المقالات

20 نوفمبر 2021

إنجيل المرأة الخاطئة

رُبَّ سائل: ألم يوجد في المدينة خُطاة غير هذه المرأة؟ لأنّ الكتاب يقول: «امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً» (لو7: 36-50). الواقع أنّ الخُطاة في تلك المدينة أو غيرها من المدن لا يمكن حصرهم لأنّه «أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ... أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ» (غل3: 22، رو3: 10). بل أنّ العكس هو الصحيح إن وجد أبرار في مدينة فهُم الأقليّة المعدودة. ولكن مَن حرّك قلب هذه المرأة الخاطئة للتوبة؟ والجواب: أنّ التحريض على التوبة، وتحريك الضمير لترك حياة الخطيّة، هو من الله «الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ» (1تي2: 4)، وهو مخلّص البشر. إذن هل اختار الرب هذه المرأة ليخصّها بهذه النعمة، إذ يحرك ضميرها ويثقّله من جهة حياة النجاسة والفجور؟ وهل إليها وحدها بلغ هذا الصوت الإلهي؟ ولماذا؟ والواقع أنّ رسالة الله ودعوته هي للجميع بلا تمييز ولا تفريق. ولكنّنا نَخلُص إلى القول أنّ وراء هذه المرأة الخاطئة سِرّ.. هو سرّ القبول، وسرّ الاستجابة.. إذ سمعَتْ الصوت داخلها يحرّك قلبها ويوخز ضميرها.. فلبّت للحال صوت الداعي، واستجابت له بكلّ مشاعرها، وتحرّكت لفورها بخضوع عملي لتلبِّي متطلّبات الحركة الإلهيّة داخل القلب. وكم من مرّات لا تقع تحت حصر يصير هذا الصوت، ينادي في قفار الأرض وجَدْب العالم المُظلم «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» (مت4: 17). ويختلف الناس اختلافًا بَيِّنًا من جهة الاستجابة والتجاوب. فمِن سامع سريع الانفعال ثمّ في لحظة يخبو الصوت ويتلاشى، ومِن مستهتر لا يُعِيرُ الصوتَ التفاتًا، ومِن غير مصدِّق ولا مؤمن بهذا الصوت إنّما يَعزوه إلى غير الله الموجود، ومِن يائس لكثرة السقوط وارتياد الطرق المعوجّة. مئات بل ملايين السامعين، والتمايُز بين واحد وآخر شيء مهول حقًّا. وبين الملايين الكثيرة يوجد مَن يلين قلبه، عند سماع أول هاتف للخير، وأول شعاع لفجر القيامة.. ومِن هؤلاء كانت هذه المرأة الخاطئة، فلما سمعت جاءت إلى مَن ناداها. ولم تكن تجرؤ أن تنظر إلى عينه، فهو فاحص القلوب ومختبر الكُلى. ولم تكن تستطيع أن تريه وجهها وقد غطاه خزى الخطايا. كان الذي يحرّكها في الداخل شيء لا يُقاوَم، وحنينها إلى الحياة الأفضل كانت تُزكّيه هذه الشعلة البسيطة من نار الروح الذي بدأ يشتعل قليلاً قليلاً في داخلها. تُرى ماذا سيقول؟ بل ماذا عساها أن تقول؟ فإن قال وكشف ما هو مستور في قبر هذا القلب المسكين.. فسوف يزلزِل صوته السماء والأرض.. وأساسات المسكونة. فكم بالحريّ قلب ملوث بالخطايا. وإن نَظَرَ فتذوب الجبال وتُدخِّن لأنّ السماء غير طاهرة قدام عينيه.. «وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً» (أي4: 18). فمن الأجدر أن تتكلّم هي، وماذا عساها أن تقول إن استجمعت شجاعتها وحزمت كلّ ما تبقّى لها من قوّة بدّدتها الخطايا.. من أين تجد كلامًا تضعه في شفتيها.. من يعطيها كلامًا كقول هوشع «خُذُوا مَعَكُمْ كَلاَمًا وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ» (14: 2). تُرى هل تحتاج إلى كلمات داود أو صلوات منسّى التائب؟ وهل تحتاج إلى من يعمل في فكرها لترتيب الكلام حتى تجد نعمة لدى القدير؟ إن ملايين الكلمات لا تكفي ولا تفي! لذا جاءت من ورائه.. وهل تحسِب أنّه له وراء وقُدّام؟ لأجل تجسّده إذ صار إنسانًا، صار هكذا، غير المَرئي صار مرئيًّا، وغير الزمني صار تحت الزمن. هكذا عرفَتْهُ إذ صار قريبًا من الخطاة، بل مُحِب للعشّارين والخطاة. فلما وقعَتْ عند قدميه.. وصارت إلى التراب في المذلّة والاتضاع.. انفجرَتْ ينابيع الماء من الداخل كقول الرب للسامرية، وهي أيضًا المرأة التي تمتّعت بالغفران قبل غيرها. لذلك لما عجزَتْ عن الكلام باللسان تكلّمت العينان بالدموع. جاءت من ورائه باكية: للدموع فعل عجيب حقًّا لدى أصحاب القلوب الطيّبة وأصحاب المشاعر الرقيقة. فكم بالحريّ تكون أمام مخلّصنا ينبوع الرحمة والحنان؟ فهي تستدرّ عطفه الإلهي كما هو مكتوب: «كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ»، لقد قال الرب في سفر النشيد: «حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي» (نش6: 5). اقتربَت الباكية من قدميّ المخلّص.. سبقَتْها دموعُها تتساقط بغزارة، وبجرأة لمسَتْ قدميه، وهي تَعلَم في نفسها مقدار نجاستها. شعرتْ لوقتها نفس شعور نازفة الدم.. وقف نزيف دمها.. زال المرض.. تبدّدَت النجاسة والشعور بالنجاسة. فهل تقف الظلمة إذا غشاها النور الإلهي؟ لقد لمسَتْ الخلاص، لمستْ الحياة التي أُظهِرت، الحياة المتجسّدة في شخص يسوع. حَلّ في قلبها في الحال سلام الله لما مسّت قدميّ الذي صالَحَ الخطاة مع الآب. «لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ» (إش48: 22). + لم يُحرِّك الربُّ قدمَيْه أو يمنعهما.. ترك لها قدميه المزمعتين أن تتسمرا على الصليب بلا حراك لتدفع ثمن خطايا العالم كلّه. لقد بخل سمعان الفريسي بالماء لغسل قدميّ المُخَلِّص.. حسنًا صنع دون أن يدري، فقدمَيّ المخلّص ليستا بحاجة لغسل الماء كباقي البشر.. هو غاسل الأوزار والخطايا عن الأقدام كما فعل مع الرسل ومع كلّ أجيال الكنيسة. + كمّ الدموع لغسيل الرجلين من يقدر أن يصِفَهُ أو يقدّره؟ هل يُكال بمكيال أو يقدّر بمقدار؟ ما قدَّرَهُ سمعان ولا المتّكئون، بل حسبوه مياهًا تُسكَب على الأرض. لكن قابِل الخطاة ومخلّص الأثمة هو الذي ثَمَّن الدموع وعظَّمها. وَكَانَتْ تُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ: تُرى من دلّكِ إلى ذلك؟ ومن علّمكِ؟ القُبلات للفم وللوجنتين. ولكنّكِ ألقيتِ بنفسِكِ على الأرض، إذ حسبتِ نفسَكِ خاطئةً، لا تستحقّين القيام أمامه فعكفْتِ على تقبيل قدميه. فلمّا استنشقتِ رائحة الحياة الأبديّة لم تَكُفِّي عن فعل ذلك. سكبتِ الدمع فغسلتِ القدمَين، وعِوَضًا عن المنشفة للتجفيف قدّمتِ شعر رأسك، ثم سكبتِ طيبك المُخَبّأ تحت إزارك، فامتلأ البيت من عَبير التوبة الحقيقيّة التي اشتمّها الله قَبلَ البشر. يا للعجب، كلّ ما بِعْتِهِ للخطيّة وما بذلتيه للتلذُّذ والخلاعة.. استردَّتيه مُضَاعَفًا أضعافًا أبدية.. فالدموع وعواطف الحُبّ والقُبلات التي ألهَبَتْ الجسد بالشهوات، وعِطر الطِّيب وشعر الرأس التي اُستخدِمت للهلاك، عندما قدّمتيها ذبيحة حبّ حقيقي على مذبح قدمَيّ يسوع.. نزعتِ عنها كلّ شوائب الجسد وعار السلوك النجس، وكأنّها أُلقيَتْ في آتون النار، فاحترقَتْ الخطايا وخرجَتْ العطايا كالذهب المُصَفّى. فيا جميع خُطاة الأرض، تعالوا.. تعلّموا اقتناء الخلاص وتعجّبوا كيف أنّ المرأة الخاطئة في المدينة صارت أيقونة المرأة التائبة في الكنيسة. سَمْعَانُ الْفَرِّيسِيِّ عَجَبِي مِن مسلك هذا الفريسي الأعمى، الذي نسِيَ تطهير خطاياه، مبرِّرًا ذاته، وناظرًا إلى المرأة الخاطئة.. وعجبي أنّنا كثيرًا ما تصرّفنا تصرُّفَهُ وحَكَمْنا حُكمَهُ وبرّرنا أنفسنا. قال الفريسي في نفسِهِ، لم يجسُر أن يكلّم الربّ علانيةً فأمرُه مَكشوف. ولكنّ المُطّلِع على الخفايا وفاحص القلوب كَلّمَه علانيةً، مُجيبًا على أفكاره، لأجل منفعتنا ولتعليمنا. فإن كُنّا نُصدِر الأحكام على الآخرين وندينهم، فنحن بالأولى يليق بنا أن نحكُم على أنفسنا وندين أنفسنا. وإن افتكرنا بأنّنا مَدِينون بالقليل بينما غيرنا مَدِينون بالكثير، فقد أخطأنا إذ لم نَحسِب حساب حُبّ الآخرين الكبير. وإن كنا عجزنا عن أن نوفي الدين الذي علينا فلنسرع بالتوبة. وبدل المتّكأ العالي فلنُلقِ بأنفسنا عند قدمى يسوع، القادر أن يسدّ الديون عنّا. ولنبكِ بحُرقة قلب، ونَبلّ قدميه بدموعنا، ونُقَبِّل قدميه اللتان اعتقتانا من طريق الضلالة.. كفى دينونة للآخرين.. وكفى حُكمًا على الناس. + أمّا قول الرب كلّه فكان في صفّ المرأة المبرَّرة التائبة. فالمسيح دائمًا في صفّ الراجعين إليه، يَدْفَع عنهم كلام الناس وأحكام الناس ودينونة الناس. طوباكِ أيتها المرأة حين سمعتِ صوت الرب إلهك، أنّكِ أحببتِ كثيرًا.. طوبى للدموع التي طهّرَتْ عينيك، وقبلاتك التي قدّسَتْ شفتيكِ.. ومباركٌ هو طِيبك الذي استمدّ معناه من طيب الروح القدس؛ المنبثق من الآب الحالّ على رأس المسيح ومُنسكِب على القدمين. طوباكِ لما سمعتِ صوت الرب مغفورة لكِ خطاياكِ. لقد أدركتِ الفرح الأبدي، إذ محا الربّ عنكِ صكّ خطاياكِ.. طوباكِ لَمّا أظهرَكِ للعالم كلّه، حاصلةً على سلامه الإلهي، وأرسلكِ تكرزين بالتوبة والخلاص « اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ». المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
13 نوفمبر 2021

المُعطي فبسخاء

الحياة المسيحيّة بحسب الإنجيل هي حياة عطاء وبذل من كلّ جانب، لأنّها هي حياة المسيح فينا الذي بذل نفسه حتّى الموت حبًّا فينا. فإنْ كان المسيح يحيا فيَّ فحياتي كلّها عطاء وكلّها سخاء، بعيدًا عن البُخل والشُحّ والأنانيّة وتفضيل الذّات على الآخرين. والعطاء المادّي هو أقلّ أنواع العطاء، لأنّ الممتلكات أشياء تَفنَى، لها قيمة ماديّة متغيّرة وهي خارجة عن الذّات. فأنا شيء وما أملكه شيء آخر يَبقَى منفصلاً عنِّي. أمّا العطاء المسيحي فهو عطاء النفس، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه، على مثال صليب المسيح الذي أحبّنا إلى المنتَهَى. فإن وضَع الإنسان نفسه، وفرَّط فيها وكفر بذاته وسعى وراء مخلصه حاملاً الصليب، فإنّه يعيش متنعّمًا في ملكوت المسيح وهو بعد في الجسد «هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ» (لو17: 21). وإن وُجِد هذا المثال المسيحي حيًّا.. فلا مكان للصراعات ولا الخلافات ولا التحزّبات ولا السياسات في الكنيسة.. ولا مكان للمشاكل في العائلة ولا انحراف ولا طغيان للمادة والطمع.. إلى آخر هذه الأمور. العطاء الحقيقي هو حالة فيض داخلي فحينما يمتلئ القلب يفيض. فالقلب الممتلئ حبًّا يفيض حبًّا.. الامتلاء يسبق الفيض.. الفيض بدون ملء هو نوع من الغشّ. فالعطاء الحقيقي يكون من ملء الروح وفيض الروح. فإن لم نحيا بالروح يكون عطاؤنا المادي بلا قيمة. الكنيسة منذ البداية رفضت عطايا الناس غير المتقدّسين فلا تقبل عطايا من يُتاجر في النجاسة أو يكسب أمواله عن طريق غير مقدس. هذه بعض الآيات الإنجيليّة التي تنير الطريق وتوضّح الأهداف الحقيقيّة: + «أَعْطُوا تُعْطَوْا» (لو6: 38). + «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أع20: 35). + «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ» (رو12: 8). + «مَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ» (2كو9: 6). + «لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ» (في4: 17). + «فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ» (2كو8: 2). + «لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ» (2كو8: 3، 4). + «وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ» (2كو8: 5). ويبدو واضحًا أنّ الرسل الأطهار الذين جرَّدهم الربّ منذ البداية من كلّ ما هو مادي، وملأهم من الروح إلى كلّ الملء لم يطلبوا شيئًا.. بل لم يشتهوا شيئًا «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ» (أع20: 33). ولكن بحركة عطاء تلقائيّة، منذ أن حلّ الروح القدس وملأ كيان الكنيسة، كان «كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُول أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ» (أع4: 34، 35). دون أن يطلب الرسل ذلك. كان هذا شعورًا تلقائيًّا للتخلِّي عن الماديات لمّا حصلوا على ملء الروح. والآيات توضّح المنهج الروحي من ناحية الرسل ومن ناحية المؤمنين. فالمؤمنون كانوا يتوسّلون إلى الرسل أن يقبلوا العطايا، والرسل الأطهار لم يمدّوا أيديهم للأخذ فوُضِعت العطايا تحت أقدامهم، كانوا «يَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ». «أَعْــطُــوا تُعْــطَــوْا» يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم "إنّنا كثيرًا ما نتبادل المواقع.. ففي أوقات كثيرة يأتي إلينا من يسألنا حاجّة، ونكون نحن في مكان الذي يُعطي ويُحسِن إلى مَن يسأله، ثم في أحيان أخرى نمدّ أيدينا نسأل ونطلب.. ونكون في موضع المُستجدي المحتاج". فإنّ تصرُّف الإنسان في موقعه الأول تَصَرُّف السخي المُعطي، الذي لا يردّ حاجّة السائل. فإنّه حين يكون في وَضع المُحتاج من الله سيعامله بذات السخاء، وبالكيل المُلَبَّد المهزوز يعطيه في حِضنه. والعكس صحيح فإنْ بَخَلَ الإنسان وصَدّ مَن يَطلب إليه فإنّه حين يطلب هو تُصدُّ صلاته ولا يُستجاب لطلبه. هذا ما عاشّه القديسون في كلّ جيل، لقد عرفوا الطريق إلى استجابة صلواتهم وعرفوا كيف يستدرُّون مراحم الله، إذ صاروا رحماء و«أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ» (1تي6: 18). - يُحكَى عن المعلم إبراهيم الجوهري الذي كان بمثابة رئيس للوزراء.. أنّه كان منقطع النظير في سخائه، ويُذكَر عنه أنّ شحّاذًا قابله وهو خارج من منزله في الصباح ذاهب إلى ديوان الوزارة وطلب منه شيئًا (صدقةً) فأعطاه، ثم استدار الشحّاذ وقابله في منعطف الشارع وطلب منه فأعطاه، ثم لفّ من شارع آخر وقابله وطلب فأعطاه.. حتى في نهاية المشوار صرخ الشحّاذ وقال: طوباك يا رجل الله، فهوذا طلبتُ منك هذه المرّات الكثيرة ولم تضجر منِّي ولا أرجعتني خائبًا. فأجابه المعلم إبراهيم في اتضاع كثير: هذا مالك يا ابني، أعطاه الله لي لأعطيه لمَن يسأل. + وقد تقابلتُ في حياتي مع كثيرين من الأسخياء المُحبّين للعطاء بسرور. والحريصون منهم كانوا يحيون حياة العطاء بحسب الإنجيل، وبحسب الذي تسلّموه من الأبرار الذين أرضوا الرب قبلهم. لأنّ كثيرًا من المراحم تحيط بحياة العطاء، «مَنْ يَرْحَمُ (يعطي) الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أم18: 17). والمزمور يقول: «طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمَسْكِينِ (لمن يتعطف على المسكين والفقير). فِي يَوْمِ الشَّرِّ (السوء) يُنَجِّيهِ الرَّبُّ» (مز40 أجبية). ولكن بالأكثر يقول: «صالِحٌ هُوَ الرَّجُلُ الَّذي يَتَرَأَّفُ ويُقْرِضُ... مَجْدٌ وغِنى فى بَيْتِهِ، وبرُّهُ يَدومُ إلَى الأبَدِ» (مز111 أجبية). فالعطاء في المسيح هو من فيض النعمة وحياة البرّ، وليس كما يظنّ البعض أنّه مجرّد عطاء مادي ومساعدات تُقَدَّم.. يجب أنّ الذي يقدّم العطايا يقدّمها بيد طاهرة، بقلبٍ عابد للمسيح. وليست الصَدَقة بغرض التكفير عن ذنوب، فالحسنات لا يُذهِبن السيّئات لأنّ هذا مبدأ غير مسيحي، السيئات يمحوها دم المسيح الذي يُطهِّر من كلّ خطية.. والاعتراف بها وغفرانها من فم المسيح بيد الكاهن وتكميل التوبة يكون في الحياة البعيدة عن السيرة الأولى. ناهيك لِمَا يشوب العطايا ويلوّثها من حبّ التفاخُر والتظاهر ومدح الناس. وهذا ضدّ الوصية الغالية.. «مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً (رحمة) فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ» (مت6: 3). لذلك أقول إنّ من بين الأتقياء الذين عايشتهم من كان كثير العطاء في الخفاء، يسلك سلوك القدّيسين الذين أنكروا ذواتهم، رغم أنّهم صنعوا آيات وعجائب. + على أن وصية العطاء غير قاصرة على ذوي الأملاك والمقتدرين، فقد رأينا فقراء ومُعدمين مُحبّين للعطاء ويقدّمون للرب فوق طاقتهم بفرحٍ لا يُعبَّر عنه. فبعض المساكين كانوا يأخذون بركة صغيرة من الكنيسة، وكانوا يتصدّقون منها، ويُشاركون من هم أفقر منهم وأكثر احتياجًا. كيف يكون الفقير والمعدَم كريمًا سخيًّا مُحبًّا للعطاء؟.. هذه هي نعمة المسيح التي أجزلها بكلّ حكمة وفطنة، حتّى صار أولاده كفقراء وهم يغنون كثيرين. + «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو8: 9).. فقر المسيح هو الغِنَى الذي لا يُستقصَى.. فكلما زاد الإنسان التصاقًا بالمسيح وقبل آلامه المُخلِّصة المُحيية ليحيا بها وفيها، كلّما زاد غِنى الإنسان وفاضت ينابيعه من فيض نعمة المسيح مخلصنا. «أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ» (يع2: 5) ليُخزي بهم الأغنياء. قيل في البستان عن أحد الآباء النُسّاك العظام، إنّه حلّ فى زمانه غلاء عظيم وقَلَّ الخير. وكان في قلايته ثلاث خبزات. وبعد غروب الشمس، شرع في تناول طعامه، فقرع بابه سائل فقام وأعطاه خبزة. وقبل أن يأكل قرع بابه آخر فقام وأعطاه الخبزة الثانية. وجلس ليكسر الخبزة الباقية فقرع بابه سائل آخر. فيقول البستان أنه ساورته أفكاره عما إذا أعطى آخر خبزة له فما عساه أن يفعل وماذا يكون مصيره؟ ولكنه غلب أفكاره وقفز بشجاعة إيمانية وأعطى الخبزة للسائل. وظلّ هو بلا طعام، وقد استمرّ على هذه الحال يومين وهو صائم شاكراً الله. وبعد هذا ظهر له ملاك الرب وعزَّاه وقال له: من أجل عملك هذا فقد أحسنَ الربّ إلى المنطقة كلّها وأزال الغلاء. وفي ذات اليوم قَدُمَت إلى الدير جمالاً مُحمَّلة بالخيرات. + هناك حروب كثيرة من عدو الخير ضدّ عمل الخير والصدقات وعمل الرحمة والإحسان. ولكن الذين عاشوا بالإيمان غلبوه بقوّة الله ومؤازرة النعمة. ويكفي أن نذكُر فلسي الأرملة التي مدحها الرب ذاته، أنّها أعطت «كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا» (مر12: 44)، أمّا الأغنياء فقال الرب: إنّهم «مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا (أعطوا)». هذا اختبار عميق يعرفه الذين مارسوه وتنعموا به، إنّه اختبار إيماني عاشه المُعدمون بحسب الظاهر، فاختبروا قمّة عناية الله بهم. لقد عاش القديس أنبا انطونيوس هذا الاختبار مدى الحياة لمّا تنازل طوعًا عن كلّ ملكيّته، وألقى رجاءه بالكمال على الله الذي اعتنى به حتى آخر أيّامه على الأرض. وهكذا القديس أنبا بولا لمّا تنازل عن الإرث المادي الغالي وعاش ناسكًا بلا مأوى ولا كسوة ولا قوت.. كيف عاله الله سبعين سنة.. أليس هو الذي عال الشعب الإسرائيلي (2 مليون نسمة) في البرّيّة أربعين سنة، «لَمْ تَبْلَ ثِيَابُهُمْ، وَلَمْ تَتَوَرَّمْ أَرْجُلُهُمْ» (نحميا9: 21) ونعالهم لم تتهرّأ؟ المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
06 نوفمبر 2021

لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا ج2

ثالثاً: أمّا مِن جِهة أن لا يجهلوا «أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ» (رو11: 25)، فقد كان الذين آمنوا بالمسيح من الوثنيين بدأوا في الافتخار، وشعروا بأنّهم أفضل.. فهُم قبلوا الإيمان بالمسيح وأطاعوه وأحبّوه وقبلوا نعمة التبنّي.. الخ. فأراد القديس بولس أن يحذّرهم ويكشف لهم الحقّ.. أنّ القساوة من اليهود التى يرونها الآن، هي جُزئيّة محصورة في الزمن. وقد أوضح لهم الخطّة الإلهية لخلاص اليهود والأمم كليهما، وقد أوضح ذلك كثيرًا بالشرح.. أنّ اليهود «لَهُمُ الْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ... وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ» (رو9: 4، 5).فإن كانت قد قُطعت بعض الأغصان من الزيتونة الأصليّة، لسبب عدم الإيمان، و«أَنْتَ (يقصد المسيحي الذي كان وثنيًّا) قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ الْبَرِّيَّةِ، وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ (الزيتونة الأصلية)... فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى الأَغْصَانِ» (رو11: 17–28). هم لسبب عدم الإيمان قُطعوا وأنت بالإيمان ثَبَتّ، وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان فإنّهم يُطعّمون. الأمر إذن ينحصر في الثبات في الكرمة الحقيقية.. «كُلُّ غُصْنٍ يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو15: 2).. وكلّ غصن لا يأتي بثمر يُقطع. إذن الجهل بهذا الأمر جعلهم يصيرون حكماء عند أنفسهم، ويقتنعون بأفكارٍ ليست من الله، تدفعهم إلى الكبرياء. وهذا ضد روح المسيح. رابعاً: «أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ... فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا. أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أُمَمًا مُنْقَادِينَ إِلَى الأَوْثَانِ الْبُكْمِ، كَمَا كُنْتُمْ تُسَاقُونَ» (1كو12: 1، 2). فالأمر جدّ خطير، فقد انبهر هؤلاء المؤمنون الجُدُد بالآيات والعجائب والتكلّم بالألسنة، وقد شغلهم هذا الأمر حتى صاروا يتسابقون، فيمن هو الأعظم، ومَن يتكلّم بألسنة أكثر من الآخر، حتى صارت اجتماعاتهم كغوغاء من كثرة المتكلّمين بألسنة، وكان بعضهم على حقّ من جهة هذه الموهبة، أمّا كثيرون فكانوا مُدّعين، وقد طغى عليهم إنسانهم العتيق مع بقايا عبادات الأوثان.وقد سمع القديس بولس عن البعض من مُدّعي التكلّم بالألسنة أنّه يقول «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا» (1كو12: 3)، ويبدو من الحديث أنّهم لم يكونوا على معرفة بقوّة اللغة، بل كانوا ينطقون بلا فهم. لذلك حذّرهم القديس بولس، وأرادهم أن لا يجهلوا مِن جِهة المواهب. وأوضح بالروح وبالتفصيل أنّ المواهب ليست للافتخار أو التباهي والرجوع إلى الذات. ولكن المواهب الحقيقية يعطيها الروح القدس للكنيسة لبنيان المؤمنين.. وأنّ الموهبة الحقيقيّة تُعطى للإنسان، ليس لأجل ذاته، ولكن الروح يقسِّم لكلّ واحد كما يشاء. وأنّ الكنيسة هي جسد واحد، وأنّنا أعضاء في الجسد الواحد، وإن كُرِّم أحد الأعضاء فللباقين، ولا يستغني الجسد عن أقلّ أعضائه، ولا يقُل عضو في الجسد لباقي الأعضاء: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ» (1كو12: 21)، ولا يفتخر أحد بما نال من المواهب من الروح القدس كأنّه الأفضل. فالعين وإن كانت وظيفتها الإبصار، والأذن للسمع.. فما تقوم به العين يختلف عما تؤديه الأذن. ولكن بالنهاية كلّهم موضوعون في الجسد بانسجام للخدمة وللتآلف.. فليس أحد يحيا لنفسه، ولكنّ حياته في الجسد وبالجسد وللجسد. فلا يتصوّر أحد أنّ العين قائمة بمفردها بعيدًا عن الجسد، فهي في هذه الحالة كعضو منفصل عن الجسد تصير بلا قيمة وبلا منفعة.هكذا شرح الرسول على ضوء ذلك طبيعة الكنيسة كجسد المسيح، وأنّ المؤمنين وإن كانوا أفراد ولكنهم بالأكثر أعضاء في الجسد الواحد يحيون بالروح الواحد. فالحياة تسري في جميع الأعضاء، وهذه الحياة هي بالروح القدس الكائن في جميع المؤمنين وبلا تفريق. فإن اختلفت المواهب لكنّ الروح واحد وهو المصدر الوحيد. خامسًا: وأخيرًا صَحّح الرسول كلّ هذه المفاهيم من جهة المواهب في الكنيسة، ثم وجههم إلى ما هو أعظم من كلّ المواهب، وهو تكميل المحبّة المسيحيّة لأنّه إن كان أحد قد حاز كلّ الإيمان حتى ينقل الجبال وليس له محبة فهو ليس بشيء. إلى آخر ما كتبه للكنيسة مؤكِّدًا أنّ المحبة هي العَصَب، وهي الرباط الذي به تقوم الكنيسة. وتَوّج حديثه الملهَم بأنّ الإيمان سيبطُل، أمّا المحبة فلا تسقط أبدًا. وفي كلّ أجيال الكنيسة شَغَلَ هذا الأمر الكثيرين، واستهوى الكثيرين من جِهة المواهب والمعجزات، وانجرف في هذا التيّار كلّ مَن جَهَل كلام القديس بولس. أما مَن استنارت عقولهم بالكلام الإلهي فقد ثبتوا في المحبة ومارسوها مدى الحياة، وفاقت حياتهم حتى أصحاب المعجزات أما عن التدبير الإلهي في خِدمة الرسول وحركته وأسفاره والأماكن التي يقصدها ومُدّة وجوده فيها. فلا يتخيّل أحد أنّه مُنقاد بمقاصد بشرية أو خطّة إنسانية، فمادام هو رسول يسوع المسيح، ومنقاد بالروح القدس فحيثما أرسله الروح يذهب وحيثما وجَّهَهُ يتّجه. فمرّات مَنَعَهُ الروح أن يتكلّم، ومرّات أخرى قال له الروح: «لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ، لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ» (أع18: 9، 10). ومرّات قصد أن يذهب إلى مكان، ولكنّه أُعيق عن رغبته، لأنّ الروح كان له تدبير آخر وقصد آخر، من جهة الرسول نفسه، ومن جهة المخدومين أيضًا. لذلك أوضَحَ الرسول هذا الأمر قائلاً: «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ» (رو1: 13)، ولكن كان في تدبير الروح أنّ غياب الرسول عنهم في تلك الفترات، قد يثمر الروح فيهم أكثر إذ يعمل فيهم باجتهاد في حفظ وصايا الرب، وممارسة الأعمال الروحيّة. وكأنّ الروح كان بالنسبة لهم كأمٍ تُعلِّم ابنها المشي وبينما لا يريد الابن أن يترك يد أمه وينتصب واقفًا، ولكنّها لمنفعته تتركه، وأحيانًا يسقط ويبكي، ولكن هذا التخلِّي الوقتي يصير بالنهاية للمنفعة. وهذا الإدراك عند المؤمنين يجعلهم ينمون في النعمة والقامة، وإن كان يفطمهم من حضور القديس بولس إلى حين. والجهل بهذه الحقيقة الإلهيّة يربك المؤمنين ويجعلهم في حيرة، وربما تعلُّقهم يصير كشبه مرض، أو كطفل لا يريد أن ينسلخ من الطفولة إلى طور الرجولة في الروح. في الختام نقول: ما أفدح الخسارة التي تصيب المؤمن والكنيسة من الجهل! وتأتي الكلمات الخمس كأنّها بوق إنذار لجميع الكنائس، وطبعًا تنطبق على كلّ أنواع الجهل.. لأنه قيل: «قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ» (هو4: 6). وليست المعرفة العقلانية التي شاعت في هذه الأيام الأخيرة، بل الجهل الروحي في التوصُّل إلى الحقّ والتمتُّع به.انظر كمّ الجهل بعمل الروح في الأسرار.. تأمّلْ وتعجّبْ! وانظر كمّ الجهل فيما يُمارَس من عبادات، ورغم الحضور الكثير والمتواتر ولكن اسألْ عن الممارسات ومدى الثمر.. سيصيبك الدهش! كنت أزور كثيرًا من البيوت، وأدفع الإنجيل إلى ربّ البيت ليقرأ.. وقد قابلتُ كثيرًا من المفارقات، فالبعض عنده حاسّة تذوُّق الإنجيل والانفعال به والخضوع له.. بينما وجدتُ كثيرين كأنّهم لا يعرفون القراءة رغم عِلمهم، وكأنّ الإنجيل طلاسم لا تُفهم، فيقرأ الإنسان ولا يعي. وقد يبدو هذا جليًّا من الذين يقرأون الفصول الكنسية قبل القداس الإلهي.عمومًا، نرجو أن ينير الروح ذهننا، ويمحو جهلنا وضعف معرفتنا. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
05 نوفمبر 2021

مَثَــل عُـرس ابن الملك ج2

قلتَ يا مخلّصي أنّ الملك لمّا دخل وجد «إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَلت لَهُ: يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟».. فناله ما ناله من خزي، وطرحه الخدام خارجًا أنا أعلم يا مخلّصي أنّ دعوتك إلى العرس هي نعمة مجانية، ولكنّها ليسَت رخيصة، هي تُعطَى مجّانًا لأنّ لا أحد يستطيع أن يشتريها «بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ (سيرة الناس) الْبَاطِلَةِ» (1بط1: 18).دمك الغالي، هو الذي اقتنى لي الملكوت.. وصليبك المحيي، هو الدعوة بعينها.. فمن دُعِيَ إلى عرسك الأبدي واستحق هذا النصيب الصالح لابد أن يسلك بحسب قانون بيتك وعرس مجدك وما يليق.. لأنّه «بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ» (مز93: 5).. كيف «يَرِثُ الْفَسَادُ (الفاسد) عَدَمَ الْفَسَادِ» (1كو15: 50)؟ وكيف يدخل اللباس البالي القديم إلى حفل عرس ابن الله؟ الحُلّة الأولى، حلّة الفرح ألبستها لي يا مخلّصي بيديك يوم معموديتي.. هذا هو الثوب الناصع البياض المغسول في دم الخروف.مسكين هذا الذي أبقى على اللباس البالي والطبيعة الساقطة مع أعمالها، وعاش بحسب شهوات الجسد ونجاسات الطبيعة وظنّ أنّه يبقى في العرس. ومسكين مَن تمسّك بذاته وإرادته الخاصة وعمل مشيئته دون مشيئة الله. وسلك برأيه دون وصايا مخلّصه. وظنّ أنّه وارث الملكوت ومدعو للوجود في العرس الأبدي. يا سيّدي الربّ.. عرِّيني من العتيق وألبسني حلّة الخلاص كلّ يوم.. يارب دعني أَخضَع خضوعًا كليًّا لكلّ وصيّة وكلّ ترتيب توعز به إلى كنيستك وخدام بيتك والداعين إلى عرس مجدك.. فأطيع وأستلهِم كلّ ما هو لائق ونافع لخلاص نفسي. يا سيدي.. اجعلني أعتبر أنّ من لا يوجد في كمال هيئة المستحقّين للعرس يُطرَد خارجًا.. يا إلهي أنا أرى في كنيستك عربون العرس السماوي.. فهي الفرح والمسرة الروحية والشبع من دسم بيتك.. لذلك فالتناول من جسدك ودمك الأقدسين هما الغاية التي ترنو إليها نفسي.. وأن أسلك بحسب ما تعلّمني الكنيسة، ويؤهلني للتناول من ذبيحة العُرس، لا أسلك بحسب هواي أو أصنع ما استحسنه أنا، بل بحسب قانون الكنيسة وترتيب الآباء مُعلِّمي البَيعة أخضع وأسير. علّمني أن أحترم بكلّ قلبي وأُخضِع نفسي للتدبير الإلهي، إن كان في صوم أو صلاة أو طقس أو عيد أو لحن، أو كلّ مايختصّ بنظام بيعتك. لا أنسى يا سيدي ما نال "عُزَّة" أحد أبطال داود حين أقحم نفسه في عمل ما لا يخصّه، إذ حاول أن يلمس تابوت العهد، الأمر الذي كان موكَّلاً لبني لاوي فقط (2صم6: 1-9). وهذا يعلمني إنّه يجب أن أسلك بحسب التدبير، لا بحسب رأيي الشخصي أو ما أراه أو ما يعجبني، مستهينًا بالتدبير بكلّ تأكيد يا مخلّصي، فإنّ هذا الشخص الذي لم يلبس لباس العرس كان يسلك بذاته. ويُخيَّل إليَّ أنّ خُدّامك وحرَّاس أسرارك والداعين كلّ أحد إلى العرس.. يُخيَّل إليَّ أنّهم قالوا له إنّه يجب عليه أن يخلع ثيابه ويلبس ثياب العرس.. ويُخيَّل إليَّ يا مخلّصي إنّهم نبّهوه مرارًا ونصحوه كثيرًا، ولكنّه لم يأبه للنصائح ولا خضع لما قيل له.. بل ألقى الكلام خلفه، ولم يُعطِ أذنًا صاغية ولا أذعن لوصية، بل أصرَّ على أن يسير على هواه ويعمل ما بدا له فاصنع مع عبدك رحمة وجنّبني هذا السلوك المشين.. واجعلني أتمسّك بثياب العُرس وأحفظها، بل إذا حدث بسبب إهمالي وكسلي وعدم حرصي أن اِتّسخَتْ الثياب، أو أصابها تلف بسبب ميلي إلى العالم وما فيه، فأعطِ عبدك توبة صادقة ورجوع من القلب، لكي أغسل ثيابي مُجددًّا مرارًا وتكرارًا، وأبيّضها في ينبوع دم الصليب، فتبدو جديدة لائقة بلا دنس ولا عيب.. وإن أحسستُ أنّني فقدتُ ثيابي وصرتُ في خزي العري فأسمِعني صوتك القائل: «أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ» (رؤ3: 18).. فأسعى أن أقتني لي عمرًا نقيًّا بالتوبة، وأستتِر بسترك، يا من سترتَ عراء أبونا آدم في الفردوس.اِحسبني أهلاً للوقوف أمامك بلا خجل، وإن لم أكن مستحقًا لشيء كعبد كسلان، ولكن اجعلني احتمي فيك، واستتِر بسترك، واجعَل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيتُ إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك، أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك، المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
30 أكتوبر 2021

لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا ج1

1- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ، وَجَمِيعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ» (1كو10: 1). 2- «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا» (1كو12: 1). 3- «لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ» (1تس4: 13). 4- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هذَا السِّرَّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ» (رو11: 25). 5- «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى الآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ» (رو1: 13). أولاً: حذر القديس بولس الأخوة من الجهل بهذه الأمور الخمسة. وحذر أيضًا من نتائج هذا الجهل بهذه الأمور. فالواجب يحتم على كلّ إنسان مسيحي أن يكون على علم واستنارة، ويمحو الجهل بالتعليم والتبصُّر في هذه الأمور، ومن دراسة روحية جادة لكلمة الله وتقليد الآباء الذين علّمونا وسلّمونا. حذر القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، الأصحاح العاشر، من الجهل بالمكتوب في الكتب المقدسة في العهد القديم «لأنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا»، (رو15: 4)، وكذلك بطرس الرسول «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط1: 21). وكلّ الأحداث في كلّ الأزمنة ومعاملات الله، وتدبيره من أجل الخلاص، كلّ هذا متضمَّن في المكتوب. وكلّ مواعيد الله وكلّ رموز الخلاص وكلّ فكر الله تحويه الكتب المقدسة. فماذا إذا جَهَلَ الإنسان كلّ ذلك؟ يكون كأنه يُهمل الخلاص الذي تنبأ عنه الآباء والأنبياء، وكشفوا للمؤمن كنوز العهد القديم، وأسهبوا في التأمُّل في الأحداث والأشخاص مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وداود.. وتركوا تراثهم الذي تعتزّ به الكنيسة، محفوظًا في خزائنها إلى يوم مجيء الربّ. فماذا إذا كان أحد يجهل كلّ هذا؟ ويكفي أن نقرأ مَطلَع الرسالة إلى أهل رومية: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ...» أو ما كتبه الإنجيليّون عن عمل الخلاص الذى صنعه الرب بتجسده وخدمته وصلبه وقيامته، وكيف كرروا القول «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ... لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ فِي الأَنْبِيَاءِ». ليكن هذا الدرس نافعًا لحياتنا وخلاص أنفسنا. لذلك يجب أن ندرِس العهد القديم، ليس مجرد دراسة عقلانيّة، أو تحليل ودراسة شخصيات أو تاريخ أناس وأحداث. بل لاستلهام الروح وإدراك الكُتُب المقدّسة التي تُحَكِّم الإنسان للخلاص كقول الرسول. والعيّنة التى اختارها الرسول بولس في هذه الآيات، هي عمل الله العظيم في خلاص شعبه من العبوديّة القاسية في أرض مصر. فلما سلَّط القديس بولس نور وجه يسوع على القديم، لمع ببريق يخطف الأبصار. فلما أنار على الظلّ انكشف العمل الإلهي من وراء الدهور، فالسحابة التي ظلّلت على الشعب العابر البحر الأحمر، مع سور الماء من اليمين واليسار، كانت بمثابة المعمودية المقدسة التي فصَلت بين العبودية والحرية، وبين أرض الغربة وأرض الميعاد. جميعهم اعتمدوا لموسى. وجميعهم أكلوا طعامًا، هو المَنّ.. ولكن تحت نور وجه يسوع، عرفنا أنّ المَنّ كان طعامًا روحيًّا نازلاً من السماء.. وفي شخص المسيح يسوع تَجَسَّد المعنى الروحي في كماله المُطلَق، عندما قال الرب: «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا... أنا هُوَ الْخُبْزُ (المن) النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48–51).. هو المن الحقيقي وخبز الحياة. «وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا... مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (1كو10: 4). بالطبع لم يدرك أحد هذا المعنى أو الحقّ المُخفَى في الظلّ، كما قيل «شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا» (عب8: 5). ولكن عندما تكلّم القديس بالروح بحسب درايته بسِرّ المسيح، أنار التدبير الإلهي الذي يعجز البشر عن إدراكه. على هذا النحو قرأت الكنيسة العهد القديم، وسار آباء الكنيسة العظام: مثل القديس كيرلس الكبير، والقديس اثناسيوس الرسولى، وآباء البرية العظام: أنطونيوس ومكاريوس، ساروا على نفس الدرب. ثانيًا: أمّا من جهة الراقدين بالرب، فكان الأمر مختلِطًا على المؤمنين في البداية، وكانوا في احتياجٍ إلى المعرفة الحقيقيّة المستمَدَّة من الإيمان بالمسيح، فقد كانوا في لهفة الانتظار لمجيء المسيح الثاني، وظهوره المخوف والمملوء مجدًا، حتّى أنّهم كانوا يتوقّعونه كلّ يوم. وقد كتب لهم الرسول «أَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلاً» (2تس2: 3). وكانوا يتساءلون فيما بينهم: ماذا عن النفوس التي رقدَت في أيامهم قبل مجيء الرب؟ فأراد أن يوضح لهم حقيقة الأمر، لكي لا يحزنوا على الذين رقدوا في الرب، حُزن غير المؤمنين الذين ليس لهم رجاء القيامة. وهكذا شرح لهم أنهم أعضاء جسد المسيح، وهم الآن ينتظرون مجد ظهوره، وفي مجيئه الثاني سيُحضرهم الربّ معه، فهم وإن سبقونا ولكنهم في المسيح يحيون، وعلى رجاء القيامة رقدوا. ومن جهة القيامة، فإنّ قيامة ربنا يسوع من الأموات وكسرِهِ شوكة الموت، هي الركيزة التي نتمسّك بها. فإن كان المسيح قد قام من الأموات بقوّة واقتدار، فإنّ الراقدين في يسوع سيقومون بقيامته. وقد كَتَبَ القديس بولس لأهل رومية عن روح القيامة، الذي نُلناه قائلاً: «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (8: 11). هكذا نبّه القديس بولس المؤمنين أن لا يجهلوا هذا الأمر. لأنّ بدون هذا الرجاء، يصير الإنسان في رعبة الموت وفقدان الأمل، ويَحسِب أنّ الموت هو النهاية الأسيفة، ويحزن ولا عزاء. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
29 أكتوبر 2021

مَثَــل عُـرس ابن الملك ج1

«وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا بِأَمْثَالٍ قَائِلًا: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا صَنَعَ عُرْسًا لِٱبْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا ٱلْمَدْعُوِّينَ إِلَى ٱلْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ قَائِلًا: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى ٱلْعُرْسِ! وَلَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَٱلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا ٱلْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا ٱلْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَٱذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَٱدْعُوهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ إِلَى ٱلطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ. فَٱمْتَلَأَ ٱلْعُرْسُ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ٱلْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ ٱلْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلْأَسْنَانِ. لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (مت22: 1–14). ملكوتك يا إلهي الذي أعدَدْتَهُ لمختاريك ودعوتَ إليه أحباءك، هو عُرسٌ حقيقيٌّ وفرح لا يُنطَق به. هو حفل أبدي، حيث العريس الحقيقي هو ابن الآب، بالحقّ والمحبّة.. حين تزفّ عروسك الحقيقيّة التي اقتنيتها لنفسك وبذلت ذاتك لأجلها.. أورشليم السمائية كما رآها عبدك يوحنا «نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا (للعريس السماوي)» (رؤ21: 2).ما أبهاه من فرح.. ما لا يخطر على بال الناس.. فرح لا يُعبَّر عنه بلُغة بشريّة. أنت قدّستَ كلّ شيء، وهيّأتَ الكلّ قبل كون العالم لنعيم أولادك وشركة الحياة الأبدية.. وأرسلت عبيدك الأنبياء ينادون المدعوّين كي يلبّوا دعوة حبّك يا سيّدي. يا حسرتي، حينما أسمع أنّ البعض توانَى عن الدعوة التي دُعِيَ إليها، يجوز في نفسي شعور بالأسى كلما أتذكّر التواني والكسل والاهمال وعدم المبالاة بدعوة حبّك وشركة أسرار فرحك.ماذا كان يدور في خَلَدي في تلك الأوقات؟.. أهو عدم إدراك حقيقي للدعوة؟..أم هو انشغال بالباطل؟.. أم هي أعذار واهية بلا مبرّر؟.. أم هي طبيعتي الترابية متمسّكة بالأرضيات غير ناظرة إلى فوق؟!! حين أفكّر فيمن اعتَذَرَ بأنّه اشترى بَقَرًا، وهو ماض ليمتحنها بعد أن اشتراها، أو من ارتبط بزواج جسداني فكبَّله برباط الجسد، لا يقدر أن يتحلّل منه أو يتحرّك إلى السماويّات، إلى فوق.كلما جال بخاطري هؤلاء وأولئك أرجع إلى نفسي الشقيّة التي كثيرًا ما كان هذا هو حالها.. الآن يا سيدي كلمات هذا المثل توقِظ ضميري وتعيد إلى سمعي نداء قديسيك "هلمّوا إلى العرس".نعم يا سيدي.. «الرُّوحُ وَالْعَرُوسُ (الكنيسة) يَقُولاَنِ: تَعَالَ» (رؤ22: 17).. أحضانك فتحتها على الصليب للقبول بالمحبّة الأبديّة.. من يدخُل إليك يدخل إلى الفرح الأبدي.. صليبك هو ذبيحة الحبّ، والعشاء في السماء هو «عَشَاءِ الْخَرُوفِ القَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ... لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ» أبيك وأقمتنا فيك (رؤ5: 6، 9 و19: 9).أتوسّل إليك يا سيدي.. ألاّ تحرم نفسي من دسم مائدة فرحك التي أخذتُ عربونها هنا على الأرض باشتراكي في ذبيحة القداس، إلى أن يكمُل الفرح بالدخول الحقيقي إلى السماويّات عينها. لا يعرِف هذا الفرح إلاّ الذي يدخُل إليه يا سيّدي، حين يَسمَع صوتك الإلهي يقول له شخصيًّا: «اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت25: 23). أدخِلني إلى الفرح، وعَزِّ نفسي في غُربة هذا العالم التي يشوبها الكَدَر دائمًا.. أدخِلني إلى داخل ولا تطرحني خارجًا.. أدخلني كدخول العذارى إلى الخدر السمائي حيث عريس نفسي.خارجًا ظلمة ومرارة نفس.. بكاء وصرير أسنان.. دعني أحتمي فيك يا سيّدي.. وحين تضمّني ذراعاك أكون داخل الفرح الحقيقي، وأمان وسلام النفس. الذين حَرموا أنفسهم من حبّك، وفرح بيتك، بانحراف إرادتهم، كمَن رفضوك مَلِكًا عليهم. وأهانوا رسلك واحتقروا كلمات دعوة حبّك.. هؤلاء قال الملك إنّهم غير مستحقين ولا مستأهلين للكرامة.. فأحرق مدينتهم وحكم عليهم بحسب عدله، أنّهم لا يذوقون عشاءه، ولا يرون مجد الفرح، بل صار نصيبهم في الخزي، إذ جلبوه على أنفسهم جزاء انحراف إرادتهم.أمّا العُرس فمُعَدّ وأما المدعوّون فلم يكونوا مستحقين.. والآن ماذا يا سيّدي.. إنّ قلبي وعقلي يتوه حين أسمع أمرك لعبيدك أن ينادوا مناداة الكرم الإلهي للذين في الطرقات عابري السبيل، بل وللذين قضوا العمر عند الأسوار (السياجات)، كمَن ليس لهم أحد يذكُرهم أو يعتبرهم.. هؤلاء وأولئك لم يكن لهم اعتبار، ولا اسم، ولا مركز، ولا شكل ولا قيمة.. وأين هم من دعوة ملك الملوك وحفل عرس ابنه الحبيب؟ هؤلاء المساكين انفتحت أمامهم أبواب السماء فجأة وبلا مقدمات، وبلغتهم البشارة المفرحة الفائقة للعقل.. هلّموا إلى العرس إنّ عبدك المسكين يا سيّدي، هو أحد هؤلاء.. الدعوة لا يصدّقها العقل.. أنا! أنا مدعوٌّ إلى العرس السمائي؟ هل هذا يُصدَّق؟! نعم يا سيّدي الربّ، أنا أعرف أنّ وعودك هي بلا ندامة.. اِجعل في قلبي وعقلي ثِقة في كلمتك، وصدق لمواعيدك ودعوتك.. أنا فعلاً بنعمتك مدعوٌّ إلى العرس الأبدي.. أنا غير مستحقّ ولا مُستأهل.. مَن أنا حتّى أجلس إلى مائدة الملك؟!.. عندما تغمرني بلطفك ولُجج حبّك تتدفّق بسخاء النعم العجيبة، أشعر بحقارة نفسي بالأكثر. يا سيّدي الرب.. إذا دُعِيَ إنسانٌ من عامّة الشعب إلى مجالسة ملك أرضي أو رئيس من رؤساء العالم، فإنّ الدنيا كلّها تتحدّث عن هذا الأمر الفائق.. فكم إذا دُعِيَ «الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ» (لو14: 13) بحسب مقياس الروح. والمعتبَرين أنّهم عادمي كلّ خير وكلّ صلاح.. أخطى الخطاة.. يُدعَوْن إلى ميراثك الأبدي وفرح عُرس السماء؟ ثبِّتْ دعوتك وسمِّرها في أعماقي لكي أسلُك بحسب دعوتك إليّ أن أبلغ أعتاب السماء يا سيّدي الرب. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
22 أكتوبر 2021

مهمّة رئيس الملائكة ميخائيل

قيل في سِفر التثنية إنّ الربّ دَفَنَ موسى في الجواء (الوادي)، بعد أن أراه أرض الموعد من بعيد، ولم يَعرِف أحدٌ قبر موسى إلى هذا اليوم (تث34: 6).. فقد أخفى الله جسد موسى بحسب تدبيره الخاص. ولكن ذَكَرَ القديس يهوذا الرسول في رسالته، أنّ رئيس جند الربّ ميخائيل «خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى، لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ افْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ». وواضح من ذلك أنّ الشيطان أراد أن يعمل ضلالة عظيمة ضدّ تدبير الله لأنّه هو مقاوم وعدو كلّ خير. أراد أن يُظهِر جسد موسى ويحوِّل قلب شعب إسرائيل عن عبادة الله وطاعته، ليتعلّقوا بجسد موسى كنوع من عبادة البشر، إذ كان موسى عندهم هو كلّ رجائهم. فلمّا ظهرت نيّة إبليس محاولاً أن يُخرِج جسد موسى من مكان دفنه المُخفَى عن عيون البشر، أوعز الله إلى ميخائيل رئيس جند الرب أن يوقِف الشيطان ويتصدّى له. ولما كان إبليس رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل في أبناء المعصية - هو قوّة هائلة وروح ظلمة مُريع – وله قدرات فائقة، إذ كان رئيسًا للملائكة، وأوصافه التى وصفها به الأنبياء تُنبئ عن ذلك، إذ يقول عنه إشعياء: «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟» (14: 12). وقال عنه حزقيال: «أَنْتَ خَاتِمُ الْكَمَالِ، مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ الْجَمَالِ... أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ، وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ اللهِ الْمُقَدَّسِ كُنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ» (28: 12، 14، 15). على هذا كانت مهمة رئيس الملائكة ميخائيل في التصدّي لإبليس مهمّة غاية في الصعوبة، توصَف بأنّها حرب في السماء. ميخائيل كاسمِه "مَن مِثل الله" يستمدّ قوّته من خضوعه لله. بينما إبليس أو الشيطان هو كروح ظلمة مضاد لطبيعة الله الذي هو النور، والساكن في النور الذي لا يُدنَى منه. + «بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ ، الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ» (مز103: 20، 21). + «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ» (عب1: 7). لذلك فإنّنا ندرك أنّ ميخائيل تصدّى لقوّة الظلمة الهائلة، أي لإبليس وجنوده، ليوقِف عمله ويبطل مشورته. وهذا ما عبَّر عنه سِفر الرؤيا بقوله: «حَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ» (رؤ12: 7). وقد كانت مهمّة رئيس الملائكة ميخائيل هكذا مهمّة خطيرة وصعبة جدًّا. ولم يستطِع إبليس أن ينفّذ إرادته الشريرة، بل توقّف عن تقدّمه، بسبب قوّة ميخائيل وتصدّيه الحاسم. ويمكننا أن نتخيّل هذه المواجهة الصعبة، عندما نتذكّر أنّ ملاكًا واحدًا قتل «مِئَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا مِنْ جَيْشِ سَنْحَارِيبُ» (2مل19: 35) المحاصِر لأورشليم في أيام حَزَقِيَّا الملِك. فما بالك برئيس الملائكة!!؟ وقول رئيس الملائكة ميخائيل وصرخَتُهُ في الشيطان «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ» فيه لنا قدوة وسِرّ، به كيف نواجه هذا العدوّ، إذ نلتجئ إلى اسم الرب.. ولاسيّما بعد أن نلنا نعمة البنوّة، وأخذنا من المسيح الإله قوّة وسلطانًا على الأرواح النجسة، حتى طَرْدها وإخراجها وغلبتها بقوّة الروح القدس المُعطَى لنا، لأنّ الرب قال: «أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ» (مت12: 28) وقال الرسول يعقوب: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يع4: 7) وقال الرسول بطرس أيضًا: «قَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ» (1بط5: 9). وقال الرب أيضًا: «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوّ» (لو10: 19). فليكن في فمنا قول رئيس الملائكة «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ». نقوله الليل والنهار في كلّ ما يقابلنا من حروب أو معاكسات أو فخاخ أو مضايقات أو هجمات العدو. وكان عوام (عامّة) المؤمنين يقولون: "ربنا يخزيك يا شيطان". وكانوا يؤمنون إنّه بمجرّد رشم علامة الصليب يهرب الشيطان، ويصيبه الخزي، لأنّ الرب يسوع سحق الشيطان بالصليب. ثم بعد ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، لمّا تجسّد ابن الله وظهر في الهيئة كإنسان من أجل خلاص العالم. وصُلِبَ على الصليب حاملاً خطيّة العالم كلّه. وأسلم الروح في يديّ الآب. طار صواب عدو الخير لما اكتشف أنّ الذي وُلد في مذود، وصار في الهيئة كإنسان، وصار مُجرَّبًا في كلّ شيء وتعب وبكى ونام.. إلى آخر هذه الأمور، واحتمل الآلام ومات.. لم يكن سوى أقنوم الكلمة، الذي في ذات الله، والواحد مع أبيه في الربوبيّة. وعندما نزل بلاهوته المتّحد بالنفس البشرية إلى الجحيم وسبى سبيًا، وخلّص آدم وبنيه من سجن الأرواح أي قبضة إبليس، أسرع إبليس في جنونه الشيطاني ليعمل ضلالته العظمى، إذ أدرك أنّ المسيح لا يمكن أن يُمسكه الموت، بل هو سيقوم حتمًا كما قال، لأنّه هو هو القيامة والحياة. فراح يعمل في فِكر رؤساء كهنة اليهود، لكي بكلّ وسيلة يخفي القيامة، فأسرعوا إلى بيلاطس لكي يضبطوا قبر المخلّص بأختام وعساكر. وقالوا عن الرب: «أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ... لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى» (مت27: 63، 64). فتصوّر أنّ الشيطان المُضِلّ والكذّاب وأبو الكذّاب يقول عن الرب إنّه مُضِلّ وأنّ قيامته ضلالة.. وإنّي أـتعجّب لشرّ الشرير وظُلمة الظالم. فذاك الذي أسقطه كبرياؤه ليصير مثل العليّ.. أحدَرَتْهُ أفكاره إلى أسفل السافلين. فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة الذين انقادوا لمشورة الشيطان "عندكم جنود فاضبطوا القبر كما تشاءون". كانت هذه المحاولة اليائسة والمشورة الغبيّة هي آخر حصون العدو التي هدمها المسيح بقيامته. لأنّه عندما أشرق نور قيامة المسيح هربَتْ قوات الظلمة وتبدّدت في الحال. لأنّه هل ممكن أن يحجِز الظلام نور شمس البرّ؟ وهل ممكن للذي وُلد من العذراء بدون زرع بشر الذي لم يفعل خطيّة، القدوس الذي بلا شرّ أن تسود عليه شوكة الموت؟ وهل يُعقل أنّ الأزلي الأبدي تكون له نهاية أيام؟ لذلك قام المسيح من الأموات، ونقض أوجاع الموت وكسر شوكته، وأنار الحياة والخلود. في هذه المرّة أيضًا، أوعز الربّ لرئيس جنده الملاك ميخائيل أن ينزل، ولكن لم تكن هذه المرّة كسابقتها.. فإبليس انسحق سحقًا بقيامة المسيح الإله، وشوكة الموت والظلام انكسرت إلى الأبد. وقوّة المعاند تحطّمت، والقيود التي كان يقيِّد بها النفوس ويستعبدها رجعت عليه فصار هو مقيدًا ومذلولاً. بل إله السلام وملك السلام أعطى عبيده سلطانًا على إبليس، وأن يدوسوا الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو. فنزل ميخائيل بقوّة لا ليواجه شيطانًا مقهورًا، وقوّات ظلمة فَزِعة فارّة (هاربة) بل ليُعلِن قيامة المسيح، فلما رآه الجنود وهزّتهم الزلزلة صاروا كأموات وهربوا من الخوف، لذلك دَحرَج الحجر عن باب القبر الفارغ وجلس عليه. وهنا العجب العجاب أنّ الملائكة وهم أرواح فائقة غير متجسّدة.. لا يتعبون ولا يجلسون. ولكن من فرط فرح القيامة جلس ميخائيل على الحجر وبشّر النسوة حاملات الطيب قائلاً: المسيح قام. معونة الملائكة وشفاعتهم: بسبب طبيعتهم الخيِّرة - المخلوقين عليها - فإنّهم يحبّون الخير ويخدمونه ويتمنّونه. وعلى العكس فهم ضدّ الظلام والشرّ والخراب الذي تصنعه أرواح الظلمة في العالم. انظر إلى الملاك الذي شفع في أورشليم في أيّام زكريا النبي كيف قال للرب: «إلىَ مَتَى أَنْتَ لاَ تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا الَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً؟". فأجابه الرب بكلام طيب وكلام تعزية.والأمر المؤكَّد أنّه لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي وقف فيها الملاك يطلب ويستعطف الله ويطلب الخير لأورشليم. إذ أنّ الملائكة موجودون في حضرة الله كلّ حين، يباركونه ويسبّحونه من أجل خيراته، ومن أجل أعماله المملوءة صلاحًا. فهُم بالحقيقة شُفَعَاء طالبون الخير وكلّ ما هو مرضِيّ أمام الله.«إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ» (عاموس3: 7). أيّ أنّ أسرار الله وتدابير نعمته يُعلنها لقديسيه. ألم يقُل في سِفر التكوين: هل أُخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا صانع؟ لذلك ليس كثيرًا أن يصير القديسون شُفعَاء أمامه. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
15 أكتوبر 2021

مثَل حبة الخردل ج2

-2- لقد قلتَ لرسلك الأطهار، مشجعًا حياتهم في الإيمان: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ». إنّ حبّة الخردل صلبة جدًّا، في صغرها المتناهي. تحمِل أيضًا صفات الإيمان الصلب الذي لا يلين، إيمان الأقباط نَقَلَ الجبل فعلاً، وهي معجزة لا ينساها الأقباط مهما مضى عليها من زمن، فهي حدثت في أيام البابا أبرام بن زرعة، وحُكم المُعِزّ لدين الله الفاطمي، حدَثَت في وضح النهار وقدّام جماهير المصريين، انتقلَ الجبل وسار بقوة الإيمان، المشبَّه بحبّة الخردل.. إيمان لم تَنَلْ منه التجارب ولا الاضطهادات، ولا شكوى عدو الخير.. بل زادته التجارب صلابة وقوّة، وصقَلته المحن والضيقات.. فهل تسند إيماني بك وتوطِّد رجائي فيك. ولكن هذه البذرة يا مخلصي، لابد أن تَسقط في الأرض وتموت، كقولك عن ذاتك وصليبك «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو12: 24).. هذا قلتَه يا مخلصي الصالح عن موتِك المُحيي. لابد أن تعاني بذرة الملكوت في القلب، ما تعانيه البذرة، حبّة الخردل في تراب الأرض، لابد أن تصارِع حتى الموت في مواجهة عوامل الفناء والموت والتحلُّل.. تموت لتنمو، تُدفَن لتقوم، تتحلّل لتصير أعظم.. تفنى في باطن الأرض لترتفع إلى السماء.. سرّ عجيب!! والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني، من أين هذه الفروع العظيمة، الكبيرة؟ مِن تلك البذرة المتناهية في الصغر. من أين أتت الحياة المُزهِرة التي للقدّيسين حتى صاروا عظماء ممجَّدين في كلّ العالم؟ مِن حبّة الخردل الصغيرة في القلب، من بذل الحياة والفناء من أجل ملكوت الله. فلما كمُل البذل وإنكار الذات وحمل الصليب، أخرجَتْ شجرة الملكوت، وأغصانها صارت تملأ الدنيا كلّها. وصارت حبّة الخردل سبب راحة وخلاص لطيور السماء، صارت مسكنًا لألوف، وعشًّا تضع فيها أفراخها للإكثار، وملجأ من السيل والحر، ووطن للغريب. متى يُستعلَن ملكوت الله، ينمو ممتدًّا حتّى يظلّل على الكثيرين؟ إنّ حبة الخردل تبدو بلا فائدة وبلا قيمة حتى تتحوّل إلى شجرة عظيمة. أي لا تصير لذاتها أو قائمة بذاتها بل تُصبِح وتعيش للآخرين. علِّمني الخروج من ذاتي وإنكار ذاتي، بل وبذل ذاتي. هكذا سيظل ملكوتك يا إلهي محصورًا فيَّ إلى أن يُستعلن خادمًا للآخرين، يأوي إليه طيور السماء.. - أغصان حُبّ ورحمة تظلّل الضعفاء.. أغصان اتضاع ومسكنة تحمل الأثمار. ومِن ثقل الأثمار تراها متّجهة إلى أسفل.. - أغصان قداسة تفيح رائحتها، تملأ المسكونة من رائحة المسيح الزكية..أغصان زيتون الروح الجُدُد المتجدّدين، محيطين بمائدة المذبح. - أغصان خشبة الصليب، وحمل الصليب، وحبّ الصليب.. أتوسل إليك أن تصير حبّة الخردل التي ألقيتَها في أرضي.. في قلبي، واستودعتها سرّ حياتك الخاصّة، فصارت كائنة من أقاصي المسكونة إلى أقصاها. وها أنا أطلب في الصلاة أن تحفظها بسلام. + قلتَ يا سيدي عن حبّة الحنطة «إِنْ لَمْ تَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا».. إنّ قِشْرتها الصغيرة تجدها في حجمها الصغير، فلابد أن تنحل هذه القشرة، وتتكسّر وتفنى في تراب الأرض، لتعطي فرصة للجنين الحي ليشقّ طريقه، مثل قشرة البيضة محيطة بالفرخ الحي، لابد أن تتهشم ليخرج هو إلى الحياة. القشرة الخارجية هي الذّات التي أحرص عليها، والمظهر الخارجي، وحياة إنساني الخارجي، إنسان الجسد والتراب. إنكار الذات والتفريط فيها، وجحد مشيئتها وصلب الجسد مع الأعضاء.. و«مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ» (رو8: 36).. كلّ هذا تعبير عن خلع العتيق ليفسح مكانًا للجديد. + إنّ النمو والزيادة، هما قانون حياة الروح وملكوتك يا إلهي. فحبّة الخردل، لا تبقى دومًا محجوزة داخل قشرتها الصغيرة، هذا مستحيل.. فما أن تبدأ رحلة نموها حتى تحطِّم كلّ مقاييس الصغر. ملكوتك زيادة، لا تعرف النقصان، يُفاجَأ العالم بها وإذ هي شجرة كبيرة.. نمّيني في النعمة، وفي معرفة ربِّي يسوع المسيح.. اجعلني أنمو كلّ يوم، دَعْ بذرة الملكوت تنمو داخل قلبي كلّ يوم. + الكنيسة هي ملكوتك يا إلهي على الأرض، وهي الملجأ والظلّ، ومكان الاحتماء «العُصْفورُ وجَدَ لهُ بَيْتاً واليَمامَةُ عُشّاً لِتضَعَ فيهِ أفْراخَها، مَذابِحُكَ يا رَبُّ إلَه القُوّاتِ مَلِكي وإلَهي. طوبَى لِكلِّ السُّكانِ فى بَيْتِكَ» (مز83 أجبية). الصليب صار كحبّة الخردل، عندما زُرع في الأرض، وارتوى بدم المسيح، صار شجرة أبدية، تحت ظلّه تشتهي النفوس أن تبيت وتستريح. وطيور السماء المُحلِّقة في الروحيّات لا تجد راحتها سوى في الصليب يا إلهي.. كلّ من أوى إلى أغصان الصليب يكون قد دخل لكي يحتمي تحت جناحيّ المسيح. والآن.. هل وصلتْ إليَّ كلمة الملكوت؟ هل وجدَتْ في قلبي مكانًا تختبئ فيه؟ هل وجدَتْ فيه رطوبة وليونة وسقي ماء الروح؟ هل وجدَتْ أيضًا عمقَ أرضٍ حتى تفسح لها مكانًا تعمل فيه جذورها لتتأصّل؟ إن وجد كلّ هذا، فكلمة الملكوت سوف يُستعلَن وجودها لا محالة. سوف تظهر أغصانها ويمتدّ الملكوت فيَّ وبيَّ. ولكن أنا أعلم أنّ ساق النبات وأوراقه يظهر في مرحلة أولى، بينما الأثمار هي آخر مراحله. فأطلب إليك وأتوسل أن تتأصّل فيَّ كلمة الملكوت، لكي أُثمر لك يا إلهي ومخلّصي. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
08 أكتوبر 2021

مثَل حبة الخردل

-1- «وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا» (مر4: 30-33). ~~~~~~~~~ هكذا يا مخلّصي أعلنتَ سرّ ملكوتك في كلمات بسيطة ليدركها أولادك البسطاء، فالأمر يا سيدي ليس فلسفة كلام، فملكوتك ليس كلامًا ولا خيالاً، بل هو حقّ كلّ الحقّ. وحبّة الخردل الصغيرة تُلقيها أنت بذاتك في القلب. ولكن فيها سرّ الحياة، سرّ الخلود. وأنا أؤمن يا سيدي أنّ زرعك الإلهي كائن في داخلي. وقد نبّهت رسلك الأطهار قائلاً: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ» (مت17: 20). ليس الأمر يخصّ نقل الجبال، وإن كان هذا قد حصل فعلاً بقوّتك في ساعة ضيقة أولادك الذين وقع عليهم الاضطهاد.. ليس عسيرًا عليك يا إلهي أن تنقل الجبال، فأنت خالق الجبال. لكن على ما يبدو لعبدك أنّك توجِّه ذهني إلى أنّ الإيمان يقدر على المستحيل، لاسيّما فيما يواجه عبدك من تجارب وحروب، أو ما يبدو عائقًا أمام نمو عبدك. فالإيمان بك يجعل الجبل سهلاً ويُزيل العوائق.. أتوسّل إليك بحقّ حبّك الحاني أن تجعل هذه البذرة تنمو في قلبي.. في أعماقي. + يا سيدي الرب.. ما أكثر ما شبَّهت ملكوتك ببذور النبات، تسقط على الأرض وتُدفَن وتموت فيها، ثم تحيا، وتنبت، وتعطي أثمارها.. وفي الواقع فإنّ تعليمك يا مخلّصي مُنصبٌّ دائمًا على كون البذرة هذه تحوي سرّ الحياة الأرضية، فهي والحال كذلك تصير أصدق تعبير عن سرّ الحياة الدائمة الذي هو ملكوتك الأبدي. إنّ سرّ الحياة الأرضية، لم يصل إليه عِلم العلماء، ولا فهم الفهماء بعد. إنّ كلّ ما يعرفه العلماء هو مظاهر الحياة. أمّا ماهيّة الحياة، فهذا أمر يفوق مستوى الإدراك البشري، إذ أنّ الحياة مستمَدّة مِنك يا إلهي الحيّ الأبدي الأزلي الذي يُدرَك ولا يُدرَك كماله، كما يقول أحد أولادك. فمظاهر الحياة في الكائن الحيّ مُدرَكَة بالحواس: كالتنفّس، والحركة، والنمو والتكاثر والتغذية، إلى آخر هذه الظواهر التي لا تخطئها حواس الإنسان مهما كان بسيطًا في إدراكه. وهذا ما يميّز الكائن الحي من الميت. أما إدراك الحياة ذاتها، فكيف يُدرَك غير المحسوس بالحواس؟ + إنّ اختيارك يا سيدي في هذا المثل، لِحبّة الخردل، ووصفها بأنّها أصغر جميع البذور، ولكن فيها يكمن سرّ الحياة، فقط هيِّئ لها تربة صالحة، وتعهّدها بسقي الماء، وأعطها وقتًا للنمو، ثم تأمّلها.. إنّها أعجوبة وآية باهرة، حيث تصير أكبر من جميع البقول وتصنع أغصاناً كبيرة. وهذا هو صميم عملك في امتداد ملكوتك. والاعتبار الأول الذي تَنَبَّه ذهني إليه في هذا المثل، أنّ الحبّة صغيرة متناهية في الصغر، فهل من هذا الصِغَر يمكن أن تخرج شجرة كبيرة؟! إنّ ملكوتك يبدأ داخل القلب كبذرة صغيرة، كحبّة خردل. وأنّ ملكوتك داخل العالم يبدأ كبذرة صغيرة كحبّة خَردل. ماذا كان الرسل بالنسبة لحقل العالم المتّسع، المترامي الأطراف يا سيدي؟ لقد كانوا قِلّة صغيرة جدًّا، اثني عشر تلميذًا، وسبعين رسولاً. ما هؤلاء بالنسبة لملايين البشر، هل تستطيع حبّة الخردل هذه أن تنمو، أن تُخرِج أغصانًا، أن تصير شجرة كبيرة تأوي إليها طيور السماء؟ لقد حَوَتْ سِرّ الحياة الأبدية، الحياة هي المسيح، لقد حمل التلاميذ سرّ حياة المسيح فيهم، وسرّ الحياة يتحدّى كلّ معوّقات الطبيعة وكلّ ظلمة الأرض وبرودتها المائتة.. أتوسّل إليك أن تستودع قلبي سرّ الحياة هذه! إمكانيّات الرسل كانت ضئيلة، لا عِلم ولا معرفة علميّة، ولا صيت ولا اسم، ولا مركز ولا سُمعة، ولا أموال، ولا مقتنيات، ولا كيس ولا مزود، ولا حتى عصا للطريق، ولا ثوبين.. حقًّا كانوا كحبّة خردل، صغيرة، صغيرة في كل شيء. ولكن هذه الحَبّة، إذ روتها دماء الشهداء، وعَرَق النسَّاك، ودموع التائبين، نَمَت بسرعة أذهلت العالم، وصارت فروع أغصانها تظلّل المسكونة، إذ تعهّدتها يا واهب الحياة، إذ وضعت حياتك فيها واستودعتها روح الحياة، نبتت ونمت وأخرجت أغصانها. ملكوتك يا إلهي، ليس بالقوة ولا بالقدرة، هو كخميرة صغيرة ولكن حيّة. هو قطيع صغير ولكن راعيه الحنون قائم يرعاه، والآب سُرَّ أن يعطيه الملكوت. لا أخاف إذا وجدتُ نفسي كحبّة الخردل، صغير في وسط العالم، أو في وسط المجتمع، أو حتى في وسط أهل بيتي. إنّ الإنسان الأمين لإلهه يبدو كحبّة خردل في وسط بذور الشرّ المنتفخة والمتضخّمة بالكذب. الشاب الطاهر يبدو كحبّة خردل صغيرة في وسط بذور النجاسة المنتشرة في كلّ مكان. الشابّة العفيفة تبدو كحبّة الخردل الصغيرة في مواجهة تيارات التسيُّب والانحلال. اجعل روحك في داخلى يُطَمْئن قلبي.. إنّ سرّ الحياة فيك، فلا يستهين أحدٌ بك، أنا قوي بحياة إلهي فيَّ، سرّ الدم الإلهي يسري في أعماقي، إنّه سرّ الحياة التي لا تموت، ولا يقوى عليها الموت. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل