المقالات

27 أكتوبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يوئيل

يوئيل "ويكون بعد ذلك أنى أسكب روحى على كل بشر" " يؤ 2: 28 " مقدمة لا نكاد نعرف شيئاً كثيراً عن يوئيل النبى، فهو من الأنبياء الذين يختفون ليظهر ضوء الرب ونوره، من غير إشارة إلى المشعل الذى يحمل الضوء واسمه يكاد يشير إلى هذه الحقيقة، إذ أن اسمه يعنى « الرب هو اللّه »، وهو من الشخصيات التى لا يعرف بالضبط تاريخها، فبينما يرد البعض نبوته إلى سنة 810 ق.م، يعتقد آخرون أنه على العكس من ذلك، يأتى متأخراً جداً، ولعل موطن الخلاف بين الأثنين، هو أنه لا يكاد يظهر من نبوته أثر للانقسام بين المملكة الجنوبية والشمالية، فرسالته شاملة ليهوذا وإسرائيل معاً، وإن كان من المرجح أنه عاش فى أورشليم، ورسالته أدنى إلى المملكة الجنوبية، غير أن هذا الرجل العجيب، تتلخص حياته فى كلمة واحدة إذا شئنا الحقيقة: « النصر » فهو نبنى النصر، سواء جاء مبكراً أو متأخراً بين الأنبياء الصغار،.. ومن الغريب أن هذا النصر يأتى لاحقاً لخراب شامل لا يبقى ولا يذر، فمطلع نبوته عن الخراب والدمار والهزيمة القاسية، لكن هذا الخراب قاد الأمة إلى التوبة، وجاء روح اللّه، فى الأرض الخربة، كيوم الخمسين، ليصنع من قلب الخراب، نصراً عظيماً،... كان فى وسط الأنقاض ينادى بالنصر، وكما عاد المسبيون إلى ديارهم بعد الخراب الشامل،... وكما نبتت الكنيسة يوم الخمسين من قلب أمة مستعمرة خربة، لتغزو العالم كله، فإن نبوة يوئيل تمتد إلى آخر الأيام، حيث تخرج كنيسة المسيح منتصرة انتصارها الكامل على الشر والخراب فى العالم إن قصة هذا الرجل، ورسالته من ألمع القصص والرسالات التى ينبغى أن نراها ونتأملها ونحن نعالج الشخصيات الهامة فى كتاب اللّه، ولذا يحسن أن نراه فيما يلى: يوئيل والخطية القاتلة كان يوئيل، أشبه بالإنسان الذى يمشى بين الخرائب والأنقاض، ولو أنه كان مجرد كاتب من كتاب التاريخ، لحدثنا فقط عن نوعين من الخراب ألما بالبلاد، وأتيا على الأخضر واليابس، وهما: حرب الطبيعة، وحرب الإنسان،... فالطبيعة تتمثل فى غزوة الجراد، والحرب تظهر فى انقضاض العدو، وليس هناك وصف أرهب أو أقسى من وصف يوئيل لكليهما، ففى الأصحاح الأول، نرى غارة رهيبة مروعة استخدام فيها اللّه جيشه العظيم، من الجراد، من القمص، والزحاف، والغوغاء، والطيار - أربعة أنواع من الجراد بحسب ألوانها ونضوجها، وغارات الجراد رهيبة ومفزعة لم تبق على شئ، فالكرمة خربت، والتينة تهشمت، وقد تقشر كل شئ، وطرح، ولم تبق هناك سوى القضبان البيضاء الخالية من الورق والثمر معاً،... ولم تكن هناك تقدمة يمكن أن تقدم لبيت اللّه، بعد أن ضاع المحصول وتلف الزرع بأكمله: « انقطعت التقدمة والسكيب عن بيت الرب، ناحت الكهنة خدام الرب »... « تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة، ولولوا ياخدام المذبح، أدخلوا بيتوا بالمسوح يا خدام إلهى لأنه قد امتنع عن بيت إلهكم التقدمة والسكيب » " يؤ 1: 9 و13) كما أن الفلاحين استولى عليهم البؤس والضيق: « خجل الفلاحون، ولول الكرامون على الحنطة وعلى الشعير، لأنه قد تلف حصيد الحقل. الجفنة يبست والتينة ذبلت.. الرمانة والنخلة والتفاحة، كل أشجار الحقل يبست. إنه قد يبست البهجة من بنى البشر ».. " يؤ 1: 11 و12 " « أما انقطع الطعام تجاه عيوننا، الفرح والابتهاج من بيت إلهنا، عفنت الحبوب تحت مدرها. خلت الأهراء. انهدمت المخازن، لأنه قد يبس القمح، كم تئن البهائم، هامت قطعان البقر لأن ليس لها مرعى، حتى قطعان الغنم تغنى. إليك يارب أصرخ لأن ناراً قد أكلت مراعى البرية، ولهيباً أحرق جميع أشجار الحقل، حتى بهائم الصحراء تنظر إليك لأن جداول المياه قد جفت والنار أكلت مراعى البرية». " يؤ 1: 16 - 20 " وفى الأصحاح الثانى وصف مروع رهيب للغزو الحربى: « شعب كثير وقوى لم يكن نظيره منذ الأزل، ولا يكون أيضاً بعده إلى سنى دور فدور. قدامه نار تأكل، وخلفه لهيب يحرق، الأرض قدامه كجنة عدن وخلفه قفر خرب، ولا تكون منه نجاة كمنظر الخيل منظره ومثل الأفراس يركضون كصريف المركبات على رؤوس الجبال يثبون. كزفير لهيب نار تأكل قشاً. كقوم أقوياء مصطفين للقتال. منه ترتعد الشعوب، كل الوجوه تجمع حمرة يجرون كأبطال. يصعدون السور كرجال الحرب،يمشون كل واحد فى طريقه ولا يغيرون سبلهم، ولا يزاحم بعضهم بعضاً، يمشون كل واحد فى سبيله وبين الأسلحة يقعون ولا ينكسرون، يتراكضون فى المدينة، يجرون على السور يصعدون إلى البيوت، يدخلون من الكوى كاللص. قدامه ترتعد الأرض وترجف السماء، الشمس والقمر يظلمان والنجوم تحجز لمعانها، والرب يعطى صوته أمام جيشه. إن عسكره كثير جداً. فإن صانع قوله قوى لأن يوم الرب عظيم ومخوف جداً فمن يطيقه » " يؤ 2: 2 - 11 "... ومن المعتقد أن هذا وصف من أرهب وأقسى الأوصاف القديمة التى حملها التاريخ لنا عن الحرب!!... على أنه من اللازم أن نشير إلى أن غزو الطبيعة، أو غزو الحرب، ليس مجرد أحداث شاءها سوء الظروف أو الطالع، أو نتيجة لهذا أو ذاك من ظواهر الطبيعة، أو علاقات الناس بعضهم بالبعض، إن الأمر عند يوئيل أعمق من ذلك كثيراً،.. إنه نتيجة الخطية القاتلة الرهيبة،... وإن يوم الرب بهذا المعنى، هو ذلك اليوم الذى يأتى فيه الرب، قاضياً دياناً، ليعاقب الخطية الفجور والفساد بين الناس، فى أى مكان وزمان، وفى الوقت عينه هو صورة ورمز ليوم الدينونة الأخيرة، عندما يضرب اللّه ضربته الكاملة للخطية، وحيث يقول الأشرار للجبال أسقطى علينا وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش ومن غضب الحمل!!.. يوئيل والتوبة الصادقة على أن يوئيل - وهو يتحدث عن الخطية التى تجلب كل هذا - يتحول فجأة من الظلام الرهيب، ومن الغيوم الشديدة، إلى نور الشمس المشرقة، وإلى رضا الساكن فى الأعالى، ويكشف عن روح اللّه الذى سيأتى بجلاله ومجده، ليغير كل شئ، ويقلب الأمور رأساً على عقب، أو بتعبير أصح، ليعيد الأمور إلى وضعها الصحيح، بعد أن قلبتها الخطية تماماً، ونحن لا نستطيع أن نرى الأمور فى وضعها الصحيح دون أن نربط بين النبوة كما تنبأ لها بها يوئيل، وتحقيقها فيما حدث يوم الخمسين، كما جاء فى عظة بطرس الرسول ولعله من المناسب أن نشير إلى أن يوم الخمسين، كان العيد الثانى الرئيسى عند اليهود، فالعيد الأول هو عيد الفصح، والثانى عيد الأسابيع، والثالث عيد المظال، وإذا كان الفصح عندهم رمز للتحرر من أرض مصر وعبوديتها، والمظال إعلاناً عن الشكر لراحتهم واستقرارهم فى أرض كنعان فإن عيد الأسابيع كان يشير إلى حقول الحنطة التى ابيضت للحصاد، ولذا كانوا يدعونه أيضاً عيد الحصاد أو يوم الباكورة، وكان يبدأ غد السبت السابع لسبت الفصح، أو بعد خمسين يوماً من ابتداء المنجل فى الزرع والتقليد اليهودى يعتقد أنه اليوم الذى نزلت فيه الشريعة على جبل سيناء. ومن ثم كان يوم الخمسين أنسب الأيام لانسكاب الروح القدس، وميلاد الكنيسة المسيحية، وباكورة الحصاد الهائل فى العالم والتاريخ والأجيال!!.. وهنا نحن نقف وجهاً لوجه أمام قوة الروح القدس، فإذا كانت الخطية قد خلفت الخراب والمجاعة فى غزوة الجراد الرهيبة، فإن روح اللّه قد جاء بالإثمار والحصاد العظيم الهائل،... وإذا كانت الخطية قد تركت الهزيمة القاسية، فإن روح اللّه - على العكس - يخرج النصر العظيم،... ويوئيل هنا يكشف عن عصر الروح القدس، العصر الذى لا يعمل فيه الروح فى حدود جزئية، كما كان يحل على الأنبياء أو المكلفين برسائل معينة من اللّه، وقد يكون هذا الحلول وقتياً لكنه يكشف عن الانسكاب الكامل الذى لا يفرق بين البشر، سواء من ناحية الجنس أو السن أو المجتمع: « إنى أسكب روحى على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم روئ، وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحى فى تلك الأيام » " يؤ 2: 28 و29 "والروح القدس عندما جاء غير كل شئ، وكان مصحوباً بالآيات والعجائب، فإذا كان قد أعطى البركة من جانب، فإنه من الجانب الآخر قد قضى بالدينونة على أورشليم الرافضة: « وأعطى عجائب فى السماء والأرض دماً وناراً وأعمدة دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجئ يوم الرب العظيم المخوف » " يؤ 2: 30 و31 "... ومن العجيب أن يوسيفوس المؤرخ اليهودى، وتاسيتوس المؤرخ الرومانى - قد تحدثا عن الظواهر العجيبة التى صاحبت حصار أورشليم. وقت أن دمرها الرومان، عندما تصاعد فيها الدم والنار وأعمدة الدخان، والمدينة فى طريقها إلى نهايتها الرهيبة، كما حدثانا عن كسوف فى الشمس وخسوف فى القمر الذى أضحى لونه فى لون الدم،... ومع أن هذا الرأى يلفت النظر إلى ما سيكون فى يوم الدينونة الأخيرة من ثورات الطبيعة الرهيبة، إلا أننا نرجح ما يذهب إليه كثيرون من المفسرين، من أن المعنى هنا رمزى، والشموس والكواكب هى الصور الهائلة عن التغييرات التى تحدث عندما تهزم المسيحية الدولة الرومانية، فتنهار نظمها وأكبر الشخصيات التاريخية فيها، ويتمخض التاريخ عن أعجوبة العجائب، ونعنى بها مسيحية الصيادين والفقراء، التى أسقطت قياصرة الرومان، وجبابرة الإمبراطورية العاتية تحت أقدام الناصرى العظيم،وعندما جاء روح اللّه، كان أظهر ما عمله هو تغيير الحياة بالتوبة الصحيحة، أو كما جاء فى أعمال الرسل: « فلما سمعوا نخسوا فى قلوبهم »" أع 2: 37 " أو كما جاء فى طلب اللّه على لسان يوئيل: « ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إلى بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم بطئ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر. لعله يرجع ويندم فيبقى وراءه بركة تقدمة وسكيباً للرب إلهكم »... " يؤ 2: 12 - 14" ولعلنا نلاحظ أن اللّه وهو يطلب تمزيق القلب لا الثياب، لا يقصد إتمام ذلك حرفياً، كأن يمسك الإنسان خنجراً أو سكيناً وينهال بها على قلبه بطعنات قاتلة، ولكن المعنى المقصود مجازى رمزى، تعبيراً عن أعمق حزن يمكن أن يتخيله الإنسان. فإذا كانت العادة فى القديم أن الإنسان يمزق ثيابه، أو يتغطى بمسح تعبيراً عن الحزن القاسى أو الدفين، فإن اللّه لا يرضيه هذا المظهر، إذ أنه يطلب الحزن الداخلى القلبى العميق،... أو فى عبارة أخرى، إن هناك أشياء كثيرة فى حياتنا الروحية الداخلية، يلزم تمزيقها بالتمام!!.. فالخطية بكل صورها ومشتهياتها يلزم أن تمزق، وكل أصنام رابضة فى القلب، يلزم أن تطرح وتحطم،... إلتقى رجلان عاشا فى الهند لمدة ثلاثين عاماً، وقال أحدهما - وقد كان يهوى صيد الحيوانات والوحوش البرية - لقد عشت فى الهند ثلاثين عاماً أصطاد فيها النمور، وقال الثانى وكان مرسلا: لقد عشت فى الهند ثلاثين عاماً دون أن أرى نمراً واحداً!!... وما أكثر الحيوانات الرابضة فى أعماقنا، ويلزم أن نمزقها من قلوبنا تمزيقاً دون أدنى شفقة أو تهاون أو تقاعس أو ترفق!!.. يوئيل والنصر العظيم آمن يوئيل بالنصر وهو يمد بصره إلى آخر الأيام، ولئن كانت رؤياه قد تحققت جزئياً فى الشعب اليهودى، ولاحت تباشيرها فى يوم الخمسين، كما عند سقوط أورشليم وتدميرها على يد تيطس الرومانى، إلا أن النبوة فى كمالها تأتى بنا إلى آخر الأيام عندما تسقط الخطية نهائياً وإلى الأبد، ولعل الدراسة الواعية للأصحاح الثالث من يوئيل، تأتى بنا إلى حقائق عظيمة: قائد النصر والقائد هنا، ليس إنساناً بشرياً، بل هو اللّه العلى بنفسه، والمعركة أساساً معركته، ومن ثم نجده يقول: « شعبى »... « ميراثى » « فضتى ».. « ذهبى »... « نفائسى الجيدة »... وهو يدخل المعركة - لا لمجرد أن يتمم العدالة والكرامة والحق، بين ظالم ومظلوم، وبين صاحب حق، والمعتدى على هذا الحق - بل لأنه هو اعتدى عليه، وجرح فى مركزه وكرامته ومجده،... وهو لا يمكن أن يهدأ على الإطلاق قبل أن يصحح هذا الوضع والأمر، بالضبط، أشبه بمن يلقى حجراً إلى أعلى، ومهما يرتفع الحجر فلابد أن يعود إلى الأرض، مأخوذاً بقانون الجاذبية وسلطانها،.. ومهما يحاول آلإنسان أن يقاوم هذه النواميس الطبيعية، فإنها ستتغلب عليه آخر الأمر، لتضع المقاومة فى وضعها الصحيح، طال الزمن أو قصر!!... وثمة أمر آخر فى القائد، إذ أنه القائد المحب الذى لا يهتم بالمجموع فحسب، بل بكل فرد على حده، إذ لكل واحد منا مكانه الثابت عنده، وهو لهذا لا يقول شعبى فحسب، بل يذكر أيضاً « الصبى » و« البنت » أو أصغر من فى هذا الشعب، أو أقلهم حظاً من الحياة،... إنه القائد الذى اندمج فى جنوده، وهو يخاطب الأعداء: « ماذا أنتن لى يا صور وصيدون وجميع دائرة فلسطين » " يؤ 3: 4 "... وهو هو بعينه الذى قال: « لأنى جعت فأطعمتونى، عطشت فسقيتمونى، كنت غريباً فآويتمونى، عرياناً فكسوتمونى مريضاً فزرتمونى، محبوساً فأتيتم إليّ.. بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم ».. " مت 25: 35 - 40 "« شاول شاول لماذا تضطهدنى؟!.. صعب عليك أن ترفس مناخس ».. (أع 9: 4 و5) وهو القائد المظفر: « والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطى صوته فترجف السماء والأرض ».. " يؤ 3: 16 " إنه الأسد الخارج من سبط يهوذا!! … وإذا كان نابليون قد عد من عباقرة الحروب، لأنه كان يعتقد قبل أن يدخل المعركة، أن النصر لابد أن يواتيه، ولكن نابليون هزم فى موسكو أشر هزيمة، وعندما سئل لماذا هزم!!.. أجاب: لقد هزمنى الجنرال يناير أو برد الشتاء القارص، وانتهت عبقريته إلى سانت هيلانة، حيث عاش يلعق مرارة الهزيمة حتى الموت، … لكن قائدنا دائماً حى، وقادر على كل شئ، وخرج غالباً ولكى يغلب!!.. أعداء النصر وقد وصف يوئيل أعداء النصر وصفاً دقيقاً، إذ هم أولا الأعضاء الفاسقون، عبيد الفسق والخمر الذين « أعطوا الصبى بزانية وباعوا البنت بخمر ليشربوا » " يؤ 3: 3 ". أى أنهم باعوا الصبى الصغير من أجل شهوة الفسق مع زانية، وباعو البنت الصغيرة من أجل كأس من الخمر، أو فى عبارة أخرى، أنهم عبيد الاستباحة والشهوة والمجون، والعربدة والفساد،... كان نلسون سيد البحار وعبد المرأة،... وقد قال روبرت برنز، الشاعر المجيد، الذى هز مشاعر اسكتلندا: إنه لو دخل إلى غرفة ورأى فى ركن برميلا من الخمر، وفى الركن الآخر مدفعاً يهدد من يقف إلى جواره، بأنه سيطلقه على من يشرب المسكر، فإنه لا يتردد فى الشرب حتى ولو كان يواجه الموت لا محالة!!... ولم يستطع أدجار ألن بو » أعظم كاتب للقصة القصيرة فى أمريكا، التخلص على الإطلاق من الإدمان على المسكر،... وكان الأعداء، أعداء قساة، والشر دائماً يقسى القلب: « وألقوا قرعة على شعبى ».. عندما اقتسموا غنائمهم التى غنموها بفرح وبهجة وهم يقترعون على الضحايا وأموالهم!!.. وكان الأعداء أيضاً هم الأعداء اللصوص: « أخذتم فضتى وذهبى وأدخلتم نفائسى الجيدة إلى هياكلكم »، واللصوصية سمة أعداء اللّه فهم سارقون لكل شئ للحياة، والوقت، والمال والمواهب، والوزنات... وهم - إلى جانب ذلك - الأعداء الظالمون: « من أجل ظلمهم لبنى يهوذا »... وهل يمكن أن يكون الخاطئ القاسى الشهوانى اللص إلا ظالماً ومستبداً،... قيل إن روما صنعت تمثالا لأحد العشارين، لأنه كان الوحيد الذى يجبى الأموال بالعدل!!.. وهم آخر الأمر الأعداء الوثنيون الذين أدخلوا نفائس الرب إلى هياكلهم، كانو لصوصاً وفجاراً وأثمة وأشراراً،... فمن الغريب أن يكون لهم أيضاً هياكل!!... أبطال النصر على أنه من الوجهة الأخرى، كان هناك أبطال النصر الذين أطلق عليهم الوحى « الأبطال »... وفى الواقع أن الذين يحاربون من أجل اللّه هم الأبطال حقاً: « إلى هناك أنزل يارب أبطالك » " يؤ 3: 11 " وبطولتهم هى البطولة الحقيقية لا الزائفة، ومن يضارع فى البطولة يوسف، وموسى، وداود وبطرس، ويوحنا، وبولس؟ …، ونقرأ فى سفر الرؤيا فى الأصحاح التاسع: «وشكل الجراد شبه خيل مهيأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليل شبه الذهب ووجوهها كوجوه الناس»، وهى صورة الأكاليل التى توضع على رؤوس الأبطال الزائفين فى الأرض، وهى ليست ذهباً، بل هى » شبه الذهب » لأنها بطولة زائفة كاذبة، أما أبطال اللّه الذين يقفون إلى جانب الحق مهما كان ضعفهم، فليقل الضعيف فيهم بطل أنا!!.. معركة النصر وهى الحرب الضروس الشاملة للعالم كله: « أجمع كل الأمم.. جماهير » " يؤ 3: 2 - 14 " وهى ليست قاصرة على جماعة دون جماعة، أو على أمة دون أمة،... كانت الحروب القديمة تقوم فى نطاق محدود، ثم أخذ هذا النطاق يتسع حتى عرفنا الحروب العالمية،... وإذا كان العالم ينقسم الآن إلى كتلتين رهيبتين، بينهما دول أطلقت على نفسها « الدول غير المنحازة »،... إلا أن معركة الخير والشر لا يمكن أن يكون فيها شئ اسمه الحياد أو عدم الانحياز، لأن من ليس معنا فهو علينا،... ولا مهرب من الوقوف إلى جانب الخير أو جانب الشر!!.. إنها فى الواقع، المعركة المقدسة. لقد تصور البعض أن القول: « اطبعوا سكاتكم سيوفاً ومناجلكم رماحاً، ليقل الضعيف بطل أنا » يقصد به الأعداء الذين يشددون بعضهم بعضاً، غير أن الراجح أنه نداء اللّه لجميع المؤمنين للدخول فى المعركة، وأن آلات الاقتصاد فى الزرع والحصاد ينبغى أن تتحول إلى أداة للحرب، أو فى عبارة أخرى، بالمقابلة مع لغة ميخا وإشعياء، والتى قيل فيها يطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل، من واجب المؤمنين أن يكرسوا كل جهدهم للمعركة المقدسة،... فالوقت والمال والجهد وكل قوة ينبغى تكريسها لهدم سلطان الشر فى الأرض،... وعلينا فى كل الظروف أن ندرك أن يد اللّه متدخلة فى كل شئ،.. وكما حدث فى وادى يهوشافاط حين آمن هذا الملك بالنصر حسب وعد اللّه له عندما تألب عليه المؤابيون والأدوميون والعمونيون، وساعد بعضهم على إهلاك بعض، ولم يفعل يهوشافاط أكثر من الترنم والصلاة،... هكذا يحدث معنا فى كل العصور، وهكذا سيحدث فى اليوم الأخير، عندما نرنم ترنيمة موسى والحمل!!.. مجد النصر بدأ يوئيل نبوته بالحرب والخراب، وانتهى بالجلال والمجد: « ويكون فى ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقى وادى السنط » " يؤ 3: 18 " - أو فى عبارة أخرى - إن الأرض التى ضربت باللعنة، وضاع منها الفردوس الأرضى، بسبب خطية الإنسان، تعود مرة أخرى، لتأخذ مجدها العظيم، فى الأرض الجديدة والسماء الجديدة، عندما تكمل قصة الفداء، فإذا كان لنا أن نحلل هذا المجد كما جاء على لسان النبى،... فهو فى الواقع مجد البطولة وهى بطولة الأحياء، وليست بطولة الموتى،... وإذا كانت انجلترا قد أكرمت أبطالها، إذ دفنت فى مقابر وستمنستر أولئك الذين أدوا أعظم الخدمات للامبراطورية البريطانية، وبقى رفاتهم مزاراً يذهب إليه الناس ليروا أعظم الرجال والأبطال... إلا أن مجد النصر الإلهى أعظم وأكمل وأمجد، لأنه مجد الأبطال الخالدين الذين كتبت أسماؤهم فى سفر الحياة، وقد اجتازوا الموت إلى الخلود بيسوع المسيح، وأعطاهم اللّه مجد التشبه به، والسير فى معيته، وخدمته،... ومهما عانوا من متاعب ومعارك فى الحياة،... فإنهم لا يملكون إلا أن يصيحوا مع ذلك البطل القديس، والذى كان واحداً من أغنياء لندن، ولكنه استمع إلى نداء المسيح، فترك الثروة والغنى، والجاه والنفوذ والسلطان، وعاش فى خدمة اللقطاء،... وفى أخريات حياته، وهو يموت شبه وحيد فى أحد المستشفيات قال له أحدهم: لقد كان من الممكن أن تقضى حياة أكثر ظهوراً وبروزاً ومجداً، فلماذا دفنت نفسك بين اللقطاء؟!!.. وأضاء وجه الرجل وهو يقول: إن الذى علق على الصليب أمسكنى، وما كنت لأهرب، ولم أندم لأنى قضيت حياتى لمجد ابن اللّه فى الأرض!!..
المزيد
26 أكتوبر 2022

الذين يعطون

تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحيًا. هذا القلب يعطف أيضًا ماديًا، وباستمرار يعطى وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءًا ضائعًا من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال إذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئًا، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالًا مباركًا، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقًا، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله "من يدك أعطيناك" وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضًا البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم" ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلًا أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضًا.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصًا بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يومًا للرب وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلًا، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!" كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "مَنْ سألك فأعطه. ومَنْ طلب منك، فلا ترده"هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحًا لما هو أكثر من هذا فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني"هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفيًا وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلًا فقيرًا، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة ثم مر بعد ذلك فرأى فقيرًا آخر وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه(أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه(كان هذا الإنجيل يقول لي "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء" فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه(وأين ثوبك؟) فأجابه(خلعته ليلبسه المسيح..) ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إراحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئًا ضئيلًا في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة إن القلب الحنون دائمًا يعطى. وإن لم يجد شيئًا يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالًا. أظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملًا اجتماعيًا أو إداريا، ولكنه ليس عملًا روحيًا والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته من مال الله، يعطى عيال الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته هذا القلب العطوف يعطى للكل لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس.والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصًا متعبًا أو محتاجًا. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحدًا، لأنه يتألم لآلام الناس، أكثر من تألمهم هم. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
25 أكتوبر 2022

الرياء

استخدمت كلمة مرائي في البداية في إشارة إلى الممثل المسرحي الذي يقف فوق المسرح ليتراءى للجمهور, ولكنه يتقمَّص شخصية أخرى، بمعنى أنه قد يضحك وهو غير سعيد,, أو يبكي وهو غير حزين, هو فقط يتراءى أنه بهذا الحال, فإذا صعد ممثلان فوق خشبة المسرح فهما يتراءيان أحدهما للآخر قدام الموجودين !. وهكذا مع الوقت أصبحت كلمة مرائي تعني أن يظهر شخص ما بخلاف ما يُبطن. والمرائي شخص يسعى للحصول على مديح الآخرين وكرامتهم, فقد يظهر متضعاً وهو في الواقع متعجرفاُ, وقد يظهر هادئاً وهو عصبي المزاج...إلخ علينا أن لا نظهر ما فينا من ضعفات, كما أنه علينا ألا نبالغ في اخفائها فتظهر عكسها, والوضع الأمثل هو الجهاد للتخلص من الضعفات, وعندما شبّه السيد المسيح الرؤساء المضلِّين من اليهود بأنهم يشبهون قبوراً مُبيضة من الخارج وداخلها عظام أموات وكل نجاسة (مت23) فقد قصد أن ظاهرها يوحي بالجلال والعظمة أما داخلها فهو ما يكرهه الناس والمرائي كذلك هو شخص غير صادق وهو فخ أيضاً, وإذا اكتشف الناس ضلاله فقد ُيعثرون فيه وفي الآخرين. ومثل أن يوهم شخص ما شخص آخر بأنه يحبه ثم يكتشف مع الوقت أنه غير صادق فيصدم, ولذلك يقول القديس بولس: "المحبة فلتكن بلا رياء" (رو12) وقد يكتشف الناس في النهاية أن بعض الذين كانوا في ثياب الحملان ماهم إلا ذئاب خاطفة, ويتقدم في يوم الدينونة المحتقرين والمرذولين والمُهمّشين والذين في الظل, على المشاهير وأصحاب الأسماء اللامعة والحيثيات كلما تحلّى الإنسان بالصدق كلما كان شفافاً مريحاً يشبه سيده الذى ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يعقوب 1 : 17). نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
24 أكتوبر 2022

مبدأ عظيم «من ليس علينا فهو معنا» (لو 9: 50)

رأى يوحنا الرسول واحدًا من غير تلاميذ المسيح يصلي للناس ويخرج شياطين فمنعه، وجاء لمعلمه الرب يسوع يخبره بالواقفة ويقول: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُكَ مَعَنَا".‏فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:"لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا» (لو9: 49، 50).نعلم أن أي إنسان وبالأخص لو كان رئيسًا أو مسئولًا ينقسم الناس تجاهه إلى ثلاثة أقسام:1) قسم يحبه ويؤيده.2) قسم يكرهه ويقاومه.3) قسم على الحياد، لا يؤيد ولا يقاوم.الإنسان العادي بمشاعره الإنسانية يحب الذين يحبونه ويكره الذين يكرهونه، وبالتالي يكره الذين على الحياد ويعتبرهم أعداءه لأنهم لا يؤيدونه جهارًا ولا يظهرون له محبة ظاهرة.الإنسان العادي يحب محبيه ويحب أصدقاء محبيه ويعتبرهم أحباءه، بينما يكره أعداءه وقد يكره أصدقاء أعدائه ويعتبرهم أعداءه.أمّا السيد المسيح له المجد فيعتبر الذين على الحياد أحباءه بقوله: مَن ليس علينا (يعني على الحياد) فهو معنا لأنه لا يقاومنا ولا يؤذينا. وبذلك يكون قد كسب فريقين من الثلاثة فرق (الأحباء والمحايدين).أمّا الفريق الثالث المُعادي فيحاول جاهدًا كسبهم بتقديم المحبة لهم وخدمتهم بما تسمح به الظروف، فيحوّلهم إلى أحباء، أو على الأقل يطفئ نار عداوتهم.هذا من الناحية الاجتماعية والإنسانية.أمّا من ناحية الخدمة فيقول: «‏مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ» (لو11).ذلك أن حقل الخدمة متسع ويحتاج إلى جهود الجميع، وهو يريد أن كل واحد يخدم في المجال الذي يناسبه، فيقول أيضًا: «إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ (اخدموا أنتم). فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً (آخرين) إِلَى حَصَادِهِ» (لو10: 2).ذكر كاتب سفر الأعمال أن «الَّذِينَ تَشَتَّتُوا (بعد استشهاد إسطفانوس) جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ» (أع8: 4). فكانوا يخدمون وهم مُطارَدون، فكم بالحري المؤمن المستقر يجب عليه أن يخدم وإلّا ينطبق عليه قول الرب «مَنْ لَيْسَ مَعِي (في الخدمة) فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ» (لو11: 23)، «لأَنَّ فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يع4: 17). نيافة الحبر الجليل الأنبا متاؤس أسقف ورئيس دير السريان العامر
المزيد
23 أكتوبر 2022

التغيير مع بطرس

تقرأ اليوم الكنيسة علينا فصل من إنجيل معلمنا مار لوقا البشير الإصحاح الخامس جزء دعوة معلمنا بطرس ليكون صياداً للناس معلمنا بطرس ويعقوب ويوحنا كانوا شركاء في الصيد فكل فرد منهم كان يصطاد ولهم مركب فكان من عادة الصيادين يقوموا ليلاً ليصطادوا ولكن هذا اليوم كان يوم غريب كان يوم عجيب لم يصطادوا شيئاً فهم رجعوا من الصيد شاعرين بإحباط وبفشل فوقفوا عند الشط ليغسلوا الشباك من الزفارة وبقايا الصيد ولكن كان في داخلهم تساؤلات كثيرة وهي لماذا هذا اليوم ؟ فكانوا متضايقين فوجدوا يسوع جاء إلى الشط فازدحم المكان – حينما يكون المسيح تكون الزحمة – فاجتمع عليه الجموع ليسمعوا كلام الله فضغطوا عليه من كثرتهم وهو كان لم يراهم فدخل السفينة لكي تكون هناك مسافة بينه وبينهم فيراهم كلهم وهم يروه فطلب سفينة بطرس ولكن بطرس في داخله كان يقول * لا تطول أنا تعبان أنا متضايق لن أسمعك كثيراً أنا حاكون سرحان * وربما يكون قال له إتفضل خجلاً فالسيد المسيح أخذ السفينة كمنبر ليعظ الناس ويكلمهم من عليه أما بطرس الرسول ربما يكون سمع أو ربما لم ينتبه لكلمة من الوعظ فكان معلمنا بطرس يفكر في الفشل الذي أصابه من سهره وعدم إصطياده لشئ فجميل إن ربنا يسوع إنه يعلم والناس تسمع بانجذاب عجيب فربنا يعلم بنفسه الكلمة بنفسه يتكلم كم تكون الإستجابة ؟ كم يكون الإنصات ؟ فقديماً كان يتكلم الأنبياء أما الآن بنفسه يتكلم فأي حاجات من الطبيعة تنجذب إلى أصلها فأصل الوجود نفسه الذي هو السيد المسيح هو الذي يتكلم فهو عرف كيف يخاطب الإنسان فيكون مسحوب ومنجذب ناحية الكلام الذي يُقال قال لسمعان ﴿ ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد فأجاب سمعان وقال له يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً ولكن على كلمتك أُلقي الشبكة ﴾ ( لو 5 : 4 – 5 ) فإنَّ النهار ظهر والسيد الرب يقول له أُدخل إلى العمق !! في عُرف الصيادين وعادتهم لا يكون هناك صيد في النهار أو حتى في العمق بل يكون الصيد في الليل ليل في العمق فما قاله السيد الرب هو عكس المنطق الطبيعي لخبرة الصياد فقال له بطرس ﴿ تعبنا الليل كله ﴾ أحياناً الإنسان يعتمد على الخبرة السابقة في غياب الله في غياب من النعمة تجاهد كثير ولكن ليس على سند قوي في غياب روح الإتضاع في غياب روح المحبة الحقيقية فتتعب ولم تصطاد شيئاً مثل الكتبة والفريسيين فهم يتعبوا في تدقيق الناموس ولكن متكلين على ذواتهم فالنعمة لم تمكث عندهم جهاد بدون نعمة يجعلنا نعيش بدون اصطياد ﴿ الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم ﴾ ( مت 6 : 2 ) فهم صنعوا أشياء كثيرة بحسب الشكل من أجل إرضاء الضمير فيمكن إن إنسان يتعب كثيراً من أجل بيته ولم يصطاد شيئاً فهو يضيعه وذلك بسبب الأنانية العصبية فهناك أفراد تتعب ولم تصطاد شيء فيقول أنا بتعب ولكن لم أصطاد شيء فهو لايعرف ويسأل لماذا نحن غير مترابطين ؟ لماذا نحن بعيدين عن ربنا ؟ وذلك لأنَّ الهدف ليس واضح فأحياناً الإنسان يجب أن يسأل نفسه هل هذا التعب من أجل الله ومع الله ؟ في سفر حجي يقول الرب ﴿ زرعتم كثيراً ودخلتم قليلاً تأكلون وليس إلى الشبع تشربون ولا تروون تكتسون ولا تدفأون والآخذ أُجرةً يأخذ أُجرةً لكيسٍ منقوبٍ ﴾ ( حج 1 : 6 ) فيقول ﴿ تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً ﴾ فمحبة الخطية جذورها في الأعماق من الداخل فالجهاد يكون في غياب المسيح فالجهاد يتم بشكل روتيني فهناك تعب من أجل الذات وليس من أجل الله فهناك تعب باطل وهناك تعب بناء سليمان الحكيم يقول ﴿ باطل الأباطيل الكل باطل ولا منفعة تحت الشمس ﴾ ( جا 1 : 2 ؛ 2 : 11) تعبنا ولم نصطاد شيء ولكن معلمنا بطرس لم يستمر في النقاش كثيراً مع ربنا ولم يركز على النقطة السلبية ولكنه قال ﴿ على كلمتك أُلقي الشبكة ﴾ فكان هناك مركبتين ولكن لأنه ليس واثق في أنه يمكن أن يصطاد شئ فدخلت مركب واحدة من أجل الطاعة دخلت * كلمتك * هي الوصية الوصية حينما تأتي في فكرنا فنكون عاجزين عن طاعتها الوصية ضد المنطق ضد الجسد ضد الذات فهل أضيف إلى فشلي فشل جديد ؟ فأنا تعبت وقت الصيد ولم أصطاد شئ فهل سأصطاد في وقت الراحة ووقت ليس فيه صيد ؟ فربنا يوصلنا لدرجة إنه يجعلنا غير نافعين غير قادرين فيجعلنا نقول * أنا مش قادر فأنت تقود ؛ أنا غير نافع فاستخدمني أنت ؛أنا لا أستطيع فأنت تصنع بي * فالوصية تتخطى العقل الوصية تتخطى المنطق الوصية تتخطى القدرة فيجب أن أُعد ذهني البشري لا لعمل المنطق أن أقول ليس بقدرتي وأن أقول حاضر فهنا تعمل النعمة فأطاوع الإنجيل بطرس دخل مسنود على كلمته – كلمة ربنا – الجهاد المسنود على الإنجيل غير الجهاد المسنود على عقلي أنا فالوصية أطيعها ليس من أجل لذاتي بل أطيعها لأن بها روح بها سند فهي تحمل في داخلها قوة استجابتها فنقول حنحب حنبذل حنخدم ولا أشعر في كل ذلك إنه إهدار لكرامتي أو لوقتي فمعلمنا داود يقول ﴿ كلامك أحيني ﴾ ( مز 119 : 154)﴿ سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي ﴾ ( مز 119 : 105) فحياته مقادة بالروح حسب كلمة الإنجيل الآباء القديسين يقولوا ﴿ لا تعمل عملاً إلا ويكون لك شاهد من الإنجيل ﴾ هناك الكثير من الأفراد يقول * أنا لو صنعت ذلك فإني لن أبيع أو أشتري * ولكن كلمة ربنا هي التي تعينك فيمكن أنَّ كثيراً تتعب وتجمع قليلاً فلا تصطاد شئ فيُقال مثلاً * أنا بكسب كتير ولكن ليس في بيتنا سلام ليس في قلوبنا محبة * ﴿ تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً ولكن على كلمتك أُلقي الشبكة ﴾ فربنا يعطيك مع القليل حب يعطيك مع القليل سلام يعطيك مع القليل نعمة يعطيك مع القليل قناعة ﴿ فعلى كلمتك ﴾ جميل أن يعيش الإنسان حسب الكلمة إفعل ذلك فتحيا فكلمة الإنجيل تجعلك تتخطى نفسك حاضر حنطرح الشباك فقال لهم بطرس ريحوا واستريحوا أنتم وسأذهب أنا لكي أرى وأجرب فدخل إلى العمق بسفينة واحدة ﴿ ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكاً كثيراً جداً فصارت شبكتهم تتخرق فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم ﴾ ( لو 5 : 6 – 7 )فأحياناً الإنسان يكون واقف مشاهد على وصية ربنا فالذي يطاوع يمسك كثيراً فيقول له تعال ويدعو الآخرين ويقول تعال لن تخسر لن تندم فكلما ذوقت أنت تدعو الآخرين لكي يذوقوا ويجربوا فيلتهب قلبه على كل من حوله ويدعوه ويقول هذا خير ربنا هذه نعمة ربنا فتبدأ النعمة التي بداخلي تزيد فربنا يريد يفرحنا كلنا به فالخلاص لا ينتهي الفضيلة لا تنتهي النعمة لا تنتهي فالنعمة ليس لها حدود بل حدودها أنت وليس هي فهي تملأك على قدر سعيك على قدر خضوعك على قدر اشتياقك فهي تملأ كل كيانك حتى تقول كفانا كفانا حتى تقول تكاد السفينة أن تتخرق ﴿ فصارت شبكتهم تتخرق ﴾ فالنعمة ليس لها أي حدود ليس لها نهاية فهم رفضوا حتى أنفسهم رفضوا الثوب المدنس رفضوا السلطة الجاه المال فتركوا العالم كله فهناك نعمة إمتلأت﴿ فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق ﴾ ( لو 5 : 7 ) فهذا هو سخاء ربنا يسوع فهناك يكون بعد فشل كبير يكون هناك نجاح ليس متوقع ما أجمل هذا الإختبار فهناك نعمة كبيرة تملأ حياتك فأعيش بكلمتك فأحياناً نقول * أنا فشلت كتير وأصبح الفشل ملازم ليَّ * ولكن ﴿ على كلمتك أُلقي الشبكة ﴾ أنا يارب ضعيف جداً وعاجز جداً ولكن أنت يارب قُل كلمة لتبرأ نفسي فربنا يريد أن يُدخلنا في هذا الإختبار إختبار كلمته إختبار محبته إختبار الخضوع له فيملأ حياتك بكل بهجة وخير ﴿ فلما رأى سمعان بطرس ذلك خر عند ركبتي يسوع قائلاً اخرج من سفينتي يارب لأني رجل خاطئ ﴾ ( لو 5 : 8 ) ما علاقة الصيد بأن يقول بطرس أنا خاطئ ؟ فهذه نصيحة غالية أنا متشكر شكراً جداً فنحن لا نسمي هذه المعجزة معجزة اصطياد السمك بل إنها مهمة أكبر فهي معجزة تغيير بطرس فالرب يسوع أتى ليأخذ ممتلكات بطرس فهو يغيرك إنت عن طريق السمك فهل ستتلهي في الصيد وتتركني أنا ؟ فليس هناك معجزة يصنعها ربنا يسوع إلا ويكون هدفها هو خلاصي فمعجزة التجلي هدفها خلاصي الأمور العقيدية هدفها خلاصي قيامة لعازر هدفها قيامة الخاطئ فإنك تتجاوز هذه المرحلة وتتقابل مع هذه القدرة التي لا نهائية فتخر وتسجد له فلم ينسب النجاح لنفسه أو لأنه طاوع بل مركز ذهنه على المسيح فتكون في سجود في حياتك فعيش مشاعره فهو كان محبط فهو كان فاشل ولكن ربنا أعطاني نعمة وملأ قلبي ونفسي سلام فالسجود هو انفعال هو حركة إنفعال قلبية حركة إنفعال لا إرادية فهي إعلان عن فرح إعلان عن شكر هذا هو السجود بالروح فلذلك حاول أن تجرب هذا الإحساس أن تخضع لعمل نعمته أن تدرك أمام من أنت واقف ؟ فعندما الإنسان يحس بعظمة الله يتضاءل هو ويصغر جداً فعندما يتفاعل هو يخر ساجداً فالإنسان عندما يشعر أنَّ الذي أمامه كبير جداً فهو يصغر جداً أمام نفسه فيسجد إلى ربنا الذي هو كله عظمة وقدرة وأنا الخاطئ فالسجود هو إنفعال من الداخل أشعياء النبي يقول ﴿ رأيت السيد جالساً على كرسيٍ عالٍ ومرتفعٍ وأذياله تملأ الهيكل فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين ﴾( أش 6 : 1 ؛ 5 ) فلم يسعه أن يفعل شئ إلا السجود السجود هو شعور بضعفي الشرير وبر الله الذي أنا واقف أمامه كذلك أيضاً يعقوب ويوحنا إبني زبدي اللذان كانا شريكي سمعان فقال يسوع لسمعان لا تخف من الآن تكون تصطاد الناس ﴿ ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيءٍ وتبعوه ﴾ ( لو 5 : 11) فالحكاية تحولت عن السمك فهم لم يفرزوا السمك و يبيعوه فالهدف الأول كان السمك ولكن في النهاية تركوا كل شئ وباعوه فهم وجدوه هو الأجمل هو الأحلى ولكن أنت ماذا تفعل في عمرك ؟ فإن كنت محبط مضايق فقل يكفيني أن أكون معه يكفيني أن أحيا معه هو فرحي هو كفايتي هو بهجتي فهو إذا كان عمل معي كل ذلك الآن فهو يدبر كل أمور حياتي فأدركت أنه يقدر أنه يستطيع فمعلمنا بطرس يقول لنا لا تجعل شغلك يأخذ كثير فأنا جربت ذلك لذلك ضع قلبك في كلمته ضع قلبك في المسيح فهو الغني وليس شغلك فأصبح صياد للناس فيرمي مثلاً الشبكة في يوم الخمسين فيصطاد حوالي ثلاثة آلاف نفس فاختبر قدرة ربنا في حياته الشخصية وبذلك استطاع أن يجذب النفوس بلا كلل بلا تعب فكان يقول ﴿ ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب ﴾ ( مز 34 : 8 )فمعلمنا بولس يقول لتلميذه ﴿ اكرز بالكلمة اعكف على ذلك في وقتٍ مناسبٍ وغير مناسبٍ وبخ انتهر عظ بكل أناةٍ وتعليمٍ ﴾ ( 2تي 4 : 2 ) فاحضر كل إنسان إرمي الشبكة إحضر كل إنسان في المسيح يسوع فإحكي عن يسوع إحكي عن خبرتك معاه فأن تُخبر بما رأيت وبما سمعت فربنا حول هذه المعجزة من موضوع اصطياد السمك إلى اصطياد أربعة أعمدة فهو قام باصطياد بطرس ويوحنا وأندراوس ويعقوب يا لجلالك يارب فهو يختارنا بنفسه يستخدمنا لإسمه يغير حياتنا لنفوز بملكوته فهو يريد أن نسجد أن نسبح أن نخدم أن نعيش بهدف أبدي ربنا يغيرنا ويجعلنا نعيش له ومن أجل إسمه ويجعلنا نتعب من أجله وأن نعرف أنَّ بدونه نتعب ولا نصطاد شيء ربنا يكمل نقائصنا ويسند كل ضعف فينا بنعمته ولإلهنا المجد إلى الأبد آمين. القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك الاسكندرية
المزيد
22 أكتوبر 2022

إنجيل عشية الأحد الثاني من شهر بابه

تتضمن ذو السكر والتنعم . مرتبة على فصل حضور الجباة إلى بطرس لطلب المغرم ( مت ۱۷ : ٢٤-٢٧ ) إن سيدنا له المجد قد أدى ما لا يجب عليه بسهولة وبدون مانع ليعلمنا بمثـلى ذلك . وإن كان قد قبل تكليفا " جسمانيا ليعمل مثله المؤمنون . فلم لا نسـارع نحـن إلى العمل مسرورين ؟ فنصوم كما صام ونصلي بعقولنا ونرحم بضمائرنا ونسـالم ظالمينا . ونقوم بأداء ما يجب علينا غير متقنطيـن ولا نـادبين بـل فـرحيـن مسرورين لتيقننا بجميل المجازاة . وإن قلت ياهذا إني لا استطيع أن أصوم لضعـف الكبر أو لكثرة تعاقب الأمراض والعلل . قلت نعم . ولكن هذه وأن منعتـك مـن الصوم دائما فلا تمنعك من أن تكون غير متلذذ ولا متنعم ولا متبذخ " ولا كـاذب المغرم هو الغرامة التي تفرض عادة على احدى المتقاضين لخصمه عند سقوط دعـواه وهي خطأ من الناسخ طبعا . وصحتها الجزبة وهي التي فرضت من الله في العهد القديم علـى كل يهودي يبلغ عمره ٢٠ سنة ( خر 30 : ١٣-١٥ ) وقد أدرجها اليهود عادة سنوية للنفقـه على الهيكل حتى أن المسببين منهم في بابل كانوا يجبونها هناك ويرسلونها إلى أورشليم على ذمة نفقة الهيكل ( يوسيفوس ف ١٢ ك 18 في القدميات ) .ولا شره ولا حاسد ولا نمام ولا سكير ولا غير ذلك . لأن هذه وأن كـانت ليسـت صوم عن الطعام فأنها غير بعيدة من معناه . لأنه لا شئ يطرب الشياطين أكثر مـن التنعم والسكر إذا منهم تنبعث سائر الشـرور وتشـدد صرامـة العـاصين المسترسلين معهما " والمائلين إليهم يسقطون من مراتب البشر ويشـابهون غـير الناطقين . فأن قلت وكيف يشبه الأنسان الناطق بالحيونات غير الناطقة ؟ أجبتك أنـهم وان كانوا يختلفون بالصورة فقد يتشابهون بالفعال . لأن السكر والشبع يجعلان أناسـاً يتمرغون في نجاسات الأرض كالخنازير . وأخرين ينبشون الأموات مثـل الكـلاب وأخرون يهمهمون غضباً كالسباع . وأخرون يصـهلون علـى النسـاء والصبيـان كالخيول وأخرون يخطفون كالذئاب . وأخرين يمكرون كالثعالب وأخرون ينكشـفون ويمزقون ثيابهم ويشجون رؤوسهم ويلقون زواتهم في الأبار والمـهالك كالمجــانين وإني أخجل أن أذكر لكم واحدة فواحدة من أصناف تلك الرذائل الناجمة عن السـكر وذلك فضلاً عما يجرى للرجال والنساء بجرائره الردية من القبائح . ومثـل هـؤلاء يهينون المسيحية وينجسون طهارتهم الحاصلة لهم بالمعموديـة . ويطفـون حـرارة الروح المطهر لذواتهم ويحركون قوماً أخرين على الاستهزاء بالمؤمنين . ويلجئـون أخرون لسب خلائق الله التي صنعها للمنفعة . لأنهم عندما يرون أنه تصـدر عـن السكر قبائح ردية بهذه الكيفية فأنهم يلعنون النبيذ تارة . ويلعنـون البطـن أخـرى . ويقولون ولا كانت الخمر ولا كان الذين يشربونها أرأيت كيف بسبب أفعالك الرديـة أيها الأنسان قد جذبت اللعنة وأدخلت الهوان على ما خلقة الله لمنفعـة البشـر فـي المواد اللازمة الضرورية ؟ ولعلك تقول أن جميع ما خلقه الله إذ استعمله المجرمـون يسب ويعلن بسبب شرهم . كالحديد مثلا فأنه يلعن بســب أسـتعماله مـن القتلـة والمفسدين في البشر وكذلك الليل حيث يتم فيه فعلهم . وتلعن النساء والرجال لأجـل علة الزنا والفجور . لا لعمرى لا أؤثر صدور مثل هذا النقائص من تلـك الخلائـق لأن الله ما خلق الخمر إلا ليفرح لب الإنسان كما قال النبي أما السكيرون فيضيعـون بهجته مز١٥:١٠٤ لأن أي فرح يكون لك وأنت غائب العقل ناقص الحظ مائل عن مسـالك الصيانـة والعـدل . قـد اسـتولى عليـك الـدوار واحتجـت الى من يسعطك بالادهان كالمجانين . والى من يشد رأسك بالعصائب كالمحمومين وإلـى من يقودك إلى الطريق المستقيم كالعميان . وإلى مـن يحرصـك مـن المخـاوف كالأطفال . أفرأيت كم رذئله يستحبها السكير قد يأنف العقل من ســـــــــماعها ؟ ولسـت أقول هذا مخاطباً لكم ( معاذا الله ) لأن جميعكم تشربون وتسكرون . بل أوجه كلامـى إلى الذين لا يسكرون لكي ينبهوا الذين يسكرون . وذلك لأن مـن عـادة الطبيـب الحاذق أن لا يوجه الكلام إلى المريض ، بل يخاطب المحيطين به لا لأنهم مشـاركوه في المرض بل ليذكروه بأقوال الطبيب في الأوقات المحتاج إليه . وأنا أخاطبكم إيـها الأصحاء هكذا لتذكروا السكيرين بأقوال بولس الرسـول حيـث تحجـب ملكـوت السموات عن نظر السكيرين لأنه يقول : " لا تضلوا . لا زناة ولا عبــدة أوثـان ولا فاسقون .. يرثون ملكوت السموات " ١كو٩:٦-١٠ فسبيلنا أذن أن ننهض فكرتنا . ونبتعد عما يهلك ذواتنا . ونسـارع إلـى مـا يقربنا من ملكوت ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبدين آمين. القديس يوحنا ذهبى الفم عن كتاب العظات الذهبية
المزيد
21 أكتوبر 2022

المسئولية الأسقفية جـ3

تحدثنا عن جوانب المسئولية الأسقفية وهي عديدة، وذكرنا ستة جوانب هي: الشخصية – الروحية – الأبوية – الرعوية – المالية – التعليمية. ونستكمل الحديث هذه المرة في أربعة جوانب أخرى. سابعًا: المسئولية المجتمعية: كل أسقف في إيبارشيته مسئول مسئولية اجتماعية تجاه الآخرين الذين ليسوا من المسيحيين، في أي مجتمع داخل وخارج مصرالكنيسة تعيش في المجتمع وتتعامل معه وتقدم له المحبة والمساعدة والسند في كل الظروف.. لذا ينبغي أن يدرك الأسقف تلك المسئولية ويتذكر أنها مسئولية عمل لا مجرد كلام: «يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ!» (1يو3: 18). مثال: نضع دائمًا مثل السامري الصالح الذي قدّم للآخر الذي لا يعرفه محبة غير مشروطة فقط لأنه أخوه في الإنسانية.. وهنا نعيد تعريف "القريب".. مَنْ هو قريبي؟ حسب تعليم الرب: هو كل إنسان.. 1- «وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ» (ننظر للمجتمع ونشعر بآلامه). 2- «فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ» (الشعور بداية للعمل وتقديم المساعدة العملية). 3- «اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا» (كما صنع السامري نصنع نحن أيضًا فهذا أمر الرب لنا)(لو10: 29-37) المشاركة الإيجابية في جميع قضايا المجتمع مثل التعليم والصحة والبيئة وتقديم الخدمات المتنوعة... ثامنًا: المسئولية التكريسية: كيفية الاختيار ومعاييره ونوعيته. كل شخص تكرّسه أنت، بهذا تضع طوبة في مستقبل الكنيسة من أصعب المسئوليات مسئولية الاختيار.. كل شخص تقوم بتكريسه لا بد أن تختاره بعناية وبأناة وبصوت الروح القدس.. وأضع أمامك النص الآتي: «أُنَاشِدُكَ أَمَامَ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْمُخْتَارِينَ، أَنْ تَحْفَظَ هذَا (1) بِدُونِ غَرَضٍ، (2) وَلاَ تَعْمَلَ شَيْئًا بِمُحَابَاةٍ. (3) لاَ تَضَعْ يَدًا عَلَى أَحَدٍ بِالْعَجَلَةِ» (1تي5: 21-22). 1- بدون غرض: أي لا يكون اختيارك مبني على هوى خاص بك إلّا إذا كان الغرض هو الخدمة وصلاحية هذا الشخص للخدمة والتكريس الذي سيقوم بها. 2- إياك والمحاباة.. من أي جانب إلّا مخافة الله. 3- أعط لاختيارك فرصة وقت كاف.. الوقت مع الصلاة يسمح بإرشاد الروح القدس. مثال: «فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صم16: 7) أحيانًا ننخدع بالمظاهر.. شكل التقوى.. CV ضخم وفخم.. صوت ملائكي.. لباقة في الكلام.. كاريزما.. وقد يكون كل هذا مرفوضًا من الرب لأنه ينظر إلى لقلب لا إلى العينين.. لذا نحتاج أن نسمع صوت الروح القدس بوضوح قبل الاختيار إن مسئولية التكريس خطيرة للغاية لأنه ينبغي أن نقدم أفضل العناصر في مجالات الخدمة، سواء الكاهن أو الراهب أو المُكرَّس أو المُكرَّسة. ولا تنسَ أن التكريس والتعليم هما قَدَما الكنيسة، وبهما تتقدم وتخدم وتنجح في كل زمان. تاسعًا: المسئولية الوطنية: تجاه الوطن كله.. الحفاظ على سلام الوطن بكل حكمة وبكل روية وبكل فكر متعقّل مسئوليتنا الوطنية هي مسئولية تجاه الوطن والعالم كله.. نتذكر دائمًا أننا ملح الأرض، ولو لم نقم بدورنا نُداس من الناس.. ونور العالم الذي به نمجّد اسم الله الآب «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت5: 13-16) بكل حكمة وتعقّل احفظ السلام.. وابدأ بالمحبة.. وانشر كلمة الحق الهادئة دون الإثارة.. مثال: أكبر مثل للوطنية كان نحميا الذي لم يحزن لهدم الهيكل فقط بل ولأن أورشليم وطنه قد انهدم.. قال: «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارًا» (نح12: 17).. وشجع الشعب على البناء.. وقاوم المقاومين بشجاعة وبوطنية، وصار قول نحميا المثل الشهير "يدٌ تعمل، ويدٌ تحمل السلاح": «الْبَانُونَ عَلَى السُّورِ بَنَوْا وَحَامِلُو الأَحْمَالِ حَمَلُوا. بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ، وَبِالأُخْرَى يَمْسِكُونَ السِّلاَحَ» (نح4: 17).المقصود هنا بالبناء هو البناء الروحي داخل الكنيسة، والسلاح هو اليقظة لمحاربات المقاومين الذين يريدون نزع السلام الوطني.. مسئوليتنا أن ننتبه للجانبين لأنهما يتكاملان.. الجانب الروحي والمؤسسي للكنيسة والجانب الوطني لاستقرار وسلام الوطن. عاشرًا: المسئولية الصحية: صحته وصحة شعبه وهي مهمة «الْعَافِيَةُ وَصِحَّةُ الْبِنْيَةِ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ الذَّهَبِ، وَقُوَّةُ الْجِسْمِ أَفْضَلُ مِنْ نَشَبٍ لاَ يُحْصَى. لاَ غِنَى خَيْرٌ مِنْ عَافِيَةِ الْجِسْمِ، وَلاَ سُرُورَ يَفُوقُ فَرَحَ الْقَلْبِ» (سيراخ 30: 15-16) الجسد وصحته وزنة ضرورية للخدمة، والطاقة الجسدية تقلّ بمرور الأعوام والسنين، ولذا الاحتفاظ باللياقة الجسدية أمر هام على المستوى النفسي والعقلي والبدني. والمتابعة الطبية ضرورية لسلامة الأداء والتدبير كذلك الاهتمام بصحة الرعية سواء الجسدية أو النفسية لكل القطاعات: الأطفال أو المرأة أو الرجل أو المسنين أو ذوي القدرات الخاصة، من خلال وجود مستشفيات أو عيادات أو بيوت رعاية، أو من خلال تشجيع الناس على الالتحاق بالمبادرات الصحية التي تقدمها الدولة في مواقع عديدة. قداسة البابا تواضروس الثانى (للحديث بقية)
المزيد
20 أكتوبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يهوشافاط

يهوشافاط "تشددوا وافعلوا وليكن الرب مع الصالح" 2أى 19: 11 مقدمة قال أحدهم: لا تعد عصور الجبابرة الأقدمين شيئاً إلى جانب عصرنا الحاضر، فالتلسكوب، والميكرسكوب والتليفزيون، قد زادت من قوة إبصارنا،.. والتليفون، والراديو، قد ملأ أسماعنا، وزاد من ارتفاع أصواتنا،.. والسيارات والقطارات، والطائرات، أشبه ببساط الريح في الخيالات القديمة،.. لقد استطاع العصر أن يفعل أشياء كثيرة لأجسادنا!!... ولكن هناك ميداناً واحداً هو موطن الفشل أمام كل الاختراعات والاكتشافات، ألا وهو ميدان النفس البشرية.. وكل ما صنع الإنسان لم يستطيع إلى اليوم أن يغير من طبائع هذه النفس وشرها وحقدها وإثمها وفسادها.. ومن ثم فالكارثة تواجه على الدوام البشر، لقد أضحى الإنسان بمجرد اختراعاته واكتشافاته، عملاقاً في الجسد، وقزماً في النفس، ولا سبيل إلى سعادة الإنسان وأمنه ورفاهيته، بالانتباه إلى النفس قبل الجسد، وبالاهتمام بها قبل أي وضع بشري.. وهذه هي الرسالة العظمى للدين، وهذا هو ميدانه الأعظم والأمجد. كان يهوشافاط بن آسا واحداً من أعظم الملوك القدامي، الذين يؤمنون بهذه الحقيقة، ومن ثم كانت قيادته لأمته تبدأ بالنفس، قبل الجسد، وتهتم بالشركة مع الله، قبل الشركة مع الناس،.. ولو أنك سألت الرجل: ما سر الحياة عندك؟ لكان جوابه الوحيد: الدين أولاً، والدين دائماً، والدين أخيراً!!.. ونجح يهوشافاط على قدر ما أعطى الحياة الدينية فرحتها الكاملة في حياته وتعرض للفشل عندما أدخل الذكاء البشري إلى جانب الدين، ولكن رحمة الله تابعته لتعطينا جميعاً أن نركز الاهتمام في حياتنا الدينية إن رمنا وبيوتاً وأولادنا ومجتمعنا أن نحيا أعظم حياة على هذه الأرض ومن ثم يصح أن نرى قصته فيما يلي: يهوشافاط من هو؟؟ اسمه يهوشافاط ومعناه "الرب قضى" أو "الرب حكم"، وهو الاسم الذي أطلقه عليه أبوه الطيب الملك آسا، وأغلب الظن أن الملك -وهو يتمنى أن يحكم الله حياة الابن والأمة معاً- لم يرد بخلده أن هذا الولد يتجاوز أقصى الأحلام والأماني، ويبلغ من السمو والشهرة، ما جعلهم يعدونه في العصور المتأخرة -كما يقول دين فرار- مع حزقيا ويوشيا من أعظم وأنقى وأتقى الملوك الذين عرفهم عرش داود،.. ولا يمكن -ونحن نحييه على هذه الحياة- إلا أن نعود قليلاً إلى الوراء، إلى الميراث الطيب الذي أخذه من أبويه، أباه آسا، وأمه عزوبة، اللذين درجاه على خوف الله، والسير بقوة وأمن وشجاعة مع إله أبيه... ونحن نعجز هنا، إذا ما التفتنا إلى عزوبة، وهي في نظرنا نوع آخر من يوكابد أم موسى، وحنة أم صموئيل، وأفنيكي فيما بعد أم تيموثاوس -نعجز كما يقول أوستن فيلبس عن الشكر لله، لأجل الأمهات المسيحيات سر الحياة والبركة في الآلاف المتعددة من الأولاد المسيحيين- وفي الحقيقة أنه دين ما بعده دين للآباء والأمهات، الذين يدرجون أولادهم في الحياة المسيحية، ويصلون من أجلهم حتى لا يخضعوا للتجارب القاسية التي تحاصرهم في ربيع الحياة وشباب العمر،... ومن البادي أن يهوشافاط كان سريع الاستجابة، عميق الإحساس بنداء أبيه وأمه، إلى الدرجة التي تفرق فيها على الأب إذ لم يسر كما سار أبوه فحسب بل ارتقى إلى حياة أعلى وأجل إذ: "سار في طرق داود أبيه الأولى، ولم يطلب البعليم" وهي كلمات عميقة التعبير قوية المغزى، ولعلها تذكرنا بقصة ذلك الطيار الذي كان يسير بطائرته في الجو، وروع عندما أبصر فأراً يسير بين الآلات، ويمكن أن يحدث عطباً بها، فتسقط من العلو الشاهق،.. وسأل نفسه: ماذا يفعل وكيف يتصرف؟، ورأى أن أفضل طريق هو أن يصعد إلى أعلى طبقات الجو التي يمكن الوصول إليها، والتي يقل الهواء حتى يختنق الفأر، وقد صح توقعه، فإن الفأر خرج من بين الآلات يترنح وقد سقط ميتاً، وسواء صحت هذه القصة أم لم تصح، فإنها تعطينا الصورة فيما فعل يهوشافاط، إذ أنه أدرك فأر الخطية في حياة داود، وسار في طريق حياة داود الأولى، دون أن يتردى في السقوط الذي لحقه فيما بعد،.. لقد أصر الملك الشاب على أن يسير في صحبة الله، ويرفض البعليم،.. لقد خط طريقه من أول الحياة على أن يكون صديقاً لله، ويرفض صداقة البعليم – والبعليم ومفردها “البعل” هي مجموعة الآلهة التي كانت تتعبد لها الممالك الأخرى، وتسربت عدواها البشعة إلى شعب الله… أما هو فقد وقف بصلابة ضد تيارها العنيد، وقاد الأمة كلها في مواجهة هذا التيار!!.. يهوشافاط وحياته الروحية كان يهوشافاط شديد الإدراك بالحاجة إلى الحياة الروحية المتعمقة مع الله، وقد كانت الحياة الروحية في مفهومنا عنده، ظاهرة في ثلاث صور واضحة، أولها -حب الشريعة الإلهية والتعلق بها،.. كان الرجل يؤمن بسلطان الكلمة الإلهية على الحياة، ومن ثم كان شديد التعلق بها، وإذ أدرك ضرورتها البالغة، أرسل الكهنة واللاويين إلى الشعب ليعلموه الشريعة، ولا يمكن أن يفعل هذا دون أن يكون هو محباً لها، متعلقاً بها، وسنراه فيما بعد وقد وصل به التعلق إلى أن يخرج هو بدوره ليكون واعظاً متجولاً في البلاد بها!!... لم يكن الوحي قد كمل أيام يهوشافاط، ولم يكن العالم قد أدرك الكتاب والطباعة التي بلغها فيما بعد،.. ومع ذلك فإن يهوشافاط، ومن كانوا على قراره من القدامى- كانوا أروع صورة للتعلق بالكلمة الإلهية، ونحن يمكن أن نتخيل صورهم، ونطوبهم مع صاحب المزمور الأول: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح".. لم يكن يهوشافاط يعرف الكلمة الإلهية مجرد كلمة بل هي طعام الحياة له، أو كما كانت لإرميا عندما قال: "وجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي لأني دعيت باسمك يا رب إله الجنود"... والصورة الثانية في الحياة الروحية عند يهوشافاط -وقد كان أبعد وأعمق في التعلق بالله هي: الاسترشاد الدائم بالمشورة الإلهية، إذ لم يكن يقدم على أمر صغر أو كبر، دون أن يسترشد بالله، وكان لا يقدم على حرب دون التأكد من صوت الله، ومن ثم نراه يلجأ إلى الأنبياء كأليشع، وميخا، ليعرف رأى الرب!!... وهل لنا هنا أن نتوقف قليلاً لنقول إن التاريخ البشري كان يمكن أن يتغير بأكمله، لو أن الإنسان أنصت بعمق إلى صوت الله في شتى الاتجاهات والمجالات؟ وهل لنا أن نقول على وجه التخصيص: ما أكثر ما يعذب المؤمنون من أولاد الله أفراداً وجماعات لأنهم لم ينصتوا إلى صوت الله، أو لم يتعودوا سماع صوته، أو لم يكن لهم الوقت الكافي لطلب مشيئة الله وإرادته؟؟! ومنذ ذلك الوقت الذي سقط فيه يشوع في فخ الجبعونيين الذين تظاهروا بالمجيء من بلاد بعيدة ومدينتهم واحدة من كبرى المدن القريبة من شعب الله، "فأخذ الرجال من زادهم ومن فم الرب لم يسألوا".. وإلى اليوم ما يزال الكثيرون من أبناء الله يعانون أشد المعاناة، لأنهم لم يشركوا الرب معهم، وهم واقفون على مفترق الطرق، في العمل، والزواج، والهجرة، وتقرير الأمور المختلفة في حياتهم!!.. وقد يحدث عندما يسقطون في شر النتائج لما فعلوا، إنهم يعودون إلى الله قائلين: لماذا يارب فعلت بنا هكذا!، وكان أولى بهم أن يلوموا أنفسهم لأنهم لم يطلبوا مشيئة الله، أو عرفوها ولم يسيروا حسب إرادته الصالحة المرضية الكاملة!! لكن يهوشافاط كان حريصاً وواعياً ليعرف أمر الرب، وقد امتلأت حياته بطلب الإرشاد الإلهي!!.. فيما خلا بعض المواقف الأساسية التي فاته فيها هذا الإرشاد، وكاد يضيعه، ويضيع مملكته معاً، ولعل أبرز أمرين فيها مصاهرته لآخاب، والاشتراك في التجارة مع ابنه!!.. لكنه على أي حال، كان واحد ممن يضعون الاسترشاد الإلهي في مقدمة تصورهم الروحي للعلاقة بأبيهم السماوي العظيم!!. وكانت الصورة الثالثة للحياة الروحية عند يهوشافاط أكثر عمقاً، فهو لا يقرأ كلمة الله، أو يستزيد منها، فقط، ولا يسرع إلى الله ليسترشد به فحسب، بل هو أكثر من ذلك هو المستند إليه في الأزمات والشدائد،... فعندما هاجمه بنو عمون وموآب وساعير خاف يهوشافاط وجعل وجهه ليطلب الرب ونادى بصوم في كل يهوذا وصلى صلاته العظيمة: "يا إلهنا أما تقضي عليهم لأنه ليس فينا قوة أمام هذا الجمهور الكثير الآتي علينا ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا".. ودخل الحليف العظيم معه المعركة، وتحول الجيش إلى أغرب ما يعرف في تاريخ الجيوش على الأرض، إذ لم يحارب، بل وقف يرنم ترنيمة الخلاص، وتحول الأعداء بعضهم ضد بعض "ساعد بعضهم على إهلاك بعض"... واستعاد يهوشافاط صورة موسى وهو يغني على ضفاف البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر"... كانت الصلاة عند يهوشافاط أفعل من كل أدوات الحرب والقتال،... وهل نسى عندما دخل في المأزق في راموت جلعاد، وتحولت عليه السهام بأكملها وهو يحارب إلى جانب آخاب المتنكر في المعركة؟، وكما قال هنا لم يكن يعلم ماذا يعمل سوى أنه حول عينيه بالصراخ إلى الله، فأنجده الرب حين لم تكن هناك قوة على الأرض تستطيع أن تعينه وتنجده!!... مات يهوشافاط وتغيرت عصور وقرون وأجيال،.. ولكن الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، لا يتغير، وهو على استعداد أن يفعل في حياتي وحياتك، وفي أشد المآزق والأزمات ما فعل مع الملك القديم، متى صرخنا إليه في ضراعة ورجاء، وأمل: "ونحن لا نعلم ماذا نعمل، ولكن نحوك أعيننا"... شكراً لله الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، أو يجازنا حسب آثامنا.. لكنه يقبل صرختنا في الليل العميق الدجى الممتلئ بالمأساة والتعاسات والشر، ويحول الليل إلى اختبار عميق، كما حوله مع يهوشافاط، حتى إنه أطلق على المكان "وادي بركة" لأنهم هناك باركوا الذي لم يدعهم يشتركون في القتال، بل ليروه يقاتل عنهم وهم صامتون!!... أية حماقة تتملكنا جميعاً أمام المآسي والمآزق؟ ولماذا نتعب والله يريدنا أن نستريح؟ ولماذا القلق والله يريدنا أن نمتليء سلاماً؟.. وكل ما في الأمر، أن نقرأ كلمة الله، ونتفهمها، ونأخذ مشورة الله ونقبلها، ونستند إلى ذراع القدير: "وطوبى لجميع المتكلين عليه"... يهوشافاط وقيادته الرشيدة يعتقد اليابانيون أن إمبراطورهم سليل الآلهة،.. وعندما يتولى العرش، لابد أن يتسلم -حسب تقاليدهم- ثلاثة أشياء: مرآة ومنشوراً بلورياً، وسيفاً... أما المرآة فترمز إلى ضميره الذي عليه أن يدرك أنه يتحمل مسئولية مائة مليون من رعاياه، أما المنشور البلوري فيمثل الطهارة التي ينبغي أن يكون عليها كملك جدير بشعبه، أما السيف فيرمز إلى القوة التي وضعت في يده لحماية الحق والقضاء على الظلم،.. ومن المعتقد أن يهوشافاط، كان كل هذه وأعمق منها، وهو يقود بلاده في مختلف الأنواء والعواصف، وهو يصلح أن يكون مثلاً يحتذي!!.. كان يهوشافاط الرجل الذي بدأ إصلاحه بالهدم، والمصلحون في العادة، هم أولئك الذين يظهرون في أوقات الفساد والشر، ولا يستطيعون أن يضربوا عميقاً في الإصلاح، إلا إذا نسفوا القلاع التي بناها الشيطان، وأحاطها بالأسوار العالية، وقد جاء يهوشافاط هنا مكملاً لعمل أبيه، إذ أتى على البقة الباقية من المرتفعات الوثنية، والسواري التي كانت في أرض يهوذا، ولا يمكن للقيادة الموفقة أن تبدأ عملها على أساس سليم صحيح، ما لم تنزع كل مظاهر الفساد، وقد يبدو هذا لأول وهلة أمراً يسيراً ممكناً، ولكنه في الواقع من أدق وأصعب الأمور على الإطلاق، ولأجل هذا قيل عن يهوشافاط: "وتقوى قلبه في طرق الرب ونزع أيضاً المرتفعات والسواري في يهوذا".. إن أشجع الناس وأقواهم، هم الذين يقفون ليحاربوا العادات والنظم والتقاليد والعبادات الفاسدة التي درج عليها الناس،.. وقد وصف بولس وسيلا في فيلبي بأنهما: "يناديان بعوائد لا يجوز لنا أن نقبلها أو نعمل بها إذ نحن رومانيون".. وكم من عادة دينية واجتماعية يؤمن الناس ببطلانها وسخفها، ومع ذلك يمارسونها على نحو مؤسف مؤلم!!.. وفي مصر عندما دخلت المسيحية إلى البلاد، كانت هناك عوائد وثنية تتصل بالموتى فيما يعرف بالثالث، والسابع، والأربعين، وغيرها، ولم يسهل اقتلاعها، فصبغت بصبغة دينية، ما تزال قائمة إلى اليوم، والدين منها براء،.. إن المصلح الصحيح عليه أن يضرب -أولاً وقبل كل شيء- هادماً أو كما قال الله لإرميا: أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب والممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس"على أن الإصلاح ليس مجرد هدم يترك وراءه أنقاضاً وفراغاً، بل هو أكثر من ذلك، بناء متعب شاق،.. وقد بنى يهوشافاط المدن والقلاع،.. وأنت أيها القارئ: هل تدرك أن التاريخ لا يرحم، وأن الأبدية أكثر دقة وصدقاً من التاريخ نفسه؟ والسؤال الذي يواجه الإنسان مهما كان حظه أو شخصه: هل هو بناء أم مجرد هادم يهدم؟... ومن المؤسف أن ملايين الناس لا تكتب قصتها سوى قصة الهادم، وليته يهدم قلاع الخطية والشر،.. بل إنه على العكس، يتسلم أعظم مباني الحق الشامخة، ليحولها أنقاضاً ضائعة، تبكي عزها القديم ومجدها التليد،.. ولكن الإنسان العظيم حقاً أمام الله والناس، هو الذي يأتي إلى موضع الخراب، ليقيم مكانه الرواسي المجيدة التي تعلن اسم الله وعظمته ومجده!!... وقد كان يهوشافاط من هذا الصنف من الناس، وهو يترك وراءه العمار في كل مكان!!... على أن التعليم الديني كان بالإضافة إلى هذا كله، ركناً من أركان الإصلاح عند يهوشافاط، ويمكن أن نقول إن الرجل كان شديد الحماس لهذا التعليم، فلم يرسل الكهنة واللاويين لينيروا الشعب في شريعة الله، بل أكثر من ذلك لقد أحس أن هذا واجبه الشخصي، ولذلك نجده بعد نجاته في راموت جلعاد قد أخذ يطوف بين الناس ليبشرهم ويعظهم، وما أعظم أن يرى الناس ملكاً يعتلي منبراً،.. إن عظة الملك، ملكة المواعظ، وإذا صح القول إن الناس على دين ملوكهم، فكم يتعمق إحساس الناس بالدين، عندما يرون الملك واعظاً جوالاً، يعلم ويبني أمته على القاعدة الصحيحة من الدين؟؟.. إن الملوك في العادة تهتم بمحاربة الفقر، والجهل والمرض، وتعتبرها أعدى أعداء الوطن، لكننا نرى هنا ملكاً يهتم إلى جانب هذه أو بالأحرى قبلها، يجذب الناس إلى الله، وتعليمهم الحياة الدينية والشركة الإلهية،.. قال أحدهم: إن كل أب يهتم بأن يتعلم ابنه ويحصل على أعلى الدرجات العلمية، ونحن نبذل في سبيل تعليم أولادنا كل جهد ومال وصحة،.. ولكن ما أكثر ما نفعل، أن تكون المادة الأولى في تعليمهم معرفة الله والشركة معه،.. والنتيجة المحزنة هي التي جاءت على لسان أب محزون: "إن ابني قل عنده احترام الله، وقلت عنده قابلية العمل الجدي الصعب، ويخيل إلى أن درجة تفكيره تقل عن تفكير زملائه"... أيها الأولاد: إن أعظم درس تأخذونه في الحياة ليس هو الجغرافيا، أو التاريخ، أو الهندسة، أو الطب، بل هو الدرس الذي تتعلمونه في الصلاة العائلية، أو في مدرسة الأحد، أو الكنيسة!!... ونحن لا نملك هنا إلا أن نقف آسفين للإلحاد الواقعي، أو الروحي، الذي تتهاوى فيه المدنية الغربية والتي تزعم أن تعليم الدين في المدارس، وتربية الأولاد تربية روحية يتنافى مع الحرية أو يجافيها، وقد طرح الأمر في كثير من الأحايين أمام المحاكم، للفصل فيما إذا كان تعليم الدين في المدارس يخالف الحرية الواجب الأخذ بها أم لا يخالفها!! ناهيك بما هو محزن وأليم في البلاد الشيوعية التي رفضت الدين رسمياً، ولا تسمح به كمادة من مواد التعليم. أين هذا من فكر يهوشافاط القديم الذي سعى في الأمة بأكملها يطلب الله، وينادي به في كل بيت، وفي المجتمع، وفي أحشاء الأمة بأكملها؟!! أيها الأولاد ستفقدون كل شيء. ويضحى جوكم خانقاً مسموماً إذا نسيتم أن درس الإنسان الأول والأخير هو الله،.. كان بيفرلي نقولس الصحفي الإنجليزي الكبير، قد أعد مرة في حديقة داره، مأدبة عظيمة لعدد من أصدقائه، وإذ انصرف الضيوف، ولم يبق في المكان غيره جمع باقة من الزهور، وإذ راقه منظرها، وأثار كوامن نفسه، كتب يقول: "لقد كان من المحتم علي -حسبما أعتقد- وأنا جالس في الحديقة أن أسأل نفسي عما يكون وراء هذا الجمال... عندما بارح الضيوف، أخذت الزهور بين يدي، وأنا أتعجب: كيف يمكن أن يستولي علي، في الوقت نفسه الإحساس بالفراغ!!.. كان يخيل إلى كأنما أنا في حاجة إلى أن أشكر شخصاً ما.. غير أنه لم يكن هناك شخص أمامي،.. أو يمكن القول في معنى آخر، شعرت بالحاجة إلى العبادة،.. وربما تكون هذه هي الطريق المشوقة التي يأتي بها الإنسان إلى إلهه.. هناك أبحاث لا تنتهي عن أساس النازع الديني في الإنسان.. ولكن الأمر عندي أكثر بساطة من ذلك... إذ تخلص في ذلك الخيال الذي ألم بالإنسان ساعة الأصيل، وهو يرى أصباغ الجو القرمزية، ويريد أن يقول لشخص ما أشكرك!!.." كان يهوشافاط بن آسا يريد أن يصبغ وجدان أمته بالتعليم الديني!!.. قال دكتور توري: هناك ثلاثة أشياء ضرورية للصحة الروحية والقوة والنمو،.. وهي دراسة الكتاب المقدس، والصلاة المستمرة، والسعي الدائم لخلاص الآخرين، وعندما توجد هذه فستكون هناك الصحة الروحية، والقوة الروحية، والنمو الروحي،.. وعندما نفتقر إلى واحد منها فسيكون هناك التدهور الروحي، والمرض الروحي، والضعف الروحي، والموت الروحي!! وكان الأمر الأخير في قيادة يهوشافاط: تحقيق العدالة، إذ أن هناك دائماً الصلة الكبيرة بين الدين والعدالة، فإذا فسدت العدالة تعرض الدين للانهزام، وإذا وجدت الرشوة والإعوجاج والظلم والمحاباة، ضعف أثر الدين في النفوس وبهتت معالم الحق،.. لذلك جعل الملك قضاة في كل مدن يهوذا كما جعل محكمة استئناف في أورشليم، وطبع القضاء بالطابع الديني، إذ جعل القضاة يدركون أنهم يعملون مع الله ولله: "وقال للقضاة انظروا ما أنتم فاعلون لأنكم لا تقضون للإنسان، بل للرب وهو معكم في أمر القضاء والآن لتكن هيبة الرب عليكم احذروا وافعلوا لأنه ليس عند إلهنا ظلم ولا محاباة ولا ارتشاء"... لم تكن العدالة عند الرجل صفة أدبية يتحلى بها الإنسان أو الأمة، بل هي الضرورة الدينية، التي ينبغي أن يدركها القاضي، في حكمه بين الناس،.. هل يعلم القضاة وهم ينطقون بأحكامهم، إنهم لا ينطقون بها أو يكتبونها باسم رئيس الدولة أو باسم الأمة، بل في الواقع باسم الله، القاضي العادل الذي يحكم بين الناس بالعدل؟؟ وويل لأي قاضي أو حاكم يضع الاسم الجيل على رأس حكمه، وهو يحكم ظلماً أو غدراً أو ضلالاً!!.. على هذا القاضي أن يعلم أن هناك محكمة أعلى، ليست في أورشليم الأرضية بل أورشليم السماوية التي هي أمنا جميعاً، وستصحح كل حكم ضاع بسبب ظلم الناس أو كذبهم، أو حماقتهم أو ضلالهم، ولن ينجو من عقوبتها ظالم أو فاسد أو شرير!!. يهوشافط وخطأه القاسي سقط الرجل العظيم في الخطأ الفادح القاسي،.. وإذا تأملنا الأمر بعمق نجد شيئاً ذهنياً عميقاً حدث في فكره، لقد بدأ بسياسة، ثم لم يلبث أن تحول عنها إلى السياسة الأخرى النقيضة لها،.. لقد بدأ سياسته أولاً في التشدد تجاه مملكة إسرائيل، أي أنه بدأ سياسة التحصن والانفصال والمواجهة،.. لكنه لم يلبث أن تحول إلى النقيض من ذلك إذ "صاهر آخاب"... أو تحول من سياسة المجابهة إلى سياسة المحالفة، فوقع في الفخ القاتل الذي يقع فيه الكثيرون من أبناء الله، وهم يدرون أو لا يدرون، ولست أعلم ما الذي دفعه إلى مثل هذا التحول، هل أغري بجمال بنت آخاب وإيزابل، والحسن غش والجمال باطل وأما المرأة المتقية الرب فهي تمدح؟!.. وما أكثر ما ضاع الكثيرون بسبب جمال المرأة الشريرة التي حولت حياتهم إلى الجحيم المستعر،.. أم هل طرأ عنده حلم الاحتواء -كما يتصور البعض- إذ يحتوي إسرائيل ويهوذا معاً، ومن يدري؟ فقد يعيدها مرة أخرى إلى الوحدة التي ضاعت منهما،.. قد يكون.. ولكن ألم يكن يعلم أن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة؟... وأن الاحتمال العكسي لمن يندفع في الأمر على أمل إصلاح الشرير، قد يكون خطأ فادحاً قاسياً؟!! أم أنه آثر الأمان بالمصاهرة، حتى يجنب نفسه المشاكل والمتاعب والحروب، وهو لا يعلم أنه على العكس قد أدخل إلى نفسه وبيته ومملكته هذه جميعا، إذ أنه اضطر إلى أن يدخل الحرب مع آخاب في معارك إسرائيل الخاصة، وكادت أن تضيع حياته في راموت جلعاد ثمناً لهذه المشاركة التعسة، وضاعت سفنه مع ابن آخاب في التجارة المشتركة!!... إن سياسة التحالف مع الشيطان هي أقبح السياسات وأشرها في كل العصور، وإذا كان "تشرشل" قد قال في الحرب العالمية الأخيرة دفاعاً عن تحالفه مع الروس هذا القول، فإن العالم اليوم يعاني الأمرين من نتائج هذا التحالف في الشيوعية الدولية وتنينها الذي يريد أن يبتلع كل شيء!!... كاد يهوشافاط أن يضيع، ويضيع كل شيء، بهذه السياسة التي حاولت أن تجمع العالم والدين معاً، ولولا رحمة الله التي أمسكت به ورفعته فوق حماقته وخطيته، لأنه لا يصنع معنا حسب خطايانا أو يجازينا حسب آثامنا، وهو أدباً يؤدبنا وإلى الموت لا يسلمنا،.. لولا هذه الرحمة لضاع الرجل ساعة الغروب، ولانكسفت أنواره العظيمة عند مغيب الشمس.. إن الدرس الذي يلقيه لنا من وراء العصور هو الحذر البالغ: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنه أية خلطة للبر والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة وأي اتفاق للمسيح مع بليعال وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن، وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان، فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. لذلك أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم وأكون لكم أباً وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شيء"..
المزيد
19 أكتوبر 2022

القلب الحنون

تحدثنا في مقالين آخرين: عن القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو وعن القلب الهادئ المملوء بالسلام والطمأنينة ونريد اليوم أن نعرض للقلب الحنون، المملوء بالشفقة والحب القلب القاسي، باستمرار يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق، ولا ترحم. إنه نار تأكل كل شيء، حتى نفسهاأما القلب الحنون العطوف، فإنه يفيض رقة وإشفاقًا على كل أحد، حتى الذين لا يستحقون، وحتى على أعدائه وحنو الإنسان على غيره، قد يشمل الكائنات جميعًا فيحنو على العصفور المسكين، وعلى الفراشة الهائمة، وعلى الزهرة الذابلة بل قد يحنو على الوحش المفترس، مثل القديس الذي رأى أسدًا يئن من شوكة في قدمه، فانحني وأراحه منها وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية، وقد يكون في نواح نفسية أو روحية وخلاصة الأمر أن القلب المملوء حنانًا، يفيض بهذا الحنان في كل المجالات، وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج، وعلى المريض المتألم، كما يشفق على البائس والمتعب نفسيًا، وعلى الساقط في الخطية المحتاج إلى من يأخذ بيده ليقيمه والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب، وإنما تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير إن الحنان النظري هو حنان قاصر، حنان ناقص، يحتاج إلى إثبات وجوده بالعمل. ولهذا قال القديس يوحنا الحبيب: "يا أخوتي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق"إن القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس. أما القلب القاسي فينفرهم الناس يحتاجون إلى من يعطف عليهم، إلى من يأخذ بيدهم، إلى من يشجع الضعيف، ويقيم الساقط، ويفهم ظروف الناس واحتياجاتهم. وتكون له روح الخدمة فيخدم الكل، ويساعد الكل، ويعين الكل، ولا يحتقر ضعفات أحد.. كما قال الكتاب: "شددوا الركب المخلعة، وقوموا الأيدي المسترخية" وقيل عن السيد المسيح إنه كان: "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ".. هذه الفتيلة المدخنة ربما تهب ريح فتشعلها، فتضئ مرة أخرى و كان حنوه يشمل الروح والجسد معًا. وهكذا قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه: "كان يجول يصنع خيرًا".. كان يشفق على الأرواح الساقطة فيقيمها بالتوبة، ويشفق على الأجساد المريضة فيشفيها.. "يطوف المدن والقرى: يكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب".أحضروا إليه مرة امرأة خاطئة قد ضبطت في ذات الفعل، وانتظروا منه أن يحكم برجمها حسبما تقضى الشريعة أما هو فقال لهم: من منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر". وانصرف المطالبون برجمها لأنهم أيضًا خطاة. واطمأنت المرأة. فنظر إليها السيد المسيح وقال لها: وأنا أيضًا لا أدينك.. أذهبي بسلام. ولا تعودي تخطئي أيضًا".. هذا هو الحنو الذي يكسب القلب، ويقوده إلى التوبة.. فليتنا نحنو على الخطاة، لكي نكسبهم إلى الله.إن الله يحنو علينا، حتى ونحن في عمق خطايانا. ومن دلائل حنوه أنه يستر ولا يكشف كم من أناس قد غطسوا في الشر حتى غطاهم، وما يزال الله يستر.. لم يكشفهم، ولم يفضحهم، ولم يعلن خطاياهم للناس.. لأنهم ربما لو انكشفوا لضاعوا، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس.إن القلب الحنون يستر خطايا الناس. لا يتحدث عنها، ولا يشهر بها، ولا يقسو في الحكم عليها.. بل قد يجد لهم عذرًا، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم.. وأن قابلهم لا يفقد توقيره لهم، معطيًا إياهم فرصة للرجوع.. بل قد يضحى بنفسه من أجلهم، ويتحمل المسئولية عوضًا عنهم إن استطاع قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على أخيه بالسوء، فعلى الأقل لا تتكلم أنت""وأن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس، وتنسبها إلى نفسك لكي تبررهم، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم"أن القلب الحنون يعيش في مشاعر الناس. يتصور نفسه في مكانهم، ولا يجرح أحدًا ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات وإن أقوى الناس ربما تكون في حياته ثغرات وقد يسقط، إن اشتدت الحرب عليه، وأن تخلت عنه النعمة الحافظة لذلك ينظر إلى الناس في حنو، في قيامهم وفي سقوطهم أيضًا.كان القديس يوحنا القصير إن سمع عن أحد أنه سقط، يبكى. فإن سئل في ذلك يقول: (معنى هذا أن الشيطان نشيط. وإن كان قد أسقط أخي اليوم، فقد يسقطني أنا غدًا..). وهكذا -في أتضاع- لم يضع هذا القديس نفسه في مرتبة أسمى من غيره. وبكل حنو نظر إلى سقطة غيره، ونسبها إلى عمل الشيطان، لا إلى فساد طبع ذلك الأخ.وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية، ولا يقسون عليها في ضعفاتها إن القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجردًا، إنما يخلط بعدله كثيرًا من الرحمة. ولا يجعل عدله عدلًا جافًا حرفيًا يطبق فيه النصوص، بل أيضًا يقدر الظروف المحيطة، سواء كانت عوامل نفسية أو تربوية أو عوامل اجتماعية.أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ، دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حاله، فإنه قلب لا يرحم القلب الحنون لا يحكم على أحد بسرعة.. بل يعطى كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه، ولتوضيح موقفه و هو أيضًا لا يكثر اللوم والتوبيخ، وإن وبخ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب، حتى يكون التوبيخ مقبولًا. وأن احتاج الأمر منه إلى حزم وشدة وعنف، فقد يفعل ذلك مضطرًا. ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف، ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ والقلب الحنون لا يخجل أحدًا، ولا يحرج أحدًا. وقد يشير إلى الخطأ من بعيد، بألفاظ هادئة. وربما بطريق غير مباشر، وربما في السر وليس في أسماع الناس أما الذي يرجم الناس بالحجارة، فعليه أن يتروى، لئلا يكون بيته من زجاج. وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئًا. والمحبة تتأنى وتترفق. والحكمة هي أن نكسب الناس بالحنو، وأن لا نخسر الناس بالقسوة. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل