه الفعلة الرهيبة الشنعاء!!... ومن المعتقد أنه عاد إلى مدينته جيلوه، وبقى هناك في ثورة أبشالوم الذي استدعاه لمساندته ضد أبيه،... ومن الملاحظ أن ذكاء أخيتوفل الخارق، قد أعطاه نوعاً من الكبرياء لم يستطع معه أن يتسامح مع داود أو يغفر له، بل لعله وقد سمع عن غفران الله للرجل الذي كان يمكن أن تهلكه هذه الخطية، وتضيع حياته الأبدية، وفي الوقت عينه سمع عن عقاب الله الذي لابد أن يتم، بسبب العثرة التي أوجدتها هذه الخطية، كان يتصور أنه من الجائز أن يستخدمه الله لإتمام هذا العقاب، أو المشاركة فيه، عندما سمع عن الثورة التي قادها ابنه ضده!!لم يستطع أخيتوفل أن يغفر، ومع أنه كان من الممكن أن يتسع فكره وقلبه للملك التائب، الذي وإن كان قد سقط، إلا أنه حاول أن يصلح ما يمكنه إصلاحه من آثار هذا السقوط بضم بثشبع، والصلاة من أجل ثمرة السقوط، لعل الله يبقي على الولد، كما أنه عزى زوجته الضحية، وأنجب منها ابنه الآخر سليمان الذي أحبه الرب، وأحبه ناثان أيضاً، وتولى تربيته، وكان يمكن لأخيتوفل أن ينظر إلى بثشبع وابنها نظرة ناثان النبي، النظرة المليئة بالحب والحنان والعطف والترفق، وأن يكون لسليمان ولداود المشير والناصح والمعين والمساعد، لكن أخيتوفل، لم يكن هكذا، بل وعجز عن أن يكون هكذا، لأنه قد ضرب بأمرين ملآه إلى الحد الذي لا يمكن معه الصلح أو الغفران أو اللقاء!!... وهما: الكبرياء والحقد، وويل للإنسان الذي تسيطر عليه هاتان العاطفتان، وويل للناس منه إذ واتته الفرصة للتصرف في ملء غله وحقده وطغيانه وكبريائه!!.ومن الثابت أن الجريمة الكبرى للرجل ليست مجرد التمرد على داود، أو أخذه بكل أسباب الحقد والضغينة والقسوة والشر بل إنه غيب الله تماماً عن المشهد، ولم تعد دوافعه إتمام المشيئة الإلهية حسبما تصورها أو تخيلها، بل كانت دوافعه أرخص وأخس وأحط من كل ذلك بما لا يقاس،.. وإذا كان يهوذا الاسخريوطي قد أتم إرادة الله في تسليم يسوع المسيح، لكن العبرة لم تكن في هذا التسليم الذي كان لابد أن يتم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، إنما العبرة كل العبرة، كانت في الدوافع المنحطة الرخيصة التي سيطرت على الرجل عند التسليم!!.. وهكذا كان أخيتوفل الذي قتله الحقد الأعمى، فهو لا يهدأ أو يستريح حتى يسفك دم داود، وهو يقترح لذلك أن ينتخب اثنى عشر ألف رجل، ليسعى وراءه وهو متعب مرتخي اليدين، فيهرب كل الشعب الذي معه، ويضربه هو وحده!!... أو قصاري الأمر أن دم داود هو الذي يشفي غليله، ويهديء ثائرته!!على أن الوجه القبيح للرجل، هو أنه من أقدم الناس الذين آمنوا بأن الغاية تبرر الواسطة، لقد أراد أن يفصل بين داود وابنه أبشالوم فصلاً أبدياً بالمنكر البشع، إذ قال لأبشالوم: "أدخل إلى سراري أبيك اللواتي تركهن لحفظ البيت فيسمع كل إسرائيل أنك قد صرت مكروهاً من أبيك فتشدد أيدي جميع الذين معك"... وفي الحقيقة أن هذا السبب المذكور يخفي وراءه السبب الأعمق، وهو الانتقام البشع من جنس ما فعل داود بحفيدته بثشبع،.. وإذا كان المبدأ الذي أطلقه ميكافيلي في قاموس السياسة الأوربية، طرح كل المباديء الأخلاقية، وذبحها في سبيل حصول الأمة على ما تريد، دون أدنى وازع من نوازع الضمير والإنسانية، فإن أخيتوفل الجيلوني كان من أقدم الذين آمنوا بهذا المبدأ -إن صح أنه مبدأ- وشجع على تطبيقه على النحو الفاضح الذي فعله أبشالوم فوق السطح في القصر الملكي،... رداً لفعل داود الذي أبصر من فوق السطح حفيدته بثشبع وهي عارية!!.لم تكن رغبة أخيتوفل في الواقع إتمام المشيئة الإلهية، والتي لا يمكن أن يتممها الإنسان بهذا الأسلوب البشع الشرير الخاطيء، إذ أن الله لا يمكن أن يعالج الخطية بخطية مثلها، وقد حق لمتى هنري أن يقول: "إن هذه السياسة الملعونة، التي اتبعها أخيتوفل، لم تكن سياسة من يريد أن يتمم مشيئة الله، بل مشيئة الشيطان"... ومع ذلك فإن الله، وإن كان لا يرضى على القصد الشرير، إلا أنه يستطيع السيطرة عليه لإتمام مشيئته العظيمة العليا، أو كما قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحمي شعباً كثيراً".. وقد شارك أخيتوفل في تمام المشيئة الإلهية بمشورته الرهيبة، وإن كانت دوافعه الشريرة تتباعد عن الدافع الإلهي بعد السماء عن الأرض!!.. إن الحكمة في الواقع حيث قصدها الله، كعطية منه للإنسان، هي ذلك الإلهام الذي يمنحه للعقل البشري، فيما يستغلق عليه من أمور، أو يواجه من مشاكل، أو يقابل من صعوبات، ومثل هذه الحكم تختلف تماماً عن الحكمة البشرية، أو بالحري الشيطانية التي تنزع إلى الشر، وتبتكر كل الوسائل الشريرة الآثمة، التي تفتق عنها العقل البشري طوال أجيال التاريخ،.. فإذا قيل: وكيف يستطيع الإنسان إذاً التفرقة بين الحكمتين؟ كان الجواب فيما أورده الرسول يعقوب، إذ أن الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية هي حكمة أخيتوفل المقترنة بالغيرة والتحزب والتشويش والأمر الرديء،.. على العكس من الحكمة الإلهية: "وأما الحكمة التي من فوق فهي أولاً ظاهرة، ثم مسالمة مترفقة مذعنة، مملوءة رحمة وأثماراً صالحة عديمة الريب والرياء".. ومن الواضح أن خيانة أخيتوفل وغدره وتمرده وثورته ضد داود، لم تكن تعرف شيئاً من هذه الأخيرة على وجه الإطلاق!! وهل هناك من شك في أن أخيتوفل رمى بثقله الكامل إلى جانب الشر والفساد، وهو أول من يعلم أنه لا يمكن أن يضع بتاتاً داود وأبشالوم في كفتي ميزان، وأين الثري من الثريا، وأين البطل والحماقة والفساد والرذيلة والشر، من الخير والجود والإحسان والرحمة!!.. ولكنها الخطية التي أعمت أخيتوفل الجيلوني، أحكم المشيرين في عصره!!.. أخيتوفل والمصير التعس وأي مصير تعس وصل إليه الرجل! لقد مضى وخنق نفسه، وفعل ذات الشيء الذي فعله يهوذا الاسخريوطي فيما بعد،... ولكني أرجو أن تتمهل لكي تتساءل متى خنق نفسه؟!!.. ولعلك تتصور أنه فعل ذلك بعد أن أوصى بيته، لكن الحقيقة أبعد وأعمق من ذلك كثيراً، لقد قتل الرجل نفسه قبل ذلك بفترة طويلة،.. لقد مات يوم لم يعد يعرف شيئاً في الأرض سوى المرارة والحقد والكراهية والانتقام، يوم انقطع عن بيت الله ليصل بينه وبين الشيطان بأقوى الأسباب، يوم افترسه الغيظ، إذ خرج من أورشليم إلى جيلوه ليجد هناك الروح النجس: "متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة وإذ لا يجد يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه فيأتي ويجده مكنوساً مزيناً ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله".. وإذا كان الكتاب قد قال بعد ذلك عن يهوذا الاسخريوطي، أنه بعد اللقمة دخله الشيطان، وخرج من حضرة المسيح ليواجه ليله المحتوم، فإن أخيتوفل فعل الشيء نفسه عندما ودع داود إلى غير رجعة في طريقه إلى الليل الطويل العميق البعيد الذي وصل إليه!!.. وآه لك يا أخيتوفل! وآه لك أيها الرجل الذي استبدلت داود بأبشالوم كما استبدل الاسخريوطي المسيح برؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين! وآه لك أيها الرجل الذي انتهيت من تلك اللحظة قبل أن يدرك الناس أو تدرك أنت أن نهايتك قد جاءت وأنت لا تعلم!!... أجل متى يموت الرجل وأين ينتهي؟!!.. إنه لا يموت بمجرد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو يسكن قلبه عن النبض والحركة، فهذا وهم وخداع علمنا المسيح أن ننبذه ونرفضه، يوم دعا واحداً من الشباب أن يتبعه، واستأذن الشاب أن يمضي أولاً ويدفن أباه،.. وأكد له المسيح أنه ليس في حاجة إلى أن يفعل هذا، إذ أن الكثيرين هناك، وهم مستعدون ومؤهلون لمثل هذا العمل: "دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله"... إن الفرق في عرف المسيح بين الكثيرين ممن يحملون النعش إلى مثواه، وبين البيت المحمول، هو فرق موهوم متى كان الموتى الذين يدفنون الميت بعيدين عن الحياة التي يعطيها الله بلمسته الأبدية،.. وقد أكد هذه الحقيقة بصورة أخرى عكسية عندما قال أمام قبر لعازر: "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد"... مات أخيتوفل الجليوني كيهوذا الاسخريوطي قبل أن يخنق كل منهما نفسه ليخرج من العالم إلى الظلمة الأبدية!!مات أخيتوفل الجيلوني يوم أن تسمم نبعه، فلم يعد الرجل الذي ينطق بالحكمة، كمن يعطي الجواب للحائر والتعس والمنكوب بكلام الله، يوم كان النبع غزيراً مترعا فياضاً بالماء النقي الحلو الرقراق،.. آه لك أيها النبع، ما الذي غيرك لتتحول إلى حمأة تقذف بالقذر والكدر والطين؟!! أين الحكمة الجميلة والماء السلسبيل؟!! لقد ضاع كل هذا لأنك لم تعد الرجل الذي يذهب مع داود إلى بيت الله، بل أضحيت شريراً قاسياً عاتياً في الشر، فحق فيك ما قيل: "أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطيناً".. وداعاً أيها النبع الرقراق يوم لم يعد للناس فيك إلا الماء المسموم العكر!!.. والسؤال بعد هذا كله: لماذا مضى أخيتوفل إلى جيلوه ليخنق نفسه؟!!.. هل خنق الرجل نفسه لأنه امتلأ بجنون الكبرياء عندما رفض أبشالوم أن ينصاع إلى حكمته مؤثراً عليها حكمة حوشاي الأركي؟ وهل يطيق أخيتوفل أن يسمع أبشالوم وكل رجال إسرائيل وهم قائلون: "إن مشورة حوشاي الأركي أحسن من مشورة أخيتوفل".. وهل بلغ الهوان به إلى أن يوجد في إسرائيل كلها من يمكن أن يستشار وهو موجود، ومن هو حوشاي الأركي هذا الذي يمكن أن يقف نداً له حكمته أو مشورته؟ فإذا كانت الأمة كلها تقدم عليه حوشاي، فإن الموت عنده أفضل بما لا يقاس من الحياة نفسها؟!!... على أن البعض يعتقد أن هناك سبباً آخر أضيف إلى هذا السبب، إذ أن الرجل لم يذهب إلى جيلوه، وهو مرجل متقد من الغيظ والغضب والكبرياء المهدورة الذليلة، بل أن الأمر أبعد وأعمق، لقد ذهب إلى هناك مأخوذاً بجنون الفشل واليأس والقنوط،.. لقد لفظت حكمته، وأدرك الرجل من اللحظة الأولى أن الثورة ستمني بكل تأكيد بالفشل والضياع والهزيمة، وأن حكمة حوشاي الأركي هي المنحدر أو الهوة التي تسقط فيها بدون قرار، وسينتهي كل شيء، على أسوأ ما يمكن أن تكون النهاية والمصير، فلماذا يبقى ليرى هذا كله؟!! ولماذا يبقى ليقتله داود أو واحد من رجاله على أبشع صورة ومثال؟!!.. وإذا لم يكن من الموت بد، فإن من حقه -كما تصور- أن يجعله بيده، لا بيد واحد من الأعداء أو الخصوم، الذين لا يمكن أن يأخذوه بالرفق والحنان والرحمة، لقد أصيب أخيتوفل الجيلوني، كما أصيب يهوذا الاسخريوطي، بأقسى نوع من الجنون، إذ أصيب باليأس المطبق الذي لا يترك للإنسان فرجة أو مخرجاً من أمل أو رجاء!!.. كانت خيانة أخيتوفل من أبشع الخيانات، وكانت مشورته المخيفة من أخبث وأشر وأحط المشورات، لكن البعض يعتقد أن داود كان على استعداد أن يقدر الجرح العميق الغائر في صدر الرجل، والذي شارك هو في صنعه، وكان على استعداد أن يتسامح مع الرجل أو يغفر له، لو أنه عاد تائباً نادماً مستخزياً عما فعل، ولكن أخيتوفل لم يفعل، لأنه جن بالكبرياء الذي يمنعه من الانحناء، وجن باليأس الذي أغلق في وجهه أي بصيص من رجاء أو أمل!!... وذهب الرجل كما ذهب يهوذا الاسخريوطي على بعد ألف عام آتية من الزمن!!لم يقتل أحد أخيتوفل الجيلوني، كما لم يقتل أحد يهوذا الاسخريوطي،.. لقد قتل كل منهما نفسه بالحبل الذي فتله بيديه، والذي وضعه في عنقه، لقد مات الرجلان لأن يد العدالة الإلهية امتدت إليهما، اليد القوية التي أطبقت على عنقيهما لتطرحهما في الظلمة الخارجية الأبدية، كما تطرح كل من لا يتعظ أو يتحكم لشتى الإنذارات التي لابد أن يرسلها الله، قبل أن يقضي قضاءه الإله المحتوم،مات أخيتوفل الجيلوني وذهب إلى مصيره التعس ليحق عليه ما قاله السيد المسيح عن الآخر: "كان خيراً لهذا الرجل لو لم يولد".. أجل وهذا حق، لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وإذا كانت العدالة الأرضية تضع أشد العقاب، على المجرم الذي يرتكب الجريمة مع سبق المعرفة والإصرار والترصد، وهي لا تستطيع أن تأخذه بما تأخذ به الغر الغرم الجهول، فبالأولى تكون عدالة السماء،.. مات أخيتوفل الجيلوني، وذهبت عنه حكمته ليموت موت الجاهل الأحمق، وليضحى الصورة الغربية المتكررة في كل الأجيال والعصور، للإنسان الذي يقتل نفسه بمدثرات "الحكمة" البشرية التي تتفنن كل يوم بالمخترعات العلمية والنفسية في تعذيبه وقتله!!.مات أخيتوفل الجيلوني، دون أن يفلح في القضاء علي داود، لأن الملك القديم وفي نفسه من الحكمة الجهنمية الشريرة بالاتجاه إلى الله في الصلاة يوم قال: "حمق يا رب مشورة أخيتوفل"... وهل لنا شيء آخر في هذا العالم الحاضر الشرير أكثر من الصلاة، لنقي أنفسنا من مشورته الرهيبة الآثمة الشريرة،.. كان داود في اللحظة التي رفع فيها هذه الصلاة مسكيناً عاجزاً مشرداً طريداً،.. واستمع إلى صلاة الرجل البائس المسكين، وضرب على مشورة أخيتوفل بالضلال، فلم تفلح، ومات أخيتوفل، ولم يمت داود،... وعاش القائد وذهب المتمرد،... وضاعت الحكمة الآثمة القاسية الشريرة، ليبقى المسكين الذي أودع أمره بين يدي الله في ذلة وخضوع!!أي أخيتوفل! أي يهوذا الاسخريوطي القديم لا نملك أن نتركك دون أن نقف لنسكب دمعة حزينة على قبرك البائس، كم نسكب دموعنا الغزيرة علي الرجل الذي أطل على وجه المسيح، ومع ذلك قدر أن يبيعه ويخونه!!..
المزيد
24 أكتوبر 2020

المقالة الرابعة عشرة في رثاء النفس

في بعض الأيام نَهضت في الدلج ؛ وذهبت أنا واثنان من الأخوان إلى مدينة الرها المباركة ؛ فرفعت عيني إلى فوق السماء فعاينت المدينة كامرأة صافٍ صقالها ؛ تتلألأ على الأرض كالنجوم لامعة بمجد.فإذ تعجبت كثيراً قلت: إن كانت هذه البرايا تلمع بمجد هكذا كم أولى بالقديسين والصديقين الذين صنعوا مشيئة الإله القدوس ؛ في تلك الساعة إذا جاء الرب أن يشرقوا أكثر بنورٍ لا ينعت ؛ بنور مجد المخلص.وللحين تذكرت ورود المسيح المرهوب ؛ فاضطربت عظامي، وانقطعت قوة نفسي مع جسمي ؛ وبكيت بوجع قلب ؛ وقلت بزفرات: كيف أُوجد أنا الخاطئ في تلك الساعة الرهيبة ؟ كيف أمثل بحضرة مجلس القاضي المرهوب ؟ كيف أُوجد أنا المتنزه مع الكاملين ؟ أم كيف أقف أنا الجدي مع الخراف عن ميامن المسيح ؟ أم كيف أُوجد أنا الغير مثمر مع القديسين العاملين هنا ثمر العدل ؟ أو إذا عرف القديسون بعضهم البعض في الحجلة السمائية ماذا أصنع أنا ؟ ترى من يعرفني ! هل الصديقون في الخدر ؟ أو المنافقون في النار ؟ فترى الشهداء عذاباتِهم والنساك فضائلهم. فماذا أرى أنا سوى رخاوة نيتي، أيتها النفس المتنزهة، يا نفسي الخاطئة، أيتها النفس التي لا حياء لها، أيتها النفس الماقتة حياتِها إلى متى تجذبك الهموم على الأرض ؟ إلى متى يجرك سوء عادة الأفكار الخبيثة ؟ أما قد علمت أن الأفكار الخبيثة في كل ساعة تصير كسحابة مظلمة قدامك ؛ وتحجزك عن أن تقفي لدى اللـه.أنتِ تتوقعين بوفور ونيتك أن الختن السمائي سيبطئ في وروده، لا يبطئ يا شقية بل كبرق خلب يكون وروده من السماء، احرصي أن توجدي مستعدة في تلك الساعة المخيفة ؛ لكي لا تبكين هناك إلى أبد الدهور.لا تصغي بالكلية إلى هفوات آخرين، بل انتحبي على زلاتك، لا تبصري إلى القذاء في عين الأخ والقريب، بل تأملي الجذع في ناظرك تأملاً متواتراً، إن أمكنك أن تنتزعي أولاً الجذع من عينك فأخرجي قذاء الأخ والقريب، وإن لم يمكنك فنوحي على ظلمتك المستصعبة. كيف تظنين أنك تمنحين القريب نوراً، صيري يا نفسي طبيبة لذاتك كل ساعة ؛ ثم بعد ذلك أشفي أخاكِ السقيم، فليست لك حجة عن توانيكِ لأن الإله الرحوم قد أعطاكِ كل المواهب، تمييزاً وفهماً ومعرفة روحانية، فاعرفي منذ الآن ما يوافقك.فبكى عند ذلك الأخوان اللذين معي ؛ وقالا: لم تبكِ أيها الأب بكثرة نحيب ؟ فقلت لهما: يا ولدي المحبوبين أنوح على ذاتي من أجل ونيتي، لأن الإله الصالح قد أعطانا استنارة العلم وأنا أخالفه يوماً فيوماً.لأنني إن أكملت مشيئة الرب فسأكون في تلك الساعة مغبوطاً ؛ ولست وحدي بل والذين يعملون مسراته، فمن أجل هذا يا إخوتي لا معذرة لنا هناك البتة لأننا نخطئ بمعرفة، فلنتأمل تدبير اللـه في كافة المواهب التي أعطانا إياها.فنعمته تتعهد قلوبنا دائماً ؛ فحين تجد راحة لها تدخل تسكن في النفس سرمداً ؛ وإن لم تجد القلب نقياً نظيفاً تبتعد عنه، ثم تضطرها رأفاتِها أن تتعهد الخاطئين. فإذا كنا متغيري العزم ؛ وذهننا يستحيل متقلباً، أليس بالطبع نوجد دائماً متنزهين ومسترخين حسودين خبثاء مفتكرين بعضنا ببعض أفكاراً رديئة، فاسقين نجسين متذكرين أفعالاً رديئة خبيثة، دائماً مطروحين في حمأة منتنة من الأفكار.فإذا جاءت النعمة تفتقدنا تجد في قلوبنا نتانة الأفكار الخبيثة، فتتنحى وتبتعد إذ لم تجد مدخلاً تدخل وتسكن فينا كما تريد، سوى أنَها تنخر القلب بحلاوة منيرة ليحس بأنَها تعهدته ولم تجد لها مدخلاً. لكي إذا تحلى الإنسان بالأنوار سار يطلبها ؛ ومع هذا فهذه النعمة لا يمكنها أن تبتعد منا بالجملة لأن تحننها يلزمها ويضطرها أن ترحم الكل.أرايت تدبير اللـه السابق، أرايت تحنن المسيح الإله القدوس كيف يحبنا دائماً مريداً أن يخلصنا. فمغبوط الإنسان الذي يحرص كل وقت أن يعد قلبه نقياً نظيفاً للنعمة ؛ لكي ما إذا جاءت تجد فيه طيب نسيم الفضائل وطهارة النفس فتسكن فيه إلى أبد الدهور.فماذا نعطي الإله المتحنن عن كافة خيراته ومواهبه، إذ نزل من السماء من لدن الآب ؛ وتجسد من أجلنا في مستودع البتول، ومن أجلنا لطم مثل عبد، فماذا نقضي عن اللطمة وحدها ؟ إن عشنا على الأرض ألف سنة لا نستطيع أن نفي اللـه كما يجب له مجازاة نعمته.إني أخشى من هذا يا ولديّ المحبوبين ؛ لأنني أعرف ونيتي وأخاف من أن يكون كافة الناظرين إليَّ ؛ ومطوبي ورعي الكاذب ؛ يبصقون عليَّ هناك إذا أبصروني متحرقاً بالنار.أرثِ يارب، أيها المتحنن، المسيح المخلص ؛ الابن الوحيد ؛ لعبدك العاطل لئلا أوجد هناك قدام المنبر واقفاً بخوف وخزي عظيم ؛ وعاراً للمشاهدين أي الملائكة والناس.أدبني هنا يا مخلصي كما يليق بالأب المتحنن المحب ولده، واغفر لي هناك بما أنك أنت الإله السماوي الغير خاطئ وحدك، فإنك إن لم تيقظ الشقي وتعطيه استنارة قلب ليتوب بلا خجل عن خطاياه، فماذا يصنع هناك إذ لا عذر له ؟ فإذ لم أكن موجوداً على الأرض فجبلتني يا سيدي برأفاتك الجزيلة في جوف أمي الخاطئة، وولدت أنا الغير مستحق برحمتك ؛ وأُهلت أن أصير أناة لنعمتك ؛ ورباباً جليلة تترنم على الدوام كلمات الخلاص لكافة السامعين.فأخذت هذه الصلاة أنا المسترخي الخاطئ ؛ وأنكرت بتوانيَّ وإرتخائي ؛ لكن نعمتك لا تزال تترنم بفم المتواني ترنيمات بارة ؛ وتنير المعقول المظلم؛ وتحرك فيَّ نغمات ترنيمك أيها المسيح.فمن أجل هذا أجثو ساجداً لنعمتك أيها الابن الوحيد مخلص نفوسنا ؛ طالباً كما صارت عنا نعمتك فيَّ أنا الغير مستحق كل ساعة استنارة وصيانة ونصراً وفرحاً ؛ أن تسترني هناك تحت أجنحتها من تلك الطائلة المخيفة ؛ وتوقفني في الجهة اليمنى في ملكك ؛ مترأفاً عليَّ ؛ مخلصاً إياي برحمتك ؛ لأسبح وأمجد طول أناتك ؛ لأنك لم تعرض عن عبرات عبدك العاطل الخاطئ.لك السبح إلى أباد الدهورآمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل