المقالات

13 يناير 2021

سلامٌ لكِ يا بيت لحم

يا للتعطُّفات الأبوية الرحيمة!! هو خلقنا ولا يزال يحمل مسئولية أنيننا، ويهتمُّ جدّاً بأحوالنا، ولا يطيق أن يرى أولاده تحت ظُلم أو سُخرة أو ضيق، لأنه في كلِّ حال ضيقهم يتضايق جدّاً، ومَنْ يمسُّهم كأنه يمسُّ حَدَقَة عينه.أليس بسبب تعطُّفات الأُبـوَّة الرحيمة التي تملأ طبيعته المجيدة، أرسل لنا ابنه الحبيب ليتجسَّد ويتأنَّس ويصير تحت آلامنا كلها بعينها، فلا يعود الآب يتشارَك معنا في آلامنا تشارُكاً معنوياً فقط، بل تصير ال‍مُشاركة مُشاركة فعلية حقيقية في جسد ابنه!! مَنْ ذا يستطيع بعد ذلك أن ينسى حنان الأُبوَّة التي افتقدنا ب‍ها الآب في المسيح أو يتجاهلها؟ أو مَنْ ذا يتضايق إلى حدِّ التذمُّر مهما بلغت شدَّة الضيقة، بعد أن عرفنا بتأكيد أنه يتضايق معنا ومثلنا؟ وإن كانت أنوار بيت لحم في هذه الأيام ال‍مُباركة تجذب أبصار قلوبنا بشدَّة للتأمُّل في أمجاد البنوَّة المملوءة حبّاً وسلاماً، فإنَّ أصوات الملائكة لا تزال تلحُّ عليَّ جدّاً أن أتكلَّم مُعطياً المجد لله الآب في الأعالي، مُكرِّماً مشاعر الأُبوَّة المتعطِّفة التي صارت منها هذه المسرَّة والنعمة ال‍مُتضاعفة. ومَنْ ذا يستطيع أن يتقدَّم إلى بيت لحم إن لم يجذبه الآب أولاً؟ أو مَنْ ذا قد صار في الابن ولم يسبق أن اختاره الآب؟ هذا هو عيد البنوَّة حقّاً، وهو عيد الأُبوَّة بالضرورة.فإن امتلأت قلوبنا بمشاعر المسرَّة بالابن، فلنا أيضاً شركة مع الآب في مسرَّته: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 17)، مُمجِّدين مقاصده الرحيمة لنا التي ادَّخرها لنا في المسيح قبل تأسيس العالم. إنَّ الآب إذ رأى وسمع أنين البشرية كلها أرسل ابنه؛ بل إنَّ الآب الرحيم المحب أَظهر لنا قِدَم محبته لنا، إذ ونحن بعد خطاة وُلِدَ المسيح. والعالم وهو غارق في ظلمة الجحود، أحبه الآب هكذا، وأرسل ابنه ليبذل نفسه فدية لأجل الجميع.أيَّة متعة لنا في مشاعر حنان الأُبوَّة! آه أنا محصور في حب الآب! إني أستشعر حبه جدّاً قديماً قبل بيت لحم هذا الذي به عرفني ابنه، وهذا الذي به أيضاً جذبني إليه. ومحبة الآب لا زالت واضحة المشاعر في أعماقي أرى في نورها نور محبة المسيح، وأفهم على هُداها مجد ذبيحة المسيح وتكميل المقاصد المكتومة في أسرار ما قبل الدهور.وفي الحقِّ أنا محصورٌ بين الاثنين، فمن قلب الآب تقبَّلتُ أعظم وأجلَّ مشاعر محبة الله ملموسة منظورة في الحياة الأبدية وطبيعته الإلهية التي أُظهِرَت لنا في المسيح مُتجسِّداً. ومن قلب المسيح المجروح من أجلي تقبَّلتُ أسمى آيات الحب الباذل لرفع نفسي والصعود ب‍ها في طريق النور، طريق مُقدَّس كرَّسه حديثاً بجسده المكسور، ليُوصِّلني أنا بنفسي إلى أعماق قلب الآب.وها أنا كلَّما أنظر المسيح يسوع ربي وأنذهل من فرط حبه واتضاعه وأنفعل في قلبي بحبٍّ لذيذ واضح، لا أملك إلا أن أرفع نظري إلى فوق نحو الآب أبيه وأبي كل أحد، وأرى وأحسُّ بحبه الأبوي، فأنذهل أيضاً من فرط هذا الحب والاتضاع، فيزداد قلبي انفعالاً واضطراباً لذيذاً حتى أكاد أغيب عن وعيي وأستريح من فرط فرحتي التي أثقلت عقلي.كذلك كل مرَّة أتطلَّع فيها إلى الآب وأتقبَّل منه مشاعر الأُبوَّة الرحيمة كما يتقبَّلها ابن عاطل من القوة مستكين في حضن أبيه سيد كل البشر، يمتلئ قلبي شجاعة وينطلق لساني تسبيحاً ومجداً، لا يكمل فرحي ولا ت‍هدأ نفسي حتى أنظر إلى الابن الجالس في حضن أبيه الذي به صار لي مثل هذه الجرأة إلى صدر الله وقدوماً بثقة إلى أُبوَّته الرحيمة ومعرفة بطبيعته المجيدة.فأي تسبيح يا نفسي يمكن أن تُقدِّميه إلى الآب السمائي في ذكرى ميلاد ابنه الحبيب؟ وأي مجد يليق بالأُبوَّة في يوم عيد البنوَّة؟! ولكن مهما مجَّدنا الآب بالمجد اللائق الفائق، فلن نستطيع أن نبلغ شيئاً مما بلغه المسيح في ذلك. فما من عظمة لائقة في موضعها إلاَّ وقدَّمها لأبيه، وما من فرصة مواتية بقولٍ حسن أو عمل مجيد أو آية أو صلاح إلا ونسبهُ للآب! حتى فاق في تمجيده لأبيه كل حدود إمكانيات البشر ولم يستَبْقِ لنفسه منها شيئاً قط مُتمِّماً القول القائل: «لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ» (في 2: 7). ولكن ليس عن تمايُز أو تفاضُل بين الآب ونفسه، حاشا! لأنه هو القائل: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» و«كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ (للآب)، وَمَا هُوَ لَكَ (للآب) فَهُوَ لِي» (يو 10: 30؛ 17: 10)، بل بكفاءة متساوية وكرامة واحدة متَّحدة.ونحن وإن كُنَّا قد تصوَّرنا أنفسنا في عداوة سابقة، كلَّ واحد منَّا كابن رافض لمحبة أبيه مُتغرِّباً عنه في كورة بعيدة؛ إلاَّ أنَّ الآب الصالح ما فتئ يطلبنا بنداء الحب الصامت ويدعونا إليه ناسياً جهلنا في اشتياقات صلاحه، وبتوسُّط ذبيحة ابنه. وما الصورة التي قدَّمها لنا السيد المسيح في قصة الابن الضال إلاَّ شرحاً لصلاح الأُبوَّة بالأكثر، مُظهراً في ن‍هايتها ال‍مُبدعة كيف تُغسل عيوب البنوَّة في حب الآب فتُنسى.ثم يزيد المسيح قُرباً وتلامساً لصلاح أبيه وحنانه ورقَّة مشاعره من نحونا في مُقارنة لطيفة قصيرة غزيرة المشاعر مزدحمة بالأحاسيس بين أبوَّة الإنسان وأبوَّة الله (انظر: مت 7: 7 -11)، مُقرِّراً في تأكيد كم أنَّ هذه الأخيرة أكثر تعرُّفاً على الخير وأكثر سخاءً في تقديمه.ولقد كان شغل المسيح الشاغل أن يُعرِّف الجميع بكل وسيلة ممكنة وغير ممكنة: مَنْ هو الآب! فلم يكُفَّ فمه الطاهر عن نُطق هذه الكلمة العزيزة عنده أعز من كل شيء، فقد رآه واستعلنه واضحاً ظاهراً في كل عمل وقول، مُعلناً بوضوح أنه مـن حضن الآب جاء، وبالآب يعمل الأعمال كلها، ومن الآب يتكلَّم، ومن عنده يشهد، وله وحده يُمجِّد، وفي الآب هو كائن، وإلى الآب يعود؛ حتى إن التلاميذ فات عليهم عُمق اتضاعه وارتبكت معرفتهم عنه هو فسألوه: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8).ويا لعِظَم مسرَّة قلوبنا وغِنَى حظنا في الآب بالابن، لأن المسيح لم يكفَّ بعد عن أن يُعرِّفنا الآب حتى الآن: «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ» (يو 17: 26)، وذلك «ليتمجَّد الآب بالابن» كما مجَّد الآب الابن (يو 14: 13؛ 8: 54).والنفس التي ذاقت حقّاً حب المسيح وتنسَّمت رائحة أقنومه الإلهي وتقلَّبت على جمر نار حبه، لابد وأن تذوق حب الآب أيضاً الذي هو أسمى اختبارات البشرية، هذا الذي يُقال عنه في التصوُّف ”التاورية الثالثة“ أي تاورية (= تأمُّل) الثالوث الأقدس. هذا هو ن‍هاية جميع الهبات وختام مواهب الروح القدس الذي ختم به السيد المسيح صلاته وسؤاله عنا في ن‍هاية رسالته على الأرض: «لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ» (يو 17: 26).ولقد كان الرسل شديدي الإحساس بالآب وما استطاعوا أبداً أن يتذوَّقوا جمال الابن إلا في أبيه، ولا رسالته إلا في إرساليته، بل وما ذكروا الابن إلا بالآب، وما طلبوا سلاماً أو نعمة أو بركة إلا واستمدُّوها من الآب بالمسيح أو في المسيح. وهذا الشعور المقدَّس في تفهُّم الرسل لشخصية الآب يُحدِّده يوحنا الرسول في عبارة موجـزة شاملة مُكمِّلة: «اَلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُـونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (1يو 1: 3).وإن قدَّاسَي القدِّيسَيْن باسيليوس وكيرلس لَتَطبيق عملي لحياة الشركة العميقة مع الآب ومع الابن التي تكلَّم عنها يوحنا الرسول.فيا ليتنا نتذوَّق مشاعر الآب في ذكرى ميلاد ابنه، ونجعلها تنمو في قلوبنا لتحتل في حياتنا وأفكارنا ولغتنا مكان‍ها الأول المناسب. فنحن أبناء الله الآب في يسوع المسيح وشركتنا هي مع الآب ومع الابن.سلامٌ لكِ يا بيت لحم مسقط رأسنا. فقد وُلِدنا فيكِ لله بالمسيح، وصرتِ لنا مكان التبنِّي الذي حُسبنا فيه أهل بيت الله لَمَّا وُلِدَ فيكِ أخونا البِكْر.يسوع الذي تجمَّعت فيه بُنوَّات الإنسان الكثيرة المتباينة المتنافرة، فأخذها وغسلها بالماء والدم، وطهَّرها وقدَّسها ووحَّدها بروحه الأزلي، وقدَّمها في طاعة محبته بنوَّة واحدة لائقة للآب، «وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ» (عب 2: 10)، مستطيعاً أن يجعل الكلَّ واحداً فيه، وهو إذ لم يَسْتَحِ أن يدعونا إخوة، استحققنا باتضاعه واشتراكه معنا في اللحم والدم أن ندعو أباه أبانا.وهو لَمَّا تجسَّد، وهبنا فكره الذي بـه استطعنا أن نمتدَّ وراء الدهور، لنقرأ بالروح مكنونات الأسرار في الأزلية؛ عن قصة خلقتنا الحقيقية في مقاصد الآب، ونَعْلَم أننا كُنَّا في المسيح قبل تأسيس العالم لمقاصد ومشيئات الآب الصالح ولنهاية مجيدة مُفرحة.يا لقِدَم تاريخ الإنسان الذي انكشفت أهم وأمجد حلقاته الروحية بتجسُّد الابن، رافعاً الستار عن طبيعة الإنسان المباركـة المكرَّمـة في المسيح يسوع قبل أن توجـد خليقة ما وقبل أن يـرفَّ روح الله على وجه المياه.هذا هو كلمة الله الأقنوم الثاني والمساوي مـع الآب في الجوهر، صانع الخليقة المنظورة وغير المنظورة، الذي ليس مخفياً عن معرفتنا؛ بل مقروءٌ لاهوته في خليقته ومُدرَكٌ لاهوته بالمصنوعات (رو 1: 20). هذا الذي لما عرفوه لم يمجِّدوه كإله، ولما جهلوه نـزل ليُعلِن وينطق بخبر الآب الذي أرسله ويكشف عن طبيعة الله بكلمته.هذه هي الحياة الأبدية التي أُظهِرَت لنا في جسد إنسان، وهي هي التي تمدُّ الخليقة بالحياة وتحفظها من العدم. هذا هو الحق المتجسِّد ليُعلِن لنا أسرار الله في ذاته وفي قيامته.هذا هو النور الذي جاء إلى العالم مُضيئاً بالحقِّ والحياة التي فيه، حتى بنوره نستطيع أن نُدرك النور أي الحق والحياة معاً التي في الله.هذا هو الإله المتأنِّس الذي يحمل طبيعة الإنسان بكافة نواحيها، والذي اكتملت فيه مشاعر الطبيعة البشرية حتى يستطيع أن يتلامس مع كل إنسان في الوجود، إذ يجمع في شخصه كل سجيات البشرية الفاضلة ولمسات روحها المبدعة بكلِّ أنواعها وصفات‍ها العديدة، من كل شكل وكل جنس وكل قامة من فجر الطفولة إلى غَسَق الشيخوخة، خلا صفة واحدة ذات اسم شنيع مكروه: ”الخطية“.ففي المسيح، كل ذي جمال وكل ذي عاطفة نبيلة أو حاسة مقدَّسة طاهرة، يجد فيه اتفاقاً ومَعِيناً لا ينضب لإلهاماته وإبداعاته. وفي المسيح أيضاً يجد كل إنسان، خلا من امتيازات العبقرية والإلهام، يجد في المسيح إنساناً نظيره؛ ولكن فيه مقدرة أن يستكمل فيه ومنه كل ما تشتهيه نفسه من إلهام وإبداع.وكل مرذول محتَقَر، كل مَنْ نبذته البشرية وأذلَّته فصار كأنه غريب على عنصرها، يكدح خارجاً عن دائرة اعتبارها مع المخلوقات الأقل؛ هذا يجد في المسيح إنساناً مُهاناً نظيره يستطيع أن يستعيد فيه كرامته البشرية، ويجد عنده راحة من كدِّ هذا العالم، ويتقبَّل منه شرف أخوية أسمى لعنصر أرقى وحياة أبقى.إذاً، فاليوم عيد، عيد لكلِّ الناس، لأنه وُلِدَ للبشرية مُعين، وأُعطِيَ للإنسان ابن تكمَّلت فيه كل إعوازها. سلامٌ لكِ يا بيت لحم! فأنتِ حقّاً لستِ الصُّغرى، فتخومكِ امتدَّت مع المولود فيكِ ودَخَلَت مناطق الأزلية في أقصى السموات، وصار لنا منكِ عبورٌ سهل إلى تلك النواحي البعيدة في اللان‍هائية.وسلامٌ للنجم الذي لا يزال يُضيء قلوب الحاجين إليه، أي كلمة الحياة، التي هي سراجٌ منير في موضع العالم المظلم، يسير أمام السائرين على هَدْي نورها حتى لا تُدركهم الظلمة، يرقَى ب‍هم إلى مراقي المجد حتى قلب الله. وسلامٌ على موكب الحكماء السائرين في ليل هذا العمر، متشجِّعين بالرؤيا وبالنجم الذي يتقدَّمهم ويُلهمهم حكمة لمعرفة الطريق، حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر، حكمة في سرٍّ، حاملين هداياهم: مال العالم والذهب، ومُشتهيات الجسد مع اللُّبان، ومُر الحياة مع الرضا.قدَّموا أموالهم لينالوا الملكوت، ووهبوا أجسادهم ليحظوا بالكهنوت، واحتملوا ال‍مُر ليجدوا السرور.ما أحكم المجوس وما أعمق سر الهدايا، إن أسرارها لكثيرة! وسلامٌ للعذراء الأُم الممتلئة نعمة التي اختيرت ليحلَّ روح الله على هيكلها البشري حتى تصير نموذجاً أبدياً لإمكانية حلول الله في الإنسان.سلامٌ للتي لها دالة عند الله أفضل من نبي ورسول، ومن البشريين قاطبة، إذ لها مع الأقنوم الثاني رباطٌ وثيق مقدَّس يضمُّها إليه إلى الأبد.سلامٌ للتي وَجَدَت نعمة أكثر من ملاك ومن رئيس ملائكة، وأُعطِيَت أن تجلس عن يمين الملك في مجده لأن القدير صنع ب‍ها عظائم، رفعها وأنزل الأعزَّاء عن الكراسي.هو الربُّ، لذَّته دائماً مع المتضعين في بني الإنسان. لذلك جميع الأجيال تُطوِّب‍ها، وسعيدٌ أنـا إذ بلغتُ جيلاً يُطوِّب‍ها.بركات بيت لحم فلتحلَّ على شعب الله مـن جيلٍ إلى جيل، له المجد في كنيسته إلى الأبـد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 نوفمبر 2020

العولمة مرة أخرى، ومناقشة تأثيراتها

نتابع ما ذكرناه في المقال السابق فنقول من أهم عناصر العولمة: الحضارة وانتقالها من بلد إلى بلد: وكلمة الحضارة واسعة جدًا في معناها, فهي تشمل الثقافة والرقى وسائر القيم والعادات السائدة. أما عن الثقافة, فلا ننسى مطلقًا فضل العولمة في نشر العلم والمعرفة, مع الوضع في الاعتبار بعض أنواع المعرفة المبنية على الشك كالفلسفات الملحدة وكالأفكار الاقتصادية التي تميل إلى الشيوعية أو إلى التطرف بوجه عام. أما من جهة العادات والطباع والقيم, وأمثال ذلك مما يسمونه في الغرب Culture, فإن فيه اختلافًا كثيرًا بيننا وبينهم. ونحن نلاحظ أن الذين يقيمون فترة طويلة في بلاد الغرب متغربين عن أوطانهم, يعودون بشخصيات وعادات مختلفة عما كان لهم من قبل, بل حتى لكنة ولهجة صوتهم تتغير, وكذلك طريقة تفكيرهم أيضًا... وهنا نسأل ماذا يكون وضع المرأة الشرقية في ظل العولمة, حيث وصلت المرأة في بعض بلاد الغرب إلى منصب رئيس الوزراء, وتنافس على منصب رئيس الدولة أيضًا. ونحن نشكر الله أن بلادنا مصر قد أفسحت المجال السياسي والإداري والاجتماعي أمام المرأة. فيوجد لدينا أكثر من وزيرة, وكذلك وكيلة مجلس الشعب امرأة. وعدد كبير من النساء في رتبة وكيل وزارة, ورتبة مدير عام. كما تم تعيين ثلاثين امرأة في القضاء... ولكن هل ستقبل بلاد الشرق العربي أن تصل المرأة إلى هذا المستوى أو أكثر؟ بينما في بعض البلدان العربية تجاهد النساء لكي يكون لهن مجرد حق الانتخاب في بعض المجالس! ثم في ظل انتشار العولمة ستعود مناقشة موضوع الحجاب والنقاب بالنسبة إلى المرأة. وكذلك ربما تظهر مشكلة الزواج المشترك ما بين طرفين مختلفين في المذهب. تدخل مشكلة أخرى في محيط الأسرة وهى مدى احترام وطاعة الوالدين والكبار عمومًا. فنحن في الشرق نوقّر الكبار غاية التوقير, ونطلب رضى وبركة الوالدين, بينما في الغرب توجد الاستقلالية في الشخصية كلما وصل السن إلى مرحلة الشباب, ولا يجد الأبوان الفرصة الكافية لتأديب أبنائهم. ويمكن للابن أن يطلب تدخل الشرطة رسميًا للحد من سلطان أبيه أو تدخله في شئونه الخاصة...!وعلى الرغم من اعترافنا بفضل العولمة في انتشار العلوم ورقيها, إلا إننا نجد بعض نواحي العلم- وبخاصة في موضوع الإنجاب- قد سارت في تيار لا يتفق كثيرًا مع قيمنا ومع بعض مبادئنا الدينية من ذلك وجود بنوك البويضات المخصبة...حيث يمكن للمرأة أن تختار النوع الذي تريد أن يُولد به ابن لها: من جهة طوله أو لون بشرته أو لون شعره أو درجة ذكائه. وتختار البويضة المخصبة التي تناسب طلبها, بغض النظر عن كيف أخصبت, وما شرعية ذلك, وما مدى تحكم علماء تلك البنوك في الجينات البشرية وتوفيقها بأسلوب خاص لتأتى بالنتيجة المطلوبة يضاف إلى هذا التطور الواسع في موضوع الاستنساخ, الذي بدأ بتطبيقه على الحيوانات, ثم تطور إلى مجال البشر أيضًا. نحن لا نقف ضد العلم, ولكن من المفروض أيضًا أن تكون للعلم حدود لا يتعداها إلى الدخول في المشيئة الإلهية!نحن لا ندعى إطلاقًا بتدخل العلماء في القدرة على الخلق, وهم لا يدّعون ذلك, لأن الخلق هو الإيجاد من العدم, وهذا خارج نطاق العلم, ولكن تصرفهم في الخليقة حسب هواهم أو فكرهم الخاص هو موضوع من المفروض أن تكون له ضوابط وحدود. نقطة أخرى وهى استئجار الأرحام, حيث يمكن نقل بويضة لأم معينة إلى رحم امرأة أخرى. ثم يُولد طفل له أم طبيعية وأم استأجروها ليولد منها!! وإلى أيهما ينتسب؟! العولمة أيضًا لها تأثيرها في محيط التجارة والصناعة:- إذ توجد بلاد يمكن أن تقدم صناعات بسعر أقل, وتسوّقها في بلاد أخرى, فتؤثر على ميزانها الاقتصادي, وعلى صناعتها المحلية, وبالتالي على وضع العمالة فيها. وربما هذا الأمر يوجد جوًا من التنافس في مجال الإنتاج ووفرته وجودته وسعره. ولكن ليست كل الدول تقدر على مثل هذا التنافس وكمثال واضح اختبرناه في مصر, انتشار الصناعة الصينية في نواح متعددة, وبأسعار أقل من السوق. بل عن طريق العولمة انتشرت صناعاتها أيضًا في بلاد أخرى غربًا وشرقًا. لا ننسى أيضًا تأثير العولمة على اللغة:- ويظهر هذا واضحًا في كثير من العلوم. فنحن نستعمل العديد من الألفاظ اليونانية, مثل كلمات: فلسفة, جغرافيا, جيولوجيا, إستراتيجية, تليفون, تلغراف تكنولوجيا. ونستخدم أيضًا عبارات في الطب والدواء ليست عربية مثل الكوليسترول, والفيتامينات. وعمومًا فإن تعريب الطب غير ممكن من جهة, وضار من جهة أخرى, إذ يوقف الصلة بالبحوث العلمية, والمؤتمرات العلمية, والمجلات والكتب التي عن الطب والصيدلة. وغالبيتها بلغات أجنبية.إننا تعودنا أن نستخدم عبارات ليست عربية), مثل درجة الماجستير وهى كلمة لاتينية, ومثل كلمة (مايسترو) عن معلم الموسيقى, وهى كلمة إيطالية, ومثل كلمة كيمياء وهى هيروغليفية الأصل أو قبطية. بل أن كلمة (لغة) نفسها ليست عربية, وإنما أصلها يوناني.أما في العربية فنستخدم عبارة (لسانًا عربيًا فصيحًا). ومن أقدم وأشهر القواميس في العربية كتاب لسان العرب لابن منظور وليس لغة العرب. ختامًا, لا خوف من العولمة على ثوابتنا العقيدية, فهي أعمق من العولمة, أما الحضارة والثقافة فهي ملك الجميع. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
09 يونيو 2021

دروس‏ ‏روحية‏ ‏من عيد‏ ‏الصعود‏ ‏المجيد‏

عيد‏ ‏الصعود‏ ‏عيد‏ ‏سيدي‏ ‏خاص‏ ‏في‏ ‏معجزته‏ ‏بالسيد‏ ‏المسيح‏ ‏وحده‏.‏ أي‏ ‏أنه‏ ‏يشمل‏ ‏معجزة‏ ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏مع‏ ‏أحد‏ ‏من‏ ‏البشر‏, ‏وإنما‏ ‏كانت‏ ‏للسيد‏ ‏الرب‏ ‏وحده‏: ‏مثل‏ ‏الميلاد‏ ‏العذراوي‏, ‏ومثل‏ ‏قيامته‏ ‏بقوة‏ ‏لاهوته‏ ‏وخروجه‏ ‏من‏ ‏القبر‏ ‏المغلق‏, ‏ومثل‏ ‏التجلي‏ ‏علي‏ ‏جبل‏ ‏طابور‏, ‏كذلك‏ ‏صعوده‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏وجلوسه‏ ‏عن‏ ‏يمين‏ ‏الآب‏.‏لقد‏ ‏صعد‏ ‏بذاته‏, ‏وليس‏ ‏مثل‏ ‏إيليا‏ ‏النبي‏ ‏الذي‏ ‏أخذته‏ ‏مركبة‏ ‏نارية‏ ‏فصعد‏ ‏فيها‏ (2 ‏مل‏ 2: 10 ‏و‏11), ‏ولا‏ ‏مثل‏ ‏أخنوخ‏ ‏الذي‏ ‏لم‏ ‏يوجد‏ ‏لأن‏ ‏الله‏ ‏أخذه‏ (‏تك‏ 5: 24), ‏أما‏ ‏السيد‏ ‏المسيح‏ ‏فصعد‏ ‏بقوته‏, ‏دون‏ ‏أية‏ ‏قوة‏ ‏خارجية‏.‏ ‏‏وكان‏ ‏صعوده‏ ‏صعودا‏ ‏بالناسوت‏.‏ ذلك‏ ‏لأن‏ ‏اللاهوت‏ ‏موجود‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏مكان‏, ‏في‏ ‏الأرض‏ ‏وفي‏ ‏السماء‏ ‏وما‏ ‏بينهما‏, ‏لذلك‏ ‏فاللاهوت‏ ‏لا‏ ‏يصعد‏ ‏ولا‏ ‏ينزل‏. ‏وفي‏ ‏القداس‏ ‏الغريغوري‏ ‏نقول‏ ‏له‏ ‏وعند‏ ‏صعودك‏ ‏إلي‏ ‏السموات‏ ‏جسديا‏, ‏وقد‏ ‏شرحنا‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏ ‏صعود‏ ‏المسيح‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مفارقة‏ ‏لكنيسته‏ ‏علي‏ ‏الأرض‏ ما‏ ‏كان‏ ‏انفصالا‏ ‏عن‏ ‏الكنيسة‏, ‏ولا‏ ‏تركا‏ ‏لها‏, ‏ولا‏ ‏تخليا‏ ‏عنها‏, ‏لأنه‏ ‏قال‏ ‏ها‏ ‏أنا‏ ‏معكم‏ ‏كل‏ ‏الأيام‏ ‏وإلي‏ ‏انقضاء‏ ‏الدهر‏ (‏مت‏ 28: 20) ‏وقال‏ ‏أيضا‏ ‏حينما‏ ‏اجتمع‏ ‏اثنان‏ ‏أو‏ ‏ثلاثة‏ ‏باسمي‏, ‏فهناك‏ ‏أكون‏ ‏في‏ ‏وسطهم‏ (‏مت‏ 18: 20), ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏معنا‏ ‏في‏ ‏الكنيسة‏, ‏وفي‏ ‏كل‏ ‏اجتماع‏ ‏روحي‏, ‏وهو‏ ‏كائن‏ ‏معنا‏ ‏علي‏ ‏المائدة‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏قداس‏, ‏هو‏ ‏عمانوئيل‏ ‏الذي‏ ‏تفسيره‏ ‏الله‏ ‏معنا‏ (‏مت‏ 1: 23).‏ ‏ ‏صعوده‏ ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏اختفاء‏ ‏عن‏ ‏الحواس‏ ‏المادية‏, ‏مع‏ ‏وجوده‏ ‏فعليا‏. كان‏ ‏مع‏ ‏تلاميذه‏ ‏وهم‏ ‏يرونه‏ ‏بالحواس‏, ‏وبعد‏ ‏صعوده‏ ‏ظل‏ ‏أيضا‏ ‏معهم‏ ‏ولكنهم‏ ‏لا‏ ‏يرونه‏ ‏بالحواس‏, ‏هو‏ ‏معهم‏ ‏بالإيمان‏ ‏لا‏ ‏بالعيان‏ ‏والإيمان‏ ‏هو‏ ‏الإيقان‏ ‏بأمور‏ ‏لا‏ ‏تري‏ (‏عب‏ 11: 1), ‏وكما‏ ‏قال‏ ‏لتلميذه‏ ‏توما‏ ‏طوبي‏ ‏لمن‏ ‏آمن‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يري‏ (‏يو‏ 20: 29), ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏صعد‏ ‏عن‏ ‏الأرض‏ ‏بالجسد‏, ‏وظل‏ ‏باقيا‏ ‏عليها‏ ‏باللاهوت‏, ‏يدركون‏ ‏وجوده‏ ‏معهم‏ ‏بالإيمان‏, ‏وإن‏ ‏كانوا‏ ‏لا‏ ‏يرونه‏ ‏بالحواس‏ ‏المادية‏, ‏أي‏ ‏بالعين‏ ‏الجسدية‏.‏ كان‏ ‏صعوده‏ ‏رفعا‏ ‏لمستوي‏ ‏التلاميذ‏, ‏ودليلا‏ ‏علي‏ ‏نضوجهم‏ ‏الروحي‏ لقد‏ ‏رفعهم‏ ‏من‏ ‏مستوي‏ ‏الحواس‏ ‏إلي‏ ‏مستوي‏ ‏الإيمان‏, ‏في‏ ‏بدء‏ ‏علاقتهم‏ ‏معه‏ ‏وهو‏ ‏علي‏ ‏الأرض‏, ‏كانوا‏ ‏محتاجين‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏وأن‏ ‏يلمسوا‏ ‏وأن‏ ‏يحسوا‏ ‏وجوده‏ ‏بالجسد‏, ‏فلما‏ ‏وصلوا‏ ‏إلي‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الإيمان‏, ‏فارقهم‏ ‏بالجسد‏, ‏لأنهم‏ ‏صاروا‏ ‏قادرين‏ ‏أن‏ ‏يروه‏ ‏بالروح‏, ‏وأن‏ ‏يحسوا‏ ‏وجوده‏ ‏بالإيمان‏, ‏ويقينا‏ ‏أنهم‏ ‏بعد‏ ‏صعوده‏, ‏لم‏ ‏يشعروا‏ ‏في‏ ‏يوم‏ ‏من‏ ‏الأيام‏ ‏أنه‏ ‏فارقهم‏.‏ ‏‏هو‏ ‏معنا‏ ‏أبصرناه‏ ‏بعيوننا‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏نبصره‏ إن‏ ‏النظر‏ ‏الجسدي‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الحكم‏ ‏في‏ ‏الأمور‏ ‏الإيمانية‏. ‏نحن‏ ‏نؤمن‏ ‏بوجود‏ ‏الله‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نبصره‏, ‏ونؤمن‏ ‏بوجود‏ ‏الملائكة‏ ‏حولنا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نبصرهم‏, ‏ونؤمن‏ ‏بوجود‏ ‏الروح‏ ‏وبخروج‏ ‏الروح‏ ‏من‏ ‏الجسد‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نبصر‏ ‏ذلك‏.. ‏إذن‏ ‏وجود‏ ‏السيد‏ ‏المسيح‏ ‏معنا‏ ‏بعد‏ ‏صعوده‏, ‏لا‏ ‏تحكمه‏ ‏الرؤية‏ ‏الجسدية‏, ‏وإيماننا‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ارتفاع‏ ‏لمستوانا‏ ‏الروحي‏ ‏في‏ ‏موضوع‏ ‏صعود‏ ‏المسيح‏ ‏وبقائه‏ ‏معنا‏.‏ معجزة‏ ‏صعوده‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏ضد‏ ‏قوانين‏ ‏الطبيعة‏ ‏بل‏ ‏سموا‏ ‏عليها‏.‏بداءة‏ ‏نقول‏ ‏إن‏ ‏الرب‏ ‏لما‏ ‏وضع‏ ‏قوانين‏ ‏الطبيعة‏, ‏وضعها‏ ‏لتخضع‏ ‏لها‏ ‏الطبيعة‏, ‏لا‏ ‏ليخضع‏ ‏هو‏ ‏لها‏, ‏بل‏ ‏تبقي‏ ‏هي‏ ‏خاضعة‏ ‏له‏, ‏لواضعها‏ ومع‏ ‏ذلك‏, ‏فإنه‏ ‏في‏ ‏صعوده‏, ‏صعد‏ ‏بالجسد‏ ‏الممجد‏, ‏الجسد‏ ‏الروحاني‏ ‏السماوي‏, ‏الذي‏ ‏سنقوم‏ ‏نحن‏ ‏بمثله‏ (1 ‏كو‏ 15: 44 ‏و‏49) ‏علي‏ ‏شبه‏ ‏جسد‏ ‏مجده‏ (‏في‏ 3: 21). إذن‏ ‏معجزة‏ ‏الصعود‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏في‏ ‏الانتصار‏ ‏علي‏ ‏قوانين‏ ‏الجاذبية‏ ‏الأرضية‏, ‏إنما‏ ‏كانت‏ ‏المعجزة‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏الجسد‏ ‏الروحاني‏ ‏السماوي‏, ‏الذي‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يصعد‏ ‏إلي‏ ‏فوق‏, ‏إنه‏ ‏إذن‏ ‏سمو‏ ‏للطبيعة‏ ‏وليس‏ ‏تعارضا‏ ‏معها‏, ‏إنه‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏التجلي‏ ‏لطبيعة‏ ‏الجسد‏.‏ ‏‏معجزة‏ ‏الصعود‏ ‏تعطينا‏ ‏لونا‏ ‏من‏ ‏الرجاء‏ ‏من‏ ‏ناحيتين‏:-‏ الأولي‏ ‏أن‏ ‏الذين‏ ‏أعثروا‏ ‏بصليب‏ ‏الرب‏ ‏وما‏ ‏صاحبته‏ ‏من‏ ‏إهانات‏ ‏ومن‏ ‏آلام‏, ‏كان‏ ‏الرد‏ ‏عليها‏ ‏في‏ ‏مجد‏ ‏القيامة‏, ‏ثم‏ ‏في‏ ‏مجد‏ ‏الصعود‏, ‏وهكذا‏ ‏عاد‏ ‏الإيمان‏ ‏إلي‏ ‏الناس‏ ‏الذين‏ ‏ظنوا‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏قد‏ ‏انتهي‏ ‏بالصليب‏, ‏وصار‏ ‏لنا‏ ‏رجاء‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏صليب‏ ‏توجد‏ ‏قيامة‏ ‏وصعود‏, ‏وهذا‏ ‏الرجاء‏ ‏صاحب‏ ‏الشهداء‏ ‏والمعترفين‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏جيل‏.‏ ‏ ‏الناحية‏ ‏الثانية‏ ‏من‏ ‏الرجاء‏ ‏أنه‏ ‏سيكون‏ ‏لنا‏ ‏المثل‏ فكما‏ ‏صعد‏ ‏المسيح‏ ‏بجسد‏ ‏ممجد‏, ‏سيكون‏ ‏لنا‏ ‏أيضا‏ ‏جسد‏ ‏ممجد‏ (‏في‏ 3: 21), ‏وكما‏ ‏أخذته‏ ‏سحابة‏ ‏عن‏ ‏أعين‏ ‏التلاميذ‏ ‏في‏ ‏صعوده‏, ‏هكذا‏ ‏في‏ ‏اليوم‏ ‏الأخير‏ ‏سنأتي‏ ‏معه‏ ‏علي‏ ‏السحاب‏, ‏في‏ ‏مجئ‏ ‏ربنا‏ ‏يسوع‏ ‏المسيح‏ ‏مع‏ ‏جميع‏ ‏قديسيه‏ (1 ‏تس‏ 3: 13), ‏متي‏ ‏جاء‏ ‏الرب‏ ‏في‏ ‏ربوات‏ ‏قديسيه‏ ‏ليصنع‏ ‏دينونة‏ ‏علي‏ ‏الجميع‏ (‏يه‏ 14, 15), ‏حين‏ ‏يأتي‏ ‏علي‏ ‏السحاب‏ ‏وتنظره‏ ‏كل‏ ‏عين‏ (‏رؤ‏ 1: 7), ‏ونحن‏ ‏الأحياء‏ ‏الباقين‏ ‏علي‏ ‏الأرض‏ ‏سنخطف‏ ‏جميعا‏ ‏معهم‏ ‏في‏ ‏السحب‏ ‏لملاقاة‏ ‏الرب‏ ‏في‏ ‏الهواء‏, ‏وهكذا‏ ‏نكون‏ ‏كل‏ ‏حين‏ ‏مع‏ ‏الرب‏ (1 ‏تس‏ 4: 17).. ‏حقا‏ ‏ما‏ ‏أعظم‏ ‏هذا‏ ‏الرجاء‏.‏ ‏‏وهذا‏ ‏الرجاء‏ ‏يعلمنا‏ ‏الصبر‏ ‏وانتظار‏ ‏الرب‏ الصبر‏ ‏أولا‏ ‏في‏ ‏تحقيق‏ ‏مواعيد‏ ‏الرب‏, ‏الصبر‏ ‏علي‏ ‏آلام‏ ‏الصليب‏, ‏حتي‏ ‏تتحقق‏ ‏أمجاد‏ ‏القيامة‏ ‏وأمجاد‏ ‏الصعود‏, ‏والصبر‏ ‏علي‏ ‏الصعود‏ ‏وترك‏ ‏الرب‏ ‏لنا‏ ‏بالجسد‏, ‏حتي‏ ‏يتحقق‏ ‏قول‏ ‏الملاكين‏ ‏للرسل‏ ‏يوم‏ ‏الصعود‏ ‏إن‏ ‏يسوع‏ ‏هذا‏ ‏الذي‏ ‏ارتفع‏ ‏عنكم‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏سيأتي‏ ‏هكذا‏ ‏كما‏ ‏رأيتموه‏ ‏منطلقا‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ (‏أع‏ 1: 11).‏ كذلك‏ ‏الصبر‏ ‏أيضا‏ ‏الذي‏ ‏صبره‏ ‏الآباء‏ ‏الرسل‏ ‏في‏ ‏انتظار‏ ‏وعد‏ ‏الرب‏ ‏لهم‏ ‏بإرسال‏ ‏الروح‏ ‏القدس‏.‏إنه‏ ‏صبر‏ ‏في‏ ‏رجاء‏, ‏وهو‏ ‏رجاء‏ ‏مملوء‏ ‏بالفرح‏ ‏في‏ ‏إيمان‏ ‏بتحقيق‏ ‏مواعيد‏ ‏الرب‏, ‏وكما‏ ‏قال‏ ‏الرسول‏ ‏فرحين‏ ‏في‏ ‏الرجاء‏ (‏رو‏ 12: 12).‏ ‏ ‏كان‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏عملية‏ ‏فطام‏ ‏للتلاميذ‏ لقد‏ ‏تعودوا‏ ‏خلال‏ ‏فترة‏ ‏تلمذتهم‏ ‏له‏ ‏وهو‏ ‏موجود‏ ‏بينهم‏ ‏بالجسد‏, ‏أن‏ ‏يتكلوا‏ ‏عليه‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعملوا‏ ‏شيئا‏. ‏كان‏ ‏هو‏ ‏الذي‏ ‏يعمل‏ ‏المعجزات‏ ‏وهو‏ ‏الذي‏ ‏يرد‏ ‏علي‏ ‏المعارضين‏, ‏بينما‏ ‏يقف‏ ‏التلاميذ‏ ‏متفرجين‏, ‏ويتأملون‏ ‏ويتعلمون‏.. ‏أما‏ ‏الآن‏, ‏بعد‏ ‏الصعود‏, ‏فقد‏ ‏آن‏ ‏لهم‏ ‏أن‏ ‏يفطموا‏, ‏ويقوموا‏ ‏هم‏ ‏أنفسهم‏ ‏بكل‏ ‏المسئوليات‏ ‏الروحية‏: ‏يتلمذون‏ ‏جميع‏ ‏الأمم‏, ‏ويعلمونهم‏ ‏جميع‏ ‏ما‏ ‏أوصاهم‏ ‏الرب‏ ‏به‏ (‏مت‏ 28), ‏ويردون‏ ‏علي‏ ‏معارضيهم‏, ‏ويحتملون‏ ‏الألم‏ ‏في‏ ‏عمل‏ ‏الكرازة‏.‏ ‏‏كان‏ ‏الرب‏ ‏كالنسر‏ ‏الذي‏ ‏يعلم‏ ‏فراخه‏ ‏الطيران‏ حينما‏ ‏يكبرون‏ ‏أو‏ ‏ينضجون‏, ‏يحملهم‏ ‏علي‏ ‏جناحيه‏, ‏ثم‏ ‏يلقي‏ ‏بهم‏ ‏في‏ ‏الجو‏ ‏ويصعد‏ ‏عنهم‏, ‏كي‏ ‏يحركوا‏ ‏أجنحتهم‏ ‏ويتعلموا‏ ‏الطيران‏, ‏وفي‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يتخلي‏ ‏عنهم‏, ‏بل‏ ‏يرقبهم‏ ‏ويأتي‏ ‏لحمايتهم‏ ‏إن‏ ‏تعرضوا‏ ‏لخطر‏ أو‏ ‏مثل‏ ‏أب‏ ‏يعلم‏ ‏ابنه‏ ‏العوم‏, ‏ويحمله‏ ‏علي‏ ‏يديه‏, ‏ثم‏ ‏يتركه‏ ‏في‏ ‏الماء‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يعلمه‏ ‏العوم‏, ‏كي‏ ‏يعوم‏ ‏وحده‏ ‏ويجرب‏ ‏الماء‏, ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يتركه‏, ‏بل‏ ‏يبقي‏ ‏قريبا‏ ‏معه‏, ‏يساعده‏ ‏كلما‏ ‏احتاج‏.‏ هكذا‏ ‏الرب‏, ‏درب‏ ‏تلاميذه‏ ‏خلال‏ ‏ثلاث‏ ‏سنوات‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏, ‏وأرسلهم‏ ‏أيضا‏ ‏في‏ ‏تدريب‏ ‏عملي‏ (‏مت‏ 10), ‏ثم‏ ‏انتهت‏ ‏فترة‏ ‏التدريب‏, ‏فصعد‏ ‏عنهم‏ ‏لكي‏ ‏يعملوا‏ ‏بأنفسهم‏ ‏ويؤدوا‏ ‏رسالتهم‏, ‏وهو‏ ‏معهم‏ ‏كل‏ ‏الأيام‏ ‏وإلي‏ ‏انقضاء‏ ‏الدهر‏.‏ ‏وكان‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏محفوفا‏ ‏بوعدين‏, ‏بل‏ ‏بثلاثة‏:‏- أما‏ ‏الوعد‏ ‏الأول‏ ‏فهو‏ ‏إرسال‏ ‏الروح‏ ‏القدس‏ ‏ليكون‏ ‏معنا‏ ‏إلي‏ ‏الأبد‏. ‏وهكذا‏ ‏سبق‏ ‏فقال‏ ‏لهم‏: ‏الحق‏ ‏أنه‏ ‏خير‏ ‏لكم‏ ‏أن‏ ‏انطلق‏. ‏لأنه‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏انطلق‏ ‏لا‏ ‏يأتيكم‏ ‏المعزي‏. ‏ولكن‏ ‏إن‏ ‏ذهبت‏, ‏أرسله‏ ‏إليكم‏ (‏يو‏16: 7). ‏وقد‏ ‏كان‏, ‏وأرسل‏ ‏لهم‏ ‏الورح‏ ‏القدس‏ ‏بعد‏ ‏صعوده‏ ‏بعشرة‏ ‏أيام‏.‏ أما‏ ‏الوعد‏ ‏الثاني‏ ‏فهو‏ ‏قوله‏ ‏لهم‏ ‏لا‏ ‏أترككم‏ ‏يتامي‏, ‏إني‏ ‏آتي‏ ‏إليكم‏ (‏يو‏ 14: 18), ‏وقوله‏ ‏أيضا‏ ‏ها‏ ‏أنا‏ ‏معكم‏ ‏كل‏ ‏الأيام‏ ‏وإلي‏ ‏انقضاء‏ ‏الدهر‏ (‏مت‏ 28: 20), ‏وقد‏ ‏حقق‏ ‏هذا‏ ‏الوعد‏ ‏أيضا‏ ‏ولايزال‏ ‏يحققه‏, ‏وقد‏ ‏رآه‏ ‏القديس‏ ‏يوحنا‏ ‏الحبيب‏ ‏وسط‏ ‏الكنائس‏ ‏السبع‏ (‏رؤ‏ 1: 13, 20) ‏وقد‏ ‏أمسك‏ ‏ملائكة‏ ‏الكنائس‏ ‏السبع‏ – ‏أي‏ ‏رعاتهم‏ – ‏في‏ ‏يمينه‏ (‏رؤ‏ 2: 1).‏ أما‏ ‏الوعد‏ ‏الثالث‏, ‏فهو‏ ‏قوله‏ ‏لتلاميذه‏ ‏وأنا‏ ‏إن‏ ‏ارتفعت‏ ‏عن‏ ‏الأرض‏, ‏أجذب‏ ‏إلي‏ ‏الجميع‏ (‏يو‏ 12: 32)‏يجذبنا‏ ‏إليه‏ ‏لنرتفع‏ ‏معه‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏كما‏ ‏قال‏ ‏أنا‏ ‏ماض‏ ‏لأعد‏ ‏لكم‏ ‏مكانا‏, ‏وإن‏ ‏مضيت‏ ‏وأعددت‏ ‏لكم‏ ‏مكانا‏, ‏آتي‏ ‏أيضا‏ ‏وآخذكم‏ ‏إلي‏, ‏حتي‏ ‏حيث‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏, ‏تكونون‏ ‏أنتم‏ ‏أيضا‏ (‏يو‏ 14: 2, 3) إذن‏ ‏هو‏ ‏وعد‏ ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏معنا‏, ‏ونكون‏ ‏معه‏, ‏علي‏ ‏الأرض‏ ‏وفي‏ ‏السماء‏, ‏علي‏ ‏الأرض‏ ‏ها‏ ‏أنا‏ ‏معكم‏ ‏كل‏ ‏الأيام‏ ‏وحيثما‏ ‏اجتمع‏ ‏اثنان‏ ‏أو‏ ‏ثلاثة‏ ‏باسمي‏, ‏هناك‏ ‏أكون‏ ‏في‏ ‏وسطهم‏ (‏مت‏ 18: 20), ‏وفي‏ ‏السماء‏ ‏حيث‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏, ‏تكونون‏ ‏أنتم‏ ‏أيضا‏.. ‏وكما‏ ‏قال‏ ‏بولس‏ ‏الرسول‏ ‏سنخطف‏ ‏جميعا‏ ‏معهم‏ ‏في‏ ‏السحب‏, ‏لملاقاة‏ ‏الرب‏ ‏في‏ ‏الهواء‏, ‏وهكذا‏ ‏نكون‏ ‏كل‏ ‏حين‏ ‏مع‏ ‏الرب‏ (1 ‏تس‏ 4: 17) ‏ما‏ ‏أعظمه‏ ‏من‏ ‏مجد‏.‏ ‏ ‏إذن‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏هو‏ ‏عربون‏ ‏لصعودنا‏ كما‏ ‏كانت‏ ‏قيامة‏ ‏الرب‏ ‏عربونا‏ ‏لقيامتنا‏, ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏باكورة‏ ‏للراقدين‏ (1 ‏كو‏ 15: 20), ‏وكما‏ ‏في‏ ‏آدم‏ ‏يموت‏ ‏الجميع‏, ‏هكذا‏ ‏في‏ ‏المسيح‏ ‏سيحيا‏ ‏الجميع‏ ( 1‏كو‏ 15: 22) كذلك‏ ‏أيضا‏ ‏في‏ ‏الصعود‏, ‏نسمعه‏ ‏يقول‏ ‏وأنا‏ ‏إن‏ ‏ارتفعت‏, ‏أجذب‏ ‏إلي‏ ‏الجميع‏ (‏يو‏ 12: 32)… ‏علي‏ ‏السحاب‏, ‏وفي‏ ‏السماء‏, ‏وبجسد‏ ‏ممجد‏, ‏ونكون‏ ‏كل‏ ‏حين‏ ‏مع‏ ‏الرب‏, ‏في‏ ‏أورشليم‏ ‏السمائية‏ ‏مسكن‏ ‏الله‏ ‏مع‏ ‏الناس‏ (‏رؤ‏ 21: 2, 3), ‏في‏ ‏مستوي‏ ‏أعلي‏ ‏من‏ ‏المادة‏ ‏ومن‏ ‏الحواس‏, ‏علي‏ ‏شبه‏ ‏جسد‏ ‏مجده‏, ‏في‏ ‏ربوات‏ ‏قديسيه‏.. ‏حيث‏ ‏نتمجد‏ ‏أيضا‏ ‏معه‏ (‏رو‏ 8: 17), ‏حيث‏ ‏نقام‏ ‏في‏ ‏مجد‏ (1 ‏كو‏ 15: 43).. ‏وبالتالي‏ ‏نصعد‏ ‏إليه‏ ‏في‏ ‏مجد‏ لذلك‏ ‏قيل‏ ‏في‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏كان‏ ‏تلاميذه‏ ‏شاخصين‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏وهو‏ ‏منطلق‏ (‏أع‏ 1: 10) إنه‏ ‏درس‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏دروس‏ ‏السماء‏, ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏شاخصين‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏حيث‏ ‏صعد‏ ‏الرب‏, ‏وإلي‏ ‏السماء‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏يأتي‏ ‏إلينا‏ ‏في‏ ‏مجيئه‏ ‏الثاني‏, ‏وأيضا‏ ‏شاخصين‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏حيث‏ ‏تتركز‏ ‏كل‏ ‏عواطفنا‏ ‏وآمالنا‏, ‏وكما‏ ‏قال‏ ‏الرب‏ ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏كنزك‏, ‏هناك‏ ‏يكون‏ ‏قلبك‏ ‏أيضا‏ (‏مت‏ 6: 21) مساكين‏ ‏الذين‏ ‏كل‏ ‏كنوزهم‏ ‏في‏ ‏الأرض‏, ‏ولذلك‏ ‏تكون‏ ‏كل‏ ‏رغباتهم‏ ‏وآمالهم‏ ‏فيها‏, ‏وحينما‏ ‏يتركون‏ ‏الأرض‏, ‏لا‏ ‏يجدون‏ ‏شيئا‏ أما‏ ‏أولاد‏ ‏الله‏, ‏فيعيشون‏ ‏دائما‏ ‏شاخصين‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏التي‏ ‏تلتصق‏ ‏بها‏ ‏قلقوبهم‏ ‏وكل‏ ‏رغباتهم‏.‏ ‏ ‏ليت‏ ‏أفكارنا‏ ‏إذن‏ ‏ترتفع‏ ‏دائما‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ تصعد‏ ‏كلها‏ ‏هناك‏ ‏لتكون‏ ‏مع‏ ‏الرب‏, ‏وهي‏ ‏وكل‏ ‏شهوات‏ ‏قلوبنا‏ ‏وكل‏ ‏حواسنا‏ ‏الروحية‏, ‏وكما‏ ‏قال‏ ‏القديس‏ ‏بولس‏ ‏الرسول‏ ‏ونحن‏ ‏غير‏ ‏ناظرين‏ ‏إلي‏ ‏الأشياء‏ ‏التي‏ ‏تري‏ ‏بل‏ ‏إلي‏ ‏التي‏ ‏لا‏ ‏تري‏. ‏لأن‏ ‏التي‏ ‏تري‏ ‏وقتيه‏, ‏أما‏ ‏التي‏ ‏لا‏ ‏تري‏ ‏فأبدية‏ 2 ‏كو‏ 4:18 وأن‏ ‏بقينا‏ ‏شاخصين‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏ناظرين‏ ‏إلي‏ ‏غير‏ ‏المرئيات‏, ‏وقد‏ ‏صار‏ ‏كل‏ ‏كنزنا‏ ‏في‏ ‏السماء‏, ‏حينئذ‏ ‏سنقول‏ ‏مع‏ ‏الرسول‏: ‏لي‏ ‏اشتهاء‏ ‏أن‏ ‏أنطلق‏ ‏وأكون‏ ‏مع‏ ‏المسيح‏ ‏ذلك‏ ‏أفضل‏ ‏جدا‏ ‏في‏ 1 : 23.‏ في‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏أيضا‏, ‏يمكننا‏ ‏أن‏ ‏نتأمل‏ ‏في‏ ‏عظمته‏ ‏ومجده‏ وهذا‏ ‏التأمل‏ ‏يغرس‏ ‏في‏ ‏قلوبنا‏ ‏مشاعر‏ ‏عميقة‏ ‏منها‏:‏- ‏1 – ‏نشعر‏ ‏براحة‏ ‏واطمئنان‏, ‏إذ‏ ‏أننا‏ ‏في‏ ‏رعاية‏ ‏إله‏ ‏عظيم‏ ‏هكذا‏, ‏كل‏ ‏عظمة‏ ‏ضده‏ ‏لا‏ ‏قيمة‏ ‏لها‏, ‏وهكذا‏ ‏نثق‏ ‏بوعده‏ ‏للكنيسة‏ ‏أن‏ ‏أبواب‏ ‏الجحيم‏ ‏لن‏ ‏تقوي‏ ‏عليها‏ ‏مت‏ 16 : 18 ‏وقوله‏ ‏لها‏ ‏كل‏ ‏آلة‏ ‏صورت‏ ‏ضدك‏ ‏لا‏ ‏تنجح‏ 1 ‏ش‏ 54 : 17, ‏وقوله‏ ‏للقديس‏ ‏بولس‏ ‏لا‏ ‏تخف‏.. ‏لأني‏ ‏أنا‏ ‏معك‏ ‏ولا‏ ‏يقع‏ ‏بك‏ ‏أحد‏ ‏ليؤذيك‏ 1 ‏ع‏ 18 : 10,9. ‏وهكذا‏ ‏نتعزي‏ ‏بعظمة‏ ‏الرب‏, ‏ونتكل‏ ‏عليها‏, ‏ونحتمي‏ ‏بها‏.‏ ‏2 – ‏تذكر‏ ‏عظمة‏ ‏الرب‏, ‏منحنا‏ ‏مشاعر‏ ‏الخشوع‏ ‏والخشية‏ ‏وعدم‏ ‏الاستهانة‏, ‏وعظمة‏ ‏الرب‏ ‏تدفعنا‏ ‏إلي‏ ‏الحياة‏ ‏والطاعة‏ ‏وإلي‏ ‏حياة‏ ‏التدقيق‏, ‏وإلي‏ ‏مخافة‏ ‏الرب‏ ‏التي‏ ‏هي‏ ‏بدء‏ ‏الحكمة‏ ‏أم‏ 9 : 10 ‏ورأس‏ ‏الحكمة‏ ‏مز‏ 111 : 10. ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏يقودنا‏ ‏إلي‏ ‏الحرص‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏تصرفاتنا‏, ‏لتكون‏ ‏نقية‏ ‏قدامه‏.‏ ‏3 – ‏والتأمل‏ ‏في‏ ‏عظمة‏ ‏الرب‏ ‏يقودنا‏ ‏إلي‏ ‏حياة‏ ‏الاتضاع‏ ‏وإلي‏ ‏تمجيد‏ ‏الرب‏, ‏فمن‏ ‏نحن‏ ‏أمام‏ ‏هذا‏ ‏الصاعد‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏, ‏الجالس‏ ‏عن‏ ‏يمين‏ ‏الآب‏ ‏مز‏ 110 : 1 1 ‏ع‏ 7 : 56 ‏عب‏ 1 : 3.. ‏الذي‏ ‏ليست‏ ‏السموات‏ ‏طاهرة‏ ‏قدامه‏, ‏وإلي‏ ‏ملائكته‏ ‏ينسب‏ ‏حماقة‏ ‏أي‏ 4 : 18.‏وحينما‏ ‏نري‏ ‏أن‏ ‏الرب‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏عظمته‏ ‏كان‏ ‏وديعا‏ ‏ومتواضع‏ ‏القلب‏ ‏مت‏ 11 : 29, ‏حينئذ‏ ‏تنسحق‏ ‏أنفسنا‏ ‏ونتعلم‏ ‏التواضع‏ ‏وحينما‏ ‏نتأمل‏ ‏عظمة‏ ‏الرب‏ ‏في‏ ‏صعوده‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏وجلوسه‏ ‏عن‏ ‏يمين‏ ‏الآب‏, ‏نقول‏ ‏له‏ ‏في‏ ‏اتضاع‏ ‏ليست‏ ‏الأرض‏ ‏يا‏ ‏رب‏ ‏مكانك‏. ‏أنها‏ ‏موطئ‏ ‏قدميك‏ ‏مت‏ 5 : 35أما‏ ‏السماء‏ ‏يارب‏ ‏فهي‏ ‏عرشك‏ ‏الذي‏ ‏صعدت‏ ‏إليه‏ ‏مت‏ 5 : 34. ‏كرسيك‏ ‏يا‏ ‏الله‏ ‏إلي‏ ‏دهر‏ ‏الدهور‏. ‏قضيب‏ ‏الاستقامة‏ ‏هو‏ ‏قضيب‏ ‏ملكك‏ ‏عب‏ 1 : 8. ‏أما‏ ‏نحن‏, ‏فاننا‏ ‏تراب‏. ‏حب‏ ‏عظيم‏ ‏منك‏ ‏أن‏ ‏تجذبنا‏ ‏إليك‏, ‏ونكون‏ ‏معك‏ ‏ومع‏ ‏ملائكتك‏. ‏حقا‏ ‏أنك‏ ‏أنت‏ ‏المقيم‏ ‏المسكين‏ ‏من‏ ‏التراب‏, ‏والرافع‏ ‏البائس‏ ‏من‏ ‏المزبلة‏ ‏ليجلس‏ ‏مع‏ ‏رؤساء‏ ‏شعبك‏ ‏مز‏ 113 : 7.‏ إن‏ ‏صعود‏ ‏الرب‏ ‏كان‏ ‏خاتمة‏ ‏عبارة‏ ‏أخلي‏ ‏ذاته‏ قيلت‏ ‏هذه‏ ‏العبارة‏ ‏في‏ ‏تسجده‏ ‏لأجل‏ ‏فدائنا‏ ‏أخلي‏ ‏ذاته‏, ‏وأخذ‏ ‏صورة‏ ‏العبد‏, ‏صائرا‏ ‏في‏ ‏شبه‏ ‏الناس‏, ‏وإذ‏ ‏وجد‏ ‏في‏ ‏الهيئة‏ ‏كأنسان‏ ‏وضع‏ ‏نفسه‏ ‏وأطاع‏ ‏حتي‏ ‏الموت‏, ‏موت‏ ‏الصليب‏ ‏في‏ 2 : 8,7.‏ أما‏ ‏الآن‏, ‏وقد‏ ‏قام‏ ‏بعمل‏ ‏الفداء‏, ‏وقال‏ ‏قد‏ ‏أكمل‏, ‏وداس‏ ‏الموت‏, ‏وقام‏, ‏ثم‏ ‏صعد‏ ‏إلي‏ ‏السماء‏ ‏وجلس‏ ‏علي‏ ‏يمين‏ ‏العظمة‏ ‏في‏ ‏الأعالي‏ ‏عب‏ 1 : 3. ‏فقد‏ ‏انتهت‏ ‏عبارة‏ ‏أخلي‏ ‏ذاته‏ لذلك‏ ‏حينما‏ ‏يأتي‏ ‏في‏ ‏مجيئه‏ ‏الثاني‏ ‏سيأتي‏ ‏بمجده‏ ‏ومجد‏ ‏الآب‏ ‏لو‏ 9 : 26. ‏نعم‏ ‏سيأتي‏ ‏في‏ ‏مجد‏ ‏أبيه‏ ‏مع‏ ‏ملائكته‏ ‏مت‏ 16 : 27 ‏له‏ ‏المجد‏ ‏الدائم‏ ‏إلي‏ ‏الأبد‏, ‏آمين‏. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
24 يونيو 2022

غسل الأرجل ومفهوم الخدمة

إن سيدنا ومخلصنا له المجد جعل نفسه خادماً ، وقال : " أنا بينكم كالذي يخدم " ( لو ٢٢ : ٢٧ ) ، " أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسنا تقولون لي لأني أنا كذلك ، فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فيجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض " ( يو ١٣ : ١٣ ، ١٤ ) . والحقيقة عندما نتأمل ما معنى غسل الأرجل ؟ ولماذا كان غسل الأرجل في يوم خميس العهد ؟ وما حكمة المسيح في أنه يقوم ويغسل أرجل تلاميذه ؟ هل هو مجرد ممارسة عمل من أعمال الضيافة التي كانت تقتضيها ظروف ذلك الزمان ؟ لم يكن هناك أحد يوم خميس العهد جاء من مكان بعيد حتى أنه يغسل أرجلهم بإعتباره المضيف ، إنما كان هناك لاشك معانى واسعة في أنه وهو المعلم وهو السيد يأخذ وضع الخادم . فهنا قلب المسيح مفهوم الخدمة . الخادم ليس هو الإنسان الذي يتكلم من فوق والناس من تحت ، لا .. ، الخادم هو الذي ينحنى ويأخذ الوضع الأدنى ، والمخدوم يكون هو في الوضع الأعلى ، هذا الكلام ليس معناه التواضع ، ولكن هذا هو مفهوم لمعنى الخدمة . ما معنى الخدمة ؟ الخدمة أن يسدى الإنسان الخير لإنسان في حاجة إليه ، وإحتياجات النفس البشرية كثيرة ، ليست نوع واحد ، إذن كل نوع من الخير يسديه الإنسان إلى آخـر في حاجة إليه ، هذه خدمة بكل معنى كلمة الخدمة ، فالخدمة ليست فقط أن يلقى الإنسان درساً أو أن يلقى عظة أو أن يقف على منبر ليكلم غيره من الناس ، ينقل إليهم خبرا أو ينقل إليهم تعليما ، ليس هذا هو المفهوم الكامل للخدمة ، هذا جزء من عمل الخدمة ، إنما هناك مفهوم أعم وأشمل للخدمة . فإذا وجد الإنسان أعمى في الطريق وأمسكه بيده وقاده فهذه خدمة ، حتى لو كانت خدمة ليس فيها نوع من الكلام ، في بعض الأحيان يكون هناك إنسان مجرب أو متألم أو حزين ، لمناسبة أو لأنه فقد قزيبه أو عزيزاً عليه ، في بعض الأحيان عندما تكون التجربة صعبة الإنسان لايجد كلام يقوله لهذا الإنسان المكلوم ، مثل هذا الإنسان ذو التجربة القاسية عندما تعزيه ، تكون حالته النفسية متعبة ، لدرجة أنه يشعر أن أي نوع من الكلام كأنه رجم الطوب بالنسبة له ، خصوصا بأن يوجد بعض الناس عندما تعزى ، يكون عزاؤها فيه نوع من اللوم والتقريع لهذا الإنسان ، إذا صدر منه أي مظهر من مظاهر الحزن غير المرغوب فيه ، ففي بعض الأحيان لايفيد الكلام ، أو يكون مؤلم بالنسبة لهذا الظرف المعين رغم أنه يحتاج إلى من يكلمه كلاماً يعزيه أو يصبره أو يجعله يحتمل ، لكن في بعض الأحيان مجرد الوجود مع الشخص حتى لو لم يكن هناك كلام ، يكون له فائدة ويكون نوع من الخدمة . عندما الإنسان يحس أن من هم حوله يحملون معه التجربة أو الألم ، هذه بمفردها وبدون كلام تعمل على التخفيف وعلى الترطيب وعلى التهدئة ، وأقول في بعض الأحيان ، يكون الصمت أفضل من الكلام أمام بعض التجارب المؤلمة . فمجرد وجودك مع إنسان متعب ، كونك تجلس معه حتى لو لم تكلمه كلاما ، وجودك بجواره خدمة ، إذن ليست الخدمة فقط في مفهومنا هي الدرس الذي يلقيه الإنسان ، أو العظة أو التعليم ، لا شك أننا محتاجين لهذا ، لكن هذا ليس كل شيء ، نريد أن نوسع مفهوم الخدمة ، فلا تكون الخدمة فقط الدرس الذي هي نلقيه أو العظة أو المحاضرة أو الحديث ، وإن كان لا غنى لنا عن هذا ، إنما أيضا هناك أنواع أخرى من الخدمات ، يمكن أنها تسدى خيرا لأشخاص في حاجة إليها ولا يكونون في حاجة إلى وعظ أو إلى درس أو إلى محاضرة . نيافة مثلث الرحمات الأنبا غريغوريوس أسقف عـام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى عن كتاب الخدمة والخدام المفاهيم والمجالات والمؤهلات والمعوقات وللحديث بقية
المزيد
23 سبتمبر 2021

عيد الصليب

تعيد الكنيسة بعيد الصليب على مناسبتين يوم 17 توت ويوم 10 برمهات. وإن كان الأخير هو يوم اكتشاف الصليب ولكن لأنه يقع في أيام الصوم الكبير فاتفقت الكنيسة أن يكون العيد الثاني هو ثاني يوم تدشين كنيسة القيامة وهو الموافق 17 توت. وإن كان الصليب يأخذ قوته من عمل الفداء ولكنه أيضاً أداة الحب، وأداة الصلح، وهو العرش الذي صعد إليه الملك ليأخذ ملكوته، وهو المذبح الذي قدم رئيس الكهنة ذاته ذبيحة عليه. ومن هنا جاءت قيمة الصليب في تاريخ البشرية وقد ظل مختفياً مدة كبيرة من الزمن حتى ملك قسطنطين بقوة الصليب الذي ظهر له، وكانت الملكة هيلانة التي لها اشتياقات قوية لبناء الكنائس وانتشار المسيحية في العالم كله، لذلك استخدمها السيد المسيح لاكتشاف خشبة الصليب فقد أرسل لها عن طريق رؤيا يخبرها أن تذهب إلى أورشليم لتبحث عن خشبة الصليب. وفي نفس الوقت كلم أسقف أورشليم الإمبراطور قسطنطين بأن الصليب الذي أعطاه قوة الانتصار مختفي ولا يعرف أحد أين هو. فجاءت الملكة هيلانة وكلمت ابنها في هذا الأمر وقد وجدت عنده نفس الطلب. فذهبت ولم تعرف كيف تعثر عليه فأخذت تسأل عن مكان الجلجثة القديم فوصلت إلى شخص عجوز يهودي يعرف مكان الجلجثة وبعد أن ضيقت عليه بسلطانها حتى تكلم وأخبرها عن مكان الجلجثة. وقد كان الإمبراطور هادريان قد بنى عليه معبد وثني كما قلنا سابقاً. ثم عرفت أن الصليب مدفون في مزبلة بجانب الجلجثة فحفرت حتى وجدت ثلاثة صلبان ولم تعرف كيف تجد صليب المسيح من الثلاثة صلبان لأن واحد منهم للسيد المسيح والاثنين الآخرين للصين. فكانت هناك جنازة وميت محمول فوضعت الميت على الثلاثة خشبات وحين لمس الميت خشبة الصليب الحقيقي قام من الأموات فعرفت أن هذا هو صليب ربنا يسوع المسيح. وقد ذكر الآباء هذه القصة في أكثر من مكان، فذكرها أيضاً القديس أمبروسيوس أسقف ميلان 395 م.، وذكرها أيضاً القديس يوحنا ذهبي الفم وقال: "منذ أن دفنت خشبة الصليب لم يوجد من يعتني بها بسبب الخوف المحيط بالمؤمنين واهتماماتهم بما هو أكثر ضرورة ولكن لم يكن مكانه مجهولاً". ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: "بعد مرور خمسة وعشرون عاماً على الصليب صار الصليب في العالم كله افتخار لكل الكنائس". ويقصد هنا قوة الصليب. ويقول أيضاً: "لقد صلب المسيح حقاً ونحن لا يمكننا أن ننكر هذا لأننا مجتمعون الآن أمام خشبة الصليب". وهذا يؤكد على أن أيامه كانت خشبة الصليب قائمة في أورشليم. وقد كان لخشبة الصليب قصة أخرى تاريخية هامة جداً. ففي القرن السابع، أثناء حكم الإمبراطور هرقل اجتاح الفرس بلدان الشرق ومنها أورشليم، وكان هناك أمير فارسي يكره المسيحية فدخل إلى كنيسة القيامة ورأى خشبة الصليب وكانت موضوعة في برواز فضة وعلى قاعدة من ذهب فحاول أن يمسك بخشبة الصليب فاحترقت يداه وكان واقف بالكنيسة شماس فقال له:  "لقد احترقت يداك لأنك غير مسيحي".  فقال له الأمير: "إذن احمله أنت وتعالى معي". وأخذ الشماس والصليب وسافر إلى بلاد الفرس وأخفى الصليب وقتل الشماس. وكان الجيش الفارسي قد سبي من أورشليم كهنة وعائلاتهم ومنها ابنة كاهن كانت عيناها معلقتان على الصليب ورأت ما حدث. وتمر السنوات ويعود هرقل وينتصر على الفرس، وأخذ الإمبراطور يبحث عن خشبة الصليب في كل مكان إلى أن جاءت إليه ابنة الكاهن التي كانت ترى الصليب وما فعله الشماس وقالت: "أن الأمير حفر في حديقة قصره وأخفى الصليب وقتل الشماس". وفعلاً وجد هرقل الصليب وأعاده إلى القسطنطينية بإكرام كبير وعمل احتفالاً له في العاشر من برمهات أيضاً. والذين لا يفهموا معنى الصليب ولا يعرفوا قوته وعمله يقولون لنا أنتم تعبدون أداة تعذيب إلهكم، كيف تكرمون آلات التعذيب؟ ولهؤلاء نقول لقد كان الصليب قبل المسيح أداة للتعذيب والموت والعقوبة ولكنه صار وسيلة خلاص العالم كله من إبليس وبه رفع حكم الموت، وأيضاً به تم عمل المصالحة بين الأرض والسماء، وبيننا وبين إلهنا المحبوب الذي اقتنانا إلهنا بدمه من خلاله وصرنا أحباء وأبناء. وقد كان الصليب أقسي أنواع العقوبة قديماً لهذا قد صار أقوى صور الحب لأن مسيحنا احتمل أقسى أنواع العقوبة على الأرض لأجلنا. وقد اختار السيد المسيح الصليب لثلاثة أشياء أولاً: كان الصليب في فكر العهد القديم هو لعنة "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المُعلق ملعون من اللـه" (تث 21: 22، 23) وهو قد جاء ليحمل خطايانا ولعناتنا كما قال معلمنا بولس الرسول: "إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: "ملعون كل من علق على خشبة" (غلا 3: 13)، فهو قد جاء لكي يحمل خطايانا ويقدم ذاته عوضاً لنا. ثانياً: ذبيحة الصليب هي الذبيحة الوحيدة التي يرى العالم كله من ينفذ هذا الحكم علناً ويرى الجميع أنه قد تم فيه حقاً حكم الموت. فهو حكم بالموت البطيء والذي يصلب يدفع ثمناً غالياً لأنه يموت بألم شديد. وهذا هو علامة الحب لأجلنا. ثالثاً: الصليب معلق بين الأرض والسماء ليكون هو السلم الذي به يصعد الأرضين نحو السماء كما أن المصلوب أيضاً يفتح أحضانه إلى أن يموت. وهذه الصورة هي أقوى صورة للحب ذبيحة تفتح أحضانها وتقدم بين الأرض والسماء. ولكن كان العهد القديم أيضاً يعطي إشارات بأن صورة الصليب هي صورة البركة أيضاً. فالصليب نفسه عقوبة اللعنة ولكن عمل الصليب هو البركة والقوة والمجد. فنرى موسى النبي يقف يصلي ويفتح يديه مثل علامة الصليب في حرب الشعب مع عماليق وينتصر الشعب طالما صورة الصليب قائمة أمام اللـه وينهزم حينما يغيب الصليب. وفي قصة ذبح اسحق نرى إبراهيم يضع حطب المحرقة على كتف ابنه ليحملها وهو صاعد ليقدمه ذبيحة كما حمل المسيح خشبة الصليب ليقدم ذاته ذبيحة. وفي عبور الشعب من مصر إلى أرض الموعد ورمز الملكوت أرسل الرب ضربة موت الأبكار لم ينقذ الشعب إلا دم خروف الفصح ووضع الدم على العتبة العليا والقائمتين لتكون علامة الصليب هي علامة الخلاص والتي تنجي من الموت. وكان خروف الفصح نفسه يقدم على سيخين متعارضين أي على شكل صليب ويقول المزمور: "الرب قد ملك على خشبة" (مز 95) وهي من النبوات العجيبة لأن في الفكر اليهودي عرش اللـه له صورة حسب رؤيا إشعياء وحزقيال بالمجد والكرامة والبهاء ولكنه يقول إنه يملك على خشبة. وقد تحققت هذه النبوة العجيبة بالصليب إذ ملك المسيح الإله المتجسد على خشبة الصليب، وصار ملكاً لكل النفوس التي أمنت واتحدت به. ولعل هناك من يشكك في موت المسيح على الصليب. وكان أول هؤلاء الفلاسفة الغنوسيين الذين صاروا مسيحيين فهم حسب فلسفتهم السابقة للمسيحية كانوا يحتقرون المادة وعلموا بفكرهم أن المعرفة تخلص. فرفضوا التجسد الإلهي ورفضوا الخلاص بالصليب. فقالوا إن سمعان القيرواني حين حمل الصليب بدلاً من السيد المسيح في الطريق وضع اللـه شبه المسيح عليه فقادوه ليصلب بينما المسيح صعد إلى السماوات أي أن المصلوب شبه لهم به والذي وضع الشبه على سمعان القيرواني هو اللـه لينجي المسيح نفسه. ولا أدري كيف لإنسان عنده عقل أن يؤمن بهذا الفكر الساذج وكيف لأحد أن يقتنع بهذه القصة الهزلية للأسباب الآتية: أولاً: الصليب نفسه هو عملية فداء من المسيح للبشرية كلها فكيف يقبل أن يصلب أخر نيابة عنه هو؟ ثانياً: أي شخص أخر يصلب بدلاً عنه تسقط فكرة الفداء والذبيحة الخلاصية وبالتالي سقط معها فكرة عمل اللـه لخلاص البشرية كلها بالتجسد ومعها أيضاً يكون كل التدبير الإلهي للخلاص بلا معنى والمسيحية نفسها بلا معنى. ثالثاً: وماذا عن النبوات التي تقول بأنه هو المخلص وخاصة ما قاله إشعياء النبي: "إن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 53: 10)، والمزامير التي تتكلم عن الصلب مثل: "ثقبوا يدي ورجلي" (مز 22: 16) رابعاً: ولماذا هذه القصة الغريبة؟ فإذا كان الهدف هو ألا يصلب المسيح فكان يمكن أن يصعد المسيح إلى السماء دون أن يضع شبهه على آخر يصلبه. خامساً: وماذا عن كلمات المسيح عن نفسه أنه سيتألم ويصلب؟ وماذا عن قيامته؟ وماذا عن كلمات الرسل عن الصليب؟ وماذا عن المسيحية نفسها وقوة عمل المسيح فيها بالصليب؟ سادساً: وماذا عن التواتر والذين شهدوا بهذه القصة من اليهود والرومان قبل المسيحيين أنفسهم يقول مؤرخ روماني اسمه "تاسيثوس" عاش من عام (56 – 120 م.) في كتاب اسمه "الحوليات" عن حريق روما: "يقول نيرون أن المسيحيون هم المتسببون في حريق روما، والمسيحيون هؤلاء أخذوا الاسم من واحد حكم عليه بيلاطس بالموت صلباً". ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر لأحداث الخلاص: "المسيح هو شخص حكم عليه بيلاطس البنطي بالصلب". وفيلسوف أخر اسمه "لوسيان" من أشهر فلاسفة الوثنية عام 100 م.: "المسيحيون لا يزالون إلى الآن يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي صلب في فلسطين ويؤمنون أنه يدخلهم الجنة". ويقول فيلسوف أبيقوري اسمه "كلسوس" وهو يتهكم على المسيحية عام 170 م. في كتابه "البحث عن الحقيقة": "أولئك صلبوا إلهكم". وكُتب في أحد نصوص التلمود: "في ليلة عيد الفصح علق يسوع الناصري على الصليب". ولدينا الآن الكفن المقدس الذي عكف مئات العلماء بالتقنية الحديثة ببحث دقيق ليخرجوا للعالم أسرار عملية الصليب والقيامة ليكون شاهداً في زماننا أمام هؤلاء المشككين والملحدين. ونعود إلى أحضان كنيستنا ومسيحيتنا لنرى الرسل يخبرونا بقوة وعمل الصليب ويقول معلمنا بولس الرسول: "لكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة!" (1 كو 1: 23)، ويقول: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غلا 2: 20)، ويخبرنا المسيح نفسه عن صلبه وقيامته كثيراً حتى بعد قيامته في حديثه مع تلميذي عمواس. وظل الآباء يكتبوا عن عمل الصليب منذ الكرازة الأولى للمسيحية حتى الآن فيقول مار أغناطيوس عام 107 م. في رسالته إلى سميرنا: "لقد تألم المسيح من أجلنا ليخلصنا". وفي رسالته إلى أفسس: "يسوع المسيح هو الذي صلب لأجلنا". ويقول القديس بوليكاربوس عام 155 م. في رسالته إلى فيلبي: "كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو ضد المسيح. ومن لا يعترف بشهادة الصليب فهو من إبليس، ومن ينكر القيامة هو من الشيطان". والكنيسة في طقسها الرائع في عيد الصليب تعمل دورة الصليب، يدور الكاهن والشمامسة في الكنيسة ليعلنوا ملكوت المسيح بالصليب فيقفوا عند المذبح والأيقونات والأبواب ويتلون الألحان وفصول الكتاب المقدس التي تعلن عن ملكوت اللـه الذي فيه الخلاص والقديسين بالصليب. ولعل هناك أيضاً من يسمون أنفسهم مسيحيون ولكنهم لا يرسمون الصليب لأنه لا توجد آية في الكتاب المقدس تقول إن نرشم الصليب، ولهؤلاء نقول أن الصليب هو حياة القوة عند القديسين فهو قوة اختبار وحياة دائمة لكل من آمن بالمسيح. وكانت علامة الصليب هي قوة عبر العصور. فيقول القديس باسيليوس: "الرسل سلمونا أن نرشم الصليب ونقول باسم الآب والابن والروح القدس". ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: "الصليب ختمنا الذي نضعه بشجاعة على جبهتنا بأصابعنا ونرشمه على كل شيء". ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "صارت علامة الصليب ترسم على ملابس الملوك وتيجانهم، وترسم في الصلوات على المائدة المقدسة ليرتفع الصليب بكل قوة في كل مكان". ويقول البابا أثناسيوس: "بالصليب يستطيع الإنسان أن يطرد كل خداعات الشياطين". ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "الشيطان يفزع من الصليب لأنه يرى السلاح الذي به جرح والسيف الذي تلقى به الضربة المميتة". أحبائي اليوم عيد الصليب يقول البابا أثناسيوس: "أنه تذكار الانتصار فوق الموت والفساد". لذلك أفرح يا عزيزي لأن مسيحك الذي أحبك أعطاك اليوم قوة لا يمكن للعالم أن يغلبها. فأنت قوي بالصليب ولابد أن تشعر بوجودك الشخصي اليوم مع المسيح في الصليب. في لوحة شهيرة رسمها الفنان "رمبرانت" عن الصليب رسم فيها السيد المسيح مصلوباً ورسم حوله جموع كثيرة كانت حاضرة منهم من كان مشتركاً في صلبه ومنهم من كان حاضراً ويبكي. ولكن الغريب أن الفنان رسم نفسه أيضاً وسط هذه الجموع. القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة أبي سرجة مصر القديمة
المزيد
06 أبريل 2021

الجهاد الروحي

يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي: أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة فالتوبة هي: التحرر من عبودية الخطية والشيطان. ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله. يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة. تغيير شامل لحياة الإنسان. ثانيًا: السعي نحو نقاوة القلب والفكر * التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26) مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16) ثالثًا: احترزوا.... (مت6: 1-18) (1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ: الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء.. العطاء الخفي. الأضرار: العطاء الظاهر.. أخذنا أجرة من الناس.. "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4). التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء.. كيف.. لماذا.. فائدتها. حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك. (2) الصلاة في الخفاء: "ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8).الصلاة في الخفاء.. غلق باب الحواس. الاهتمام بالصلاة المستمرة.. وخاصة صلاة القلب.عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين. (3) الصوم في الخفاء: "ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق). رابعًا: لا تكنزوا.. (مت6: 19-21) عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز).. وهذا هو التحذير الثاني. الجهاد ضد القنية وحب المال.. "مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10) "لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24).أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟ المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها.التحذير من المال.. يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ.المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ. "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود). خامسًا: سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ نقاوة الحواس. العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان.. فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر.."فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23).العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه.. (عفيف، شهواني، ماكر، غضوب...). حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية.العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...).فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ.."لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33)لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
13 أبريل 2021

قوة الإرادة

تقوية الإرادة من الفوائد المهمة التي يساعدنا الصوم على اقتناءها، والتي تُسْتَفَاد من الصوم.. والصوم من أهم التدريبات التي نأخذها في حياتنا لِتَقوية الإرادة.. فبعض الأشخاص تكون نِيَّتهم حسنة ويريدون أن يفعلوا أفعالًا جيدة، ولكن لضعف إرادتهم لا يستطيعون اتخاذ القرار. وقد يكونون أشخاصًا مُعتدلين وذو وقار وهيبة، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار لصالِحهم أو لصالِح الآخرين.. فهذا عيب في الشخصية، وهو ضعف الإرادة. ولذلك عَلَّمتنا الكنيسة أن الصوم تدريب روحي لِتَقوية الإرادة، فالأمس كنا نأكل ونشرب كل ما نشتهي ولا نمنع أنفسنا عن شيء، ولكن بحلول الصوم واندماجنا فيه نستطيع أن نقول للفم: "سوف لا تَذُق هذا الطعام فترة من الزمن". وأُخاطِب حاسة الشَّم التي تَشِم وتَشْتَهي المأكولات المُحَبَّبة قائِلًا: "سوف لا أعطيكي ما تشتهينه". وسوف أَتَحَكَّم في نظري الذي يَتَلَهَّف على رؤية المأكولات والمشروبات الشهية وأقول لعيناي: "سوف لا أعطيكي ما تَشْتَهينَهُ". فدائِمًا الشهوة تَلِد خطية: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (رسالة يعقوب 1: 15).وهنا تبدأ إرادة الإنسان أن تَتَقَوَّى رويدًا رويدًا حتى يصل الإنسان إلى أن يصبح صاحِب قرار قوي دون تَرَدُّد، يستطيع أن يُفَكِّر ويَتَغَلَّب على الصِّعاب ويتخطَّى كل المعوقات، بِحُسن تفكيره واتخاذه القرار المُناسِب في الوقت المناسب. ولا نَحِد الكلام هنا عن ملاذ الجسد من مأكولات ومشروبات، فالمُحارَبات كثيرة، ولا تُحصى فتعالى بنا ننظر أيها الحبيب عن تجارب السيد المسيح المُعْلَنة على الجبل، وكيف تَصَدَّى لها بكل قوة، لِيُعَلِّمنا كيف نَقِف أمام حِيَل إبليس ومُحارَباتهُ المُتَعَدِّدة فِعندما يجوع الجسد يكون الفِكر مُنْشَغِل بكيف آكُل، ومتى، ونوعية الطعام، وغير ذلك من الأفكار الكثيرة.. فَمَع جوع الجسد يكون مُتَلَهِّفًا للغِذاء، وقد يَصِل الإنسان إلى عدم التمييز بين الأكل الضار أو المُفيد، فهو مُهْتَم بِسَدّ الجوع بشبع أيًّا كان هذا الأكل. وهنا تَبْرُز إرادة الإنسان: هل هي قوية أم ضعيفة؟ هل يُحْسِن الاختيار، أم يأكُل ما يَضُرّهُ أكثر من الجوع.. "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا" (إنجيل متى 4: 2) حسب طبيعته الناسوتية، ولكنه كان قوي الإرادة أمام حَرْب الشيطان عندما خاطَبهُ حسب طبيعتهُ اللاهوتية: "فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا»" (إنجيل متى 4: 3)، فكان رد السيد المسيح عليه بكل قوة لِيُعَلِّمنا أن ليس غِذاء الجسد هو الذي يُحيي الإنسان، ولكن كلمة الله الحية هي التي تُحيي الروح والجسد أيضًا: ".. لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (سفر التثنية 8: 3؛ إنجيل متى 4: 4؛ إنجيل لوقا 4: 4)،وهكذا انتصر على شهوة الجسد.وهكذا في التجربة الثانية التي وُجِّهَت إلى شهوة العيون والامتلاك والعَظَمة عندما أخذه ".. وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»" (إنجيل متى 4: 5-7). نجِدهُ بقوة إرادته انتصر على شهوة العيون.وفي التجربة الثالثة أخذه لِيُريه مجد العالَم: ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (إنجيل متى 4: 8-10). وهكذا انتصر السيد المسيح مُمَثِّلًا للبشرية كلها على تَعَظُّم المعيشة ومجد العالَم الفاني.إذًا، فلنأخُذ هذه التجارب وكيفية النُّصرة عليها مَثَلًا حيًّا لنا في حياتنا لنستطيع أن نُقَوِّي إرادتنا الضعيفة، ونقف أمام خَديعة الشيطان المُسْتَمِرًّة، ونقلع عن الخطية المُسَيطِرة علينا بقوة السيد المسيح الذي صام عنَّا ليعطينا مِثالًا لكي نَتبع خطواته. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
06 أكتوبر 2021

فوائد النسيان

كثير من الناس يشكون من أنهم ينسون، ويسألون باستمرار عن علاج للنسيان.. وحقًا إن للنسيان مساوئ كثيرة ومع ذلك فلكي ننصفه، نقول إن هناك ولا شك فوائد للنسيان النسيان على أنواع. هناك نسيان ضار ليس هو الذي نقصده في هذا المقال. فمن الخطأ طبعًا أن ينسى المرء واجباته الدينية أو واجباته العالمية. ومن الخطأ أن ينسى عهوده ووعوده ومواعيده. ومن الخطأ أن ينسى فضل الناس عليه أو ينسى بالأكثر إحسانات الله العديدة.. الخ على أن النسيان ليس كله شرًا، لقد سمح الله به من أجل نفع الإنسان وفائدته، لو أحسن الإنسان استخدامه.. فالإنسان الحكيم يعرف متى ينبغي أن يذكر، ومتى ينبغي أن ينسى. فلا ينسى حيث يجب التذكر، ولا يتذكر حيث يجب النسيان.. وسنحاول في هذا المقال أن نشرح بعض المجالات التي يحسن فيها النسيان.. فمن فوائد النسيان مثلًا أن ننسي إساءات الناس إلينا ننساها لكي نستطيع أن نصفح وأن نغفر. وننساها لكيلا يملك الغضب على قلوبنا من جهتها ننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية الذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يحب الجميع، ويملأ السلام قلبه من جهة الكل. ويستطيع أن يقابل كل أحد ببشاشة، ولا يختزن في قلبه شرًا من جهة أحد لذلك إن أساء إليك أحد، لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك. ولا تجلس مع الناس وتحدثهم عما فعله بك هذا المسيء لا تفكر في هذا الموضوع، ولا تتكلم فيه، لئلا يرسخ في ذاكرتك وفي قلبك، ويتعبك ولا تنسى فقط أخطاء الناس، إنما إنس أخطاءهم عمومًا. لو تذكرت على الدوام أخطاء الناس، لاسودت صورتهم في نظرك، ولعجزت عن أن تجد لك في الناس صديقًا كل الناس لهم أخطاء، ولو تذكرنا لكل واحد أخطاءه لما استطعنا أن نتعامل مع أحد وربما يدخل الشك إلى قلوبنا من جهة الناس جميعًا وربما لا نستطيع نتكلم باحترام مع كل أحد إن الله لا يضع أخطاءنا على الدوام أمام عينيه، فلنفعل هكذا مع الناس يقول لنا الإنجيل المقدس: "بالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم ويزاد". ليتنا إذن ننسى أخطاء الناس، لكي ينسى الله أخطاءنا. وفي نفس الوقت الذي ننسى فيه أخطاء الناس، ينبغي أن نذكر خطايانا الخاصة، لكي نصل إلى حياة الاتضاع قال القديس الأنبا أنطونيوس (إن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله) إذن اذكر خطاياك، وانس خطايا غيرك.. فإن هذا يقودك إلى الاتضاع وإلى المحبة أما الإنسان المتكبر أو غير المحب فإنه على العكس: دائمًا ينسى نقائصه الخاصة، ودائمًا يذكر أخطاء غيره. وقد يتحدث عن خطايا الناس، ويتضايق إن تحدث الناس عن خطاياه. كذلك من النسيان النافع، أن تنسى فضائلك، أو تنسى الأعمال الحسنة التي شاءت نعمة الله أن تعملها على يدك.. إن عملت خيرًا أو إن عمل الله خيرًا بواسطتك، فالواجب عليك أن تنسى ما عملته. لا تذكره، ولا تتذكره. لئلا يوقعك في هذا الأمر في الإعجاب بالنفس أو في الكبرياء، وأيضًا لكيلا تجلب لنفسك مديحًا من الناس يضيع معه أجرك في السماء إذ تكون – حسبما يقول الإنجيل – " قد استوفيت خيراتك على الأرض" الذي يعمل خيرًا، عليه أن يخفى الأمر، ليس عن الناس فقط، إنما حتى عن نفسه هو، بالنسيان. وفى هذا يقول السيد المسيح: "وأما أنت فمتى صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء، هو يجازيك علانية".. حقًا إن الذي يذكر فضائله، أو يظهر فضائله، إنما يقع في الغرور ويفقد ثوابه.. لذلك إنس الخير الذي تعمله، وإن ألح عليك الفكر في تذكره، أو أن تكلم الناس عنك فانسب ذلك إلى نعمة الله وعمله لا إلى نفسك. ومن فوائد النسيان، أن تنسى المتاعب والضيقات.. أحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها.. اجعل الضيقات خارجك لا داخلك. لا تسمح بدخول الضيقات في فكرك أو في قلبك لئلا تتعبك. حاول أن تنساها. وإن ألح عليك الفكر ولم تستطع أن تنسى، حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس، لكي تنسى وعندما تنسى ضيقاتك ومتاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة وهبها لنا الله. وستشكر الله الذي جعلك تنسى.. أليس أن الأطباء يقدمون للمرضى المتعبين بأفكارهم ومشاكلهم النفسية، أدوية لكي تشتت تركيز أفكارهم فينسون.. وهكذا يحاول الإنسان أن يشترى النسيان بالطب والدواء والمال. مبارك هو الله الذي يهب النسيان مجانًا، لمحبيه إنس المتاعب إذن والهموم، لأن تذكرها يجلب الأمراض النفسية والعصبية، وأمراضًا أخرى باطنية كثيرة. من فوائد النسيان أيضًا أن ينسى الإنسان المعثرات التي تجلب له الخطية. فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا.. وإن لم ينسى كل هذا، تظل هذه الأمور حربًا على فكره تضيع نقاوة قلبه. ومن الخير له أن ينسى و قد يقع شاب في مشكلة عاطفية، ويحاول من أجل راحة قلبه أن ينسى وإن استطاع يعترف أن النسيان نعمة عظيمة لذلك حاول أن تنسى كل ما يعكر نقاوة قلبك لا تجلس وتفكر في أي أمر ينجس ذهنك أو مشاعرك إنما إن عبر شيء من هذه الأمور عليك لا تستبقيه ولا تعاود التفكير فيه لكي تنساه. ومن فوائد النسيان أيضًا أن تنسى التافهات لكي تبقى في ذهنك الأمور الهامة النافعة لك ولغيرك تصوروا مثلًا لو أن إنسانًا تذكر كل ما يمر عليه طوال يومه أو طوال أسبوع أو شهر من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق وأيضًا كل القراءات وكل الإحداث، مثل هذا الشخص لا تحتمل طاقة فكره أن تخزن المعلومات اللازمة له والأساسية.. لذلك يسمح الله أن ننسى التافهات لكي تبقى في ذهننا الأمور الهامة فقط تصور مثلًا إذا أردت أن تصلى، وجاءت إلى ذاكرتك كل الأخبار والأحاديث التي عبرت عليك في يومك!! هل تستطيع حينئذ أن تركز فكرك في الصلاة. كذلك إن أراد أحد أن يذاكر درسًا، أو أن يكتب بحثًا، أو أن يناقش موضوعًا هامًا، أتراه يستطيع ذلك وفي ذهنه كل التفاهات التي عبرت عليه في يومه أليس من صالحه أن ينساها؟! ولو إلى حين إن النسيان إذن عملية غربلة حيوية تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعارف والمعلومات والمناظر والسماعات والأخبار، فتستبقى منها النافع، وتترك ما لا يفيد حاولوا إذن أن تتحكموا في ميزان ذاكرتكم، ولا تستبقوا فيها إلا كل ما يفيدكم أما الباقي فانسوه فلمثل هذا أوجد الله النسيان.. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
28 ديسمبر 2022

الله مغلوب من محبته

لا توجد خطية تغلب محبة الله، لأن الله مغلوب من محبته، هو قال لعروس النشيد: "حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني " (نش 6 : 5). إن دموعنا أغلى عند الله من الوصية التي كسرناها، التوبة حصن يركض إليه الخاطئ مثل مدن الملجأ، الله نفسه هو الذي دعانا لكي نتفاوض ونتفاهم " هلموا نتحاجج ..." إنه يبحث لنا عن مخرج .. عن حلول. الله يريد أن يخلّص على كل حال قوماً، مثلما يودّ الشيطان أن ُيهلك على كل حال قوماً .. إن المشكلة هي في الخاطئ نفسه، فهو يخطي ويهرب من الله، وربما يسأله الله: أين أنت ؟ " فنادى الرب الإله ادم و قال له أين أنت" (تكوين 3 : 9) فيدافع عن نفسه ويبررها. الله يريد أن يمتلئ عرسه بالمدعوين هو أعدّ كل شيء وأعد لنا مكاناً في الملكوت. باب التوبة مفتوح وأمامه باب المغفرة. إن نهاية العام فرصة ثمينة للتخلّص مما يثقّل أعناقنا من خطايا، ونحن نشكر الله لأننا ما زلنا أحياء حتى الآن، والفرصة متاحة لنا لكي نقدّم توبة نقية، ولكي نبدأ عاما جديدا خالياً من الخطايا. وليكن عاماً مثالياً نحقق فيه ما لم نستطع تحقيقه في العام الذي أوشك على الانتهاء. هوذا صوت الرب المطمئن " من يقبل إلي لا أخرجه خارجا" (يوحنا 6 : 37). نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل