المقالات

10 يونيو 2019

صعد الله بتهليل

ورد في المزمور السادس والأربعين "صعد الله بتهليل، والرب بصوت البوق رتلوا لإلهنا رتلوا، رتلوا لمليكنا رتلوا.. الله جلس على كرسيه المقدس" (مز46: 5، 6، 8). كيف يمكننا فهم هذه العبارات دون الإيمان بظهور الله في الجسد، أي بتجسد الابن الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح هل يمكن أن يصعد الله دون أن يتجسد..؟! نحن في القداس الإلهي نقول مخاطبين السيد المسيح: (وعند صعودك إلى السماوات جسديًا وأنت مالئ الكل بلاهوتك) (القداس الغريغوري). أي أننا نفهم أن لاهوت السيد المسيح هو مالئ السماوات والأرض، ولكنه صعد جسديًا في يوم صعوده بعد قيامته بأربعين يومًا، وشاهده التلاميذ أثناء هذا الصعود المجيد المحاط بالملائكة الذين ظهر اثنان منهم للتلاميذ وهم يتطلعون نحو السماء بعد أن أخذت الرب سحابة عن أعينهم وقالا لهم: "إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماءسيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" (أع1: 11). "صعد الله بتهليل"لا شك أن السماء قد احتفلت احتفالًا عظيمًا بصعود السيد المسيح وجلوسه عن يمين الآب.. لذلك قال المزمور أنه قد صعد بتهليل أي وسط تسابيح الملائكةالذين رافقوا صعوده. ويضاف إلى ذلك أنه يقول "والرب بصوت البوق"أي أن الله الكلمة قد صعد بتهليل وسط تسابيح الملائكة وبعضهم يضربون في الأبواق منذرين السماوات كلها بصعود الابن الوحيد المنتصر على الموت والمخلّص لجميع المفديين. ويؤكّد المزمور أهمية تمجيد الرب وتسبيحه في صعوده المجيد فيقول "رتلوا لإلهنا رتلوا، رتلوا لمليكنا رتلوا". وكيف لا وهو ملك المجد؟! ويقول المزمور أيضًا "جلس الله على كرسيه" وبالفعل فإن الله الكلمة يسوع المسيح بعد صعوده قد جلس عن يمين أبيه في عرشه السمائي. لذلك يقول القديس مرقس الرسول في إنجيله: "ثم إن الرب بعد ما كلّمهم ارتفع إلى السماء. وجلس عن يمين الله" (مر16: 19). ويقول معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح: "بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عب1: 3). وقال أيضًا: "عن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب 1: 7، 8) وهو في هذا يقتبس من سفر المزامير (مز44). كيف يُقال "جلس الله على كرسيه؟" إن لم يكن المقصود هو الابن الكلمة الصاعد إلى السماوات. أما عن الآب فيقال أنه "جالس"لأنه لم يتجسد ولم يصعد ولم يجلس من بعد صعوده كما جلس الابن الوحيد المتجسد. ارفعوا أيها الملوك أبوابكم يقول المزمور الثالث والعشرون "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ الرب العزيز القدير، الرب القوى في الحروب.. هذا هو ملك المجد" (مز23: 7،8، 10). من الواضح جدًا أن نفس هذا المزمور يتكلم أيضًا عن صعود السيد المسيح إلى السماوات العليا، إلى القدس السماوي، إلى عرش الله. الموضع الذي لم يدخل إليه من قبل ذو طبيعة بشرية. لذلك تعجبت الملائكة حراس الأبواب الدهرية، إذ ناداهم الملائكة المصاحبون لصعود ملك المجد قائلين أن ترتفع الأبواب لدخوله الانتصاري المجيد، فتساءلوا قائلين: "من هو هذا ملك المجد؟" فأجابهم الملائكة المصاحبون إنه هو الرب العزيز القدير.. الرب القوى في الحروب، هذا هو ملك المجد. وعبارة "الرب العزيز القدير" لا تطلق إلا على الإله الحقيقي فهي تقال عن الآب، كما تقال عن الابن، وعنالروح القدس، الإله الواحد المثلث الأقانيم،وقد قيلت عن الابن في هذا المزمور ليعرف حراس الأبواب الدهرية من هو الداخل إلى الأقداس بعد أن رأوه متجسدًا في صورة إنسان. وقيل عن الآب السماوي أيضًا "المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ساكنًا في نور لا يُدنى منه. الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية. آمين" (1تى6: 15، 16)، فهو أيضًا لهلقب "الرب العزيز القدير". ومن الواضح طبعًا أن الآب لم تفتح له الملائكة أبوابًا دهرية لكي يدخل وإنما هذا الكلام ينطبق فقط على الابن الوحيد الجنس حينما تجسد ثم صعد إلى السماوات. نيافة الحبر الجليل المتنيح الانبا بيشوى مطران دمياط ورئيس دير الشهيدة دميانة عن كتاب المسيح مشتهي الأجيال منظور أرثوذكسي
المزيد
26 سبتمبر 2020

المقالة العاشرة في تذكار الخطايا

أشاء أن أبث قدامك أيها المسيح المخلص ؛ وأصف بحضرة مجدك كافة المرارة التى تختص بي ؛ وبنيتي الخبيثة، وأذكر أيضاً كل الطرب والحلاوة التي صنعتها معي ؛ إذ منذ جوف أمي صرت مغيظاً جاحداً خيريتك ونعمتك، لا نشاط لي في الخير.فأنت أيها السيد أعرضت عن كافة شروري ؛ ومن أجل رأفاتك الجزيلة أرتفع بنعمتك يا ابن اللـه رأسي الذي كان ذليلاً كل حين من أجل خطاياي.تجذبني بنعمتك إلى الحياة ؛ وأنا أسعى بنشاط إلى الموت ؛ لأن عادة الآلام الرديئة المذمومة جذبتني حين أذعنت لها ؛ وقيدت الفكر بقيود لا تنفك ؛ والقيود مأثورة عندي دائماً. لأنني أشاء أن أتقيد.فالعادة تقيدني بإشراكها ؛ وأفرح إذا قيدت، تغيصني في العمق وأنا ألتذ بذلك، والعدو كل وقت يجدد قيودي لأنه قد رآني مسروراً برباطاتي الكثيرة ضفرها، وهو كثير الحيل في صناعته فلا يربطني بالرباطات التي لا أرغبها، لكنه يقدم لي دائماً الأغلال الفخاخ التي أقبلها بالتلذذ كثير.لأنه يعرف أن الهوى يقوى عليَّ فيحضر لي بطرفة عين القيد الذي أريده، يا له من بكاء ونوح من عار وخزي أنني أتقيد بمشيئتي فأنا لا أقدر أن أسحق القيود في لحظة واحدة وأصير حراً من كافة الفخاخ.لأنني بالاسترخاء والعادات متعبداً للهوى ؛ وأقتل بالآلام التي أستبشر أنا بِها. لو شئت لاستطعت أن أفك القيود وأسحقها، ولو أردت لقدرت أن أهرب من الفخاخ، فهل يكون أمر من هذا النوح والبكاء ؟ أم يكون خزي أصعب من هذا ؟ بلى لا يكون أشد مرارة من هذا الخزي، أن يعمل الإنسان مشيئات عدوه.فأنا أعرف قيودي ؛ وأخفيها في كل ساعة من كافة الذين يشاهدونني في زي الورع ؛ وضميري يوبخني إذا عملت هذا قائلاً لي كل وقت:” لِمَ لا تستفيق يا شقي، أو ما علمت أنه آتي وأقترب يوم الدينونة الرهيب الذي فيه تظهر الأشياء كلها، أنْهض ما دمت قادراً ومزق الرباطات التي لك، لأن فيك قوة العقد والحل “.هذا يقوله لي دائماً ضميري ويوبخني، وما أريد أن أستريح من القيود والإشراك، أنوح من أجلها كل يوم وأتنهد وأوجد مربوطاً بِهذه الآلام نفسها.أنا شقي ومتواني غير ناجح في صالح نفسي، كيف لا أخاف من فخاخ العدو، جسمي مشتمل بجمال زي التورع ونفسي مقيدة بأفكار غير لائقة، أتورع بحضرة الناظرين بحرص ؛ وأنا من داخل وحش لا يستأنس. أحلي كلامي للناس وأمنحهم إياه ؛ وأنا في نيتي مر وخبيث ؛ فماذا عسى أن أعمل في وقت الاختبار إذا أوضح اللـه كافة الأشياء في مقام الدينونة، أنا أعلم أنني سوف أعذب هناك إن لم أستعطف من هنا الديان بالدموع.فلذلك لا يسخط عليَّ بل ينتظر عودتي إذ لا يشاء أن يبصر أحداً متحرقاً بالنار بل يريد أن يدخل إلى الحياة كافة الناس.فإذ أنا واثق برأفاتك يا ابن اللـه ربي أخر لك طالباً أقبل بنظرك إليَّ، أخرج نفسي من سجن المآثم؛ وأشرق شعاع نورك في ذهني قبل أن أمضي إلى المدينة المرهبة التي تنتظرني حيث لا يمكنني أن أتوب عن المساوئ.وأنا مضبوط بفكرين يكتنفني كل واحد منها: هل أسافر من الجسد أولى من أن أخطئ ؛ لكن أخاف أنا الشقي أن أمضي وأنا غير مستعد مجرد من الفضائل، أو أبقى ؛ فالخوف العظيم يعذب قلبي من كوني لا أبقي في الجسد بل لا بد من أن أنتزع منه.ولست أعرف بأيهما أتعزى، لأنني أعاين ذاتي غير نشيط في الصلاح، وحياتي في الجسد ذات خوف وجزع، لأنني في كل وقت أتمشى بين الفخاخ وأماثل التاجر المتواني العاجز الذي يخسر في كل ساعة رأس المال مع الربح.هكذا أنا أخسر الخيرات السمائية بالأنغلاب الذي يجرني إلى المساوي وأحس بذاتي كيف أسرق في كل ساعة وأوجد بغير مشيئتي في الأمور التي أبغضها، أتحير في أمر البرية كيف هي بَهية دائماً، أنذهل في نيتي الرديئة متضايقاً مغموماً.من يخطئ دائماً أفضل ممن يتوب كل يوم لأن توبتي ما لها أساس، البناء وطيد إلا أنني كل حين أضع أساس بناء وأنقض العمل بيدي، وتوبتي الحسنة إلى الآن لم تبتدئ، وونيتي المذمومة لا انتهاء لها.تعبدت بالاسترخاء لمشيئة عدوي ؛ وأنا نشيط أن أكمل ذلك، فمن يعطي لرأسي ماءً لا يقدر ولعيني ينابيع دائمة لتنبع عبرات.فأبكي كل وقت لدى الإله الرؤوف ليرسل نعمته لينتشل خاطئاً من بحر هائج بأمواج الخطايا، فإن نفسي غرقت بتواتر الموج ؛ وجراحاتي لا تقبل البتة عصائب الشفاء.أنتظر التوبة ؛ وأنا مسروق بِهذا الوعد الباطل إلى أن يفنى ؛ أقول أنني أتوب ولا أتوب إلا بالكلمات ؛ وبالأفعال أنا مبتعد من التوبة، إن كنت في رفاهية وراحة أنسى طبيعتي، وإن حصلت أيضاً في غموم أوجد متذمراً. الآباء القديسون كانوا محبين للـه في الأحزان والمحن، كانوا مختبرين مهذبين ؛ وقبلوا بذاتِهم إكليلاً لا يضمحل من الإله السمائي بشرف ومدائح، اقتنوا من الحزن مديحاً وثناءً جميلاً ؛ وصاروا صورة حسنة للأجيال الواردة.ومع هؤلاء يوسف المهذب الجميل البهاء ؛ المتناهي في العفة ؛ المملوء جمالاً سمائياً مع محبة العلي، أقتنى بالتجارب صبراً نفيساً لأن حسد إخوته الردىء ما قدر أن يدر جمال نفسه، ولا استطاعة المراودة المخاتلة أن تذبل جمال الصبي الزاهر، كانت تنظر في كل ساعة إلى زهر العفيف لتسكب عليه سماً مراً، ولا الحبس والقيود ذبلت حسن بَهاء زهرة نفس الصبي المحب للـه.فإن كنت أنا الشقي أخطأت بغير محنة ما، وأخطئ وأغيظ وأمرمر سيدي، فقد اختبرت رأفاته الجزيلة.خلصني يارب وأعطي لعبدك كطلبته التي يبتغي من كنـز تحننك، أيها السيد لتنبع نعمتك في قلب وفم عبدك بمداومة مثل ينبوع ليكون قلبي وفمي هيكلاً طاهراً لامعاً بخيريتك ونعمتك ؛ قابلاً ملكاً سمائياً لا كعش للأفكار الخبيثة ومغارة لصوصي أردياء للروايات الشريرة.بل تحرك إصبع نعمتك لساني دائماً كأوتار المعزفة لتمجيدك أيها المتعطف على الناس، لكي ما أمجد بلا فتور وأبارك بشوق قلبي وفمي كل زمان حياتي.لأن من يعجز عن أن يسبحك ويمجدك هو غريب من الحياة العتيدة. أيها المسيح المخلص ؛ أعطيني سؤال قلبي ؛ ليصير مثل رباب النغمة لأستطيع أن أوفي ههنا ديوناً قليلة ؛ وأحظى هناك أيضاً بوفاء نعمتك حين تجزع كل نفس وترتعد من مجدك الرهيب.نعم يا سيدي يا ابن اللـه الوحيد ؛ أستجب لتضرع عبدك الخاطئ ؛ وأقبله مثل قربان ؛ فأخلص بنعمتك.والمجد يليق بمن يخلص الخاطئ برأفاته آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
08 يونيو 2019

خير لكم أن أنطلق

"خير لكم أن أنطلق" (يو16: 7) قال السيد المسيح عن صعوده إلى السماء: "لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم.. خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم" (يو16: 6، 7) لم يكن أحد من التلاميذ يتصور أن في انطلاق السيد المسيح من هذا العالم خيرًا بالنسبة لهم. ولكنه بعد أن قضى معهم أربعين يومًا بعد القيامة وهو يظهر لهم ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله (انظر أع 1: 3)، حوّلت القيامة وظهورات السيد المسيح وأحاديثه نفوس التلاميذ إلى التطلع نحو الحياة بعد الموت وإلى الأمور الروحية والأمور السمائية فحديثه معهم عن الأمور المختصة بملكوت الله قد شمل ملكوت الله على الأرض في حياة الكنيسة وأسرارها وملكوت الله في السماء حيث الأبدية الممتلئة فرحًا وسعادة للقديسين لهذا نرى أن التلاميذ بعد ذلك قد فرحوا بصعود السيد المسيح إلى السماء كما ورد في إنجيل معلمنا القديس لوقا البشير "وأخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم، انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله. آمين" (لو24: 50-53)لقد فهم التلاميذ الخير في انطلاق السيد المسيح إلى السماء كسابق للبشر الذين آمنوا به وقبلوه كمخلِّص لحياتهم إنه قد مضى ليعد لهم مكانًا. وسيأتي أيضًا ليأخذهم ليحيوا معه إلى الأبد في منازل الآب السماوي لقد دخل السيد المسيح كرأس للكنيسة إلى أعلى السماوات، وبهذا أَصعد باكورة البشرية إلىالسماء (القداس الغريغوري). ورفع رأس البشرية الذي نكّسته الخطية إلى أسفل.. رَفَعَ رأس البشرية ببره وبقبول الآب لذبيحته الكفارية على الصليب هذه الصعيدة التي قبلها الآب على الصليب، كان لابد أن تصعد إلى أعلى السماوات. لأنه هكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده لقد تمجّد الحب بصعوده إلى حضن الآب السماوي، الذي هو ينبوع الحب الأزلي وهذا ما عبّر عنه معلمنا بولس الرسول بأن الآب قد أكرم الابن المتجسد ومجّده بعد أن قدّم طاعة كاملة لأبيه حتى الموت "وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان وضع ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعهُ الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماءومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 8-11) وبدخول السيد المسيح إلى الأقداس مرة واحدة أرسل الروح القدس المعزى إلى الكنيسة حسب موعد الآب كان السيد المسيح قد أعلن هذا الوعد من الآب قبل أن يتمم الفداء على الصليب. إن الآب سوف يرسل الروح القدس روح الحق المعزى باسم المسيح الفادي بعد أن يقوم بإتمام الفداء إنه وعد عظيم أن يسكب روحه على كل بشر، معطيًا الحياة الجديدة في المسيح، مانحًا غفران الخطايا والطبيعة التي تؤهِّل لميراث ملكوت السماوات،وأن يمنح الروح القدس مواهبه وعطاياه لجميع المؤمنين فتتكاثر مواهب الروح القدس إلى جوار ثماره اللازمة لخلاص الإنسان. أما المواهب التي لبنيان الكنيسةفقد مُنحت الكنيسة أن تتمتع بعمل الروح فيها مرشدًا إياها إلى جميع الحق وبهذا كُتبت الأناجيل وباقي أسفار العهد الجديد في العصر الرسولي، وصار الروح القدس يقودالكنيسة، ويختار الخدام للكلمة، ويحدد المهام الكنسية للكارزين، ويرسم للكنيسة أنظمتها التي سارت عليها بحسب التقليد الرسولي فيما بعد لقد اجتاحت الكنيسة في العصر الرسولي حركة قوية نقلتها إلى مدى الزمان. فبقوة الدفع التي أُعطيت للكنيسة استمرت في حفظ الإيمان المُسلّم مرة للقديسين، ولم تقو عليها بوابات الجحيم حسب وعد السيد المسيح لها أين هو بولس الساموساطي ولقيان وأريوس ومقدونيوس وأبوليناريوس وسابيليوس وديدور الطرسوسى وثيئودور الموبسويستى ونسطوريوس وجميع الهراطقة الذين استخدمهم الشيطان لإفساد الإيمان؟ لقد ظلّت الكنيسة بقوة الروح القدس حافظة للإيمان الأرثوذكسى إلى يومنا هذا. وستظل أمينة إلى مجيء الرب بحسب وعده الصادق لها بأن بوابات الجحيم لن تقوى عليها. نيافة الحبر الجليل المتنيح الانبا بيشوى مطران دمياط ورئيس دير الشهيدة دميانة عن كتاب المسيح مشتهي الأجيال منظور أرثوذكسي
المزيد
11 فبراير 2020

يونان ونينوى ونحن

ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم. تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة "الأربعيني" ذات أهمية خاصة. ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان(2)، وذلك بسبب تعاظم سلطان الخطية وهذا ما حدا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عوضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا لازلنا نردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء(3)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو التـزمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!! نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟ إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة » (يون 1: 1 و2)فقام يونان، يقول الكتاب إنه "قام وهرب" إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر السفر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العمق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً. صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبقي فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي، المسيح نـزل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان نـزل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقاً ورؤيويًّا، وكل سطر وكلمة فيه تشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليعد طريق الرب يونان رمز حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما نـزل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك(4). لكن الرب وفَّاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن نـزل في الماء وظلَّ فيها ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعد ما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!! هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما النـزول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى. يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفريسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد. ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي.» (مت 12: 41 و39)«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: "اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية"، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيل ممتد، الجيل الطيب القديس الطاهر أما الجيل الآخر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتد حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً «جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعت عن "الفسق والشر" في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حسب نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خطبتكم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (1كو 11: 2)«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له منًّا من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لننتبه لأنفسنا جداً لأن الآية لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحد ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إن المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية في حياتك إن لم يسبقها إيمان «ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!! الشرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان أنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصت حزن يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يبِّشرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العسر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ من سمع صوته وحمل نيِّره وقَبـِلَ اسمه القدوس في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حزن على خاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.» (لو 11: 30)إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عبر محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 22 و23). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: «كما أعطيت الحلّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...»، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفك كل الخطايا هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحل عنهم بضيقة موته ثم بكرازته غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولبس المسوح، والشعب كله لبس المسوح - والمسوح ثوب من شعر المعزى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى.وكان ذلك إلى ثلاثة أيام. مدينة فيها "واحد على ثمانية" مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير متقن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!! ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجب كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟ نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!آه لو علم كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليها من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19)يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء. ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟ لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سلماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نحدر المسيح من السماء أو نصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكن ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذكر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئن، مرعب لشهواتي وملذاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!اليوم يا أحبائي، أكشف أمامكم سر السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينتـزع الخلاص، وينتـزع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جزافاً أبداً. إن كنت تريد خلاصاً سريعاً، إن كنت تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمرآية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنها تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي ينادينا أعظم من كل نبي لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يقدِّم لنا موته قوَّة حية محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!اليوم يا أحبائي يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: "هذه خطيتي" حينما هاج البحر ولم يقل "هذه خطية نينوى"يونان هنا ينادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته فدية لأولاده وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال«دعوت مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النفسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عشبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص.» (يون 2: 2 - 9) هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين "جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دخلت المرارة إلى قلبي وإلى نفسي". وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كلها أنين الشكر وشكوى الحمد إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السلم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نطل خلسة إطلالة سريعة على المجد المعد!نعم، هكذا يُغتصب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية. اليوم يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القديسين وميراث ابن الله. اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم. اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية. هذه نينوى تعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!! يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قَبـِلَ أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشبه المسيح، وحُسب له موته بشبه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!! صلاة يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أعطهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأعطها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أن الرب قادر أن يميت ويُحيي فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت يا رب أعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
08 فبراير 2021

الفَلْسَفَةُ المَسِيحِيَّةُ

الفلسفة هي أوُلىَ العلوم؛ وذلك لكونها تعطي الموجودات معقولياتها ببراهين يقينية. فهي في جملتها عِلم وأيدولوچية وصناعة للمفاهيم وإضاءة للواقع؛ وهي عطية ومعجزة العقل البشري. كذلك هي استخدام لقوانين العقل واكتشاف للمضامين المُنتِجة لكل علم وفكر وحضارة. فالاهتمام بالفلسفة يؤصِّل إنتاج المفاهيم المساعدة في صياغة الإنسان ذي المشروع. لذلك تأتي ضرورة وأهمية الفلسفة المسيحية على اعتبار أنها تُكوِّن إنسان الخليقة الجديدة (إنسان الملكوت). فليس فقط مَن يدرس الفلسفة ولا مَن يكتب عنها؛ بل مَن يتصرف بمقتضاها ومفاهيمها؛ خاصة وأن تعليمنا الإلهي المسيحي مَبني على العقل (الكلمة اللوغوس)؛ وعلى (النور والحق والحياة والحرية). والله الكلمة الأزلي أصبح وعيًا عينيًا؛ والحياة المسيحية حياة تتجسد في أرض الواقع؛ بعد أن أتى المسيح إلى العالم متجسدًا ونصب خيمته بيننا وأصبحت حياتنا صاعدة معه مستترة فيه. وكلمة فلسفة (Philosophy) تعني المُحب للحكمة أو المفتون بالحكمة. والحكمة في الكتاب المقدس هي مصدر الصلاح والخير والاستقامة والفطنة والتعقل والصحو والتمكين... هذه كلها هي آليات الفلسفة المسيحية. لأن كل فيلسوف في الميزان القويم هو المحب لرؤية الحقيقة؛ كما أن الفلسفة هي محصلة التأريخ للفلاسفة أنفسهم الذين برزت أيقوناتهم التنويرية عبر الفكر المسيحي؛ والذين من أشهرهم وأعظمهم القديس "لوقا الطبيب" و"بولس الرسول" و"يوستين" و"بانتينوس" و"كليمنضس" و"ديدموس الضرير" و"أوريجين" و"ترتليان" و"لاكتانتيوس" و"أوغسطينوس" و"الآباء الكبادوك" و"هيلاري" و"إبيفانيوس" و"الحكيم أرسانيوس" و"إفرام السرياني" و"يوحنا الدمشقي" والعظيمان "أثناسيوس وكيرلس السكندريان"؛ وبقية فلاسفة الكنيسة العظماء الذين جمعوا العصب الفكري من طرفيه: طرف النظر (التنظير) وطرف التجربة الواقعية والرعوية ( التطبيق). فكانوا حاذقين في الفكر عمالقة في العمل؛ حيث قادوا الكنيسة والمجامع وصاغوا العقيدة وخدموا الرعاية؛ مدافعين عن الإيمان؛ مفسرين وشارحين؛ زُرَّاع وصيادين؛ وأطباء ومعلمين في حقل الكرازة والبناء وكتابة التفاسير والعظات والرسائل والليتورچيات والمحاورات والميامر والدفاعات والأشعار. عندما تنزل الفلسفة من طابعها النظري المجرد لتلمس الأمور الحياتية اليومية تصير مهمتها علاجية. فاعتماد العلاج كمفهوم فلسفي يجعل من الفلسفة فنًا لتدبير الحياة اليومية؛ أي أن تكون الفلسفة في خدمة الحياة. والفلسفة المسيحية التي ينبغي أن نحياها هي التي تعني بالبعد العملي الاختباري (خبرة)؛ بذلك تُعيد الاعتبار لعالم الحِس ولكتاب الطبيعة المغبوطة وجمال الخليقة وروعة المبصرات وعالَم الله الخالق فتتجه بنا إلى خالقنا وجابلنا منذ البدء؛ والذي هو ليس له بدء. هذا ويُعتبر اللاهوت هو فلسفة ودراسة مُعقلنة للإيمان والعقيدة؛ لأن الفلسفة في معناها حُب الحكمة؛ وهي كفعل اقتداء بالمسيح للتشبُّه بالأصل – (آدم الثاني) – في شركة الطبيعة الإلهية وعيش الفضيلة... حيث يكون التفلسف هو التعقل؛ هذا التعقل لا ينشط بالاستكانة والتقولب والكسل العقلي بل بالتفتيش والبحث والمواظبة والمعرفة: معرفة الله والأبدية / معرفة الإنسان لنفسه (جوهره العقلي) / معرفة زماننا؛ محيطه وما يدور فيه / معرفة عدونا المحتال؛ إبليس. وغياب الفلسفة هو غياب الشكل الأمثل للحياة؛ عندما يكون الإنسان فاقدًا للرؤية والبصيرة والبوصلة والهدف... لأن الفلسفة علاج ودواء (العلاج بالفلسفة أو التداوي بالفلسفة)... أما الفلسفة التي لا تعالج فهي فلسفة باطلة؛ وهي مجرد لغو وكلام فارغ... فحينما يفتقر الإنسان إلى المبادئ الإلهية والمفاهيم الأولية يكون كلامه ورأيُه فارغًا؛ وأحكامه هاوية غير مؤسسة؛ وتفتقر إلى المرجع. لذلك تأتي مهمة الفلسفة في كونها ترياقًا يعالج الفراغ والعدمية والتدنّي واليأس وإنسداد منافذ الحياة؛ بينما كتابنا المقدس لا يحتقر عطية الله حتى لغير المؤمنين؛ بل يوصينا كي نحتضن كل ما هو حق وكل ما هو صحيح بما يتفق مع الفكر الإلهي. والفلسفة تعلمنا أن نفهم الأحداث وأن نفهم ما يدور، أن نفهم ما يحدث؛ وما يقع لندركه؛ وبهذا الفهم تصبح الحياة مقبولة ومستساغة بالرغم من صعوباتها عبر التعزيات الإلهية والوعود؛ والمحفزات والمشجِّعات؛ والمدركات المرنة؛ ونعمة الشكر والاحتمال والصبر في مواجهة التحديات والصدمات. لذلك حقًا تساهم الفلسفة المسيحية العملية في علاج الانفعالات والتصورات والاتجاهات؛ بالحكمة والتروّي والتبصر والتصحيح؛ أو ما يسمَى في الفلسفة (فن التحويل)؛ من الضعف للقوة؛ ومن اليأس للرجاء؛ ومن المرارة للحلاوة؛ ومن الألم للمجد والبنيان؛ عقب النظر إلى المفاهيم والقِيَم ومنطلق الوعي الذاتي على أرضية إنجيلية سلوكية؛ وهو ما اصطُلح عليه بفن المهارة في الحياة؛ لأن الأعمال تتبع المعرفة كما يتبع الظلُ الجسد؛ وغاية كل فلسفة وكل تعليم مسيحي هو الجانب العملي الذي هدفه إصلاح النفس. لا شك أن اقتناء الفلسفة يُوجِد فينا ميكانيزميات السلوك الروحي المتعقل والرزين؛ ويستحضر الوعي التكويني لدينا الذي تشربناه بالقدوة والخبرة والتلمذة والإرشاد والمعرفة. بعيدًا عن العنعنة والتدجين والخمول والانحطاط الفكري؛ لأن القيم والمفاهيم لا تتبلور عندما لا نفهم دلالاتها ولا نتسلمها؛ ومن ثَمَّ لا نتذوقها!!! فكيف لإنسان أن يسمع عن النقد والعقل والإبداع؛ أن يُبدع وينجز ويبتكر؛ بينما هو يحيا في تجهيل وتعتيم؟! وكيف يُحدِّثونه عن قِيَم إنسانية بينما هو يعامَل معاملة أقل من الحيوان؟! يخبرونه عن العزة وكرامته تُهان كل يوم؛ يحدثونه عن الأمانة والقدوة وهم ينافقون ويتلونون ويلعبون بمصيره... يكلمونه عن الدعة والمسكنة وهم متسلطون ومتجبرون وطغاة... يكلمونه عن النسك والفقر وهم متعاظمون في جنون الإرادة الذاتية كالأباطرة. فما أعظم من يعمل بأقواله ويتكلم بأعماله؛ وما أروع الأعمال التي تؤسس للفهم والمعرفة والتمييز والأدب والعدل والاستقامة والمشورات والحريات والمخافة الربانية. ستبقى الفلسفة مجرد أفكار وشعارات جوفاء فارغة من كل قيمة أو معنى؛ ما دامت شروط نضجها غائبة؛ ومضمونها دعائي مُفلس لا أفق له، وما دام التاريخ قد تم تجميده في لحظة واحدة يتم تضخيمها وأسطرتها والمغالاة في تعظيمها بهدف تحقير كل ما دونها؛ وكأنه لم يكن شيء مما كان من قبل. الآن نحن في زمان رياح تحولية كثيرة؛ وفي عصر تحطيم الأوثان ورفض الصنمية... في عصر بات فيه الهدف هو التخلص من النماذج القديمة الموروثة؛ ورفض التسلط والتخبط والقمع والارتباك والمركزية والإلهاء والإلغاء والإملاء والقولبة... وما دام ذلك كذلك؛ فليكن فكر المسيح معلم الأسرار الإلهية هو بوصلتنا؛ هو الذي يعلن لنا سره؛ ويرفعنا إلى قياس قوته... لأن كل فلسفة وحكمة هي من عنده؛ من عند أبي الأنوار؛ ممتحنين ومميزين كل شيء كي نتمسك بالحسن؛ وبكل ما يتفق مع الحكمة الإلهية الفائقة... لأن الحق الساكن فينا لا يخيب ولا يشيخ ولا يتوقف عن النمو؛ لكنه دائم الثمر؛ ما دمنا نقتني تعليم المخلص بوداعة... وكل حكمة حقيقية وفلسفة راقية تقود إلى الله أينما وُجد؛ لأن المفتاح الذي يفتح أسرار كل كنوز الحكمة مستقر عنده وفي يده وحده. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
06 مارس 2021

إنجيل العشية و إنجيل باكر أحد الرفاع

اعتاد الآباء أن يسمّوا الأسبوع الأول من الصوم الكبير المقدس بأسبوع الاستعداد.. للدخول الحقيقى إلى حياة الصوم وروح الصوم.. وكان الاستعداد للصوم حسبما عاشوا هو تنقية الجو المحيط بهم من كل ما لا يناسب الصوم.. وبصفة خاصة الوجود فى سلام مع كل أحد وتصفية أى نوع من الخلافات بين الأخوة.. أعنى أن هذا الأسبوع كان يُصام لحساب المحبة الأخوية وتوطيد العلاقات ونبذ كل خلاف أو خصام أو قطيعة.. الخ. لأنه من المعروف جداً إنه إذا صام الإنسان وهو فى حال خصام أو عدم سلام قلبى مع أخوته فإن صومه يكون كمن يجمع إلى كيس مثقوب.. ألم يقل الرب: "فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ" (مت 5 : 23 ، 24). فقد جعل الرب الصلح مع الأخ والأقربين أفضل من تقديم القرابين، بل وبدونه لا تُقبل قرابين. لذلك وضع الآباء فصل إنجيل عشية هذا اليوم كلمات الرب الصارخة والصريحة من نحو السلام الكامل والمحبة الأخوية. وقد مارست الكنيسة عملياً هذا الكلام منذ الجيل الأول فى خدمة الافخارستيا.. إذ تصير القبلات المقدسة والمحبة هى موضوع الصلاة وموضوع الممارسة حين نُقَبِّل بعضنا بعضاً بقلب طاهر وضمير صالح قبل أن نتقدم إلى شركة التناول من جسد ودم ابن الله.. إذ نصير مستحقين لتحقيق هذه النعمة فينا بسبب محبتنا بعضنا لبعض التى هى علامة مسيحيتنا وعنوان تبعيتنا للمسيح.. "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ" (يو 13 : 35). نعود إلى كلمات الرب.. "وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً أَنَا تَائِبٌ، فَاغْفِرْ لَهُ" (لو 17 : 3 ، 4). هذا القبول للأخوة يرتكز على الروح الذى فينا.. روح المسيح غافر الخطايا.. ويرجع إلى تمتع الإنسان نفسه بنعمة غفران الخطايا وإدراكه الحقيقى لقيمة هذه النعمة. فإن تمتع بها يستطيع أن يعطيها أيضاً إذ يصير سريع الصفح وكثير الغفران مدركاً تماماً إنه بمقدار ما يَغفر يُغفر له وبقدر ما يتسع قلبه لأخيه يقبل من الرب أضعاف قبول. والكلام هنا كثير كرره ربنا يسوع فى تعاليمه المحيية، فمرة يقول: "وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ" (مت 18 : 15). هو أخطأ وأنت تذهب تسعى إليه لكى تربح أخاك وتربح نفسك.. وبينما المنطق العالمى أن الذى أُسيئ إليه هو صاحب حق وإذا أتى إليه المسيئ وسامحه يُحسب صاحب فضل.. فإن ناموس المسيح يتخطى هذه العقبات النفسية ويرتفع بنا إلى علو السماوات فيصير الإنسان قادراً بالنعمة على كسر حواجز البشر واقتحام الأسوار.. يذهب إلى أخيه.. أليس هو أخوه؟ ويرتمى فى حضنه ويقبله ويربحه. المسيحى الحقيقى لا يخسر له أخاً مهما كانت الأحوال! رسالتنا فى المسيح هى رسالة ربح النفوس بحكمة الروح وسلطان المحبة. سبع مرات فى اليوم إن رقم سبعة يعبِّر دائماً عن الكمال.. فإن كان الأخ يخطئ إليك سبع مرات أى إلى أقصى درجة ممكن أن نتخيلها.. فهناك باب المسيح المفتوح لقبول أعتى الخطاة.. ويمين المسيح تقيم ليس من العثرات والسقطات يل قادرة أن تقيم من الأموات..!! قلب المسيح متسع اتساع أبدى يسبى النفوس ويخضع الوحوش فمن يؤتمن على قلب يسوع يستطيع أن يحفظ وصايا يسوع. هذا هو إنساننا الداخلى المخلوق من جديد بقوة قيامة المسيح من الأموات. هذه هى الطبيعة الجديدة، والطبيعة الجديدة من يحياها يغلب بها كما غلب ذاك الذى هو رأسنا. جرّب قول الرب، اخضع ذاتك له واطلب معونة المسيح.. واكسر حاجز الشر.. "لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ" (رو 12 : 21).. "فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ" (غل 6 : 9). الإنسان هو الذى يحجم عمل الروح القدس فيه ويحصره فى إطار المحدودية حين يقول أنا حاولت مرة ومرتين ولم أفلح فى أن اقتنى أخى وأربحه.. أنا عملت ما علىَّ أن أفعله ولا أستطيع أن أفعل أكثر.. هذا يكفى وهذه حدودى؟ هنا يصير الإنسان قد أغلق على نفسه، وحبس الروح الذى لا حدود له ولا يعطى بكيل.. الروح يا أخوة لا يحد بحدود والعمل الروحى يستطيع أن يعمل ويعمل حتى الكمال ولا يكف ولا يكتف ولا ييأس حتى من الفتيلة المدخنة والقصبة المرضوضة. + الحفاظ على محبة الإخوة هى رسالتنا وهدفنا.. المحبة القلبية هى كنزنا ليس بسهولة نبيعها أو نفرط فيها. + سبب ضعف الكنيسة الآن هو القصور فى تكميل المحبة وعدم السعى الجاد فى أثر الصلح بالروح. + العاجز فى تكميل المحبة يركن دائماً على أعذار وأعذار ولكنها غير مقبولة لدى المسيح. لأن المسيح هو الحب الكامل حتى للأعداء زد إيماننا قال الرسل للرب إذ سمعوا كلامه عن هذا الحب السماوى السامى الفاخر - سبع مرات فى اليوم بل إلى سبعين مرة – قالوا للرب إذ ادركوا أن الأمر يحتاج إلى إيمان وتصديق قلبى لكلام المسيح وتبعية مطلقة وإلقاء كل الحياة على رجاء كلمة المسيح.. قالوا "زِدْ إِيمَانَنَا".. أى زوِّدنا بهذا الإيمان القوى القادر على بغض البُغضة وكره الكراهية.. زذ إيماننا لكى نستطيع أن نغفر سبع مرات فى اليوم، "فَقَالَ الرَّبّ لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذِهِ الْجُمَّيْزَةِ: انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ". يارب زد إيمان أولادك بأن المحبة هى البقاء والحياة وأن البُغضة والقطيعة هى الموت بعينه. من يحب أخاه فقد أحب الله.. ومن يبغض أخاه يبقى فى الموت.. من يبغض أخاه فهو قاتل نفس. ما أجمل أن نبدأ صومنا بهذا الاستعداد الروحى فى السعى نحو السلام وتكميل المحبة الذى جعلته الكنيسة منطلق السيرة والدافع الروحى للحركة نحو الآب. المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
19 أبريل 2021

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السابع من الصوم المقدس

المزمـور: «12أَحْمَدُكَ يَـا رَبُّ إِلهِي مِـنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْـرِ. 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ الْسُفْلَى» (مز 86: 13،12). الإنجيل: «31إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا.32اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.33أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. 34وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. 36وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَـدْ أَرْسَلَنِي. 37وَالآبُ نَفْسَهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِـهِ. 39فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الِّتِي تَشْهَدُ لِي.40وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. 41مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ 45لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟» (يو 5: 31-47). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: إنجيل قدَّاس اليوم يحتاج منَّا إلى شرح. وإن كنتُ أودُّ أن يكون الكلام لأنفسنا؛ ولكن لأن الكلام يظهر كما لو أنَّ فيه نوعاً من التعارُض، لذلك أصبح لِزاماً عليَّ أن أشرحه أولاً. في الأصحاح الخامس (يو 5: 31)، نجد أن الرب يسوع يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا»؛ بينما في الأصحاح الثامن (يو 8: 14)، يقول: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». هنا نجد تعارُضاً ظاهرياً بين الآيتين، لابد أن نحلَّه أولاً. سنشرح الوضع المذكور في إنجيل يوحنا - الأصحاح الثامن. فالمسيح يُقرِّر في شهادته لنفسه أن‍ها حـقٌّ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، أن‍ها شهادة شخصية مُفردة، وذلك في ردِّه على الكَتَبَة والفرِّيسيين الذين كانوا يقولون له: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، في أعقاب قوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ». وكان كلامهم على أساس الناموس الذي يُقرُّ أنه لا تؤخذ شهادة شخصية من شخصٍ بعينه، بل كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَيْن أو ثلاثة. ففي هذه الواقعة يقول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». على أيِّ أساس؟ على أساس مـا ذَكَره الرب لاحقاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِـنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ». هـذه هي الحجَّة التي ذَكَرها المسيح: ”إنني أشهد لنفسي، وشهادتي حقٌّ؛ وأشهد شهادة شخصية، وهي حقٌّ؛ لأني أعلم من أين أتيتُ وإلى أين أذهب!“.هنا يُوضِّح المسيح أنه جاء من عند الله، وإلى الله سيذهب! إذن، فهو من الله. وإذن، هو من الحقِّ، وإلى الحقِّ يذهب. إذن، هو حقٌّ، وهو يشهد للحقِّ! فالحقُّ لا يطلب شهادة من أحدٍ، تماماً مثل النور، الذي يشهد لنفسه. فهل إذا كان النور مُشرقاً، يحتاج لِمَن يشهد أنَّ هذا نورٌ؟! هكذا المسيح، لأنه يشهد للحقِّ، فهو لا يحتاج إلى شهادة إنسانٍ قط! لماذا؟ لأنه هو نفسه جوهر الحق، فأصبح لا يحتاج إطلاقاً أن يشهد له آخر. وفي نفس الأصحاح الثامن، يقول المسيح: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 18). هنا الرب لا يقصد أن هذه شهادة اثنين، ولكن لكي يسدَّ ثغرة الناموس، التي فتحها الكَتَبَة والفرِّيسيون بقولهم: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، قـال لهم: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ». فهي شهادة اثنين بالنسبة لهم؛ أما بالنسبة له، فهو يشهد للحقِّ الذي فيه، والحق الذي في الآب. وبالتالي فهو غير محتاج أن يشهد له شخصٌ آخر. أمَّا في الأصحاح الخامس من إنجيل قدَّاس هذا الصباح، فإنَّ الرب يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا». هنا ينطلق المسيح من مبدأ آخر غير الناموس الذي يُقرُّ أنَّ كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَين أو ثلاثة، هذا المبدأ الهام يُوضِّحه بقوله: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ». فعلى أيِّ أساس يقول المسيح: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ»! بالرغم من معرفتنا جيداً أنه يُطالبنا أن نُمجِّده؟ ذلك على أساس أنه لا يشهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس؛ لأنه إذا شهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس، تكون شهادته حينئذ ليست حقّاً. لماذا؟ لأنه في هذه الحالة يطلب مجد نفسه؛ والذي يطلب مجد نفسه، لا يطلب بالطبع مجد الله! فالمسيح يقول ما معناه: ”إن كنتُ أشهد لنفسي لأتقبَّل مجداً أو كرامةً من الناس، تكون شهادتي ليست حقّاً“. فهو يَعتَبِر أنَّ شهادة يوحنا المعمدان، وشهادة كل الأنبياء، وشهادة موسى نفسه وكل التوراة؛ هي للإعلان عنه، أو لاستعلان مجده فقط. ولكنها جميعها غير قادرة أن تُضيف إليه مجداً. فهو في غير حاجة إلى كلام النبوَّات لتشهد له، لأنه هو بعينه الحق. النبوَّات جاءت لكي يعرف الناس أنَّ المسيح هو الحق، وليس لكي يُزيدوه حقّاً أو مجداً! ولذلك بعد أن قال لهم المسيح: «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ»، أردف قائلاً: «وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فالمسيح في مطلع هذا الأصحاح، يقول: «اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ»، هذا الكلام هو عن ”الآب“. والشهادة إذا كانت حقّاً، فتكون من الآب؛ أمَّا إذا كانت الشهادة للحقِّ، فتكون من يوحنا المعمدان! «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ». لماذا وجَّه المسيح النظر إلى يوحنا المعمدان؟ لقد وجَّه المسيح نَظَرَهم، بل ونَظَرنا نحن أيضاً، إلى يوحنا المعمدان، ذلك لكي يُظهِر أن شهادة يوحنا المعمدان، وكذلك كل الشهادات السابقة عليه، حتى موسى النبي؛ هي شهادات لأجلنا نحن، وليست له هو. ولذلك قال: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فكل ما قاله المسيح، وكل ما عمله، وكل ما شهد به للحقِّ؛ هو من أجلنا نحن، وليس من أجل أن يتمجَّد هو! إذن، أصبح قول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، هي في نظرنا وفي نظر السامعين له، لمجد الله الآب. وبالتالي فتكون شهادته لنفسه حقّاً، لأن‍ها لمجد الآب.أمَّـا إذا كـانت شهادة المسيح لمجد نفسه، فتكون هـذه الشهادة ليست حقّاً. ذلك لأن الفرِّيسيين ات‍هموه أنـه يشهد لنفسه، أي يطلب مجد نفسه، يسعى لمجده الذاتي. وفي الحقيقة هم تكلَّموا ب‍هذا الكلام، لأن‍هم مُلوَّثون بالبر الذاتي، وب‍هذه الأفكار. ولذلك فإنَّ المسيح أَظهر ما في نيَّتهم، وكَشَفَ إيمان‍هم وأعمالهم، وبالتالي أنـذرهم قائـلاً: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟» (يو 5: 44). مُحاصرة المسيح للفرِّيسيين: في الحقيقة، إنَّ مَن يقرأ هـذا الأصحاح (الخامس)، إذا لم يتمعَّن في هذه الآية التي ذُكِرَت آنفاً، سوف لا يفهم الأصحاح كله. فـالرب يسوع حاصر الفرٍِّيسيين من خلال هذه الآية، وكَشَفَ ما في داخلهم: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِـنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟». فوراء هـذه الكلمات معاني مخفية، إذ أنَّ العبادة والإيمان انقلبا عند الفرِّيسيين إلى فرصةٍ لتمجيد ذوات‍هم. فعبادت‍هم ليست عبادةً حقيقية، فهي ليست للحقِّ، ولا من أجل الحقِّ؛ ولكنها عبادة تبتدئ بأنفسهم، وتنتهي إلى أنفسهم! لقد توزَّعت عليهم درجات التكريم والتمجيد من الناس، بل وطالبوا الناس ب‍ها. وبالتالي اهتموا جدّاً بالكرامات الذاتية، والأمجاد الذاتية؛ في الوقت الذي نَسَوْا فيه مجد الله وكرامته! ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». وهذا معناه - بحسب قـول المسيح - إن‍هم تغاضوا عـن مجد الله: «وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ». فَهُم أولاً نَسَوْا مجد الله، ثم بعد ذلك أهملوه، ثم أخيراً أحسُّوا أن‍هم في غير حاجة إليه! وبالتالي لم تبقَ العبادة - بالنسبة لهم - أساسها تمجيد الله، أو السعي لتمجيده، بالتسبيح أو بالصلاة أو بالسجود أو بالترتيل أو بكلِّ أنواع العبادة! فالعبادة كلها التي كان ينبغي أن تَصُبَّ في اتِّجاهٍ واحد، وهو مجد الله؛ أصبحت بكل ما فيها من كلام وتحية وصلاة وتسبيح لأجل مجد ذوات‍هم. وذلك لكي تُظهِر الشخص منهم أنه يعرف أن يُسبِّح بإتقان، ويعرف أن يتكلَّم جيِّداً، ويعرف أن يعظ بتدقيق؛ هذا كله من أجل مجد الشخص الذاتي، وليس مجد الله، ولذلك انتهت العبادة الحقيقية! استحالة أن يتوافق الإيمان الحقيقي مع طلب الإنسان مجده الذاتي: ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا...؟». فيستحيل الإيمان الحقيقي طالما أنَّ الإنسان يطلب مجد نفسه. وبالتالي يستحيل أن يسمح له الله أن يُمجِّده، مهما حاول! هذه نقطة خطيرة يُثيرها المسيح. فهذا الأصحاح من إنجيل القديس يوحنا يُركِّز على هذه النقطة بشدَّة، لأن‍ها في الحقيقة أكبر لوثة لوَّثت العبادة والإيمان، أن يطلب الإنسان تزكية لنفسه، أن يسعى لمجد ذاته. كل هذا مِمَّن يطلبه الإنسان؟ يطلبه من إنسانٍ مثله!! إذا قرأنا في إنجيل القديس متى، نجد ما هو أصعب وأكثر مِمَّا قيل في إنجيل القديس يوحنا، إذ يقول المسيح عـن الكَتَبَة والفرِّيسيين: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِـمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِـمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (مـت 23: 5-7). متطلبات الشهادة للمسيح: ولكن لا يتبادر إلى ذهن أحد، أنَّ المسيح لا يُريد شهادة من إنسان! فهو بالرغم من أنه غير محتاج إلى شهادة من أحدٍ، إلاَّ أننا نحن المحتاجين أن نشهد له. أن نشهد للمسيح بالقول والفكر والعمل، في كل موقف مـن مواقف الحياة: إن أكلنا لابد أن يكون ذلك لتمجيد الله، وإن شربنا كذلك، وإن نمنا، وإن عملنا أي عمل، لابد أن يكون كل ذلك لمجد الله! لماذا؟ لأنه، في الحقيقة، إذا مجَّدنا المسيح أو شهدنا له؛ فنحن نشهد للحقِّ. معنى هذا أنَّ الحق انكشف لنا، أنه استُعلِنَ لأعيننا. فنحن أبناء الإيمان، أولاد الشهداء. فالشهادة للمسيح ينبغي أن تكون عـن وعيٍ تام، ذلك أننا نشهد للحقِّ. فالحق لابد أن يكون مُستَعلَناً لنا تماماً، حتى تكون الشهادة له ذات فاعلية في قلوب الناس وعقولهم.فالإنسان الذي يشهد للمسيح، وهـو لا يُدرك شيئاً كثيراً عنه، فيكون إنساناً بسيطاً وساذجاً! ولكن الشهادة للمسيح عن وعيٍ وإدراك، تحتاج تلمذة لفتراتٍ طويلة قدَّام الإنجيل، وتحتاج لصلواتٍ متواترة، تحتاج لسؤال مَن لهم خبرة في الحياة الروحية... إلخ؛ حتى يستوعب الإنسانُ الحقَّ. أمَّا إذا شهدنا بكلماتٍ لا نعرف معناها ولا عُمقها؛ فهنا نكون كمَن لا يشهد إطلاقاً، إذ تكون شهادة بلا قيمة، وبالتالي لا تُقبَل شهادتنا! المسيح يطلب الذين يشهدون له، وهـو يطلب الساجدين له، وكذلك «الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو 4: 23). المسيح يطلب أننا نُمجِّده ليلَ ن‍هار؛ لأننا إذا مجَّدناه نكون قد وصلنا إلى مفهوم مجد الله، الذي هو يفوق كل أمجاد الدنيا! مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ ولكن، مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أي مجدٍ آخر! يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أمجاد العالم! هذا هو الذي يُمجِّد المسيح. هنا المسيح يطلب الذين يشهدون له، كما قال: «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27،26)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).فالكرازة بالإنجيل هي شهادةٌ، والشهادة تمجيدٌ لاسم المسيح. فالشهادة والتمجيد صنوان عزيزان لا يفترقان أبداً. فكل مَن يشهد يُمجِّد الله، وكل مَن يُمجِّد الله يشهد له. المسيح بعدما صعد إلى أعلى السموات، أرسـل موعـد الآب لكي يشهـد له. لماذا؟ لأن الكرازة بالمسيح ما زالت سارية في العالم، بالروح القدس وبنا نحن! إذا توقَّفت الشهادة، انتهت الكرازة بالمسيح في الأرض كلها، ولذلك قال الرب: «وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18: 8)، أي يجد الشهادة له! ولذلك أين نحن مـن الشهادة للمسيح؟ فالروح القدس لا يمكن أن يقف عاطلاً عن الشهادة للمسيح! والآن، سأسرد الشهادات التي قالها المسيح من أجل خلاصنا: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ» (يو 5: 34)، «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27). فعلى أيِّ أساس نشهد؟ على أساس الشهادة التي شهد ب‍ها المسيح عن نفسه، لأنه هو الحق. وما هو منهج الشهادة؟ نحن لا نشهد من عندياتنا، ولا نخترع شهادةً مُعيَّنة؛ فالرب يسوع هو الذي وضعها كلها! شهادة الرب يسوع عن نفسه: + «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُـوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13). معنى هذا أنَّ السماء انفتحت لنا! + «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 51). معنى هذا أننا نقتني الحياة! + «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51). إذن، فقد انفتحت السماء بعد قرونٍ طويلة! + «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو 6: 54). نحن نأكل جسد الرب ونشرب دمه كل يوم، ولذلك فلنا حياة كل يوم. فنحن لا ننتظر الحياة الأبدية، ولكننا نعيشها منذ الآن! + «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57). نأكلك يا ربنا يسوع المسيح؛ إذن، فنحن الآن أحياء بك وفيك للآب! + «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو 7: 37). من الآن لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه عطشان بالروح أبداً، فالينبوع مفتوحٌ: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 38). تشرب أنت، وتروي الناس العطاشَى! + «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).المسيح كما قـال للسامريـة: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»؛ يطلب منَّا أيضاً أن يشرب، يشرب من صلاتنا، من دموعنا، من قَرْع صدورنا، من سجودنا. فالمسيح ليس عطشاناً للماء الذي تحمله السامرية، ولكنه عطشانٌ لها، لخلاصها؛ فهو عندما رواها من مائه الحي، ارتوى هو! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ... طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34،32). + «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14).مـاء المسيح يروي. إذا دَخَلْتَ في أعماق الكلمة، تروي عطشك لسنين قادمة. الكلمة الواحدة إذا انفَتَحَتْ لك، تعيش ب‍ها طوال العمر! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ» (يو 4: 32).عرِّفنا، يا ربُّ، ما هذا الطعام؟ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). هذا هو الطعام الحقيقي، أن نصنع مشيئة الله. هذا هو غذاؤنا الذي سيرفعنا إلى أعلى! + «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).لقد عرفنا، يا ربُّ، أنه ليست لنا ظلمة! كل مَن يقول إنه يعيش في الظلمة، فهو لا يقول الحق. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه مظلومٌ، لأن معنى أنه مظلومٌ، أي أنه يعيش في الظلمة. نور العالم غير منطفئ أبداً، ولا يمكن أن ينطفئ! + «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46).آمِن بالرب يسوع المسيح، فتنفتح لك العين العالمة بكـلِّ شيء، العين التي ترى وتعرف وتفهم حتى أعماق الله! + «لأَنَّـهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الاِبْـنُ أَيْضاً يُحْيِي مَـنْ يَشَاءُ» (يو 5: 21).نحن موتاك، يا ابن الله، وقد حيينا بك، ونحيا كل يوم! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْـنِ اللهِ» (يو 5: 25).الآن، يـا ربُّ، يا ليته يكون. أيها الأموات، أتسمعون صوت ابـن الله؟ «وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ». هذا وعدٌ، والله لا يحنث بوعده! + «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).مُتنا، يا ربُّ، وحيينا فيك، وكل يوم نموت ونحيا! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يو 5: 24).نعم، قـد انتقلنا، يا ابن الله. فـلا دينونة الآن علينا. نحن قد عبرنا الدينونة، لأننا آمنَّا بك، يا ابن الله. قد سمعنا كلامك، ودخل قلوبنا، فلن يَقْوَى علينا الموت! + «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12: 32).أيها القطب الجاذب، نحن فيك، يا ربُّ، ناظرين إلى فوق، وعيوننا لا ترتخي إلى الأرض! + «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).نعم، يا ربُّ، نحن نسير في طريقك، فلنا فيك حياة. ولا يمكن أبداً أننا نَزِلُّ، لا يميناً ولا يساراً، لأنك أنت هو ”الطريق“. نحن لا نسير على الطريق، أنت الطريق، ونحن نسير بك وفيك! + «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 14: 6).رأيناك، يا ابن الله، في قلوبنا. رأيناك في كلِّ كلمة. رأيناك في إنجيل كل يوم، ورأينا الآب فيك! + «قَالَ يَسُوعُ: ”الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً“» (يو 13: 32،31).المجد الذي لك، يا ابن الله، محفوظٌ لك. ونحن أيضاً مجَّدنا ونصيبنا السماوي محفوظٌ لنا فيك! + «أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو 8: 23).ونحن أيضاً، يا ربُّ، لم نَعُد ولم نَصِر من هذا العالم! + «فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: ”أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ“» (يو 18: 37).نحن نشهد بشهادتك، يا ابن الله، أنك أنت أتيتَ وشهدتَ واعترفتَ الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي! + «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27؛ يو 13: 3).نشكر الله، لقـد انكشفت لنا أعماق الله. انكشفت لنا كـل أسـرار الله الآب في المسيح يسوع. لم نَعُد معوزين شيئاً مـن معرفة كل الأمور التي عند الآب، فقد أخبرنا ب‍ها الرب يسوع. قد صارت لنا السموات منذ الآن كصفحةٍ مقروءة، ككتابٍ مفتوح، نقرأه كل يوم! + «فَـإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُـلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (مت 16: 27).أعمالنا، يا ربُّ، وراؤنا، وأنت أمامنا. قد مَحَوْتَ كل خطايانا كغيمة صيف. نحن أمامك وأمام الآب بلا لوم في المحبة وقدِّيسون! + «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت 25: 31-34).كل الذين باركوا الآب، سيجلسون عن يمينه، وسيُقال لهم: «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ»! نُباركك، يا ابن الله، ونبارك أباك الصالح، كل يوم وكل لحظة! + «دُفِعَ إِلَيَّ كُـلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ...» (مت 28: 19،18).يقـول المسيح: ”بسلطاني، بالكلمة التي سأنطقها في أفـواهكم، بـالروح الذي سأسكبه على ألسنتكم؛ سوف تذهبون وتكرزون“! «هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي» (لو 24: 49). يا أحبَّائي، انظروا، هـذه هي شهادات المسيح عن نفسه. انظروا كيف أن‍ها كلها تنطق بمجده، مع أنه لا يطلب من ورائها مجداً لنفسه!وفي كل هذه الشهادات التي شهدها المسيح، يَصدُق قوله: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». ففي كل آية من هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً، تكمن زاوية من زوايا خلاصنا.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
21 مارس 2019

اليوم الرابع من الأسبوع الثالث من الصوم الكبير

أما نبوات الخميس والجمعة فتتحدث بدقة عن موضوع رجوع الابن الضال لأبيه: يتحدث في (الإصحاح 11) عن الحياة الجديدة مع المسيح، حياة الابن الضال بعدما عاد إلى أبيه- وهذا ما تسميه الكنيسة بالمُلك الألفي "فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة" (رؤ 20: 4). حيث يعيش المؤمنون مع المسيح لا مُلكا ً أرضيا ً زمنيا ً بل يعيشون مُلكا ً روحيا ً معه. ويحل عليه- على السيد المسيح كممثل لنا وكتائبين- روح الرب، روح الحكمة والفهم، وروح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب... ويكون البر منطقه متينة والأمانة منطقة حقويه" (إش 11: 2- 5) وتتميز الحياة مع السيد المسيح بالسلام الكامل:- أ- "فيسكن الذئب مع الخروف" (إش 11: 6). "ها أنا أرسلكم كحملان في وسط ذئاب" (لو 10: 3). ب- "ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على صخر الأفعوان" (إش 11: 8). "كونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالأطفال " (عن مجلة مرقس). "والأرض تمتلئ من معرفة الرب" (إش 11: 9). فالابن الضال لم يعرف محبة أبيه ولم يدرك مصلحته إلاَّ بعد التوبة. "ويكون أصل يسى راية للشعوب إياه تطلب الأمم" (إش 11: 10). فالكنيسة التائبة تخرج منها رائحة المسيح التي تكون راية للشعوب ومنارة، فيطلبون الرب من أمم غريبة ومن أروع ما يشير به إشعياء إلى أن التوبة هي دعوة اقتناء الله لأولاده:- أ- "ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتنى بقية شعبه... من كل مكان" (إش 11: 11). ب- "ويجمع منفي إسرائيل (إسرائيل ابنه البكر)، ويضم مشتت يهوذا" (إش 11: 12). فالابن الضال ابن مشتت. والنفس التائبة نفس فرحة مسبحة للرب وهذا ما سجله إشعياء في نبوة هذا اليوم "ويقول: أحمدك يا رب لأنه إذا غضبت علىَّ ارتد غضبك فتعزيني (تعزية التوبة)" (إش 12: 1) فواضح أن غضب الله كان من أجل رجوع النفس وتوبيخها، ومن هنا كان غضب الرب هو سبب التعزية لذلك (فالإصحاح 12) يتحدث عن غضب الرب اللازم للتأديب والتوبة "هوذا يوم الرب قادم قاسيًا بسخط وحمو غضب ليجعل الأرض خرابا ً ويبيد منها خطاتها" (إش 13: 9) فالتوبة تحمينا من غضب الله والتوبة تملأ القلب بالاطمئنان وتملأه بالترنيم والتسبيح "هذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب لأن يا ه يهوه قوتي وتسبحتي وقد صار لي خلاصا ً " (إش 12: 2).
المزيد
25 أبريل 2021

أحد الشعانين الأحد السابع من الصوم الكبير دخول السيد المسيح إلى أورشليم هو طريق للقيامة

كان الهدف من تجسد السيد المسيح وفدائه هو أن تكون لنا حياة أبدية وهذا ما تم بقيامة السيد المسيح من الأموات لنقوم نحن فيه.والطريق لذلك يتم عبر موت الإنسان العتيق الذي فينا وقيامة إنسان جديد في المسيح وهذا يبدأ بالمعمودية، ونكمل بحياة التوبة التي هي قيامة أولى. وهذه لو تمت تكون لنا قيامة ثانية في مجيء السيد المسيح الثاني.ولنرى الخط العام للأناجيل الأربعة وكيف شرحت هذا، ولنعلم أن الإنجيليين ليسوا مؤرخين لكنهم يقدمون بشارة الخلاص، والطريق للخلاص، كلٌ بطريقته. ونرى أن الطريق للقيامة كان الصلب "مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ " (غل20:2) ونرى أن المسيح أتى ليطهرنا (تطهير الهيكل = تطهير القلب).والطريق لسكنى حياة المسيح فيّ هو التشبه بالمسيح في تواضعه. فالله يسكن عند المنسحق والمتواضع القلب (إش15:57). وهذا معنى نزول زكا عن الشجرة ليدخل المسيح بيته. والتواضع عكس طلب أم إبنى زبدي. وطلب أم زبدي سبق تفتيح أعين العميان. ومن انفتحت عيناه لن يطلب عظمة أرضية، بل يقبل مُلك المسيح على قلبه بفرح. دخول المسيح أورشليم كملك هو دخول المسيح كملك لقلبي ليملك عليه، وهذا معنى "من يحبني يحفظ وصاياي" (يو21:14، 23) ملحوظة: أناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر الجحش الذي دخل المسيح أورشليم راكبًا إياه، بينما إنجيل متى يذكر أتان وجحش. وأناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر فتح أعين أعمى، ولكن متى يذكر فتح أعين أعميين. والسبب أن مرقس ولوقا ويوحنا يكتبون للأمم (رمزهم جحش لم يركبه أحد من قبل. والأمم لم يملك الله عليهم من قبل). ولكن متى يكتب لليهود (الذين رمزهم الحمار وهذا قد ركبه الناس رمزًا لملك الله عليهم منذ زمن) والمسيح أتى للكل يهود وأمم، وكلاهما كان أعمى فتح المسيح بصرهم. قراءات الكنيسة لها نفس منهج الإنجيل (قطمارس الصوم الكبير) 1- أحد الرفاع: الصوم والصلاة والصدقة: هذا طريق السماء (فالقيامة هي هدف هذا الأسبوع: فالصوم صلب عن العالم، والصلاة هي صلة مع الله والصدقة هي فعل الخير للمحتاج، فالمحتاج هو أخ للرب، وبها نتقابل مع الرب فنحيا في السماء. 2- الأحد الأول: الكنز: من يفعل ما سبق لن يخسر بل يصنع له كنزًا في السماء. 3- الأحد الثاني: التجربة: لابد وأن نتعرض للتجارب، ولكنها طريق للامتلاء من الروح والنمو (لو14:4) 4- الأحد الثالث: الابن الضال: هو دعوة لكل إنسان مهما كانت حالته ليأتي بالتوبة والله مستعد لقبوله. 5- الأحد الرابع: السامرية: المسيح أتى ببشارة الخلاص لكل العالم، لليهود والسامريين والأمم. ومن يقبل يجد الماء الحي والشفاء. 6- الأحد الخامس: المخلع: يسأله الرب هل تريد أن تبرأ؟ فالتوبة هي عمل مشترك بين الله وبيني، الله يدعو وأنا حر،إن كنت أستجيب أو لا أستجيب "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" (إر18:31). ونلاحظ في قراءات الأسبوع أنها تشير لما يحصل عليه التائب من شبع فالمسيح خبز الحياة، وأن يحيا في النور، وهذا لن يحصل على كل هذا، بل يحيا في جوع وفي ظلمة، ولاحظ قول السيد المسيح للفريسيين في قراءات يوم السبت من هذا الأسبوع "كم مرة أردت ولكنكم لم تريدوا ها بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت37:23) ومازال المسيح يسأل أنا أريد فهل تريد أن تبرأ. 7- الأحد السادس: المولود أعمى: المسيح يفتح عينيه بغسله في الماء إشارة للمعمودية التي تعطي استنارة، فيعرف المسيح ويؤمن به، وهذا هو "أحد التناصير" ولاحظ أن الأسابيع الماضية كان موضوعها هو التوبة، فمن يقدم توبة تنفتح عيناه ويعرف المسيح. ويقبله ملكًا على قلبه. 8- الأحد السابع: أحد الشعانين: المسيح يدخل لقلبي كملك يملك عليه، وأطيعه في محبة فيطهر قلبي كما طهر الهيكل. ومن لا يقبل يُدان (شجرة التين). أحد القيامة: من قبل المسيح ملكًا وتطهر قلبه وصارت له قيامة أولى، ستكون له قيامة ثانية بجسد ممجد. المركبة الكاروبيمية الجالس فوق الشاروبيم اليوم ظهر في أورشليم راكبا على جحش بمجد عظيم وحوله طقوس ني أنجيلوسلنرى مصادر هذا اللحن الشعانيني: 1. ركب على كروب وطار (مز18: 10). 2.هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على.. جحش.. (زك9: 9). ركب على كروب = الجالس فوق الشاروبيم = المسيح يجد راحته فيهم لأنهم يعرفونه.وهذا معنى أنهم مملوئين أعينًا.. (حز 10: 12) + (رؤ 4: 6). ولذلك يسبحونه قائلين "قدوس قدوس قدوس" (رؤ4: 8).وطار = نرى في الإصحاح الأول من نبوة حزقيال منظر المركبة الكاروبيمية التي يركبها الله ويطير بها للسماء، وقطعًا فالله لا يحتاج لمركبة من الملائكة لتحمله إلى السماء، فهو ساكن في الأعالي بل لا يحده مكان، ولكن هذا التصوير يشير إلى أن من يرتاح الله فيه، فالله هو الذي يحمله إلى أعلى السموات.واليوم عيد دخول المسيح إلى أورشليم، وأورشليم تشير لقلبي أنا، فكيف يدخل المسيح إلى قلوبنا؟ أن يرتاح المسيح فينا كما يرتاح في الشاروبيم = بأن نعرفه.. كيف؟ هذا عن طريق الأربعة الأناجيل ولذلك فرموزها هي وجوه الكاروبيم (رؤ4: 7). الإنسان= متى أكثر من تكلم عن المسيح ابن الإنسان. الأسد = مرقس قدم المسيح كملك قوى. الثور = لوقا قدم المسيح ذبيحة ليقبل الله الجميع. النسر = يوحنا قدم المسيح ابن الله السماوي. لكن بدون عمل المسيح فلا قبول لنا.. ومرة ثانية نتقابل مع وجوه الكاروبيم. الإنسان = التجسد الثور= ذبيحة الصليب الأسد = القيامة النسر= الصعود. دخول المسيح أورشليم في موكب عظيم مت1:21-11 + مر1:11-11 + لو29:19-48 + يو12:12-19هذا اليوم كان في خطة الله هو يوم إعلان ملكه ونوع ملكه. فدخل المسيح أورشليم في موكب ملك كمنتصر غالب في الحرب، لكن بتواضع ومحبة وما حدث من استقبال الناس له لم يكن بترتيب بشري إنما هو بترتيب إلهي. وكملك دخل بيت أبيه أي الهيكل ليطهره.أما بيت عنيا وبيت فاجي فهما من ضواحي أورشليم وهما تحسبان أنهما من أورشليم. فهناك طريق واحد منهما إلى أورشليم. وبيت عنيا توجد على السفح الشرقي، شمال جبل الزيتون، وبيت فاجي على السفح الشرقي، جنوب جبل الزيتون،أمّا السفح الغربي لجبل الزيتون فيقع عليه بستان جثسيماني.ونلاحظ أن قمة جبل الزيتون تحجب رؤيا أورشليم عمن هو في بيت عنيا. وقد أتى المسيح إلى بيت عنيا لوليمة سمعان الأبرص عشية يوم الأحد.ودخل المسيح فصحنا إلى أورشليم عشية يوم 10نيسان، وهو اليوم الذي يحفظ فيه خروف الفصح حتى يقدم يوم 14 نيسان. فالمسيح دخل أورشليم في نفس اليوم الذي يختارون فيه خروف الفصح. كانت أورشليم تكتظ بالحجاج (أع8:2-11) ويقدرهم يوسيفوس بحوالي 2,700,000 حاج.ونلاحظ أن الأناجيل الأربعة اهتمت بهذا الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح فمثلًا إنجيل متى اشتمل على الإصحاحات 21-28 ليروي فيها ما حدث في هذا الأسبوع، أسبوع آلام السيد والذي قدّم فيه السيد نفسه ليكون فصحنا ويعبر بنا من الظلمة إلى ملكوته الأبدي. الآيات (مت1:21-3):- "1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلًا لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا»." جاءوا إلى بيت فاجي= ومرقس يقول بيت فاجي وبيت عنيا.. فحدود بيت عنيا وبيت فاجي مشتركة ولهم طريق واحد مشترك إلى أورشليم. بيت عنيا تعني بيت الألم والعناء. أمّا بيت فاجي فتعني بيت التين (ربما لكثرة أشجار التين فيها). ولكن التينة تشير للكنيسة التي يجتمع أفرادها في محبة، وهي في العالم في عناء (الحدود مشتركة) لكن المسيح في وسطها. يفرح بالحب الذي فيها ويشترك في ألامها ويرفعها عنها ويعزيها وهي على الأرض. أتانًا مربوطة وجحشًا معها= أمّا باقي الإنجيليين (مرقس ولوقا ويوحنا) فقد ذكروا الجحش فقط وقالوا لم يجلس عليه أحد قط. وقال معظم الآباء أن الأتان المربوطة تشير لليهود الذين كانوا مؤدبين بالناموس مرتبطين به، خضعوا لله منذ زمان. لكنهم في تمردهم وعصيانهم مثل الحمار الذي انحط في سلوكه ومعرفته الروحية، يحمل أحمالًا ثقيلة من نتائج خطاياه الثقيلة، والحمار حيوان دنس بحسب الشريعة. وهو من أكثر حيوانات الحمل غباءً، هكذا كان البشر قبل المسيح. أمّا الجحش فيمثل الأمم الشعب الجديد الذي لم يكن قد استخدم للركوب من قبل، ولم يروَّض لا بالناموس ولا عَرِف الله، عاشوا متمردين أغبياء في وثنيتهم، لم يستخدمه الله قبل ذلك ولذلك فهم بلا مران سابق وبلا خبرات روحية. (مز12:49). أتان= أنثى الحمار. جحش= حمار صغير.ومتى وحده لأنه كتب لليهود أشار للأتان والجحش، أمّا باقي الإنجيليين فلأنهم كتبوا للأمم أشاروا فقط للجحش. ربما ركب المسيح على الأتان فترة من الوقت، وعلى الجحش فترة أخرى ليريح الجحش. لكن الإنجيليين الثلاثة يشيروا لبدء دخول الإيمان للأمم.ونلاحظ أن المسيح لم يدخل أورشليم ولا مرّة، ولا أي مدينة أخرى في موكب مهيب بهذه الصورة سوى هذه المرة لإعلان سروره بالصليب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهو قبل هذا الموكب فهو حسبه موكبه كملك يملك بالصليب. ويوحنا وحده الذي أشار لهتاف الجماهير بقولهم ملك إسرائيل. ونلاحظ أن المسيح لم يدخل كالقادة العسكريين على حصان فهو مملكته ليست من هذا العالم، ويرفض مظاهر العظمة العالمية والتفاخر العالمي. ويطلب فقط مكانًا في القلوب، يحمل عنها خطاياها التي تئن من ثقلها (كالحمار) فترد لهُ جميله بأن تسكنه في قلبه (مز22:73، 32) فيحولها لمركبة سماوية (مز10:18) إن قال لكما أحد شيئًا= غالبًا كان صاحب الحمار من تلاميذ المسيح الذين آمنوا به سرًا. الآيات (مت4:21-5):- "4فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: 5«قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ»." إبنة صهيون= أي سكان أورشليم (أش11:62+ زك9:9) والإقتباس تمامًا من السبعينية. يأتيك وديعًا= حتى لا يهابوه بل يحبوه لذلك دخل راكبًا أتان ولم يركب حصان في موكب مهيب كقائد عسكري. ولكنه الآن يركب حصان، فرس أبيض الذي هو أنا وأنت ليحارب إبليس ويغلب. ومن الذي يغلب إلاّ الذي دخل المسيح قلبه وملك عليه، فدخول المسيح أورشليم يشير لدخوله قلوبنا. الآيات (مت6:21-8):- "6فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، 7وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. 8وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. " فرش الثياب هي عادة شرقية دليل احترام الملوك عند دخولهم للمدن علامة الخضوع وتسليم القلب. ونحن فلنطرح أغلى ما لدينا تحت قدميه. فما حدث يعني أنهم يقبلونه ملكًا عليهم، أو يملكونه عليهم. واستخدامهم لأغصان الأشجار (غالبًا شجر الزيتون) مع سعف النخيل يشير للنصرة (نصرة على الخطية) مع السلام. فالنخل يشير بسعفه للنصرة والغلبة (رؤ9:7). والأغصان تشير للسلام (حمامة نوح عادت بغصن زيتون) وهذا ما كان اليهود يفعلونه وهم يحتفلون بعيد المظال، عيد الأفراح الحقيقية وهذا يدل على فرح الشعب بالمسيح الذي يدخل أورشليم. وكل من يملك المسيح على قلبه يغلب ويفرح. وفرش الأرض بالخضرة هو رمز للخير الذي يتوقعونه حين يملك المسيح. آية (مت9:21):- "9وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ:«أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». " استعمل البشيرون عبارات مختلفة ولكن هذا يعني أن البعض كان يقول هذا والبعض الآخر كان يقول تلك. وكل إنجيلي انتقى مما قيل ما يتناسب مع إنجيله. أمّا تسابيحهم فتركزت في كلمة أوصنا نطق أرامي معناه خلصنا فهي مأخوذة من هوشعنا بمعنى الخلاص أي يا رب خلص (هو من يهوه)، فالفرح كان بالمسيح المخلص وغالبًا هم فهموا الخلاص أن المسيح سيملك عليهم أرضيًا ويخلصهم من الرومان. وهذه التسبحة (أوصنا..) مأخوذة من مزمور (118).الجموع الذين تقدموا والذين تبعوا= طبعًا هذه تشير لأن بعض الجموع تقدموا الموكب وبعض الجموع ساروا وراء الموكب. ولكنها تشير لمن آمن بالله وعاشوا قبل مجيء المسيح من القديسين، ولمن آمن بالمسيح بعد مجيئه. فالكل استفاد بالخلاص الذي قدّمه المسيح. الكل في موكب النصرة. لذلك فالمسيح نزل إلى الجحيم من قبل الصليب ليفتحه ويخرج القديسين الذين كانوا فيه ويأخذهم إلى الفردوس. فالمسيح هو مخلص كل العالم. أوصنا لابن داود= إشارة لناسوت المسيح وتجسده. أوصنا في الأعالي= فهو الذي أتى من السماء وسيذهب للسماء.. (يو13:3). ولاحظ أن متى الذي يتكلم عن المسيح ابن داود يشير لهذا بقوله أوصنا لابن داود فهو تجسد ليرفعنا فيه للأعالي= أوصنا في الأعالي. الآيات (مت10:21-11):- "10وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً:«مَنْ هذَا؟» 11فَقَالَتِ الْجُمُوعُ:«هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»."سكان المدينة لم يعرفوه. ولكن من سمع عنه وعمل معه معجزات قد عرفوه. وهؤلاء كان أغلبيتهم من الجليليين الذين هم في وسط الجموع. وكل من دخل المسيح قلبه يرتج قلبه فيطرد من داخله كل خطايا تمنعه من الفرح بالمسيح المخلص ويبدأ في التعرف عليه. لقد خطط المسيح دخوله أورشليم في هذا الموكب المهيب ليعلن أنه ملك ولكن على القلوب وكجزء من تدبير صلبه يوم الفصح (الجمعة). فهو بهذا أثار اليهود ضده فهو دخل كملك ظافر، المسيا الآتي لخلاص شعبه (فهو ملك بصليبه). أما إنجيل معلمنا يوحنا فقد سرد دخول مخلصنا بمشهد أخر. الآيات (يو12:12-13):- "12وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!». " وفي الغد= أي يوم الأحد. إذًا الوليمة كانت يوم السبت. الذين حضروا حفل العشاء أذاعوا النبأ السار أن يسوع الذي يريدونه كملك سيأتي إلى أورشليم. والجمع الذي احتشد كان أغلبهم من الجليليين ومن الذين سمعوا بمعجزة إقامة لعازر فتحمسوا للقائه. وأمام هذا الاستقبال الحافل تأكدت مخاوف الفريسيين ورؤساء الكهنة ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين. وسعف النخيل هو رمز للنصرة والبهجة (لا40:23+ رؤ9:7). وهم رأوا أن يسوع هو المسيح المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء وأنه سيأتي من نسل داود ليعيد لهم الملك (صف15:3-17+ لو32:1-33) فهم كانوا يحلمون باستعادة كرسي داود بل وأن يحكموا العالم كله. ونرى من (1مك51:13+ 2مك4:14) أنهم كانوا يستقبلون الملوك بسعف النخيل. ووجدت عملات مسكوكة من أيام سمعان المكابي عليها سعف النخيل. والنخيل شجرة محبوبة لأنها ترتفع شامخة نحو السماء فارشة أغصانها مثل التاج كأذرع تتوسل دائمًا. خضراء على الدوام تزهر وتثمر لمئات السنين (مز12:92-13+ نش6:7-8) وفيه نرى النفس المحبوبة للمسيح تشبه بنخلة. ويوحنا اختار قول الناس أوصنا مبارك الآتي باسم الرب= فالمسيح أتى بقوة إلهية لخلاص الإنسان وتجديده، هو ابن الله الذي أتى ليخلقنا خلقة جديدة. الآيات (يو12:14-15):- "14وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15«لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ»." لا تخافي= فدخول المسيح لأورشليم كان للسلام ولم يأتي ليحارب الرومان وتسيل الدماء في أورشليم لكن ليملأ القلوب سلامًا. بل ليصنع سلامًا بين السماء والأرض. وكان دخوله وديعًا هادئًا وليس كالملوك الأرضيين يصنعون حربًا ويطلبون جزية. والجحش يستعمله الفقراء وفي هذا درس لليهود.المتكبرين الذين يحلمون بملك أرضي. وفي تواضع المسيح هذا إشارة لأن أحلام اليهود في مملكة عالمية هي أوهام خاطئة. ودرس لكل من يحلم بمجد أرضي أنه يجري وراء باطل. آية (يو12:16):- "16وَهذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تَلاَمِيذُهُ أَوَّلًا، وَلكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ، حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هذِهِ لَهُ. "لم يفهمها تلاميذه أولًا= كثيرًا ما لا نفهم أعمال المسيح أولًا ولكننا من المؤكد سنفهم فيما بعد. وأنهم صنعوا هذه له= أي أنهم اشتركوا في تكريم المسيح كملك، واشتركوا في تنفيذ النبوات، فهذه عائدة على النبوات. لم يكن التلاميذ فاهمين ولا الشعب ولا الفريسيين وكم من أمور تجري في حياتنا ونحن لا نفهمها. علينا أن لا نطالب بالفهم فسيأتي يوم ونفهم. لكن علينا بالإيمان. آية (يو12:19):- "19فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». "هذه نبوة من فم الأعداء بإيمان العالم وذهابه وراؤه، ونرى غيظهم من ضياع سلطانهم. لا تنفعون شيئًا= هذه مثل "راحت عليكم". فالناس تركتهم وهذا هو ما أغاظهم.فلندخل مع المسيح ملكنا في موكب نصرته، ونتألم معه لكي نتمجد معه أيضًا.ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل