المقالات

05 مايو 2021

القيامة تعزية ورمز

أهنئكم بعيد القيامة المجيد ، راجياً فيه لكم جميعاً مباركة سعيدة وراجياً لبلادنا كل خير وسلام 0 تكلمنا فى كل عام من الأعوام السابقة عن جانب معين من جوانب القيامة وفاعليتها فى حياتنا 0 ونتابع اليوم تأملاتنا فنقول : 1-إن كلمة القيامة كلمة جميلة ، فيها تعزية للقلوب 0 ولا شك أن قيامة المسيح كانت معزية لتلاميذه ، وكانت لازمة لهم ، لتثبيت إيمانهم 0ولبناء الكنيسة 0 0 وأتذكر إننى فى هذا المعنى ، كنت منذ أكثر من أربعين سنة ، قد كتبت قصيدة قلت فى مطلعها : قد حطـم الشيطان لا تبق لدولته بقيـــة قد نفذ الأرواح مــن قبر الضلالة والخطـية قـــم روع الحــــراس وابهـــرهم بطــلعتك البــهــــية قم قو إيمان الرعــاة ولم اشتات الرعـية واكشف جراحك مقنعاً توما فريبته قويـــة واغفر لبطرس ضعفه وامسح دموع المجدلية وقد كان هذا ، وفى قيامة السيد المسيح ، عزى تلاميذه ، وفرحوا بقيامته ، وآمنوا بالقيامة ، وبأنها ممكنة ، وآمنوا أنهم أيضاً سيقومون بعد الموت ، فمنحهم كل هذا عزاء فى حياتهم وعدم خوف من الموت على أنى أريد اليوم أن أطرق موضوع القيامة من ناحية أخرى ، وهى : القيامة كرمز 2- القيامة هى رمز للتوبة : أو أن التوبة تشبه بالقيامة : فنحن نعتبر أن الخطية هى حالة من الموت ، وأقصد الموت الروحي 0 وقال القديس أو غسطينوس " إن موت الجسد ، هو انفصال الجسد عن الروح ، أما موت الروح ، فهو انفصال الروح عن الله " فالله هو ينبوع الحياة ، أو هو الحياة الكلية 0 كما قال فى الإنجيل " أنا هو الطريق والحق والحياة " ( يو 14 : 6 ) 0 " أنا هو القيامة والحياة " ( يو 11 : 25 ) من يثبت فى الله ، يكون بالحقيقة حياً 0 ومن ينفصل عن الله يعتبر ميتاً والخطيئة هى انفصال عن الله ، لأنه لا شركة بين النور والظلمة " ( 2 كو 6 : 14 ) فالخاطئ إذن هو ميت روحياً ، مهما كانت له أنفاس تتحرك وقلب ينبض 00 قد يكون جسده حياً 0 ولكن روحه ميته ميته 00 وهكذا فى مثل الأبن الضال ، الذى شرد بعيداً عن أبيه ثم عاد إليه ، وقال عنه أبوه فى هذه التوبة ابنى هذا كان ميتاً فعاش 0 وكان ضالاً فوجد ( لو 15 : 24 ) وقيل فى الكتاب عن الأرملة المتنعمة إنها ماتت وهى حية " ( 1 تى 5 : 6 ) 0 وقال القديس بولس الرسول لأهل أفسس " إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا التى سلكتم فيها قبلاً 00 ( اف 2 : 1 ) وقال أيضاً " ونحن أموات بالخطايا ، أحيانا مع المسيح 00 وأقامنا معه ، وأجلسنا معه فى السماويات " ( أف 2 : 5 ) 0 وقال السيد المسيح موبخاً راعى كنيسة ساردس " إن لك إسماً إنك حى ، وأنت ميت " ( رؤ 3 : 1 ) 0فحياته الظاهرية حياة حقيقية ، لأن الحياة الحقيقية هى الحياة مع الله ، أو الحياة فى الله ، هى الحياة فى الحق ، وفى النور والبر 0 أما ذلك الخاطئ ، فإن له اسماً أنه حى ، وهو ميت لذلك كنت أقول فى معنى الحياة الحقيقية " أحقاً نحن أحياء 00 ؟ " إن الحياة لا تقاس بالسنين والأيام ، وإنما بالفترات الروحية الحلوة التى نقضيها مع الله 00 هى وحدها التى تحسب لنا ، والتى يقاس بها عمرنا الروحى ، وبها يكون تقرير مصيرنا فى القيامة 0 لذلك أيها الأخ بماذا تجيب حينما يسألك الملائكة كم هى أيام عمرك على الأرض ؟ هل ستحسبها بالجسد أم بالروح ؟ ومع ذلك ، فإن الخاطئ المعتبر ميتاً : إذا تاب تعتبر قيامة وعن هذا المعنى يقول القديس بولس الرسول للخاطئ الغافل عن نفس " استيقظ أيها النائم ، وقم من الأموات ، فيضئ لك المسيح " ( أف 5 : 14 ) 0 مشبهاً التوبة هنا ، بأنها يقظة روحية ، وأنها قيامة من الأموات وقد ذكر الإنجيل للسيد المسيح ثلاث معجزات أقام فيها أمواتاً 0 ويمكن اعتبار كل منها رمزاً لحالة من التوبة أقام ابنه يايرس وهى ميتة فى بيت أبيها ( مر 5 ) 0 وأقام ابن أرملة ناين من نعشه فى الطريق ( لو 7 ) وأقام لعازر وهو مدفون فى القبر من أربعة أيام 00 وكانت كل إقامة هذه الأداث الثلاثة تحمل رمزاً خاصاً فى حالات التوبة 0 أ‌- ابنه يايرس وهى فى البيت ، ترمز إلأى الذى يخطئ وهو لا يزال فى بيت الله ، فى الكنيسة ، لم يخرج منها ولم يخرج عنها 0 ولذلك قال السيدعن ابنة يايرس " إنها لم تمت ، ولكنها نائمة ( مر 5 : 39 ) 0 ولما أقامها أوصاهم أن يعطوها لتأكل ( مر 5 : 43 ) 0 لأن هذه النفس تحتاج إلى غذاء روح يقويها ، حتى لا تعود فتنام مرة أخرى 0 ب – أما ابن أرملة نايين وهو ميت محمول فى نعش 00 فهذا ميت خرج من البيت ترك بيت الله ، وأمه تبكى عليه ، أى تبكى عليه الكنيسة أو جماعة المؤمنين 0 هذا أقامه المسيح ، ثم " دفعه إلى أمه " ( لو 7 : 15 ) 0 أرجعه إلى جماعة المؤمنين مرة أخرى 000 ج – لعازر المدفون فى القبر ، يرمز إلى الحالات الميئوس منها : حتى أن أخته مرثا لم تكن تتخيل مطلقاً أنه سيقوم 0 وقالت للسيد أنتن ، لأنه له أربعة أيام " ( يو 11 : 39 ) 0 إنه يرمز للذين ماتوا بالخطية وتركوا بيت الله ، بل تركوا الطريق كله ، ومرت عليهم مدة طويلة فى الضياع ، ويئس من رجوعهم حتى أقرب الناس إليهم 0 ومع ذلك أقامه المسيح ، وأمر أن يحلوه من الرباطات التى حوله ( يو 11 : 44 ) فمثل هذا الإنسان يحتاج أن يتخلص من رباطاته التى كانت له فى القبر كل هذه أمثلة تدعونا إلى عدم اليأس من عودة الخاطئ ، فلابد أن له قيامة إننى فى مناسبة قيامة السيد المسيح ، أقول لكل خاطئ يسعى إلى التوبة : قام المسيح الحى هل مثل المسيح تراك قمت أم لا تزال موسداً فى القبر ترقد حيث أنت والحديث عن القيامة من الخطية ، هو نفس الحديث عن القيامة من أية سقطة وقد يحتاج الأمر إلى دعوة للقيامة ، أى إلى حافز خارجىمثال ذلك كرة تدحرجت من على جبل 0 تظل هذه الكرة تهوى من أسفل إلى أسفل ، دون أن تملك ذاتها ، أو تفكر فى مصيرها 0 وتظل تهوى وتهوى تباعاً ، إلى ان يعترض طريقها حجر كبير ،فيوقفها ، وكأنه يقول لها " إلى أين أنت تتدحرجين ؟! وماذا بعد ؟! " فتقف 0 إنها يقظة أو صحوة ، بعد موت وضياع 00 تشبه بالقيامة أو مثال ذلك أيضاً فكر يسرح فيما لا يليق كإنسان يسرح فى فكر غضب أو انتقام ، أو فى خطة يدبرها ، أو فى شهوة يريد تحقيقها ، أو فى حلم من أحلام اليقظة 0 ويظل ساهماً فى سرحانه ، إلى أن يوقفه غيره ، فيستيقظ إلى نفسه ، ويتوقف عن الفكر 0 إنها يقظة أو صحوة ، أو قيامة من سقطة 0 3 – هناك أيضاً القيامة من ورطة ، أو من ضيقة 0 قد يقع الإنسان فى مشكلة عائلية أو اجتماعية يرزخ تحتها زمناً ، أو فى مشكلة مالية أو أقتصادية لا يجد لها حلاً 0 أو تضغط عليه عادة معينة لا يملك الفكاك من سيطرتها 0 أو تملك عليه جماعة معينة أو ضغوط خارجية ، لا يشعر معها بحريته ولا بشخصيته ، ولا بأنه يملك إرادة أو راياً 000 وفى كل تلك الحالات يشعر بالضياع ، وكأنه فى موت ، يريد أن يلتقط أنفاسه ولا يستطيع 000 إلى أن فتقده عناية الله وترسل له من ينقذه ، فيتخلص من الضيقة التى كان فيها 0 ولسان حاله يقول : " كأنه قد كتب لى عمر جديد " 0 أليست هذه قيامة ؟ إنها حقاً كذلك 0 4 – القيامة هى حياة من جديد 0 ما يسمونه بالإنجليزية Revival 0 حياة جديدة يحياها إنسان ، أو تحياها أمة أو دولة ، أو أية هيئة من الهيئات 00 أو يحياها شعب بعد ثورة من الثورات التى تغير مصيره إلى أفضل ، وتحوله إلى حياة ثانية ، حياة من نوع جديد 0 فيشعر أن حياته السابقة كانت موتاً ، وأنه عاد يبدأ الحياة من جديد ويود أن حياته السابقة لا تحسب عليه 0 إنما تحسب حياته من الآن هذه القيامة رأيناها فى حياة الأفراد ، ورأيناها فىحياة الأمم : رأيناها فى أوروبا بعد عصر النهضة والانقلاب الصناعى ، ورأيناها فى فرنسا بعد الثورة الفرنسية المعروفة 0 ورأيناها فى روسيا بع إللان البروستوكيا 0 ورأيناها أيضاً فى الهند على يد غاندى ، وأيضاً فى كل دولة تخلصت من الاستعمار أو الاختلال أو الانتداب ورأيناها فى مصر ، مرة بعد التخلص من حكم المماليك ، ومرة أخرى بعد ثورة سنة 1919 ، ومرة ثالثة بعد ثورة سنة 1952 . كما رأيناها كذلك فى الثورة الإقتصادية أو فى النهضة الإقتصادية التى قادها طلعت حرب إن القيامة يا أخوتى ، ليست هى مجرد قيامة الجسد 0 إنما هناك حالات أخرى كثيرة توحى بها القيامة ، أو تكون القيامة رمزاً لها 00 وتبدو فيها سمات حياة أخرى 0 5 – ونحن نرجو من الله أن يجعل سمات القيامة فى حياتنا باستمرار 0 عمليات تجديد وحياة أخرى ، تسرى فى دمائنا أفراداً وهيئات 00 كما قال الكتاب عن عمل الله فى الإنسان إنه " يجدد مثل النسر شبابه " ( مز 103 ) 0 وأيضاً كما قيل فى نبوة اشعياء " وأما منتظرو الرب ، فيجددون قوة 0 يرفعون أجنحة كالنسور 0 يركضون ولا يتعبون 0 يمشون ولا يعيون " ( أش 40 :31 ) إلهنا الصالح ، نسأله فى روح القيامة ، أن يهبكم جميعاً قوة فى حياتكم ، ونسأله أن تحيا بلادنا حياة متجددة باستمرار ، فيها الصحوة وفيها النهضة وفيها روح القيامة ، فى عزة وفى مجد وفى قوة وأمنياتى لكم جميعاً بالسعادة والبركة وكل عام وجميعكم بخير 0 قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
22 مايو 2021

الرسالة الرابعة عید القیامة في ٧ برمودة ٤٨ 2 أبریل ٣٣٢ م.

أرسلت هذه الرسالة من البلاط الإمبراطوري بواسطة أحد الجنود أرسل إلیكم یا أحبائي رسالتي متأخراً ولیس كما اعتدت؛ واثقًا أنكم ستسامحونني على تأخیري وذلك لطول رحلتي وبسبب مرضي. فقد أعاقاني هذان السببان عن الإرسال، هذا مع حدوث عواصف شدیدة على غیر العادة فأرجأت الكتابة إلیكم.وبالرغم من طول مدة السفر مع مرضي الشدید، لكنني لا أنسى أن أقدم لكم تعالیم العید، إذ من واجبي أن أخبركم عن العید.ومع أن هذه الرسالة قد جاءت متأخرة عما اعتدت علیه، لكنني أظن أنه لا زال الوقت مناسبًا، خاصة وأن أعداءنا قد صاروا في عار، ووبختهم الكنیسة لأنهم اضطهدونا بلا سبب فلنرنم الآن بترنیمة العید ناطقین بتسبحة النصرة ضد فرعون قائلین "أرنم للرب فأنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" انتعشوا بالغذاء الروحي یوم العید حسنًا یا أحبائي أن نخرج من عید إلى عید، فأن احتفالات العید والأسهار المقدسة التي ترتفع في عقولنا، تدعونا إلى حفظ السهر على التأمل في الأمور الصالحة. لیتنا لا نترك هذه الأیام تمر علینا مثل تلك التي حزنا فیها، إنما إذ نتمتع بالغذاء الروحي تخمد شهواتنا الجسدیة.بهذه الوسیلة نقدر أن نغلب أعداءنا الشیاطین والشهوات كما صنعت یهودیت المباركة، إذ تدربت أولاً على الأصوام والصلوات، وبهذا غلبت الأعداء وقتلت ألیفاناذ.وعندما كان الخراب سیحیق بكل جنس استیر… لم تفسد ثورة الطاغیة إلا بالصوم والصلاة إلى الله،وهكذا حولت هلاك شعبها إلى حفظهم في سلام وإذ كانت الأیام التي فیها یقتل العدو أو تباد مؤامراته، تعتبر بالنسبة لهم أعیادًا… لذلك أمر موسى المبارك أن یعید بعید الفصح العظیم، لأن فرعون قد قتل والشعب خلص وتحرر من العبودیة… الیوم قد قتل الشیطان عدونا والآن یا أحبائي.. قد ذبح الشیطان، ذلك الطاغیة الذي هو ضد العالم كله، فنحن لا نقترب من عید زمني بل عید دائم سمائي. معلنین إیاه لا خلال ظلال (وحرف) بل في الحق لأن أولئك بعد ما شبعوا من جسدالخروف الأبكم تمموا العید، وإذ مسحوا قوائم بیوتهم بالدم نجوا من المهلك. أما الآن فإذ نأكل "كلمة" الآب وتمسح قلوبنا بدم العهد الجدید نعرف النعمة التي یهبنا إیاها المخلص الذي قال "ها أنا أعطیكم سلطانًا لتدوسوا الحیات والعقارب وكل قوة العدو" (لو ١٩:١٠ ) لأنه لا یعود یملك الموت، بل تتسلط الحیاة عوض الموت، إذ یقول الرب "أنا هو الحیاة" (یو ٦:١٤ )، حتى أن كل شيء امتلأ بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب "الرب قد ملك، فلتفرح الأرض". ، لأنه عندما ملك الموت "على أنهار بابل جلسنا فبكینا" (راجع مز ١:٩٧, ١:١٣٧ ) ونحنا، لأننا قد شعرنا بمرارة الأسر. وأما الآن إذ بطل الموت وانهدمت مملكة الشیطان، لذلك امتلأ كل شيء بالفرح والسعادة.ولم یعد الله معروفًا في الیهودیة وحدها بل في كل الأرض "في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم" (مز ١:٧٦ , ٤:١٩) الأمور الباقیة واضحة یا أحبائي. أنه یلزمنا أن نقترب إلى عید كهذا لا بثوب مدنس، بل أن تلتحف نفوسنا بأثواب طاهرة.یلزمنا أن نلبس ربنا یسوع حتى نستطیع أن نعید العید معه.والآن نحن نلبسه عندما نحب الفضیلة ونبغض الشر؛ عندما ندرب أنفسنا على العفة ونمیت شهواتنا،عندما نحب البر الآثم، عندما نكرم القناعة، ویكون لنا عقلاً راسخًا، عندما لا ننسى الفقیر بل نفتح أبوابنا لجمیع البشر، عندما نعین الضعفاء وننبذ الكبریاء. بین الفصح الحقیقي والفصح الرمزي لقد كان هذا لإسرائیل القدیم في رموز، محاربین لأجل النصرة، معیدین في ظلال وحرف.أما نحن أیها الأحباء فقد تحقق لنا ما كان ظلالاً، وتم ما كان حرفًا، لذلك یلزمنا ألا ننظر إلى العید كرمز، ولا نذهب إلى أورشلیم التي هي هنا أسفل (في الأرض) لكي نقدس خروف الفصح… لئلا عندما یعبر الوقت(الموسم) ینظر إلینا أننا نصنع أمراً غیر مناسب. ولكن بحسب أمر الرسل یلزمنا أن نتعدى حدود الحرف، ونترنم بأغنیة التسبیح.فبإدراكنا هذا، مجتمعین مع بعضنا البعض بالحق (المسیح) یقتربون إلینا ویقولون لمخلصنا "أین ترید أن نعد لك لتأكل الفصح؟!" فإنه لا تعود هذه الأمور تصنع في أورشلیم التي هي أسفل ولا هناك فقط بالعید بل أینما یرید الله. إنه یرید الآن أن یكون العید في كل مكان حتى أنه "في كل مكان یقرب لاسمي (لأسمه)" (مل ١١:١) فمع أنه في التاریخ لم یكن یحفظ الفصح إلا في أورشلیم لكن لما جاء ملء الزمان وعبرت الظلال وانتشرت الكرازة بالإنجیل في كل مكان، ونشر التلامیذ الأعیاد في كل الأماكن كأنهم یسألون المخلص "أین ترید أن نعده؟!" والمخلص أیضًا إذ حول الحرف إلى روح، وعدنا أنهم لا یعودون یأكلون جسد الخروف، بل یأكلون جسده هو قائلاً: خذوا كلوا واشربوا هذا هو جسدي ودمي (راجع مت ٢٦:٢٦-28) فإذ ننتعش بهذه الأمور، فأننا بالحق یا أحبائي نحفظ عید الفصح الحقیقي. الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الكبير القمص تادرس يعقوب ملطي
المزيد
26 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس آساف

"لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" مز 73: 3 مقدمة ربما لا يجد المرء في كل ما خطه القلم البشري، وصفا أروع وأبلغ من وصف المؤمن عندما يسقط فريسة الشك، مما كتبه يوحنا بنيان في كتاب: "سياحة المسيحي"، إذ صور هناك السائح المسيحي ومن معه يسيرون، ليجدوا أنفسهم وهم لا يدرون في أرض غريبة، وإذ ينامون ليلتهم يستيقظون في الصباح ليجدوا أنفسهم في قبضة جبار عات اسمه "جبار اليأس".. وقد أمسك بهم ليطوحهم في عنف وقسوة، في جب مظلم رهيب اسمه "قلعة الشك" ولعل بنيان وهو يصور هذه الحقيقة، كان يكشف عن خبيئة نفسه، عندما أحاط به الشك العاصف، بعد أن دخل السجن في 12 نوفمبر عام 1660م بعد أن اقتحم رجال الشرطة الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها وكانت عظته في ذلك اليوم مما جاء في إنجيل يوحنا: "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً فوجده وقال له أتؤمن بابن الله" يو 9: 35.. وكان بينان يقول للحاضرين مخاطباً كل فرد فيهم. "أتؤمن بابن الله"؟ فأخذته الشرطة وقدمته للمحاكمة إذ كان شارل الثاني ملك انجلترا يحارب ويضطهد المؤمنين الأحرار الذين لا يريدون أن يخضعوا أنفسهم سوى لصوت الله والكتاب المقدس والضمير، وقد طلب القضاة من بنيان أن يمتنع عن الوعظ التبشيري مقابل أن يتمتع بالحرية والأمن، ولكنه رفض ليبقى في السجن اثنى عشر عاماً ذاق خلالها كل أنواع التجارب والآلام والأهوال، كانت زوجته وأولاده يزورونه في السجن، وكان أشد ما يؤلمه رؤية ولده الصغير الأعمى ولقد صاح مرة: “يا طفلي المسكين.. ما أكثر ما ترى في حياتك من مأساة، وإن كنت لا أستطيع أن أتحمل مر النسيم عليك”!. وخاض بنيان معركة الشك، وانتصر فيها الانتصار الحاسم، وكتب كتاب “سياحة المسيحي” و“الحرب المقدسة” من زنزانة السجن ودون أن تناله الهزيمة بأية صورة من الصور،.. وقبل بنيان بما يقرب من ستة وعشرين قرناً، دخل آساف ذات المعركة، وهو يرى مظاهر الصراع القاسي بين الخير والشر، وخرج إلى العالم بمزاميره المنتصرة. ولعل قصته يمكن أن تعطينا لذلك أغلى الدروس: آساف وتجربته ليس هناك من شك أن المزمور الثالث والسبعين قد كتبه آساف النبي المرنم في إسرائيل، وأن عشرة مزامير أخرى تحمل اسم آساف، وقد يختلف الشراح في نسبة بعضها إليه،.. ولكن الطابع العام المتقارب في هذه المزامير يكشف عنه المزمور الثالث والسبعون، وهو التجربة التي أحس بها آساف تجاه مشكلة الشر في الأرض، وقد أثرت ظاهرة الشر في أفكار الرجل، وعواطفه، وكانت على وشك أن تغير مساره وتاريخه بالتمام، كيف يمكن تفسير ظاهرة الشر مع وجود الله الكلي الحكمة، والقدرة، والمحبة؟ وكيف تبدو هذه الظاهرة فيما تترك من طابعها المدمر الرهيب الملحوظ بين الناس!!.. لقد بدت عند آساف أولاً: في ثروة الأشرار المتزايدة: "هوذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة".. وبدت عند أيوب من قبل يوم قال: "عندما أتذكر أرتاع وأخذت بشرى رعدة لماذا تحيا الأشرار ويشيخون نعم ويتجبرون قوة، نسلهم قائم أمامهم معهم وذريتهم في أعينهم بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله ثورهم يلقح ولا يخطيء، بقرهم تنتج ولا تسقط يسرحون مثل الغنم رضعهم وأطفالهم ترقص".. وبدت في لغة المسيح سيدنا في صورة مؤلمة قاسية مثيرة: "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز ويتنعم كل يوم مترفهاً وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه".. ولست أعلم لماذا يضع الله الرجلين جنباً إلى جنب وفي مكان واحد، وعلى هذه الصورة الرهيبة من التباين والتباعد! وهل قصد المسيح أن يصور حال الدنيا على هذا الوضع الغريب الذي يتقابل فيه فقر المؤمنين مع غنى الأشرار، ولئن كان لعازر لم يتحدث إلينا عن الآلام النفسية العميقة التي كانت تملأ قلبه، وهو يقارن بين حاله وحال الغني الذي يتنعم كل يوم وهو على قيد خطى قليلة منه،.. غير أن آساف تحدث عن عمق ألمه وتجربته، وهو لا يرى مجرد الأغنياء فحسب، بل تزايد ثرواتهم على نحو رهيب، وكلنا مرات كثيرة "آساف" في الحياة المعاصرة، ويكفي أن تقرأ الصحف أو الكتب أو المجلات، لكي نرى مدى الصعود الغريب السريع لأشر الناس في الأرض، وهم يتحولون من أصحاب الآلاف إلى عشرات الألوف إلى مئات الألوف إلى أصحاب الملايين، والبلايين والمليارات،.. وهل نقرأ عن الأموال التي لا تعد ولا تحصى، ويحصل عليها الناس بأشر الأساليب، وأفحش الوسائل، وأقسى السبل، وليذهب الحق والخير والفضل والهدوء والراحة والسلام، إلى الجحيم ما داموا يصلون إلى معبودهم الذي رفعوه إلى مستوى الله، وعبدوه بكيفية يمكن أن يقال معها بكل يقين ما قاله السيد: "لا تقدروا أن تخدموا سيدين الله والمال"؟!. إن المال عند الأشرار وخلفه الحروب والمفاسد والشرور التي قلبت كل الأوضاع في الأرض، فأعطت من لا ينبغي أن يأخذ، وأخذت ممن ينبغي أن يساعد وبنت قلاعاً للشيطان ينبغي أن تهدم،.. وهدمت قلاعاً لله ينبغي أن تقوم وترتفع!!.. كل هذا يمكن أن يقترب بالمؤمن من خطوة الانزلاق ليقول. "أما أنا فكادت تزل قدماي لولا قليل لزلقت خطواتي" "هوذا هؤلاء هم.. الأشرار يكثرون ثروة".. وكانت التجربة الثانية أمام آساف: راحة الأشرار: ".. ومستريحين إلى الدهر".. وقد بدت هذه الراحة أمامه: "إذ رأيت سلامة الأشرار لأنه ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يصابون".. فإذا ترجمنا هذا الكلام، فإننا نجد عاموس واحداً من أبرع المترجمين القدامى إذ يقول: "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم المضطجعون على أسرة من العاج، والممتدون على فراشهم، والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف"... وإذا حولناه إلى لغة العصر الحديث، فإنه يعطي صورة للإنسان الذي اخترع المخترعات الحديثة، الإنسان الذي يطلق عليه "إنسان الأزرار، فهو يمد إصبعه ليضغط على الزر، وهو متمدد في مكانه، أو جالس على نغم الموسيقى، في أمكنة التكييف، وقد طوع لنفسه كل شيء في السفر، والسكن، والملبس والمشرب، ولا يكلفه هذا كله، سوى أن يضغط بطرف إصبعه على الزر، والدنيا كلها عند قدميه، وهو يرى نفسه في راحة ما بعدها راحة وفي عز ما بعدها عز،.. هذا في وقت قد يشقى فيه المؤمن، وهو يجد لقمته بصعوبة بالغة في أرض العرق والدموع!!.. وهو قد يعاني من هذا أو ذلك، فيجف نهره في أرض المجاعة، وهو يتنقل في حاجته بين عطايا الغربان أو مساندة أرملة فقيرة تقش عيدانها، باحثة عن لقمة عيش ستأكلها هي وابنها الصغير، ثم يموتان جوعاً بعد ذلك،.. كلنا آساف في بعض المواطن ونحن نرى هذا الوضع المقلوب في الأرض!!.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن آساف رأى شيئاً، إذ رأى الكبرياء المذهلة التي تتملك الأشرار: "تقلدوا الكبرياء.. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض".. أي أنهم لبسوا الكبرياء كالقلادة في العنق، إذ يبدو عنقهم ملتوياً، وأفواههم شامخة إذ يتكلمون بكبرياء المرتفعين في لغة نبوخذنصر القائل: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟"، دون أن يعلموا أن العلي متسلط في مملكة الناس،.. أو في لغة آدوم الذي قيل عنه: "تكبر قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجي الصخر رفعة مقعده القائل في قلبه من يحدرني إلى الأرض".. والكبرياء دائماً ساخرة مستهزئة، تتعالى على الله والناس، وهي أشبه بقبضة الغلام الصغير الذي رفع عينيه نحو السماء، ولوح بقبضته مهدداً القدير،.. ومن المتصور أن يحتمل كل هذا كما يحتمل عبث الأطفال. ولكن المشكلة عند آساف أن هذا قد انصرف إلى الظلم البين الرهيب الذي وقع المؤمنون ضحيته، إذ: "لبسوا كثوب ظلمهم،.. ويتكلمون بالشر ظلماً من العلاء يتكلمون".. أو في لغة حبقوق: "حتى متى يا رب ادعو وأنت لا تسمع أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص لم تريني اثما وتبصر جورا وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً":.. ألم يدفع هذا سليمان إلى القول: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر أماهم فلا معز لهم فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس".. وقد فاضت الكأس آخر الأمر عند آساف بأن الأشرار في كل هذا قد طرحوا الله وراء ظهورهم، فهم لا يكادون يرونه أو يبالون به: "وقالوا كيف يعمل الله وهل عند العلي معرفة".. إنهم يعيشون ويفعلون دون أن يقيموا للقدير حساباً، أو يروا فيه رقيب الناس المطلع على الظاهر والخفي في الحياة!!.. آساف المصاب هذه المظاهر الشريرة انتهت بآساف إلى الحالة الشقية التعسة التي وصل إليها في القول: "وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح".. لقد أدرك آساف بأن هذه المظاهر الشريرة لابد أن تصيب أحداً، إذ هي غير طبيعية، وغير متفقة مع ناموس العدالة الإلهية، فإذا كان الأشرار: "ومع البشر لا يصابون".. فإن الإصابة بدورها تتحول إلى المؤمنين، وهي إصابة دائمة ومتكررة، إذ أنها اليوم كله وتتجدد كل صباح، أو في لغة أخرى: إنها كالمرض المزمن العميق الذي تظهر له مضاعفات متعددة على الدوام،.. مرض المؤمن برؤية الشرير في الأرض،.. عاد هنري دراموند ذات يوم إلى بيته، ووجهه ناطق بالأسى والألم العميق، وإذا سأله أحدهم: هل أنت مريض؟.. أجاب: نعم أنا مريض بالناس وبشرهم وخبثهم وحقدهم وقساوة قلوبهم ووحشيتهم التي لا تنتهي!!.. فما هو نوع المصاب الذي وصل إليه آساف؟ لقد أصيب أولاً بالحسد: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار"... ولقد صور واحد من المؤمنين هذه الغيرة في القول: إنه كان شريكاً مع آخر في شركة تجمعهما معاً،... وذات مرة دعاه شريكه إلى عمل آخر، غير أنه رفض إذ أن هذا العمل لا يمكن أن يتم إنجازه مع الاحتفاظ بالمباديء الصحيحة السليمة، وبعد فترة وكان الآخر قد ذهب إلى العمل، وأصاب نجاحاً مادياً كبيراً- فرق بينه وبين شريكه من الوجهة المادية إلى حد بعيد،.. أرسل المؤمن إلى أحد الرعاة يقول له: ها أنا قد تمسكت بالمباديء المسيحية العلمية!!.. ولكن ماذا كانت النتيجة!!؟.. أليست هذه صرخة الكثيرين من أبناء الله، الذين يصابون بالألم العميق، عندما يؤخذ حقهم ليعطي لمن لا يستحق؟، والذين كلما تمسكوا بالحق والشرف والأمانة والصدق، كلما واجهوا السجن والآلام، والتشريد، والمتاعب، وما أشبه؟!كتب أحدهم مقالاً عن ابراهام لنكولن تحت عنوان "الفاشل العظيم" وهو يروي قصة المتاعب التي لاقاها الرجل حتى مصرعه الأخير، نتيجة تمسكه بالمبدأ، ورغبته في عدم التخلي عنه مهما كان الثمن... عندما سقطت الظلمة على عيني ملتون قال له الأطباء: ينبغي أن تكف عن العمل إذا رمت أن تبقى على بصرك، أما هو فأجاب: كلا أن أكون أعمى وأتمم عمل الله وإرادته، خير عندي من أن أبصر بعيداً عن هذا العمل والإرادة،.. قد يفقد الشاب شيئاً ما، كان يمكن أن يحصل عليه، لو سلك السبيل العالمي، وقد يأتيه الشيطان ليهمس في أذنه، والآن ماذا أخذت؟!! وقد يصل إلى النقطة التي وصل إليها آساف: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" وثمة أمر آخر ضاعف الألم والصعوبة عند الرجل القديم، هو أنه المصاب الذي لم يحصد نتيجة سريعة يمكن أن تعطيه تعويضاً عما ضاع منه أو فاته إلى الدرجة التي اهتزت معها الأسس الدينية عنده: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي"... وإنها مصيبة، وأية مصيبة أن يتقوض في أعماق الإنسان الإحساس الداخلي بقيمة الدين أو فائدته!!... إن مثوبة الحق الأولى والأهم، ليس في أنه يمكن أن يعطي مغنماً مادياً أو أدبياً، بل لأنه أولاً وقبل كل شيء هو الحق، ونقاوة القلب في حد ذاتها هي أهم مكافأة للإنسان حتى ولو عذب أو مات شهيداً،.. لكن المؤمن مع ذلك يعيش منتظراً نتيجة محسوسة لحياته الدينية في مواجهة المتطلبات والمشاكل التي تربطه بالعالم!!.. فإذا أضيف إلى ذلك أن المصاب كان قاسياً وشديداً، لأنه كان مكبوتاً: "لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك".. وقد يهون المصاب إذا وجد المتألم أذنا تسمعه أو تعطف عليه،.. لكن آساف تحول إلى مرجل مكبوت شديد الغليان، ولعل مشاعره كانت ذات المشاعر التي أصابت إرميا عندما تحدث إلى الله قائلاً: "قد أقنعتني يا رب فاقتنعت وألححت علي فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي لأني كلما تكلمت صرخت ناديت ظلم واغتصاب لأن كلمة الرب صارت للعار وللسخرية كل النهار فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع" لم ينجح إرميا في الاحتفاظ بالصمت، والامتناع عن ذكر اسم الله، إذ ملأت النيران قلبه، وحاصرت عظامه، حتى تكلم ونطق،.. وكانت المشكلة بالنسبة لآساف تختلف إلى حد ما، فهو لا يريد أن يتكلم، وعلى وجه الخصوص أمام الشباب، لأنه لو تحدث إليهم عن الشكوك التي تملأ نفسه وصدره، لأجهز على إيمانهم الغض الحديث بالله،.. وقد انتهى الموقف بالنسبة للمصاب أنه أضحى واقفاً على حد الضياع والكارثة، وقد أضحت الطريق أمامه رخوة زلقة، كادت تزل معها قدماه، ولولا قليل لزلقت خطواته،.. لقد أضحى آساف أشبه بالمريض الذي يقف على الخط الفاصل بين الحياة والموت!!.. كان مرضه عميقاً، وكان مرضه خطيراً!!.. آساف والعلاج كيف أمكن أن يجد آساف علاجاً لهذا الضياع الذي أوشك أن يلم به؟؟ لقد وجد العلاج في تأدية الواجب رغم الشكوك العميقة التي كانت تملأ صدره، لقد كان آساف نبياً، ورائياً، وموسيقياً،.. وربما استمر سنوات متعددة يحيط الضباب برؤياه، وتحيط الأحزان بصنوجه وموسيقاه،.. لكنه لم يكف عن الخدمة، أو يتقاعس عن الرسالة أو يطوح بآلاته الموسيقية حتى يعود مرة أخرى إيمانه بالله،.. كانت المعركة الداخلية بينه وبين نفسه أمام الله،.. وكان أشبه بالواعظ الإنجليزي العظيم فردرك روبرتسن، الذي كانوا -لفرط بلاغته وإبداعه- يطلقون عليه "واعظ الوعاظ"، إذ كانت عظاته نموذجاً رائعاً يمكن أن يتعلم منه الوعاظ كيف يتكلمون ويعظون!!.. هذا الرجل خاض في حياته معركة من أقسى معارك الشك، حتى انتصر دون أن يتراجع أو يتقهقر عن الرسالة والخدمة،.. إن أعظم علاج للشك، هو الاستغراق في الخدمة، وبذل الجهد المتواصل فيها، إذ أن التجربة تفرخ دائماً في أحضان الفراغ والبطالة، والجندي الذي يشغل نفسه بالصراع في المعركة، ليس عنده من الوقت أو المجال ما يجعله ينساق هنا أو هناك وراء أحابيل الخطية أو شراكها المخادعة!!.. على أن آساف -مع ذلك- وجد المكان العظيم للانتصار على الوساوس والشكوك "مقادس العلي" حيث دخل هناك إلى الشركة العميقة مع الله،.. لقد عزل نفسه عن العالم، إذ أنه لا يستطيع أن يرى الرؤية الصحيحة، وزيف العالم أمام عينيه، ولا يستطيع أن يسمع صوت الله، وضجيج العالم يملأ أذنيه،.. ومن ثم فهو في حاجة إلى المكان الهاديء العميق في بيت الله، إلى الخلوة الصحيحة مع سيده وإلهه دون مقلق أو مزعج،.. ولعله السيد المسيح كان يقصد هذا المعنى عندما قال: "ادخل إلى مخدعك واغلق بابك"... فليس يكفي أن ندخل المخدع، بل نغلق الباب على كل ما يصل بيننا وبين العالم الخارجي بغروره وشروره وأوهامه وخياله، وهناك نتحدث إلى الله، وهناك نسمع صوته،.. هل نستطيع في الكنيسة والمخدع والعزلة مع الله، أن نواجه كافة المتاعب والمخاوف، والشكوك والصراع، ونجد الحل الذي نفتقر إليه ولا نجده في أي مكان آخر؟.. وقد وجد المصاب علاجه في صفاء الرؤية: “حتى دخلت مقادس العلي وانتبهت”.. لقد سقطت القشور عن عينيه، وانتبه، وماذا رأى؟.. لم يعد يرى المظاهر المخادعة، بل أضحى يبصر الرؤيا الحقيقية، ولم يعد الأشرار أمامه بالصورة القديمة، رآهم في سقوطهم الكامل العظيم،.. رأى مزالق الضياع، رأى البوار بل رأى الخراب المباغت، رأى الاضمحلال، رأى الدواهي المضنية، رآهم كالحلم العابر الذي ذهب كالخيال عند التيقظ،.. ولقد ملأت هذه الرؤية قلبه ونفسه، حتى أدرك أنه كان بليداً ولا يعرف وكان أشبه بالبهيم فيما تصور،.. لقد عرف كل ذلك عندما أدرك فكر الله ورأيه وهدايته في قلب المخاوف والوساوس،.. في الكلمة "انتبهت" الفرق الحاسم بين البصر والبصيرة، وبين ظاهر المنظر وعمق الحقيقة، ولعل هذا هو الذي دعا المرنم أن يقول: "اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك".. إذ لا يمكن أن يعثر الإنسان على الحقيقة من تلقاء نفسه دون مساعدة أو مساندة الله، في مقادس العلي!!.. عش حياة التأمل والصلاة، وادخل إلى عمق الشركة، وهناك تعثر على الحقيقة التي لا شك فيها!!... آساف والأغنية انجابت الزوبعة عن قلب الرجل، وصفا الجو من الغيوم الكثيفة التي حجبت الشمس، ورفع الرجل صوته مغنياً للرب الصالح، واستهل مزموره بالقول: "إنما صالح الله"، أو يمكن أن تكون العبارة: "بالتأكيد صالح الله".. أو أنه ليس هناك شك أو ريب في الله الصالح، أليس هذا عين ما قاله إرميا في مراثيه: "طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه" وقاله حبقوق بعد العاصفة النفسية التي اجتاحته: "فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي الرب السيد قوتي ويجعل قدمي كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي".. من عهد غير بعيد حدث زلزال مروع في الجزء الغربي من الولايات المتحدة، وقد دمر هذا الزلزال كثيراً من المباني والممتلكات، غير أنه عوض أصحابها تعويضاً لم يكن في الحسبان إذ كشف في قلب الأرض التي مزقها عن مناجم غنية بالذهب،.. وكم تأتي التجارب القاسية بغنى الاختبارات، التي تؤكد أن الرب طيب وصالح وإلى الأبد رحمته!!... لقد تحدثنا في مطلع الأمر عن يوحنا بنيان، وما من شك أن دخوله إلى السجن كان بمثابة الكارثة المروعة له،.. لقد أراد أن يبشر جيله، في الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها، وشاء له الله أن يمنع من ذلك، ليتكلم إلى عالم أوسع وأعظم، وأكثر امتداداً فيما كتب عن الرحلة الخالدة، من مدينة الهلاك إلى جبل صهيون وقاد أجيالاً وراء أجيال في سياحته العظيمة إلى المدينة الخالدة التي صانعها وبارئها الله!!... كان الرب صالحاً وهو يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة!!كشف آساف في الدراما الخالدة التي كتبها لا عن الفصل الأول فقط في حياة الأشرار بل عن الفصل الأخير أيضاً، وقد تأكد الرجل أن الشر قد يكسب معركة، ولكنه لابد أن يخسر الحرب، وقد كان دقيقاً في التصوير إذ ربط بين يد الله الخفية، وبين المظهر الفجائي، ففي الوقت الذي نرى فيه يد الله في القول: "حقاً في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار".. نجد الحوادث الظاهرة، أو أسباب الثانوية المباشرة: "كيف صاروا للخراب بغتة اضمحلوا فنوا من الدواهي".. وقد يتعجب الناس للسقوط المفاجيء، الذي قد يأتي في أوج المجد والقوة، حسب المظهر الخارجي،.. ولكن الشر أشبه بالنمل الأبيض، الذي يدخل في جسم الخشب ليأكل لبه، وعندما يستعمل الخشب في بناء المنازل أو الكباري، لا تلبث أن تنهار، وبهذا المعنى ينخر الشر والفساد والخطية في حياة أي فرد أو أمة، وتقوضها فجأة أبشع تقويض!!.. وقد رأى آساف كل هذا، وأمكنه أن يرى الله خلف كل هذه النهاية الرهيبة الداوية في حياة الأشرار،... وإذا قرأنا المزامير الأخرى خلاف المزمور الثالث والسبعين -والتي يعتقد أن آساف كاتبها- نجد الله لا يبدو في صورة الساكن الذي لا يتحرك أمام آثام الأشرار أو خطاياهم، بل نراه شديد القوة والبطش: "الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل كانت في ساليم مظلته ومسكنه في صهيون هناك سحق القسى البارقة المجن والسيف والقتال".. "اللهم في القدس طريقك أي إله عظيم مثل الله أنت الإله الصانع العجائب عرفت بين الشعوب قوتك فككت بذراعك شعبك بني يعقوب ويوسف أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت ارتعدت أيضاً اللجج سكبت الغيوم مياها أيضاً سهامك طارت صوت رعدك في الزوبعة أضاءت المسكونة ارتعدت ورجفت الأرض في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تعرف هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهرون" وغنى آساف آخر الأمر بالمكان الذي اختاره في هذه الدراما العظيمة، إذ أخذ مكانه إلى جانب الله: "ولكني دائماً معك أمسكت بيدي اليمنى برأيك تهديني وبعد إلى مجدك تأخذني" لم يعد يرى في السماء أو الأرض إلا شخص الله: "ونصيبي الله إلى الدهر" "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك".. أين هذا من المكان الآخر مكان الأشرار، ممن ابتعدوا عن الله، وكانوا بهذا كمن يرتكب الفسق والزنا "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزني عنك".. "لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً"... هل تعرف أيها القاريء الصديق: أين مكانك في مسرحية الحياة؟؟. كان هناك مبشر في نيويورك تعود أن يطرق نوافذ البارات، وعندما يطل السكارى والمعربدون يسمعونه يقول لهم: "لأن أجرة الخطية هي موت"... وهي الكلمة التي يستطيع آساف أن يقولها لكل البعداء عن الله،.. وفي الوقت عينه يستطيع أن ينادي المؤمنين، ولو في قلب المتاعب والآلام والتجارب... "وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا!!"...
المزيد
05 يوليو 2021

الجهاد الروحي

يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي:- أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة:- فالتوبة هي:- التحرر من عبودية الخطية والشيطان. ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله. يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة. تغيير شامل لحياة الإنسان. ثانيًا السعي نحو نقاوة القلب والفكر:- التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26).مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16) ثالثًا احترزوا (مت6: 1-18):- (1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ:- الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء العطاء الخفي. الأضرار العطاء الظاهر أخذنا أجرة من الناس "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4) التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء كيف لماذا فائدتها حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك. (2) الصلاة في الخفاء:- "ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8) الصلاة في الخفاء غلق باب الحواس الاهتمام بالصلاة المستمرة وخاصة صلاة القلب عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين. (3) الصوم في الخفاء:- "ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق). رابعًا لا تكنزوا (مت6: 19-21):- عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز) وهذا هو التحذير الثاني الجهاد ضد القنية وحب المال"مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10)، و"لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24) أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟ المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها التحذير من المال يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود). خامسًا سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ:- نقاوة الحواس العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر"فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23)العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه(عفيف، شهواني، ماكر، غضوب) حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...) فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ "لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33) لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
29 نوفمبر 2022

الوزنات

عندما وزع السيد الوزنات على عبيده، راعى أن يعطي لكل واحد على قدر طاقته (متى 25)، فليس المطلوب من الإنسان أن يحقق نجاحاً بعينه، بل أن يتعب ويجاهد قدر استطاعته، كما أنه ليست هناك مقارنة بين شخص وآخر ولكن المقارنة الحقيقية هي بين ما يستطيعه الإنسان من جهة، وما يقدمه الفعل من جهة ُاخرى. ويلاحظ في مثل الزارع (متى 13) أن الأرض الجيدة قد أعطت في بعض مساحات منها ثلاثين ومساحات ُاخرى ستين وُاخرى مئة، ومع ذلك لا يجوز لنا أن نقارن بين مساحة وُاخرى، وانّما كل مساحة قد أعطت بما يتناسب مع البذور التي ُالقيت فيها وما نالته من حصة في الماء مع بعض عوامل ُاخرى. كذلك الجندي في المعركة، فهو ليس ُمطالباً بتحقيق النصر، بقدر ما هو مطالب بالجهاد إلى آخر لحظة من حياته، بغضّ النظر عما إذا كان جيشه منتصراً أم لا. وليست هناك مقارنة بين شخص وآخر، كما أن الله يضع في الاعتبار الظروف المحيطة، وهل كانت هناك عوامل مساعدة أم عوامل معاكسة وهكذا.. حقاً يقول الكتاب " الفرس معد ليوم الحرب أما النصرة فمن الرب (أمثال21: 31). نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
02 أبريل 2021

الجمعة الرابعة من الصوم الكبير: الإيمان بالإنجيل

ارتباط فصول القراءات: الإيمان بالإنجيل تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الإيمان بالإنجيل"، فالنبوة الأولى تتكلم عن وجوب الإيمان به كما أوصى الرب بنى إسرائيل بحفظ شريعته، والثانية عن بركات الله للمؤمنين به كما وعد بذلك المساكين من بنى إسرائيل، والثالثة عن إهلاكه لمحتقريه كما توعد بذلك الشرير في يوم الدين، والرابعة عن تمجد الله في المؤمنين به كما تمجد في دانيال حين وجد سالما في جب الأسود. ويتكلم إنجيل باكر عن قوة المؤمنين بالإنجيل في طرد الشياطين من الناس كما انتهر المخلص الشيطان من الرجل في المجمع، وإنجيل القداس عن استجابة الله لصلواتهم كما استجاب المخلص لصراخ المرأة الكنعانية وشفى ابنتها.ويحثهم الرسول في البولس على ضرورة الاعتراف به، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بضرورة الثبات فيه، ويهيب بهم الإبركسيس أن ينادوا به بين الأمم. النبوات (تث 10: 12 – 11: 28) غنى عطايا الله لهم لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجما اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم. الإصحاح الحادي عشر من سفر تثنية أيامنا كأيام السماء تحدث في الإصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه، غير مشير إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الالتصاق به والاستماع لكلماته، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفسًا التي نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء في الكثرة.وفي هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهي أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [21]. هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا، فنتمتع ببركات الطاعة، أي التمتع بأيام السماء على الأرض، عوض السقوط تحت لعنة العصيان، أي الانحدار إلى أيام الجحيم.إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [1 – 7]، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلى الصلاح والعطاء [8 – 25] ليختبر الحياة السماوية. الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [26 – 32]. البولس من العبرانيين (عب 13: 7 – 16) محبة الرعاة: "اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ، فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" [٧].لنذكر الآباء الرعاة الذين يختفون وراء كلمة الله، فيشهدون لا بما لهم بل بالكلمة الإلهي المعلن في كرازتهم وفي سلوكهم. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أي نوع من الإقتداء هو هذا؟ بالحق نتمثل بما هو صالح فيهم. إذ يقول: "انظروا حياتهم، فتمثلوا بإيمانهم". فإن الإيمان إنما يعلن في الحياة النقية.] الهروب من الهرطقات "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [٨-٩].إذ أراد أن يوصيهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه ابن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا انحراف.إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا، ولا يزال يعمل لحسابنا، ويبقى عاملًا إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي، وإنما كدنسٍ يلزم الامتناع عنها كما يدنسون الزواج. فيقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [٩].حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية، مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام. التألم مع السيد المسيح انتقل بهم الرسول من عدم الانسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الانشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس! لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [١٠-١١].وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة وارتفع إلى السماوات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرموا من سرّ الإفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقيقية التي وهبها السيد لمؤمنيه.هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه، ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم. "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [١٢-١٣].فإن كان هؤلاء العبرانيون قد طردهم مجلس السنهدرين كمرتدين، لا يخجلوا، فقد سبق أن طُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه، ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.وعن ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا.] بخروجه كمذنبٍ صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا، نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.ويستكمل لسان العطر بولس كلامه فيذكر ضرورة فعل الخير قائلًا "وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [١٦].كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي. إنجيل القداس من متى 15: 21 – 31 ثم خرج يسوع من هناك وانصرف الى نواحي صور وصيدا واذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا فاجاب وقال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا إمراة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت إبنتها من تلك الساعة ثم انتقل يسوع من هناك وجاء الى جانب بحر الجليل وصعد الى الجبل وجلس هناك فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج وعمي وخرس وشل واخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون والشل يصحون والعرج يمشون والعمي يبصرون ومجدوا إله إسرائيل لقاء مع الكنعانيّة إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس -الكتبة والفرّيسيّون- بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.بينما انهمك اليهود -في أشخاص قادتهم- في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها."وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة: ارحمني يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا" [22].لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها! حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23].. لماذا؟ أولًا: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم. ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه. ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. ولذلك نجد القديس أغسطينوس يقول: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.]كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).] "فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا.فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟ يجيب القديس أغسطينوس علي هذا التساؤل قائلًا: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!]كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلًا: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]لقد أكمل السيّد حديثه، قائلًا: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27]. وهنا يقول القديس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا.. فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!.. إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان".. لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالًا أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان. انجذاب البسطاء إليه مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس إلخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.فليعطنا الرب إيمان المرأة الكنعانية لكي نسمع من فمه الطاهر عظيم هو إيمانك ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
03 سبتمبر 2021

علامات تسبق المجيء الثاني للرب ج2

ظهور الوحش من علامات المجيء الثاني:- الله لا يُرى أحدًا هذه الأيام التي سوف يظهر فيها الوحش فالسيد المسيح يقول أنه سيكون هناك ضيق عظيم لم يحدث مثله منذ بداية العالم "لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. لو لم تقصّر تلك الأيام لم يخلص جسد ولكن لأجل المختارين تقصّر تلك الأيام" (مت24: 21، 22).يقول الرائي في سفر الرؤيا ما يلي: "ثم متى تمت الألف السنة يُحَلُّ الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض" (رؤ20: 7، 8). والألف سنة هنا هي مجرد رقم رمزي قيّد خلالها السيد المسيح الشيطان بعد إتمام الفداء. والضلال المذكور في هذه الآية هو الأهوال التي لم يرَها أحد من قبل.وفى سفر الرؤيا ورد أيضًا ما يلي: "ورأيت ملاكًا نازلًا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده. فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيَّده ألف سنة. وطرحه في الهاوية، وأغلق عليه، وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف السنة. وبعد ذلك لابد أن يُحلَّ زمانًا يسيرًا" (رؤ20: 1-3).وقد علّق على الزمان اليسير في سفر الرؤيا أيضًا بقوله: "ويل لساكني الأرض والبحر لأن إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم عالمًا أن له زمانًا قليلًا" (رؤ12: 12).فبعد أن حُلَ الشيطان من سجنه بعدما أظهر السيد المسيح طغيانه وظلمه بدلًا من أن يتوب ازداد شره بالأكثر.هذا يرد على من يقولون إن الشيطان سوف يتوب!!! وقد قرأت في بعض الصحف مقالًا يقول الكاتب فيه أننا يجب أن نحب الشيطان ونطلب من أجل توبته!! هذا الكلام يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس لأنه مُعلم مسبقًا أن الشيطان لن يتوب فمن ناحية: ما فائدة أن نضيع جهدنا في هذا الأمر ونطلب من أجل عدو الله وقد أعلن الله هذا؟ومن ناحية أخرى: كيف نحب الشيطان؟!! حقًا قال السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم" (مت5: 44).لكنه كان يقصد أعداءنا من البشر ولم يقل أبدًا "أحبوا الشيطان"! بل قال الكتاب "اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسدٍ زائرٍ يجول ملتمسًا من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان" (1بط5: 8، 9).علينا أن نحترس من هذه الضلالات. الوحش 666:- وعندما يأتي الشيطان لن يكتفي بأن يوسوس للناس بأفكار سيئة، ولكن سيختار شخصية معينة من البشر، وهذه الشخصية سوف تكون أداته. وللأسف سوف يختار إنسان عدد اسمه 666، فلذلك عبدة الشيطان حاليًا يضعون رقم 666 كعلامة من علاماتهم في عباداتهم. ما معنى أن عدد اسمه 666؟ هذا يعنى أننا عندما نجمع حروف اسمه يكون حاصل الجمع 666. إن كل حرف في اللغات يقابله رقم، ففي اللغة العربية مثلًا ترتب الحروف على طريقة أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت.. فالحرف "أ" يقابله رقم "1"، والحرف "ب" يقابله رقم "2"، وهكذا إلى الحرف "ى" الذي يقابله رقم "10"، ومن بعده مباشرة الحرف "ك" يقابله رقم "20"، وهكذا إلى الحرف "ق" يقابله الرقم "100"، ومن بعده مباشرة الحرف "ر" يقابله الرقم "200" وهكذا فعندما تجمع الرقم المقابل لكل حرف من حروف اسم الوحش يكون الحاصل 666... لذلك يقول الكتاب: "هنا الحكمة من له فهم فليحسب عدد الوحش فإنه عدد إنسان وعدده ست مئة وستة وستون" (رؤ13: 18).ولم يرد ذكر اسم الوحش لئلا عند مجيئه يقول أنه طالما أن الكتب المقدسة ذكرت أنه الوحش يجب أن تحرق كل هذه الكتب. لذلك يقول "هنا الحكمة من له فهم فليحسب عدد الوحش".ومحاولة توفيق أسماء لأشخاص عاشوا فعلًا على العدد 666 هو أمر غير مقبول. الاسم سيكون واضحًا، وعندما تحسبه تجده 666، وغالبًا سيكون باللغة العبرية لأنه سيدّعى أنه المسيح، فلابد أن يأتي من سبط يهوذا ومن نسل داود ويكون غالبًا اسمه عبريًا. وحروف الأبجدية العبرية تمشى بطريقة أبجد هوز حطي كلمن المعروفة وبالتالي سيكون هناك تشابه في الرقم بين اللغة العربية والعبرية.هناك حروف تُحسب أيضا باللغة اليونانية التي كُتب به العهد الجديد من الكتاب المقدس ولكن في حساب عدد الوحش لن يكون لليونانية الدور الفعّال لأن الوحش سيدّعى أنه المسيح، ولن يصدق أحد أن المسيح من اليونانيين أو من شعب اليونان. إلا إذا كان هناك رجلًا يهوديًا يعيش في اليونان ويعرف اللغة اليونانية وسُمّى بأسماء يونانية فهذا وضع آخر. الارتداد العام من علامات المجيء الأخير:- بالطبع لن يكون ظهور الوحش بلا تأثير بعد توبة اليهود وإيمانهم ستكون هناك مرحلة ازدهار شديد جدًا، لكن لا بُد أن كل الذين آمنوا يرقدون في الرب سواء كان رقاد طبيعي أو استشهاد لأنه يقول: "هكذا سيخلُص جميع إسرائيل" (رو11: 26). لم يقل "يؤمن جميع إسرائيل" بل "يخلُص جميع إسرائيل" وكلمة "يخلُص" تعنى أن الشخص يؤمن ويرقد في الإيمان. فأين إيمان اليهود اليوم وأين خلاصهم؟!! لذلك، عندما بدأ الرسل يقولون إنهم منتظرين سرعة مجيء الرب لكي يحفِّزوا الناس للتوبة والاستعداد، ظن أهل تسالونيكي أن المسيح سوف يأتي سريعًا فبدأوا يتوقفون عن العمل وعن بناء الكنائس إلخ. فحذرهم معلمنا بولس الرسول وبدأ يعطيهم علامة فقال لهم: "لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد apostasy أولًا ويُستعلَن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله.. الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآياتٍ وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين. لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدِّقوا الكذب. لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سُرُّوا بالإثم" (2تس2: 3، 4، 9-12). الارتداد العام واستعلان إنسان الخطية:- ربط معلمنا بولس الرسول بين ثلاثة أشياء فيما يخص مجيء السيد المسيح:- أولًا: الارتداد العام واستعلان إنسان الخطية:- إن المسيح لن يأتي إلا بعدما يأتي الارتداد العام أولًا وأيضًا استعلان إنسان الخطية ابن الهلاك فيقول معلمنا بولس الرسول: "لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولًا ويُستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك" (2تس2: 3).و"ابن الهلاك" هو الوحش الذي يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله. ويقول عنه الكتاب أنه "المقاوم والمرتفع على كل من يدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله". وهنا يتساءل البعض ما معنى عبارة "يجلس في هيكل الله"؟ هل تعنى أن هيكل سليمان سيبنى؟ هيكل سليمان عندما دشنه سليمان بذبائح كثيرة وكان تابوت العهد موجودًا في ذلك الحين فحينما أدخل الكهنة تابوت العهد في قدس الأقداس ملأ مجد الرب البيت، وتم تدشين الهيكل وصار اسمه هيكل الله. خيمة الاجتماع دشنها موسى النبي ورش الدم بالزوفا فقدّس الخيمة. ولكن اليوم، من له أحقية تدشين الهيكل؟ لقد انتهي الكهنوت الهاروني وزال فلا يدعى هيكل الله فيما بعد. إذًا عبارة "يجلس في هيكل الله" من الممكن أن تعنى أنه يجلس مثلًا في كنيسة القيامة في القدس. هناك توجد كنيسة اسمها "كنيسة نصف الدنيا" وهى كنيسة ضخمة جدًا، وداخل قبتها الكبيرة يوجد قبر المسيح والجلجثة وتفاصيل كثيرة أخرى ومن الممكن أيضًا أن تطلق تسمية "هيكل الله" على كنائس من أيام الإمبراطورة هيلانة أم الملك قسطنطين، تم بنائها في ذلك الزمان ودشّنها الآباء البطاركة القديسين قبل عصر الانشقاق. لكن لا يمكن أن يبنى أي شخص معاصر اليوم هيكل ويقول عنه بولس الرسول أن هذا هو هيكل الله.الكتاب يقول عن جماعة المؤمنين: "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1كو3: 16) وقال أيضًا: "مبنيين كحجارة حية" (1بط2: 5) (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)، "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف2: 20).فنحن لا نستطيع أن نقبل أن عبارة "هيكل الله" في الكتاب المقدس في العهد الجديد تطلق على مبنى يبنيه إنسان غير مؤمن بالمسيح.هذا الوحش سيحاول الاستيلاء على الهياكل والمقدسات. وسيُعلِن نفسه أنه المسيح الحقيقي وأن المسيح السابق ليس هو المسيح. ثانيًا: المعجزات الخارقة التي يعملها الوحش وتؤدى إلى الارتداد العام:- هذا الارتداد سيأتي نتيجة المعجزات الخارقة التي سيعملها الوحش "الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2تس2: 9، 10)."الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2تس2: 9، 10) لذلك نحذر شعبنا من الجري وراء أي شيء يسمعه ويقول أنها معجزة.. لا يجب أن نجرى وراء أي معجزة ونصدقها. بل يجب أن يكون هناك شيء من التأني والفحص. ويفضّل أن الكنيسة نفسها هي التي تقيّم المعجزات، وتصدر بشأنها قرارات كما حدث في ظهور السيدة العذراء في كنيستها بالزيتون وفى كنيستها ببابا دوبلو. وأيضا عندما ظهرت الأنوار السمائية في كنيسة مارمرقس في أسيوط قريبًا.. هذه الأمور شهدت لها الكنيسة بصفة رسمية وصدّقت عليها.نحن لا نحب أن نجرى وراء أي مظهر من المظاهر الخارقة لأن للشيطان أيضًا قدرة على الأعمال الخارقة للطبيعة. ففي أيام أيوب أنزل نارًا من السماء وحرق كل حقوله وقتل كل الماشية وهدم البيت وقتل كل أولاده.. فللشيطان قوة خارقة.. هو حاليًا مقيد لكن عندما يُحل ستكون هذه أصعب الأيام.. لذلك قال بولس الرسول عن الوحش: "الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه" (2تس2: 8).214- ظهور الرب وإبادته للوحش في المجيء الثاني ثالثًا: ظهور الرب أو مجيء المسيح وإبادته للوحش وللوضع السيئ:- من الذي سيوقف هذا الوحش عند حدّه ويرميه في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت مع إبليس وكل جنده، إلاّ مجيء الرب "الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه" (2تس2: 8).إذًا من علامات نهاية العالم ظهور الوحش والارتداد العام، ومعجزات الوحش التي تؤدى إلى الارتداد العام. وبعد ذلك مجيء الرب وإبادته لهذا الوضع السيئ.يقول الكتاب: "يصنع آيات عظيمة حتى إنه يجعل نارًا تنزل من السماء على الأرض قدام الناس. ويضل الساكنين على الأرض بالآيات التي أعطى أن يصنعها" (رؤ13: 13، 14). هل هناك أكثر من ذلك أنه سوف يجعل نارًا تنزل من السماء على الأرض أمام الناس؟!! لذلك نقول للناس الذين يدّعون أن اليهود سوف يؤمنون عندما يتم بناء الهيكل ولا تنزل نارًا من السماء نقول لهم أن الشيطان يقدر أن يُنزل نارًا من السماء. لذلك قد سبق السيد المسيح وحذّر قائلًا: "إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا" (مت24: 23).والوحش طبعًا يعمل ضد الثالوث لذلك رقمه 666. ورقم 666 هو 7-1 ، 7-1 ، 7-1 لأن رقم ستة هو سبعة ناقص واحد، أو مطروح منها واحد. وقد أكمل الله الخليقة في سبعة أيام بما فيها الراحة فحينما نطرح من السبعة واحد تصير ستة. لذلك صلب المسيح في اليوم السادس، يوم الجمعة، وقال: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو22: 53) وفى نفس هذا اليوم الذي ارتكب فيه الشيطان جريمته، صنع السيد المسيح الفداء وداس الموت بالموت، وقام في اليوم الثامن الذي هو يوم الأحد أول أيام الأسبوع، لذلك يُرمز للسيد المسيح برقم 888.رقم 666 يرمز إلى ما هو ناقص 7-1=6 وتذكر ثلاث مرات لأن الوحش يعمل ضد الثالوث. أما 888 فهي 7+1=8 وهذا الرقم يرمز إلى الحياة الجديدة بعمل الثالوث الأقدس في حياة البشرية. وللحديث بقية مثلث الرحمات نيافة الحبر الجليل الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير السيدة العفيفة دميانة بلقاس عن كتاب سلسلة محاضرات تبسيط الإيمان
المزيد
29 مارس 2021

حديث خاص مع أبناء النور(1)

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس المزمـور: «16أَمَّـا أَنَـا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. 17مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي» (مز 55: 17،16). الإنجيل: «1وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:”كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ“» (لو 16: 1-9). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القداس: حديث اليوم، حديث المسيح الخاص مع أبناء النور، ولكنه يتكلَّم بحزم: «أَعطِ حساب وكالتك»، «وأنـا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلْم، حتى إذا فَنيتُم يقبلونكم في المظال الأبديَّـة». ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا المَثَل جيِّداً إلاَّ إذا تَم ضمُّه لمجموعة الأَمثلة التي على شاكلته، فتكون أربعة أمثلة: المثل الأول: الغَني ولعازر (لو 16: 19-31): معيار هذا المثل: ارتباط الحياة بعد الموت بالحياة الأبدية ارتباطاً شديداً، على أساس الفعل، فقد أَورد المثل، الفعل ونتيجة الفعل. فما نعمله على الأرض، تَظهر نتيجته في الحياة الأخرى، هذا ما يُوضِّحه مَثَل الغَني ولعازر. فالغَني كان مُتنعِّماً، وكان يلبس الأَرْجُوان والبَزَّ. الأرجوان هو القطيفة الحمراء، وهو يُلبَس في الشتاء؛ والبَزُّ هو الحرير، ويُلبَس في الصيف. فالغَني كان يتنعَّم كل يوم مُترفِّهاً، والتنعُّم والتَّرفُّه هو فوق طاقة الإنسان العادي أو المتوسط. وأمام باب دار الغَني طُرِحَ مسكين اسمه لعازر، «مضروباً بالقُرُوح، ويشتهي أن يشبع من الفُتات الساقط من مائدة الغَني». هنا المسيح يرفع الحجاب مرةً واحدة، ويُظهِر هذين الوضعَيْن في السماء: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغَني أيضاً ودُفِنَ (وهو يتعذَّب في اللهيب)». طبعاً اللهيب هنا هو لهيب الضمير. وكان الغَني يتوسَّل لأبينا إبراهيم أن يُرسِل لعازر ليَبُلَّ طَرَف إصبعه بماءٍ ويُبرِّد لسانه، وهو نفس الإصبع الذي كان لعازر في حياته البائسة ينبش به القمامة ليعثر على كِسْرة خُبز. المثل الثاني: الغَني الغَبي (لو 12: 16-21): معيار هذا المثل: إمَّا أن تكن‍ز في الأرض، أو تكن‍ز في السماء. فهذا الغَني قال: «أَهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نَفْسُ لكِ خيراتٌ كثيرة، موضوعةٌ لسنين كثيرة. استريحي وكُـلي واشربي وافرحي». فقـد عَمِلَ لحساب الأرض، ولم يعمل لحساب ما هو فوق، أي السماء. وفي أيامنا هذه، مِثْل إنسانٍٍ وجد أنَّ أسهمه في شركةٍ ما لم تَعُد تربح كثيراً، فسحب هذه الأسهم ووضعها في شركةٍ أخرى تُعطي أرباحاً أكثر، حتى لو كان القائمون على هذه الشركة هم من النَّصَّابين. ولكننا نسمع المسيح يُعقِّب على هذا المثل بقوله: «هكذا الذي يَكْنِزُ لنفسه وليس هو غنيّاً لله» (لو 12: 21). المثل الثالث: الابن الضال (لو 15: 11-32): معيار هذا المثل: إنسانٌ قادرٌ أن يُعوِّض عن الخسارة المُريعة التي لحقت به وأتلفت حياته في آخر لحظة، بأن يتوب ويرجع إلى أبيه، إلى الله. ونقرأ في المثل أن الأب عندما رأى ابنه آتياً وهو لم يَزَل بعيداً، «تحنَّن وركض ووقع على عُنقه وقبَّله»، وأعاده مرَّةً أخرى إلى رُتبة البنوَّة، وفَرِح به وصنع له وليمة، كما فرحت به السماء أيضاً، لأن هذا الابن «كان ميِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 24). + هذا المثل يسند المثَلَيْن السابقَيْن. فهذا الابن «بذَّر ماله بعيشٍ مُسرف». فهو قد أَخَذَ الميراث الذي لأبيه وهو ما يزال حيّاً، وبَذَّره. ونحن عندما نُحوِّل هذه المفهومات إلى الحياة الروحية، نفهم أن هذا الميراث هو لله. فهذا الابن بَذَّر هذه الأموال وأتلفها، وكما قال الابن الأكبر لأبيه: «لَمَّا جاء ابنك هذا الذي أَكَلَ معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العِجْل المُسمَّن». فهذا الإتلاف هو إتلافٌ للجسد والروح. ولكن عندما انحطَّ هذا الابن إلى الحضيض، حتى أنه كان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله»، ولم يُعطِه أحد، وانحدر إلى مستوى الخنازير وهي في نظر اليهود ”نجسة“؛ قام من سقطته، ورجع إلى نفسه، وعاد إلى أبيه منكسراً نادماً. ففرِحَ به أبوه، كما فرحت به السماء. وكانت توبته أثمن من كل مقتنيات أبيه. + وإذا وضعنا هذه الأمثلة الثلاثة بجانب بعضها البعض، نجد أنَّ هذا التعليم الذي علَّمه المسيح بأمثالٍ كان ردّاً على كلام بطرس الرسول الذي قال للرب: «ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟» (لو 19: 27). هنا المقارنة بين ما للأرض وما للسماء! ولذلك كان ردُّ المسيح على بطرس الرسول: «كلُّ مَن ترك... يأخذ مئة ضعف (هنا على الأرض) ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29). + كما يمكن أن نضع هذه الأمثلة بجانب مَثَل الوزنات والمتاجرة الذي قاله الرب يسوع (مت 25: 14-30). فهذا، إذن، هو قانون ملكوت السموات: القانون الذي يربط الأرض بالسماء، الذي يربط الحياة الحاضرة بالحياة المستقبلة، الذي يربط المال بالروح، الذي يربط الحياة حسب الجسد بالحياة حسب الروح (انظر رو 8: 12-17). المقارنة بين محبة العالم ومحبة الله، ظهرت بوضوح في مَثَل الوزنات، إذ أُعطِيَت وزنات لكل واحد على قَدْر طاقته. فكل مَن تاجر بهذه الوزنات وربح، قال له سيِّده: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. اُدْخُل إلى فرح سيِّدك». أمَّا العبد البطَّال الذي لم يُتاجر بالوزنة، فقال سيِّده: «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». + وأيضاً لو أضفنا إلى هذه الأمثلة، مَثَل: اللؤلوة الكثيرة الثمن، الذي باع التاجر كل ما كان له واشتراها (مت 13: 46،45)؛ فنجد أن هذه مُقايضة جميلة جداً. فكل هذه الأمثلة هامة جداً في حياتنا المسيحية بحسب القانون الذي سيُحاسب به المسيح كل واحد مِنَّا. المثل الرابع: وكيل الظلم (لو 16: 1-9): معيار هذا المثل: الله يُعطينا الحياة التي فيها فُرص. الحياة فيها فُرص، فلابد لنا أن ننتهز هذه الفُرَص ونعمل المقايضة: نبيع الفاني الذي نقتنيه هنا، على أساس الأمثلة التي أوردناها سالفاً؛ ونقتني ما لا يَفْنَى والباقي إلى الأبد. فهذا المَثَل هو عملية مُقايضة، مُقايضة الفاني بالباقي. فالسيِّد «مَدَحَ وكيل الظُّلم إذ بحكمةٍ فعل»، وهي حكمة أهل العالم، حكمة مال الظُّلم، حكمة السلوك حسب الجسد. فالمسيح وضع نفسه في هذا المَثَل أنه هو السيِّد القدوس، وأنَّ كل ما وهبه لنا من مال وصحة وعافية وعينين وأُذنين وجسد ووقت وعقل ومعرفة للمواهب - جسدية وروحية - هذه كلها تُعتَبَر أمانات أودعها فينا ولنا؛ وهو صاحب هذه الأمانات كلها. أمَّا كل واحد مِنَّا، فهو وكيل على هذه الأمانات. فوكيل الظلم - في المَثَل الذي قاله الرب - بدَّد وبذَّر أموال سيِّده، مع أنها ليست مِلْكاً له، لأن هذا الوكيل عَلِمَ أن سيِّده سيأخذ منه الوكالة، وهو ”لا يستطيع أن ينقب (يسرق) ويستحي أن يستعطي (يتسوَّل)“؛ فكيف - بمفهومه - يستطيع الحياة والأَكل والشُّرب، وهو لا يملك شيئاً؟ فهذا الوكيل اختلس أموال هذا السيِّد، على الورق فقط، «ودعا كل واحد من مَديوني سيِّده، وقال للأول: كم عليك لسيِّدي؟ فقـال: مئـة بثِّ زيت (معيار للسوائل). فقال له: خُـذ صكَّك واجلس عاجلاً واكتُب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كُرِّ قمح (مكيال للحبوب). فقال له: خُذْ صكَّك واكتُب ثمانين» (لو 16: 5-7). + «فمدح السيِّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل». المسيح هنا يُريد أن يقول: ”أنا أُريدكم أن تحوزوا هذه الذهنية، سواء في المال أو الصحة أو كل ما تمتلكونه. فهذه كلها في الأصل ليست مِِلْككم، وأنا صاحب كل هذه الأمانات التي سلَّمتها لكم. فقدِّم أموالك للخير، وأنا أُعوِّضها لك مائة ضعف. ابذل صحَّتك من أجل الآخرين، وأنا أُعيدها لك أقوى وأفضل مما كانت“، كما يقول بولس الرسول: «أمَّا أنـا فبكل سرورٍ أُنْفِقُ وأُنْفَقُ لأجل أنفسكم» (2كو 12: 15). ”أُنفِق“ أي ”أُقدِّم ما عندي“؛ و”أُنفَق“ أي ”أموت من أجلكم“. + وهكذا كـأنَّ المسيح يقول لك: ”ابذل صحَّتك من أجل راحة الآخرين، ولا تخف، فإنني سأُعطيك هنا أجمل وأحسن منها مائة ضعف، ومعها هناك الحياة الأبدية. فكل ما تبذله لحسابي هنا، سأُضيفه أنا لحسابك هناك في الأبدية. أمَّا إن بدَّدتها لحسابك هنا، فقد أضعتها منك هناك إلى الأبد“. هذا المثل دقيقٌ جداً، وهو يُحيِّر النفس، ولا يمكن فهمه إلاَّ على هذا الأساس: إنَّ كل ما عندك من مال وصحة وأب وأُم وأخ وأُخت وامرأة وأولاد... إلخ، كل هذه ليست مِلْكاً لك، وإنما هي مِلْكٌ للمسيح، وهو الذي يهبها لك. فإن ترك الإنسان كل هذه من أجل المسيح، يُعطيه هنا مائة ضعف، وهناك يهبه الحياة الأبدية في السماء. وإذا قدَّم الإنسان عواطفه، تلك التي تربطه بأهله وبالعالم، حُبّاً في المسيح؛ سيهبه المسيح ما هو أقوى منها، سيهبه عواطف أرقى بكثير مما قدَّمه، تنطلق إلى العواطف الروحية. في الحقيقة، فإنَّ مَثَل وكيل الظلم قائمٌ على هذه الفكرة: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم»، لأن «أبناء هذا الدَّهر أَحْكَم من أبناء النور في جيلهم». وذلك لأن أبناء الظلمة، يأخذون المال التافه الذي مآله إلى الفناء ويتمتَّعون به، ويعملون لهم به أصدقاء؛ بينما أنتم أولاد النور يُمكنكم أن تستغلوا هذا المال وتكسبوا به أصدقاء، ومن خلاله تفوزون بالحياة الأبدية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَوْصِ الأغنياء في الدَّهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنَى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتَّمتُّع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياءَ في العطاء، كُرماءَ في التوزيع، مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 6: 17-19). + مـا معنى ”أسخياء في العطاء“؟ أي أن يُعطي الإنسان للآخرين بلا حدود، وعند الاقتصاديين هذا ”تبديد“؛ ولكن المسيح يُحرِّض على هذا طالما للخير ولمساعدة الآخرين: «المُعطي فبسخاء» (رو 12: 18)، «المُعطي المسرور يُحِبُّه الله» (2كو 9: 7). فمَن يكون هذا الإنسان الذي يُعطي وبسرور؟ هو الإنسان الذي يشعر أن هذا المال ليس مِلْكه، بل هو أمينٌ عليه فقط. ولذلك نجد أنَّ الإنسان الذي بلغ هذا الإحساس لا يُبالي أبداً بالأرقام؛ بل يَحسِب هذه الأموال أنها مِلكٌ للربِّ، وهو عندما يهبها للمحتاجين، فهو يردُّها إلى صاحبها، أي إلى المسيح. وبالرغم من أن الآخرين يحسبون ذلك الإنسان الذي يُبدِّد أمواله معتوهاً، وينال منهم السخرية؛ إلاَّ أنه يَعتَبِر هذه الأموال مِلْكاً للمسيح، وهو المسئول عنها، وهو الذي يقول له: ”بِعْ، واعطِ بسخاء وبسرور“، هـذه هي ذهنية وكيل الظلم. ومـن أروع الأمثلة للحياة المسيحية: التصرُّف في كلِّ ما في الحياة على مستوى أنها ليست مِلْكاً لنا. مال الظلم: ”مـال الظلم“: ”الظلم“ بـاللغة اليونـانية ++++++، يعني: ”غير صالح“، ”غير بـار“؛ أمَّا +++++++ فتعني: ”صالح“، ”بار“. وهـذا يعني أنَّ ”مال الظلم“ هو ”مالٌ لا يَمُتُّ للبرِّ بِصِلَة“. ومعروفٌ أنَّ «محبة المال أصل لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10). ولكن مال الظلم هذا، المال البطَّال، عندما نُبدِّده ونوزِّعه لحساب المسيح يتحوَّل إلى مالِ برٍّ، ينتقل إلى الحياة الأبدية. ونحن نعلم أنَّ «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، وأنَّ «الوقت (الزمن) منذ الآن مُقصَّر» (1كو 7: 29)، فهو زمنٌ شرير، وأيام شريرة. ولكن عندما نأخذ هذه الأيام التي تُعتَبَر شريرة، ونستغلها في الصلاة والسجود؛ عندئذ يتحوَّل هذا الزمن المُقصَّر الشرير إلى خلود داخلك، يتحوَّل هذا الزمن الرديء فيك إلى حياةٍ أبدية، وإلى خلود لروحك. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أُعطِيَ له حق تحويل الزمن إلى خلود. فالدقيقة التي تُصلِّيها تتحوَّل فيك إلى خلود، وإلى حياة أبدية في داخلك. إذا صلَّيتَ كل يوم، لا يبقى هذا اليوم كما هو في هذا الزمان الرديء، وإنما يتحوَّل لحساب الله، فيصير ألف سنة في الحياة الأبدية. أمَّا إذا صلَّيتَ سنة في حساب هذا الزمان، فستكون هذه السنة هي الأبدية بعينها بالنسبة لك، بالرغم أنَّ الأبدية ليس فيها أرقام أو أعداد. كلُّ شيء في هذا العالم فانٍ، ولكن المُقايضة تُحوِّل هذا الفاني إلى خالد، إلى حياةٍ أبدية. وهكذا فإنَّ الرب يسوع استطاع أن يُحوِّل هذا العالم المُتغيِّر إلى عالم أبدي. وهو قادرٌ أن يُحوِّل كل ما فيك، مِمَّا لا تتصوَّره، إلى مجدٍ، وإلى حياةٍ أبدية. وأنت نفسك تحوز صداقة مع الملائكة وأرواح الأبرار المُقدَّسين في السماء. «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم»: مَن هم أصدقاؤنا؟ هم الأرواح المُبرَّرة في السماء. فعندما تنتقل من هذا العالم، فسوف تستقبلك الملائكة والأرواح البارَّة بالأحضان؛ لماذا؟ لأنك بذلتَ صحتك من أجل الآخرين، وقدَّمت المال للمحتاجين، وكل ذلك لحساب المسيح؛ فتكون النتيجة أنَّ أولئك الذين خدمتهم هنا على الأرض، يستقبلونك هناك في الأبدية بالفرح والتهليل. وهـذا هـو قانـون المقايضة: ترابٌ بمجدٍ، ملاليم بجواهرَ سمائية. مقدار السعادة والغبطة التي يذوقها الإنسان حينما يبتدئ في التبديد والبَذْل لحساب الله، يحوزها من هنا في هذا العالم. فمهما حصلتَ على تكريمات ومُجاملات وأموال وأرباح وأشياء خاصة لك، فكل هذه لا يمكن أن تُقارَن بالإحساس الداخلي الرائع عندما توزِّع وتبذل كـل ما عندك لحساب المسيح ولخدمة الآخريـن. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس النبي المرسل إلى يربعام

"فصادفه أسد في الطريق وقتله" 1مل 13: 34 مقدمة لست أعلم ما هي المشاعر التي تجتاحك إذا وقفت أمام قبر، أو نصب تذكاري، أو تمثال أو صورة لإنسان انتهت قصته الأرضية، وسمعت عن هذه القصة، أو قرأت كلمات قليلة عنها، أو ما يمكن أن تحيكه بين الناس، أغلب الظن أنك ستمتليء بالانفعالات، وستسمع الصمت نفسه يتكلم بلغة أبلغ من كل كلام. في الأصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الأول، يظهر أمامنا النبي المرسل إلى يربعام بن نباط، كما يظهر البرق الخاطف، في يوم واحد، فهو النبي الذي ينادي يربعام وهو أمام المذبح المبتدع، بالرسالة الرهيبة، وهو الخارج من المدينة التي أمره الله ألا يبقى فيها، وهو الجالس تحت البلوطة، وهو المخدوع بكلمات النبي الشيخ، وهو الصريع وجثته إلى جوار الأسد والحمار، وهو المدفون في قبر النبي الشيخ في بيت إيل... حدث كل هذا في تعاقب سريع متتابع في يوم واحد، ولم تنته مع ذلك قصة الرجل، إذ بعد ثلاثمائة عام، في الأصحاح الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني، يقف يوشيا الملك أمام قبر فوقه كومة من الأحجار، قبر يختلف عن غيره من القبور الأخرى، ويسترعى الانتباه: "وقال ما هذه الصورة التي أرى، فقال رجال المدينة هي قبر رجل الله الذي جاء من يهوذا ونادى بهذه الأمور التي عملت على مذبح بيت إيل، فقال دعوه، لا يحركن أحد عظامه، فتركوا عظامه وعظام النبي الذي جاء من السامرة"... أجل وإلى الأبد أجل، وسيبقى الله صادقاً، وسيكذب كل إنسان، وسيتم الله صدقه في الحال وبعد ثلاثمائة عام، وبعد ثلاثمائة ألف مليون عام... وحاشا لله أن يكذب أو يتراخى أو يرجع، إذ هو الصادق الأمين في حياتنا أجمعين، وسترى صدقه وأمانته في كل شيء، ونحن نطالع قصة هذا النبي الذي تلاحقت الأحداث العجيبة في قصته في يوم واحد، ولعلنا نتعلم: النبي ويربعام لسنا نعلم ما اسم هذا النبي الذي أرسله الله من يهوذا إلى يربعام، وإن كان يوسيفوس المؤرخ اليهودي يطلق عليه اسم، "يعدون" والبعض يعتقد أن يعدو الرائي الذي جاء ذكره في سفر أخبار الأيام الثاني، متنبأ على يربعام بن نباط، وأياً كان الاسم، وأياً كان الشخص، فإن الصورة الأولى له تبدو من أروع الصور وأجملها وأبهجها،.. فهو النبي المرسل بكلمة الله أولاً وقبل كل شيء، وهو الواعظ المجيد الذي لا يتكلم من نفسه، بل بسلطان الكلمة الإلهية، لقد ذهب إلى الملك، بعد أن تلقن الدعوة بوضوح من الله في أدق دقائقها، وهو لا يلفت النظر إلى نفسه، فهو مجهول، وسيبقى اسمه مجهولاً، ولكنه يلفت النظر إلى الرب، وكلام الرب،.. وهو يتحدث إلى المذبح لأنه إذا لم يسمع الأحياء، وإن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ -وعندما يعيش الواعظ في يقين الدعوة، فإن منبره -كما قال سبرجن وهويتفلد من قبل- يتحول عرشاً، ويسبح هو في مياه الفردوس،.. وهو النبي الشجاع الذي لا يرى أمامه أحداً، عندما يتكلم إلى المذبح أو أحجار المذبح، معتقداً بأن الأحجار أقل صلابة من قلب يربعام، وهي تسمع عندما لا يسمع الملك نفسه، وهو لا يرى أمامه ملكاً، أو جمعاً من الناس، أو عيداً من الأعياد ابتدعه يربعام،.. لأنه إذا كان سليمان قد دشن الهيكل، فيربعام ليس أقل من سليمان، وهو أكثر منه يستطيع أن يكون ملكاً وكاهناً في الوقت عينه،.. والنبي لذلك يمثل كل صوت شجاع يتحدث دون خوف أو وجل أو تردد، فهو موسى أمام فرعون، وهو إيليا أمام آخاب، وهو يوحنا المعمدان أمام هيرودس، وهو بطرس ويوحنا أمام السنهدريم، وهو بولس أمام فيلكس، وهو أمبروز، وفم الذهب، ويوحنا نوكس، ممن كانوا أعظم صور للشجاعة في الأرض!!... وهو النبي الواثق من الحق الذي ينادي به، وسيصبح هذا الحق في الحال مؤيداً بالبرهان الإلهي، الذي لن يكون خفياً، بل سيشهده الجميع في المذبح المنهدم، والرماد الذي سيصيب وجه الملك، وجميع المعيدين معه، وسيعفر وجوههم وحياتهم، وسيدمر تاريخهم، ويحرق عظام كهنتهم، وعظام الناس معهم، فإذا امتد التنفيذ إلى أكثر من ثلثمائة عام، فإن برهانه السريع سيأتي في ومضة عين، على نحو واضح لا تجدي معه المكابرة،.. فإذا كابر يربعام، ومد يده ليأمر بالقبض على النبي، فإن يده لا تستطيع أن ترجع إذ تيبس عن الحركة، ويتحول الملك الآمر، إلى الملك المتضرع، ويصبح الوحيد الأعزل، أقوى من صاحب السلطان الطاغية المتجبر،.. فماذا نقول لهذا إنه إن كان الله معنا فمن علينا،.. وهو النبي العف، الذي لم يخضعه تهديد الملك، وبالأحرى إغراء الملك، بالاحترام والتحية والعطية، حتى ولو أعطاه نصف بيته،.. إن هذا النبي المرفوع الرأس وضع الشيطان أمامه الأمرين اللذين كثيراً ما يضعهما أمام خدام الله لعله يستطيع القضاء عليه بواحد منهما، التهديد، فإذا لم يجد أو يفلح، فليجرب العكس تماماً وهو الإغراء، وكم من أناس صمدوا أمام التهديد، ولم يصمدوا أمام الإغراء،.. لكن النبي المجهول الاسم، كانت عنده حتى تلك اللحظة الشجاعة والمثالية معاً، فلم يزجره وعيد، ولم يخضعه إغراء، وكان صورة مثلى للخادم العف الذي يستطيع أن يرفض ما يسيل له لعاب الآخرين، حتى يمكنه أن يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون،.. عندما عجز التهديد عن أن يضعف لوثر أو يلين قناته، عرضوا عليه ألواناً متعددة من الإغراءات والمنح والوظائف!!... ومع ذلك فقد كان شجاعاً أمام التهديد، وكان أشجع أمام سيل الإغراءات غير المنتهية!!... وهو النبي الرحيم الذي إذا جاء في الظاهر، يعلن غضب الله وشدته وبأسه وانتقامه، فإنه في الباطن ينادي بالرحمة الكاملة الإلهية العظيمة لو أحسن يربعام اقتناسها، وقد ظهرت هذه الرحمة واضحة في استجابته لرجاء الملك أن يضرع إلى الله من أجل يده، ولم يتركه النبي متصلب اليد كالخشبة سواء بسواء، بل ترفق به أمام الجميع، وطلب رحمة الله له،.. وكانت هذه إشارة لرحمة أكبر يمكن أن يصل إليها يربعام لو أنه فعل ما فعل ملك نينوى، عندما علم أن الله سيقلب المدينة بعد أربعين يوماً... كان يمكن أن يعلم بأن الله بطيء الغضب، وكثير الرحمة والإحسان والوفاء، لو أنه حطم البقية الباقية من المذبح المنهدم، وأمسك بعجلي الذهب، وكسرهما وطحنهما ورمى بهما على وجه المياه كما فعل موسى سواء بسواء،.. كان النبي المرسل ينادي يربعام بالاستعداد الإلهي للرحمة من فوق غبار المذبح الذي ملأ المكان!! ومن وابجنا على أي حال، مهما حدث فيما بعد، ألا ننسى له هذه الخلال العظيمة التي تحلى بها في موقفه الشجاع من يربعام!!.. النبي والبلوطة ونحن ننتقل هنا إلى المنظر الثاني في مسرحية الرجل، إذ نتحول من النظر إليه مع يربعام إلى جلسته تحت البلوطة، ونحن نسأل: لماذا جلس تحت البلوطة وقد أمره الله أن يفر من المكان، ويتباعد عنه، بأسرع وأقوى ما يمكن أن يكون التباعد؟، وما هي العواطف التي أحاطت أو سيطرت عليه أو اجتاحته، أو قادته إلى التجربة هناك؟؟ لعل أول عاطفة، كانت تجربة الإعجاب بالنفس، لعلنا نذكر ذلك الواعظ العظيم -وأغلب الظن أنه يوحنا ويسلي- الذي جاءه واحد من المستمعين ذات مرة ليقول له: ما أعظمك واعظاً، وما أروع عظتك وأعظمها تلك التي سمعتها في هذا اليوم،.. وأجاب الرجل الناضج الكبير: لقد سمعت كلمتك من آخر سبقك، فقال له الرجل متلهفاً: ومن هو؟ فأجاب: الشيطان!!،.. لقد جلس النبي تحت البلوطة، ودغدغ الشيطان إحساسه، وهنأه بالشجاعة التي لا مثيل لها، المثالية العظيمة التي من حقه أن يفاخر بها، وربما حدثه عن شخصيته العظيمة المنفردة، التي لا تعرف الأمة بأكملها نظيرها، وكيف يكون الحال، لو أنه لم يكن موجوداً،.. وكم تكون الخسارة البشعة، لو لم يوجد نظيره أو مثيله أمام الأزمات العظيمة، والصعوبات الهائلة المروعة... إن هذا الرجل كان أبعد من أن يدرك أن واحداً من أعظم الرجال في العصور كلها، رأى الله أن يحفظه من مثل هذا الخطر الداهم بشوكة قاسية: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع".. أيها المصلح: أيها النبي: أيها الواعظ: احذر وصل ليلاً ونهاراً حتى لا تجلس تحت بلوطة النجاح، وأنت تنظر إلى شخصك بالكبرياء والخيلة والإعجاب بالنفس،.. فإن هذه تجربة الشيطان تدري أو لا تدري، وليحفظك الله من تجربة النجاح، كتجربة الفشل سواء بسواء!!.. على أن التجربة الثانية كانت: تجربة الجوع وهي تجربة أخرى تختلف تماماً عن التجربة الأولى،.. فإذا كانت التجربة الأولى أشبه بتجربة الشيطان للمسيح عندما أخذه على جناح الهيكل في المدينة المقدسة، وطلب إليه أن يطرح نفسه إلى أسفل ليراه الكل محمولاً على أيدي الملائكة دون أن يصيبه أذى، فيتملكهم الإعجاب، ويرون فيه المسيا المنتظر،.. فإن التجربة الثانية أشبه بالتجربة في البرية وهو جائع، الذي وإن كان ابن الله فليقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً، والله الطيب لابد أن يهتم بجوع ابنه، ورفض المسيح التجربة بقوله المعروف العظيم: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله"!!... جلس النبي تحت البطمة، وربما قسا عليه الجوع واشتد في تلك اللحظة ليسأل: كيف يمكن أن يتركه الله جائعاً، وهو النبي الذي يقدم خدمة ناجحة أمينة لسيده؟!.. هذه هي التجربة التي تتشكل بآلاف الصور تحت أية شجرة بلوط، عندما يجلس الخادم في وحدته القاسية ليسأل: أليس من حقه أن يأكل ويشرب كما يأكل ويشرب غيره من جميع الناس؟!... أليس من حقه أن يجد ضروريات الحياة، قبل الكماليات، كما ينبغي لأي ابن لله يرعاه الآب السماوي القادر على كل شيء!!.. فلماذا يجوع؟!! ولماذا يشقى؟!! ولماذا يتألم؟!! ولماذا يحتاج أولاده إلى الطعام والكساء وقد يجدهما أو لا يجدهما مع الصعوبة البالغة القاسية، وأين حنان الله، وحبه ورحمته وجوده؟!! آه أيتها البلوطة كم يحدث تحتك في السريرة من التجارب وأنت لا تدرين؟!!.. وكانت التجربة الثالثة: تجربة المجد العالمي، وكما أخذ السيد إلى جبل عال ليرى ممالك العالم ومجدها، والشيطان على استعداد أن يعطيه إياها جميعاً بشرط أن يخر ويسجد أمامه،.. جاء المجرب إلى النبي ليقول له: ترى هل كان من الضروري أن يرفض دعوة الملك يربعام؟، وألم يكن من الأفضل أن يتريث قليلاً قبل رفضها، حتى يقدم الخدمة الناجحة لإلهه؟!! أليس يربعام بن نباط في حاجة إلى من يرشده ويهديه إلى التصرف الصحيح؟.. وأليس هو في حاجة إلى نبي يعلن له الحق، ويصحح له السبيل؟!!، وأليس إذا ترك يربعام إلى شأنه، هل يضمن أحد أن يستجيب لدعوة الله، وينتفع بالرسالة الواضحة التي تبينها؟!!... هذه أسئلة كثيرة ربما تكون قد أتت له،.. لأنها تأتي إلى خدام الله الكثيرين، الذين يسألون مرات متعددة: هل من الضررة أن يفصل الإنسان بين الدنيا والدين؟، بين الحكمة البشرية وكلمة الله؟!!. وألا يصبح الأمر هنا نوعاً من العزلة التي لا ينتفع بها العالم، أو تغير المؤمنين أنفسهم،... ولماذا لا يدخل الخدام في قصور الملوك حتى تكون لهم الفرصة للخدمة والوعظ، والتعليم والإرشاد؟!!... ما أكثر الخدام الذين يجلسون مع النبي القديم تحت البلوطة تملأهم مثل هذه الأفكار والعواطف، وتهز عقيدتهم ووجدانهم ومفهومهم الديني هزا عنيفاً عميقاً من الأساس!!.. النبي والشيخ الزميل والآن نأتي إلى الفصل الثالث من المسرحية، وتتحول من البلوطة إلى الشيخ النبي الذي سار وراء رجل الله حتى وجده هناك، لتقسو التجربة وتكمل وتفعل فعلها الآثم الرهيب، ولعل القسوة تأتي هنا، من هذا القناع الديني الذي لبسته التجربة وتدثرت به، وجاء الشيطان في شبه ملاك نور، وجاء فحيح الأفعوان على لسان نبي شيخ قديم كان يسكن في بيت إيل ويعيش فيها،... وقد صاح المسيح في وجه بطرس، إذ لم يره التلميذ الحبيب العزيز، بل رأى الشيطان الذي يطل من خلال عينه، ويتكلم على لسانه، ومن ثم قال له: "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" وإذا صح أن الشيطان يأتي إلى المسيح في بطرس، فمن السهل جداً أن نتصور، أنه جاء إلى النبي المرسل إلى يربعام، في زميله الشيخ الأسبق في النبوة، والذي يسكن في بيت إيل،.. ولعل من أصعب الأمور أن تأتي العثرة إلينا ممن هم أكبر منا سناً أو أكثر دراية في حياة المعرفة أو الفهم المسيحي،... ونحن لا نعلم لماذا ذهب الشيخ يبحث عن الشاب ليلتقي به، ويدعوه إلى الطعام، ويكذب عليه،... هل دعاه بدافع الإعجاب، فهو شاب قد بز الشيوخ، وهو صغير قد فعل ما لم يفعله الكبار، وهو المتكلم فيما أغلق غيره الفم وخاف من الكلام فيه،.. وهو الابد أن يجيبه، لأنه جرؤ على ما لم يجرؤ عليه هو،... لقد أرسل الشيخ أولاده إلى الحقل الكبير، ولم يذهب هو، ربما إبقاء على شيء من الإحساس الديني، بأنه لا يجوز له أن يذهب إلى منكر يفعله الملك، وهو لا يريد في الوقت عينه أن يسيء الملك التفكير فيه، أو يتصور إذا امتنع هو وأولاده معاً، أن هذا الامتناع هو نوع من العصيان الذي قد يعاقب عليه وإذا فلا مانع عنده من أن يداور الأمر، فلا يذهب هو، على أن يذهب أولاده، ولن يجد الملك غضاضة من قبول الوضع في التصور أن الشيخ قد يكون مريضاً أو عاجزاً عن المجيء، ما دام يوجد من يمثله ويحل محله،.. وعندما عاد أولاده ليقصوا عليه الأخبار المثيرة في ذلك الشاب الذي شق الصفوف بشجاعة، ووقف أمام الملك ليرعد في وجهه برسالة الله،... استولى على الشيخ الإعجاب وقاده هذا الإحساس بالإعجاب، إلى أن يدعو الشاب إلى بيته، حتى ولو اختلق الأمر وصور له أنه مرسل إليه بالرسالة من الله ليسهل عليه قبول الأمر والاستجابة له!!.. على أن البعض يصور الوضع تصويراً آخر، إذ يعتقدون أن الشيخ قد ذهب إلى الشاب مدفوعاً بالحسد منه، أليس هو الأكبر سناً؟ وها هو قد جلس في بيت إيل أخرس الفم واللسان، دون أن ينطق بكلمة لأن الملك أغلق الأفواه، وهوذا شاب جديد أفضل وأحسن وأعظم منه يتكلم بما عجز هو عن أن يفعله،... وهو إذا لم يكن له مثل هذه البطولة العظيمة فلا أقل من أن يصور لنفسه أنه يمكن أن يكون شريكاً صاحب الفضل في جانب من هذه الخدمة، عندما يرى الناس الشاب داخل بيته، وعلى مائدته، وإذ لم يقبل النبي مائدة الملك إطاعة لأمر الله، فإنه يقبل مائدة الشيخ النبي لأن الأخير شريك في الرسالة العظيمة التي قام بها الأصغر!!... نحن لا نملك أن نعرف تماماً وعلى وجه التحقيق الدوافع التي دفعت الكبير إلى الكذب على الشاب،.. ولكننا نعلم بكل يقين أن الشاب أخطأ خطأ فادحاً قاتلاً!!... وذلك لأنه أبهم الرسالة الواضحة المرسلة له من الله،.. نحن نعلم أن الله كلم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة،... وليس من السهل أن نعلم الطريقة التي تكلم بها إلى هذا النبي وحدد له بكل وضوح رسالته إلى يربعام... فهو مرسل من الله ليتحدث عن نبوة ستبدأ به وتنتهي بملك في بطن المستقبل البعيد اسمه "يوشيا" وسيأتي هذا الملك على بعد ثلاثة قرون من يربعام، ولكنه سيأتي ليقود حركة واسعة من الإصلاح، ويحرق عظام الكهنة الكاذبين، ويطهر الأمة كلها،... ومثل هذا الكلام الواضح لا يحتمل الشبهة والتردد، فإذا جاءه شيخ أو ملاك من السماء ليقول له ما يبهم هذه النبوة في جانب منها أو ما يلاحقها من أمر إلهي واضح صريح، فإن واجبه الكامل أن يرفض رفضاً قاطعاً، أية أفكار أو مزاعم تدعى أنها منسوبة إلى الله، والسر واضح بين لا يحتمل الإبهام والتردد، لأن الله لا يكذب أو يناقض نفسه وأقواله،... لكن النبي الشاب، وقد اختمرت التجربة تحت البلوطة في ذهنه، كان أشبه ببلعام بن بعور الذي عاد يسأل الله، ما يعلم يقيناً أن الله كشفه له بكل وضوح.. كان الشيطان قد وجه إلى الشاب ضرباته الشديدة التي جعلته يترنح، وجاءت كلمات الشيخ الكاذبة، لتكون الضربة القاضية الأخيرة عليه!!... على أن الأمر الأكثر إثارة وعجباً، أن الشيخ وهو على المائدة أجبره الله على أن ينطق بمصير الشاب التعس ومصرعه الوشيك على الحدوث، ومن حقنا أن نقف هنا على حقيقة بالغة، إن المجرب في العادة لا يشفق على الضحية، وسيكون هو أول من يخبرها بالقضاء الإلهي الذي يقع عليها،.. ومن المحزن المؤلم أن النبي الشيخ بعد أن سمع بمصرع النبي الشاب أخذ يصيح عليه قائلاً: "آه يا أخي".. ونحن نسأل عن هذه الصيحة أو هذا النوح أو البكاء، وما معناه أو مغزاه،.. أهو نوع من الإحساس بالذنب أدرك الرجل إذ علم أنه السبب في هذا المصرع البشع؟!!.. أم هو نوع من الألم عندما نرى أنفسنا تجاه مقتل رجل عظيم، ولا كل الرجال!!.. أم أن الرجل مد بصره بعيداً فرأى في المصرع رمزاً لمصرع أمة بأكملها؟!!... قد يكون الأمر واحداً من هذه، أو قد تكون هذه جميعاً مختلطة معاً!!... النبي والأسد كان مصرع النبي قاسياً بشعاً: "فصادفه أسد في الطريق فقتله" ولابد لنا أولاً وقبل كل شيء أن ندرك هذه الحقيقة أن ما يأتي في فهم الناس على أنه "مصادفة" سيئة، لا يمكن أن تكون في واقعها إلا أمراً إلهياً معيناً،... ومهما كانت المصادفة رهيبة، فإنه لا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها،... والمصادفة عند الناس مردها في الواقع صعوبة التحليل، ومعرفة الخط الإلهي، في الأحداث والحوادث، ويكفي أن تقرأ مثلاً ما جاء في المزمور المائة والرابع: "الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها"... والشطر الأول يتحدث عن الظاهرة في الحيوان الأعجم الذي يحركه الجوع إلى الزمجرة والخطف،... والشطر الثاني يتغور إلى الأعماق، إذ تتحول الزمجرة إلى ما يشبه الصلاة والالتماس من الله أن يعطيها الطعام،.. وفي مصرع النبي جاء الجواب هنا بالدليل العكسي، إذ أن الأسد لم يأكل الجثة أو يفترس الحمار، ووقف إلى جوارهما حتى جاء الشيخ وأخذ الجثة ليدفنها!!... ولعلنا نستطيع أن ندرك هنا، أن المادة الصماء، والغريزة المنفعلة، والعقل المفكر، والقلب الواعي: تخضع جميعها، وتتحرك تحت سلطان الله وأمره وسيطرته، وأن كل ما في الوجود، يتمم مشيئته، ويعمل لمجده، وينتهي إلى إثبات مقصده العلوي العظيم!!... والسؤال بعد هذا كله لماذا قضى الله على نبيه بهذه الصورة القاسية الشديدة البشعة؟ هناك أكثر من تفسير لذلك،... والتفسير الأول: أنه ابتداء القضاء من بيت الله، وأن الله يحكم كل شيء، لا بحسب مفهوم الترتيب البشري، بل بحسب الحكمة العلوية الخفية، التي تختلف أفكارها عن أفكار الناس، وطرقها عن طرقهم،... ولو وضع الأمر بحسب الترتيب البشري، لكان المتصور أن الضربة الأولى لابد تقع على يربعام بن نباط، ولكن الله أرجأ هذه الضربة اثنين وعشرين عاماً ليقضي عليه بعد أن تمادى في شره، ولم يرع، أو يتنبه أو يقبل أصوات الله المتلاحقة،... وكان التصور الآخر أن الضربة الثانية تقع على عاتق الشيخ الذي كذب عليه، وكان السر والمشجع على ضياعه ولكن الشاب مات قبل الشيخ، ودفنه الشيخ في قبره، وتصورناه أنه يمكن أن تقع عليه الضربة الثالثة جاء ترتيبه أولاً لكي يتأكد الناس أن الله لا يمكن أن يتحيز أو يحابي الوجوه أو كما يقول الرسول بطرس: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله، فإن كان أولاً منا فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله، وإن كان البار بالجهد يخلص فالفاجر والخاطيء أين يظهران... وسندع الله يضرب ضرباته الرهيبة التي ستأتي فيما بعد، لكن على المؤمن أن يتحذر لأن الله قد يجعله أولاً عبرة للآخرين، وإذا كانت خطية النبي قد عوملت هذه المعاملة، فستكون معاملة يربعام أقسى وأشد وأشنع، وستبقِى عظام النبي ثلاثمائة عام في قبرها، أما يربعام فسيلحقه الدمار الرهيب: "لذلك ها أنذا جالب شراً على بيت يربعام، وأقطع ليربعام كل بائل بحائط محجوزاً ومطلقاً في إسرائيل وأنزع آخر بيت يربعام كما ينزع البحر حتى يفنى من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء لأن الرب تكلم".. لقد قضى الله على نبيه أولاً، لأن انتظاراته من هذا النبي كانت أكثر وأعظم، ولأنه بدأ حسناً، وانتهى سيئاً، أو لأنه -في عرف تفسير آخر- كان في انحداره النفسي يخشى أن تكون حياته لو عاش أسوأ بما لا يقاس منه عند مماته،.. ووجد من قال آخر الأمر: إن أحكام الموت في حد ذاتها تعلو على كل فهم بشري، وتنتظر يوماً لم يأت بعد عندما يقف الجميع أمام العرش العظيم الأبيض: "ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات كما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم".. ولعله من الواجب أن نتريث فلا نتعجل الحكم قبل هذا اليوم الرهيب العظيم!!... على أن بعض المفسرين -مع تسليمهم بهذا كله- رأوا النبي في موته رمزاً لإسرائيل بأكملها، لقد قتله الأسد، ولم يفترس الحمار، لأنه وصل إلى مركز أسوأ من الحمار نفسه، لأن الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم، والذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وعندما سقطت المملكة وتبادعت عن الله، أرسل إليها السباع لتفتك بالناس، وكانت جثة النبي وقد قتلها الأسد رمزاً لجثة إسرائيل بأكملها، بعد أن قضى عليها الله قضاءه العظيم العادل!!... مهما تكن الصورة،.. فإن قصة الرجل ظلت محفوظة عند الناس حتى جاء يوشيا الملك بعد ثلاثمائة عام ليراها معروفة للجميع، وغير مجهولة من أحد!!... وعلى أي حال فإن مصرع النبي سواء في المفهوم الشخصي أو الرمزي كان عميق الدلالة، ممتد المغزى بعيد الأثر!!... النبي والصورة مات النبي ودفن في بيت إيل، ودفن الشيخ إلى جواره، وكانت تعلو المقبرة صوة عالية مميزة رآها يوشيا الملك، ولفتت نظره، ولم تلفت نظره وحده، بل إنها لفتت أنظار التاريخ إلى أن تنتهي الأرض وما عليها،... والصوة تؤكد صدق الله الساهر على كلمته ليجريها، والذي يحكم التاريخ إلى ألف جيل، ولا يمكن أن يسقط حرف واحد من كلمته الصادقة الصالحة الكاملة الأبدية!!... وإذا كان يوشيا قد أخرج عظام الكهنة الأشرار والناس، وأحرقها ليطهر الأرض منها. فإنه أبقى على عظام النبي دون أن تمس، وهي التفرقة التي لابد أن تكون عندما يفرق الله في الأبدية، بين الأبرار والأشرار: "فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية" وإذا كانت القبور تختلط في القصة الأرضية، ولا تستطيع أن تفرق أو تفصل بينها بعضها والبعض، أو بين من فيها، فسيأتي ذلك اليوم الذي تصنع فيه التفرقة الحاسمة الأبدية!!... وإذا كانت القرون تمضي قبل أن يحدث مثل هذا الفصل الذي صنعه يوشيا بعد ثلاثة قرون ليتمم مشيئة الله، فإن ثلاثمائة عام أو آلاف الآلاف من الأعوام، لا يمكن أن تسقط حرفاً واحداً من صدق الله حتى يفصل إلى الأبد بين الأشرار والأبرار!!... وثمة كلمة أخيرة نذكرها ههنا، فإذا كان القبر الواحد قد جمع بين النبييين، فهل هذا يعني أنهما قد ذهبا إلى مكان واحد أبدي؟! وهل كانت عقوبة النبي الشاب تأديباً له، ليخلص كما بنار؟؟ وهل كان موته عظة للشيخ الآخر، ليتعلم من حياة الشاب وموته، ما كان ينقصه من تعليم وتذكير، وهو يعيش في بيت إيل على مقربة من يربعام الذي أخطأ وجعل إسرائيل يخطيء؟!!... لندع كليهما في الحياة أو الموت، حتى يظهر أمام عرش المسيح، وليكن لهما من الجزاء أو المكافأة أو المكان لا بحسب ما يفكر الناس أو يتصورون أو يتخيلون، بل بترتيب الله الحكيم الذي بيده وحده الحياة والموت والجزاء والمكافأة والدينونة ولنقف في كل الأحوال أمام جلاله السرمدي الأبدي صائحين بتضرع واحد "في الغضب أذكر الرحمة".. آمين فآمين فآمين..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل