المقالات

15 أكتوبر 2021

مثَل حبة الخردل ج2

-2- لقد قلتَ لرسلك الأطهار، مشجعًا حياتهم في الإيمان: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ». إنّ حبّة الخردل صلبة جدًّا، في صغرها المتناهي. تحمِل أيضًا صفات الإيمان الصلب الذي لا يلين، إيمان الأقباط نَقَلَ الجبل فعلاً، وهي معجزة لا ينساها الأقباط مهما مضى عليها من زمن، فهي حدثت في أيام البابا أبرام بن زرعة، وحُكم المُعِزّ لدين الله الفاطمي، حدَثَت في وضح النهار وقدّام جماهير المصريين، انتقلَ الجبل وسار بقوة الإيمان، المشبَّه بحبّة الخردل.. إيمان لم تَنَلْ منه التجارب ولا الاضطهادات، ولا شكوى عدو الخير.. بل زادته التجارب صلابة وقوّة، وصقَلته المحن والضيقات.. فهل تسند إيماني بك وتوطِّد رجائي فيك. ولكن هذه البذرة يا مخلصي، لابد أن تَسقط في الأرض وتموت، كقولك عن ذاتك وصليبك «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو12: 24).. هذا قلتَه يا مخلصي الصالح عن موتِك المُحيي. لابد أن تعاني بذرة الملكوت في القلب، ما تعانيه البذرة، حبّة الخردل في تراب الأرض، لابد أن تصارِع حتى الموت في مواجهة عوامل الفناء والموت والتحلُّل.. تموت لتنمو، تُدفَن لتقوم، تتحلّل لتصير أعظم.. تفنى في باطن الأرض لترتفع إلى السماء.. سرّ عجيب!! والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني، من أين هذه الفروع العظيمة، الكبيرة؟ مِن تلك البذرة المتناهية في الصغر. من أين أتت الحياة المُزهِرة التي للقدّيسين حتى صاروا عظماء ممجَّدين في كلّ العالم؟ مِن حبّة الخردل الصغيرة في القلب، من بذل الحياة والفناء من أجل ملكوت الله. فلما كمُل البذل وإنكار الذات وحمل الصليب، أخرجَتْ شجرة الملكوت، وأغصانها صارت تملأ الدنيا كلّها. وصارت حبّة الخردل سبب راحة وخلاص لطيور السماء، صارت مسكنًا لألوف، وعشًّا تضع فيها أفراخها للإكثار، وملجأ من السيل والحر، ووطن للغريب. متى يُستعلَن ملكوت الله، ينمو ممتدًّا حتّى يظلّل على الكثيرين؟ إنّ حبة الخردل تبدو بلا فائدة وبلا قيمة حتى تتحوّل إلى شجرة عظيمة. أي لا تصير لذاتها أو قائمة بذاتها بل تُصبِح وتعيش للآخرين. علِّمني الخروج من ذاتي وإنكار ذاتي، بل وبذل ذاتي. هكذا سيظل ملكوتك يا إلهي محصورًا فيَّ إلى أن يُستعلن خادمًا للآخرين، يأوي إليه طيور السماء.. - أغصان حُبّ ورحمة تظلّل الضعفاء.. أغصان اتضاع ومسكنة تحمل الأثمار. ومِن ثقل الأثمار تراها متّجهة إلى أسفل.. - أغصان قداسة تفيح رائحتها، تملأ المسكونة من رائحة المسيح الزكية..أغصان زيتون الروح الجُدُد المتجدّدين، محيطين بمائدة المذبح. - أغصان خشبة الصليب، وحمل الصليب، وحبّ الصليب.. أتوسل إليك أن تصير حبّة الخردل التي ألقيتَها في أرضي.. في قلبي، واستودعتها سرّ حياتك الخاصّة، فصارت كائنة من أقاصي المسكونة إلى أقصاها. وها أنا أطلب في الصلاة أن تحفظها بسلام. + قلتَ يا سيدي عن حبّة الحنطة «إِنْ لَمْ تَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا».. إنّ قِشْرتها الصغيرة تجدها في حجمها الصغير، فلابد أن تنحل هذه القشرة، وتتكسّر وتفنى في تراب الأرض، لتعطي فرصة للجنين الحي ليشقّ طريقه، مثل قشرة البيضة محيطة بالفرخ الحي، لابد أن تتهشم ليخرج هو إلى الحياة. القشرة الخارجية هي الذّات التي أحرص عليها، والمظهر الخارجي، وحياة إنساني الخارجي، إنسان الجسد والتراب. إنكار الذات والتفريط فيها، وجحد مشيئتها وصلب الجسد مع الأعضاء.. و«مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ» (رو8: 36).. كلّ هذا تعبير عن خلع العتيق ليفسح مكانًا للجديد. + إنّ النمو والزيادة، هما قانون حياة الروح وملكوتك يا إلهي. فحبّة الخردل، لا تبقى دومًا محجوزة داخل قشرتها الصغيرة، هذا مستحيل.. فما أن تبدأ رحلة نموها حتى تحطِّم كلّ مقاييس الصغر. ملكوتك زيادة، لا تعرف النقصان، يُفاجَأ العالم بها وإذ هي شجرة كبيرة.. نمّيني في النعمة، وفي معرفة ربِّي يسوع المسيح.. اجعلني أنمو كلّ يوم، دَعْ بذرة الملكوت تنمو داخل قلبي كلّ يوم. + الكنيسة هي ملكوتك يا إلهي على الأرض، وهي الملجأ والظلّ، ومكان الاحتماء «العُصْفورُ وجَدَ لهُ بَيْتاً واليَمامَةُ عُشّاً لِتضَعَ فيهِ أفْراخَها، مَذابِحُكَ يا رَبُّ إلَه القُوّاتِ مَلِكي وإلَهي. طوبَى لِكلِّ السُّكانِ فى بَيْتِكَ» (مز83 أجبية). الصليب صار كحبّة الخردل، عندما زُرع في الأرض، وارتوى بدم المسيح، صار شجرة أبدية، تحت ظلّه تشتهي النفوس أن تبيت وتستريح. وطيور السماء المُحلِّقة في الروحيّات لا تجد راحتها سوى في الصليب يا إلهي.. كلّ من أوى إلى أغصان الصليب يكون قد دخل لكي يحتمي تحت جناحيّ المسيح. والآن.. هل وصلتْ إليَّ كلمة الملكوت؟ هل وجدَتْ في قلبي مكانًا تختبئ فيه؟ هل وجدَتْ فيه رطوبة وليونة وسقي ماء الروح؟ هل وجدَتْ أيضًا عمقَ أرضٍ حتى تفسح لها مكانًا تعمل فيه جذورها لتتأصّل؟ إن وجد كلّ هذا، فكلمة الملكوت سوف يُستعلَن وجودها لا محالة. سوف تظهر أغصانها ويمتدّ الملكوت فيَّ وبيَّ. ولكن أنا أعلم أنّ ساق النبات وأوراقه يظهر في مرحلة أولى، بينما الأثمار هي آخر مراحله. فأطلب إليك وأتوسل أن تتأصّل فيَّ كلمة الملكوت، لكي أُثمر لك يا إلهي ومخلّصي. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
08 أكتوبر 2021

مثَل حبة الخردل

-1- «وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا» (مر4: 30-33). ~~~~~~~~~ هكذا يا مخلّصي أعلنتَ سرّ ملكوتك في كلمات بسيطة ليدركها أولادك البسطاء، فالأمر يا سيدي ليس فلسفة كلام، فملكوتك ليس كلامًا ولا خيالاً، بل هو حقّ كلّ الحقّ. وحبّة الخردل الصغيرة تُلقيها أنت بذاتك في القلب. ولكن فيها سرّ الحياة، سرّ الخلود. وأنا أؤمن يا سيدي أنّ زرعك الإلهي كائن في داخلي. وقد نبّهت رسلك الأطهار قائلاً: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ» (مت17: 20). ليس الأمر يخصّ نقل الجبال، وإن كان هذا قد حصل فعلاً بقوّتك في ساعة ضيقة أولادك الذين وقع عليهم الاضطهاد.. ليس عسيرًا عليك يا إلهي أن تنقل الجبال، فأنت خالق الجبال. لكن على ما يبدو لعبدك أنّك توجِّه ذهني إلى أنّ الإيمان يقدر على المستحيل، لاسيّما فيما يواجه عبدك من تجارب وحروب، أو ما يبدو عائقًا أمام نمو عبدك. فالإيمان بك يجعل الجبل سهلاً ويُزيل العوائق.. أتوسّل إليك بحقّ حبّك الحاني أن تجعل هذه البذرة تنمو في قلبي.. في أعماقي. + يا سيدي الرب.. ما أكثر ما شبَّهت ملكوتك ببذور النبات، تسقط على الأرض وتُدفَن وتموت فيها، ثم تحيا، وتنبت، وتعطي أثمارها.. وفي الواقع فإنّ تعليمك يا مخلّصي مُنصبٌّ دائمًا على كون البذرة هذه تحوي سرّ الحياة الأرضية، فهي والحال كذلك تصير أصدق تعبير عن سرّ الحياة الدائمة الذي هو ملكوتك الأبدي. إنّ سرّ الحياة الأرضية، لم يصل إليه عِلم العلماء، ولا فهم الفهماء بعد. إنّ كلّ ما يعرفه العلماء هو مظاهر الحياة. أمّا ماهيّة الحياة، فهذا أمر يفوق مستوى الإدراك البشري، إذ أنّ الحياة مستمَدّة مِنك يا إلهي الحيّ الأبدي الأزلي الذي يُدرَك ولا يُدرَك كماله، كما يقول أحد أولادك. فمظاهر الحياة في الكائن الحيّ مُدرَكَة بالحواس: كالتنفّس، والحركة، والنمو والتكاثر والتغذية، إلى آخر هذه الظواهر التي لا تخطئها حواس الإنسان مهما كان بسيطًا في إدراكه. وهذا ما يميّز الكائن الحي من الميت. أما إدراك الحياة ذاتها، فكيف يُدرَك غير المحسوس بالحواس؟ + إنّ اختيارك يا سيدي في هذا المثل، لِحبّة الخردل، ووصفها بأنّها أصغر جميع البذور، ولكن فيها يكمن سرّ الحياة، فقط هيِّئ لها تربة صالحة، وتعهّدها بسقي الماء، وأعطها وقتًا للنمو، ثم تأمّلها.. إنّها أعجوبة وآية باهرة، حيث تصير أكبر من جميع البقول وتصنع أغصاناً كبيرة. وهذا هو صميم عملك في امتداد ملكوتك. والاعتبار الأول الذي تَنَبَّه ذهني إليه في هذا المثل، أنّ الحبّة صغيرة متناهية في الصغر، فهل من هذا الصِغَر يمكن أن تخرج شجرة كبيرة؟! إنّ ملكوتك يبدأ داخل القلب كبذرة صغيرة، كحبّة خردل. وأنّ ملكوتك داخل العالم يبدأ كبذرة صغيرة كحبّة خَردل. ماذا كان الرسل بالنسبة لحقل العالم المتّسع، المترامي الأطراف يا سيدي؟ لقد كانوا قِلّة صغيرة جدًّا، اثني عشر تلميذًا، وسبعين رسولاً. ما هؤلاء بالنسبة لملايين البشر، هل تستطيع حبّة الخردل هذه أن تنمو، أن تُخرِج أغصانًا، أن تصير شجرة كبيرة تأوي إليها طيور السماء؟ لقد حَوَتْ سِرّ الحياة الأبدية، الحياة هي المسيح، لقد حمل التلاميذ سرّ حياة المسيح فيهم، وسرّ الحياة يتحدّى كلّ معوّقات الطبيعة وكلّ ظلمة الأرض وبرودتها المائتة.. أتوسّل إليك أن تستودع قلبي سرّ الحياة هذه! إمكانيّات الرسل كانت ضئيلة، لا عِلم ولا معرفة علميّة، ولا صيت ولا اسم، ولا مركز ولا سُمعة، ولا أموال، ولا مقتنيات، ولا كيس ولا مزود، ولا حتى عصا للطريق، ولا ثوبين.. حقًّا كانوا كحبّة خردل، صغيرة، صغيرة في كل شيء. ولكن هذه الحَبّة، إذ روتها دماء الشهداء، وعَرَق النسَّاك، ودموع التائبين، نَمَت بسرعة أذهلت العالم، وصارت فروع أغصانها تظلّل المسكونة، إذ تعهّدتها يا واهب الحياة، إذ وضعت حياتك فيها واستودعتها روح الحياة، نبتت ونمت وأخرجت أغصانها. ملكوتك يا إلهي، ليس بالقوة ولا بالقدرة، هو كخميرة صغيرة ولكن حيّة. هو قطيع صغير ولكن راعيه الحنون قائم يرعاه، والآب سُرَّ أن يعطيه الملكوت. لا أخاف إذا وجدتُ نفسي كحبّة الخردل، صغير في وسط العالم، أو في وسط المجتمع، أو حتى في وسط أهل بيتي. إنّ الإنسان الأمين لإلهه يبدو كحبّة خردل في وسط بذور الشرّ المنتفخة والمتضخّمة بالكذب. الشاب الطاهر يبدو كحبّة خردل صغيرة في وسط بذور النجاسة المنتشرة في كلّ مكان. الشابّة العفيفة تبدو كحبّة الخردل الصغيرة في مواجهة تيارات التسيُّب والانحلال. اجعل روحك في داخلى يُطَمْئن قلبي.. إنّ سرّ الحياة فيك، فلا يستهين أحدٌ بك، أنا قوي بحياة إلهي فيَّ، سرّ الدم الإلهي يسري في أعماقي، إنّه سرّ الحياة التي لا تموت، ولا يقوى عليها الموت. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
01 أكتوبر 2021

كلمات روحيّة للحياة

شفاعة السيدة العذراء والقديسين سألني أحدهم كيف نطلب شفاعة العذراء من أجل غفران الخطايا؟ إنّ الغفران فقط بدم يسوع لأنّ دم يسوع يُطهِّر من كلّ خطيّة، وأنّه ليس لنا شفيع عند الآب إلاّ يسوع الذي هو كفَّارة لخطايانا، وليس خطايانا فقط بل خطايا كلّ العالم. وأنّه ليس بأحد غيره الخلاص. قلت لصديقي هذا.. كلّ ما تقوله حقّ.. ولكن دعني أراجع معك واقعة مشوّقة جدًّا، دوَّنها الوحي الإلهي في أيام داود النبي الملك في الأصحاح 14 في سفر صموئيل الثاني. وما حدث عندما قتل أبشالوم ابن داود أمنون أخاه انتقامًا لِمَا فَعَلَه مع أخته من قباحة. وبعدما قتل أبشالوم أمنون هرب من وجه داود وهرب من الناموس الذي كان يحكُم بأنّ القاتل يُقتل. وظلّ أبشالوم هاربًا إلى أن جاء يوآب بامرأة حكيمة من تقوع، ولبست ثياب الترمُّل وجاءت إلى الملك داود كَمَن لها شكوى وهي تصرخ من الظلم وتتوجّع وتقول: "أَعِنْ أَيُّهَا الْمَلِكُ". فلما استفسر داود منها حكت له وضعًا مؤلمًا.. إذ أنّها أرملة، مات زوجها ولها ولدان، تشاجرا في الحقل وقام أحدهما وقتل الآخر. وها كلّ العشيرة حولها تطلب أن تنفِّذ الناموس وهو قتل القاتل. فقالت المرأة.. إنّها والحال كذلك ستعدِم كلا الاثنين. فهي أرملة مسكينة وما الفائدة من تنفيذ الناموس في هذه الحالة.. إنّها تريد رحمة. فقال لها الملك: اذهبي وأنا سأدرس الأمر. فقالت: لا. وتوسّلت إليه. فقال: سأوصي بكِ. فأصرَّت وصارت تستعطف. إلى أن قال لها الملك، وهو صاحب الأمر، لن يموت ابنك. فقد جعلت المرأة القضيّة بين يديّ الملك، وبالتوسُّل والاستعطاف استخلصت للقاتل حكم براءة، وكلمة من فم الملك أنّ الولد لن يموت. قلت لصديقى هذا.. ما رأيك؟! نعم الناموس حقّ وأحكامه حقّ وواجبة النفاذ. ولكن ما رأيك في واضع الناموس وهو صاحب الحقّ كلّ الحقّ في كلّ أحكامه. فإنْ كانت هذه المرأة استطاعتْ بالتوسُّل والاستعطاف أن تصنع هذه الشفاعة، فكم بالحري أمّنا العذراء..؟! هي تقف أمام الملك الديَّان لتشفع في الخطاة، وتستعطِف قلبه نحو بنيها.. هي أمّ القاضي والملك الديَّان.. وهي أمّ الخاطئ المُدان. وبكلّ تأكيد كثيرة هي شفاعتها، قويّة ومقبولة لدى مخلّصنا.. هي تقف كأمّ حنون، قلبها نحو كلّ ضعيف. وهل تؤثِّر خطايا الأولاد وإخفاقاتهم على عاطفة الأمومة؟! وهل يُعقَل أنّ الأمّ تبغض أبناءها بسبب جحودهم أو أخطائهم؟ وهل تنسى الأمّ رضيعها؟! إنّ طبيعة الأمّ الجسديّة وحبّها وعاطفتها في صميم الخليقة شيء مهول، لا يمكن التعبير عنه. فكم بالحري التي صارت أم المسيح، أم الرحمة المتجسّدة. مَن يقدر أن يصف عاطفتها وحبّها نحو أولادها الخطاة أو المرضى أو المتغرّبين عن المسيح؟! شفاعة القديسين: أمّا مِن جِهة أنّ القدّيسين يشفعون ويقفون أمام الله من أجل الشعب، فهذا أمر يخصّنا بالدرجة الأولى إذ نشعر أنّنا فِعلاً في حاجة شديدة لمِثل هذا الأمر. ألَم يقِف إبراهيم أمام الله يطلُب من أجل أشرّ الناس في جيله. وقال وقفتُ أمام المَولَى وأنا تراب. واستعطَفَ الربّ من أجل سدوم.. وهل يوجد أعظم من هذا؟! بل وزاد على ذلك أنّه تجرّأ بحسب الدالة التي له مع القدير، إذ دُعِيَ خليل الله، أنْ يطلُب أن يرحم الرب سدوم بسبب وجود قديسين وأبرار بها. فقال: لا تُهلِك البارّ مع الأثيم. وكان إبراهيم يفتكِر بحسب قلبه الطيّب أنّه لا يمكن أن تخلو مدينة بأكملها مثل سدوم، على الأقل، من خمسين بارًا. ولكن كشفَ له القدير أنّه لو وُجد خمسون بارًا لا يُهلِك المدينة. وظلّ إبراهيم يستعطِف ويطلب، ويتواضع أمام الله، إلى آخِر مَرّة، حتّى قال إبراهيم: اسمعني هذه المرّة فقط، ألا يوجد عشرة أبرار؟ وإذ كان الجواب مِن الله بالنفي، صَمَتَ إبراهيم عن شفاعته في سدُوم. ونالَت ما نالَت من عقاب استوجبته خطايا الشذوذ والنجاسات. ولذلك نقول إنّ حاجَتنا إلى شفاعة القدّيسين شديدة ومُلِحّة للغاية. فقد استخلص أبو الآباء بفعلِهِ هذا أنّ وجود الأبرار في مدينةٍ، يُنقذها من مُكابدة العقاب والغضب. وهكذا يكون في البيت والمدرسة والمصنع والجامعة والكنيسة والمدينة والقرية. إن خَلَتْ من الأبرار أدركها الفناء. + وهذا هو موسى الذي حمَل شعبه على عنقه، بحُلمِه وصبرِه وطول أناته، التي وصفها الكتاب، أنّ الرّجل موسى كان حليمًا جدًّا أكثر من جميع الرجال الذين على وجه الأرض. لما اشتدّ غضب الرب على الشعب العاصي الجاحد للنعمة، والراجع بقلبه إلى مصر مُرتّدًّا عن الذي فداه. وقف موسى أمام الله من أجل هذا الشعب الصلب الرقبة، وقال الرب لموسى: دَعني أفنيهم وأجعلك لأمّةٍ أعظم. فتشفّع موسى في الشعب، وحَجَبَ الغضب الإلهي. وبما له من دالّة تَكَلّم مع الله. قال للربّ: إنْ تفعل هذا امحُ اسمي مِن كتابك الذي كتبتَ. وأرجَعَ الربّ عن حموّ غضبِهِ. ما أحوجنا نحن الخُطاة إلى مَن يقف لأجلنا أمام الله. + قال الرب لإرميا النبي: لا تطلُب من أجل هذا الشعب. ولا ترفع صلاة لأجلهم. وقال «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هذَا الشَّعْبِ». أرأيت هذا الاقتدار لطلبات الأبرار. ألم يقُل يعقوب الرسول إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فِعلِها. + إنّنا لا ننسى أنّ الآية الأولى التي صنعها ربنا يسوع في عُرس قانا الجليل كانت بتوسّلات وشفاعة أمّنا العذراء القديسة. فهي كما يبدو من المكتوب أنّها رأَت أهل العرس وقد صاروا في ورطة بسبب نفاذ الخمر، ربما لكثرة المدعوّين أو رِقّة حالهم كفقراء، وقد يتعكّر صفو الجميع وينقلب الفرح إلى غمّ، ويُلام منهم من يُلام، ويقع في الإحراج ذات العريس وعائلته.. وقد يترتّب على ذلك ما لا تُحمَد عُقباه. رأت الأم كلّ ذلك، وبروحها النقيّة أدركَتْ الأمر قبل أن يدركه أحد، وبحنانها الفائق تقدّمت دون أن يسألها أحد، إذ هي الأم للعريس الحقيقي مَصدَر الفرح. ذهبَت إليه وقالت: ليس لهم خمر. ثلاث كلمات لا غير.. فهي في الإنجيل كلّه صاحبة الكلمات القليلة، ولكنّها صاحبة الدالّة التي تفوق دالّة الملائكة والأنبياء ورؤساء الآباء. طرحت طلبتها وسؤالها من أجل الذين ليس لهم، أمام ابنها الذي له الكلّ في الكلّ. ابنها افتقر وهو الغني بل هو الغِنَى ذاته. ولا أحد يعرِف سرّ إخلائه إلاّ هي. لذلك اتّجهت إليه ليخلّص الذين كانوا في ورطة العوَز والفقر. فهي كانت ومازالت تشفع في المُعوَزين والمعدومين. فإنْ قالت ليس لهم خمر، فهي قائمة دائمًا مازالت تطلُب إليه من جهة كلّ من ليس لهم. فها أناس مِنّا ليس لهم حبّ، بل افتقروا جدًّا في الجحود والعداء. وآخرون ليس لهم فرح بل لهم النَكَد والحزن. وآخرون ليس لهم قداسة بل طُرِحوا أسرى الخطايا. وافتقروا جدًا. وغيرهم ليس لهم اتضاع بل عدِموه بحياة الاعتداد بالذّات وفقر الكبرياء. وغيرهم ليس لهم سلام. وما أكثر مَن أعوزهم مجد الرب. وها هي واقفة أمام ابنها، تَطلُب فتُجاب، وتسأل ولا يَرُد طلبتها. ورغم أنّ استعلان صليبه لم يكن قد حان بعد بحسب كلامه لها، إلاّ أنّه صنع الآية وأظهر مجده. ويا للعجب.. قد كان من الممكن أن يعطيهم ما يكفي، وما نقُص عنهم. ولكن قال: املأوا الأجران.. فملأوها إلى ما فوق.. إلى أقصى اتساعها بدون نقص، 36 صفيحة ماء.. ما هذا الفيض؟! ألا نَذكُر ما قاله فيلبس من جهة الخمسة الآلاف إنّه لا يكفيهم بمئتيّ دينار خبز لكي يأخذ كلّ واحد منهم شيئًا يسيرًا. غِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى يتعارض تمامًا مع الشُّحّ والقِلّة، فهو حين يُعطي بسخائه الإلهي.. «فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً» (لو9: 17). لذلك فاض سخاؤه الإلهيّ للارتواء والشبع وسدّ الإعواز للغنى والفيض. وبالطبع الأمر الجوهري لا يخصّ الخيرات الزمنية ولكن غِنى المسيح أبديّ يخُصّ بالدرجة الأولى الحياة الأبدية. + ألم يُصلِّ أيوب لأجل أصحابه لكي يرفع الربّ عنهم غضبه. لأنّ الرب قال: «قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ» (أي42: 7). فهم إن كانوا يظنون أنهم يدافعون عن الله وأحكامه وعدله، لكنّهم لم ينالوا الرضى لأنّ حياتهم لم تكن على مستوى التقوى والعشرة الحقيقيّة، بل كلام في كلام. فأمرهم أن يأخذوا «سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَاذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ". هذه هي معاملات الله نحو قدّيسيه.. ومختاريه في كلّ الأجيال. لقد بدا أنّ أيّوب يجترئ في الكلام، وظنّوه يتجاوز الحدود في الحديث. ولكنّ تَقواه وصِلته العميقة مع الله كانت تشفع له، فلم يحسِب الرب عليه ما تفوّه به، بل عاتبه وكشف له المستُورات، ورَدّه إلى اتضاعه. وقال للرب: «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أي42: 5، 6). هذه الدالة التي للقدّيسين قد ظهرت بأجلى بيان في نهاية سفر أيّوب. ولولا صلاة أيّوب من أجل أصحابه لنزل بهم غضب الله. فِعلاً طلبة البار تقتدر كثيرًا في فِعلها. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
25 سبتمبر 2021

أُدَرِّبُ نَفْسِي

يقول القديس يعقوب الرسول في رسالته: «إنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ» (3: 7) وذلك عندما تكلّم عن اللسان وكيف أنّه لا يقدر «أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ». فإن كان الأمر كذلك مع طباع الخلائق غير الناطقة فكيف يستقيم الأمر مع الإنسان الذي يفوق ويتفوق على الخليقة؟ والمتأمِّل يرى فعلاً أنّ الإنسان صاحب السلطان على الخليقة، قد أَخضَعَ ودرّب وذلّل طباع الوحوش والطيور وخلافه.. وبالتدريب والتمرين طوّع الطباع المتوحشة وصيّرها تخضع وتطيع. والذي نراه في هذا المجال في العالم كلّه يفوق حدّ التصوُّر، ويصل بالإنسان إلى العجب والدهشة كيف يكون هذا؟! فأنت ترى في السيرك كيف تدرّبت الأسود والنمور والأفيال وهي تقوم بالعروض المُذهِلة التي تخالف طباعها الشرسة والمفترسة.. كيف صارت مُستأنسة هكذا؟ وأيضًا في عالم البحار والكائنات البحريّة كيف طوّع الإنسان هذه الكائنات وأصبحت تقدِّم عروضًا وألعابًا غايّة في الإعجاز. هذا ما كتبه القديس يعقوب، وهذا ما نراه ونسمعه حولنا كلّ يوم وفي كلّ مكان. + نعود إذن إلى الطّبع البشري، وما هو مزروع فينا من غرائز في جسم بشريتنا، وما تربّى فينا من عادات وطباع، منها ما هو موروث، وما هو مكتَسَب من التعليم في المدارس، ومن أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده. ونقول إنّ كثيرًا من هذه الطباع يخصّ الطبيعة البشرية والساقطة، والذي نُعَبِّر عنه بإنساننا العتيق. فطباع مثل: الطمع والعنف والغضب والمراوغة والخبث وحُبّ الذات والشراسة وعدم النزاهة وحُبّ الانتقام والتَشَفِّي. وباقى الطباع الرديّة التي يصعب حصرها. والسؤال: هل هذه الطباع ممكن أن تتغيّر، وهل ممكن أن تُذلَّل. وهل من وسيلة لتدريبها؟ + والحقيقة الإيمانية أنّنا حصلنا بالنعمة على الخليقة الجديدة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2كو5: 17).. وهذه الخليقة والإنسان الجديد ليست فكرًا ولكن فعل ولادة «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23) والإنسان الجديد المولود من الله، قال عنه القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ (زرع الله) يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ» (1يو3: 9). وهذه الطبيعة الجديدة والميلاد الثاني والخليقة الجديدة لإنساننا الداخلي، بها صرنا أولاد الله. فالآن نُدرِك أنّنا بإنساننا الجديد، وخِلقتنا التي نلناها بالنعمة، وتجديد الروح القدس بولادتنا من الماء والروح، صرنا مخلوقين ثانية على شبه المسيح ومثاله كرأس الخليقة الجديدة. وأنّنا بحسب الجسد ورثنا الطبيعة البشرية بكلّ قصورها وعيوبها. وأصبح الأمر بالنسبة لنا واضحًا غاية الوضوح.. وهو إمّا أن يسلك الإنسان بروحه ووعيه المسيحي ويعيش بحسب الروح ويثمر لله ثمر الروح، أو أن يسلك بحسب طبيعته البشرية، ويحيا بالجسد وللجسد وبحسب مفاهيم العالم «إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13)، «مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غل6: 8). «وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ... » (غل5: 19–21)، «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غل5 :21، 22). والصراع إذن قائم بين كياننا وإنساننا الجديد وطبيعة جسدنا العتيقة. والإنسان الروحي مدعو أن يعيش بالروح ويسلك بالروح.. وعليه إذن أن يدرّب نفسه ويُخضِع جسده بتداريب روحية. وكما قلنا سابقًا إن كانت طباع الوحوش تُذلَّل فبالأولى يستطيع الإنسان بالنعمة أن يُدرِّب نفسه ويُقمِع شهواته ويضبط غرائزه، بل يستأسرها لعمل الخير والفضيلة والبذل والحبّ، ويستعمل جسده كآلات بر وصلاح. على أنّنا نرى هذه الوحوش الكاسرة قد أُخضعت بالتدريب المتواصل والمستمرّ وبدون هوادة أو مهادنة.. وإلاّ إذا ما غُفِل عن تدريبها عادت إلى طبعها الأول. فالحال إذن أنّ الطباع التي للوحوش لم تمُتْ ولكنها تدرّبت لتكون على شكل أفضل، وقد اختفى منها ما هو وحشي ومخيف. قال أحد الآباء في هذا المجال -وهو يحيا حياة النسك الكثير والصوم المتواصل- : «نحن غير قاتلين أجسادنا بل قاتلون شهواتنا». فالأمر إذن يكمن في المواظبة بدون اهمال لتدريب النفس وتهذيبها لتخضع للروح، وتتعلّم الخضوع والطاعة فيما تتدرّب عليه. وأي غفلة أو اهمال في التدريب سرعان ما تُظهِر قُبح الطبائع القديمة، حتى لو كانت قد أُخضِعَت لسنين. «الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ» (غل5: 7). + الإنسان الطبيعي بدون المسيح خاضع عنوة لناموس الجسد ومستعبد، حتى إذا أراد أن يفعل الخير يجد الشرّ ماثلاً أمامه، ويجد نفسه مغلوبًا على أمره ويقول: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟» (رو7: 24). أمّا في المسيح، فقد خُلِقَ فينا ناموس روح الحياة في المسيح، وصار فينا روح الله يرشدنا ويهدينا إلى جميع الحق «وهُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 13). هذا الناموس الإلهي يُثمر فينا ثمر الحياة الأبدية. فعمل النعمة يغلب كلّ عوار الطبيعة، ويداوي جراحاتها، ويجعل الإنسان يحيا حياة القيامة والنصرة والشكر للذي أعطانا الغلبة. + أمّا من جهة التدريب، فهو يلذّ لأولاد الله أن يُميتوا أعضائهم التي على الأرض ويقولوا مع الرسول: «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27) وأُدرب نفسي كلّ يوم لكي يكون لي ضمير صالح. وقد أتقن الآباء القديسون في كلّ عصور الكنيسة فنون التأديب، عندما كبرت أرواحهم المؤازَرة بنعمة الروح القدس، وسيطرت على الحياة برمّتها في الكلام والصمت معًا، والتصرُّف والسلوك في المعاملات مع الناس، في أعمال المحبّة والاتضاع، وكلّ الفضائل المسيحية. وبالصلاة المستديمة، وتهذيب النفس بالصوم، وأعمال التوبة في الحزن على الخطايا وتبكيت النفس حتى على الهفوات، والتدريب على ضبط النفس وضبط العين واللسان وجميع الحواس. وكان إذ اتقنوا التدريب، وواظبوا على السهر على خلاص النفس، أنْ تحلّتْ حياتهم بأجمل الفضائل، وظهروا كأنّهم أناس سماويّون، أو كأنّ طبيعتهم مختلفة وأخلاقهم وسلوكهم ليس من هذا العالم. والواقع أنّهم كانوا كسائر البشر ولكنهم اختلفوا جدًّا عندما أَخضعوا إنسانهم الخارجي لأرواحهم، فصاروا بالتداريب وعمل النعمة فعلاً مختلفين. والحياة الروحية ليست قَصرًا على مَن سكنوا الجبال والبراري. ولا التداريب الروحية صارت وقفًا على النُسّاك، بل هي حياة المسيحي أينما وُجد، وفي أي ظروف يعيش. وكلّ واحدٍ على قدر طاقته. وفي النهاية إذ يكون الإنسان قد تدرّب «أَنْ يكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا فِيهِ.. يعْرِفُ أَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ، فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّب أَنْ يشْبَعَ وَأَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ وَأَنْ ينْقُصَ» (في4: 11، 12)، يقدر بالنعمة أن يصرخ بصوت الغلبة: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13). أحتمي فيك واستتر بسترك.. اِجعل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيت إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
18 سبتمبر 2021

«لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ»

قال ربنا يسوع هذا القول الإلهي ليرفع عنا ثقل ونير الهمّ. أولاً: لأنّه مهتم بمستقبلنا، ليس للغد فقط، بل بمستقبلنا الأبدي، فإن كان الأمر كذلك وقد وضعنا الغد في يده، فما أسعده غد! كثيرًا ما نضع أمرًا يخصّنا في عهدة إنسان كبير أو حكيم أو صاحب سلطان من أيّ نوع. ونطمئن أنّ هذا الموضوع صار في عنايته ونحن نثق فيه.. فكم بالأولى إذا سمعنا أنّ أبانا السماوي مهتمّ بنا ويرعى حياتنا بعنايته الفائقة. لقد عرَّفنا الرب يسوع على الآب، وقال: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا أَبَانَا» (لو11: 2)، وقال: «الآب نَفْسهُ يُحِبُّكُمْ» (يو16: 27)، ومن جهة الاحتياجات قال: «لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (مت6: 8).. وقال: «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ (وأنتم أباء) تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت7: 11). ولكشف الأمر بأكثر عمق قال: «حَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ» (مت10: 30). وليس في الأمر تشبيه ولا مغالاة، فقول المسيح هو الحقّ كلّ الحقّ. فتفكر يا أخي أنّ عناية الآب السماوي تشمل حياتك، الأمور الكبيرة والصغيرة معًا.. حتّى شعر رأسك معدود، واحدة منه لا تسقط بدون إذن أبيك. أتذكر لمّا أُصيب أبونا بيشوي كامل بمرض السرطان وبدأ العلاج الكيماوي، تساقط شعر رأسه ولحيته، فلمّا رأى أن‍چ‍يل زوجته منزعجة، قال لها: ألا تعلمين أنّ كلّ شعرة سقطت بإذن الآب. ثانياً: الغد بالنسبة لأي إنسان مجهول.. قال الرسول يعقوب: «أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ» (يع4: 14). فماذا ينفع إن كان الإنسان (يعول) الهَمّ من جهة الغد؟ هل يغيِّر هذا شيئًا؟ أمّا أبونا السماوي فهو غير الزمني ليس عنده ماض ولا مستقبل، بل الكلّ مكشوف، معروف، ليس شيءٌ مَخفيًّا أو مجهولاً. قال الحكيم: «الْغَمُّ (الهم) فِي قَلْبِ الرَّجُلِ يُحْنِيهِ» (أم12: 25) وهذا حقٌّ. الإنسان (عوّال) الهموم، كثير الأوجاع وكثير الأمراض، ليس من جهة الجسد فقط، بل الهموم تجعل نفسه في اضطرابٍ وخوف وتوجس، تُرى ماذا يخبئ الزمن؟ وهذا ضدّ الثقة والإيمان في الله مدبر أمورنا. إنّ حياة الاتكال على الله مريحة، تملأ النفس سلامًا وطمأنينة «أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ» (مز55: 22)، «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟» (مت6: 27). قال لنا ربنا: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا... تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو... إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا» (مت6: 26–30). لنا في حياة أبائنا القدّيسين الذين ألقوا رجاءهم بالتمام على الله، أعظم دروس الإيمان والثقة بالله والاتكال عليه وحده. لقد عال الذين سكنوا الجبال والمغائر وشقوق الأرض. واعتنى بالذين ساحوا (طافوا) جائلين في جلود غنم وجلود مِعزى، مكروبين ومُذلين.. وفى الواقع «لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ» (عب11: 38). ثالثاً: قد تتوقّع بحسب فكرك أنّك ستواجه مشاكل أو أمورًا صعبة أو أشياء مخيفة.. وتظلّ مهمومًا قلِقًا، وقد تأتي الأمور على غير توقع. كنت أقرأ في سفر التكوين عن يعقوب أب الآباء، لما ترك خاله لابان وقصد أن يرجع.. وكان الخوف كلّ الخوف من أخيه عيسو. لقد صارت قطيعة بينهما أكثر من عشرين عامًا.. وقتها هرب يعقوب من وجه عيسو لأنّ عيسو كان مفتكرًا أن يقتله. وقد ملك الخوف على يعقوب وصار يتفكّر عسى ماذا سيحدث، وصار مهمومًا وطار نومه.. وصارعه إنسان حتى الفجر. ولما اقترب من المكان قال: أسترضي وجه أخي بالهدية.. فعمل قطعان صغيرة من الغنم والبقر.. وجعلها تسير أمامه وأوصى الغلمان أن يقولوا: هذه هدية لعيسو. وكان عيسو قد جهّز نفسه للقاء أخيه، ومعه أربعمائة رجل، وهذا ألقى الرعب بالأكثر في قلب يعقوب. ثم من كثرة الخوف أيضًا رتّب بمكرٍ أملاكه وأسرته.. جاعلاً الخادمات وأولادهن أولاً.. ثم ليئة وأولادها.. وأخيرًا راحيل وابنها.. وكأنه يقول إن أصابه الشر.. فأبقى المحبوبة آخر الكل. ولكن للعجب العجاب كانت كلّ هذه التهيؤات وهذا الهم القاتل مجرد نتاج الفكر البشري، الذي إذا سلّم الإنسان نفسه له يتزايد، لأنّ الفكر الرديء لا يقف عند حَدّ. ولك أن تتخيّل كيف قابل عيسو يعقوب بالأحضان والبكاء والكرم والشهامة. وقد نسى الإساءة وغلَّب الحُبّ والأُخوّة، وتبدّدت مخاوف يعقوب، وحسب كلّ ما عاناه من الهم في حساب الخسارة وبقت عنده بقيّة من ظلّ الخوف، فطلب من أخيه أن يرحل واعتذر له أنّه يريد أن يسوق على مهل لئلا يكدّ الأملاك، ثم إذ وصل لم يسكن في كنعان بل عبر الأردن إلى سكوت ثم إلى شكيم. بقِيَ أن ندرك الفرق الهائل بين الهموم والاهتمام: فالاهتمام بالأمور يُظهِر الروح المسيحيّة في العناية والتدبير، ويبرهن على الأمانة في العمل الموكَّل به إلينا لكي نعمله بدِقة وأمانة واخلاص، وهو ضدّ التواكل والكسل واللامبالاة. فالإنسان المسيحي السالك بالتدقيق هو كثير الاهتمام، كثير العمل، دقيق في كلّ طرقه، طالب أن يرضي الرب في كلّ شيء، وبحسب مسئوليته التي من الله يتدبّر الأمور بالحكمة. أمّا أن (يعول) الإنسان الهمّ ويصير مهمومًا، مُضطربًا وخائفًا ومتشائمًا من المستقبل.. فنجده دائمًا قد فَقَد حتى الابتسامة والفرح.. ويُصاب بالكآبة ولا يتوقّع الخير. وهذا كلّه ضدّ الإيمان وضدّ الرجاء بالرب وضدّ الاتكال عليه. قال المرنم: «إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مز23: 4)، وقال: «وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ... فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مز46: 2، 27: 3). وقال عن الرجل الخائف الرب إنّه «لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ. قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلاً عَلَى الرَّبِّ» (مز112: 7)، وقال: إنّ «الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الرَّبِّ فَالرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِهِ» (مز32: 10). يا أخي ضعْ كلمات الرب يسوع أمامك كلّ يوم.. يكفي اليوم.. يكفي أن نُقدِّس اليوم وبعمل اليوم، قال الرب في المَثَل: «يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي» (مت28: 21). وهذا المنهج الإلهي مريح للنفس، يطرد عنها الهموم، إذ تتسلم اليوم جديدًا في كلّ صباح تشكره وتعمل لحسابه على قدر المستطاع. أمّا الغد فهو مضمون بضمان إلهي أنّه في تدبير الرب الصالح، الذي وهو مُخَبَّأ عنّا ولكنّه في يد الآب، كمثل ما يخفي الأب يده عن الابن ويقول له: خمّن ماذا في يدي وماذا أخبئ لك؟ بكلّ تأكيد ما يخفيه الآب هو أفضل وأعظم ممّا نظنّ أو نفتكر. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
27 أغسطس 2021

مَثَل وكيل الظـــلم

«وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ» (لو16: 1–8). يا إلهي الصالح، كُلّيَ الخير، أنت ائتمنتَ عبدك ووكّلته على أموالك، بل جعلتَ الإنسان وكيلاً على الخليقة كلّها. وأخضعتَ كلّ شيء تحت قدميه. فصار الإنسان بنعمتك وكيلاً لله.. لأنّك يا مخلصي جبلتني على مثالك وكتبتَ فيَّ صورة سلطانك.فصار لي بك سلطان.. هو في الواقع سلطانك أنت مالك الكل والمُنعِم على الكلّ. وقد قسَّمتَ بحسب حكمتك وتدبيرك الإلهي لكلّ واحد ممّن وكّلتهم، حدود ما قسمته له، ليكون وكيلاً عليه. فهل يا مخلّصي تصرّفتُ (أنا) كما يُرضي ربوبيتك وصلاحك؟ وهل كنتُ أمينًا كوكيل لك؟ لأنّه «يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ (أن يكون الوكيل) أَمِينًا» (1كو4: 2).الأمانة يا مخلّصي هي الصفة الرئيسية التي يجب أن تتوفّر فيمن يُختار للوكالة.. وبالأكثر إن كانت وكالة أسرارك الإلهية.ألم يضع الروح بفم عبدك بولس شروطًا، هذا عددها للكاهن، كم يجب أن يكون كوكيل لله؟ إن كان في الإيمان، أو طهارة السيرة، أو الحلم، أو عدم محبّة المال، أو البعد عن العنف، أو «أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ» (1تي3: 1–7).هكذا يكون الوكيل المختار للوكالة لكي يؤتَمَن على خدمة قطيعك.. إنّي أرتعب حين أتفكر في جسامة الوكالة التي ائتَمنتَ عليها كهنتك وخدامك!! صار جسدك في يد الكاهن كلّ يوم.. هو مؤتَمَن أن يوزّعه لمن يكون له استحقاق!! وهذا يُرعبني يا سيدي، إن كان الأمر معي يسير على غير ذلك من عدم التدقيق أو عدم التمييز.وهل يستحق إنسان كائنًا مَن كان أن يصير على هذه الوكالة.. لقد وكَّلت الكهنة على غفران الخطايا وقبول اعتراف الخطاة، لكي يغفروا الخطايا على الأرض وأنت بفمك الإلهي قلتَ: «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو20: 23). المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
13 أغسطس 2021

مَثَل الغني ولعازر

«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهًا. وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ... » (لو16: 20–31). المثل صارخ بالمفارقات العجيبة سواء على الأرض أم في السماء،ففى الأرض شتّان بين ذاك الذي عاش في الجسد وللجسد ومسرات الجسد، وغِنى المأكل والملبَس، وما يتبع الغِنى من غرور وخطايا، ونسيان تام للروح أو حاجات الروح، ونسيان كامل لحقيقة أنّ الحياة على الأرض لا تدوم، وأنّ الأيام سريعًا ما تمرّ ويأتي الإنسان إلى النهاية المحتومة.وبين الآخر، الفقير البائس المطروح عند الباب، بلا طعام ولا لباس، وجسده مضروب بالقروح، وليس له إنسان يُضمِّد جراحات الجسد أو النفس. وقد صار عادمًا لكلّ شيء، حتّى ضروريّات الجسد.والمفارقة في السماء أكثر وأشدّ: فالحياة في الأحضان الأبويّة حيث النعيم الدائم والفرح الذي لا يشوبه كدر. لا ألم ولا حزن ولا بكاء ولا تذكار للشرّ، بل تنعُّم وشبع أبدي بالربّ ومجد لا يوصَف. ولا توجَد كلمات تُعبِّر عن الغبطة في ذلك النعيم الدائم.وعلى العكس في مكان العذاب، حيث وجع القلب وعذاب الضمير وحيث «النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ والدُودُ الذى لاَ يَمُوتُ... هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (مر9: 44، لو13: 28). يا سيّدي الرب.. أغنِنى بغِنى كلمتك، لأنّها تُنير في داخلي الطريق إلى الحياة الأبدية، وتكشف لى غوامض كثيرة فما يختصّ بحياتى الأبدية وميراثي في السماء وحضن إبراهيم.. اجعلني في هذه أتفكّر يا سيّدي. وما كتبه الروح بموسى والأنبياء، اجعله في داخلى، يُهديني إلى طريق الاستقامة. وبالأكثر كثيرًا جدًّا ما عملتَه أنت يا إله موسى والأنبياء من جهة خلاص الأبرار، ومن جهة المساكين الذين سيُحرمون من مجد ملكوتك وراحتك.لذلك أتوسل إليك يا سيدي أن تجعل كلماتك في هذا المثل تقودني لمزيد من النور الذي يرشدنى للحياة التي ترضيك، فأبتعد عن كلّ ما يُفسد عليَّ الحياة فيك ومعك وبك.أنت يا سيدي جعلت الحياتَيْن أمام عينيَّ.. حياة الغِنى والترف ولبس الحرير وكلّ ما يختص بتدليل الجسد وراحته، ومن ناحية أخرى حياة المسكين المُعدَم، صاحب الجسد المضروب بالقروح والمُلقى عادمًا كل شيء، وفي حالة العَوَز المُضني والجوع والفاقة، حتى ملء البطن من الفتات. وعندما تنتهي أيّام الأرض، وهي لابد أن تنتهي بهذا أو ذاك، فماذا يكون المصير يا سيّدي؟ لقد استوفى الغنيّ خيراته على الأرض فلم يتبقَّ له خير ولا عزاء بعد. لقد طاب له عزاء الأرض والجسد، فأسلَم نفسه لمطالب الأرض وأفنى أيامه كلّها في الجسد. وانتهى به الجسد إلى التراب، وأحدرته شهوات الجسد إلى الجحيم. قال إبراهيم خليلك عندما ناداه الغني «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ... فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ...اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ».. لقد طلبتَ راحة الأرض وفقط، فماذا لك بالراحة الأبدية؟! لقد كرهتَ أن تتعَب في الأرض، فها أنت تتعب في السماء.. لقد كرهتَ الدموع على الأرض، وسلَّمت نفسك للضحك والملذات، فها أنت تبكي حيث لا ينفع البكاء. يا سيدي اِكشِف عينيَّ فأرى قصدك الإلهي، لأنّ كلامك يُنير الخفايا ويكشف الأسرار.. ماذا تقصد يا رب وماذا تريد أن تعلِّمني فأتعلم؟ الغني اللابس الأرجوان والبَزّ وهو يتنعم كلّ يوم مترفهًا، هذه كانت حياته وكلّ سيرته.. اِنحصر في الغِنى والترف والتنعم، ولِبس الحرير والأكل والشرب.. كانت هذه هي سيرته.دائرة مغلقة تدور حول الجسد وملذّات الجسد ومسرّات الدنيا. ولم تقُل يا سيدي ما يَتبع هذه الحياة الجسدية من خطايا وانحراف، لأنّ ما هو ثمر الجسد يا سيدي؟ أليس هذا هو قول رسولك: «لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13).يا حُزني يا سيّدي.. فإنّ الانحصار في الجسد، والحياة به وفيه وحده، قد صارت حياة كثيرين جدًّا.. كلّ الفكر وكلّ القلب والاهتمام صار للجسد. فأين مكانك أنت يا سيّدي من الحياة؟! أشكرك يا مخلصي الصالح، لأنّك أنرتَ أمامي الطريق بكلامك الحيّ المُحيي، ولأنّك علًّمتَ عبدك وكشفت عينيَّ لأتبصّر في حياتي الأبديّة. قلتَ يا سيدي عن الغَني إنّه «اسْتَوْفَيْ خَيْرَاتُه فِي حَيَاتُه».. أنا أعلم يا سيدي أنّ الغِنى في ذاته من أموال وأملاك ومقتنيات ليس خطيّة، هذه نِعَمٌ تُغدقها بحسب مسرتك، إنّما العيب يوجد في انحراف الإرادة واِنغماس الإنسان في مسرّات وشهوات الجسد. من جهة موت الجسد فهو أمرٌ محقّق، فأيّ إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ فإن كان غنيًّا أو فقيرًا فعند الموت يتساوى كلاهما.فالغّنِيّ مات ودُفن.. ولعازر مات وحملته الملائكة.. الغَنيّ رفع عينيه وإذا هو مُعذَّب في الجحيم.. ولعازر فتح عينيه وإذا هو يتنعم في أحضان إبراهيم.فالفرق واضح يا سيدي ولا وجه للمقارنة.. من جهة الخارج فتمييز الغَنيّ عن الفقير المُعدم واضح، ومن جهة الداخل الذي لا يُرى، فالفرق بينهما كان أكثر مما يتصوّره الإنسان. لقد فصلَهما الغِنَى في الأرض وفرَّق بينهما، أما في الروح فمصير أبدي مختلف صارا فيه على طرفيّ نقيض. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
06 أغسطس 2021

مَثَلُ البـــذار

«وَقَالَ: هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرَ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ» (مر4: 26–29). بذار ملكوت الله يُلقيها الإنسان -يسوع المسيح- ، هو الزارع الزرع الجيّد، في الأرض -التي هي الإنسان المأخوذ من تراب الأرض-، وإذ تضرب البذرة الحيَّة، بذرة الحياة الأبدية، جذورها في قلب الإنسان وتتمكّن منه، تنمو، وتنمو كلّ يوم إلى حياة أبدية. هذا النمو هو استمرار الحياة بروح المسيح، روح القيامة، وهو نمو مضطرد وتجديد مستمرّ. ولكن ما يؤكِّد عليه الرب أنّ النموّ يبدو واضحًا جليًّا كلّ يوم، ولكن كيف ينمو النبات هذا ما لا يمكن أن تسجّله بالملاحظة، أنت تنام وتقوم والنبات ينمو من يوم إلى يوم، إنّه سرّ الحياة.كثيرون حاولوا رصد نمو الملكوت الأبدي في حياتهم في القلب والعقل، ففشلوا وصاروا فى سَجس الضمير، أو وصلوا إلى عقلانيات وتأويلات فلسفية ليس لها شبع. النمو هو عمل الروح، وامتداد الروح، وانتشار الملكوت «مَنْ عَرَفَ (قاس) فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟» (رو11: 34)، ليس بالكيل، «وَلاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك4: 6).الإيمان ينمو، والمحبّة تنمو، وروح الصلاح وعمل مسرّة الله ينمو، الاتضاع ينمو، والرجاء ينمو. كلّ فضيلة تنمو. كيف ينمو ملكوت الله؟ أعطِ مكانًا، خبِّئ بذار الملكوت في القلب فلا تخطفها طيور السماء، تعهّدها بالسهر وسقي الرّوح. أمّا مِن جهة كمال النمو وبلوغ الثمر، فيحتاج الأمر إلى الصبر. للزرع وقت وللحصاد وقت. الزرع ينمو قليلاً قليلاً.. كقول الرسول: «انْمُوا فِي النِّعْمَةِ» (2بط3: 18)، وأيضاً «نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ الْمَسِيحُ» (أف4: 15)، وأيضاً تنمو «إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ» (أف4: 13) لذلك نقول إنّ عدم النمو في حياتنا في المسيح يُنذر بالخطر. قال المرنم: «لِكُلِّ كَمَال (تمام) رَأَيْتُ حَدًّا (منتهًى)، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز119: 96). فأنت تبدأ في تنفيذ الوصية وتنمو وتنمو، ولا نهاية للنمو، لأنّك قاصد الحياة الأبدية التي لا نهاية لها.تبتدئ بعمل المحبّة وتحيا فيها، تحبّ الرب إلهك، وتحبّ قريبك، وتدرِّب نفسك كلّ يوم، وتنمو في المحبّة وممارستها الفائقة. وكلّما تقدّمتَ تحسِب ذاتك أنّك لم تبلغ بعد إلى الكمال فتسعى و«تنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَتمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (في3: 13). هكذا كلّ وصايا الرب وجميع الفضائل المسيحية. إنّها زرع ملكوت الله في القلب.. تنمو وتمتدّ، تكبر وتُكثر.الساعين في الطريق لا يستعجلون الثمر.. سيحصل في حينه كقول الرسول: «لاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غل6: 9). نحتاج إلى صبرٍ كثير، حتى ينضُج الإنسان من جهة معرفته بملكوت الله، وإدراكه لمشيئة الله وتدبيره من جهة خلاصنا. لذلك امتلأت سِيَر الآباء القدّيسين بالصبر في الجهادات، والسهر والدموع وتكميل التوبة وأعمال النسك وكثرة الفضائل. وفي نهاية سيرتهم تكاثرت ثمار الملكوت كشهادة حيّة كقول الرب في هذا المثل. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
30 يوليو 2021

لا تدنو ضربة من مسكنك ج2

كلّ مرّة تسقط، قُمْ فتخلُص.. «لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (خر17: 16).ولكن يُحسَب أنّ الحرب هي للرب، فمنذ يوم خروجنا من بطن المعموديّة وقد تعهّدنا وتكرّسنا للحياة بحسب المسيح، بعد أن جحدنا الشيطان وكلّ قواته الشريرة. صارت الحرب إذن من العدو الشرير ضدّ المسيح الذى صرنا له وهو فينا، وصرنا مُبغَضين من الجميع من أجل الاسم الذي دُعِيَ علينا. فنحن مُضطهدون ليس لأجل ذواتنا، بل لأجل اِنتسابنا للمسيح أبطَلَ المسيح قوّة المجرِّب وسلَّم لنا مفاتيح الانتصار عليه. ليس في مقدور الشيطان ولا في سلطانه أن يُجبر أحدًا مِنّا على الخطيّة، أو يسوقه قَسرًا إلى ارتكاب الشرور. هو خدَّاع وكذَّاب ولكنه صاحب حيلة ودهاء، هو يعرض بضاعته النجسة ويلفَّها بغلاف اللذّة ويُزيِّنها للإنسان فتبدو شهيّة.. كما قيل في الأمثال: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أم9: 17)، هي مياه وخبز ولكنّ الشيطان المُزوِّر يُظهرها للإنسان هكذا حلوة، لكي ينخدع وينجذب بالشهوّة نحو الحرام. ولكن كلّ مَن يثبت فى إيمان المسيح يستطيع بالنعمة أن يفلِت من فخاخه. القديسون فضحوه وأهانوه بكثرة الاتضاع والالتصاق بالرب. هو أبّ الكبرياء، ولكنّ الروح الوديع الهادئ يغلب كبرياءه وقد أوصانا الرب بالصلاة أن نطلب إلى الآب ونقول: «لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ» (مت6: 13). فالصلاة الجادّة والطِلبة من القلب هي عامل أساسيّ في أن نجد عَونًا في حينه.. فلا يستطيع أحد أن ينقذنا من يد المُشتكي علينا سوى أبونا الذي في السموات وكوننا نطلب عونًا ونجاة، هو اعتراف ضمني بضعفنا وعدم إمكانيِّتنا.. لذلك إذ يسحق هو الشيطان تحت أقدامنا، فليس لنا فضل ولا افتخار.. بل نتمسّك بالأكثر، ونحتمي في ذاك الذي به «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا» (رو8: 37) تجربة الجوع والخبز هي تجربة طبيعتنا التي تلاحقنا مَدى الحياة.. الميل الطبيعي والحاجات الطبيعيّة ليس فيها خطيّة.. ولكنّ العدو الخدَّاع يستغلّ ما هو طبيعي وينسج منه بالكذب خيالات وخيالات، كلّها خداع وكلّها تهويل وكذب. وهذا التهويل والتخويف من الموت ليس فيه حقّ. وقول المسيح: «لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (مت4: 4)، لم يكُن أحد من الناس قد عاشها قط.. رغم أنّها الحقّ ذاته إنّنا نستمد حياتنا في الحقيقة من شخص المسيح، الذي هو الكلمة الذاتي. هو مصدر الحياة و«هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ... لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48، 50). صِنَّارة المُجَرِّب هي الميل الطبيعي، وهو في كلّ محاولاته أن يُحرِّف الميل الطبيعي إلى ما هو على خلاف الطبيعة، لأنّه يريد أن يُفسد خليقة الله ويُميت ويقتل، بانفصال إرادة الإنسان عن الله.. فيعمل الإنسان إرادته الذاتية منفصلاً عن الحقّ والحياة.. فيموت. تُرى مَتَى أحيَّا بكلّ كلمة تخرج من فم الله؟ مَتَى استمدّ حياتي ووجودي واستمرار حياتي منه وفيه وله وبه؟ كيف أتذوّق وآكُل فأحيا.. وأسمو بنفسي وجسدي وغرائزي؟ إنّني استمدّ خبز الكفاف من يده.. ألم يُطعم الملايين من المن النازل من فوق؟ ألم يُشبع الآلاف من خبز الكفاف حتى فضل عنهم؟ شبع الجسد شيء، وشبع النفس شيء آخر.. الجسد يطلب ما هو أرضيّ، ترابيّ حسب طبيعته.. بينما شوق أرواحنا إلى الشبع من برّ المسيح. فنحن نجوع ونعطش إليه، وهو قد طوَّب الطالبين وجهه، والمترجّين خلاصه بجوع وعطش نحوه. الميل الطبيعي لكلّ ما هو جسدي هو الشهِّية المغروسة في طبيعتنا لبقاء الحياة كغرائز. قُدرة الميول الطبيعيّة ليس فيها خطيّة، إنّما انحراف الإرادة بعيدًا عن الله يحوّل الشهِيّة إلى شَهْوة، والشهوة إذا حبلَت تجُرّ الإنسان إلى الخطايا، ثم إلى الموت «الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا» (يع1: 15).جوع المسيح بعد أربعين يومًا أفصَحَ عن الشهِّية الطبيعيّة للطعام دون شهوة أو انحراف. فلما جاء المجرِّب يلعب على هذا الوتر، ليجرّ المسيح من الشهِّية إلى الشهوة خاب وافتضح وانكسرت سهامه.وعلى هذا تُقاس جميع حِيَل الشيطان المجرِّب، الذي يدخل من مداخل الميول الطبيعيّة ليحرِّفها نحو الشرور، والسلوك المنحرف، بعيدًا عن الحقّ، لخدمة الخطايا لقد سجّل الوحي هذه التجارب الثلاث كنموذج، والواقع أنّ إبليس جرَّب الربّ بكلّ تجربة، وبكلّ حيلة وخديعة، وبكلّ أسلحته كما هو مكتوب: «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). فالتجارب صوَّبها العدو نحو الجسد في تجربة الخبز والجوع، ثم نحو النفس في تجربة مباهج العالم والملكيّات الأرضية وكلّ مجدها.. هذه التي تشتهيها النفوس، ثم التجربة الثالثة نحو الروح والروحيّات، إذا ألقى بنفسه من على جناح الهيكل، وحملته الملائكة فلا تُصدِم رِجله بحجر بحسب وعد الله. فقد صوَّب العدو سهامه بذلك نحو الجسد والنفس والروح، أي كيان الإنسان كلّه. و«فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رو8: 37) ونجَّانا من هذه الفخاخ المنصوبة، إذ حطّمها وكسرها وأذلَّ فخر المجرِّب، بل وطرده أشر طردة.في تجربة النفس، قال العدو: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا (كلّها)» (مت4: 9).. مجدُ العالم زائلٌ ومِلكياته وهْمٌ. المجرِّب هو رئيس هذا العالم، كقول الرب.. هو مسيطر على العالم بالخداع والكذب لأنّه روح الظلمة. وحينما يقول لأحد أعطيك، فهو كاذب. هو لا يملك لكي يعطي، ولكنه يَعِدُ ويكذبُ. وكم مَنَّى الإنسان بالأماني بأنّ يمتلك العالم، ولكن يكتشف الإنسان أخيرًا إنّه قبض الريح.. والثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان هو السجود للشيطان والخضوع لروح الظلمة. وهذا هو الهلاك بعينه.رد الرب يسوع بالمكتوب «لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». أمَّنَ الإنسان من الخضوع للظلام ليحيا في النور بالخضوع لمشيئة الله وحده. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل