المقالات
10 أبريل 2025
بدعة ضد العذراء
عداء العذراء مريم
أو ضد لقب عذراء
أولا: العداء للعذراء مريم أو ضد لقب عذراء Antidicomarianites
أنكرت هذه البدعة دوام بتوليتها بعد ميلاد المسيح "opponents of Mary" وكانت منتشرة فى العربية ومن الظاهر أنها كانت ضد العقيدة المريمية التى تؤله السيدة العذراء مريم وظهرت هذه العقيدة وقويت فى الفترة بين 200 م إلى 400 م وإستمرت بقوة فى بعض المناطق التى منها الجزيرة العربية وما حولها إلى القرن السادس الميلادى وقد أنقسم تصور الناس للسيدة العذراء مريم إلى عدة أقسام وطبيعى تسمى هرطقات التى منها:
1 - الأبيونيين Ebionites أعتقدوا أن السيد المسيح ليس إلا أبن ليوسف من مريم، إلا أن هذا التصور قد وجد معارضة شديدة من خارج هذه الجماعة وفى داخلها أيضاً حيث أنقسمت هذه الطائفة إلى عدة طوائف كل منها له معتقدة ولكن يطلق عليها أسماً واحداً وهو الأبيونيين الذى يعنى (طوبى للمساكين)
2 - العداء للعذراء مريم أو ضد لقب عذراء Antidicomarianites وكانت هناك عقيدة أن السيد المسيح ولد من العذراء مريم بواسطة الروح القدس وبعد ذلك عاشر يوسف النجار السيدة العذراء مريم معاشرة الأزواج وقد أنكرت هذه الطائفة اللقب الذى أطلق على مريم فى الفكر الأرثوذكسى والفكر الكاثوليكى وهو العذراء دائمة البتولية ever-Virgin Mary وقد ظهر هذا الفكر مبكراً فى البدعة الترتليانية Tertullian وقد ذكرت فى الأصل (Homilia in Lucam, III, 940)، وأيد هذا الفكر إريانوس وإيدوسيوس وإينوميوس Arians, Eudocius and Eunomius, ونشروه وعلموا به وأنتشرت هذه العقيدة فى الجزيرة العربية وما حولها حتى نهاية القرن الرابع. تحددت قام القديس إبيفانوس St. Epiphanius بالرد عليهم فى خطابات شيقة أعطتنا فكرة تاريخيه عن هذه الجماعة وفكرهم والتى أثبت أن عقيدتهم فاسدة وكاذبه راجع (St. Epiphanius, Contra H?res., lxxviii, 1033 sqq.). وقد بنوا عقيدتهم على أن هناك نصاً فى الكتاب المقدس أن أخوة يسوع يطلبونه، فى حين أن الكتاب المقدس ذكر أسم اخوه على أقرباء وليس أخوه فى عدة أيات سابقة كما أن التقاليد الموروثة حتى هذا اليوم فى الشرق الأوسط تطلق على أى شخص من العائلة أسم أخ، وحتى المسيحيين فى الشرق ينادون بعضهم بعضا بالقول أحنا ولاد معمودة واحدة أى رحم واحد أى إحنا إخوات فى المسيح يسوع.
المزيد
15 أبريل 2025
الساعة الثالثة من يوم الثلاثاء مت ۲۳ : ۳۷ - الخ، ١:٢٤، ٢
( يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَة الأَنْبِيَاءِ وَرَاجمَة الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أنْ أجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحتَ جَنَاحَيْهَا ، وَلَمْ تُريدُوا ! هُوَذا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لا تَرَوْنَني مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!. ثمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَل، فتَقدَّمَ تَلاَمِيدُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةُ الْهَيْكَل. فقالَ لَهُمْ يَسُوعُ أمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هَذِهِ؟ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَا يُتْرَكُ ههنا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لَا يُنْقِضُ !).
يا أورشليم يا أورشليم
حينما كرر المسيح القول: «يا أورشليم يا أورشليم» وأردف مباشرة بتصوير الدجاجة وهي تجمع أفراخها تحت جناحيها، يكون المسيح قد كشف عن مكامن أعماق الحب الإلهي بالنسبة لشعبه وحينما ناداها بخطيتها وبسفك دم الأنبياء ورجم المرسلين يكون قد كشف عن خطية الشعب وحينما سجل عليها عدد المرات التي طلب فيها أن يجمع أولادها فرفضت سجل عليها دينونتها العاجلة وحينما أفصح عن ذهابه وغيابه ثم عودته المباركة باسم الرب يكون قد أعطى الوعد بالمجيء الثاني حينما يكرر المسيح اسم أورشليم يذكرنا في الحال بـ «مرثا مرثا» و «شاول شاول» ويهوه في القديم إبراهيم إبراهيم بهذه النغمة الحبية التي تعبر عن القرب والانتماء لله، وبآن واحد تحمل هنا رئة حزن أسيف على فرصة انقضت كانت تتيح لأورشليم أعظم الفرص للمجد لتكون أم الدنيا وباباً أبدياً للملكوت. ولكن لم تكن تلك المرة الأولى بل الأخيرة، لأن يهوه في القديم أحبها وتودد إليها، ولكنها كانت دائماً أبداً تخون الأمانة والمودة، وكان تعبير المسيح لها بقاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين سيرة ممتدة حملتها أورشليم على مدى التاريخ، وقد اختصت دون كافة المدائن بالنصيب الأوفر في سفك دماء الأنبياء حتى قالها المسيح: «لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم، هذه شهادة دموية وضعها المسيح على جبين التاريخ لأورشليم والمسيح بقوله: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك» فهو إنما يتكلم أيضاً بفم یهوه: « بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد» (إش ٦٥: ٢ ، رو ١٠: ٢١).والمسيح في هذا القول يحكي عن خبرته هو ، لأن قوله: كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها يعني تماماً أنه كان جادا في حمايتها من أعدائها ومن الرومان أيضاً، بأن يبث فيها روح السلام والوداعة والمحبة لتصبح هي مسئولة عن سلامة روما والعالم كله. فهي إن كانت وقعت فريسة الأسد الروماني الذي عراها من مجدها وخربها وتركها خاوية تنعي تاريخ مجدها، فلأنها قدمت لروما أسوأ صورة لأمة تعاهدت مع الشيطان للقتل والمقاومة بشراسة فبعد أن قتلت رئيس السلام ماذا يتبقى لها إلا الحديد والنار. رفضت السلام بيد الله فشربت كأس النقمة حتى النهاية ثلاث سنوات وأكثر وهو يتودد لها ليسقيها كأس المصالحة مع الله ويرفع رأسها وسط الشعوب لتصبح مدينة السلام بالحق كاسمها، ولكنها عوض أن تقبل من يده خلاصاً؛ سفكت دمه على الأرض ظلماً وهواناً.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
24 أبريل 2025
بدعة فالنتينوس
فالنتينوس الهرطوقى
1- أتى فالنتينوس إلى روما فى عهد هيجينوس، وإزداد قوة (أى أنتشر فكره) فى عهد بيوس، وظل حتى أنيسيتوس (1) ودخل الكنيسة ايضاً كردون (2) سلف مركيون، فى عهد هيجينوس تاسع اسقف، وأعترف، وأستمر هكذا، يعلم فى السرحينا، وكان يعترف جهراً حيناً، وفى بعض الأحيان كان يوشى به بسبب تعاليمه الفاسدة فينسحب من إجتماعات الأخوة، هذا ما هو مكتوب فى الكتاب الثالث من المؤلف " ضد الهرطقات "
بدعة كردون وبدعة مركيون البنطى
2 - وفى الكتاب الأول ذكر الاتى عن كردون: " أما كردون الذى استمد شيعته من أتباع سيمون، واتى إلى روما فى عهد هيجينوس، تاسع أسقف منذ عهد الرسل، فقد نادى بأن الرب افله الذى أعلنه الناموس والأنبياء ليس أبا ربنا يسوع المسيح، لأن الأول معروف، والأخير غير معروف، الأول عادل، والأخير صالح (3)، أما مركيون البنطى فقد خلف كرودون فوسع تعاليمه ونطق بتجاديف مزرية "
3 - ويكشف إيريناوس فى دقة عن هاوية ضلالة فالنتينوف فيما يتعلق بالمادة ويعلن خبثه وخداعه السرى والخفى كالحية الكامنة فى وكرها .
فلاسفة الغنوسية - الفليسوف فالنتينوس
فالنتينوس والمدرسة الفالنتينية
صرف المعلِّم والفيلسوف المسيحي العظيم فالنتينوس (حوالى 100-175 م) سنوات تأهيله في الإسكندرية، حيث اتصل أغلب الظن بباسيليدس. وقد غادر بعد ذلك إلى روما، حيث باشر سيرتَه في التعليم العام، الذي كان من النجاح بحيث أُتيحَتْ له فرصةٌ جدية لانتخابه أسقفًا لروما. على أنه خسر الانتخابات، وخسرت الغنوصيةُ بذلك فرصةً أن تصير مرادفة للمسيحية، وبالتالي دينًا عالميًّا. لكن هذا لا يعني أن فالنتينوس فشل في التأثير على تطور اللاهوت المسيحي – إذ إنه أثَّر قطعًا، كما سنرى أدناه. فعِبْرَ فالنتينوس، ربما أكثر من أيِّ مفكر مسيحيٍّ آخر معاصرٍ له، صار للفلسفة الأفلاطونية، والأناقة البلاغية، ولمعرفة تأويلية عميقة بالكتاب المقدس، أن تتسلل معًا إلى عالَم اللاهوت المسيحي. وقد بقي إنجاز فالنتينوس بلا نظير مدة حوالى قرن، حتى ظهور أوريجينس الذي لا يضاهى على الساحة. ومع ذلك، قد لا يجانب الصوابَ قولُنا بأن أوريجينس ما كان ل"يحدث" لولا المثال الذي ضربه فالنتينوس.
لم تبدأ كوسمولوجيا فالنتينوس بوحدة، بل بثنوية أولية – زوجين – عبارة عن كيانين يُدعيان "اللاموصوف" و"الصمت". ومن هذين الكائنين الأصليين ولد زوجان ثانيان: "الوالد" و"الحقيقة". وعن هذه الكينونات تتولد أخيرًا رباعيةٌ هي "الكلمة" logos و"الحياة" z?? و"الإنسان" anthropos و"الكنيسة" ekkl?sia. ويشير فالنتينوس إلى هذا الفريق الإلهي ب"الثُمانية الأولى" (إيريناوس، 1.11.1)؛ وهذه الثُمانية تمخَّضت عن كائنات أخرى عديدة، منها واحد تمرَّد أو "عصى"، كما يخبرنا إيريناوس، وبذلك أطلق الدراما الإلهي الذي أنتج الكوسموس في المآل. وبحسب إيريناوس، الذي كَتَبَ بعد موت فالنتينوس بخمس سنوات فقط، والذي في رسالته ضد الزندقات حفظ الخطوطَ العريضة لكوسمولوجيا فالنتينوس، فإن الكيان المسؤول عن مباشرة الدراما يُشار إليه بوصفه "الأم"، التي ربما المقصود منها هي صوفيا (الحكمة)؛ ومن هذه "الأم" نشأ كلٌّ من الهيولى المادية hul? والمخلِّص، "المسيح". وقد وُصِفَ عالمُ المادة ك"ظل"، مولود من "الأم"، باعَد المسيحُ بين نفسه وبينه و"سارع صاعدًا إلى الملأ" (إيريناوس، 1.11.1؛ قارن: بويماندرس، 5). وعند هذه النقطة قامت "الأم" بولادة "طفل" آخر، "الباري" d?miourgos المسؤول عن خلق الكوسموس. وفي الرواية التي حفظها إيريناوس، لا يَرِدُ شيءٌ عن أيِّ دراما كوني تقع وفقه "الشراراتُ الإلهية" في شراك أجسام من لحم من خلال خطط الديميورغوس. إلا أنه يُفترَض أن فالنتينوس شَرَحَ أنثروبولوجيا شبيهة بأنثروبولوجيا أسطورة صوفيا الكلاسيكية (كما وردتْ، مثلاً، في كتاب يوحنا المنحول؛ راجع أيضًا: أقانيم الرؤساء ورؤيا آدم)، ولاسيما أن مدرسته، كما مثَّل لها تمثيلاً بالغ الأهمية تلميذُه اللامع بطليموس (انظر أدناه)، آلت إلى بَسْطِ أسطورة أنثروبولوجية غاية في التعقيد، لا بدَّ أنها تفرَّعتْ عن النموذج الأبسط الذي قدَّمه فالنتينوس نفسه. وتنتهي الرواية التي حفظها إيريناوس بوصفٍ لعقيدة مشوشة نوعًا ما عن مسيح سماويٍّ وأرضي، وبمقطع وجيز عن دور الروح القدس (إيريناوس، 1.11.1)، منه يخرج المرءُ بفكرة أن فالنتينوس كان يراود عقيدة بدائية للثالوث. وبالفعل، فبحسب لاهوتيِّ القرن الرابع ماركيلوس الأنقري، كان فالنتينوس "أول مَن استنبط مفهوم ثلاثة كيانات (أقانيم) في كتابه في الطبائع الثلاث" (فالنتينوس، مقطع ب، ليتون). كان فالنتينوس قطعًا هو المسيحي الأصرح بين الفلاسفة الغنوصيين في زمانه لقد رأينا كيف تخلَّل فكرَ باسيليدس ميلٌ رواقي، وكيف شعر مرقيون بالحاجة إلى تجاوُز الكتاب المقدس ليطرح إلهًا فاديًا "غريبًا". أما فالنتينوس، من ناحية أخرى، فيبدو أنه اطَّلع، كما يتبيَّن من آرائه، على الكتب والتفاسير اليهودية والمسيحية بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية على الفلسفة "الوثنية"، وبخاصة الأفلاطونية. ويظهر هذا كأشد ما يكون في روايته الخاصة للمفهوم الثيولوجي المألوف عن "الاصطفاء" أو "التقدير المسبَّق"، الذي يَرِدُ فيه (على غرار بولس في الرسالة إلى الرومانيين 8: 29) أن الله اصطفى أفرادًا معينين، قبل بدء الأزمنة، للخلاص. وقد كَتَبَ فالنتينوس في نصٍّ يبدو وكأنه بقية من موعظة (فالنتينوس، مقطع و):
منذ البدء، وأنتم ["المصطفَوْن" أو المسيحيون الغنوصيون] خالدون، وأنتم أبناء الحياة الأبدية. تنشدون رَصْدَ الموت لأنفسكم بحيث يمكن لكم أن تنفقوه وتستنفدوه، وبحيث يموت الموتُ فيكم ومن خلالكم. إذ عندما تُعدِمون العالم من غير أن تفنوا أنتم، فأنتم السادة على الخلق وعلى كلِّ فساد هذا يبدو وكأنه ردُّ فالنتينوس على معضلة ديمومة الخلاص: بما أن صوفيا أو "الأم" الإلهية – وهي فَرْدٌ من الملأ الأعلى – قد سقطت في الضلال، كيف يمكن لنا التأكد من أننا لن نقترف الغلط نفسه أو غلطًا مماثلاً بعد أن نبلغ الامتلاء؟ فبإعلانه أن دورَ "المصطفى" (أو المسيحي الغنوصي) ومهمَّتَه هي استنفاد الموت و"إعدام" العالم، يوضح فالنتينوس موقفه الذي مفاده أن تلك النفوس المختارة نفوس مشارِكة في خلاص العالم، إلى جانب المسيح، الذي كان أول مَن حمل الخطيئة والفساد المتأصِّلين في العالم المادي (راجع: إيريناوس، 1.11.1؛ وليتون، ص 240). لذا، بما أن "أجرة الخطيئة هي الموت" (الرسالة إلى الرومانيين 6: 23)، فإن أيَّ كائن قادرٍ على تحطيم الموت لا بدَّ أن يكون معصومًا من الخطيئة. ففي نظر فالنتينوس، إذن، أن الفرد المقدَّر له أن يخلص مقدَّر له أيضًا نوعٌ من الخلافة الإلهية تتضمن دورًا فاعلاً في التاريخ، وليس مجرد راحة مع الله، أو حتى حياة غبطة من الخلق المحب، كما ذهب باسيليدس. طالب فالنتينوس مستمعيه – على غرار بولس – بالاعتراف بمخلوقيَّتهم؛ إلا أنهم – خلافًا لبولس – اعترفوا بخالقهم بوصفه "الوالد اللاموصوف"، وليس كإله الكتب المقدسة اليهودية. وبعد فالنتينوس، أضحت مهمةُ التأويل المسيحي إثباتَ الاستمرارية بين العهدين القديم والجديد. وفي هذا الصدد، كما وفي الروحانية العامة لتعاليمه – ناهيك عن عقيدته البدائية في التثليث – كان لفالنتينوس وَقْعٌ لا يُجارى على تطور المسيحية.
د. منظومة بطليموس
وصف إيريناوس بطليموس Ptolemaeus (حوالى 140 م) ب"بزهرة مدرسة فالنتينوس" (ليتون، ص 276). لكننا لا نعرف شيئًا يُذكَر عن حياة بطليموس ما عدا الكتابين اللذين وصلانا: الأسطورة الفالنتينية الفلسفية المفصَّلة التي حفظها إيريناوس، والرسالة إلى فلورا، من وضع فالنتينوس، التي حفظها القديس أبيفانيوس حرفيًّا. نقع في الكتاب الأول على منظومة فالنتينوس، مفصَّلة تفصيلاً كبيرًا على يد بطليموس، التي تحتوي على أسطورة أنثروبولوجية مركَّبة تتمركز حول آلام صوفيا. كما نقع أيضًا، في كلٍّ من الأسطورة والرسالة، على محاولة بطليموس للتوفيق بين الكتب اليهودية وبين تعاليم الغنوصية والتأويل المجازي للعهد الجديد، في صورة غير مسبوقة بين الغنوصيين قبلئذٍ.
في النظام البطليموسي يَرِدُ في صراحة أن سبب سقوط صوفيا هو رغبتها في معرفة الآب الفائق الوصف. وبما أن سبب توليد الآب للأيونات (الذين صوفيا آخرهم) كان "رفعهم جميعًا إلى مرتبة الفكر" (إيريناوس، 1.2.1)، لم يكن مسموحًا لأيٍّ من الأيونات أن يبلغ معرفة تامة بالآب. لقد كانت الغاية من الملأ الأعلى أن يوجد كتعبير حيٍّ، جمعيٍّ، عن السعة العقلية للآب؛ فإذا قُيِّضَ لأيِّ كائن مفرد ضمن الملأ الأعلى أن يصل إلى الآب لتوقفت الحياة برمَّتها. تقوم هذه الفكرة على موقف إيجابي بالدرجة الأولى تجاه الكون، بمعنى أن الوجود، مفهومًا ككفاح، ليس من أجل نهاية مستكينة، بل من أجل مستوى متزايد أبدًا من البصيرة الخلاقة أو "التكوينية". والهدف، من هذه الوجهة، هو الإبداع من خلال الحكمة، وليس مجرد الوصول إليها كغرض أو كغاية في حدِّ ذاتها. ومثل هذا الوجود لا يتَّسم بالرغبة في غرض ما، بل بالحري في القدرة على الإمعان في الانخراط الخلاق والتكويني مع "الظرف" (= الوضعية المعيَّنة أو الميدان الفردي) الخاص بالمرء. عندما رغبتْ صوفيا في معرفة الآب، فإن ما كانت ترغب فيه إذ ذاك، في المقام الأول، هو تلاشيها لصالح فنائها الخاص فيما جعل وجودها ممكنًا في الأصل. وهذا يعادل رفض هبة الآب، بمعنى هبة الوجود والحياة الفرديين. لهذا السبب لم يُسمَح لصوفيا بمعرفة الآب، بل رُدَّتْ إلى "الحد" horos الفاصل بين الملأ الأعلى وبين "السعة اللاموصوفة" للآب (إيريناوس، 1.2.1).
أما ما تبقَّى من رواية بطليموس فيتعلق بإنتاج الكوسموس المادي اعتبارًا من "آلام" صوفيا المُأقْنَمَة وفاعلية المخلِّص (يسوع المسيح) في ترتيب هذه الآلام الشواشية أصلاً في تراتبية منتظمة من الموجودات (إيريناوس، 5.4.1 وما بعدها، وقارن: الرسالة إلى القولوسيين 1: 16). إن ثلاثة صفوف من الكائنات البشرية تنوجد من خلال هذا الترتيب: "المادي" hulikos و"النفساني" psukhikos و"الروحاني" pneumatikos. البشر "الماديون" هم أولئك الذين لم يبلغوا الحياة العقلية، وبالتالي لا يعقدون آمالهم إلا على ما هو هالك – ولا أمل في الخلاص لهؤلاء. "النفسانيون" هم أولئك الذين ليس لديهم إلا تصور نصف متشكِّل عن الإله الحقيقي، وعليهم، بالتالي، أن يحيوا حياة منذورةً للأعمال المقدسة والثبات على الإيمان؛ وبحسب بطليموس، هؤلاء هم المسيحيون "العاديون". وأخيرًا، هناك البشر "الروحانيون"، الغنوصيون، الذين لا يحتاجون إلى الإيمان لأنهم على معرفة فعلية (غنوص) بالحقيقة العقلية، وبذلك هم ناجون بالطبيعة (إيريناوس، 2.6.1، 4.6.1).
يقوم المفهوم الفالنتيني البطليموسي للخلاص على فكرة أن الكوسموس هو التجلِّي العياني أو الأقْنَمَة لرغبة صوفيا في معرفة الآب و"الآلام" التي نجمتْ عن فشلها. إن تاريخ الخلاص للكائنات البشرية له، إذن، صفة التجلِّي الخارجي للسيرورة المثلَّثة لافتداء صوفيا نفسها: الاعتراف بآلامها؛ "رجوعها" epistroph? تاليًا؛ وأخيرًا، فعل توليدها الروحي، الذي انبثقتْ منه الإنسانيةُ الغنوصية (راجع: إيريناوس، 1.5.1). الخلاص، إذن، في شكله النهائي، يجب أن يتضمن نوعًا من الخلق الروحي من قِبَل الغنوصيين الذين يبلغون الملأ الأعلى. غير أن على البشر "النفسانيين"، المكوَّنين جزئيًّا من مادة قابلة للفساد وجزئيًّا من ماهية روحية، أن يظلوا مكتفين بوجود بسيط مريح مع "صانع" الكوسموس، بما أنه لا يمكن لعنصر ماديٍّ أن يدخل الملأ الأعلى (إيريناوس، 1.7.1).
في رسالته إلى فلورا (في أبيفانيوس، 1.3.33-10.7.33)، التي هي محاولة لهداية امرأة مسيحية "عادية" إلى مذهبه المسيحي الفالنتيني، صاغ بطليموس صياغة واضحة مذهبَه في العلاقة بين إله الكتب المقدسة العبرية، الذي هو "عَدْل" وحسب، وبين الآب اللاموصوف، الذي هو الخير الأسمى. وعوضًا عن مجرَّد إعلان أن هذين الإلهين غير متَّصلين، كما فعل مرقيون، بَسَطَ بطليموس قراءة مركَّبة، مجازية، للكتب المقدسة اليهودية فيما يتصل بالعهد الجديد بغية ترسيخ سلالة تربط الملأ الأعلى، صوفيا و"آلامها"، الديميورغوس، والنشاط الخلاصي ليسوع المسيح بعضها ببعض. إن مدى عمل بطليموس ودقَّته، والأثر الذي خلَّفه على المسيحية الأرثوذكسية الناشئة، يؤهِّله لكي يكون واحدًا من أهم اللاهوتيين المسيحيين الأوائل، الأرثوذكسيين الروَّاد منهم و"الزنادقة".
المزيد
06 أبريل 2025
انجيل قداس يوم الأحد السادس و من الصوم الكبير
تتضمن البحث في العقاب الزمنى للخطاة مرتبة على فصل انجيل تفتيح عينى المولود من بطن أمه أعمى (يو ٩ : ١- ١٤ )
بينما كان السيد مجتازا في الطريق رأى انسانا مولودا من بطن أمه أعمى فسأله تلاميذه قائلين: " يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى فأجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا ابواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه " إن هذه المسألة عسرة الفهم جدا. لأنه إذا كان هذا الإنسان قد ولد من بطن أمه أعمى فأين ومتى أخطأ؟ أفى البطن وقبل أن يولد ؟. إن في هذا عجبا. لأنه قبل أن يولد لم يكن في الوجود حتى يقال إنه ولد أعمى قصاصا له على خطيته وبالتالي لم يكن ممكنا أن يخطئ وقول البشير أيضا " أم أبواه " لا يصح صدوره عن الرسل إن لم يكن هناك سبب آخر. لأنهم يعرفون الكتاب المقدس القائل إن الله إن هذه المسألة عسرة الفهم جدا لأنه إذا كان هذا الإنسان قد ولد من بطن أمه أعمى. فأين ومتى أخطأ؟ أفي البطن وقبل أن يولد ؟ إن في هذا عجباً لأنه قبلي أن يولد لم يكن في الوجود حتى يقال إنه ولد أعمى قصاصاً له على خطيته وبالتالى لم يكن ممكناً أن يخطئ وقول البشير أيضاً " أم أبواه " لا يصلح صدوره عن الرسل إن لم يكن هناك سبب آخر لأنهم يعرفون الكتاب المقدس القائل أن الله لا يعاقب الابن بخطأ أبيه كما يظهر من قول حزقيال النبي " النفس التي تخطئ هي تموت" أيكون السبب إذن الذى جعل الرسل أن يلقوا هذا السؤال : " من أخطأ هذا أم أبواه " ذلك المثل الدارج بين اليهود : " الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الابناء ضرست كلا ليس هذا هو السبب لأن الله قد أثبت بقسم أنهم لا يرون اتمامه بالفعل. إذ قال بواسطة حزقيال النبي : " حى أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في اسرائيل " وإنما السبب في ذلك عقيدة التناسخ ولما ولد التي كانت سائدة بين اليهود في ذلك الحين. فظن التلاميذ السائلون وهم من اليهود أن هذا الأعمى كان صحيح العينين عند ولادته الأولى. وأخطأ في جسده الأول. ثانية عوقب بالعمى ليتطهر من خطاياه السابقة وهذا الظن الجاهم لأن يسألوا معلمهم قائلين: " من أخطأ هذا أم أبواه " فأجابهم بقوله : " لا هذا أخطأ ولا أبواه " فأبطل بهذا ظنهم الذى كان قد خامرهم وقوض أركان الرأى الخاطئ الذي كان سائداً بين اليهود وهو عقيدة التناسخ. وقد ظهرت أعمال الله في هذا الأعمى بتحويل ظلام عينيه إلى نور بواسطة الطين والتفل وعلى ذكر هذا الإشكال الذى عرض للتلاميذ بخصوص المولود من بطن أمه أعمى نبحث في التجارب وأنواعها فنقول إنها تكون لتمجيد الله كما سمعتم بفصل انجيل هذا اليوم للقصاص المادى الزمني كما حدث للانسان الزاني الذي أمر بولس الرسول بتسليمه للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص النفس يوم الرب يسوع للخلاص من شر الكبرياء. كما قال بولس الرسول عن نفسه أنه أعطى فى جسده ملاك الشيطان ليلطمه. فسأل الرب من أجله ليفارقه. فقال له: " تكفيك نعمتى لان قوتى في الضعف تكمل " للتجربة كما حدث لأيوب البار هذه أنواع التجارب ويعترض البعض على وجود أبرار معاقبين وخطاة يرقدون بسلام ونسى أو تناسى أن أحكام الله لجة عظيمة وانها بعيدة عن الفحص والاستقصاء لأن من يقدر أن يعرف أفكار الرب أو من صار له مشيرا
نعم يوجد خطاة قد عوقبوا كقايين وفرعون وشاول و آخاب ونبوخذ نصر وغيرهم كثيرون. ويوجد خطاة آخرون عاشوا في سعة ورقدوا بسلام كرحبعام وأبيا و وعمرى وغيرهم كثيرون. وذلك لأنه لو عاقب الله جميع الخطاة في هذا العالم لصارت الفضيلة أمراً اضطرارياً وخوفاً من العقاب الحسى الزمني وليس حباً في الصلاح ولا لأجل الحظوى بالملكوت الأبدى. إذ لا يكون ثواباً للفضيلة وحينئذاك يكون خضوع الإنسان للناموس كخضوع الفرس للجام. وتكون الدينونة العامة غير لازمة فيبطل القول بخلود النفس. ويعكف الاشرار على شرب كأس الخطية ولا شرب الماء. وفى هذا إنكار لعناية الله تعالى وبما أننا نؤمن بعدل الله. فمتى شاهدنا بعض الخطاة غير معاقبين في هذا العالم فأنه يجب علينا أن نتأكد بوجود حياة أخرى مستقبلة. وأنه سيأتي يوم فيه يعاقب الله الخطاة الذين رقدوا بدون عقاب. أما معاقبته للبعض في هذه الدنيا فإنما هو لكي يقمع ذوى الشر والفساد ويرهبهم. ولكى يظهر اعتناءه بالبشر وبأعمالهم.
غير أن البعض ارتأى ان الله يعاقب في هذه الدنيا أولئك الذين قد بغضهم لكثرة خطاياهم. ويترك أولئك الذين أخطأوا خطايا صغيرة. وهذا الرأى غير صحيح. لأن الكتاب يقول من أجل الخطاة المعاقبين في هذه الدنيا أن : " الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بأبن يسر به ويقول من أجل الخطاة غير المعاقبين في هذه الدنيا : " لا أعاقب بناتكم لانهن يزنين. ولا كناتكم لأنهن يفسقن. لأنهم يعتزلون مع الزانيات ويذبحون مع الناذرات الزنى وشعب لا يعقل يصرع . "فمن هذا ايها الاحباء نعلم أن الله يؤدب ذوى الخطايا الصغيرة لأنه يحبهم ولكي يجذبهم اليه بواسطة التوبة أما ذوى الخطايا الثقيلة فأنه يتركهم ويحفظهم ليوم السوء والأبرار أيضاً قد يطرأ عليهم ما يطرأ على الاشرار. فإننا نرى في الكتاب من هو مشرف وموفق في هذه الدنيا ومنهم من هو محتقر ومضطهد ومضطهد كيوسف مثلا نراه راكباً مركبة ملوكية وأيوب مطروحا على المزبلة وداود جالسا على كرسى الملك وإرميا ملقى فى جب الحماة ودانيال مشرفاً من نبوخذ نصر و وميخا مضروبا من صدقيا فإن : قلت ولماذا هذا ؟ أجبتك بأن الله قد جعل بعض الأبرار مشرفين لكى يراهم الناس فيكرموا الفضيلة ويجتهدوا في اقتنائها وجعل البعض الآخر محتقراً ليمتحن شجاعتهم. ولكي يضئ نور فضيلتهم في هذا العالم فيتعظم اسمه القدوس كان الله في العهد القديم يعاقب الخاطئ أثر ارتكابه الخطية ومن ذلك أن رجلا قطع حطبا في يوم السبت فأمر بقتله بالحجارة فقتل( وكم من الناس لا يجمعون حطبا يوم السبت فقط، بل يصرفون في كل أيام الاعياد في محال الخمور والفجور ومع ذلك لا يرجمون ولا يقتلون إن مريم وهرون تكلما على موسى لاتخاذه أمراة حبشية قائلين : " هل كلم الرب موسى وحده. ألم يكلمنا نحن أيضاً وفي الحال صارت برصاء وكم من الناس يسعون لضرر غيرهم بالوشاية والنميمة : ومع ذلك لا يسهم البرص إن عزة مد يده إلى تابوت الرب فجرح ومات لدى التابوت وكـــــم مــن المسيحين في هذه الايام يتجاسرون ويمدون أيديهم إلى الاسرار الالهية بدون استحقاق ومع ذلك لا يجرحون ولا يموتون إن كثيرين يحسدون ويطمعون ويكذبون ويفعلون شروراً متنوعة ومع كل ذلك لا يعاقبون كأولئك فلماذا هذا يا ترى ؟
الجواب: إن الله جل وعز قد عاقب البشر بأنواع كثيرة على سبيل العبرة والمثال لكي يبين للناس أنه ينتقم من الخطية ويؤدب الخطاة كما يقول الرسول: "كلى تعد ومعصية نال مجازاة عادلة" ولاجل هذا تراه في هذه الايام يطيل أناته فلا يؤدب الجميع أثر أرتكاب الخطية في هذه الحياة وذلك حتى تبقى إرادة الانسان حرة فيعمل الفضيلة بالرضاء والاختيار وإلا فالقصاص سوف ينتظره فسبيلنا أيها الأحباء أن نحزن ونذرف الدموع على خطايانا مقدمين فروض التوبة والندامة معترفين حتى بما نظنه صغيراً كالحقد والحسد والنميمة وما أشبه ذلك لنحظى بما وعدنا به ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذى له المجد إلى الابد أمين.
القديس يوحنا ذهبى الفم
عن كتاب العظات الذهبية
المزيد
14 أبريل 2025
الساعة الثالثة من يوم الاثنين مر ۱۱ : ۱۱ - ١٩
فَدَخَلَ يَسُوعُ أَورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ، وَلَمَّا نَظرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذ كَانَ الوَقتُ قَدْ أَمْسَى، خَرَجَ إِلى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاثني عَشَرَ وَفِي الْعَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْهَا جَاءَ، فنظر شَجَرَة تين مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فلمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا إِلَّا وَرَقا، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقتَ التّين ، فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لا يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إلى الأبد!». وَكَانَ تَلَامِيدُهُ يَسْمَعُون. وَجَاءُوا إِلى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الهَيْكَل ابتدأ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفةِ وَكَرَاسِي بَاعَةِ الْحَمَامِ. " وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَارُ الهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيع الأمم؟ وَأنتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغارة لصوص». وَسَمِعَ الْكَتَبَة وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ فطلبوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ من تعليمه. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، خَرَجَ إلى خارج المَدِينَةِ.
لعن شجرة التين
قصة في ظاهرها يبدو المسيح بشراً عادياً يجوع في ميعاد الأكل. ولكن في باطنها كالعادة مستور سر حياته وخدمته ورسالته كلها. فبعد هذه المدة كلها في الكرازة والخدمة اشتهى أن يأكل من ثمر التينة التي هي دائماً رمز لإسرائيل، فما وجد ثمراً يؤكل بل ورقا أخضر كناية عن مظاهر وأعمال بلا فائدة فقال لها لا يأكل من ثمرك أحد إلى الأبد، فكان. ثم عاد حينما جلس معهم فكشف عن سر التينة أن في آخر الأيام تزهر وتثمر من جديد كأنه جاء أوان إثمارها بعد اللعن: «فمن شجرة التين تعلموا المثل، متى صار غصنها رخصاً وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف (وقت الحصاد) قريب. هكذا أنتم أيضاً متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريب على الأبواب».
في الحقيقة إن موضوع شجرة التين يحتل جزءاً هاماً في هذه الأيام الأخيرة، وخاصة بعد أن بكى المسيح أورشليم ورثاها وتنبأ بخرابها .
كل معجزات المسيح السابقة كانت بدافع المحبة وذات ثمر للمحبة واضح. فلماذا - إذن - هذه المعجزة وكأنها تأديبية لخليقة لا تحس ولا تشعر ؟ وبلا ذنب اقترف. فهي بهذا تختلف كثيراً جداً عن باقي أعمال المسيح الأخرى، لأنه لم يأت ليهدم بل ليكمل ويشفي ويحيي!
ولكن واضح أن في هذا العمل كله نوعاً من الرمزية عنيفاً ومستتراً. ولهذا العمل علاقة جدّ شديدة وخطيرة بالموقف القائم بعد خدمة المسيح الطويلة وقد بلغت النهاية فعلاً، ببكائه على أورشليم وتنبئه بخرابها . أليس في هذا العمل تعبير عن مظهر الأمة اليهودية التي تبدو كشجرة التين الخضراء الجميلة من الخارج، وهي من الداخل عفنة شبه ميتة غير مثمرة البتة ! عَمِلَ فيها صاحب الكرم المستحيل لثلاث تعطيل لأرض السلام وتزييف لأشجار الله وإحباط لعمل المسيح الذي عمل ؟ لقد عُرفت شجرة التين بين الأشجار الطيبة أنها تكني عن الأمة اليهودية، وهذه الأمة اليهودية رفعت يدها على بعلها وجابلها تتوهم أن بقتله تستقل عن خالقها، فحكمت على نفسها بالهلاك لتخرج من دائرة ملكه قبل أن يُنصب هو ملكاً على الصليب.وهكذا كان لابد، وقبل أن تمد يدها بخلع «غصن يسى من أرض ميراثه، أن تتقبل اللعنة إلى الأبد. وما صنع المسيح بأكثر مما صنعت الأمة اليهودية في نفسها، فهي بواقعها الداخلي الذي تعفن وذبل واستقال من مجرى حياة مصيرها الموضوع تركت إلهها مصدر الوجود والحياة، فحكمت على نفسها - قبل أن تحكم على المسيح - بالفناء الوشيك. فالمسيح بلعن شجرة التين لم يزد عن مجرد إعلان وفاة قبل الحدث. ولم يشرح المسيح لتلاميذه معنى موت التينة، لأنه شرحه لما بكى على أورشليم. لقد رثاها بدموعه قبل أن يأمر بجفافها. وهناك هناك في بداية خدمته رأى هذه التينة عينها وتكلم عن قطعها: «كان لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه - ولم يكن هذا الواحد إلا الواحد الوحيد -- فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام: هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً؟». فبناءً على توسل الكرام أبقاها سنة أخرى، فلما جاء ميعاد التين ولم يجسد فيها ثمراً قطعها! «يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً، حتى ألقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً، وإلا ففيما بعد تقطعها»! وهكذا لم يصنع المسيح إلا ما صنعه الكرام، ففك لغز المثل.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
04 مارس 2025
يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني (مر ۱۰: ۱۷-۲۷)
[ وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَنَا لَهُ وَسَأَلَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لَا تَزْنِ. لَا تَقْتُلُ. لَا تَسْرِق. لَا تَشْهَدْ بِالرُّورِ. لَا تَسْلُبْ أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هذه كُلُّهَا حَفَظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْورُكَ شَيْءٍ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلِّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَيْرٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتَّبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينَاً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَتَحَيَّرَ التَّلَامِيذُ مِنْ كَلامِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: «يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُص؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ، لأَنَّ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّهِ ].
الشاب الغني وتبعية المسيح
نحن هنا أمام إنسان كامل من جميع ما يُطلب من الإنسان اليهودي، فهو مؤدب ويحترم المعلمين، وهو كما سنرى حفظ الناموس كله منذ حداثته، أما كونه ذا أموال كثيرة ففي اليهودية هذا يُعتبر نجاحاً ليهوديته وتوفيقاً من الله ومجالاً كبيراً لعمل الخير والصلاح. كذلك واضح أن هذا الغني الذي حفظ الناموس يعرف جيداً أن هناك حياة أبدية يرثها الذين أكملوا الناموس، فهو يسأل عما يعمله أكثر من حفظ الناموس ليرث الحياة الأبدية. إلى هنا لا نجد غباراً على هذه الشخصية اليهودية التي تسعى نحو الحياة الأبدية. وهو حينما جثا أمام المعلم أعلن جهاراً الطاعة الكاملة والخضوع لكل ما يشير به المعلم، ودعاه صالحاً توقيراً منه المعلمه منتظراً المشورة لما يعمله بعد أن أكمل الناموس، وكان أمله أن يدله على عمل يكمل الناموس باستخدام ثروته، ولا مانع إذا كان يأخذ منها المعلم شيئاً نظير مشورته. فابتدره المسيح بأن رفض لنفسه لقب الصلاح كمعلم، فالصلاح الله وحده وليس للمعلمين «فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْرٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتَّبَعْنِي حَامِلاً الصليب» هذه أول مرة في الأناجيل يُصرح أن المسيح أحب إنساناً، وحينما يقول الإنجيل إنه أحبه فيعني أنه أحبه شاب غني يحفظ الناموس باهتمام منذ صباه ويذهب وراء المعلمين يسأل باهتمام ماذا أعمل بعد حفظي الناموس حتى أرث الحياة، هذا نموذج فريد لا يمكن أن نجد في كلامه أو سلوكه أي خطأ ولكن للأسف لقد أخفق الفتى فيما أخفقت فيه إسرائيل كلها، لقد سحرها مالها وغناها ونسيت إلهها وعبدت كل ما عداه، ولكن إسرائيل جاءها المسيح يطلب ودها فرفضته، وذبحته، وهذا الغني جاء يطلب ود الله ولكن كان قد اقتنى مالاً كثيراً فحجزه عمن أحبه.
"اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء"
عملية تحويل بديعة وناجحة ومربحة بالدرجة الأولى، تحويل مدخراتك من بنك الأرض إلى بنك الأرصدة المرصودة لحساب الحياة الأبدية ومقره السماء، حيث لا ينقب سارق ولا يفسد سوس بأرباح مركبة المسيح هنا يقدم المشورة الناجحة للغني الساعي الميراث ملكوت الله، والمسيح لا يقدمها من فراغ بل يقول وهو الضامن لما يقول، وأمر يسوع يخرج مدعماً بقوة على التنفيذ، فمهما كان الأمر صعباً وشبه مستحيل ففي أمر المسيح ضمان التنفيذ والنجاح، لأنه لم يعد قولاً عادياً، بل أمراً يتحمل المسيح شخصياً لا نجاحه فقط بل ويتحمل أيضاً كل مسئولية تنشأ أثناء التنفيذ وبعد التنفيذ، لأنه لم يصبح أمراً عادياً بل رهاناً على مصداقية المسيح فكل من سمع وآمن وأطاع ونفذ يتحقق من مصداقية المسيح، ويرى ويعاين مجده «إن آمنت ترين محد الله».
«وتعال اتبعني حاملاً الصليب»
إن هو حقا باع وألقى بنفسه على رجاء أمر المسيح؛ يحمله المسيحويضعه على الطريق وإذ يكون قد تحرر من حمله الثقيل يستطيع أن يسير ويتبع المسيح. والذي باع كل ما له لم يعد له ما يستحق أن ينظر وراءه، ففي الحال يرى السماء مفتوحة، ويأتي إليه من يضع علامة العبور على كتفه.
«فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» .
لقد سحر المال ذلك الغني فقيمه بأكثر من الحياة الأبدية التي جاء يطلبها ودله عليها المسيح لأنه لما وازن بين المال والملكوت زين له العدو عظمة الغنى في هذا الدهر، فانطفأت جذوة الحياة الأبدية من قلبه فاغتم ومضى حزيناً على أشواق ذهبت ولن تعود وهذا هو الغم الذي اشتراه بأمواله، وهذا هو الحزن الذي ورثه له غناه!
«فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الْأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! فَتَحَيَّرَ التَّلَامِيذُ مِنْ كَلَامِهِ».
هنا القديس مرقس ينقل عن شاهد عيان دقيق الملاحظة يستطيع أن يقرأ الحركات والسكنات ويحولها إلى لغة وأوصاف. فالمسيح هنا ينظر حوله ليستطلع مدى تأثر التلاميذ بالدرس العملي الذي ألقاه عليهم على مستوى وسيلة الإيضاح فالشاب الغني كاد يبكي على حال غناه إذ جعله المسيحيقف موقفاً حاسماً من نفسه: المال أم الملكوت؟ فاختار المال ومضى مغموماً حزيناً!! وكأن المسيح يقول لهم بنظراته أسمعتم ورأيتم كيف وقف المال عثرة كؤود في طريق الملكوت؟ وبعدها قال حكمه الإلهي: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله».
«فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُص؟»
كلام المسيح لا يخضع لمنطق العالم، والخلاص أيضاً لا يخضع لمنطق أبناء هذا الدهر، ولكن باستطاعة الله أن يخلص الغني ويخلص كل إنسان، إن هو سمع صوت دعوة الله. وكل إنسان يتعذر خلاصه إن هو أراد أن يخلص نفسه، ولكن إن سلم حياته للمسيح خلص: «آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك».
وأخيراً نقول : الخلاص ليس في يد إنسان بل في يد الله، فلا نستطيع نحن أن تدبر الخلاص لأنفسنا. فالخلاص هو باستطاعة الله وحده، لذلك من الخطأ بل والخطية أن نسأل مَنْ يستطيع أن يخلص؟ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يُخلّص نفسه، هذا باستطاعة الله وحده خلوا من غنى أو فقر. شيء واحد تعلمناه من درس هذا الغني أنه إن لم يبع الإنسان كل ماله ويعطي الفقراء ويتبع المسيح حاملاً صليبه، فعسير عليه أن يخلص!
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
09 أبريل 2025
الخفيات والظاهرات
أريد أن أكلمكم اليوم عن موضوع "الخفيات والظاهرات" نحن نصلي بهذه العبارة في:
1) صلاة الشكر:
حيث نطلب من الله أن "ينجينا من الأعداء الخفيين والظاهرين".
2) التقديسات الثلاثة:
حيث نقول: "اغفر لنا خطايانا التي فعلناها بمعرفة وبغير معرفة الخفية والظاهرة".
3) تحليل نصف الليل للآباء الكهنة:
حيث نطلب من الله: "واغفر لهم خطاياهم الخفية والظاهرة".
ما هي الخطايا الخفية التي نطلب من الله أن يغفرها لنا؟
طبعًا الخطايا الظاهرة واضحة ومعروفة، ولذلك سنتكلم عن الخطايا الخفية مثل:
خطايا الفكر:
فلا أحد يعلم ما هي أفكارك، أي أنها خطايا خفية على الناس.
الخطايا الخاصة بمشاعر القلب:
فالخطايا الخاصة بمشاعر القلب هي أيضًا خطايا خفية. فلا أحد يعلم ماذا في قلبك؟ وما هي شهواتك؟
الخطايا الخاصة بالنيات:
وأيضًا الخطايا الخاصة بالنيات من الخطايا الخفية. فقد تقول في قلبك عن شخص معين: "هذا الشخص سأنتقم منه"! بالرغم من أنك لم تؤذيه فعليًا، لكن مجرد نيتك من الداخل نية خاطئة، تعتبر من الخطايا الخفية.
الخطايا المُخَزَّنة في العقل الباطن:
ومن الخطايا الخفية، الخطايا المخزنة في العقل الباطن، وأحيانًا من العقل الباطن تخرج أحلام خاطئة.
الأحلام الخاطئة:
والأحلام الخاطئة من الخطايا الخفية أيضًا فهناك خطايا خفية يقع فيها كل واحد تقريبًا.
وفي المزمور هناك آية لطيفة جدًا حيث يقول: "الهفوات من يشعر بها، من الخطايا المستترة يا رب أبرئني" (سفر المزامير 19: 12)، والخطايا المستترة أي الخطايا الخفية لذلك لابد للإنسان أن يعرف نفسه كما يقول الحكيم "أعرف نفسك". فيجب أن تعرف نفسك ليس فقط بالنسبة للأشياء التي تعملها وتظهر للناس، بل تعرف ما يحتاج لإصلاح بداخل نفسك وتصلحه وتعَّدله (الخطايا الخفية).
خطايا الجهل:
ومن الجائز أن تكون من الخطايا الخفية خطايا الجهل. أي تفعل أشياء خاطئة دون أن تعلم أنها خطايا. فهذه خطايا الجهل. وكلما تنمو في الروحيات تبدأ في اكتشاف خطايا كنت ترتكبها دون أن تشعر بخطئها لأن مستواك كان ضعيفًا، ثم تبدأ تعرف أنها كانت خطايا وفي هذا يقول الشاعر:
إذا كانت فضائلي اللائي أتيه بها عدّت ذنوبًا فقل لي كيف أعتذر
أي أحيانًا يكون بداخلك أشياء تعتبرها فضائل، ولكنها في الواقع ذنوب وأنت لا تعلم.
وفي الحقيقة ما لا نعرفه عن أنفسنا أكثر بكثير من الذي نعرفه عن أنفسنا. نحن نجهل أنفسنا وبداخلنا توجد أشياء كثيرة يجب أن نصلحها.
خطايا مخفية يغطيها البر الذاتي:
وهناك خطايا مخفية يغطيها البر الذاتي. فهناك أناس يقعون في خطية البر الذاتي، أي يظن الإنسان نفسه أنه بار فيكون بارًا في عيني نفسه فقط. ولكن له خطايا لا يعرفها أو يعرفها ولكنه يغطيها، قد يغطيها بالأعذار، أو بالتبريرات، أو بالكذب.. بأي شيء ولكنها خطايا.. خطايا خفيّة في داخله سعيدٌ هو الإنسان الذي يفحص ذاته باستمرار، ويرى ما بداخله من خفيات ويصلحها.
الخطايا الخفية سيكشفها الله في اليوم الأخير:
أريد أن أقول لكم كلمة مخيفة عن الخطايا الخفية: فالخطايا الخفية لابد أن يكشفها الله. فهناك كشف في اليوم الأخير، حين تُفْتَح الأسفار، وتُقْرَأ الأفكار وتُعْرَف النيَّات، في ذلك الوقت أين نخبئ وجوهنا؟!
لذلك الإنسان الحكيم يبحث عن الخطايا الخفية من الآن. ويحاول أن يعالجها لأن السيد المسيح يقول: "ما تقولونه في المضاجع يُنادى به فوق السطوح" (إنجيل لوقا 12: 3) ويقول ليس خفي إلا ويُعرَف ولا مكتوب إلا ويُسْتَعلَن (إنجيل لوقا 12: 2) إذن هذه الأشياء الخفية يأتي وقت وتنكشف. فلا بد أن تكتشفها أنت وتتوب عنها بدلًا من أن تنكشف في وقت لا يكون هناك توبة.
الخفيات والرجل:
نقطة أخرى في الخطايا الخفية. أحيانًا الرجل يظن أنه رجل بحق، ولكن هناك أشياء تكشفه وتُخْرِج خفاياه قد تنكشف خفاياه بواسطة المرأة، أو بواسطة المال، أو بواسطة الوظائف والألقاب فالمرأة قد تُسَيطِر على عقل الرجل سيطرة كاملة. فبعض الرجال تسيطر عليه المرأة إلى الدرجة التي تجعله يترك حتى دينه من أجلها! مما يدل على أنه: إما أنه ضعيف من الداخل لا يستطيع مقاومة المرأة، أو أن إيمانه ضعيف من الممكن أن يغيره من أجل امرأة أتذكر زمان وأنا شاب صغير كنت قرأت كتاب للكاتب الشهير أحمد الصاوي محمد، واسم الكتاب: "المرأة لعبتها الرجل". أي أن المرأة إذا شاءت تستطيع أن تلعب بالرجل. وطبعًا ليس كل الرجال هكذا. والكاتب الشهير/ أحمد الصاوي محمد له كتابين: "المرأة لعبتها الرجل" و"الشيطان لعبته المرأة"؛ أي أن الشيطان يهوى اللعب بالمرأة، والمرأة التي يلعب بها الشيطان تقوم بدورها باللعب بالرجل. فنحن نختبر الرجل هل هو رجل على حق أم لا، عندما يُواجَه بامرأة لها تأثير عليه وجاذبية عليه أو نختبره هل هو رجل على حق أم لا، وذلك عندما يُحارَب بالمال ونرى هل سيهتز أمام المال أم لا؟ هل سيغير مبادئه من أجل المال أم لا؟
أو عندما يحارب بمنصب من المناصب أو لقب من الألقاب، فيبدأ يهتز من الداخل فكلمة رجل قد تكون كلمة خارجية فقط، والخفيات تظهر بهذه الاختبارات.
الخفيات والزواج:
نقطة أخرى في الخطوبة والزواج، ففي الخطوبة يظهر الرجل في منتهى اللطف، والتودد للمرأة وطلب رضاها، ويُظهر ذوق رفيع، وبمجرد الزواج تظهر الخفيات في طريقة معاملته. أنا أتعجب عندما تأتي إليَّ بعض الزوجات ويخبرونني أن أزواجهن يضربوهن. كيف هذا؟ أين أيام الحب وأيام الخطوبة وأيام الوِد والهدايا؟! هل كان هذا من الظاهر فقط؟ وكان هناك خفيات؟ المرأة الذكية هي التي تدرك هذه الخفيات عند الرجل، قبل الارتباط به.لكن أحيانًا السيدات يقولون: نار الزوج أحسن من جنة الأب! هل هذا كلام؟! وهل تحتمل هذه المعاملة السيئة؟! والأعجب أن بعض السيدات تكون سعيدة بذلك!!
الخفيات والرهبنة:
في الرهبنة مثلًا. الرهبنة هي حياة الوحدة والصلاة. لكن بمجرد أن يتقدم شخص للرهبنة، لا نتركه للوِحدة مباشرة، لئلا نضعه في الوحدة فيغلق نفسه على طباعه الخاطئة، وخطاياه. فلابد أن نضعه في بداية الأمر في المجمع ليتعامل مع الآباء، فيظهر هل عنده غضب أم لا؟ هل يحتمل أم لا؟ هل لو غضب يفقد أعصابه؟ أم يحتفظ بغضبه في قلبه؟ وعندما يفقد أعصابه، هل يشتم؟ هل يضرب؟ ونبدأ نرى الراهب في المجمع كيف يسير؟ فإذا استطاع أن يكشف أخطاءه الخفية، في المجمع ويعالجها نسمح له بالوحدة بقلب نقي وفكر نقي أحيانًا راهب يقول ما هذا؟ هل يدخلوني الدير لأشتغل؟ أنا أريد التوحد. فنقول له: يا حبيبي تتوحد بعد أن تتنقى من الداخل.. بعد أن تكتشف الخفيات التي بداخلك وتعالجها.
الخفيات والكهنوت:
وأيضًا في الترشيح للكهنوت هناك خطأ يقع فيه الكثيرين حيث يكون هناك أحدهم مرشح للكهنوت ونسأل لماذا رُشح للكهنوت؟ فيقولون إنه خادم ممتاز يخدم في الأماكن كذا وكذا وكذا إلخ وكتلة نشاط ويعظ جيدًا ولديه معلومات ولكن عندما يرسم كاهن، يجب أن نتعرف على خفياته. كيف نعرف خفياته؟ نعرفها من كيفية معاملته مع زوجته وأولاده في البيت؟ هذه النقطة كثيرًا ما نهمل البحث فيها. لا أدري كيف سنعرف ذلك!
فإذا امرأته قالت زوجي هذا لا يصلح أن يكون كاهنًا، ستكون الطامة الكُبرى وستتلقى منه العقاب الرادع! ويوجه لها اتهامات بأنها خائنة كيهوذا وغيره من الاتهامات!! ولكن في الحقيقة للتأكد من صلاحية هذا المرشح للكهنوت لابد أن نبحث عن الخفيات والخفيات هي معاملته في البيت مع زوجته وأولاده لا يجب أن نسير بالظاهرات.
الخفيات في علاقة الإخوة:
الإخوة مثلًا كل واحد يقول عن أخوه "لا يوجد من أحبه أكثر من أخي هذا"ولكن ممكن أن تختبر محبة الأخ بخفيات معينة فلو تنازع الأخوة على الميراث، فهذه النقطة قد تحول هذا الأخ الذي يدعي حبه لأخوه إلى عداوة وقضايا في المحاكم.
الخفيات في علاقة الصداقة:
في الصداقة مثلًا، قد تقول صديقي هذا أنا أعرفه جيدًا وأثق به فيسألوك هل جربته أم لا؟ إذا قلت لا إذن أنت لا تعرفه هل حدث نوع من الاحتكاك بينكما أم لا؟ إذا لم يحدث إذن أنت لا تعرفه فعندما تحتك بشخص تظهر الخفيات لكن طوال فترة الهدوء لا تظهر الخفيات وكما قال السيد المسيح "أي فضل لكم إن سلمتم على الذين يسلمون عليكم؟! لا شيء"( إنجيل متى 5: 47).
نحن نقول: "نجنا من الأعداء الخفيين"..
من هم الأعداء الخفيين؟
الشيطان:
طبعًا أول عدو خفي هو الشيطان والشيطان يوسوس في الفكر ويوسوس في القلب، ويأتي بمُغريات وأشياء كثيرة فالشيطان من الأعداء الخفيين هو وأعوانه.
مؤامرات الناس الأشرار:
أيضًا مؤامرات الناس الأشرار الخفية والظاهرة ما أكثر المؤامرات التي ينقذك منها الله دون أن تعرف ودون أن تصل إليك الله أبعدها عنك دون أن تدري.
الأصدقاء غير المخلصين:
هناك أعداء خفيين هم الأصدقاء غير المخلصين كما يقولون "في الوش مرايا وفي القفا سلاية"!! سلاية أي شوكة.
الشخص المنافق:
من الأعداء الخفيين أيضًا الشخص الذي يكون بوجهين أمامك بوجه ومن وراءك بوجه آخر تقابله، يا سلام! ينطبق عليه قول الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
هذا الشخص يكون من الأعداء الخفيين، وإن كان يظهر كصديق أحدهم قال "نجني يا رب من أصدقائي أما أعدائي فأنا أعرفهم جيدًا" ما يقوله في وجهك غير ما يقوله في غيابك هؤلاء من قال عنهم الكتاب يلبسون ثياب الحملان وهم ذئاب خاطفة ثياب الحملان في الظاهرات، وذئاب خاطفة في الخفيات.
المتملقون
ممكن أن يكون هناك شخص في مركز كبير، يقابلوه بعض العاملين تحت إدارته بالتملق والنفاق والرياء كلها في ظاهرها أشياء طيبة بينما في الخفيات متعبة.
المرشدون الروحيين بطريقة خاطئة:
أحيانًا الأعداء الخفيين يكونون بعض المرشدين الذين يرشدون بطريقة خاطئة! الله قال لبني إسرائيل "يا إسرائيل مرشدوك مضلون"(سفر إشعياء 3: 12) فالكتبة والفريسيون والكهنة والصدوقيون ورؤساء الشعب أيام السيد المسيح، كانوا مرشدين مضلين، لذلك قال عنهم السيد المسيح "أعمى يقود أعمى كلاهما يسقطان في حفرة" (إنجيل متى 15: 14) ما أكثر الناس الذين أضاعهم مرشدون مضلون.
الخفيات والظاهرات في العلاقات:
قد يكون إنسان مخلص من الظاهر، ثم يحب علاقة أخرى، فينقلب! وتدخل حكاية "مُبَرِّئُ الْمُذْنِبَ وَمُذَنِّبُ الْبَرِيءَ كِلاَهُمَا مَكْرَهَةُ الرَّبِّ" (سفر الأمثال 17: 15) أو الألفاظ التي ليس معنى أو معناها عكسي مثل شخص يقول لك عن شخص آخر "فلان هذا الله يسامحه"، وهو في نيته يريد أن يقول "الله يجازيه حسب أعماله"ّ! ربما الكثير منكم يستخدم هذه العبارة أو شخص يسيء إلى آخر فيقول له "اذهب الله يسامحك"، وكلمة الله يسامحك هنا معناها "أنا متضايق منك إلى أقصى درجة".
التجربة أيضًا تكشف المخفي فيظهر.
الخفيات والظاهرات بالنسبة لله:
أولًا: الله لا يوجد أمامه أبدًا خفيات.
كل شيء مكشوف أمامه يعلم ما في القلب وما في الفكر وما في النية ولا يخفى عليه شيء.
ثانيًا: يعمل الله في الخفاء بواسطة نعمته
فنعمة الله تعمل معك في الخفاء فمن ضمن الخفيات، عمل نعمة الله وعمل روحه القدوس.
ثالثًا: الله يعمل معنا بواسطة ملائكته في الخفاء
ومن ضمن العمل في الخفاء عمل ملائكته القديسين يقول الكتاب "مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ" ( سفر المزامير 34: 7) ويقول "يرسل ملائكته إليك يحفظونك في كل طرقك" (سفر المزامير 91: 11) ومن ضمن الأشياء الجميلة في الملائكة وعملهم في الخفاء، أيام إليشع النبي عندما كان الجنود الأعداء يحيطون بالمدينة، وتلميذه جيحزي كان يرتعش فقال إليشع النبي "يا رب افتح عيني الغلام ليرى إن الذين معنا أكثر من الذين علينا"، فعندما فٌتِحَت بصيرته وجد ملائكة كثيرين موجودة حولهم نجوهم من الأعداء (سفر الملوك الثاني 6: 17) الملائكة تعمل في الخفاء وعملهم قوي دائمًا الأشياء التي تعمل في الخفاء تكون قوية لذلك الله أمرنا أن نعمل الخير في الخفاء دون أن يشعر أحد به وهذه الأشياء التي تعمل في الخفاء يكشفها الله في اليوم الأخير، فإذا هي نور ومجد أمام الناس لذلك يقول الله "بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ،" (إنجيل متى 6: 20) فهي أعمال في الخفاء، ولكنها كنوز تذهب إلى السماء البعض لا يحبوا أن يصنعوا كنوزًا في السماء، ولا على الأرض!
آخر شيء أقوله في الخفيات والظاهرات:
العالم الحاضر هو من الظاهرات والحياة الأبدية هي من الخفيات لأنه ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر هو من الخفيات.
مثلث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث
عظة الأربعاء يوم 19 - 5 - 2010 كاتدرائية الأنبا رويس بالقاهرة
المزيد
30 أبريل 2025
يعمل بين الصلب والقيامة
إن الله في قيامته، قدس الطبيعة البشرية القابلة للموت، وجعلها قابلة للقيامة وقبل القيامة، كان الرب يعمل من أجلنا أيضًا، حتى حينما كان جسده في القبر بالموت انفصلت روحه عن جسده ولكن لاهوته لم ينفصل قط لا عن روحه ولا عن جسده. واستطاعت روحه المتحدة بلاهوته أن تعمل عملًا خلاصيًا عجيبًا من أجل الراقدين على رجاء كان بموته قد دفع ثمن الخطية، واشترانا بدمه، لذلك كان من حقه وقد فدي البشرية، أن ينقل الراقدين من الجحيم إلى الفردوس. وقد كان بروحه المتحدة باللاهوت، ذهب إلى الجحيم، ليبشر الراقدين هناك على رجاء لقد نزل إلى أقسام الأرض السفلى، وسبي سبيًا (أف 4: 8، 9). وفتح باب الفردوس، ونقل إليه الأبرار المنتظرين في الجحيم، وادخل معهم في الفردوس اللص اليمين أيضًا حقًا ما اصدق قوله للقديس يوحنا الرائي إن "بيده مفاتيح الهاوية والموت" (رؤ 1: 18) وإن كان قد فتح باب الفردوس، فهو كما قال أيضًا "أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم" (رؤ 17: 8) (في 4: 3) حقًا طوبى لهؤلاء الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة. إذ لا سلطان للموت عليهم قد يقيمون فيه حينًا، كما أقام يونان في بطن الحوت، ثم أخرجه الرب بسلام، دون أن يكون للحوت سلطان على أذيته..!
هكذا أخرج الرب الذين في الجحيم، وبسلطانه على الفردوس أدخلهم إليه وهذا العمل العظيم عمله الرب في الخفاء وتهللت له السماء، وتحققت به أقوال الأنبياء،وفي الخفاء أيضًا قام الرب من بين الأموات أتت روحه المتحدة بلاهوته، واتحدت بجسده المتحد بلاهوته وقام بقوة لاهوته، وخرج من القبر المغلق.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
02 مايو 2025
“قوة محبة المسيح”
المسيح قام بالحقيقة قام … نحتفل هذا العام بعيد قيامة السيد المسيح، فى وسط عالم ملىء بالحروب والصراعات، عالم يبحث عن مصالحه الشخصية، ولا يبحث عن الآخر، عالم فرغ قلبه من الحب ويتباهى بالقوة. «القوة « من الكلمات المبهرة فى الحياة الإنسانية، وهى كلمة واسعة المعانى وعديدة الأبعاد والمجالات.. فهناك قوة العلم والمعرفة والمعلومات.. وهناك قوة المال والثروة والكنوز.. وهناك قوة البدن والصحة والعضلات.. وهناك قوة الفكر والأدب والفلسفات.. وهناك قوة النسك والزهد والتقشف.. وهناك قوة السيطرة والاستحواذ والتحكم.. وغير ذلك كثير ونوعيات.. ربما يصعب حصرها.. وذات يوم تساءلت: ما هى أعظم قوة فى حياة الفرد؟!.. أو حياة المجتمع؟!.. أو حياة الشعوب؟!
وشغلنى السؤال وأنا أقرأ فى كتب التاريخ وقصص الزمان، ووجدت أن كل أنواع «القوة» تظهر على مسرح الزمان وتستمر وقتًا ثم تنتهي. وهكذا كانت الممالك والإمبراطوريات الكبيرة والجيوش العتيدة.. وهكذا كان الملوك والأباطرة والطغاة، ومن كان ديكتاتورًا فى زمنه وانقضى ومن كان متميزًا ومشهورًا فى جيله وانتهى.. ومن صار علامة فى حياة البشر إيجابًا أو سلبًا.. حتى إن سليمان الحكيم يقول فى سفر الجامعة: «بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.. مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِى يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟» (1: 2، 3) ويظل التساؤل: ما هى أعظم قوة فى حياة الإنسان؟ وما هى هذه القوة التى تحمى الإنسان من السقوط فى الخطأ؟!
إنها قوة المحبة التى يسكبها الله على الإنسان فى صورة الغفران من الخطايا والذنوب، ويأخذها الإنسان ليقدمها إلى أخيه الإنسان فى صورة التسامح، والمسامحة، أمام الإساءات والتعديات الكثيرة. وقبيل صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته ظل أربعين يومًا يظهر لتلاميذه قائلاً: «هكَذَا كَانَ يَنْبَغِى أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ…» (لو 24: 46، 47).
أمام الخطايا يظهر إله الغفران المحب: «إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» حتى إن موسى النبى يصلى ويقول: «إِنَّهُ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةُ وَاغْفِرْ إِثْمَنَا وَخَطِيَّتَنَا وَاتَّخِذْنَا مُلْكًا» (خروج 34: 6-9). إن الإنسان يعيش فى عالم ملىء بالجروح والمشاعر السلبية والإساءات التى تصيبه من الآخرين، وتكون النتيجة هى إصابته بمشاعر المرارة والغضب والقلق والخوف والظلم والاكتئاب والانتقام وكل هذه الجروح والمواقف تسبب له حالة إحباط نفسى يختلف من وقت لآخر. وهذا يؤثر على جسده ونفسه وروحه وبالتالى على سلوكياته وتصرفاته سواء فى البيت أو الكنيسة أو المجتمع وتنشأ عنده حالات الكراهية واليأس والانطواء وغياب الفرح مع أعراض أخرى مدمرة قاسية.. ولا يجدى مع ذلك النسيان أو الإنكار أو الابتعاد.. ويقف الإنسان حائرًا ماذا يفعل؟!
والإجابة هى بتقديم المحبة للكل ومسامحة الكل. إن قوة المحبة من خلال التسامح هى المنقذ الوحيد للخروج من هذه المشاعر السلبية، التى شعرت فيها النفس بالإيذاء العميق. ومعروف أن الشريعة فى العهد القديم لا تقتصر على وضع حد للانتقام «عَيْنًا بِعَيْنٍ» (خروج 21: 23) ولكنها أيضًا تنهى عن بغض الأخ لأخيه، كما تحرم الانتقام والحقد نحو القريب (لاويين 19: 17-18). وقد تأمل ابن سيراخ الحكيم فى هذه التشريعات واكتشف الرابطة التى تربط بين غفران الإنسان لأخيه وبين الغفران الذى يلتمسه الإنسان من الله: «…اِغْفِرْ لِقَرِيبِكَ ظُلْمَهُ لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَايَاكَ..» (سيراخ 28: 2) والقاعدة واضحة جدًا أمام الإنسان؛ أن الله لا يمكن أن يغفر لمن لا يغفر لأخيه. ومن أهمية ذلك أن السيد المسيح وضع هذه القاعدة فى الصلاة الربانية التى نرددها كل يوم حتى لا ننساها.. إن مسامحة أخيك شرط طلب الغفران الإلهى (لوقا 11: 4؛ متى 18: 23). ولذا نجد السيد المسيح يفرض على بطرس الرسول ألا يمل من الغفران (متى 18)، ونقرأ أن إستفانوس الشماس الأول مات وهو يغفر لراجميه (أعمال 7: 10) لأن الذى «يحب» عليه أن يعى أن هناك فعلين يعملهما: أن يسامح وأن ينسى أى إساءة. إن الإنسان المسيحى يجب أن يغفر دائمًا ويغفر بدافع المحبة أسوة بالمسيح (كولوسى 3: 13) ولا يقاوم الشر إلا بالخير (رومية 12: 21). إن السيد المسيح لم يدع الخطاة إلى التوبة والإيمان فقط، بل أعلن أنه لم يأتِ إلا ليشفى ويغفر. وهو ما ظهر جلياً وقت الصلب وهو أصعب لحظات حياة السيد المسيح على الأرض، فقد قدم لنا قوة محبته التى جاء ليظهرها لكل الإنسانية، تجلت من خلال غفرانه للكل، لقد ظهر فى الجسد واهنا ضعيفا مرذولا، ولكنه كان أقوى من جميع البشر حين قال: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34) ، لقد كان قصد السيد المسيح الأول هو إظهار محبة الله للبشر وقد ظهرت من خلال الصليب المقدس إن مقابلة الخير بالخير هى عمل إنساني، ومقابلة الخير بالشر هى عمل شيطاني، أما مقابلة الشر بالخير فهى عمل إلهي. فالغفران عمل صعب على البشر لأنه ليس من طبيعتهم، ولكنه يحتاج قوة إلهية خاصة نابعة من المحبة التى سكبها الله فى قلب الإنسان المسيحى (رومية 5: 5)، وبها يغفر ويسامح ويغسل قلبه ونفسه من الإساءة ومن المرارة، ولذا نصلى يوميًا: «قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِى أحْشَائِي» (مزمور 50).
لقد قدم السيد المسيح غفرانه للجميع، أفرادا كانوا أو حشودا من الجماهير:
قدم محبه للخطاة: خلال مدة خدمة السيد المسيح على الأرض قابل خطاة لم يحبهم أحد وكانوا عطاشى إلى المحبة، منهم المرأة الزانية التى أحضرها إليه اليهود «فقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ والْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِى زِنًا»، وقالوا له إن موسى أمر برجم الزوانى (تث 17: 5، 6)، فماذا يقول هو. «قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. «أما السيد المسيح فقد تجاهلهم وبدأ يكتب على الأرض بإصبعه، وعندما ألحّوا عليه قال لهم: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ»، فبكتتهم ضمائرهم وابتدأوا ينسحبون الواحد وراء الآخر، وهنا نظر إليها السيد المسيح قائلا «يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»، فأجابته بالنفي، «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِى وَلاَ تُخْطِئِى أَيْضًا» (يو 8: 7).
قدم تسامحا مع عشار: اذ كانت فئة العشاريين الذين يحصلون الضرائب من الشعب، فئة مكروهة من الجميع، وكان زكا رئيس العشارين يطلب أن يرى السيد المسيح، وعندما علم أنه مجتاز من أريحا، ذهب إلى الطريق ولكن لقصر قامته لم يستطع بسبب الازدحام الشديد،» فَرَكَضَ مُتَقَدِّمًا وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِى أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِى بَيْتِكَ» وأمام هذه المحبة، وَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِى نِصْفَ أَمْوَالِى لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ» وبهذه المحبة قدم الله غفرانا لزكا. (لو19).
قدم غفرانا لجموع هتفت اصلبه تصلبه: كانت الجموع وقبل الصلب بأيام قليلة وعند دخوله أورشليم تهتف له أوصنا لتبن داود مبارك الآتى باسم الرب، متوهمة أنه ملك أرضى، سوف ينقذهم من الرومان، الذين كانوا حكامهم فى ذلك الزمان، ولكن حينما اكتشفوا أنه لن يحكم بلادهم، لكنه يريد توبة ويملك غفرانا، ولن يجزل المال لهم، تغيرت المشاعر ونفس الجموع وأمام بيلاطس البنطى صرخوا اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى أولادنا، أما هو فقد قدم ذاته على الصليب فداء عن هؤلاء الذين أرادوا قتله.
كما قدم أيضا غفرانا لأفراد ..منهم تلميذ أنكر: ففى أثناء القبض على السيد المسيح فى بستان جثيمانى، هرب تلاميذه، لكن تبعه إلى دار الولاية يوحنا وبطرس الرسولان، أما بطرس فقد كان ينظر من بعيد، ولأنه جليلى ولغته مختلفة عن سكان أورشليم عرفه الخدم من لغته وأشارت جارية عليه قائلة: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ»! فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلًا: «لَسْتُ أَدْرِى مَا تَقُولِينَ»! ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ»! فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: «إِنِّى لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» (مت26: 73)، لكنه بعد القيامة وحين قابله سأله سؤال واحد وكرره ثلاث مرات «أتحبنى» وأجاب بطرس فى خجل نعم يا رب انت تعلم أنى أحبك، وهنا لم يعاتب السيد المسيح عما مضى بل قال له غافرا كل ما صنعه «ارع خرافى».
وقدم غفرانا للص مصلوب عن يمينه: حين قال له: «اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك» وكانت إجابة السيد المسيح سريعة وفورية «اليوم تكون معى فى الفردوس» لقد غفر السيد المسيح للجميع، لمن جلده ومن اقتسم ثيابه، لمن صلبه ومن أمر بصلبه، غفر بقوة لكل من أساء إليه.
يا صديقي: أن تسامح الإنسان الآخر الذى أساء إليك هو قرارك بإرادتك ورغبتك واختيارك.. ولكن اعلم أن مكسبك كبير للغاية وهو الحصول على قدر أكبر من الرحمة الإلهية والشفاء الداخلى الذى تحتاجه فى حياتك الحاضرة والآتية أيضًا. لتكن صلاتك: أعطنى يا رب طاقة تسامح وغفران لكل من أساء إليَّ.. املأ قلبى بمحبتك فأستطيع أن أحب حتى الذين أساءوا إليَّ فى مشوار حياتي. لا تدعنى أحمل ضغينة ضد أى أحد.. علمنى أن أسامح وأن أغفر وأن أحب رغم الضعف والفكر والميول القلبية الشريرة التى تحاربنى وتبعدنى عن طاعة وصيتك الغالية «اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لوقا 6: 37) وفى هذه المناسبة أهنئ كل الشعب المصرى بفترة الأعياد التى نمر بها الآن، كما أشكر فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى على تهنئته الرقيقة وكذلك السيد المستشار رئيس مجلس النواب والسيد المستشار رئيس مجلس الشيوخ والسيد الدكتور رئيس مجلس الوزراء والسادة الوزراء والقوات المسلحة والشرطة الوطنية وجميع المسئولين الكرام على ارض مصر، الذين قدموا لنا التهنئة القلبية، ونصلى أن يديم الله المحبة، كما نرفع قلوبنا مع صلواتنا لكى يوقف الله كل صراع فى كل مكان فى العالم ويحل الهدوء والسلام على الأرض وفى القلوب، وكل قيامة وأنتم جميعا بخير وفرح وسلام.
قداسة البابا تواضروس الثاني
المزيد