المقالات

12 أغسطس 2022

أما أنا فصلاة

" الصلاة سلاح عظيم ، وكنز لا يفرغ ، وغنـى لا يسقط أبداً ... ميناء هادئ وسكون ليس فيه اضطراب " . ( القديس يوحنا الذهبي الفم ) " وقال لهـم أيضـاً مـثلاً في أنه ينبغي أن يصـلى كـل حـين ولا يمـل ، قائلاً : كـان في مدينـة قـاض لا يخـاف اللـه ولا يهـاب إنساناً . وكـان في تلك المدينـة أرملة . وكانـت تـأتى إليـه قائلة : أنصـفنـي مـن خـصـمي ! وكـان لا يشاء إلى زمـان . ولـكـن بعـد ذلـك قـال في نفسـه : وإن كنـت لا أخـاف اللـه ولا أهـاب إنسـاناً فإني لأجـل أن هـذه الأرملـة ثـزعجني ، أنصـفها ، لــلا تـأتي دائمـاً فتقمعنـي ! وقـال الـرب : اسمعـوا مـا يقـول قاضـي الظلـم . أفـلا ينصـف اللـه مختاريـه الصارخين إليـه نـهـاراً وليلاً ، وهـو متمهل عليهم ؟ أقـول لـكـم : إنـه ينصفهم سريعاً ! ولكن متى جاء ابن الإنسان ، ألعله يجد الإيمان على الأرض ؟ " ( لو ۱۸ : ۱- ۸ ) . الصلاة يا عزيزي هي الخطوة الثانيـة التـي سـنخطوها سوياً ... فالصـوم والصلاة يخذلان الشيطان ، والزهـد يـهـزم طغيانـه ... لذا فقـد سـلط الكتـاب المقدس الضوء على مبدأ ، أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل من خلال قصة قاضي الظلم . فـإذا كـان قاضـى الظلـم الـذي ظلـم الأرملـة قـد أنصـفها في النهايـة لأجل لجاجتها ، فما بالك بقاضي القضاة الكلي العـدل ألا ينصـف مختاريـه ؟! . وهنا يأتي السؤال : كيف أصلي كيف أتمتع بصلاة حقيقية ؟ وللإجابة على هذا السؤال دعنا نتأمل قليلاً لقـد وهـب اللـه الإنسان نعمتي العقل وحرية العمل ؛ ليصنع بهما العجائب ، ثـم منحـه البعـد الثالث القلب ليكون موضع الالتقاء بالله ، فصار الإنسان عابـداً ، وتولدت داخـل الإنسان الرغبة في الله ، وصارت الصلاة هي التعبير عن رغبة الإنسان في اللـه بل صار في داخل الإنسان عطش وحنين للأبدية . دعنا نًرسي معـا مبـادئ هامة عن كيفية الصلاة :- 1 - عندما تصلي ضع في ذهنك أنك أمام الحضـرة الإلهية كل التقدير . كل الخشوع . كل الرهبة .كل الاحترام . وكأنك تطرح العالم إلى خارج . ٢ - عندما تدخل إلى جو الصلاة اكشف عن خطاياك الصلاة الحقيقية تحتـاج مـن الإنسان أن تكون بالحقيقة خطايـاه واضحة أمامه ... ضع أمامك قول داود النبي : " لك وحدك أخطأت ، والشر قدامك صنعت " ( مز 50 : 4 ) . " طوبى لمن يبصر خطاياه أفضل ممن يرى ملائكة " ( أحد الآباء ) . 3 - عندما تدخل إلى جو الصلاة املأ قلبك بروح الشكر . أعمال الله وعطاياه العظيمة في حياة كل منا لا تنتهي . نعمة الصحة . نعمة الحركة . نعمة السلام . نعم لا تُحصى . احرص دائماً أن تشكر الله على عطاياه العظيمة ونعمه في حياتك . ٤ ـ تذكر مجتمعك الذي تحيا فيـه : أسـرتك ... كنيستك . خدمتك اذكر مخدوميك وأفراد أسرتك بأسمائهم ، وأخيـراً اذكـر نفسك . وضع أمامك دائماً أن تمزج صلاتك باللجاجة . ه ـ احرص أن تمارس الصلاة بشكل يومي ... خصص وقتاً كل يوم تجلس فيه ولا تفكر سوى في الله . ابدأ يومك بالصلاة صباحاً عقب الاستيقاظ ، وكذلك مساء عند النوم . ولیکن نظامك فيها هو :- تهيئـة الجـو الـعـام للصـلاة : مكـان واحـد للـصـلاة ـ بـه أيقونـة الصلب أو صليب في الشرقية مع بعض صور أخرى . الإعداد للصلاة : يلزم أن تعـد أنفسنا قبـل وقـت الصلاة ، فـلا يـليـق أن ننتقـل مـن الأشياء التـي كنـا منهمكين فيها إلى الصلاة مباشـرة لأنك إن فعلت ذلك لن تتلذذ بالصلاة . ليكن لك : قراءة روحيـة ... ترنيمة أو لحـن ... الجلوس في صمت التأمل في صورة الصلب ... قبل البدء في الصلاة . ابدأ الصلاة بالسجود 3 مرات إلى الأرض . امسك صليب وقت الصلاة في يدك . ارفع يديك وعينيك نحو السماء . تحـدث مع اللـه لـيس بألفاظ عامـة ( مثـل ضابط الكـل ) ، بـل بألفاظ حيـة مثـل : " يا بهجتي ، يا فرحي ، أحبك يارب يا قوتي " . لتكن صلواتك من القلب ، فاللـه لـن يسـألك كـم مـرة صـليت ؟ أو كـم ساعة وقفت ؟ ولكن سيسألك " كيف صليت ؟ " . كـن صـريحاً في حـديثك وافتح قلبـك للـه وصـل قـائلاً : أعطنـي يارب أن أحبك ... عرفني يارب من أنا .. ه بعد الصلاة استرح قليلاً واشكر الله بالصمت . أما عن الصلاة كحياة ، فهناك خطوات أعمق : اقرأ عن رجال الصلاة القديسين ... أمثال داود النبي . اقرأ عن فضيلة الصلاة ، وماذا قال الآباء عنها . استمتع بالصلوات المذكورة في الكتاب المقدس وتعلم منهـا كيـف كـان هؤلاء القديسون يصلون بها . درب نفسك على الصلاة كل حيـن : اختر صلاة تشعر بمذاقها في نفسك . رددهـا أثنـاء وقـت فراغـك وأثنـاء وجـودك بيـن الآخـرين دون أن يشعر أحد . كررهـا وأنـت عـلى فراشـك قبـل أن تنـام ، وكذلك عندما تستيقظ ، فيكون الله أول من تخاطبه . إليك هذا المثال العملي : عند الاستيقاظ قل : " هذا هو اليـوم الـذي صنعه الرب ، فلنفرح ونبتهج فيه " ... ضع في فكرك : هذا اليوم هو ملك للـه ـ وأنـت أيضـاً مـلـك للـه . اطلب بركة الرب " باركني يارب ، كن معي " . اخرج من منزلك حاملاً رسالة اللـه الـمـفـرحـة للجميع " أنت سفيـر المسيح على الأرض " ثق أن كل ما تمر به هو من يد الله صانع الخيـرات محب البشـر كل شخص تقابله هو هبة من الله .كل ظـرف تجـوزه مهـما كـان هـو هدية الله لك . كل ما تراه من أشجار ومبان هو عطايا الله . " لقد وهب لنا أن نكـون شـفراء المسيح على الأرض ، أحياناً منتصـرين وأحياناً مصلوبين ، المهم أن نكون دائـمـاً مستعدين فـلا نـهـرب أبـداً " . ( أحد الآباء ) بهـذا البــرنامج تكـون الصـلاة والحيـاة وجهين لعملة واحـدة " صلوا بلا انقطاع " ( اتس ٥ : ١٧ ) . هناك خطوة هامـة وهـي أن تقـيـم نـفـسـك بمقاييس نجاح الصلاة : ماذا يدفعك إلى الصلاة ؟ هل هو الحب ؟ هل الخوف ؟ هـل الواجـب ؟ هـل إرضاء ذاتك ؟ عندما تنتهي من الصلاة ما هو شعورك ؟ هل تفرح وتسـر ؟ هـل تـود لو استمرت ؟ وأنت واقف للصـلاة بمـاذا تشعر : هـل سـعادتك فـوق كـل سـعادة ؟ هـل فكـرك يذهب بعيـداً ؟ هـل يـراودك هـذا الإحسـاس " إن لم أصـل فقـد يسحب الله عنايته بي " . إن البعيد عن حياة الصلاة مصيره مؤلم ، وقد عبر عنه أحد الآباء بقوله : " إن لم تكن قد رأيته على الأرض فلن تراه في السماء " . والآن دعنا نتأمل سوياً في نوعيات الصلاة : الصلاة الحقيقية هي : رغبة واشتياق وحـب قبـل أن تكـون فـرض أو أمـر أو مجرد وصية أو مجـرد عبـادة أو مجرد طلـب . ونوعيات الصـلاة حـددها بولس الرسـول حـيـن قـال : " أطلب أول كل شيء ، أن ثقـام طلبـات وصـلوات وابتهالات وتشكرات " ( اتي ٢ : ١ ). الطلبـات : هـي الـتماس بخصـوص خطايانا ؛ لطلـب الصـفح والنمـو في الفضيلة وهي تنبع من الحزن على الخطية . الصلوات : تمثل الصلة الحقيقة والحديث الشخصي بين الإنسان والله . الابتهالات : هـي صـلوات مـن أجـل الآخـرين ( كـل العـالم ) تـأتي مـن حرارة القلب والشعور بمدى المسئولية عن جميع الناس . التشـكرات : هـي تـأملات في أعـمال اللـه في حياتنـا وبركاتـه لنـا وهي تسبيح وتمجيد يتولد من التعمق والتأمل في صلاح الله . وبصفة عامة فإن الروح القدس هـو الـذي يحيـي داخلنـا مشـاعر الصـلاة أي يترجمها أمام الله " الروح أيضاً يعيـن ضعفـاتنـا ، لأننا لسنا نعلم ما تصلي لأجلـه كما ينبغي ... " ( رو ٨ : ٢٦ ) . • والآن دعنا نتساءل : ما هي معوقات حياة الصلاة ؟ 1 - قلة الوقت : تعتبر الشكوى من قلة الوقـت الـمخصص للصـلاة أمـراً واهيـاً ، وتبـريراً كاذباً للنفس في إهمالها وتوانيها وتهربها من الوقوف أمام الله . ولكن بقدر اشتياق الإنسان للصلاة يعطيـه الـروح القدس فرصاً عظيمـة للتنعم والامتلاء من الله ... اسأل نفسك : كم دقيقة في حياتك تضيع هباء ؟ .. بلا شك كثيـر .. هل تستطيع أن تجمع " الفتات الضائع " وتقدم فيه صلاة تكون لله ولك أيضاً ؟! ... " تدرب على أن تتحكم في وقتك وليس العكس " . ۲ - تعب الجسد : الجسد يدعي أموراً للهروب من الصلاة ، كإدعاء التثاؤب والمرض والضعف. وآلام الـرأس والظـهـر وشـدة الحاجة إلى النـوم ... أو اختصـار الصـلاة . أو السرعة ... الخ . هذه كلها أسباب يمكنك بالتدريب المتأني الانتصار عليها ، ولكن الخطأ يكمن في السلوكيات التي تتعارض مع حياة الصلاة ... فمثلاً يصـلي الإنسان في وقت استهلك فيه جسدياً ... ولذا حذرنا الآباء : " إن كنت تريد أن تصلي كـما ينبغي لا تفعل شيئاً ضد الصلاة ، لكي يقترب منك الله " . وكما أن الذهن في الصلاة يتشكل حسب الحالة التـي يـكـون عليهـا قبـل الصـلاة ، فـمـا يـحـدث في الفتـرة الـتـي تسـبق الصـلاة مـن ضـحك وأحاديث أو قلق أو تفكيـر يشغل مخيلتنا أثناء الصلاة ... لذلك يجدر بنا أن نهتم بهذه الفترة عن طريق الألحان أو القراءة . 3 ـ تأخر الاستجابة : لا بد أن يكون دافع الصلاة هو الحب وليس الطلب . وهذا الحب نقدمه في ثقة تامة ، بأننا ننال ما نسأل ولا نشك في أن الله مهتم بنـا ، وقادر أن يعطينا طلبنا " كل ما تطلبونه حينما تصلون ، فآمنوا أن تئالوه ، فيكون لكم " ( مر ١١ : ٢٤ ) لنا ذهبي الفم قائلاً : " إن الله حينما يعطي أو لا يعطي إنما يفعل ذلك ويوضح لخيـرك " . وهناك أسباب لتأخر الاستجابة :- الله يؤخر الطلب لحكمة يراها ، فلا يمكنك إدراك حكمة الله . لأن ما نناله سريعاً لا نشعر بقيمته . لأنه قد تكون طلباتنا في غير صالحنا. • قد يتأخر الـرب حتى نلتجئ إليـه أكثـر ونـدنـو مـنـه أكثـر ، ولكـن عليك أن تثق دائماً أن ما يفعله الله إنما يفعله لنفعك الروحي . قصة قصيرة روى المتنيح " القمص إبراهيم عطيه " بالقاهرة هذه القصة : انتقل لإحدى الأرامل ابنها الوحيد ، وإذ أدرك مدى تعلقها به لم أعرف ماذا أفعل ؟ ذهبت إلى منزلها ، ففتحت الخادمة الباب . سألتها عن السيدة ، فأجابت : " إنها في حجرتها الخاصة ... لقد أغلقت الباب ، وطلبت منى ألا أطـرق البـاب مهما تكن الظروف ... أنا آسفة يا أبي ، لا أستطيع أن أخبـرها بحضورك " . طال انتظاري ، وأخيراً فتحت الباب ، وكانت ملامح وجههـا تكشـف عـن سلام عميق يملأ أعماقها . قـالـت : " أنـا آسـفـة يـا أبي لأني تأخرت في خروجي لمقابلتك ... أريد أن أطمئن قلبك ... ما كنـت تـود أن تقدمـه ، قدمـه لي الـرب بفيض ... لي الآن ساعتان راكعة أمام إلهي . وصممت ألا أتركه حتى يفيض على بتعزياته السماوية ... الآن أنا في سلام ... صل يا أبي ليكمل الله عمله معي " . قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨ عن كتاب خطوات
المزيد
02 أغسطس 2022

والدة الاله

"ها ان العذراء تحبل وتلد ابنا ، وتدعو اسمه عمانوئيل""اشعياء ١٥:٧" وقد كان ذلك كله ليتم ماقاله الرب بفم النبي القائل "ها ان العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانوئيل ، الذي تفسيره ( الله معنا )"متى ٢٢:١'٢٣" "لأنه يولد لنا ولد ، ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا ، الها قديرا ، اب أبديا ، رئيس السلام" "أشعياء٦:٩" "وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا ، وتسمينه يسوع وهذا يكون عظيما وابن العلي يدعى" "لو٣١:١'٣٢" ١- العذراء في بيت أبويها أبو العذراء هو يواقيم وأمها هي حنة ، وكان كلاهما بارا نقيا لكنهما كانا مجربين بتجربة الحرمان من النسل وظلا يسألان الرب أن يرزقهما بنسل دلیل رضاه تعالى عليهما ، ولنزع عارهما من بين الناس ، وقد نذرا نظرا أن الابن أو الابنة التي يرزقان بها يهبانها لله خادمة في هيكلـــــــه واستجاب الوهاب العظيم طلبتهما وأرسل لحنة أولا ولزوجها يواقيم ثانيا الذي كرس أربعين يوما يقضيها في تعبد البرية لهذا الغرض ، أرسل الرب لهما الملاك غبريال ( جبرائيل ) الذي بشرهما بميلاد ابنة يدعوانها مريم ومنه يكون خلاص آدم وذريته وتم الوعد الالهى بميلاد السيدة العذراء في يوم الأحد الذي يـقـابـل بـحسب تقويمنا القبطى ( أول بشنس ) وظلت فـى عناية والديها اللذين لمسا فيها منذ صغر سنها بوادر عظمـة شأنها ، وقد بذلا في تربيتها في خوف الله وتقواه اهتم الوالدين اللذين يقدران الفضيلة وطهارة السيرة لأنهم كانا بارين سالكين في جميع وصايا الرب بلا لوم بقيت العذراء في بيت أبويها مدة سنتين وسبعة شهور وسبعة أيام حتى حان الموعد الذي فيه كان لابد للوالدين أن يبـرا بنذرهما أمام الله. ( ۲ ) العذراء في الهيكل : ـ كان يوم الأربعاء 3 كيهك هو يوم وفاء النذر بتقديم العذراء لخدمة الهيكل المقدس ... وبدأت منذ ذلك اليوم تخدم الله بطهارة نفسها وقد وجدت نعمة عند كهنة الهيكل وعند جميع من رآها ، وكان الجميع يشعرون بحياتها السمائيـة لدى تطلعهم الى وجهها النورانی ... قضت العذراء الطاهرة مدة بقائها في الهيكل في عبادة وصلوات وكانت الملائكة تحدوها بعناية شاملة وكانت تقدم لها طعاما سمائيا بينمـا كانت تعطى هي طعامها للفقراء والمساكين ولما بلغت سن البلوغ تشاور الكهنة في مصيرها لأن لا يجوز أن تبقى في الهيكل بعد هذا السن ... غير أن موقف العذراء يحتاج الى تفكير وروية لأن العذراء عند بلوغها هذه السن كانت يتيمة من الأب والأم ، فأبوها قد مات بعد ست سنوات وأمها بعد ثماني سنوات من عمرها ، وتعيد الكنيس بنياحة يواقيم البار في 7 برمودة من كل عام . أوعز الملاك الى زكريا أن يجمع عصى شيوخ المدينة وشبابها ويكتب على كل عصا اسم صاحبها وفي اليوم التالي افرخت العصا التي كان مكتوبا عليها اسم يوسف ، وزاد علـى ذلك أن حمامة بيضاء جميلة استقرت على رأسه . ففهم الكهنة أن هذه دلالة على أن ارادة الله اقتضت أن تكون مريم فى حمى يوسف ... وأحسوا أن الله تعالى يحب هذه العذراء حتى أنه زودها بهذه العجائب . وحرصا على سمعة العذراء التي ستدخل في كنف رجـــل ، رأى الكهنة وجوب عقد زواج رسمى بينهما ، وكانت الحكمة الالهية وراء ذلك اكمال التدبير الالهى بتجسد الفادی ، لأنــــه ان حبلت العذراء دون أن يكون بينها وبين يوسف عقد زواج رسمی لرجمت بالأحجار حسب الشريعة قبل أن تلد المسيح ويتم تجسد الفادي ولما كان العقد رسميا لذلك استطاع يوسف أن يأخذهـا الى بيته وأن تنطلق معه الى حيث شاء هو أن ينطلق فقد ذهبت معه للاكتتاب في بيت لحم وقد سافرت معه إلى مصر وبقيت في بيته حتى وفاته والدليل الثالث على أن العقد بين يوسف والعذراء كـان عقد زواجی رسمی انما هو أقوال الكتاب ونصوصه التي تثبت أن العذراء زوجة يوسف من ذلك قول الانجيلي " فيوسف رجلـهـا كان بارا" مت١٩:١ ثم أن الملاك ظهر ليوسف فى الحلم وقال " يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امراتك "مت٢٠:١... فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمـره ملاك الرب وأخذ امرأته مت٢٤:١، وقال القديس لوقا "فصعد يوسف ليكتتب مع مريم امراته " لو٥:٢ . ولهذا يكون قد اتضح لنا بالدليل التاريخي ، والدليل العقلي ، وأخيرا بالدليل الكتابي أن مريم العذراء كانـــــــــت مرتبطة مع يوسف بعقد زواج رسمی ... أما قول الكتاب أحيانـا عن العذراء أنها مخطوبة كقوله : " لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف مت١٨:١ ... ، وكقول القديس لوقا : فصعد يوسف ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى "لو٥:٢ ، فذلك لأنه رغم العقـد الرسمي بينهما كانت العذراء تنوى أن تظل بتولا ، وكذلك يـوسف الذي كان شيخا نحو التسعة والثمانين من عمره لم يكن يفكر في أن يعيش مع مريم كزوج مع زوجته بل كخطيب مع خطيبته فهـي امرأة رسما واسما وخطيبة فعلا وعملا نيافة مثلث الرحمات الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات اللاهوتية العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي عن كتاب السيدة العذراء
المزيد
20 مايو 2022

المسيح هو الطريق

أجمل ما في مسيحيّتنا هو شخص المسيح نفسه.. فنحن لسنا مجرّد "أهل كتاب" كما يدعونا البعض، ولكنّنا "أهل شخص"؛ أحبّنا إلى المنتهى.. أخذ جسدنا، وهزم الموت لحسابنا، وفتح لنا باب العضويّة في جسده، لكي يهبنا الحياة فيه..في حديث السيّد المسيح المُمتِع مع توما، في ليلة الصليب، ألمح له وللتلاميذ أنّه سيتركهم، ولكنّهم سيعرفون أين سيذهب، وسيعلمون الطريق.. فتحيّر توما بالأكثر، وقال له: «يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.» (يو14: 4-6)..هنا ينفتح لنا مفهوم جميل، وهو أنّه بوجودنا في المسيح فنحن في الطريق المؤدّي إلى الله.. وحول هذا المفهوم عاشت الكنيسة منذ عصر الرسل وحتّى الآن.. فقد كان المسيحيّون الأوائل، يُسَمَّوْن «أهل الطريق»، كما جاء في سِفر أعمال الرسل (أع9: 2 - أع19: 9، 23 - أع22: 4 - أع24: 14، 22)..!أحيانًا ننزعج، عندما نفكّر في كلام السيّد المسيح عن الطريق المؤدّي إلى الحياة (مت7: 13-14)، عندما وصفه بأنّه طريق كرب، وبابه ضيّق جدًّا.. ولكن بعد أن فهمنا أنّ الطريق هو المسيح نفسه، فهذا يطمئنّا جدًّا، بأنّ ثباتنا في المسيح سيضمن لنا الوصول بكلّ تأكيد..!لكن لعلّنا نفكِّر، ما هو دورنا نحن بالتحديد؟! فإذا كان السيّد المسيح هو الطريق، هو طريق الخلاص، هو طريق الحياة الأبديّة.. فماذا نفعل لكي نضمن الخلاص والحياة الأبديّة؟!ينبّهنا القديس بولس الرسول قائلاً: «كَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ، مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ..» (كو1: 6-7).. فسلوكنا وكلّ تصرفاتنا ينبغي أن تكون نابعة من عضويّتنا في المسيح؛ فهو الطريق الذي يحملنا فيه..وأيضًا يضع لنا القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية (2بط1: 3-11) روشتّة متكاملة عن كيفيّة السلوك في الطريق.. فبعد أن يؤكِّد لنا أنّه قد وُهِبَت لنا المواعيد العُظمى والثمينة، وصِرنا شركاء الطبيعة الإلهيّة، باتحادنا بالمسيح.. يطلب مِنّا ما يلي:1- رفض الفساد والشهوات العالميّة، بل والهروب منها تمامًا.2- بذل كلّ الجهد في النمو الروحي.. فنُضيف على الفضيلة معرفة نقيّة وصبرًا، ونتحلّى بمخافة الله والمودّة الأخويّة، ويمتلئ قلبنا حُبًّا للجميع..3- تثبيت أقدامنا في طريق الذي اختارنا ودعانا هذه الدعوة السماويّة.ثمّ يختم كلامه بالقول: «أَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ».. وهذا كلام مُشجِّع جدًّا، ويُعني أنّه إذا سلكنا حسب الخطوات السابقة، سيكون باب الملكوت مفتوحًا لنا على اتّساعِهِ.. وسيكون السير في الطريق مُمتِعًا، ومُفرِحًا.. وغاية في الأمان والطمأنينة..!فإذا كان الأمر هكذا، فلماذا يصفّ الرب يسوع الباب بأنّه ضيّق والطريق أنّه كَرْبٌ وصعب، مادام الطريق هو المسيح نفسه..؟!الحقيقة أنّ صعوبة الطريق تأتي من أنّ المسيح الذي نحن ثابتون فيه هو مسيحٌ مصلوب، ومُهان، ومجروح، ومرفوض من العالم.. مع أنّه قائم وغالبٌ أيضًا..!الطريق بالتأكيد مؤدّي إلى الحياة، ولكنّه يمرّ عبر أرض غربة هذا العالم، وسط مقاومة شرسة من عدوّ الخير.. ولذلك فإنّ السائر فيه بثبات ينبغي أن يتألّم مع المسيح، كعضو في جسده.. لابد أن يأخُذ نصيبه من آلام هذا الجسد الذي دخل إلى عضويّته بالمعموديّة (1كو12: 13)، لكي يأخُذ أيضًا نصيبه من المجد والقوّة والفرح..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء شيكاغو
المزيد
04 نوفمبر 2022

كيف تكون عائلتك مقدسة؟

أن أكلمكم اليوم عن كيف تكون عائلتك مقدسة؟ كيف نعيش فكرة الأسرة كما أرادها السيد المسيح؟ القديس يوحنا ذهبي الفم له عبارة جميلة يقول فيها: "الأسرة أيقونة الكنيسة". عندما ننتهي من بناء كنيسة، نزينها بالأيقونات، كذلك كل أسرة منكم هي أيقونة تجمّل الكنيسة. هل بيتك فعلًا أيقونة حلوة، أم أيقونة مشوهة ومهملة؟ المسيح هو أصل الأسرة: نحن نؤمن أن الرابطة الزيجية هي بين رجل وامرأة وفي وسطهم المسيح، لذلك نقول إن رابطة الزواج ثلاثية. في يوم الإكليل عدتم إلى بيتكم ثلاثة أشخاص لا اثنين لأن المسيح معكم في البيت. هل المسيح سعيد بكم وببيوتكم؟ المسيح هو بداية الاسرة، وكأن السيد المسيح يمسك بيد الزوج بإحدى يديه، ويمسك بالأخرى يد الزوجة، وكلا الزوجين يمسك أحدهما بيد الآخر من ناحية، وبالمسيح باليد الأخرى؛ وهذا ما يجعل رابطة الزواج رابطة قوية لأنها بحضور وحلول المسيح. لذلك نؤمن بوحدة الزواج، أي الزواج بشريك واحد، ونؤمن بدوام الزيجة وأنها لا تنحل إلا بالخطية أو الموت. كذلك نؤمن أن كل زيجة لها ثمار، إمّا أبناء أو فضائل أو خدمات؛ لا نعرف عقمًا في الزيجة المسيحية.. كيف إذًا تكون بيوتنا وأسرنا مقدسة؟ (1) الحب الحب قدمه الله لنا كبشر «لأنَّهُ لَمْ يُرسِلِ اللهُ ابنَهُ إلَى العالَمِ ليَدينَ العالَمَ، بل ليَخلُصَ بهِ العالَمُ» (يوحَنا 3: 17). حين يتزوج الإنسان وينجب فإنه يأخذ من حب المسيح ويقدم في أسرته، وهذا الحب ليس بالكلام فقط. كلمة حب من حرفين: "الحاء" حياة و"الباء" بقاء، فبقاء الحياة يكون من خلال الحب الحقيقي الذي يضعه الله في قلوبنا. الحب عاطفة مهمة جدًا، والعاطفة نعمة من عند ربنا. الأسرة كيان الحب. وإذا أحببتم أبناءكم وبناتكم حبًا صحيحًا سيكبرون وهم يعرفون الله، لكن إذا غاب الحب، وعاملتم أبناءكم بقسوة، سيتكوّن عند الولد والبنت صورة سيئة عن الله. يقول الكتاب إن «النفس الشبعانة تدوس العسل» (أمثال 27: 7)، النفس الشبعانة من الحب في البيت، فمهما كانت الإغراءات لا يمكن أن يقع الأبناء. البيت الصحيح يُبنى على حب الله، ويشبع أفراده من الحب داخل البيت. إن مسئولية الأب هي أن يحتوي زوجته وأولاده.الحب أيها الأحباء يعني أن أسامح الآخر متى أخطأ في حقي، سواء شريك الحياة أو الأبناء. كما يعني الحب أن أنسى الإساءة؛ هذا هو حب المسيح الذي سامحنا على الصليب رغم خطايانا وضعفاتنا، ولا يعيّر أي إنسان (مثلما فعل مع السامرية وزكا). أظهروا الحب بوضوح لأولادكم، لكي تعيشوا فرحين ويعيشوا طفولتهم طفولة حب وطفولة فرح. من الأشياء المهمة جدًا لتوصيل الحب هي العناق، عانقوا أولادكم، لكي يشبعوا من عاطفة الحب، فالعناق يوصل لهم رسالة مباشرة أن لهم قيمة كبيرة عندنا، وأننا نفرح بهم. (2) الحوار الحوار مكمّل للحب. أكثر ما يتمتع به الإنسان أن يتكلم مع من يحبهم، لأن الانسان كائن ناطق، أعطاه الله نعمة الكلام لكي ينقل الأفكار والمشاعر. ما هي نوعية كلامك مع أسرتك؟ هل تخصص وقتًا للكلام مع الأسرة؟ يجب أن يكون هناك حوار بين أفراد الأسرة على الأقل نصف ساعة يوميًا، دون الانشغال بالموبايل أو المشاكل أو المتاعب. عندما نتحاور نعرف بعضنا البعض أكثر. علّم أولادك الحوار وكيف يعتذرون متى أخطأوا. الحوار بين الكبار والصغار يقوم على الحب. مشكلتنا أن الناس قد تدخل في الحوار كأنها في شجار! يوجد حوار ويوجد شجار ويوجد جدار، أي أنني اتكلم والآخر لا يجيب! نقرأ في الانجيل: «هلموا نتحاجج يقول الرب» (إشعياء 1: 18). الرجال بطبعهم قليلو الكلام، والنساء بالعكس. الرجل لا يحب التفاصيل، والمرأة تستفيض فيها. هذا الاختلاف طبيعي لذا يجب أن يتفهّم أحدهما الأخر. تعلموا أن تسمعوا أولادكم أيضًا ولا تقاطعوهم، بل احترموا مشاعرهم. الحوار يبدأ بالحب، وينمو بالحب، ويكمل بالحب. إذا كنت زوجًا أو زوجة، أو ابنًا أو ابنه، كبيرًا أو صغيرًا، تحتاج أن تهتم بالآخر، وتقول له كلمة تشجيع، دعاء، كلمة طيبة... كلنا نحتاج لهذا. (3) الحرية الحرية لا تعني الانفلات والفوضى. لا بد من وجود هامش من الحرية في بيوتنا. مهما فعل ابنك أو ابنتك، احتضنهم لكي تحافظ عليهم. أعطهم بعض الحرية. علموا أبناءكم أن يكون لهم شخصية في المجتمع الذي سيعيشون فيه، قادرين على التعبير عن أنفسهم، ولهم قدرة على الاختيار، فحين يكبرون يستطيعون اتخاذ القرارات الصحيحة. الحرية مرتبطة بالوصية التي نعيشها، وبالقانون المدني في المكان الذي تعيش فيه. عندما تضيّقون على أبنائكم تكون النتيجة أنهم يخفون عنكم أمورهم الخاصة، وتكون النتيجة أنهم يقعون في أخطاء متعددة قد تتطور حتى ترك المنزل. أنتم السبب إذا لم تعرفوا كآباء وأمهات كيف تحتوون وتحتضنون أبناءكم.الحرية تعني احترام الآخر حتى ولو أخطأ. الحرية معناها الإرشاد، أرشد ابنك للصواب. الحرية معناها أن الإنسان يتصرف بإيجابية. الحرية معناها الاهتمام. الحرية احترام، إرشاد، إيجابية، اهتمام. علموا أولادكم أن يختاروا الملابس الوقورة والمناسبة للمكان، فثياب اللعب تختلف عن ملابس القداس، عن المصيف عن البيت... علموهم ألا ينساقوا وراء كل شيء جديد بل أن يفعلوا الصواب. أشياء كثيرة في التربية لا بد أن ننتبه لها ولنتذكر قول الكتاب: «كل الاشياء تحل لي، ولكن لا يتسلط عليّ شيء» (1كورنثوس 6: 12).الحب والحوار والحرية هي معالم أن أسرتك مقدسة وعائلة مباركة. الله يبارك كل بيت وكل أسرة. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
25 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس موسى

موسى " بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "عب 11: 24 مقدمة قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!.. من هو موسى؟!! عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!.. موسى الجميل لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!.. موسى المتعلم وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!.. موسى المقتدر لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!.. موسى الحالم كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا". موسى الحليم لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!.. موسى صديق الله لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!! موسى والبيت القديم ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر":..هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!. ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى. على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!.. موسى والرفض العظيم وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!.. كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!.. إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!.. موسى ومدرسة مديان الكبرى كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق. وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!.. وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!.. موسى والدعوة العليا كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!.. وقت الدعوة فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!.. مكان الدعوة لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!.. مظهر الدعوة ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!.. هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!.. نداء الدعوة لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن". وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!. هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!
المزيد
25 يوليو 2022

التعبير

شفتاك يا عروس تقطران شهداً... " أعطيتنى موهبة النطق........ "(القديس غريغوريوس – القداس) موهبة النطق موهبة حظى بها الإنسان وحده من بين جميع خلائق الله ومخلوقاته، حيث لا تستطيع الأحياء الأخرى التعبير والتفاهم بالكلمات، بل بالحركات والإيماءات الغريزية المحدودة .. وأقصى ما بلغته هو التقليد أو ترديد بعض كلمات أو عبارات - مثل الببغاء - وبالطبع دون أن يدرك هذا الطائر معنى ما يردده وأما الإنسان يقال عنه " حيوان ناطق " وهو وصف قاسٍ، ولكن القصد منه أنه رغم اشتراكه مع الكائنات الأخرى فى الكثير من الصفات، إلا أنه يتميز عليها بالقدرة على التفكير والتعبير والتقرير.. وهناك مئات اللغات ومنها تتفرع آلاف اللهجات. ومن الناس من هو شاعر ومنهم من هو أديب ومنهم المتكلم.. أما الأخير فهو الذى يحسن الكلام وتنميقه حتى يصبح ذلك مهنته، وأما الشاعر فهو الذى يجعل الكلمات ترقص وتغنى وتطرب.. مثله في ذلك مثل الموسيقي الذى يجعل نغماته تشنف الآذان. وأما الأديب فهو الذى يحّول المشاهد والمشاعر إلى كلمات تقرأها، فتشاهد وتشعر وتتفاعل وأنت جالس فى مكان القراءة !!.. وكلا الاثنين (الأديب والشاعر) يرسمان بالكلمات لوحات يتراوح جمالها فى قيمته بحسب إبداع كل منهما، وأتذكر أن أحد الشعراء كتب قصيدة وقدمها إلى مطرب ليغنيها ولكن الأخير اعترض على كلمة فيها وطلب استبدالها، أمّا الشاعر فرفض بشدة واحتج فى ذلك بقوله أن القصيدة مثل اللوحة كيف يطلب مني المتفرج أو المشترى أن اُغير أنفها أو عينيها مثلاً !!.. وعندنا أيضاً شخصاً يدعى الدبلوماسى ويوصف بأنه يتكلم كثيراً ولا يقول شيئاً !!، ويقصد بذلك حسن الكلام وتنميقه، دون أن يصرح بشىء أو يعد بشيء، ويقابل النوع الدبلوماسى.. النوع الناقد، وهو على نوعين ناقد للبنيان وهذا يتوخى الموضوعية والتأدّب فى التعبير، ونوع يفتقر إلى اللياقة والكياسة، مثل الشاعر الذى اعتاد أن يهجو الوالى أو الأمير ونظراً لخطورة الكلمة المكتوبة وأهميتها وتأثيرها، فإنه يجب توخى الحذر والدقة فى الإختيار، ومثلها الكلمة المنطوقة أيضاً وهو ما يسمى اصطلاحاً بالمقال والُمقال .. فكلاهما لا يمكن استعادته، وجدير بالذكر هنا أن ما يفكر به الشخص قابل للتغير إذ يمكن تغيير الفكر، فإذا قاله يمكن مراجعته بالنقاش، فإذا كتبه يمكن الرد عليه، فإذا نوقش وأصر على رأيه فهذا هو إيمانه وهذه مبادئه وعقيدته.. وهذا كان يحدد الشخص الهرطوقى من ذاك الذى إنزلق ببساطة فى رأى خاطىء والكلمة قد تجرح وقد تزعج.. وقد تشفى.. وقد تحوّل مسار حياة.. وأتذكر أن أنطيوخس أبيفانيوس هاجم مصر فى القرن الثانى قبل الميلاد وكانت روما حليفاً لمصر آنئذ فأرسلت إليه مندوبها "مميوس"، والذى طلب إليه أن يغادر مصر أو يدخل فى حرب مع روما، ولما طلب مهلة ليقرر، قام المندوب برسم دائرة بعصاته حول أنطيوخس وهو واقف وأمره بأن يعلن قراره قبل الخروج من الدائرة.. كان القرار نعم أو لا وكلاهما كلمة يتوقف عليها مصير شعب وحياة عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الناس إلى جوار نتائج أخرى كثيرة مترتبة على القرار.. كما خلد الكثيرين بسبب كلمة أو عبارة نطق بها أحدهم إبان حياته.. وقد لا نذكر لهم سوى تلك الكلمة، مثلما ’ينسب شخص إلى قصيدة.. فيقال " شاعر قصيدة كذا .. "هناك أشخاص تحب أن تسمعهم وهم يتكلمون، سواء أكانوا يرتجلون أو يقرأون.. أو يتحدثون، وكما قيل عن البعض أن خطهم مثل سلاسل الذهب يمكن أن يقال عن بعض المتكلمين أن حديثهم مثل عناقيد الياقوت والأحجار الكريمة.. تود ألا ينتهى حديثه، حقاً يقول السيد المسيح عن الكنيسة ممتدحاًَ تعاليمها " شفتاك ياعروس تقطران شهداً". أتذكر أيضاً فى هذا السياق أن شيخ الأزهر السابق كان فى زيارة لإنجلترا، وهناك استمع إلى خطاب لمارجريت تاتشر رئيسة الوزراء السابقة، يقول أنه ’أعجب كثيراً بطريقتها فى الكلام ولغتها الواضحة ونطقها الذى جعل الكلام مترجماً، وأصر من ثمّ على الحصول على تسجيل لهذه الكلمة وأرسل من خلال زوجته ليحصل عليها وجاءته نسخة فى خلال ساعات عندنا مشكلة فى القراءات الكنسية، فالقارىء أحياناً يقرأ إلى الداخل ! وأخر تتزحلق كلماته من على أذنيك دون أن تستقر فيهما، وثالث لا يفصل بين عبارة وأخرى وربما بين كلمة وأخرى وكأنّ الحروف متصلة لمسافة سطر أو سطرين كاملين، وآخر يخلط بين " الكاف والقاف " و " التاء والطاء " و " الدال والضاد " و " السين والصاد والثاء " فلا تعرف إن كان يقصد (الإحتكار أم الإحتقار) أو (الضَرر أم الُدرر) أو (القلب أم الكلب) .. الخ. ويستحسن المستمع والحال هكذا أن يكتب له المتكلم ما يريد لكى يدرك قصده. وفى هذا الإطار هناك فى الوسط الكنسى مئات التعليقات الطريفة وغير الطريفة على قراءات البعض فى القطماروس، إذ تتحول بعض الكلمات إلى إهانات وشتائم والأرقام إلى كلمات والعكس، أو إلى ما لا معنى له.. وهكذا.. والبعض تضيع منه علامات الترقيم، وآخر لا يعرف أين ينهى الجملة.. ومتى يلتقط أنفاسه، ناهيك عن قواعد النحو والصرف الذى يفتقر إليه الأكثرين الذين أولهم أنا قرأت عن أحد الولاة الذين أصدروا حكماً بالإعدام بحق شخص ما، وقبل تنفيذ الحكم توسط البعض عنه لدى الوالى والذى قبل وساطتهم واستكتب كاتبه أمراً بالإعفاء عن المتهم، فأملاه قائلاً: (إعدام لا. براءة) وما أن وصل المكتوب إلى الجلاد حتى نفذ حكم الموت فى المتهم فى الحال، والسبب ببساطة أن الكاتب كتب (إعدام. لا براءة) ولم يتوخى الدقة فحرك النقطة عن موضعها قليلاً، فجاء الأمر بتأكيد الحكم وعدم البراءة بدلاً من إلغاء الحكم ومنح البراءة.. وهكذا تسببت نقطة صغيرة فى غير موضعها فى أن يفقد شخص ما حياته !!.كذلك أرسل أحد الولاة إلى حاكم مدينة يطلب منه أن يحصى الرجال لديه (من سن 16 إلى 40 ) فإذا بالحاكم يقوم بإخصاء المطلوبين لأن المكتوب الذى وصله أُستبدل فيه حرف الحاء بحرف الخاء ، لقد كان غرض الوالى هو عمل تعبئة عامة استعداداً للحرب، بينما أساء الحاكم الفهم مثلما افتقر كاتب الوالى إلى الدقة فى الكتابة بعد أن قرأت هاتين القصتين أدركت لماذا تكتب الأم أحياناً ورقة لصغيرها وتطويها وتضعها فى قبضته الصغيرة ليوصلها إلى جهة ما وذلك لضمان النتائج"كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند ابي الانوار"(يعقوب 1 : 17) نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
21 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عزرا

عزرا " عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر فى شريعة موسى "" عز 7: 6 " مقدمة ربما كان عزرا، صاحب المنبر الخشبى، هو أول واعظ فى كل التاريخ، بالمعنى المألوف المعروف الذى نراه الآن فى التفسير والتعليم والوعظ بين الناس!!... وقد سبقه - ولا شك - الكثرون من القادة والأنبياء والملوك الذين تحدثوا بكلمة اللّه إلى الناس بكل حماس وقوة وحمية، فى الحض والزجر والوعظ،... غير أن عزرا يكان يكون الأول من نوعه، الذى صنع منبراً خشبياً، وجمع الناس حوله ليعظهم ويشرح لهم كلمة اللّه، على النحو المألوف الآن عند جميع الوعاظ فى كل مكان،... وحق للبعض أن يدعوه لذلك أبا الوعاظ وأمراء المنابر فى كل التاريخ!!... ومن المهم أن تعلم أن عزرا الكاهن كان أول « كاتب » فى شريعة موسى، بالمعنى الذى عرف به نظام « الكتبة » المشهور فيما بعد!!... أى أن الرجل الذي لا ينسخ الشريعة فحسب، بل يعلمها ويشرحها للناس،... كانت كلمة « الكاتب » قبل عزرا، تقصر على الناسخ الذى ينسخ الكلمة، كباروخ الذى كتب لإرميا،... لكن عزرا الكاتب أعطى الكلمة مفهوماً أعمق وأقوى... فهو الناسخ والشارح الذى يتعمق فى فهمها والوعظ بها للناس، وقصته جديرة بأن تروى للمؤمنين عامة، وللواعظ على وجه الخصوص. ولعلناً نلاحظه بعد ذلك فيما يلى: عزرا من هو!!؟ عندما سقطت بابل العظيمة أمام جحافل الفرس عام 538 ق.م. واعتلى كورش الفارسى عرش الإمبراطورية العظيمة، كان من أول أعماله أن سمح للمسبيين من اليهود الذين سباهم نبوخذ ناصر أن يرجعوا إلى بلادهم كما سبقت الإشارة فى دراسة شخصية زربابل، وقد تمكنوا بعد متاعب كثيرة من بناء الهيكل وتدشينه، وإقامة العبادة فيه حوالى عام 516 ق.م.، وأعقب ذلك فترة تبدلت فيها الأحوال، واختلط الراجعون من السبى بالوثنيين وتزاوجوا معهم، وضعفت عزيمتهم وروحهم المعنوية والدينية، وباتوا فى أمس حاجة إلى مصلح وهاد وواعظ، وقد تحقق لهم ذلك فى شخص عزرا الكاهن الكاتب، الذى أعطاه ارتحشستا الملك عام 458 ق.م. الأمر بالذهاب إلى أورشليم، هو ومن يريد أن يذهب معه من الباقين من السبى فى بابل، وأعطاهم الملك أموالا وقرابين وذبائح تقدم لبيت اللّه. وقد وصل عزرا ومعه حوالى 1700 رجل إلى أورشليم بعد خمسة شهور، وهناك قام بإصلاحه العظيم، وانقضى على ذهابه ثلاثة عشر عاماً، لاندرى هل عاد بعدها إلى بابل أم بقى فى أورشليم؟، وكل الذى نعلم أنه ظهر بعد هذه الفترة إلى جانب نحميا الوالى، وظهر ليكون معلم الأمة وواعظها، والأمير الأول من أمراء المنابر فى التاريخ.ولعله من المناسب أن نذكر أن هذا الرجل كان من سبط لاوى، وقد دون فى سفره نسبه حتى هرون الرأس. وكان حلقياً الكاهن، جده القريب، هو الذى اكتشف سفر الشريعة: فى بيت الرب، ولعل أحداً قص على عزرا الذى ولد فى السبى، ماذا فعل يوشيا يوم قرىء السفر أمامه، وكيف مزق ثيابه، واتضع أمام الرب، وقام باصلاحه العظيم،... وعلى أية حال، فإن عزرا اكتشف هو بنفسه هذا السفر عندما قيل عنه: « هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها » " عز 7: 10 "... ومن المحقق أن عزرا عاش فى بابل وأرشليم، متعظاً بكلمة اللّه، عميق التأمل فيها، يحفظها ويعمل بها قبل أن يطلب من الآخرين العمل بها!!.. وإذا كان من الواضح أن الرجل فوق منبره الخشبى، هو أول الوعاظ وأبوهم بالمعنى المفهوم حديثاِ، فقد حمل دون شك فى أعماقه خصائص الواعظ الناجح، وهذا الواعظ - كما يتعلم الطلاب فى كليات اللاهوت فى علم الوعظ - لا يمكن فصله عن العظة... لأن العظة عند فيلبس بروكس: « أن يقوم إنسان بتوصيل الحق إلى إنسان آخر »... والوعظ بهذا المعنى يشتمل على أمرين: الحق والشخصية، والفرق بين عظة وعظة، أو واعظ وواعظ - هو الفرق فى توافر هذين العنصرين أو غيابهما، أو نقص أحدهما أو اهتزازه أمام السامعين،... ويقول الدكتور جارفى مؤيداً هذا الاتجاه: « إن الوعظ ليس مجرد توصيل معلومات أو معارف، ذلك لأن الوعظ يستغرق شخصية الواعظ كلها، ومن ثم فهو يخاطب شخصية المستمع كلها باعتباره موضوعاً أدبياً أو دينياً، وطالما أن الحق الذى ينادى به ويدعو إليه الوعظ هو أمر يتعلق باللّه والحرية والخلود، كذلك فإن غايته وغرضه هو حفز الإيمان والدعوة إلى النهوض بالواجب وإبقاء جذوة الأمل والرجاء متقدة لا تخبو »... ومن المستحيل الوصول إلى ذلك دون التطلع إلى وجه الواعظ، ومحاولة النظر والتأكد، من أنه يعنى ما يقول، أن أقواله تنبع من وجدانه العميق... ويتفق المختصون بعلم الوعظ على أن من أهم سمات الواعظ أموراً أربعة توفرت بالتمام فى عزرا الواعظ، والكاتب الماهر فى شريعة السماء!!.. ولعل أولها: التقوى!!.. كان عزرا عميق الشركة مع اللّه، وتستطيع أن تبين ذلك، من أنه عاش فى بابل ينهل من الكلمة الإلهية، ويحرص على دراستها وتطبيقها فى حياته. والواعظ الناجح هو المستفيد الأول من العظة،... وقد كانت تقواه بارزة فى أكثر من إتجاه، فهو من أعمق الناس إحساساً بالخطية، ويكفى أن تراه وقد اكتشف فى أورشليم اختلاط الشعب وتزاوجهم مع غيرهم من الشعوب، وقد هاله هذا وأفزعه إلى أبعد الحدود: « فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابى وردائى ونتفت شعر رأسى وذقنى وجلست متحيراً، فاجتمع إلى كل من ارتعد من كلام إله إسرائيل من أجل خيانة المسبيين، وأنا جلست متحيراً إلى تقدمة المساء. وعند تقدمة المساء قمت من تذللى وفى ثيابى وردائى الممزقة جثوت على ركبتى وبسطت يدى إلى الرب إلهى. وقلت: اللهم إنى أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهى وجهى نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء. منذ أيام آبائنا نحن فى إثم عظيم إلى هذا اليوم، ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأرض للسيف والسبى والنهب وخزى الوجوه كهذا اليوم. والآن كلحيظة كانت رأفة من لدن الرب ليبقى لنا نجاه ويعطينا وتدا فى مكان قدسه لينير إلهنا أعيننا ويعطينا حياة قليلة فى عبوديتنا » " عز 9: 3 - 8 " وإذا كان اليهود اللذين حوله لا يرون هذه الرؤية أو يحسون هذا الإحساس، فإن مرجع الأمر هو أنه أعمق حساً وأكثر إدراكاً للذنب والخطية،... ومع أنه هو شخصياً كان بعيداً عن هذا الإثم، إلا أنه كان عميق التقوى، يحس أن خطايا شعبه هى خطاياه، وآثامهم هى آثامه،... وبعدهم عن اللّه، كأنما يشارك فيه على النحو المفزع القاسى البعيد!!... وكان الرجل، إلى جانب هذا، تقياً فى يقينه بإلهه واعتماده عليه،... كانت كلمته المفضلة أو التى هى شعار حياته، يد اللّه الصالحة علينا، " عز 7: 9، 8: 18 " وقد تكررت مرات فى اختباراته الشخصية وعندما سمح له الملك بالذهاب إلى أورشليم على رأس القافلة التى أشرنا إليها، وزوده بالتبرعات السخية، رأى فى ذلك يد اللّه معه، وقد حمل معه تقدمات تقدر بعملتنا الحالية بحوالى مليون ونصف مليون جنيه، ومثل هذه الثروة تغرى اللصوص، وقطاع الطرق، فى رحلة تستغرق خمسة أشهر، وقد أبى عزرا أن يستعين بقوة حارسة أو يطلب من الملك جيشاً وفرساناً لنجدتهم، لأنه كان قد سبق فأخبر الملك: « إن يد إلهنا على كل طالبيه للخير. وصولته وغضبه على كل من يتركه » " عز 8: 22 " فصاموا وصلوا وساروا فى طريقهم مشمولين بالحراسة والرعاية الإلهية حتى وصلوا إلى أورشليم!!... إن التقوى فى الواعظ هى إحدىِ خصائص النفس الروحية، وهى الحماس الأخلاقى البعيد الجذور الذي ينعكس على الاختبار الدائم فى علاقة الواعظ باللّه، وهى علاقة شركة وصداقة ورفقة طيبه يصبح الإنسان بمقتضاها خليلاً للّه، وهى - فى لغة أخرى - تكريس مهيب للّه،.. وهى ليست جامدة ساكنه، بل هى نشطة متحركة تمضى قدماً، متألقة مزدهية بالحق ومجد وفضائل النعمة المسيحية وبركاتها... وهى ليست شيئاً ينتمى إلى عالم آخر، بمعنى العزوف المتكبر والأنطواء المترفع عن حاجيات الناس ومصالحهم، بل هى تختلط بهم وتعاشرهم وتعاملهم، تندمج فى الحياة مزودة بل مسلحة بالفضائل المسيحية، وهى ليست ضعيفة خائرة، بل هى بطلة قوية، وبطولتها متركزة فى إنتصار الروح الرائع على الجسد، وهى الحقيقة الروحية التى لا تتقبل أى تهادن أو تهاون مع الزيف أو الكذب أو الخداع أو التظاهر أو النفاق، وهى فى الواقعية الروحية تعترف بوجود أعداء الحياة فى جوانبها الخلقية والروحية، ومن ثم تتحداهم، وليس من المبالغة فى شئ أن نذكر أن هذه السمة من سمات الروح هى المطلب الأول فى حياة الواعظ، والضمان لتأثيره وأثره إذ أنها تلهب الواعظ نفسه بالغيرة المتقدة بالحماس النارى، وهى التى تبقى الشعلة حية متوهجة وسط كل اللامبالاة الجليدية، التى ما أكثر ما يجد الواعظ نفسها وهو بجابهها.. إن هذه التقوى هى التى تظفر للواعظ بتقدير موعوظيه وعطفهم ونواياهم الطيبة، بل إن أكثر الناس شراً بينهم، سوف لا يتمالكون أنفسهم من أن يشعروا أن ذلك الحماس الصادق من جانبه، أمر خليق باحترامهم، وجدير بكل أنحناء وتقدير.. ولقد وعد اللّه مثل هذا الواعظ الصادق والأمين بأن يبارك جهوده وأتعابه!!.. ولا حاجة إلى القول إن التقوى بهذا المعنى كانت عميقة الجذور فى حياة عزرا، ولذا كان تأثيره عميقاً وبعيداً كما سنرى فى حياة الشعب والناس!!.. وإلى جانب التقوى كانت المواهب الطبيعية التى زوده بها - للّه، وهى الصفة الثانية فى حياة الواعظ،... والمواهب اللازمة لكل واعظ تبدأ أولا بقدرته على التفكير السليم الواضح، ثم تمتد بعد ذلك إلى العاطفة المتدفقة والفيض الزاحر من المشاعر والأحاسيس التى تتملكه، وهو إلى جانب هذا يحتاج إلى الخيال القوى المجنح الذى يرتفع ويعلو إلى العرش الإلهى، ويتجاوز الحدود المادية والمنظورة بين الناس، وبالإضافة إلى هذا كله لابد أن يتزود بالقدرة على التعبير، وامتلاك ناصية المنطق الفعال،... وأنت لا يمكن أن تقرأ عن عزرا دون أن تحس أنه يمتلكها جميعاً.. الصفة الثالثة فى الواعظ هى المعرفة، والمقصود بالمعرفة هو القدرة على الإحاطة بالكثير من المعلومات والحقائق،... وواضح أن عزرا كان على حظ كبير من الحنكة والدراية والإلمام، فقد كان كما يقول « ألكسندر هوايت » من ذلك النوع الذى تملك (جون كلفن) عندما حكم جنيف، « وجون نوكس » عندما سيطر على أدنبره،... وكان من المستحيل أن يجعله أرتحشستا على رأس العائدين ويزوده بالسلطان الكامل، ما لم يكن واثقاً فى مقدرة الرجل ودرايته وحنكته!!... والأمر الأخير الذى يؤكد أستاذة علم الوعظ ضرورة وجوده فى الواعظ هو المهارة،... وكان عزرا الكاتب الماهر، واحداً من أقدر الناس وأقواهم على المنبر، له تلك الأصالة التى ترتفع به فوق التقليد والمحاكاة وما أشبه، التى تعجز عن إطلاق الحق الإلهى دون تردد أو إبهام أو زيف!! فإذا كانت هذه هى المقاييس الوعظية الفنية، فإن عزرا الكاهن الماهر فى شريعة اللّه، كان من أقدر الوعاظ وأظهرهم، ويحق القول إنه أبوهم التاريخى القديم فى المنبر الذى أقامه، وبحسب مالدينا من معلومات لم يسبقه كاتب آخر أو واعظ مفسر لكلمة اللّه من فوق المنبر الذى درج هويتفيليد أن يدعوه عرشه العظيم!!... عزرا وكتاب الشريعة ولعل عزرا يعطينا هنا الدرس العظيم فى مفهوم العظة، وبعدها، وعمقها فإذا أخذنا بالتقسيم الفنِى للفظ، من حيث ارتباطها بالآية، لوجدنا ما يطلق عليه فى علم الوعظ، العظة الموضوعية، والعظة الآيية، والعظة التفسيرية،.. أما العظة الموضوعية فهى العظة التى تستخلص موضوعاً معيناً من الآية، تركز الحديث عليه، وتأخذ الأقسام فى استقلال عن الآية نفسها، وقد يعطى هذا الاستقلال اتساعاً ليس من السهل أن نجده فى الوعظ الآيى أو التفسيرى إذ يمكن للواعظ أن يعظ عن موضوع معين دون أن يكون محصوراً فى الآية وحدها، بل يمكن أن تمتد جولته فى الكتاب لينتقى من أرجائه الزهور ليجمعها فى باقة جميلة خلابة، دون أن يتقيد بركن معين أو مجموعة معينة من الزهور!!.. ولا نعتقد أن هذا النوع من الوعظ كان الأسلوب الذي لجأ عزرا إليه فى تفسير وشرح كلمة اللّه!!... أغلب الظن أن عزرا كان يتقن الوعظ الآيى أو التفسيرى. والعظة الآيية هى التى تكون الآية لحمتها وسداها، وتأخذ الموضوع الذى تطرقه من تحليلها للآية وشرحها لها، كما أن أقسامها ترجع دائماً إلى كلمات الآية أو أجزائها المختلفة، فهى فى الواقع نوع من التوسع، لما يمكن أن يستنبط من الآية أو ينطبق عليها، ولا شبهة فى أن هذا النوع من الوعظ يغوص فى البحث الكتابى أكثر من الوعظ الموضوعى، وإذا كان هذا الأخير عريضاً إلا أنه أقل عمقاً » والواعظ الماهر فى الوعظ الآىى أشبه بالغواص الذى ينزل إلى الأعماق البعيدة فى البحر بحثاً عن الدرر والجواهر حتى يعثر عليها ويخرجها لتبهر بجمالها الأنظار، والجماهير التى ألفته، والكنائس التى تعودت عليه تكون أقوى وأعمق فى البنيان المسيحى، والعظة التفسيرية هى بنفسها العظة الآيية، مع هذا الفارق، أنها لا تتقيد بآية واحدة، بل قد تكون قطعة كتابية كاملة، يغوص الواعظ فى أعماقها باحثاً عن دور الحق الإلهى فيها!!... وتاريخ الوعظ اليهودى - ابتداء من هذا الرجل العظيم وحتى العصور الحديثة - يميل إلى الوعظ الآيى أو التفسيرى دون الوعظ الموضوعى فهو يعتمد على قوة الكلمة الإلهية، وسلطانها، وفاعليتها فى النفس البشرية!!... وعظ عزرا الشعب من فوق منبر خشبى مرتفع، ومما لا شك فيه أن المنبر كان مرتفعاً ليستطيع الشعب أن يرى الواعظ ويستمع إليه، ولكن الارتفاع له معنى أعمق من ذلك، فالمنبر ينبغى دائماً أن يكون مرفعاً عن المقعد، لأنه يحمل صوت اللّه وسلطانه، ويفهم الجميع بأن الواجب الأول للمستمع أن يكون خاضعاً مطيعاً لكلمة اللّه وأمره، أما الواعظ نفسه فقد كان - كما أشرنا - أميراً من أمراء المنبر وواعظاً نموذجياً مجيداً. إذ وعظ بحياته وسيرته قبل أن يعظ بلسانه وكلامه، إذ كان رجلا غيوراً تقياً مصلياً، وعندما بدأ وعظه، بدأ بداءة الشخص المتمكن من تأملاته ودراسته وإرشاد الروح القدس له، وما أجمل مادة موضوعه! إذ لم تكن هذه المادة فلسفة وعلماً، منطقاً وخطابة وبلاغة، لقد كانت قبل كل شئ وبعد كل شئ، كلمة اللّه التى قرأها ببيان وفسر معناها للسامعين، وهل فعل أمراء المنبر فى كل التاريخ غير ما فعل عزرا قديماً، ففم الذهب، وأوغسطينوس وكلفن ومتى هنرى وتوماس جدوين - كما يقول الكسندر هوايت - لم يفعلوا أكثر مما فعل هذا الأمير الأول، والواعظ المتمكن، والمفسر للكلمة الإلهية الحية الفعالة!!.. ولا يستطيع الإنسان منا وهو يستعرض هذا التاريخ، إلا أن يتذكر كلمات ف. ب. ما ير عندما قال: « إن دراسة عزرا للكتاب تذكرنى بما حدث فى إنجلترا فى حكم الملكة أليصابات، حيث وضعت نسخة من الكتاب المقدس فى كاتدرائية القديس بولس، بعد أن أجيز للجمهور قراءته، ووقف جون بورتر بصوته الرائع يقرأ الكتاب للنفوس التى كانت متعطشة لسماع الكلمة الإلهية »... وهل يمكن نسيان الحب العميق الذي تمكن من مارى جونز الفتاة الفقيرة والتى كافحت، فى الأوقات التى كانت فيها نسخ الكتاب قليلة وباهظة الثمن حتى حصلت على نسخة منه، وعاشت حياتها وهى تدرسه دراسة عميقة حتى حفظت الكثير منه عن ظهر قلب، وعندما ماتت وضعوا هذه النسخة إلى جانب رأسها،... وصنعوا لها تمثالا عظيماً. بعد أن كانت السبب فى إنشاء دار الكتاب المقدس التى تنشره فى العالم، فى إنجلترا وغير إنجلترا!!.. عزرا والإصلاح العظيم الذى قام به كان أثر الكتاب بالغا وعميقاً فى حياة الشعب، وعندما التفوا حول منبر عزرا يفسر لهم كلمة اللّه، يقول نحميا فى الأصحاح الثامن من سفره: « اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التى أمام الباب وقالوا لعزرا ».. " نخ 8: 1 " كانت رغبتهم قوية إلى الدرجة أنهم استمروا من الصباح إلى نصف النهار يستمعون « دون ضجر أو ملل، وقد بدا احترامهم للكلمة فى وقوفهم عندما فتح عزرا السفر، وفى سجودهم للرب عند صلاته. وقد تأثروا إلى درجة الدموع إذ بكوا حين سمعوا كلام الشريعة، ثم ذهبوا يعملوا بما سمعوا وفى الحقيقة إن القياس الصحيح لتأثير الكلمة الإلهية، ليس فى مجرد ما يسكب الإنسان من دموع، قد تكون وقتية، مهما كانت غزارتها، وكثرتها،... بل فيما تترك من أثر فى حياة الإنسان وسلوكه،... عندما وعظ بولس فى أفسس « كان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا أثمانها فوجدوها خمسين ألفاً من الفضة ».. " أع 19: 18، 19 " أو ما يقرب من عشرة آلاف جنيه بعملتنا الحالية،... لقد كانت الكلمة الإلهية أقوى وأفعل من كل سحر شيطانى،... وعندما وعظ سافونا رولا فى فلورسنا أثر وعظه فى الكثيرين من الرجال والنساء والفنانين والموسيقيين، فأحضروا من الصور والزينات والتحف كل ما وجدوه غير لائق بالحياة المسيحية الصحيحة، وجعلوها أكواماً فى ميدان القديس مرقس وأحرقوها،... وقد سبقت الإشارة فى بعض الدراسات إلى الأثر البعيد العميق الذى أحدثه يوحنا ويسلى فى القرن الثامن عشر فى إنجلترا، عندما هوت الحياة الأدبية والروحية إلى الحضيص، ونادى الرجل بإنجيل المسيح وهو ينتقل من مكان إلى مكان ما بين الشوارع والأزقة، والمدن والقرى، والمصانع والمناجم، يعظ يومياً ما بين عظتين وخمس عظات، وكان اللّه معه، ففعل مالا تفعله قوات العالم مجتمعة معاً،... وقد كانت كلمة اللّه حية وفعالة عندما نادى بها عزرا، وليس أدل على هذا من انفصال الكثيرين من القادة والشعب عن الزوجات الوثنيات اللواتى تزوجوا منهن،... والحرص على تقديس يوم السبت والامتناع عن التعامل والبيع والشراء مما كان سارياً فى ذلك الوقت، والأخذ بالحياة المقدسة، والحرص على التدقيق فى مراعاة الفرائض، والطاعة للشريعة الإلهية!!... وقد فعلوا هذا كله بالدخول فى العهد المقدس مع اللّه!!. لقد أدرك الجميع ما قاله دكتور تشارلس رينولدز براون: « إن النجاة أو الدفاع عن مدينة أورشليم لا يتحقق بمجرد بناء سورها فالقرميد والملاط والقلاع والشرفات، قد تحقق دفاعاً جزئياً..، غير أن أعدى أعداء أية مدينة ليس خارجها، بل داخلها، إذ أن أقوى دفاع فى حياة المدينة، ليس ما هو مادى، بل ما هو أدبى وروحى، فإن لم يحرس الرب المدينة بالمبادئ العظيمة والمثل النبيلة المستقرة فى عقول وقلوب مواطنيها، فباطلا يتعب الحارس الذي يحرس أسوارها »... « ومن ثم فإن الانتباه الأعظم ينبغى أن يتحول من أسوار المدينة إلى قلوب الناس الذين يسكنون فيها، إذ يلزم أن تتحول الأفكار إلى السبل الروحية التى يستطيع بها خادم اللّه إنهاض الحياة الروحية وتقويتها فى نفوس الناس، وهو يفتح الكتاب أما مهم معلماً إياهم شريعة اللّه السماوية بفهم وبيان » ومن المهم أن تختم هنا بما ذكره نحميا فى الأصحاح الثامن من جواب الشعب على الكلمة الإلهية إذ ردد بعمق وسجود: آمين آمين!!... والكلمة « آمين » من أكثر الكلمات شيوعاً وترديداً على لسان المؤمنين دون أن يدركوا على الأغلب عمقها وكنهها والكلمة فى أصلها العبرانى تعنى « ليكن هكذا »!!... فعندما نرددها فى صلاة أو ترنيمة أو بركة، نحن نقصد أن نقول فى الختام.. ليكن هكذا يارب، فإذا ردد المؤمنون معاً « آمين »، فإنها تبدو، كما كان المسيحيون القدامى يعتقدون، كالرعد الهارى أو موج البحر الذي يصفق على الصخور!!... وقد كان هناك تقليد عند الربيين اليهود أطلقوا عليه: « آمين اليتيم »... ويقولون إن هذه الآمين، هى التى يقولها الناس بدون وعى أو فهم أو تأمل،... وأن من يقولها يموت ويصبح أولاده يتامى!!... وعلى العكس من ذلك، إذا نطقها إنسان بكل هيبة ووقار وحرص وإيمان، فإن أبواب الفردوس ستفتح أمامه!!... ولا شبهة فى أن المجتمعين حول عزرا، هدر صوتهم كالرعد القاصف وهم يقطعون العهد مع اللّه فى صيحة قوية « آمين آمين ».. وعبر بهم الرجل برزخ الضياع والتقهقر والتعاسة والردة، إلى الحياة المباركة االتى خرجت من سبى أقسى من السبى البابلى، سبى الخطية والإثم والشر!!.. ليتك أيها الخاطئ، فرداً كنت أو بيتاً أو شباً أو كنيسة، تفعل هذا لتفلت من السبى القاسى الرهيب آمين آمين!!..
المزيد
12 أبريل 2023

أربعاء البصخة

اعتكف السيد المسيح طوال هذا اليوم فى قرية بيت عنيا، بعد أن ترك الهيكل مساء يوم الثلاثاء، وفى نيته عدم العودة إليه البتة، وذلك بعد أن قال لليهود " هوذا بيتكم يترك لكم خرابا لأنى أقول لكم أنكم لا تروننى من الآن حتى تقولوا مبارك الآتى باسم الرب.. (مت 23: 38 - 39) ونلاحظ هنا أن يسوع قال لليهود: " بيتكم ".. ولم يقل " بيت أبى ".. للدلالة على بدء تخلى رب المجد عن الأمة اليهودية التى رفضته من خلال مطالعتنا للبشائر الأربعة نستخلص حوادث هذا اليوم:- انجيلا معلمنا متى (26: 6 – 13). ومعلمنا مرقس (14: 3 – 9)، يذكران لنا حادثة سكب قارورة الطيب على رأس مخلصنا فى بيت سمعان الأبرص.. وهى غير مريم أخت لعازر التى سكبت الطيب يوم السبت على قدمى الرب ومسحتهما بشعر رأسها، فى بيت لعازر. الحادثة الثانية فتشترك الأناجيل الأربعة فى ذكرها وهى خيانة يهوذا الأسخريوطى واتفاقه مع رؤساء الكهنة وقواد الجند على الثمن ليسلمهم المخلص (مت 16: 14)، (مر 14: 10 – 11)، (لو 12: 3 – 6)، (يو 13: 1 – 3). القمص تادرس يعقوب ملطى عن كتاب أحداث الأسبوع الأخير
المزيد
30 مايو 2022

الأساس الكتابي للظهورات

أود أن أوضح الأساس الكتابيّ للظهورات في الكتاب المقدس. كلمة εΐδος في اللغة اليونانية تعني: شكل – هيئة – ظهور خارجيّ. كما يؤكد معناها على الصلة بين الظهور المرئيّ والحقيقة. الكتاب المقدس يذكر ظهورات أقنوم الابن قبل التجسد، لكي يمهد أذهان البشر للتجسد. ومنها: قال الله لهرون ومريم عندما تكلما على موسى: «اسْمَعَا كَلامِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لهُ. فِي الحُلمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَليْسَ هَكَذَا بَل هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي فَمًا إِلى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلمُ مَعَهُ لا بِالأَلغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ» (عد12: 6- 8). فقد ظهر لإبراهيم ومعه ملاكان وأعطاه الوعد بميلاد إسحق (تك18)، كما ظهر له أيضًا حينما أطاع الأمر الإلهيّ بتقديم اسحق محرقة (تك22: 2). وظهر ليعقوب كإنسان وصارعه حتى مطلع الفجر (تك32). كذلك ظهر لموسى في العليقة المشتعلة (خر3). وظهر الرب لموسى ومعه سبعون من شيوخ اسرائيل (خر24)، كما ظهر ليشوع (يش5: 13-15). كذلك ظهر لجدعون (قض6: 14). وظهر لمنوح (قض13). وفي العهد الجديد الظهور الإلهيّ، حيث يقول القديس لوقا أن «الرُّوحُ الْقُدُسُ َنَزَلَ عَلَيْهِ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ εΐδος مِثْلِ حَمَامَةٍ» (لو3: 22). كذلك يستخدم القديس لوقا نفس التعبير في وصفه للتجلي «وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا» (لو9: 29).ظهورات الملائكة: هناك أمثلة كثيرة تدلنا ظهور الملائكة، منها: ظهور الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن (لو1: 11). الملاك الذي ظهر لمريم العذراء ليبشرها (لو1: 26). الملاك الذي ظهر للرعاة ليبشرهم بالميلاد (لو2: 9). كذلك ظهرت ملائكة ليوسف النجار (مت1: 20؛ 2: 13). الملاك الذي كان ينزل من السماء ويحرك الماء في بركة بيت حِسْدَا (يو5: 4). وبعد قيامة السيد المسيح، دحرج الملاك الحجر عن باب القبر (مت28: 2)، كما ظهرت ملائكة للنسوة (مت28: 5، يو20: 12). الملاك الذي ظهر لفيلبس وطلب منه أن يذهب إلى غزة (أع8: 26)الملائكة لها أجسام روحانيّة نورانيّة لطيفة، لا تستطيع العين البشرية أن تراها، لأنها أجسام غير هيولية، فهم لا يحتاجون إلى اتخاذ جسم لهم بل لنا؛ لكي يظهروا للناس بما يألفونه وبما يتوقعونه، حتى يستأنسوا بهم ولا يخافوا منهم، لأن طبيعة الملائكة أرواح لا تُدركها الأبصار، ونورانيّة لا يتحملها الإنسان، حيث يُخبرنا سفر الرؤيا عن ملاك واحد ينزل من السماء فتستنير الأرض كلها من بهائه (رؤ18: 1). فظهور الملائكة للإنسان بصورتهم النورانيّة؛ تؤدي إلى حالة رعب أو خوف للإنسان ذاته، فالملاك الذي رآه يشوع بن نون ظهر بهيئة جبار قويّ، بيده سيف مسلول، وعندما أخبر يشوع أنه رئيس جند الرب حدث أن «سَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأرض وَسَجَدَ» (يش5: 14). لذلك تأخذ الملائكة شكلًا يتناسب مع الطبيعة البشريّة عند ظهورها للإنسان، فتأخذ أجسامًا مرئيّة بهيّة ليست حقيقية إلى حين، ويتكلمون بلسان بشريّ، حتى يتمكنوا من توصيل أوامر الله وتحذيراته ووصاياه إلى البشر، فيقول يوحنا الدمشقيّ: [يَأْخذونَ أشكالًا مختلفةَ حسب أمر الله سيدِهم، وهكذا يظهرون للبشر ويكشفْون لهم الأسرار الإلهية].كذلك هناك ظهورات للقديسين والأبرار في العهد القديم، مثل ظهور صموئيل (صم 6:28-7). وظهور رئيس الكهنة أونياس، وإرميا النبي ليهوذا المكابي: «وهذه هي الرؤيا قال: رأيت أونيا الكاهن الأعظم، رجل الخير والصلاح المهيب المنظر الحليم الأخلاق صاحب الأقوال الرائعة، المواظب منذ صبائه على جميع ضروب الفضائل باسطًا يديه ومصليا لأجل جماعة اليهود بأسرها، ثم تراءى لي رجل كريم الشيبة أغر البهاء عليه جلالة عجيبة سامية. فأجاب أونيا وقال: هذا محب الإخوة المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدسة إرميا نبي الله. ثم ان إرميا مد يمينه وناول يهوذا سيفا من ذهب و قال. خذ هذا السيف المقدس هبة من عند الله به تحطم الأعداء» (2مكا15: 11 -16). وفي العهد الجديد ظهور موسى وإيليا على جبل التجلي (مت17: 3). ورؤيا يوحنا اللاهوتي.فإذا كانت الرؤيا والظهور من الطرق التي يخاطب الله بها البشر لتوصيل رسالة معينة أو للتعزية. والله «هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عب13: 8). فلماذا يستنكر البعض الرؤى اليوم؟! القمص بنيامين المحرقي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل