المقالات

09 أغسطس 2023

السيدة العذراء الصامتة المتألمة

لقد إحتملت السيدة العذراء وقاست الكثير من الأحزان والالآم ما لم يلقاه أي كائن آخر في هذه الحياة ولكنها تحملت بروح الرجاء والإيمان.وقد بدأت الآلام في حياة السيدة العذراء مبكراً جداً وهي لا زالت طفلة في عمر الثلاثة سنوات عندما تركتها أمها فى هذا السن المبكر والذى لا يعى فيه الطفل سوى انه يريد أن تكون والدته بجواره طوال الوقت، وقدمتها إلي الهيكل “نذيرة” تعيش بمفردها، ولكن كان هناك بداخلها محبة إلهية عجيبة وقوية لأنها مختارة منذ أن كانت فى بطن أمها وهي بنت الصلاة، وكانت من بيت مملوء بالتقوي ومحبة الله.وفى سن الثانية عشر من عمرها وهي صبية كان عليها أن تخرج من الهيكل فكانت تنظر مجموعة من الشيوخ يقرروا أن أحدهم يأخذها ليعتنى بها…أين ابوها أين امها ؟ .لا يوجد أحد وهى فى سن حرج تحتاج فيه إلي إرشاد الأم والأب، ولكنها فى إحتمال تخضع لتدبير الله وفي بيت يوسف النجار إذ الملاك يبشرها بميلاد عجيب وهى عذراء ” ها أنت تحبلين وتلدين أبناُ ” وبذلك فهذه العذراء الطاهرة التى لم تعرف رجل ستكون حبلى بإبن .ماذا يقول عنها الناس؟وكان أول من شك فيها هو خطيبها “يوسف النجار” وأراد أن يخليها سراً وعندما جاء موعد ولادة إبنها الطفل يسوع لم تجد لها مكاناً كريماً؛ فوضعته فى مزود البقر في حظيرة البهائم حيث الروائح الكريهة.وإذ ولدت إبنها البكر كان يطارد من ملوك الأرض مما أضطر يوسف خطيب مريم وحامي سر الخلاص أن يصطحب العائلة المقدسة ويهرب بها إلي مصر ويتحمل في ذلك عناء السفر المضنىي من بيت لحم إلى مصر . وكان يلاحقهم جنود هيرودس وذلك حسب قول الملاك له «قم وخذ الصبي وأمه وأهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مُزمع أن يطلب الصبي ليهلكه» كيف هو حال الأم الحنونة في تلك الليلة الباردة أن تأخذ أبنها الرضيع وتهرب بــه وهي لاتدري ماذا سيلاقيها من المخاطر والصعاب؛ في أي مـكــــان سينامون وكم من الخوف والرعب عانوا في تلك الليلة وكم من المتاعب واجهت العائلة المقدسة فى أرض مصر بسبب معاملة بعض الأهالى القاسية لهم .وذلك بسبب إنه كلما مر رب المجد ببلده كانت تسقط كل الأصنام التي فيها؛ فكانوا يطلبون أن يقتلوه وفى صباه تركها يسوع معذبة هي ويوسف فى الهيكل وهو يجلس مع الكهنة ليحاورهم ويسألهم فى الثلاثين من عمره ترك البيت ليقضى أربعين يوماً فى البرية، وقضى أكثر من ثلاثة سنوات فى الخدمة نهاراً والصلاة على جبل الزيتون ليلاً، وكانت تسمع بأذنيها رفض وإستهزاء الحاقدين ومكيدة الكهنة وكم كانت مرارة عظيمة علي نفسها وهى تري إبنها الوحيد وهو يُعذب ويُضرب ويُلطم أمامها وهى لا تستطيع أن تنقذه وفى عطشه تراه يشرب خلا بل ويرفضه، ثم ترى إبنها وقد علق على خشبة الصليب خشبة الذل والعار وهى لا تعرف ماذا تفعل لتخفف عنه .وليس ذلك فقط بل وأن خشبة الصليب عار لأهل المصلوب بمعنى أنها ستعانى عار صلب ابنها ثم تعاين موت أبنها على الصليب وهو فى قمة الألم وهى تعلم تماماً أنه لم يفعل ما يستحق عليه الموت، ولما أنزلوا جسد يسوع من الصليب وهو قد أسلم الروح وحضنته . وبدأ الشعب وجميع النساء اللواتي كن يبكين يسوع يتوجهون إلى مريم ليرفعوا يسوع من حضنها وهي تبكي بغير انقطاع وكم تحملت مع التلاميذ والمسيحيين الأوائل من المعاملة السيئة من اليهود وكم من الألم تعرضت له.طوباك يا أم الرحمة والخلاص تشفعى عن ضعفنا. نيافة الحبر الجليل الأنبا أرساني أسقف هولندا
المزيد
05 أغسطس 2023

إشباع الخمسة آلآف

يتحدث المقطع الإنجيلي اليوم عن معجزة إشباع الخمسة آلآف، القراءة الإنجيلية من متى( 14: 14- 22). إن رقم خمسة في الكتاب المقدّس هو عدد رمزي، الرقم 5 يرمز إلى نعمة الله، إلى الخير والبركة تُجاه البشر إن كتب موسى في العهد القديم كانت خمسة أيضاً بسبب أهمية هذه المعجزة فهي مذكورة في الأناجيل الأربعة عند مرقس (6: 30- 44) و لوقا ( 9: 10- 17) والإنجيلي يوحنا (6: 1- 14) من بعد استشهاد القديس يوحنا المعمدان أُخبر يسوع بذلك فانصرف بالسفينة إلى موضع خلاء منفرداً على شاطىء بحيرة طبرية من الجهة الشمالية. لقد اعتاد الربّ يسوع الذهاب إلى موضع خلاء ” للصلاة “. يظهر في إنجيل متّى أن يسوع انفرد ليُصلِّي قبل وبعد معجزة إشباع الخمسة آلآف (متىّ 14: 13 و 14: 23). لقد أعطى الربّ درساً لتلاميذه في أهمية الصلاة قبل وبعد إتمام أي عمل وعندما علمت الجموع بذلك ” تبعوه مشاة من المدن “لقد أحبّت الجموع تعاليم يسوع فقصدته عندما علمت بمكانه. لقد اجتمعوا حوله كما يجتمع القطيع حول ” الراعي الصالح ” ليقودهم في أرض خصبة لقد قضى الشعب معظم يومه يستمع لكلام يسوع وتعاليمه الخلاصية مضى النهار ” وكان المساء “ لم يشعر الشعب والتلاميذ بمرور الوقت بسبب عذوبة كلام الربّ وحلاوة حضوره والمكوث بجانبه، ” وكان الجميع يتعجبّون من كلمات النعمة الخارجة من فمه “(لوقا 4: 22) يبدأ المقطع الإنجيلي حينما يسوع : ” أبصر جمعاً كثيراً فتحنّن عليهم وأبرأ مرضاهم”. هو الآب الرحوم الشفوق ” أبو الرأفة وإله كل تعزية “(2كو 1: 3) إن هذه الصورة هي صورة مسيانية للربّ يسوع إذ أنه حسب أشعيا فإن المسيّا المُنتظر هو الذي يشفي ويُعزّي شعب الله ” أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها ” ( أشعيا 53: 4) لقد طلب التلاميذ من الربّ يسوع قائلين:”المكان قفر والساعة قد فاتت فاصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى ويبتاعوا طعاماً” ربما لم يخطر على بالهم أن الربّ يسوع سوف يهتم بحاجاتهم الجسدية كما أنه تحنّن عليهم وأبرأ مرضاهم ها هو يُظهر حنانه مًجدّداً ويهتم بحاجاتهم الجسدية ليُشبع جوعهم فيقول للتلاميذ: ” أعطوهم أنتم ليأكلوا”. فكان جواب التلاميذ: ” ما عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان”. لقد أراد الربّ بهذا الطلب أن يسترعي انتباه تلاميذه إلى أن الطعام المتوافر لا يكفي لهذا العدد الكبير فهو كان يُحضّرهم للمعجزة التي كان مُزمِعاً أن يُحققها. لقد تحنّن أولاً على الجمع وأبرأ مرضاهم ثم أشبعهم من الطعام، هو المُهتم بالخليقة وبحاجات الإنسان الروحية والمادية لقد أراد بهذا الطلب أن يُريهم صعوبة تحقيق هذا الأمر بالطريقة البشرية وليُريهم أنه هو ابن الله. لقد أراد الربّ يسوع أن يُظهر لتلاميذه أمران: أولاً، أهمية المُشاركة ومُساعدة من هم في عَوَز وحاجة والتي هي ههنا في هذه الحالة إطعام الجموع. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ” في هذه المعجزة يسوع كان يعلمهم التواضع، القناعة والإحسان وأن يُفكروا ببعضهم البعض وأن يتشاركوا كل شيء فيما بينهم”. ثانياً، أراد أن يُريهم أن سبب تحقيق هذه المعجزة هو الحاجة والضرورة وليس المجد الباطل عندما أدرك التلاميذ صعوبة واستحالة إشباع هذه الجموع من الخمسة أرغفة والسمكتان تدخَّل يسوع قالاً لهم :” هلم بها إليَّ إلى هنا”. ثم ” أخذ الخمسة الأرغفة والسمكتين ونظر الى السماء، وبارك وكسر وأعطى الأرغفة لتلاميذه والتلاميذ للجموع”. لقد رأت الكنيسة المقدسة في هذه الأفعال التي صنعها الربّ يسوع: “أخذ، نظر، بارك وكسر وأعطى” صورة مُسبقة لسرّ الشكر الإلهي أو “الأفخارستيا” لقد نظر يسوع إلى السماء كما يقول الذهبي الفم ” لكي يُظهر لنا أنه مُرسَل من الله الآب وأنه أيضاً مساوٍ له “. لقد كان هذا الفعل من أجل تعليمنا أن لا نتناول الطعام حتى نعطي الشكر لله الذي أعطانا هذا الطعام”. أما القديس كيرلس الأسكندري فيقول: “حتى يُعرَف السيّد بأنه هو الله بالطبيعة، هو كثَّر ما كان قليلاً، لقد نظر نحو السماء كما لو كان يطلب البركة من العلو. لقد صنع هذا بفعل التدبير الإلهي. من أجلنا لأنه هو نفسه الذي يملء كل الأشياء ويُباركها هو البركة الحقيقية النازلة من فوق من عند الآب. ولكنه فعل هذا حتى نتعلم منه عندما نُحظّر مائدة الطعام ونُحضّر الخبزات ونستعد لكسر الخبز أن نُحضرها نحو الله بأيدي مرفوعة وننظر إلى السماء مستحضرين عليها البركة التي هي من فوق. لقد كان الربّ يسوع البداية، النموذج والطريق” لقد كان واضحاً أن الجموع قد رأت في هذه المعجزة صورة مسيانية للمسيح، إذ قالوا في إنجيل يوحنا ” هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم ” (يوحنا 6: 14). لقد تذكر الشعب العبراني آباؤهم الذين أكلوا المنّ في البرية (خروج 16: 4- 16) ورأوا في المسيح صورة المسيّا الذي يُطعم شعبه. هذه الحركات الأفخارستية “أخذ – بارك – كسر وأعطى ” كررّها الربّ يسوع ذاتها في العشاء الأخير قبل صلبه وآلآمه. يقول الإنجيلي متّى: “وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم ” ( متى 26: 26) لقد أعطى الربّ يسوع “الأرغفة لتلاميذه والتلاميذ للجموع”. لقد أعطى الأرغفة لتلاميذه علّهم يتذكرون دائماً هذه المعجزة وتبقى في ذاكرتهم ولا تتلاشى من أذهانهم رغم أنهم قد نسوها حالاً. يرى الآباء القديسون في هذا الفعل منح النعمة والسلطة للتلاميذ لخدمة شعب الله. ” أن يصيروا خدّام المسيح ووكلاء أسرار الله”.( 1 كورنثوس 4: 1). الرسل القديسون هم الأساقفة الأوائل وقد منحهم الربّ يسوع هذا السلطان الذي انتقل منهم إلى تلاميذهم من بعدهم من خلال الشرطونية و” التسلسل الرسولي”. “Apostolic Succession” لقد أمر الربّ يسوع تلاميذه أن يجمعوا ما فَضِل من الكِسَر ” اثنتي عشرة قفة مملؤة ” و يضيف الإنجيلي يوحنا “لكي لا يضيع شيء “(يوحنا 6: 12). بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم لقد أراد الربّ يسوع من تلاميذه ضبط النفس والقناعة وأن يكونوا وكلاء صالحين ( (Good Stewards وأمينين على الخيرات التي منحنا إياها الرب نحن نعيش في مجتمع الإستهلاك حيث هناك تبذير كبير للموارد والخيرات البشرية. لقد أقامنا الله أُمناء على الخليقة (لوقا 12: 41- 48) لنصونها ونُحسِن إدارتها. هذا ما أراد الربّ تعليمه لتلاميذه ولنا. نحن مسؤولون أمام الله عن هذه الخيرات وعن توزيعها العادل بين البشر، الهدر وإضاعة الخيرات هوخطيئة أما القناعة والتدبير الحسن وشكر الله على خيراته ونعمه هو فضيلة مسيحية لقد وضعت الكنيسة المقدسة صلوات تبريك الطعام وصلاة شكر بعد الأكل لتعليمنا أهمية شكر الله على نِعَمه وبركاته كما نصلي صلاة الشكر بعد تناول القرابين المقدسة. كما تُقيم الكنيسة الأرثوذكسية خدمة ” تبريك الخمس خبزات ” في صلاة غروب الأعياد السيدية وأعياد القديسين والتي هي تذكار لمعجزة “الخمسة الأرغفة والسمكتان”. ونرتل في نهاية الصلاة : ” الأغنياء افتقروا وجاعوا، أما الذين يبتغون الرب فلا يعوزهم أي خير” آميــــــن المتروبوليت باسيليوس
المزيد
18 مارس 2023

إنجيل عشية الأحد الثانى من شهر برمهات

تعليم يسوع في الخزانة تمهيد حضر المخلص إلى الهيكل وجاء إليه جميع الشعب فجلس في الخزانة ،وهى أحد أروقة الهيكل . وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا وحاولوا اصطياده بكلمة يستندون عليها في تقديم شكواهم ضده ولكنهم لم يفلحوا . وأخذ يسوع يلقى تعاليمه الواردة بفصل الإنجيل وفيها أثبت أنه المسيح ، وأنه الذي يحرر المؤمنين به ، وأن عمله هذا هو من قبل أبيه السماوي : يسوع هو المسيح فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو ولست أفعل شيئا من نفسى بل أتكلم بهذا كما علمني أبي . والذي أرسلنى هو معي ولم يتركنى الآب وحدى لأنى في كل حين أفعل ما يرضيه . شهد السيد المسيح عن نفسه أمام اليهود في الخزانة بأنه نور العالم وأنه من فوق ، وكانت شهادته من الوضوح بحيث لو شاءوا أن يفهموها لما عسر عليهم ذلك ، ولكن جهالتهم وكبرياءهم حالتا دون ذلك ، فلم ير بدا من إعلانهم بأنهم سوف يدركون حقيقة أمره حينما يصلبونه فقال : « متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو » .. وسمى صلبه ارتفاعا لأن صليبه ارتفع في الجو فارتفع به شأن البشرية ، ونال به المؤمنون شرفا يجل عن الوصف وقد تحقق إدراك اليهود لحقيقته حينها أبصروا الظلمة التي حدثت وقت صلبه ، والزلزلة ، وانشقاق حجاب الهيكل ، وقيامته وصعوده ، وحلول الروح القدس على تلاميذه ، وتكلمهم بألسنة وعملهم المعجزات ثم قرر أمامهم أنه متحد بالآب في كل فعله ، وأن ما بشر به كان يعلمه منذ الأزل . وواصل كلامه قائلا « والذي أرسلنى هو معى » ، فأثبت بهذا التصريح الاتحاد الدائم بينه وبين الآب في الذات والتدبير . وكثيرا ما ردد المخلص هذا التعليم في محادثاته ، فقد قال لفيلبس ولتلاميذه « ألست تؤمن أنى أنا في الآب والآب في .. والكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال . صدقوني أني في الآب والآب في وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها » ( يو ١٤ : ١٠-١١ ) . وعزا المخلص هذا الاتحاد إلى فعله كل ما يرضى الآب ، ومن أدلة ذلك قوله لتلاميذه أثناء حديثه مع المرأة السامرية « طعامى أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله » ( يو ٤ : ٣٤ ) ، وهو بهذا يرمي إلى تحريضنا على عمل مرضاته حتى يكون معنا دائما . كما أن الآب معه كل حين .. تحريره المؤمنين :- وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون .فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذی وتعرفون الحق والحق يحرركم . أجابوه إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط . كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارا .أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية . والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد . أما الأبن فيبقى إلى الأبد . فأن حرركم الأبن فبالحقيقة تكونون أحرارا .وعلى أثر ذلك آمن به كثيرون من اليهود . فأوضح لهم أن الإيمان به لا يجديهم نفعا إن لم يثبتوا على حفظ وصاياه والعمل بها . ومتى فعلوا ذلك وصبروا على الاضطهاد والشدائد ، كما هو مفروض في التلاميذ ، شاركوه في السعادة والمجد .وأضاف إلى هذا قوله إن ثباتهم في الأيمان يهديهم إلى الحق الذي هو يسوع وتعاليمه الألهية ، ويحررهم من نير الشيطان وعبودية الخطية ، وفي ذلك يقول الرسول « فأن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة » ( رو ١٤:٦ ) ، وكذلك يقول يعقوب الرسول « من اطلع على الناموس الكامل ناموس الحرية وثبت وصار ليس سامعا ناسيا بل عاملا بالكلمة فهذا يكون مغبوطا في عمله » ( يع ١ : ٢٥) . علي أن اليهود ظنوا أن السيد يتكلم عن الحرية المدنية والحرية الجسدية فاعترضوا قائلين إنهم لم يستعبدوا لأحد قط ، ونسوا أو تناسوا أنهم استعبدوا للمصريين والبابليين والأشوريين واليونانيين ، بل أنهم كانوا وقتئذ مستعبدين للرومان ، يدفعون الجزية لقيصر . ولعلهم كانوا يقصدون أن لهم بعض الحرية الدينية ، وأنه لا يجوز بيعهم بيع الأرقاء وفقا لما قاله الله عنهم « وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد ، كأجير كنزيل يكون عندك . إلى سنة اليوبيل يخدم عندك . ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته ، وإلى ملك آبائه يرجع، لأنهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض لا يباعون بيع العبيد » ( لا ٢٥ : ٣٩-٤٢ ) .وقد أوضح لهم السيد نوع العبودية التي يقصدها وهي عبوديتهم الشنيعة للخطية ، وهي شر من عبودية الرق لأنها تؤدي إلى الموت كما قال بولس الرسول « ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة أنتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر » ( رو ٦ : ١٦ ) . ثم أشار إلى مصير العبد وهو الطرد من البيت طالت مدة عبوديته أم قصرت لأنه لاحقوق شرعية له ، ودليل ذلك ما حدث لإسماعيل فقد قيل لأبراهيم عنه « أطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة » ( غل ٤ : ٣٠ ) . ورب المجد بقوله هذا يقصد أن عبد الخطية يمكن طرده من البيعة المقدسة . وأما العتق من يد الشيطان والشهوات الذي قصده حين قال « فأن حرركم الأبن تكونون أحرارا » فليس في استطاعة إبراهيم أو موسى أو جميع الأنبياء أن يمنحوه ، إذ يسوع وحده هو الذي يحرر المؤمنين ويصيرهم إخوة له وورثة . فالذي يأتى إليه معترفا تائبا ينال المغفرة والعتق ، قد أعطى سلطان الحل والمغفرة هذا لتلاميذه وخلفائهم حين قال لهم « إقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له » ( يو ٢٠ : ۲٢-۲۳ ) . البنوة العملية لله:- أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم . لكنكم تطلبون أن تقتلونى لأن كلامي لا موضع له فيكم أنا أتكلم بما رأيت عند أبي .. وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم .أجابوا وقالوا له أبونا هو إبراهيم . قال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم : ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلونى وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله . هذا لم يعمله إبراهيم .أنتم تعملون أعمال أبيكم . فقالوا له إننا لم نولد من زنا . لنا أب واحد وهو الله. فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت . لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلنى. ولما كان اليهود قد اعترضوا قائلين « إننا ذرية إبراهيم » فقد أخذ السيد يفند اعتراضهم بقوله أنهم حقيقة أولاده بالجسد ، ولكنهم ليسوا أولاده في الأعمال الصالحة ، وقلوبهم المشحونة بالأفكار الدنيوية الشريرة لا موضع لكلامه فيها ، وهذا ما حملهم على طلب قتله . ثم أيد أقواله بالأشارة إلى أن مصدرها هو أبوه القدوس في حين كان مصدر أعمالهم إبليس أباهم . فاعترض اليهود على السيد ثانية لتعريضه بهم ونسبتهم من حيث الأعمال إلى أب غير إبراهيم أى إلى إبليس ثم أعلنوا انتسابهم إلى إبراهيم دون سواه ، والسيد أجابهم معترفا بهذا النسب من ناحية الجسد لامن ناحية السلوك ودلل على أنه لا نصيب لهم من طاعة إبراهيم وتصديقه بطلبهم وهو لم يسئ إليهم بل كلمهم بالحق الذي سمعه من الله ، ثم قرر أن هذا التصرف من جانبهم لا يتفق وأعمال إبراهيم . وقد حقق بهذا أنه لا يحسب ابنا لإبراهيم إلا من عمل أعماله « لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي » ( رو ۲ : ۲۸-۲۹ ) ، وفي ذلك يقول الرسول أيضا « إعلموا إذا أن الذين من الأيمان أولئك هم بنو إبراهيم ... . . فأن كنتم للمسيح فأنتم إذا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة » ( غل ٣ : ٧ ، ۲۹ ) . كذلك من يعمل أعمال الله بحسب ابنا له هي الرحمة والغفران للمسئ ، فمن يرحم ويغفر فهو ابن الله ، ولذا علمنا السيد أن نقول في الصلاة الربانية واغفر لنا كما نغفر لمن أخطأ إلينا حتى نكون لله أبناء . أما اليهود فبالتماسهم قتل السيد دلوا على أنهم أبناء للشيطان في فعله الشر . ولم يطق اليهود أن ينسبهم المخلص إلى إبليس فاعترضوا . قائلين « إننا لم نولد من زنا » أي لم نولد من آباء وثنيين كفرة ، وتسمية الكفر والشر زنا تتضح من قول الرب لموسى « ها أنت ترقد مع آبائك فيقوم هذا الشعب ويفجر وراء آلهة الأجنبيين في الأرض التي هو داخل إليها في ما بينهم ويتركني وينكث عهدي الذي قطعت معه » ( تث١٦:٣١ ) . وقول أشعياء "كيف صارت القرية الأمينة زانية . ملآنة حقا كان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون "( أش ١ : ٢١ ) . ثم قالوا بأن لهم أبا واحدا يعبدونه وهو الذي عبده إبراهيم . ورد السيد على هذا الاعتراض مبينا أنهم لو كانوا أبناء الله حقيقة لشابهوه في محبته لابنه ، لأن « كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله . وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا » ( ١يو٥ : ۱ ) وأشار المخلص إلى مولده الأزلى بقوله « لأنى خرجت من قبل الله » ، وإلى مولده الزمنى بقوله « وأتيت » ، وإلى وحدة الجوهر والأرادة بين الله الآب الله الأبن بقوله « لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلنى » . وبهذا علمنا .. الاتضاع والطاعة والعمل برأى آبائنا ، كما أن الله الآب أرسله وبظهوره متجسدا لم ينفصل عنه بلاهوته. الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة
المزيد
04 يناير 2023

لماذا التجسد؟عند القديس أثناسيوس

عقيدة الثالوث الأقدس والتجسد: هناك علاقة وثيقة في كتابات القديس أثناسيوس بين عقيدة الثالوث الأقدس وعقيدة الفداء والخلاص الذي تم بتجسد الله الكلمة وموته وقيامته. وهو يربط في كتاباته بين تعليمه عن شخص المسيح كأحد أقانيم الثالوث الأقدس وعمل المسيح ـ ابن وكلمة الله ـ الأقنوم الثانى كفادى ومخلص. فكلا العقيدتان متلازمتان ومترابطتان.يرى أثناسيوس أن ألوهية المسيح الحقة والتى لا يشوبها شئ بالمرة لا يمكن التعبير عنها بالكلام أو وصفها في تعبيرات، بل هى حياة معاشة، وهذا يتضح بشدة في محاربته لأفكار الآريوسيين ومحاولته لإثبات ألوهية الكلمة في علاقته بتجسد الله الكلمة من أجل فداء وخلاص البشرية. ففي الحقيقة لقد كان القديس أثناسيوس يرفض حتى أن يسمع مجرد كلمة عن "مسيح" طالما أن هذا "المسيح" لن يجيء بفداءٍ وخلاصًا للبشرية. ومبتدئًا من بشارة الرسل وما ترتب عنها من تعليم الكنيسة، علّم أثناسيوس عن المخلص الحقيقى وعن عمله الخلاصى... كخلاص حقيقى. وفسر كيف أن المخلص لابد وأن يكون كائن حقيقى إلهى في جوهره، بل لابد وأن يكون إله لكى يكون له الإمكانية الحقيقية لهذا العمل الخلاصى ولهذا فعند أثناسيوس أن المنكر لوحدانية الابن مع الآب في الجوهر، هو في الوقت نفسه يقلل من قدرة الابن، ويضعه في صفوف المخلوقات. وينكر بالتالى ويشكك في الخلاص الذى تم بواسطة الابن، والتى هو في الواقع كان ضرورة حتمية لأجل الإنسان. وهذا النكران يقود ـ حسب رأى أثناسيوس ـ إلى عدم الاعتراف بربوبية الابن حسب روح الإنجيل وأيضًا لعدم الإدراك العميق لأبعاد وهول الفساد والهلاك الذى حل بالإنسان بعد سقوطه من ناحية، ومن ناحية يقود لعدم الاعتراف بإمكانيات الخلاص التى تمت بواسطة تجسد الله الكلمة والتى أعادت الإنسان إلى شركة الثالوث مرة أخرى. + سقوط الإنسان كان السبب الرئيسى لتجسد الله " الكلمة " وذلك لمحبته للبشر يُعّلم القديس أثناسيوس أن السقوط كان نتيجة فعل حر للإنسان ومن النتائج السلبية المباشرة لهذا الفعل الحر بل وأهمها هو الموت والفساد نتيجة الموت الذى عم البشرية نتيجة لذلك. وهذا ما يوضحه في الفصول الأولى من كتابه تجسد الكلمة ليثبت أن السبب الأول لعملية التجسد هو القضاء على الموت وإعادة الإنسان للحياة الحقيقية. تلك الحياة التى فقدها الإنسان نتيجة المخالفة وتعدى الوصية الإلهية والبعد بالتالى عن الله وفقد النعمة الإلهية. وفي الفصل الرابع من نفس الكتاب يذكر " أن نزوله إلينا كان بسببنا، وأن عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكى يسرع الرب في إعانتنا والظهور متأنسًا ". + أزلية المشيئة الإلهية بشأن التجسد وهدفها لقد كان في علم الله السابق إمكانية سقوط الإنسان ونتائجه. كذلك أيضًا عملية التجسد وحتميتها. هكذا ركز أثناسيوس في الفصل الأول من كتابه تجسد الكلمة. أن الله منذ بداية خطته خَلق العالم بالكلمة وأيضًا سوف يخلّصه بالابن، وذلك لأن صفات الله التى لا يمكن أن تتغير أو تتبدل لا تسمح بأن يؤخذ قرار التجسد وخلاص الإنسان بعد سقوطه. كأن الله قد فوجئ بهذا الأمر، بل كان هناك، مشيئة أزلية. ويعود القديس أثناسيوس ليوضح هذا الأمر عندما يشرح بعض آيات الكتاب المقدس في رده على الآريوسيين إذ يقول [.. لأنه رغم النعمة التى صارت نحونا من المخلّص قد ظهرت كما قال الرسول، وقد حدث هذا عندما أقام بيننا، إلاّ أن هذه النعمة كانت قد أعدت قبل أن يخلقنا بل حتى من قبل أن يخلق العالم. والسبب في هذا واضح ومذهل، فلم يكن من اللائق أن يفكر الله بخلاصنا بعد أن خلقنا لكى لا يظهر أنه يجهل الأمور التى تتعلق بنا. فإله الجميع إذًا عندما خلقنا بكلمته الذاتى ولأنه كان يعرف أمورنا أكثر منا ويعرف مقدمًا أننا رغم أنه قد خلقنا صالحين إلا أننا سنكون فيما بعد مخالفين الوصية، وأننا سنطرد من الجنة بسبب العصيان ـ ولأنه وهو محب للبشر وصالح فقد أعد من قبل تدبير خلاصنا بكلمته الذاتى ـ الذى به أيضًا خلقنا. لأننا حتى وإن كنا قد خُدعنا بواسطة الحية وسقطنا فلا نبقى أمواتًا كلية بل يصير لنا بالكلمة الفداء والخلاص الذى سبق إعداده لنا لكى نقوم من جديد ونظل غير مائتين ]. كما أنه في تفسيره لما جاء في رسالة معلمنا بولس إلى أهل أفسس " مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدامه في المحبة قديسين وبلا لوم، إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح نفسه " يتساءل أثناسيوس استنكارًا كيف اختارنا قبل أن نُخلَق إن لم نكن ممثلين فيه من قبل كما قال هو نفسه؟ كيف سبق فعيننا قبل أن يخلق البشر إن لم يكن الابن نفسه قد " تأسس قبل الدهور " آخذًا على عاتقه تدبير خلاصنا؟، ويعطى مثالاً رائعًا لكى يثّبت هذا التعليم فيقول: " ولأن الله صالح وهو صالح على الدوام وهو يعرف طبيعتنا الضعيفة التى تحتاج إلى معونته وخلاصه لذا فقد خطط هذا، وذلك مثلما لو كان مهندس حكيمًا يريد أن يبنى منزلاً فإنه يخطط في نفس الوقت كيفية تجديده مرة أخرى لو دُمر يومًا ما بعد أن تم بناؤه. وهو يعد لهذا من قبل عندما يخطط، ويعطى للقائم على العمل الاستعدادات اللازمة للتجديد. وهكذا يكون هناك استعداد مسبق للتجديد قبل بناء المنزل وبنفس الطريقة فإن تجديد خلاصنا قد تأسس في المسيح قبلنا، كي يمكن إعادة خلقنا من جديد فيه، فالإرادة والتخطيط قد أُعدا منذ الأزل، أما العمل فقد تحقق عندما استدعت الحاجة وجاء المخلص إلى العالم " . + التجسد في مواجهة الطبيعة البشرية الساقطة كانت وصية الله لآدم يوم أن وضعه في الفردوس، ألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشر محذرًا إياه أنه يوم أن يأكل منها موتًا يموت. يضع القديس أثناسيوس هذا النص كأساس كتابى وكبرهان على ضرورة وحتمية التجسد.. إذ أن الموت صارت له سيادة شرعية علينا من ذلك الوقت، ويفسر عبارة "موتًا تموت" قائلاً إن المقصود بها ليس مجرد الموت بل "البقاء إلى الأبد في فساد الموت" . ولأنه لم يكن ممكنًا أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذى وضعه بسبب التعدى، أصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقًا وغير لائقة، لأنه لا يمكن أن يكون الله كاذبًا، ولأجل تغيير هذا الوضع فإن توبة الإنسان لا تصلح إذ يقول بالحرف الواحد " لكن التوبة تعجز عن حفظ أمانة الله لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت (لأنه تعدى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تقدر التوبة أن تغّير طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية " . لقد كان الاحتياج إلى شئ أساسى وجوهرى وحاسم لكى يعيد الإنسان إلى الوجود الحقيقى، إلى الحياة، إلى الشركة مع الله. كان هناك احتياج إلى التدخل الحاسم لكلمة الله من جديد. وكان حتمًا إذًا أن يتجسد الله الكلمة الذى هو وحده قادر على تصحيح هذه الأوضاع وإعادة الحياة وعدم الفساد إلى الإنسان " فلو كان تَعِدى الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أما الآن بعد أن حدث التعدي، فقد تورط البشر في ذلك الفساد الذى كان هو طبيعتهم ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله، فما هى الخطوة التى يحتاجها الأمر بعد ذلك؟ أو مَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة ويرده إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خلق في البدء كل شئ من العدم؟ لأنه كان هو وحده القادر أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد وأيضًا أن يصون صدق الآب من جهة الجميع. وحيث إنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، كان هو وحده القادر أن يعيد خلق كل شئ وأن يتألم عوض الجميع وأن يكون شفيعًا عن الكل لدى الآب " . لقد صار الموت حتمية والتجسد ضرورة: فلم يكن ممكنًا لله أن يتراجع عن حُكمِه على الإنسان بالموت إن أخطأ، ولم يكن أيضًا ممكنًا أن الله يهمل ولا يبال بهلاك البشرية وفنائها. فعدم الإهتمام كان سيُظهر الله وكأنه ليس صالحًا، والتراجع كان سَيُبيّن وكأن طبيعة الله غير ثابتة.فإن كان الأمر هكذا، فقد صار الموت حتميًا، وتجسد كلمة الله وحده ضرورة. وهنا يوضح القديس أثناسيوس لماذا كان لائقًا أن يتخذ الكلمة جسدًا بشريًا كأداة ليخلّص بها الإنسان، ويستبعد أى وسيلة أو طريق آخر، يمكن أن تكون وسيلة لفداء الإنسان وخلاصه: فأولاً: يوضح عدم كفاية التوبة كى يعود الإنسان إلى عدم الفساد والخلود فيقول: " التوبة تعجز عن حفظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت، (لأنه تعدى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تقدر التوبة أن تغير طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية " .إن مأساة سقوط الإنسان تكمن في أن ما فعله لم يكن مجرد عمل خاطئ، بل كان بالحرى عمل خاطئ تبعه الموت والفساد، لأنه وكما يقول القديس أثناسيوس: " لو كان تعدى الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد؛ لكانت التوبة كافية " . إن ما جعل التجسد ضرورة؛ هو أنه بعدما حدث التعدى على وصية الله " تورط البشر في ذلك الفساد الذي كان هو طبيعتهم، ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله" . هذه النعمة التي كانت تمكنهم من أن يبقوا في شركة الحياة وعدم الفساد. ثانيًا: في موضع آخر يُجيب القديس أثناسيوس على الذين لا يرون ضرورة لتجسد الله الكلمة، بل ويهزأون من ظهوره الإلهى بيننا، ويقولون: لماذا لم يُتمم الله أمر خلاص البشرية بإصدار أمر بدون أن يتخذ كلمته جسدًا، أى بنفس الطريقة التي أوجد بها البشرية؟ على هؤلاء يرد القديس أثناسيوس قائلاً: " في البدء لم يكن شئ موجودًا بالمرة، فكل ما كان مطلوبًا هو مجرد نطق مع إرادة (إلهية) لإتمام الخلق، ولكن بعد أن خلق الإنسان وصار موجودًا استدعت الضرورة علاج مـا هو موجود، وليس مـا هو غيــر موجود" . ثم يستطرد قائلاً: " لأن الأشياء غير الموجودة لم تكن هى المحتاجة للخلاص (للتجسد)، بل كان يكفيها مجرد كلمة أو صدور أمر، ولكن الإنسان (المخلوق) الذي كان موجودًا فعلاً وكان منحدرًا إلى الفساد، والهلاك هو الذي كان محتاجًا إلى أن يأتى الكلمة " . ثالثًا: يشير القديس أثناسيوس إلى أنه لا البشر ولا الملائكة، كانوا قادرين على تجديد خلقة الإنسان على مثال الصورة، وذلك لأن الإنسان هو مجرد مخلوق على مثال تلك الصورة، وليس هو الصورة نفسها، كما أن الملائكة ليسوا هم صورة الله . رابعًا: وأخيرًا يوضح القديس أثناسيوس أنه كى يصير كلمة الله معروفًا مرة أخرى بين البشر وبه يُعرف الآب، لم يكن التناسق بين أعمال الخليقة كافيًا، ولم تعد الخليقة وسيلة مضمونة بعد فيقول: " لو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عن الله" . لقد سبق وأن أعطى الله للبشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أما الآن وبعد السقوط، فإن " هذه الوسيلة لم تعد مضمونة وبالتأكيد هى غير مضمونة لأن البشر أهملوها سابقًا، بل إنهم لم يعودوا يرفعوا أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل" .وبعد أن أوضح القديس أثناسيوس عجز كل من هذه الوسائل عن تحقيق الخلاص للبشرية، يكشف عن قدرة الكلمة وحده ـ الذي ظهر في الجسد ـ على إتمام هذا الفداء العظيم فيقول: " إنه لم يكن ممكنًا أن يُحوَّل الفاسد إلى عدم فساد إلاّ المخلّص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شئ من العدم، ولم يكن ممكنًا أن يعيد خلق البشر، ليكونوا على صورة الله إلاّ الذي هو صورة الآب، ولم يكن ممكنًا أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلاّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشر عن الآب، ويقضى على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقى" .وفي عبارات رائعة يعطى المعنى العميق لمفهوم الفداء حسب ما تُعلّم به الكنيسة الشرقية فيقول: " ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ كان الجميع مستحقين الموت فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا. وبعدما قدّم براهينًا كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع، أولاً: لكى يبررهم ويحررهم من المعصية الأولى، ثانيًا: لكى يثبت أنه أقوى من الموت، مُظهرًا جسده الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع " . د. جوزيف موريس فلتس
المزيد
13 ديسمبر 2022

السهر الروحي

ونحن نقترب من شهر كيهك حيث السهر والصلاة والتسبيح حتى الصباح، لذلك يحلو لنا أن نتكلم عن السهر راجين من الرب أن يعيننا على السهر الروحي لكي ما نحيا حياة السماء ونحن على الأرض. السهر الروحي:- هو اليقظة ضد الخمول والإهمال للوصول إلى الاستعداد الدائم لإرضاء الرب، منتظرين مجيئه والمثول بين يديه. السهر هو يقظة القلب والعقل وكل طاقات الإنسان، فلا يسقط الإنسان في أي شيء عابر (نظرة - فكرة - تصرف)، وهو حالة تحوّل مستمر من حياة حسب الجسد الى حياة حسب الروح «فَإِنَّ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلكِنَّ الَّذِينَ حَسَبَ الرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ» (رو8: 5-6). وكرر القديس بولس لفظ السهر قائلا «فَلاَ نَنَمْ إِذًا كَالْبَاقِينَ، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ» (1تس5: 6). وقد أوصانا الرب قائلًا «اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ... اِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا. لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَامًا! وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا» (مر13: 33-37) معوقات السهر:- 1- محبة العالم «تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً» (إر2: 13)، لذا لنستيقظ ونسهر خوفًا من أن يجرفنا تيار العالم فنصير أعداء لله «فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا للهِ» (يع4:4). 2- محبة المال «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ» (مت6: 24)، لذلك يخدع نفسه من يظن أنه يستطيع أن يجمع بين محبة الله والسهر على أرضائه وبين محبته لجمع المال واكتنازه «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا» (مت6: 21). 3- الكسل والتهاون لذا حذرنا القديس بولس الرسول «هذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ، أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ، فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ، فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ» (رو13: 11-12). 4- الاهتمامات الدنيوية«فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً» (لو21: 34)، إن الإنشغال بمتطلبات الحياة اليومية وسبي العقل لها يجعل الأنسان يسقط في الهموم... لذلك قال لنا رب المجد «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُ» (1بط5: 7). 5- الغفلة هي أصل كل خطية وشهوة، فمن يرضى عن نفسه ويستحسن حالها ويكتفي بما وصل إليه، تستولي عليه الغفلة وتحاربه الأفكار ويسقط في الشهوات «أنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا!. هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي. لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤ3: 15-17)، ليتنا نقول مع القديس بولس الرسول «أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في3: 13 -14). نيافة الحبر الجليل الأنبا تكلا اسقف دشنا
المزيد
10 ديسمبر 2022

إنجيل عشية الأحد الاول من شهر كيهك

إنجيل العشية - ( مر 14 : ٣-٩ ) المرأة التي دهنت يسوع بالطيب تمهيد بينما كان السيد المسيح في طريقه إلى أورشليم للمرة الأخيرة عرج على أريحا حيث زار زكا العشار في بيته وأنعم عليه بالخلاص ، ثم ألقى على سامعيه مثل عشرة الأمناء على نحو ما جاء في ( لو ۱۹ : ۱۲ – ۲۷ ) . وبعد ذلك تقدم صاعدا إلى أورشليم ومر بقرية بيت عنيا وهي على بعد ميلين من أورشليم ودخل سمعان الأبرص حيث أكرمته مريم بمسحه بالطيب ( ٢ ) . وفصل الأنجيل الذي يتناول مسألة تكريم مريم ليسوع يتكلم عن تقدمتها التي كان مبعثها الوفاء له وعن تذمر التلاميذ من هذا الصنيع " بدافع الغيرة الكاذبة على الفقراء ، ثم يشير إلى امتداح المخلص لعمل مريم ، ويقرر دوام ذكرها على الأيام تقدمة الوفاء : 3 - وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكىء جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن . فكسرت القارورة وسكبته على رأسه . 3 - إن إقامة المخلص في قرية بيت عنيا على قربها من أورشليم تدل على أنه أسلم ذاته بأيثاره حينما دنت ساعته . وكان قصده من الإقامة هناك أن يعتزل أورشليم حينا من الزمن ، وهناك في بيت سمعان الأبرص صنعوا له عشاء ، كما ذكر يوحنا ، إكراما له وابتهاجا بزيارته . وسمعان الأبر ص هذا ربما كان والد مريم ومرئا ولعازر الذي أقيم من الموت ، أو أنه يمت إليهم بصلة القرابة ولو أن نوع هذه القرابة غير معلوم تماما ، ولا بد أن السيد كان قد شفاه برصه وإلا لما جاز له شرعا أن يخالط الناس . وكان من عادة القوم في تلك الأيام أن يتكثوا على الأسرة عند تناول الطعام ، وهذا ما سهل لمريم مهمة سكب الطيب على رأس المخلص وقدميه . وقد حفزها إلى ذلك عجائبه التي شاهدت ، وشفاؤه لسمعان الأبر ، ولعلها فعلت ما فعلت بوازع من إيمانها ومحبتها وثقتها بأنه يطهرها من خطاياها ويقول يوحنا إنها أخذت « منا من طيب ناردين ، والمنا وزن یونانی وروماني يعادل نحو مائة درهم ، وناردين معناه السنبل وهو النبات الذي كان يستخرج . ذلك الطيب ، وهو أثمن ما عرف يومئذ من الأطياب ، وكان يرد من بلاد الهند بعد استخراجه ، وهو سيال كالزيت ، ورائحته زكية . وكسرت مريم عنق الزجاجة التي كان بها الطيب أي كسرت ختمها ثم دهنت أولا رأس المخلص على نحو ما كان يحصل غالبا ، فامتلأ البيت من أريج الطيب لكثرته وجودته ، ثم زادت بأن . دهنت قدميه بعد أن مسحتهما بشعر رأسها من أثر التراب ، إذ كان يسير بالنعل فقط كعادة اليهود . ويجب أن يلاحظ أن مريم مسحت أولا ثم دهنت ، إذ لو كان المسح بعد الدهن كما قد يفهم من عبارة يوحنا ، فكأنها مسحت شعرها بالطيب لاقدميه . وقد أظهرت بمسح القدمين بالطيب الشين غناها وسخاءها ووفرة شكرها ومحبتها . أما اختيارها الدهن دون سواه فلأن العادة جرت في منه ذلك الزمان أن يمسح به أفاضل الناس وعليهم كالكهنة والملوك إكراما لهم وقد تقبل المخلص صنيعها لما لمسه فيها من تواضع وحسن نية وإخلاص . . الغيرة الكاذبة : وكان قوم مغتاظين في أنفسهم فقالوا لماذا كان تلف الطيب..هذا . ـ لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء . وكانوا يؤنبونها . تمييز التلاميذ غيظا من إتلاف الطيب ، واجترأ يهوذا الأسخريوطي على الأعراب عن تذمرهم منوها بأحقية الفقراء لثمنه ، ولكن يوحنا الإنجيلي فضح رياءه بقوله إنه قال ما قال « ليس لأنه كان يبالى بالفقراء بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه » ( يو ٦:١٢ ) . 5 – وزاد -هوذا على تذمره قوله عن الطيب إنه كان يمكن أن يباع بثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء ، وهو قول ظاهره الغيرة ولو أنها غيرة صورية مردها أن يده لم تصل إلى ثمن الطيب فتختلس منه ( 1 ) ، وبمثل هذا الأسلوب يعمد الأشرار إلى إخفاء مقاصدهم السيئة ستار من التقوى . على أن التلاميذ لم يكتفوا بأظهار استيائهم من تصرف أخذوا يعنفونها . ومع أنه لا شيء مما نقدمه للمسيح يعتبر إتلافا مهما كان ثمينا كصرف الحياة في خدمته وبذلها من أجله كما يقول بولس الرسول . . ه من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح » ( في ۸ : ۳ ) إلا أن عدم حاجة السيد لهذا الطيب ، وما قاله عن الرحمة في مثل العذاري العشر وفي كلامه على يوم الدينونة وفى قوله للفريسيين « ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تعشرون التعنع والشيث والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان » ( مت ۲۳ : ۳ ) ، كل هذا قد يبرر تساؤل الباحث عما إذا كان من الأفضل أن يعطى ثمن الطيب لالفقراء ما دامت الصدقة أوجب . وقد حل المخلص له المجد هذا الإشكال بأجابته التالية لتلاميذه امتداح الوفى : 6 – أما يسوع فقال اتركوها . لماذا تزعجونها . قد عملت في عملا حسنا . 7 ـ لأن الفقراء معكم في كل حين ومنى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا . وأما أنا فلست معكم في كل حين . ۸ – عملت ما عندها . قد سبقت و دهنت بالطيب جسدي للتكفين 6 – طلب يسوع من تلاميذه أن يكفوا عن إزعاج المرأة ، ثم أشاد بصنيعها قائلا « عملت بی عملا حسنا » ، وكان يرمى من وراء ذلك إلى غرضين أولها تعليم التلاميذ أنه ما كان يليق بهم أن يكسروا حمية إيمانها ومحبتها بالتوبيخ ، إذ أن نقل الناس إلى الفضيلة الكاملة يجب أن يتم بالتدريج لادفعة واحدة ، وأنه كان من الواجب شكرها أولا على ما عملت ثم حثها بعد ذلك على الصدقة على الفقراء . وبناء على ذلك إذا قدم إنسان للكنيسة ستورا زائدة مثلا أو أوانى فضية أو ذهبية فوق ما تحتاجه فلا يجب أن نكسر حمية إيمانه بل نشكره ، ثم ننهه في رفق إلى خطأه ونحثه بعد ذلك على الفضيلة الكاملة التي هي مساعدة المساكين ، وإذا استشارنا قبل التقدمة أشرنا عليه مما يجب * أما غرض يسوع الثاني فهو إقامة الحجة على تلاميذه بأن ما فعلته المرأة هو ما قضى به الناموس إذ أن الوصية الأولى تقول « تحب الرب إلهك من كل قلبك . والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك » ( مت ۲۲ : ۳۷-۳۹ ) ، وهذا القول شدد علينا ألا نقدم على محبته شيئا من سائر الفضائل . وتطبيقا لذلك إذا وقفنا بالكنيسة وقت القداس الذي هو تقديس جسد الرب ودمه وجب أن يكون ذلك بخوف : ووقار وتمجيد وتسبيح وتقديس من كل قلوبنا ، وألا نلتفت إلى سواه حتى إذا قال الكاهن « أين عقولكم ، أجبناه بصدق قائلين « هي عند الرب » . ۷ – ولکی يبرر المخلص رضاه عن سكب الطيب وشكره لمريم على إيمانها قال لتلاميذه « إن الفقراء معكم كل حين . » أي لا يخلو منهم زمان ولا مكان ، ومن واجب الكنيسة العناية بأمرهم دائما ، سيما وقد أوصى الله عليهم في سفر هی التثنية حين قال « أعطه ولا يسوء قلبك عندما تعطيه لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك . لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض . لذلك أنا أوصيك قائلا إفتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك » ( تث 15 : ۱۰-۱۱ ) . ثم مضى المخلص يقول « وأما أنا فلست معكم كل حين » ( 1 ) أي سوف لا أكون عندكم بحضوري المنظور طويلا إذ أنى على وشك الموت والصعود إلى السماء ، ولذلك فلا يمكنكم إكرامى جسديا إلا في هذه الفرص . وتطبيقا لما تقدم فجسد المسيح ودمه ليسا موجودين طول النهار في الكنيسة بل القداس فحسب ، فالذي يقف في خلاله بمخافة ووقار وتكريم لا محالة ممدوح السيد كما مدحت من مریم قال وإيضاحا لحكمة امتداحه لعمل المرأة وخطأ التلاميذ في تذ مرهم إنها « فعلت ذلك لأجل تكفينى » ( ۲ ) أي أن ذلك كان منها إنذارا عموتى ودفى وقيامتي ، أو بمعنى آخر أنكم أنتم أصحابى تهربون عند صلبي فلا تحنطونى ولا تدفنوني وأما هذه فقد تقدمت لذلك بلا وجل .. وقد قصد بأشارته إلى موته ألا يتوهم التلاميذ إذا رأوا آلامه أنه غير عارف بما سيحل به. استدامة ذكره : . الحق أقول لكم حينما يكرز بهذا الأنجيل في كل العالم بخير أيضا ما فعلته هذه تذكارا لها ۹ – وختم رب المجد الحديث بقوله عن المرأة أن ذكرها سيشيع في أرجاء المسكونة بانتشار إنجيله في أنحاء العالم وترجمته إلى كل اللغات ، وهي نبوة من نبواته التي تمت وتبين صدقها منذ ألفي سنة . وتنفيذا لأمره الكريم رتبت الكنيسة الاحتفال بأعياد القديسين تخليدا لذكرهم ( 3 ) إنه تعالى حسب إكرامهم إكراما له واحتقارهم احتقارا له إذ قال السيد لتلاميذه « الذي يسمع منكم يسمع منى . والذي يرذلكم يرذلني . والذي ير ذلى يردل الذي أرسلي » ( لو 10 : 16 ) . وقال الرسول « إذا من ير ذل لا ير ذل إنسانا بل الله الذي أعطانا روحه القدوس » ( ۲ تس ٤ : ٨ ) ، ولاشكا أن إهانة السفير هي إهانة للملك الذي أرسله . . = ( 4 ) وهو جل شأنه أكرمهم في أعين شعبه ، والأمثلة على ذلك متوفرة فقد قال لأبيالك الذي أخذ زوجة إبرهيم « والآن رد امرأة الرجل فأنه نبي فيصل لأجلك فتحيا . وإن كنت لست تردها فاعلم أنك موتا تموت أنت وكل من لك ( تك ٢٠ : ٧ ) . وقال لهرون ومريم اللذين تكلما على موسى . الكوشية « أما عبدى موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل شيء . فما إلى في وعيانا أتكلم معه ..... فلماذا لا تخشيان أن تتكلا على عبدى موسى » ( عد ۸:۱۲ ) ولما أخذ اليشع رداء إيليا الذي سقط عنه حين ارتفاعه في المركبة النارية وضرب به الماء انفلق إلى هنا وهناك ( ٢ مل 1 : 14 ) . وكذلك الميت الذي خاف أهله من الغزاة ، فطرحوه في قبر اليشع لما مس عظام اليشع عاش وقام على رجليه ( ۲ مل ۲۱:۱۳ ) . ولما حمى غضب الله على أصحاب أيوب الثلاثة قال لهم « والآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران وسبعة كباش واذهبوا إلى عبدى أيوب واصعدوا محرقة لأجل أنفسكم وعبدى أيوب يصلى من أجلكم لئلا أصنع كذلك قال مخلصنا للجموع عن يوحنا المعمدان « لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان » ( مت ۱۱:۱۱ ) . . معكم حسب حاقتكم لأنكم لم تقولوا في الصوان ٨:٤٢ ) عنهم أن ( 5 ) وقد حذر الله من إهانتهم ، فقد أتى إلى لابان الأرامى في حلم الليل وقال له « احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر » ( تك ٢٤:٣١ ) ، وقال من يمسهم عس حدقة عينه ( زك ٢ : ٨ ) ، والذين يضايقونهم يجازيهم ضيقا ( ۲ تس ٦ : ١ ) ( 6 ) إنه عاقب للذين أهانوهم في حياتهم أو بعد وفاتهم فقد قال لقايين الذي قتل أخاه هابيل « متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها . تائها وهاريا تكون في الأرض ، ( تك ١٢ : ٤ ) ( عد ۱۲ : ۱۰ ) . ريم بالبرص لأنها تكلمت على موسى ثانيا : أن هذه الأعياد ليست مرتبة من الله ، ويرد على ذلك بأن الكتاب أثبتها والرسل مارسوها وشهد بصحتها أشهر مؤرخي البروتستنت . ) . ( ۱ ) قال بولس الرسول « ينبغي على كل حال أن أعمل العيد القادم في أورشليم » ( أع ۲۱:۱۸ ) ، ولا يمكن أن يكون هذا العيد عيدا يهوديا بعد ما حرم الرسول على المسيحيين الخضوع للطقوس اليهودية بقوله « فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت » ( كو ٧ : ٢ ) فهو إذن عيد مسیحی .. قال موسهيم المؤرخ البروتستنتى بعد أن تكلم على الأعياد في الكنيسة الجامعة « أضف إلى هذه الأعياد أعيادا أخرى اعتنق فيها الموت رجال قديسون لأجل المسيح التي بالأكثر احتمالا كانت أياما مقدسة وعظيمة منذ ابتداء الديانة المسيحية .. وجاء في كتاب تاريخ الانجليز المطبوع سنة 1839 « وكانوا يكرمون الشهداء ويعبرون عن ذكر يوم وفاتهم بمولدهم ويعيدون الأعياد عند قبورهم بغاية . السرور والمحبة والأحسان ». رأى الكنيسة : إن الكنيسة مدينة لهؤلاء الشهداء والقديسين الذين أناروها بتعالمهم وثبتوها . بدمائهم ، ولذلك رتبت منذ القدم أياما خاصة تحتفل فيها بذكراهم إقرارا بجميلهم وإطاعة لأمر المخلص القائل « حيثما يكرز بهذا الأنجيل في كل العالم بخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها » ( مر 9:14 ) ، وقول بولس الرسول « أذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله . أنظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بأيمانهم » ( - ۷:۱۳ ) ، وقول المزمور « ذكر الصديق يدوم إلى الأبد » ( مز ٦ : ١١٢ ) . وإذا كانت الشرائع المدنية قد أجمعت على إكرام من أتى عملا جليلا أفاد أمته ، فقام أهل العالم يحتفلون بذكرى أبطالهم ونوابغهم في كل علم وفن وأقاموا التماثيل لهم ، أفلا يجدر بالكنيسة أن تقوم ببعض ما يجب عليها نحو رجالها الذين بذلوا نفوسهم رخيصة من أجل المسيح ، والذين جعل فيهم مسرته ، وأهلهم لشركة ميراث القديسين في النور ( كو ۱ : ۱۲ ) ، وحفظ لهم إكليل المجد ( 1 بط 5 : 4 ) ، وجعل لهم أسمى مقام في دياره ( يو ١٤ : ١٧،٣ : ٢٤ ) ، بل جعل لهم حظ الجلوس معه في عرشه ( رو 15 : ۷،۲۱ : ۳ ) ، وأشركهم معه في مداينة الناس والملائكة ( مت ۲۸:۱۹ ، ۱ کو ٢ : ٦-٣ ) ولما كان دوام ذكر هؤلاء الصديقين لا يتم على الوجه المرغوب فيه إلا بالطرق الاحتفالية ، لذلك رتبت الكنيسة إقامة التذكارات لهم وعمل الرحمة على اسمهم ( مت ٤٢:١٠ ) ، وحفظ صورهم وتعاليمهم . وليس أدل على ذلك من أن القديسين الذين لم يحتفل بأعيادهم يكاد يكون ذكرهم مجهولا لدى الجميع ومع ما في إقامة الأعياد من مزايا أدبية وسياسية واجتماعية كتقوية الرابطة. الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة الجزء الثانى
المزيد
20 سبتمبر 2022

عن القدّيس يوحنا المعمدان

القديس يوحنّا المعمدان الذي نحتفل بعيد استشهاده في بداية السنّة القبطيّة هو شخصيّة فريدة في التاريخ كان هو حلقة الوصل بين العهد القديم والجديد، وكان هو الملاك الذي هيَّأ الطريق أمام الرب، وأعدّ القلوب بالتوبة لكي تستقبل المسيّا.هو النبيّ ابن النبيّ والكاهن ابن الكاهن الذي شهد للحقّ وتمّم رسالته العظيمة في زمن قصير جدًّا.. وعندما ظهر المسيح العريس أعلن يوحنا للجميع أنّ فرحَهُ قد كمل ورسالته على الأرض قد أوشكت على نهايتها لم يصنع يوحنّا آية واحدة، ولكنّه كان هو نفسه أعظم آية، وكانت كلماته الناريّة المنطلقة من قاعدة حياته المقدّسة تنفذ بقوّة إلى القلوب لتبكِّتها وتنيرها وتقودها إلى أحضان الله المفتوحة للتائبين لقد اخترت بنعمة المسيح بعض مقتطفات بديعة من تعليقات آباء الكنيسة حول فصل ميلاد القديس يوحنّا (لو1: 57: 80) وقُمت بترجمتها، مع ملاحظة أنّ الكلمات التي بين الأقواس قد أضفتُها لتوضيح المعنى. 1- متقابلات بين القديس يوحنا المعمدان والرب يسوع العجوز أليصابات ولدت آخِر الأنبياء، ومريم الفتاة الصغيرة ولدت ربّ الملائكة. ابنة هرون وَلَدَتْ الصوت المنادي في البرّيّة، ولكن ابنة داود وَلَدَتْ القوي إله كلّ الأرض. العاقر وَلَدَتْ الذي يحلّ الخطايا (ككاهن)، ولكن العذراء وَلَدَتْ الذي يمحو الخطايا. أليصابات وَلَدَتْ الذي كان يصالح الناس (على الله) بالتوبة، ولكن مريم وَلَدَتْ الذي طهّر كلّ الأرض من النجاسة. العجوز أشعلت المصباح الذي هو يوحنّا (يو5: 35) في بيت يعقوب أبيه، بينما الصغيرة قدّمت شمس البرّ لكلّ الأمم (ملا4: 2). الملاك بشّر زكريّا، لكي يُعلِن المذبوح (يقصِد يوحنّا بواسطة هيرودس) عن المصلوب.. والمكروه (مِن هيرودس) يُخبِر عن المحسود (من اليهود الذين أسلموه للصلبِ حسدًا). الذي سيعمِّد بالمياه يُعلِن عن الذي سيعمِّد بالنار والروح القدس (مت3: 11). النور الذي لم يكُن مَخْفِيًّا، يُعلِن عن شمس البِرّ. الذي امتلأ من الروح، يُنادي بالذي يعطي الروح (القُدُس). الكاهن الضارب بالبوق، يبشِّر بالذي سيأتي في نهاية الأيّام على صوت البوق. الصوت ينادي بالكلمة.. والذي رأى الحمامة يبشِّر بالذي استقرّت عليه الحمامة.. مثل البَرق الذي يسبق الرعد.القديس مار أفرام السرياني (القرن الرابع) 2- الروح القدس يفتح آذان يوحنا قد يَعتبره البعض أمرًا سخيفًا ومُضحِكًا أن يتحدّث زكريّا إلى طِفل عمرة ثمانية أيّام، ولكن إذا تمسّكنا بالحقيقة فسوف نفهم أنّ الطفل الذي سمع سلام مريم وهو جنين قبل ميلاده، كان يستطيع أن يسمع صوت أبيه (زكريّا). النبيّ (زكريّا) كان يعلم أنّ أي نبي (يقصد يوحنّا) يكون له آذان أخرى مفتوحة لروح الله، بصرف النظر عن عمره الجسدي. فالذي كان لديه القابليّة أن يبتهج (وهو جنين) كان له القدرة أيضًا على الفهم.القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان (القرن الرابع) القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء شيكاغو
المزيد
17 سبتمبر 2022

إنجيل عشية الأحد الاول من شهر توت

إنجيل العشية ( مت ۱۱ : ۱۱ - ۱۹ ) شهادة المخلص عن يوحنا المعمدان مكانة يوحنا : الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان . ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه بدأ رب المجد يشير إلى عظمة يوحنا بقوله « إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم منه. . ومرد هذه العظمة هو إلى أن والده كان كاهنا باراً وأن الملاك بشر بولادته قبل الحبل به ، وأنه امتلأ من الروح القدس وهو في بطن أمه ، وأنه وضع يده على رأس السيد وعمده ، ورأى الروح القدس نازلا عليه على شكل حمامة . هذا إلى أنه تقدم أمام المخلص بصفته ملاكا يدعو له ويعد له النفوس ، فضلا عن أنه عاش في البرية عيشة النسك والطهارة والقداسة . ثم استدرك المخلص قائلا « ولكن الأصغره في ملكوت السموات أعظم منه » وقد بينا الحكمة في ذلك في إنجيل القداس لهذا اليوم . أثره:- ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغصب والغاصبون مختطفونه . لأن الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا . وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى . من له أذنان للسمع فليسمع . "مت 12:11-15" واستطرد السيد يشير إلى ما أحدثته دعوة يوحنا فقال « ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغصب » ، ومعنى ذلك أن اليهود تزاحموا عليه وعلى يسوع لسماع تعاليمهما ، وكانوا جادين في غيرتهم فاعتمد منهم كثيرون وغيروا سيرتهم وطرحوا العالم ، ونبذوا اللذات جانبا ، وقاسوا الشدائد ، وصبروا على المكاره ، ومشوا قدما في طريق السماء برغبة حارة ، فكأنهم بانتصارهم على شهواتهم وأهوائهم ، وإقلاعهم عن الشرور ، وتوبتهم الصادقة قد اغتصبوا الملكوت اغتصابا واختطفوه اختطافا ، وهذا عين قول المخلص في مناسبة أخرى « كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا . ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتصب نفسه إليه » ( لو 16 : 16 ) . فهذا الملكوت ينال بقوة النعمة الفائقة ، لا بقوة التناسل من إبراهيم کماکان يزعم اليهود . وسر الأمر فيما تقدم أن أنبياء العهد القديم كما قال يسوع اتصلت نبواتهم بالتتابع إلى يوحنا ، كما أن كل طقوس الناموس ، وهي ظل الخيرات العتيدة » ( عب١:١٠ ) ، كانت بالمثل ترمز إلى المسيح . ولكي يحرض يسوع سامعيه على تلبية داعى الملكوت لفت أنظارهم إلى وجه الشبه بين يوحنا وإيليا بقوله « فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى » . وبيان ذلك أن يوحنا جاء في أعقاب الشريعة القديمة ، وتقدم أمام المخلص منذرا بمجيئه ، وإيليا سيأتى عند انقضاء العالم ، ويتقدم أمام السيد منذرا بمجيئه الثاني ، هذا إلى أنهما كانا يوبخان الخطاة لا فرق لديهما بين شريفهم ووضيعهم ، كما يتضح ذلك من موقف إيليا من آخاب وإيزابل ، وموقف يوحنا من هيرودس وهيروديا . وفيما يلي بعض الآيات التي تشير بوضوح إلى وجه الشبه بين الاثنين ، فالوحى يقول على لسان ملاخي النبي « هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب العظيم والمخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء . وقلب الأبناء على آبائهم قبلما آتی وأضرب الأرض بلعن ، ( ملا 5 : 4 ) . ويقول المخلص عنه « ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا . كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم . حينئذ فهموا أنه قال عن يوحنا المعمدان » ( مت ۱۷ : ۱۳-۱۲ ) . وفى مناسبة أخرى يقول الملاك عنه لزكريا ، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ . للرب شعبا مستعدا ، ( لو ۱۷ : ۱ ) . وبعد ما بين يسوع خطورة الدعوة إلى الملكوت نبه الحاضرين إلى ضرورة فتح آذان قلوبهم وفهم أقواله والعمل بها ، وذلك بقوله « من له أذنان للسمع فليسمع . تقلب اليهود : و بمن أشبه هذا الجيل . يشبه أولادا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم . ويقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا . نحنا لكم فلم تلطموا . لأنه جاء يوحنا لايأكل ولايشرب . فيقولون فيه شيطان . جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب . فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة . والحكمة تبررت من بنيها ، . الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة الجزء الأول
المزيد
10 سبتمبر 2022

إنجيل عشية عيد النيروز

انجيل العشية : ( مت ١٣ : ٤٤ – ٥٢ ) يتكلم هذا الفصل عن خلاص السيد الذي يمنحه للمؤمنين بشريعته الجديدة التي سماها ملكوت السموات وشبهها بشبكة مطروحة في البحر ، ودليل ذلك قوله « فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية وأما الأردياء فطرحوها خارجا » تمهيد في خلال جولان السيد المسيح الثاني للتبشير في الجليل أخذ يلقى تعاليمه على الجموع عند بحر الجليل . وقد ضرب لهم أمثاله الثلاثة المعروفة التي فيها شبه بشارة الإنجيل بالكنز ، واللؤلؤة ، والشبكة . وفى هذه الأمثال بين عظمة بشارة الإنجيل ، ومصير مستمعيها ، وواجب القائمين بخدمتها . عظمة البشارة:- أيضا يشبه ملكوت السموات كنزا مخفى في حقل وجده إنسان فأخفاه و حه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل . يسمى المخلص بشارة الإنجيل « ملكوت السموات » لأنها توصل من يعمل بها إلى ذلك الملكوت ، ويشبهها وهي مخفية على الكثيرين بكنز مخفى في حقل ، ويرجع خفاؤها على الناس لا إلى تدبير إلهى بل إلى عمى قلوبهم ، لأن « الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيا » ( ۱ کو ٢ : 14 ) . وفى ذلك يقول بولس الرسول « إن كان إنجيلنا مكتوما فأنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله » ( ۲ کو 4 : ٣ - ٤ ) . والحقل المختفى فيه هذا الكنز يشير إلى العالم الذي تلقى فيه كنوز الإنجيل ، والإنسان الذي وجد الكنز هو المؤمن الذي يحتفظ بتلك الكنوز الإنجيلية في قلبه . ولما كان هذا المؤمن يدرك ذلك الملكوت الروحي الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفنى ففرحه به يحمله على بيع ما يملك لشراء الحقل . ومع أن الكنوز السماوية لاتشترى بمال ، لأنها بلا فضة وبلا ثمن كما قال أشعياء « أمنها العطاش جميعا هلموا إلى المياه والذي ليس له .فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا » ( أش 55 : 1 ) إلا أن المقصود من قول المخلص أنه « باع كل ما له واشتراه » أنه ترك كل ما وقف في سبيل ذلك الخير العظيم . وفي ذلك يقول الرسول ه لكن ما كان لي ربحا فهذا قد حسبته خسارة لأجل فضل معرفة المسيح ربى الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح » ( في 3 : ۷-۸ ) ، وهذا تأييد لقول السيد « من أحب أبا أو أما أكثر منى فلا يستحقنى . ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى . ومن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلى يجدها » ( مت ۱۰ : ۳۷ ، ۳۹ ) والغاية التي يرمي إليها المخلص من ضرب هذا المثل هي تحريض المؤمنين على ألا يتعلقوا بحطام هذا العالم وشهواته التي قد تعترض سبيلهم إلى ذلك الملكوت . مثل اللؤلؤة :- أيضا يشبه ملكوت السموات إنسانا تاجرا يطلب لآلىء حسنة . فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها . ويشبه هذا المثل الذي تقدمه مع فارق بسيط ، هو أن الذي وجد الكنز في المثل الأول وجده اتفاقا ، كما في حالة المرأة السامرية التي جاءت إلى البئر لتستقى فوجدت المسيح ، أما الذي وجد اللؤلؤة هنا فوجدها بعد بحث وتنقيب كما فعل المجوس الذين جاءوا من المشرق لرؤية الملك المولود ، والمغزى في الحالين واحد . مصير مستمعيها : مثل الشبكة : - أيضا يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع . فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ وجلسوا وجمعوله الجياد إلى أوعية . وأما الأردياء فطرحوها خارجا . هكذا يكون في انقضاء العالم . يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من الأبرار ويطرحونهم في أتون النار . هناك بين يكون البكاء الأسنان وصرير . وبعد أن بين المخلص عظمة بشارته استطرد إلى ذكر مصير مستمعيها فشبه الذين ينادون بها بالصيادين الذين ينشرون شباك التعليم ليصيدوا بها الناس وينتشلوهم من بحر هذا العالم المهلك ، وشبه المستمعين من الشعوب المختلفة بصيد الشبكة الذي يضم أصنافا مختلفة من السمك . وأما جذب الشبكة إلى الشاطئ فأشارة إلى اجتماع المؤمنين للدينونة عند انقضاء العالم . وكما أن ما يدخل الشبكة من الصيد فيه ما لا ينتفع به فيلقى خارجا ، كذلك الذين يؤمنون كثيرون ولكن ليس كلهم يتركون أهواءهم وشهواتهم ويحفظون التعاليم . ومثلهم في ذلك مثل المتكثين في عرس ابن الملك الذين جمعهم عبيده من الطرق أشرارا وصالحين ( مت ۲۲ : ۱۰ ) . ولما دخل الملك عليهم رأى أحدهم بغير لباس العرس ، فأمر خدامه بربط رجليه ويديه وطرحه في الظلمة الخارجية . وهكذا في نهاية العالم يرسل الله ملائكته فيفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار حيث دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ ( أش 66 : ٢٤ ) ، و « حيث البكاء وصرير الأسنان » ، أي حيث الحسرة والندم على ما فعلوا ، والغم على شيطان أطاعوه ، ونعيم مقيم فقدوه . وفى هذا المثل إرهاب للسامعين ، وصد لهم عن متابعة الشرور . واجب الخدام :- قال لهم يسوع أفهمتهم هذا كله ، فقالوا یا سید فقال لهم من أجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء . مضى المخلص بعد ذلك يتساءل عما إذا كان تلاميذه قد فهموا أمثاله ، وسؤاله ليس عن جهل منه بمدى فهمهم بل رغبة في أخذ إقرارهم بذلك . ولما أجابوا بالإيجاب أخذ يبين لهم واجبهم وواجب من يتصدون لخدمة الكلمة من الرعاة وغيرهم ، وهو ضرورة الاتصاف بالحكمة والفهم والقدرة على تأييد تعليمهم بأدلة من العهدين القديم والجديد فقال « من أجلذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعنقاء » ، أي كما أن رب الأسرة يدخر في بيته من الأثاث والمؤونة الجديد والقديم ، إذ بعض الأشياء قديمها أفضل كالحمر ، وبعضها جديدها أفضل كالعسل ، كذلك يجب في خادم الإنجيل أن يخرج من كنز علمه ما يناسب الزمان والمكان والسامعين من تعاليم التوراة والإنجيل كليهما . الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة الجزء الأول
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل