المقالات

04 أكتوبر 2019

التعليم الكنسي

الكنيسة بصورة عامة هي أُمٌّ لنا جميعًا، لها الدور الأكبر كمُعلّمة ومُربّية ومُلهمة في مسيرة حياتنا الأرضية امتدادًا إلى السماء حيث النصيب الصالح. وهذا الدور التعليمي الذي تقوم به الكنيسة مُستمَد من المسيح المعلم الصالح Good Teacher، الذي كان يعلّم في المجامع (متى 4: 23)، وفي الهيكل (متى 21: 23)، وفي الأعياد (يوحنا 8: 20)، بل وكل يوم (متى 26: 55)، كما أجاب عن العديد من الأسئلة التي وُجِّهت إليه في مناسبات متنوعة. ولذلك لقّبه اليهود بلقب "رابي" أي معلم. وقد أخذ تعليمه عدة أوجه، فتارة يتكلم ويعلم ويتصرف كنبي، وتارة كمُفسِّر للشريعة التي جاء ليشرحها ويكملها (متى 5: 17)، كما أنه كان يعلم بسلطان (متى 13: 54)، وكان تعليمه مذهلاً للسامعيين (مرقس 1: 27)، كما أنه كان جديدًا إذ يخاطب القلوب والأعماق هادفًا إلى خلاص النفوس وتحريرها من الناموسيات والحرفيات والجمود الفكري والقساوة القلبية. وكثيرًا ما اصطدم بالعمى الإرادي عند أولئك الذين يدّعون أنهم يُبْصِرُونَ وهم لاَ يُبْصِرُونَ (يو 9: 39-41). والتعليم عملية مستمرة تشمل جوانب عديدة، وتبدأ في الأسرة التي هي الوحدة الأولى لبناء أي مجتمع سواء مدني أو ديني. وعملية التعليم يشترك فيها: الأسرة (المؤسسة التربوية الأولى)، والكنيسة (المؤسسة الروحية الأولى)، والمدرسة (المؤسسة المعرفية الأولى)، والأصدقاء (البيئة الاجتماعية الأولى)، والميديا (المؤسسة العالمية الأولى). ولأن التعليم الكنسي هو عمل الكنيسة الأساسي بين كل ما سبق من عناصر تشارك في بناء الإنسان وتعليمه وتربيته وتنشئته، لذا سوف أقصر حديثي عن الجوانب الرئيسية لمنظومة التعليم الكنسي وهي ثلاثية الأبعاد: المُعلّم – المنهج – المُتعلِّم. وسوف أحاول بنعمة المسيح الحديث في هذا المقال عن "المعلم" على أن استكمل باقي العناصر في مقالات قادمة. أولاً: المعلم وهو الإنسان الذي يقوم بالعملية التعليمية الواجبة، وليس كل إنسان صالحًا أن يكون معلمًا. المعلم يجب أن يكون شخصًا ذا مواصفات خاصة: معرفيًا – روحيًا – أخلاقيًا – كنسيًا – اجتماعيًا. ويجب أن تتوازن هذه العناصر في شخصيته ودراسته وتحصيله المعرفي، فمثلاً لا يكون على قدر عالٍ من المعرفة في أي مجال، وفي نفس الوقت سلوكه الأخلاقي أو الاجتماعي بعيد عن ذلك تمامًا. أو أن يكون كنسيًا وليس روحيًا تائبًا.. وهكذا. ويمكن أن نصف عدة مستويات في المعلم وكيف يكون: 1- القارئ: وهو الإنسان الذي يقرأ لنفسه أو لآخرين، ويثقّف ذاته سواء في القراءات الدينية بأنواعها أو الثقافية بأنواعها، وربما يكون له مكتبة صغيرة أو متوسطة، كما قد تكون قراءاته عابرة مثلًا في الصحف أو المجلات متنوعة الموضوعات أو على شبكة النت والتجوال بين المواقع دون قصد معين في هذه القراءة. 2- المدرس: وهو الذي له صلاحية التدريس ونقل المعرفة إلى الآخرين بوسائل تربوية سليمة، وينطبق هذا على خادم مدارس الأحد وفصول الشباب، وينطبق على الكاهن أو الأسقف بصور متدرّجة. وبالطبع يحتاج أن يكون قارئًا ودارسًا جيدًا، وقد تتلمذ على آخرين بصورة عميقة، سواء في الاجتماعات أو الدروس أو غير ذلك. 3- الواعظ: وهو الذي عنده مهارة مخاطبة الآخرين في كل المستويات التعليمية أو حتى أصحاب التعليم المحدود أو الغير موجود. وهو يملك معرفة اجتماعية وشعبية تناسب من يكلمهم. وكان في بدايات القرن العشرين عدد كبير من الوعاظ وأثروا الكنيسة جدًا، ولكن مع تنامي مراكز التعليم وظهور وسائل التكنولوجيا الحديثة، قلّ عددهم الآن وصار دورهم محدودًا، ربما في مناسبات الوفاة والعزاء فقط. 4- المحاضر: وهو الشخص صاحب خبرات متميزة في مجال ما، يأتي ليلقي محاضرات علمية عميقة في مجال معرفته، ويقدم هذه المعرفة بأسلوب متقدم معتمدًا على دراساته وأبحاثه وقراءاته الواسعة. 5- الباحث: وهو صاحب الأبحاث الدينية أو الكنسية أو العلمية، وقد حصل على أبحاثه شهادات الماجستير والدكتوراه، ويتميز بالدقة والأمانة العلمية، والتعمق في التحصيل الدراسي، ويمكن أن ينشر أبحاثه دون أن يكون لها آثار سلبية على سلام الكنيسة أو المجتمع، ويكون حكيمًا في كل ما يقوله. 6- المتأمّل: وهو الذي تعمّق وراء النصوص الدراسية سواء كتابية أو آبائية أو كنسية، وصار له تأملات متنوعة ومتوازنة تكشف أعماق الغنى الروحي فيها، وتقديم مثل هذه التأملات يشبع الروح والقلب، ويحتاجها الإنسان في فترات الخلوة والهدوء النفسي وفترات التوبة. 7- الكاتب: وهو الذي يستطيع أن يصيغ معرفته وقراءاته ودراساته في صورة مكتوبة بأسلوب رصين واضح، وليس كل إنسان عنده هذه الموهبة، ويجب أن يكون عارفًا بأصول الكتابة والنحو والصرف والأسلوب واللغة المناسبة. وعادة كل كتاب يقرأه مئات وآلاف من البشر، ويظل قائمًا وحاضرًا على الدوام. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
22 سبتمبر 2019

التجسد والفداء

ويقول القديس إيرينيئوس:"ابن الله صار ابن الإنسان(بالتجسد) لكي يصير الإنسان ابن الله (بالموت على الصليب)".هذا هو السر المخفي منذ الدهور، والآن قد أعلنه الله للعالم كله بموت المسيح وقيامته: أن الله أضمر منذ البدء أن يرفع الخليقة البشرية الخاطئة والساقطة إلى حالة التبني ليتحد بها بواسطة تجسد كلمته، الذي به أكمل فداءها من الخطيةوالموت بموته على الصليب وهكذا تمت مشورة الله على مرحلتين: {1} الله استُعلن للبشرية أولًا بالتجسد، فأصبح التجسد تاج الخليقة وكمالها الإلهي في شخص يسوع المسيح"عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). {2} الحياة الأبدية التي كانت عند الآب محجوزة عنا، استُعلنت ووهبت للإنسان بموتالمسيح على الصليب، عندما قام ناقضًا أوجاع الموت وقاهرًا سلطانه وكاسرًا شوكته (لأن المسيح بقيامته صار باكورة الراقدين (1كو15: 20) والنتيجة الحتمية للقيامة هي أن الروح القدس روح الحياة في المسيح يسوع انسكب على البشرية، وهكذا انتقلت الحياة الأبدية للإنسان عَبرْ التجسد والصليب ثم الموت والقيامة.وهكذا يظهر التجسد كدرجة أساسية في تكميل الخليقة البشرية ورفعها إلى مستوى صورتها الأولى الأساسية المكرمة في الله، في شخص المسيح نفسه.ثم يظهر الفداء بموت المسيح على الصليب كدرجة حتمية لتكميل غاية التجسد وهو الاتحاد، حتمية من وجهة نظر الله، حتمية الحب الذي أحب به الله العالم، ليرفع الخليقة البشرية كلها من الهلاك إلى حياة أبدية في حالة التبني وهكذا يتضح أمامنا أن التجسد والفداء عملان متلازمان أساسيان، بل وحتميان. التجسد: الاتحاد كنموذج فعال. الفداء: إعطاء هذا الاتحاد كهبة. هذا هو التدبير الإلهي لتكميل الخليقة البشرية ورفعها من العداوة إلى حالة التبني، ومن الانفصال إلى الاتحاد بالله بواسطة المسيح من هذا يتضح لنا أن الفداء الذي أكمله المسيح على الصليب ليعيد لنا شركتنا واتحادنا المفقود مع الله، إنما يقوم على أساس لاهوتي بالنسبة للتجسد باعتبار أن التجسد هو المسئول عن عطية الفداء، أي إعادة اتحاد الإنسان بالله. مثلث الرحمات نيافة الحبر الجليل الأنبا ياكوبوس أسقف الزقازيق عن كتاب رؤية كنسيّة آبائية الصليب في المسيحية
المزيد
11 ديسمبر 2018

الصوم في كنيستنا القبطية

تعتبر كنيستنا القبطية أن الأصوام في الكنيسة هي زمان للتوبة، فكثيرًا ما نجلس وسط الكتب وننشغل بالقراءات في المجالات المختلفة، وكثيرًا ما نشارك في الاجتماعات، وقد ننشغل بالكثير من الخدمات والدراسات، لكنها جميعًا كوسائط روحية تتضاءل أمام عمل التوبة في حياتنا الروحية. فالتوبة هي احتياج دائم للإنسان الروحي، فهي ليست فعلًا في طريق الحياة، لكنها حياة وفعل دائم يتجدد في حياتنا كل يوم. لذلك كانت التوبة هي نداء كل أنبياء العهد القديم، كما كانت رسالة يوحنا المعمدان النبي السابق للرب يسوع، وكانت أيضًا نداء الرب يسوع للشعب «توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت السموات» (مت3: 2). كذلك كانت التوبة هي رسالة كل الآباء الرسل «توبوا وليعتمد كل منكم عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا» (أع2: 38)، وكل الخدام في الكنيسة على مر السنين. لذلك فالكنيسة تعلّمنا أن نقدم توبةً كل يوم، ونسعي نحو تجديد عهودنا مع الله في كل صلاة وكل تسبيح، ونكتشف في كل تعليم دعوة الله لنا للتوبة. وتعتبر الكنيسة أن الصوم هو زمان لتجديد التوبة.والتوبة في طقس الكنيسة القبطية هي سر يسبق جميع أسرار الكنيسة، فهي تسبق الاعتراف والتناول ومسحة المرضى، وأيضًا سر الزيجة إذ كان الطقس يتم مسبقًا مصاحبًا لصلوات القداس الإلهي. وهي أيضًا شرط أساسي لسر المعمودية عند تعميد الكبار. فالتوبة هي تعزية الإنسان طوال مدة غربته على الأرض، لذلك يُحكى أن القديس أغسطينوس كانت لذّته في نهاية حياته هي ترديد مزامير التوبة.والتوبة في أبسط تعاريفها هي المحبة الحقيقية لله وكراهية كل ما يحزنه، ومحبة الله الحقيقية هي أن نطرد كل خطية محبوبة من القلب، وننتبه للخطايا التي تأتي لنا في ثياب برّاقة، فتحترس من كل طريق للكسب غير المشروع، وكل علاقة محبة غير نقية أو غير شرعية، ومن متابعة للمواد الإعلامية الغير أمينة أو متابعة مواقع الإنترنت الغير طاهرة.. الخ، ونتحفظ من الخطايا التي قد تبدأ بنيّة حسنة، ثم تقودنا في طريق الخطية المحزن. فالخطية تقودنا إلى طرق مؤلمة، وتفقدنا كل ما اكتسبناه من البر والنقاوة، وتفقدنا فرحنا وبهجتنا بالقرب من الله، لذلك على الإنسان أن يفكر دائمًا فيما تصنعه الخطية داخله، فالعالم بكل ما فيه من تسليات مملة وراحات متعبة لا يمكنه أن يسعد قلب الإنسان، فالتائب وحده يستطيع أن يختبر معنى الراحة والفرح الداخلي، ويستطيع أن يحيا مستعدًا للحياة الأبدية، وهذه هي بركات التوبة.وفي مفهوم كنيستنا القبطية فإن التوبة تحتاج إلى جهاد حتى الدم، في أصوام وصلوات وميطانيات، وفي محاولات لضبط رغبات الجسد وشهواته الغير مضبوطة. فلا يستطيع الإنسان أن يقتني نقاوة القلب أو التسامح أو المحبة للآخرين دون جهاد طويل مع النفس. لكننا نؤمن أيضًا أن الإنسان في جهاده يحتاج بلا شك إلى معونة النعمة الإلهية، ولكن النعمة لا تُمنَح للإنسان الكسول، لذلك لابد من الجهاد والرغبة الأمينة لنوال معونة الله ونعمته. فنحن نحتاج أن نقطع كل شهوة شريرة، وكل أهواء ردية، وهذا قد يحتاج إلى بعض الألم، فنحتاج أن نتجنّب بعض العلاقات المحبوبة، ونحتاج أن نتنازل عن بعض المسرّات التي تبدو مبهجة، وهكذا فعل القديس أغسطينوس عندما قطع علاقاته العاطفية القديمة قبل توبته نهائيًا، لذلك تصلي الكنيسة في تحليل نصف الليل "اقطع عنا كل الأسباب التي تسوقنا إلى الخطية".وفي طريق التوبة لنحترس دومًا من أمور قد تعطّل توبتنا، لنحترس من روح اليأس التي تُفقد الإنسان رجاءه في العودة إلى الآب السماوي، فمهما كانت خطايانا نحتاج أن نثق أن الله قادر أن يجدّد حياتنا. ولنحترس أيضًا من فكرة تأجيل التوبة فننشغل بأمور كثيرة قد تعطلنا، بل لنكن دائمًا مستعدين أن نقول مع الابن الشاطر «اقوم الآن وأذهب إلى أبي» (لو15).لتكن أيام الصوم في حياتنا هي دعوة للتوبة. وتسابيح الكنيسة طوال شهر كيهك هي دعوة للتوبة. وحضور القداسات والخدمات الروحية هو دعوة للتوبة. والتقدم من الأسرار المحيية دعوة للتوبة. وكذلك لتكن كل قراءاتك هي دعوة للتوبة.. فهذا هو قصد الله وقصد الكنيسة من فترة الصوم.. لنستقبل الرب يسوع طفل المذود في قلوب نقية. نيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح وشمال أفريقيا
المزيد
21 مارس 2020

الأمومة الروحية

في عيد الأم تتجه مشاعر الجميع ناحية الأم، يعبرون لها عن حبهم وامتنانهم وُيؤكدون لها أنهم "يعرفون جميلها" وأن تعبها لم يضع وأنه كما هو محفوظ عندهم في قلوبهم ووجدانهم وذاكرتهم، فهو محفوظ أيضا عند الله "كما في زقّ" إن الأم معجزة والأمومة سرّ يصعب تفسيره، ولقد نسب الله هذه الصفة إلى نفسه مرارا، ففي العهد القديم يطمئن الشعب قائلاً: "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك" (اشعياء 15:49)وفي العهد الجديد يقول الرب "كم مرة اردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا" (متى 37:23)هذارائع ولكننا في غمرة هذه الأفراح والاحتفالات، ننسى الأمهات الروحيات اللائي قمن بدور ريادي في الكنيسة سواء في الحياة الرهبانية أو التكريس والخدمة، فلقد كان لكثير منهن الأثر الكبير في الكنيسة، ففي الحياة الرهبانية كان لهن أثرا ملحوظاً على جماعات ضخمة من الرهبان والراهبات، نذكر منهن – على سبيل المثال لا الحصر – الأم سارة التي أقامت ديرا للعذارى في الإسقيط، والأم ثيئودورا (وهي ناسكة من الاسكندرية عاشت في الاسقيط) وكانت مرشدة لكثير من الرهبان والراهبات، وكذلك الأم الذي يطلق سفرنيكي، والأم سكلنتيكي، وغيرهن كثيرات كان يطلق عليهن لقب ( Ammas ) مقابل لقب (Abbas) أو (Abba) الذي يطلق على الآباء الروحيين (تجدر الاشارة هنا إلى أن لفظة Ammas هي التي جاءت منها الفظة العربية "أمّا" والتي ينادي بها الانسان. أمه في بعض المجتمعات.لدينا كذلك الكثيرات من الأمهات الروحيات داخل بيوت التكريس، والمنتشرة الآن في كثير من الإيبارشيات، حيث يقمن بتدريب وإرشاد الفتيات الراغبات في حياة التكريس، وُيؤهلوهن للقيام بأنواع متعددة من الخدمات سواء في التعليم أو الإرشاد أوالإدارة أو الأنشطة الكنسية بأنواعها وما يقال عن الأمهات داخل المجال الرهباني والتكريسي يقال أيضاً عن الأمومة داخل حقل الخدمة، فإليهن يرجع الفضل في مساعدة الكثير من الفتيات ليصبحن خادمات وفتيات صالحات، وذلك من خلال إرشادهن الحكيم المتعقل وأمومتهن الروحيةالناضجة. إلى مثل هؤلاء أشار القديس بولس " سلموا على روفس المختار في الرب وعلى امه أمي (رومية 13:16)أما عن الأمومة الروحية للخادمة نفسها، فنذكر بكثير من الخير والفخر معاً الخادمات اللائي أفنين حياتهن من أجل المخدومات في الكنائس، متحملات في ذلك العبء الكبير في سبيل راحتهن، فتمخضن بهن حتى ولدنهن من جديد كبنات (ولكن للمسيح في هذه المرة) من خلال جرن الإرشاد والتوبة، عن ذلك عبّر القديس بولس قائلاً عن أنسيموس " الذي ولدته في قيودي " (فليمون 10:1) كما تبنت أمهات كثيرات بعض القديسين وعلماء الكنيسة مثل أوريجانوس، كما نذكر بالخير أولئك اللائي اشتركن في "احتياجات القديسين (رو 12:16) مثل القديسة ميلانية (التي من أسبانيا وانفقت أموالها على الأديرة في شيهيت) والقديسة باولا (التي خدمت العلامة جيروم) وغيرهن قديسات تشبهن بمريم المجدلية ومريمات اُخر قال عنهم الكتاب "واخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (لوقا 3:8) كذلك يمكن أن يوهب لقب "الأم الروحية" للأم بالجسد، وذلك متى سلكت بالروح مع أولادها ولم تجعل كل اهتمامها أجساد أولادها وعلومهم ، بل روحياتهم وعلاقتهم بالمسيح، وكيف تؤهلهم للأبدية، مثلما سعت الكثيرات من الأمهات في جعل أولادها قادة روحيين، من خلال تلمذتهم وهم صغار على يديها داخل بيتها، وهكذا يمكن القول بأن القديسين والقادة الروحيين قد تم اعدادهم أولاً عند قدمي امهاتهم الروحيات. تحية كبيرة في هذا اليوم إلى كل أم روحية، وان كانت في غنى عن الشكر والذكر إلاً أننا نذكرها ونطوبها وبالأولى الله الذي يرى في الخفاء ويجازي علانية. نيافة الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف عام المنيا وابو قرقاص
المزيد
30 يونيو 2019

الخادم وأخطر الأعداء

لا تتوقع خدمة بدون أعداء ولا تنتظر ثمر بغير جهاد وحين نتحدث عن الأعداء ربما يتوجه عقلك إلى الظروف والإمكانيات والمكان ولا تتوقع أبداً أن أكبر عدو لك هو ذاتك هو نفسك أنت كما ذكر أحد الآباء أن ليس لى عدو إلا ذاتى ولا أكره إلا خطاياى ولنتذكر دائماً أن أصحاب الرتب الملائكية سقطوا من شرف مكانتهم بسبب كبرياء قلوبهم فالأنا هى أخطر السلوك والتوجه الإنسانى حيث تصير الذات مركز الحياة تسيطر وتبطش حيث تتحول كل الأمور إلى مجرد وسائل لخدمتها حيث تصبح هى الهدف الأعلى للحياة وغايتها وما أخطر أن تأخذ الأنا الغطاء الروحى وتتظاهر بالشكل الإلهى لتتأله بالأكثر وتتعظم على حساب الله وقد يتربص هذا العدو بالأكثر بالخدام هؤلاء الذين قال عنهم الكتاب سراق الهياكل وأنهم رعوا أنفسهم فتجد فى الخدمة من يرغب فى أن يربط العمل بإسمه ويخشى أن يشاركه خادم غيره ويسعى ليظهر عمله فقط بين الناس ..وكأنه يريد أن يأتوا له ببوق ليتحدث عن إنجازاته الفريده وفى ذات الوقت يقلل من قيمة عمل غيره ويسخر منه ويسعى فى إعلان سلبياته ولا يدرى أنه يخسر بذلك أكثر مما يكسب وحين تسيطر الذات البشرية الكثيرة الخداع على خدمة الخادم تجده يستخدم سمو الكلام لصالح إشباع ذاته ويتعمد إبهار الآخرين بالعلم والمعرفة ولا يدرى أن السامع يدرك ما وراء الكلام فيتعجب كيف لم تنجح الوسيلة ؟؟؟ ويلجأ لوسائل أخرى متعددة ولا يعرف أن الخدمة عمل إلهى وحركة سماء وفعل روحانى وما الخادم إلا حضرة شفافة لصورة الله والذى عرفنا على الله هو إخلاؤه الذى بدونه لظل محتجباً بالنسبة لنا وهذا العدو يدفع إلى الإنفراد بالعمل وتقليل شأن الأجيال الجديدة ولا يؤمن بمواهب الآخرين ولا يشجع على توزيع المهام ولا يرغب فى طاعة الكبار ويستعف أن يسمع أى تعليم ولا يعترف بخطأه ويتعالى على الإجتماعات التى يحضرها كمخدوم وبدل من أن يشارك فى حمل المسؤليات يسرع بالنقد وإعلان السلبيات ويساعده فى ذلك ما حصل عليه من معرفة أو وعى بظروف الخدمة والخدام ما أخطر ذلك العدو الخفى الذى يهزمنا دون أن ندرى أننا إنهزمنا بل يجتهد أن يقنعنا أننا الافضل دائماً وكأنه يهمس فى أذن كل واحد فينا دائماً أنت تعرف أكثر أنت تخدم أكثر أنت موهوب أكثر أنت محبوب أكثرأنت .أنت.أنت .وللأسف نصدق لأننا نميل ان نصدق أحبائى لو نظرنا إلى آبائنا الرسل وخدمتهم الجليلة والعظيمة ندرك لماذا إختار الله الجهال البسطاء ليعمل بهم ويتمجد بهم ليصير ضعفهم أعظم كرازه بمرسلهم أحبائى الخلاص من الذات ليس أمراً هينا ً ولكنه يتطلب جهاد وعناء وصراخ ودموع لأنه عدو شرس ومتحور يظهر أحياناً ويختبىء أحياناً لذا علينا أن ننتبه ونطلب إنصفنى من خصمى إحمينى من نفسي أما يهمك أن أهلك وحين تتراجع الذات يظهر المسيح بنفس المقدار حينئذ يفرح الزارع والحاصد معاً . القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والأنبا أنطونيوس بمحرم بك الإسكندرية
المزيد
01 يناير 2021

شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى

"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22 مقدمة يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية: داود وشخصيته العظيمة اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات. داود الحلو الجميل الروح وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!.. داود الرقيق القلب وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!.. داود الصلب الإرادة إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!.. داود القوي الإيمان تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!.. داود الشجاع الجسور إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!. داود الغيور الملتهب كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!.. داود الواسع الصبر ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!. داود الوديع المتواضع وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!.. داود المحب الكبير ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!. داود ومدارسه الكبرى وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها: مدرسة الآباء والأجداد كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!.. مدرسة الطبيعة وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!.. مدرسة الألم لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!.. مدرسة الواجب وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!.. داود وضعفاته المحزنة لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!.. ضعف الإيمان وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!.. ضعف التسامح ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية.. السقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. داود وخدماته ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها.. خدم مؤسساً وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!. خدم معطياً ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين... خدم مرنماً لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد
12 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إرميا

" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى "" إر 9: 1 " مقدمة لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل، فى مطلع الحرب العالمية الثانية، وهو يقول للشعب الإنجليزى: « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع»، ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً، إذ تصورت قرب نهاية الحرب، يابانياً محباً لبلاده وشعبه، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين!!.. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه: « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك ».. " لو 19: 41 - 44 "كان إرميا نبى الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى »،... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى؟! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات فى مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات، وقد تحول رأسه إلى ماء، وعيناه إلى ينبوع دموع، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال!!.. لم أعطي هذا الحظ، ولم سار فى الطريق المنكوب!!؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى: إرميا ومن هو!!؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم، فبينما يراه جيروم « مرفوع الرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى »، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس، ويوجد من اعتقد أن المعنى « اللّه يؤسس ».. وعلى أية حال، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه، وأخرجه من الرحم، وأقامه: « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1: 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى: « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت، وكان إرميا هو نبى إسرائيل، لما دنت شمس أورشليم للغروب. فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام، والحريق والدمار الذى ألم بها »... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة، بل كان واحداً منهم فقط، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم!!.. وكان يتنقل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم!!ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه... كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية، ونعنى بها آشور، ومصر، وبابل. وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية، وقد غزا مصر فيها مرتين، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب، بل إلى السيطرة والقوة،.. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة، وتولى ابنه يهوحاز الملك، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً!!ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفى الغالب، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهى محاصرة، وعندما دمرت عام 586 ق.م.، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل. لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا،... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر، رغم ارتدادهم عن اللّه، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه، ورجموه، فمات فى مصر!! عاش إرميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها،... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة، التى يسكن فيها إلى بيت وولد، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد: « ثم صار إلى كلام الرب قائلا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16: 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب، ولم يكن له متسع، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج.... بل إن الرسول أوصى: « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7: 27: 28 " كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة، طالما هى على الحقوين،.. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها. وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ،... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر، كانت جديدة ولكنها لم تغسل،.. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه،... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب، ففسد، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل،... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً،... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب، فإذا فسد الطين، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد،... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء، إذا اجتاز فى النار، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم، أمام شيوخ الشعب، وشيوخ الكهنة، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل، وقد ضاع الرجاء فيها، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم، والذى أضحى رمزاً لجهنم، مكان العذاب الأبدى، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم، وكان مباءة للديان والجراثيم، يجمع بين الظلمة الدائمة، والنار التى لا تطفأ، ومن ثم قيل: « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9: 44 ". ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه، نير الثور، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه،... وفى مصر، فى أخريات حياته، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعدة، والتى لا جدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها!! ولعل العصر الذى عاش فيه، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع، وآخرون نبى الفشل، وغيرهم نبى الأحزان،.. أو نبى التناقض، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به، وبعصره، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة، ازداد اتساعاً، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات، وقد كان إرميا من هذا النوع، فقد جمع، على أعظم صورة، بين: الرقة البالغة، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا، إلا بهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح: « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1: 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره، وهو بطبعه حيى خجول متضع، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حد الدموع، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة،... وهو يقف مع موسى الذى رفض، فى مطلع الأمر، الدعوة، وهو يقول للّه: « أرسل بيد من ترسل » " خر 4: 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية، يهرب إلى ترشيش، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته،... إن هذا النوع من الخدام، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول: « ها أنذا أرسلنى " إش 6: 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل، » " أع 9: 6 ".. ولكنه مع ذلك، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض ».. " إر 1: 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم!!... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه، وهل تكلم إليه بصوت مسموع، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق!!.. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد،... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هى قوة روح اللّه فيه، ولمس اللّه شفتيه، وجعل كلامه فى فمه!!.. فإذا قيل، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس، قبل وبعد، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة، أو كما صوره أحدهم: نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة، كمن يهرب من أسد يطارده، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك: إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم، وإلى العواطف التى تملكهم، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر!! وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والأضطهاد، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى: « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20: 7 - 9 "... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه. اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً. ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا: قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20: 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد، ومن سجن إلى سجن، وغاص فى حمأة الجب، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر!!... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال،... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة!!... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ!!... الحنان الذى لا يوصف، والقسوة الشديدة كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4: 19 "... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى. ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9: 1 و2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها، أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق فى المسيح. لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9: 1 - 3".. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه، لكنه كان فى وسطهم: « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه. فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11: 19 - 23 ".. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة!على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض، هو الموقف بين الوطنية والدين،... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض،... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه، ولا عيب فيه البتة، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه،... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة، والاستسلام لنبوخذ ناصر،... ومن لى، فى تلك الساعة، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال!!.. كان يتمزق بين الحنان المرهف، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب،... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو: هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن،... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين!!؟.. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض!!... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام!!.. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره: أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء!!.. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال: أنا مع وطنى فى الحق،... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه!!.. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل، حيث أعلى له الحق فى ذلك،... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام، وهم يشبهون أمريكا، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها، بسدوم وعمورة،... ويصرحون، وهم وطنيون مخلصون، بأنها على شفا الهلاك، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض!!.. إرميا ونموذج الخادم العظيم أما وقدأطلنا الحديث عن شخصية إرميا ومقوماته كإنسان متسع، يبدو ممزقاً أو موزعاً بين عواطفه الذاتية، والنداء الإلهى الموجه إليه، فإنه يجمل بنا أن نراه كخادم أمين للّه، وهو فى هذا المجال، من أروع خدام اللّه العظام فى كل التاريخ، وربما نستطيع التركيز فى الأصحاح الثانى والعشرين من سفره، عندما كلفه اللّه بأن يذهب إلى الملك ورجاله فى القصر الملكى ليتحدث إليهم برسالة الرب، وهنا نرى الخادم فى أجل أوصافه: الخادم والرسالة العلوية قال الرب لإرميا: « انزل إلى بيت ملك يهوذا » " إر 22: 1 " ويبدو إن إرميا كان فى الهيكل، والهيكل كان فى أعلى بقعة، فمن يترك الهيكل لابد سينزل نزولا جغرافياً، لكن المعنى أشمل وأعمق من مجرد النزول الجغرافى، إذ أن من يحمل رسالة اللّه عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو فى مركزها وسلطانها وأمرها على كل عظماء الأرض وسادتها، وملوكها،... ويبدو أن النبى قد أمر بالذهاب إلى العائلة المالكة لأنه يعلم مدى نفوذها فى الخير أو الشر على حد سواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائماً على منوالهم، إذ يرغبون فى تتبع اثارهم ومحاكاتهم وتقليدهم فى كافة الظروف والأوضاع، وليس أدل على ذلك من أنه فى أيام الرئيس ترومان رئيس الولايات المتحدة، بدأ هذا الرجل يلبس القمصان المشجرة، فإذا بها تنتشر فى كل الولايات المتحدة، بل فى العالم بأجمعه،... وإذا أدركنا ذلك كم يبدو لنا كقادة أو آباء أو أمهات، عمق تأثيرنا فيمن يتطلعون إلينا، ويسيرون فى أثرنا ويحاكوننا، عن دراية أو عن غير دراية!!ومن اللازم أن نلاحظ ههنا شجاعة النبى وبراعته وحكمته... فالشجاعة أن تذكر القادة بأن عليهم أن يتقبلوا كلمة اللّه وأمره لا تفضلا أو تجملا بل امتثالا وخضوعاً وانتظاراً، وعلى الخادم أن يتحرك فيذهب حاملا الرسالة، دون أن ينتظر أن يأتى إليه السامع، أو كما قال أحدهم، إن من واجب الخادم ألا ينتظر من سامعيه أن يجروا وراءه، بل من واجبه أن يخلق الاجتماع، وعليه أن يجعل رسالته رسالة علانية واضحة، لا أن يخفيها فى حيز ضيق صغير، وعليه ألا يخدم فقط بين جدران الكنيسة، حيث من السهل أن يتقبل السامعون الرسالة، بل عليه أن يخرج إلى الخارج ليتحدث بها بين أناس قد يعادونه ويؤذونه بسببها!!... إن الدين ليس لمن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً للعشارين والخطاة، ومن يظنهم الناس أنهم أبعد الجميع منه!!.. الخادم والرسالة المشجعة ذهب إرميا إلى الملك والقادة يحمل رسالة إيجابية مشجعة: « أجروا حقاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكياً فى هذا الموضع » " إر 22: 3 " وهذا وعظ إيجابى عملى واضح، لم يحلق فيه الواعظ نحو النجوم، أو يتحدث بلغة الفلسفة، ولم يلجأ إلى المنحنيات والدروب فى التعبير، بل هو كلام مستقيم لا التواء فيه، كما أنه وعظ يبدأ بالتشجيع والترغيب قبل التوبيخ والانتهار، وهذا يعلمنا أن نضع الشجاعة فى موضعها، وأن نمتنع عن كل تهور واندفاع فى غير موضعهما، بل هذا فى الواقع حسن الاستهلال الذى ينبغى أن يبدأ به الواعظ رسالته، ليكتسب الأذان ويجتذب المشاعر، ولم يكتف النبى بهذا التشجيع بل لوح بالوعود المباركة إذ قال: « إن فعلتم هذا الأمر يدخل فى أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين فى مركبات وعلى خيل » (عدد 4) وكم كان من الواجب أ ن يشرح هذا قلب الملك لأنه سيجد حماية وحراسة رب الجنود ملك إسرائيل، فى الوقت الذى فيه تتهدده الجيوش الأجنبية، بل إن فى القول: « ملوك جالسون لداود على كرسيه »... إعلان عن إمكانية عودة المملكة إلى مجدها القديم أيام داود، وامتداد رفاهيتها وسلطانها أجيالا طويلة!!.. الخدام والرسالة المحذرة ومن الواضح أن إرميا، عندما اتجه إلى أعلى الطبقات فى البلاد وأكثرها سطوة وجاهاً ونفوذاً، لم يجعل من صفاتهم أو مناصبهم معطلاً له عن إتمام الرسالة على أكمل وجه، وقد كان عليه أن يوجهها إليهم كما توجه إلى أضعف الناس أو أقلهم نفوذاً... ومن الوعاظ من يتحدث بالسهل اللين اليسير من الكلام، دون التحذير الواضح، لكن إرميا لم يفعل هكذا،... لقد تحدث إلى الملك والقادة بأن سر عظمة المملكة يرجع أولاً وأخيراً، إلى ما عندها من أخلاق أكثر مما عندها من مادة، إذ لم يقل للملك أن سر النجاح والنجاة للملكة يرجع إلى ما عندها من جيوش، وما تملك من قوات، أو تنال يدها من ذهب،..إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا هذه هى الحقيقة الدائمة فى كل العصور، وقد كان على الملك أن يجرى أولا، الحق والعدل،... والحق أوسع وأشمل من العدل، إذ أن الحق يشمل كل ما هو ضد الباطل والكذب والاستبداد والاستعباد سواء فى علاقة الناس بعضهم ببعض أو فى تصرفاتهم الفردية، بينما يتحدث العدل عن موازنة الحقوق بين الأطراف المتنازعة ويبدو هنا أن الملك يهوياقيم كان قد داس الحق والعدل معاً، فى أعماله، إذ سخر الشعب فى بناء قصره، دون أجر أو رحمة،... وكان الأمر الثانى معونة الضعيف، ويبدو هذا فى الوقوف إلى جانب المغصوب ضد الظالم، وعدم اضطهاد اليتيم والأرملة والغريب، ويجمل بنا هنا أن نذكر أن مساعدة هؤلاء ليست مجرد عمل اجتماعى تمليه الديموقراطية أو الاشتراكية الحقة، بل هو العمل الذى يسر به قلب اللّه!! » وجدير بالذكر أن التحذير كان واضح التعبير، ظاهر الدلالة، وعدم الانتباه له، سيجلب نتيجته المؤكدة، النتيجة التى أقسم الرب بها فى خراب المملكة، والبيت المالك معاً،... وكانت المأساة الكبرى أيام إرميا هى التعلق بالشكليات، فمدينة أورشليم فى تصور شعبها مدينة محبوبة من اللّه، ومادام الهيكل موجوداً بها، فلا يمكن أن تمسها قوة فى الأرض،......... وكان حديثهم: « هيكل الرب هيكل الرب هو » " إر 7: 4 ".. وكأنما اللّه يسكت على الشر والفساد مادام الظاهر من الدين موجوداً،.. وإذا باللّه يقول: "حى أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتماً على يدى اليمنى فإنى من هناك أنزعك، وأسلمك ليد طالبى نفسك وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذ ناصر ملك بابل وليد الكلدانيين »... " إر 22: 24 و25 ". أجل إنه من الحماقة أن يظن إنسان أو شعب أنه لمجرد أن اسم اللّه قد وضع عليه، فإنه آمن من كل خطر أو ضرر أو شر، مهما يرتكب من إثم أو خطية أما عن يهوياقيم نفسه، الذى قسى قلبه وأحرق الدرج، وفعل الظلم والشر والفساد، فقد بين له الفرق بينه وبين أبيه يوشيا: « هل تملك لأنك أنت تحاذى الأرز أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلا؟ حينئذ كان له خير. قضى قضاء الفقير والمسكين. حينئذ كان له خير. أليس ذلك معرفتى يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين آه يا أخى أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد أو آه ياجلالة، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم!! " إر 22: 15 - 19 ". إرميا والفكر اللاهوتى فى سفره سنلم ببعض الأفكار اللاهوتية التى جاءت فى سفر إرميا ولعل أهمها: كلمة اللّه وكلمة اللّه عند إرميا تبلغ مركزها الأعلى، إذ هى الكلمة التى ينبغى عليه أن يعلنها، وقد جاءته هو واضحة فى الدعوة إلى النبوة، وقد وضعت هذه الكلمة باللمسة الإلهية على شفتيه، لينادى بنتائجها البالغة للأمم والممالك، وكلمة اللّه ليست مجرد ألفاظ ينطق بها، بل هى الكلمة التى تحمل قصد اللّه وإرادته، والمصحوبة بفاعليته وسلطانه، وفى صراعه مع الأنبياء الذين إدعوا النبوة فى عصره، كشف إرميا لهم عن إعلانات اللّه له، وبين الفارق بينه وبينهم، إذ أن اللّه أعلن أنه لم يرسل هؤلاء الأنبياء قط: « لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا " إر 23: 21 ".. ولا يستطيع الإنسان أن يتكلم باسم اللّه، إلا بعد أن يجلس فى حضرة اللّه، وينصت بعمق وتأمل إلى اللّه: « لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته؟ من أصغى لكلمته وسمع؟... ولا وقفوا فى مجلسى لأخبروا شعبى بكلامى وردوهم عن طريقهم الردئ وعن شر أعمالهم » " إر 23: 18، 22 "... إن الأنبياء المضلين يحلمون أحلاماً من ذواتهم: « قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمى بالكذب قائلين حلمت حلمت. حتى متى يوجد فى قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن ينسوا شعبى اسمى بأحلامهم التى يقصونها الرجل على صاحبه كما نسى آباؤهم اسمى لأجل البعل. النبى الذى معه حلم فليقص حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق ما للتبن مع الحنطة يقول الرب » " إر 23: 25 - 28 ".. « فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمى وأنا لم أرسلهم وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع فى هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء » " إر 14: 14، 15 " والسمة البارزة فى كلام هؤلاء الأنبياء هى تملق السامعين، والمناداة لهم بما يطيب لهم أن يسمعوه،... على العكس من كلمة اللّه التى تظهر كالحنطة، إذ قورنت بالتبن الذى تذروه الرياح،... وهى المطرقة التى تحطم قساوة القلوب الصلدة، والنار التى تلهب حياة الناس ومشاعرهم وتسيطر على إرادتهم!!.. وذلك لأنها مصحوبة بفاعلية روح اللّه!!.. معرفة اللّه والحقيقة الثانية التى تبدت أمام إرميا: المعرفة المتبادلة مع اللّه، معرفة اللّه له، ومعرفته هو للّه » وهو يصف اللّه بالقول: « وأنا العارف والشاهد يقول الرب»..... وقد عرف اللّه إرميا: « قبلما صورتك فى البطن عرفتك " إر 1: 5 " وحياته من البدء مكشوفة أمام اللّه، وهى مكشوفة فى الأزمات: « وأنت يارب عرفتنى » " إر 12: 3 "، « والرب عرفنى فعرفت. حينئذ أريتنى أفعالهم » " إر 11: 18 "، « أنت يارب عرفت. أذكرنى وتعهدنى وانتقم لى من مضطهدى. بطول أناتك لا تأخذنى. أعرف احتمالى العار لأجلك » " إر 15: 15 " « أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك » " إر 17: 16).. « وأنت يارب عرفت كل مشورتهم على للموت » " إر 18: 23 " كان إرميا يدرك أن اللّه يعرف حياته جملة وتفصيلاً، بل يعرف من قبل أن يولد إرميا هذه الحياة فى كافة أو ضاعها، وعلى وجه الخصوص، فى الضيقات والأزمات... ومن الجانب الآخر، كان إرميا يعرف اللّه، وهو يختلف هنا عن غيره من الكهنة: « الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفونى، والرعاة عصوا على، والأنبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع » " إر 2: 8 ".. « أما أنا فقلت إنهم مساكين. قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم » " إر 5: 4 ".. « لأن شعبى أحمق، إياى لم يعرفوا، هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء فى عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون » " إر 4: 22 ".. « وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها » " إر 7: 9 ".. « بل اللقلق فى السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئها، أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب » " إر 8: 7 "... لكن إرميا كان يؤمن باليوم الآتى الذى سيقطع اللّه فيه عهداً جديداً مع شعبه: « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ليس كالعهد الذى قطعه مع ابائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى اقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتى فى داخلهم، واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين أعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفوننى من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد » " إر 31: 31 - 34 "... وقد تحقق هذا فى قول المسيح المبار ك: « وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى » " يو 10: 14 ". نشاط اللّه فى حياة البشر لم تكن عقيدة إرميا أن اللّه خلق الناس ليتركهم دون أن يبالى بهم كما كان يتصور توماس كارليل، أو ليقف متفرجاً على آلامهم وأحلامهم وتعاساتهم كما كان يزعم لورد بيرون، بل أن نشاط اللّه له الدور الكامل فى حياة الناس، على أن هذا النشاط يختلف ولا شك عند إرميا بالنسبة للمؤمنين، ولشعب اللّه، وللأمم، وللوجود كله،... ففى حياة النبى مثلا، يدرك إرميا مدى تدخل اللّه فى حياته، من مجرد دعوته التى أشار إليها فى الأصحاح الأول من سفره، أو كما قال أحدهم: تكفى الإشارة إلى الأفعال الواردة من " عدد 5: 10 " " صورتك " " عرفتك " "قدستك " " جعلتك " " أرسلك " " آمرك " " لأنقذك " " جعلت كلامى فى فمك " " وكلتك "... وهذه الأفعال تغطى حياة النبى جملة وتفصيلا، مما لا يترك واردة أو شاردة، دون تدخل اللّه، ومن ثم نراه يقول: «عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته» " إر 10: 23 ".. وفى حياة الشعب، مهما تلونت ظروفه، وتغيرت، وسواء وقع تحت التأديب أو الحض أو الوعد، فهو الشعب المختار من اللّه: « إسرائيل قدس للرب أوائل غلته. كل آكليه يأثمون. شر يأتى عليهم يقول الرب » " إر 2: 3 ".. « وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها. فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة » " إر 2: 21 ".. وهو المحبوب: "ما لحبيبتى فى بيتى. قد عملت فظائع كثيرة " " إر 11: 15 " « قد تركت بيتى رفضت ميراثى دفعت حبيبة نفسى ليد أعدائها ». " إر 12: 7 ".. وهو الميراث: « رعاة كثيرون أفسدوا كرمى، داسوا نصيبى، جعلوا نصيبى المشتهى برية خربة » " إر 21: 01 " وهو قطيع الرب: « وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسى تبكى فى أماكن مسترة من أجل الكبرياء، وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب » " إر 13: 17 " وهو البكر: « لأنى صرت لإسرائيل أباً وأفرايم هو بكرى » " إر 31: 9 ".. وهو المرتبط بالعهد مع اللّه: « لا ترفض لأجل اسمك، لاتهن كرسى مجدك. اذكر ألا تنقض عهدك معناً » "إر 14: 21 "... « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب » " إر 31: 31، 32 "... ومن المعلوم أن إرميا جاء بعد هوشع بزمن،... وقد اتفق الإثنان على تصوير العلاقة بين اللّه وشعبه فى صورة الزوجة والبنين،... يقول إرميا: « قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة » " إر 2: 2 " « ألست من الآن تدعيننى يا أبى أليف صباى أنت » " إر 3: 4 "... « وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم. وقلت تدعيننى ياأبى ومن ورائى لا ترجعين » " إر 3: 19".. « إرجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » " إر 3: 22 "... هذه هى العلاقة الخاصة بين اللّه وشعبه، مع تفوق العهد الجديد الذى يعلن لنا اللّه فيه بالروح القدس تلك الرابطة التى لا يمكن أن تنفصم أو تنقطع بين المسيح وكنيسته إلى أن يأتى فى مجيئه الثانى العتيد!!..ومن الواضح أن تاريخ الأمم خاضع لسيطرة اللّه وسلطانه: « والآن قد دفعت كل هذه الأراضى ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدى وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب، وابنه وابن ابنه حتى يأتى وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام » " إر 27: 6، 7 "... بل إن الوجود كله يخضع للسلطان الإلهى: « أنى أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذى على وجه الأرض بقوتى العظيمة وبذراعى الممدودة وأعطيتها لمن حسن فى عينى » " إر 27: 5 ".. وهو الذى يعطى المطر: « ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة » " إر 5: 24 ".. « هل يوجد فى أباطيل الأمم من يمطر، أو هل تعطى السموات وابلا، أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه » " إر 8: 7 ".. كان إرميا يؤمن بالتدخل والنشاط الإلهى، فى كل شئ، فى حياة الجميع بصورة كاملة دائمة كل يوم!!. الخطية والدينونة والتوبة والخلاص أعلن اللّه لشعبه إرادته المقدسة، وقد أعلنها فى التوراة وعن طريق الكهنة والأنبياء، وكان المطلوب من إسرائيل أن يخضع لهذه الإرادة الإلهية ويتمسك بها: «هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار.. بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر: بأنه يفهم ويعرفنى أنى أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا ً فى الأرض لأنى بهذه أسر يقول الرب » " إر 9: 23، 24 " وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد قواعد أدبية أو خلقية، بل هى أوامر إلهية أعطاها اللّه إفصاحاً عن طبيعته وكمالاته الإلهية، وهو لهذا يسر بها، فخروج شعبه عنها، أو خروج الإنسان عنها، هو الضياع بعينه: « هل بدلت أمة آلهة وهى ليست آلهة. أما شعبى فقد بدل مجده بما لا ينفع » " إر 2: 11 "..، وهو السير وراء الباطل: « هكذا قال الرب ماذا وجد فى اباؤكم من جور حتى ابتعدوا عنى وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً " إر 2: 5 "، وهو الشرود والنسيان: « لماذا قال شعبى قد شردنا لانجئ إليك بعد. هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها. أما شعبى فقد نسينى أياماً بلا عدد » " إر 2: 31، 32 " وهو الأعوجاج: « لأنهم عوجوا طريقهم» " إر 3: 21 ".. وهو الزنا: « لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية » " إر 2: 20 ".. « حقاً أنه كما تخون الامرأة قرينها هكذا خنتمونى يا بيت إسرائيل يقول الرب » " إر 3: 20 "، وهو المرض: « ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » "إر 3: 22 "، والدينونة الواقعة على الشعب، والعقوبة القاسية، لأن الخطية تمكنت منهم وتغلغلت فى حياتهم، وأصبحوا كأتان الفرا التى فى شهوتها تستنشق الريح " إر 2: 24 ".. أو فى الصورة الأخرى: « هل يغير الكوشى جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر » " إر 13: 13 ". « سمعاً سمعت أفرايم ينتحب. أدبتنى فتأدبت كعجل غير مروض. توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى. لأنى بعد رجوعى ندمت، وبعد تعلمى صفقت على فخذى. خزيت وخجلت لأنى حملت عار صباى. هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر، لأنى كلما تكلمت به أذكره بعد ذكراً، من أجل ذلك حنت أحشائى إليه. رحمة أرحمه يقول الرب » " إر 31: 18 - 20 " كان إرميا نبى الدموع، ولن يعرف العالم مرة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسى فى كل العصور،... لكنه لم يعرف واعظاً، وكاتباً، وراثيا مرة أخرى كإرميا، وإذا كانت القديسة تريزا قد قالت: إن الدموع تكسب كل شئ،... فإن دموع إرميا التى بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخربة، إلا أنها، - ويا للعجب - لم تنفد إلى الآن، فقد تحول رأسه فعلاً إلى ماء لا يكف عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوعاظ منها عبرة ومثالا وهم يبكون على قتلى الخطية نهاراً وليلاً فى الطريق المنحدر إلى الضياع الأبدى، والعذاب والتعاسة، فى جهنم التى كتب على بابها دانتى فى الكوميديا الإلهية: « أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!.. »
المزيد
20 أغسطس 2020

ليتورجيا كنيسة المشرق الكلدانية ج2

العذراء مريم في طقس كنيسة المشرق ثانيا- مكانة العذراء مريم في رتب اسرار الكنيسة:- ان ذكر العذراء مريم بارز في رتب اسرار البيعة، الا انه يحتل مساحة أضغر من المساحة التي يشغلها في ساعات الصلاة الفرضية. نحاول اكتشاف هذه المكانة السامية في رتب العماد، والقداس، والرسامات الاكليريكية، والزيجة، ورتب تشييع الموتى المؤمنين. 1-رتبة العماد يتشفع المصلون بالعذراء مريم مراراً في رتبة العماد، نشير الى اهم الاماكن التي يرد ذكرها فيها: أ- تُخصّصُ المناداة التي تقال بعد تلاوة الانجيل الطاهر”طلبة” بمريم العذراء، مطلعها”لاجل تذكار الطوباوية مريم البتول القديسة…”، ورد ذكرها آنفاً، لان هذه المناداة تكرر يومياً خلال صلاة المساء. ب- تَكوّن “قانون الايمان” ضمن اطار مراسيم المعمودية، اذ كان على طالبي العماد ان يتعلموا بنود الايمان المسيحي خلال فترة الموعوظية، ويعلنوا اعتناقهم عقيدة الجماعة المسيحية التي يطلبون الانتماء اليها. يرد ذكر العذراء مريم في فقرة من فقرات “قانون الايمان” الذي يُتلى قبل رتبة تقديس الماء والزيت، حينما يؤكد بان”…ابن الله الوحيد… صار انساناً، وجبل به وولد من مريم العذراء…”. جـ -يرتل الشماس مدراشاً بعد منح سر العماد مباشرة. والمدراش لحن تعليمي، يتحدث هنا عن عماد يسوع وعن مفاهيم المعمودية المسيحية. يرد ذكر العذراء مريم في المقطع الاخير على النحو التالي: – “تصف السماء مجد الرجل ذي البهاء السني – (ظهر) في الغمام كصبي – فُتحت الاسفار امامه – انحدر ونزل بهاؤه الخفي – مالت مريم وقبلته – مادت مياه المعمودية – وانحدر الروح ورفرف عليه”(63). د- يتلو الكاهن في نهاية رتبة العماد صلوات ختامية، يلتجئ في احداها الى شفاعة العذراء مريم: “ايها الرب، لتكن صلاة البتول القديسة حمى لنا…”(64). 2- رتبة القداس الالهي يرد ذكر العذراء مريم في عناصر القداس المتغيرة، وفي الصلوات التالية: أ‌- العناصر المتغيرة: يطلب المصلون شفاعة امهم العذراء عبر التراتيل التي تتغير وفق المواسم الطقسية المختلفة وهي: 1- “ترتيلة قدس الاقداس” ، التي ينشدونها في مستهل القداس، داخل قدس الأقداس، اذ يكون ستار قدس الاقداس مسدلاً. 2- “ترتيلة الانجيل”، التي يؤديها الجوق في فناء الكنيسة خلال موسم الحر، أي خلال الفترة الممتدة ما بين عيد الصعود والاحد الاول من تقديس الكنيسة. 3- “ترتيلة الاسرار”، التي ترنم اثناء نقل التقادم، أي الخبز والخمر، من “بيت الكنز” الى المذبح(65). 4- “ترتيلة البيم”، التي يرتلها الجوق الجالس في البيم اثناء التناول. نقدم نموذجاً من هذه التراتيل، وهي “ترتيلة قدس الاقداس” التي يؤدونها في عيد تهنئة العذراء: “يا رب الكل، تشكرك القديسات اللواتي أحببن اسمك، لانك اخترت مريم من جنسهن، واحللت فيها سرك الخفي، اذ ظهر منها المسيح مخلص العالم بقوة الروح القدس. لذا تحتفل الكنيسة المقدسة بيوم عيد البتول”(66). ب- يتناوب جوقا المذبح والبيم في ترتيل اربعة ابيات شعرية، بعد “ترتيلة الاسرار” وقبل “قانون الايمان”، وذلك احياءً لذكر العذراء، والرسل، وشفيع الكنيسة والموتى المؤمنين. فيما يلي ترجمة البيت الاول المخصص بمريم العذراء “المجد للآب وللابن والروح القدس: لنذكر على المذبح المقدس العذراء مريم ام المسيح”(67). جـ- اضاف الكاثوليك ذكراً للعذراء مريم في النَّصَّين التاليين الواردين في انافورا الرسل للقديسين أدي وماري: 1-يشكر الكاهن المولى القدير من أجل النعم التي أغدقها على القديسين، وفي مقدمتهم العذراء مريم، على النحو التالي:”ايها الرب الاله القدير، اقبل هذا القربان الذي نقربه لك عن جميع النعم التي افضتها على الطوباوية مريم الدائمة البتولية، وعلى جميع الابرار الذين ارضوك…”(68). 2-يستمطر الكاهن بركات الله على المؤمنين بشفاعة العذراء عبر الصلاة الختامية التالية:“ليفض عليكم خيراته، وليمطر في بيوتكم وابل بركاته ومواهبه، وليُنجكم ربنا والهنا من الشرير وقواته بصلاة السيدة الطوباوية وجميع القديسين، وليصنكم من كل أذية خفية وظاهرة، الآن وكل أوان والى الأبد”(69). 3-كتاب الحبريات يحتوي كتاب “الحبريات” الكلداني، الذي طُبع بهمة مجمع الكنائس الشرقية في روما عام 1957 على الطقوس التالية: أ-رتبة تقديس المذبح، وتستخدم لتكريس الكنائس الجديدة، أعده البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي(649-659م). ب-رتبة تكريس الزيوت المقدسة، من أعداد البطريرك عبد يشوع الخامس خياط(1894-1899م). جـ- رتب رسامة الشمامسة والكهنة والأساقفة والبطاركة. نجد في كل من هذه الرتب صلوات وتراتيل عديدة مخصصة بمريم العذراء، نذكر بعضاً منها: أ-رتبة تقديس المذبح والكنائس الجديدة: “مدينة الملك العظيم(مزمور 48/2): أيتها البتول القديسة الطاهرة مريم، يا هيكل الروح القدس، تضرعي الى المسيح، لينجز الوعد الذي قطعه للكنيسة من خلال بطرس بكر إيماننا”(70). ب‌- رتبة تكريس الزيوت: “ايتها البتول القديسة مريم، ام يسوع مخلصنا، تضرعي واستمطري الرحمة على الخطأة الملتجئين إلى صلواتك، لئلا يهلكوا. لتكن صلاتك حمى لنا في هذا العالم وفي الدهر الآتي”(71). جـ-رتب الرسامات: 1-تدعو تراتيل الرسامات العذراء مريم، ام يسوع الكاهن والحبر الأعظم، لتسهر على الكنيسة وخَدَمِتها، ليتمكنوا من أداء مهامهم ومواصلة رسالة المسيح الخلاصية(72). 2-اقتبست رتب الرسامات العديد من التراتيل من كتاب الفرض، وخاصة من مجموعة “تراتيل طلب العون الإلهي” (73). نقدم فيما يلي ترجمة إحدى هذه التراتيل “لان ينبوع الحياة عندك(مز 36/9): أضحت مريم معين الخيرات ومصدر المعونات لجنس البشريين. فلتحرسنا صلواتها من الشرور، لنصبح معها من ورثة الملكوت”(74). 4-مراسيم الزواج يرد ذكر مريم العذراء مراراً في مراسيم رتبة الزواج، الا ان معظم هذه التراتيل المريمية مستقاة من كتاب الفرض الإلهي، سبق وان ذكرنا العديد منها، لذا نكتفي بالإشارة اليها وذكر مطلعها.تتكون رتبة الزيجة من المراسيم التالية: أ- مراسيم العقد انه عقد أولي لمراسيم الزواج، يطلب الكاهن في احدى الصلوات من الله ان ينزل غيث بركاته على المتعاقدين وان يضع الأُلفة والمحبة بينهما “بشفاعة العذراء البتول، والدة المسيح، مستودع النعم والبركات…(75). ت‌- رتبة البركة على ثياب العروسين ترتل الجوقة ترنيمة، ترجو فيها حماية العذراء مريم وشفاعتها لأبناء آدم كافة، مطلعها: “يا مريم يا من ولدت دواء الحياة لأبناء آدم…”(76). جـ- رتبة الخطوبة تستنجد تراتيل هذا القسم بالبتول القديسة مراراً في المقاطع التالية: 1″- ترتيلة مطلعها:”لتكن صلاة مريم ام يسوع مخلصنا سوراً لنا ليلاً ونهاراً…”(77). 2″-ترتيلة مطلعها أخرى تبدأ بالمجدلة ، مطلعها:”افرحي وابتهجي، أيتها المملؤة نعمة، مريم البتول الطاهرة، والدة المسيح…”(78). 3″- تبدأ ترتيلة أخرى بعبارة” يقول الشعب آمين: ايها الرب بارك النساء كما باركت السيدة مريم الطوباوية…”(79). 4″- ترجو الكنيسة العون الإلهي في ردة القانون أي (مز 37/23-28) “الرب يقدم خطوات الرجل…” على النحو التالي:”اللهم لتكن صلاة العذراء مريم وصلاة القديسين والشهداء حمى لساجديك…”(80). 5″-فيما يلي ترجمة لمقطع من مقاطع التسبيحة “لتكن صلاة البتول مريم سوراً لنا ليلاً ونهاراً ازاء الشرير وقواته…”(81). د- رتبة الاكليل نجد في رتبة الإكليل الترتيلة التالية المقتبسة من “الحان طلب المعونة”:“أرسل الله نعمته وحقه(مز57/4):أُرسل جبرائيل من بين صفوف الملائكة، فانحدر وزف لابنة المائتين بشرى أبهجت العالم كله، وسلم لها مرسوم الامان والسلام، وبشرها بحبل ملؤه العجب. القى عليها السلام، فقبلت حبلاً مدهشاً. قال لها “السلام عليك وطوباك، لأنك تلدين بلا زواج، اذ منك يشرق المسيح الملك، وبه يتجدد العالم العلوي والعالم السفلي، وكل ما فيهما، المجد له”(82). هـ- رتبة بركة الخدر نجد في الرتبة التراتيل المريمية التالية: 1″- “يقول الشعب آمين: ليسد السلام المسكونة بصلاة(العذراء) المباركة”(83). 2″-“التسبيحة: لتكن صلاة البتول سوراً لنا (يحمينا) من الشرير وقواته ليلاً ونهاراً(84). 3″- الصلاة الختامية: اللهم رب الكل، يا من قبلت قربان الآباء الصديقين القدامى…ليرض عنكم كما رضي بالقديسين. ليستجب صلواتكم… ليغنكم بالثروات الروحية والنعم المادية… بصلاة تابوت الخلاص، السيدة مريم الكلية الطهارة، ام المسيح ملكنا ومحيينا…”(85). 5- تشييع الموتى المؤمنين يحتوي كتاب “تشييع الموتى” على الطقوس والمراسيم التي تقام من أجل الموتى المؤمنين بكل فئاتهم: رجالاًونساءً، أطفالا وكباراً، اكليروساً وعلمانيين، وذلك خلال الايام الثلاثة التي تلي الوفاة، أي يوم التشييع واليوم الثاني والثالث.يتردد ذكر العذراء مريم في التراتيل التي تُرنم أثناء جلسات الصلاة في بيت الفقيد، وأثناء تشييعه الى المقبرة، وأثناء الصلاة المقامة عن روحه في الكنيسة خلال اليومين: الثاني والثالث للوفاة، وكلها مقتبسة من كتاب صلاة الفرض الإلهي، وخاصة من مجموع “تراتيل طلب العون”(86). أ-“ملأت الأرض منها(مز80/9): يا مريم، يا من ولدت دواء الحياة لأبناء آدم، اجعلينا نجد بصلاتك المراحم يوم الانبعاث…”(87). ب-“انه سيدك، فله اسجدي(مز 45/12): يا مريم، أيتها البتول القديسة، ام يسوع مخلصنا، لتكن صلاتك حمى لجمهور المؤمنين، ولتستجب صلواتنا بشفاعتك. ساعدي ضعفنا لنرى معك المسيح يوم ظهوره”(88) ج-أثناء الصلاة المقامة في الكنيسة بمناسبة اليوم الثاني لحدوث وفاة إحدى النسوة، يصعد احد الشمامسة الإنجيليين الى البيما الكائن وسط الهيكل، ويجلس بقية الحاضرين في أماكنهم. يقف الشماس متوجهاً صوب المشرق، ويتلو تعليماً مقتبساً من الكتب المقدسة، ليُلهِمَ ذوي الفقيدة الصبر والسلوان، مؤكداً بأنه لا مفر من الموت، لأن كل الأبرار والصديقين ذاقوا طعمه كسائر البشر، وذلك بدءاً بآدم وحواء، هابيل، ملكيصادق، إبراهيم، اسحق، يعقوب، داود، سليمان، ابن سيراخ، صموئيل وغيرهم، ويختم الشماس قائلاً:“… ان ربنا، الذي تشبه بنا واتخذ جسداً من بشريتنا، قد ذاق الموت كذلك، والسيدة مريم العذراء الطاهرة التي ولدته، وبها اكتملت كل المواعيد، ذاقت بدورها طعم الموت… فلا نتضايقن في العالم بسبب فراق اختنا… لان المسيح الملك يلبسها حلة المجد في العالم الجديد…”(89). الخاتمة لا تقتصر مظاهر التقوى والتكريم التي يبيديها أبناء كنيسة المشرق على الأدعية التي يرفعونها لمقامها السامي أثناء الرتب الطقسية الآنفة الذكر، بل تتجلى في أمور عديدة(90)، نذكر بعضاً منها: أ-الكنائس والمزارات أقيم العديد من الكنائس والمعابد على اسم العذراء مريم. يذكر الأب جان موريس فييه في كتابه”آشور المسيحية” ثلاثاً وعشرين كنيسة شيدت على اسم العذراء منتشرة في شمال العراق(91)، يرتقي بعضها إلى العهود القديمة. مثال ذلك كنيسة مريم العذراء “سيدة الانوار” في قرية حوردبني(92)، التي تذكرها مخطوطات قديمة منها مخطوطة الرهبنة الكلدانية 195، التي جددها وأصلحها الشماس هومو ابن القس دانيال ابن القس إيليا الالقوشي لأجل كنيسة السيدة في حوردبني(93). وكنيسة السيدة مريم في قرية خردس المذكورة في مخطوطة الرهبنة الكلدانية 224 التي كتبها القس كوركيس ابن القس إسرائيل الالقوشي الساكن انذاك في تلكيف، وفرغ من كتابتها في 4 حزيران سنة 2026 يونانية (=1715م)(94).نجد حالياً في بغداد وحدها نحو عشرين كنيسة او معبداً على اسم البتول الطاهرة موزعة على مختلف الطوائف المسيحية، وفي مقدمتها الكاتدرائية الكلدانية، التي تحمل اسم “كاتدرائية ام الأحزان”. وتحمل كاتدرائية البصرة الكلدانية اسم العذراء، وأشهر كنيسة في مدينة الموصل تدعى “كنيسة الطاهرة مريم” للكلدان، التي كانت كنيسة الدير الأعلى، الذي يرتقي عهد تأسيسه الى القرن الميلادي السابع. ت‌- الاحتفالات الشعبية يقيم المؤمنون احتفالات بمناسبة اعياد العذراء في الكنائس المقامة على اسمها. يبدأ الاحتفال بإقامة الذبيحة الإلهية،حيث يقترب المؤمنون من سري التوبة والقربان المقدس، ثم يقيمون ما يسمى بـ”شيرا” وهو نوع من المائدة الأخوية المشتركة. اذ يجلب المؤمنون أصنافاً من الأطعمة الى فناء الكنيسة، حيث يضعونها على الموائد او على الأرض. وبعدما يتلو الأسقف او الكاهن البركة على هذه الأطعمة، يتناول منها الحاضرون سويةً، ليعبروا عن اخوَّتهم، كأبناء ام واحدة هي العذراء. جـ-العبادات التقوية هذا بالإضافة الى مختلف العبادات التقوية المريمية المعروفة، التي استقاها الكلدان من أبناء الكنائس الأخرى كالمراسيم المقامة خلال الشهر المريمي وصلاة الوردية والتساعيات وغيرها
المزيد
12 مايو 2020

لا تلمسيني

كان شهود القيامة في فجر الأحد كثيرين: المجدلية والمريمات والملائكة والتلاميذ والحراس ولكني أحب أن أحدثكم اليوم عن مريم المجدلية كانت المجدلية من قرية مجدل، وكانت تحب يسوع جدًا لأنه سبق وأخرج منها سبعة شياطين (مت16: 9)، و كانت تتبعه وتخدمه، وكانت تتصف بجمال المنظر، فيصوّرها المصورون جالسة تحت الصليب يميزها شعرها الطويل وفي الكتاب كانت مريم هي أول من تحرك والظلام باقٍ في فجر القيامة متجهة نحو قبر المخلص تحمل أطيابًا وحنوطًا لكي تضعها علي جسد الرب، وعندما وجدت القبر فارغًا والحجر قد دُحِر من على فمه، خافت فذهبت للتلاميذ وقالت «أخذوا السيد»، ولكن حبها دفعها أن تعود للقبر الفارغ، وهناك قابلها الرب يسوع وتحدث معها، أمّا هي فلم تعرفه وظنته البستاني، وبدأت تشكو له «إن كنتَ قد أخذته فقل لي لكي آتي وآخذه» (يو20: 15)، وعندها ناداها الرب باسمها وقال لها «يا مريم»، فعرفته وتقدمت نحوه لتقبل قدميه، فقال لها الرب جملته الشهيرة «لا تلمسيني» وقد ميزها الرب بأن صارت أول كارزة للعالم بقيامته، وهي الأولى التي حظت برؤية الرب في فجر أحد القيامة، وهي الوحيدة التي سمعت قول الرب «لا تلمسيني»، بينما سمح الرب لتوما أن يلمس جروحه عند ظهوره لتلاميذه في العلية فلماذا وجّه لها الرب هذه الكلمات القليلة؟ 1- «لا تلمسيني» كانت تأكيدًا للمجدلية عن حقيقة طبيعة الرب يسوع اللاهوتية، فهي كانت لا تزال تخاطبه كإنسان «يا سيد إن كنت قد أخذته». وفي هذا كان الرب يؤكد على حقيقة طبيعته اللاهوتية، فهو الإله الذي ليس للموت سلطان عليه، فيسوع خاطب تلاميذه مرارًا كثيرة أنه ينبغي أن يُسلَّم لأيدي البشر ويتألم ويُصلَب ويموت، ولكنه سيقوم في اليوم الثالث، فكان على المجدلية أن تتذكر وعد الرب لهم كإله أنه لابد قائم من بين الأموات، وهو في هذا كأنه كان يحدثها عن لاهوته، وكأنه يناديها إن كنتِ قد أتيتِ لإنسان ميت فيجب بحسب الشريعة ألّا تلمسيني لئلا تتنجسي، أما إن كنتِ قد أتيتِ للإله الذي وعد أن يغلب الموت فاعلمي أنه ليس للموت ولا للهاوية سلطان عليّ وكان كلمات الرب هذه دعوة لنا جميعًا أن نكون واثقين أن يسوع هو الإله الذي شاء بإرادته أن يتألم عنّا ويحمل عقاب خطايانا لينقذنا من الهلاك الأبدي ولهذا يشرح بعض المفسرين أن هذا الإيمان الراسخ أن يسوع هو الله المتجسد كان السبب في بقاء أمنا العذراء مريم في البيت، فهي لم تذهب للقبر لأنها كانت واثقة أن ابنها القدوس المولود منها لا يغلبه الموت، بل هو قد جاء لكي يخلص شعبه ويدوس الموت. 2- كان الرب يعلم جيدًا مقدار محبة المجدلية له، لكنه أراد أن يعلمها أنه قد حفظ لها رسالة خاصة، وكأنه يقول لها لا تنشغلي بي فإن عليكِ رسالة هامة أن تخبري إخوتي أنني قمت وأنني لم أصعد بعد، لكنني سأقابلهم في الجليل وفي هذه الكلمات كان الرب يعلن لمريم بشرى القيامة المفرحة، وأيضًا يعلن لها لأول مرة عن سر صعوده إلى السماء، فكانت كلمات الرب لها «لا تلمسيني لكن اذهبي » هي أول تكليف برسالة الكرازة بخلاص الرب الذي صنعه من اجل العالم، وفي هذا تكريم للمرأة في المسيحية، نعم! نحن لا نؤمن بكهنوت المرأة لاعتبارات كتابية وفسيولوجية ونفسية وجسدية تمنع المرأة من خدمة الكهنوت، لكن الرب قد أعطى المرأة كرامة خاصة، فاختار العذراء مريم أُمًّا له وصارت رأسا للقديسين، وأيضًا منح المجدلية أن تكون المرأة هي أول شاهدة بالقيامة. 3- أخيرًا كانت كلمة «لا تلمسيني» هي عتاب حب من الرب للمجدلية لأنها قد نسيت كلماته وتعليمه انه رغم الآلام فهو لابد أن يقوم في اليوم الثالث؛ فكثيرًا ما تجعلنا الآلام في غربة هذا العالم ننسى وعود الرب المعزية لنا، وكأن هذه الكلمات هي دعوة لنا أن نتذكر كلمة الرب في الكتاب المقدس، ووعوده لنا بالرعاية والعناية والحفظ، ونترجّى مجازاته في كل مرة نجتاز مرارة الألم في حياتنا وعندما نتذكر وعود الرب ونحفظها في قلوبنا فإننا نستطيع أن نلمسه حاضرًا معنا في كل ضيقاتنا لتكن كلمات الرب يسوع يوم قيامته للمجدلية هي دعوة لإيمان راسخ لا يهتز في شخص ربنا يسوع، ودعوة للشهادة للرب وسط العالم أنه إله حيّ قد كسر شوكة الموت عنا، وأخيرًا دعوة لتذكُّر الوعود الإلهية في أزمنة الضيق. وكل عام والكل في ملء بهجة القيامة. نيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح وشمال أفريقيا
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل