المقالات

12 ديسمبر 2020

المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني

يا بني النور تقدموا وهلموا، وأسمعوا صوت مخلصنا، الصوت المغبوط المبارك الهاتف إليكم: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم ملك السماوات “. فأحذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد، فإنه ها هو على الأبواب، إن النور نزل إلينا فأنارنا، وأدنانا إليه، وأصعدنا معه، فإذ نزل إلينا، صار من أجلنا مثلنا ليجعلنا مثله. من لا يموت نزل إلى المائتين ؛ وحين جعلهم غير مائتين، أرتقى إلى الآب، وسيجيء بمجد أبية المبارك يدين الأحياء والموتى. صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لنسلك نحن في النور إلى الآب، تعالوا يا أحبائي لنسلك في الطريق التي أوراها لنا الرب، لنصل بسرور إلى مملكته، ولنأخذ زاداً وزيتاً في أوعيتنا، فليست الطريق قصيرة. فلنشد أحقائنا بالحق، ومثل أناس وعبيد حافظين منتظرين سيدهم، نوقد مصابيحنا، ونستفيق بشهامة، لأننا منتظرون أن نستقبل ربنا من السماوات مقبلاً، فلا نتناعس فيما بعد لئلا تنطفئ مصابيحنا. ها قد وافى النور، فولى الليل وأتى النهار، يا بني النور بادروا إلى النور أخرجوا بفرح إلى استقبال ربكم. أروه فضائلكم، أتوا إليه بنسككم، وحميتكم، وسهركم، وأتعابكم، ودموعكم، وهجركم للقنية، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا، ولا ينظر أحد منكم إلى الرذائل التي وراء، بل فليعبد ناظر النفس إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظركم فوقاً، متأملاً ذلك الجمال والسرور، يا وارثي الآب ومساهمي ميراث ابن اللـه الحي. إن هذه النعم قد وهبها اللـه لنا فبماذا نكافئه، هلموا فلنطرح عنا كل اعتناء واهتمام هذا الدهر، ولنخدمه وحده بحرص عظيم ونشاط جزيل، فها يومه بالحقيقة قرب، ووروده بتأكيد حان. هلموا إذاً يا إخوتي، فلنعد ذاتنا، ونتيقظ منتظرين ربنا الختن السمائي الذي لا يموت، فإنه ها يشرق، ها يبلغ، لأن تلك الصرخة تصير بغتة، ها الختن وارد فأخرجوا إلى استقباله يا معشر الذين أحببتموه وأعددتم ذاتكم لمعاينته في مجده، لأن كافة الذين اشتاقوا إليه يفرحهم في حجلته الأبدية المنيرة البهية التي لا توصف. فأحذروا يا إخوتي إذا صار ذلك أن يوجد أحدكم ماسكاً مصباحه مظلماً لا زيت فيه، أو لابساً أطماراً بالية متسخة فيدان، ويحكم عليه بالظلمة البرانية، وبذلك العقاب الدهرى الذي لا يفنى، حيث البكاء وتقعقع الأسنان. فلنحذر ذاتنا يا أحبائي، فإننا لا نعلم متى يجئ ربنا، لأنه كالسارق في الليل، ومثل الفخ يوافي ذلك اليوم، وكبرق حاد هكذا يكون حضور الرب. لأن البوق يضرب، فتتزعزع الأرض من أساساتِها، وترتعد السماوات مع قواتِها، والموتى يقومون كلهم. يا أحبائي من لا يلومه قلبه في تلك الساعة، ابسطوا عذر ضعفي فإنني أظن أن كل نسمة ترتعد في تلك الساعة، لكن نعمة اللـه تقوي وتفرح قلوب الصديقين، فيختطفون في السحب إلى استقباله، أما المضجعون والعاجزون الذين يشبهوني فيلبثون على الأرض مرتعدين. فلنخفف ذاتنا يا إخوتي من الأرض قليلاً، لنرتقي بسهولة إلى السماء، ماذا ينفعنا العالم الذي قيدنا بِهمومه ؟ أم ماذا نربح من تزيين الثياب سوى نار لا تطفأ، أو ماذا تسبب لنا تطييب ألوان الأغذية سوى تعذيب أبدي؟ اعرفوا بتأكيد أننا إن لم نجاهد في هذا الزمان القصير، فإننا نزمع هناك أن نندم إلى أبد الدهر. يا إخوتي لِمَ نتوانى ولِمَ نضجع، لماذا لا نغذي أنفسنا ؟ لأن يوم الرب أقترب منا، لِمَ لا نطرح عنا كل اهتمام غير نافع ونخفف ذاتنا من ثقل الأمور الأرضية. أما قد عرفتم أن الباب ضيق وضاغط، ولا يستطيع الجزيل القنية أن يدخل فيه، وهو إنما يحب الذين لا قنية لهم، الذين قد ضيقوا على ذاتِهم باختيارهم بالنسك والتعب، والذين أعدوا ذاتَهم لمعاينة الختن السمائي الباقي في مجده، ويورثهم ملك السماوات. لأن ها يصوت ربنا قائلاً: أسرعوا إحضاركم، وتعالوا إليَّ، وليتكاثر عددكم فيَّ وفي خدر ربكم، ولتتعاظم صفوفكم مع الملائكة والقديسين في الضياء. فأنتم يا أولادي لا تقتنوا على الأرض شيئاً، ولا تَهتموا بشىء، لأن الختن مستعد للمجيء في سحب السماء بمجد أبيه المبارك، يدعو كل واحد منكم باسمه، ويتكئه في طغمة القديسين المتصرفين في النور الذي لا يوصف في الحياة الأبدية التي لا تبلى ولا تنفذ نظير أعماله وأتعابه. فلنحرص يا إخوتي، فلنحرص في هذا الزمان اليسير، ولا نضجع هنا لئلا نندب إلى الدهور التي لا نَهاية لها، حيث لا تنفع الدموع والزفرات، حيث لا توبة، إن حرصكم يسر به الملائكة ورؤساء الملائكة، وونيتكم يفرح بِها العدو، احرصوا يا سروري، احرصوا أن أسر أنا بكم، وأنتم بي إلى الدهر. لك أجثو ساجداً أيها الرب يسوع المسيح ابن اللـه الحي، أعطني ولكافة الذين يحبونك أن نعاينك بمجد في ملكك، ونرثه مع كافة الذين يحبوك وتاقوا إليك. يا أحبائي إن توانينا وأضجعنا في هذا الزمان اليسير، فلا تكون لنا دالة في ذلك اليوم المخوف، لأننا لا نجد حجة عن خطايانا، لأنه منذ أنحدر إلينا ربنا ومخلصنا أنتزع كل حجة لأنه وهب لنا حين جاء الحياة الأبدية. كنا أعداء صالحنا، أرضيين فصرنا سماويين، مائتين فدعينا غير مائتين، بني الظلمة فصرنا بني النور، مستأسرين ففدينا، عبيداً للخطية فحررنا، مساكين فأغنينا، ضائعين فوجدنا، ممقوتين فأحببنا. ظالمين فزكينا، غير مرحومين فرحمنا، خطاة فخلصنا، ترباً ورماداً فصرنا بنيناً للـه، عراة فسترنا، وصرنا وارثين للـه، ونظير ابنه في ميراث هذه النعم، قد وهبها لنا ربنا فبماذا نكافئه ؟ يا أحبائي هلموا فلنطرح عن ذاتنا كل اعتناء واهتمام هذا العالم الباطل، ونخدمه بحرص عظيم ونشاط كبير وحده، فها يومه حان بالحقيقة، ووروده دنا منا بتأكيد. تعالوا فلنعد ذاتنا ونتيقظ منتظرين ربنا الختن الذي لا يموت كأنه أشرق وتلألأ وأقبل، تناهى الليل والنهار أقبل. يا بني النور بادروا إلى النور، أخرجوا إلى استقباله بفرح، أروه فضائلكم، قدموا له نسككم ومسككم، سهركم وأتعابكم، دموعكم وزهدكم، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا. لا ينظر أحدكم إلى الوراء بل ناظر نفسكم فليكن إلى العلا ناظراً، إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظرك فوقاً متأملاً ذلك الفرح الذي لا يفنى، الذي لا تشبع منه نفوسكم من معاينة مجده وبَهائه وحسنه. من يجع فليصبر، لأن ها مائدة الملكوت تنتظره. من يعطش فليثبت، فها نعيم الفردوس أستعد له. من يسهر ويصلي ويرتل ويبكِ فليتأيد، فإن سرور حجلة ربه تعزيه. فإذ قد عرفنا هذه كلها يا إخوتي فلا نقتني على الأرض شيئاً، لأن كل أحد منكم في ذلك اليوم سيرى أية فضيلة قد أقتناها من هنا أو أي أتعاب أحتملها، أو أي نسك أو أي سهر أظهره. أترى إذا أشهر الشهداء جراحات العذاب والعقوبات، والنساك الشجعان نسكهم وحميتهم، وما لهم من الصبر والحزن والزهد، فالمضجعون والعاجزون والمتنزهون بماذا يفتخرون ؟ أبرخاوتِهم وونيتهم وهلاكهم، الويل لهم إذا توانوا، يا للأسف إذا أضجعوا. تعالوا يا أحبتي، تعالوا نحرص، هلموا نسجد له، ولننح ونبكِ أمامه بجراءة ليعطينا استنارة نفس، فنتفطن حيل عدونا ومعاندنا وماقت الخير، الذي يجعل قدامنا مزلقات ومعاثر ومضرات كثرة الاقتناء، وتنزه هذا الدهر، واللذة البشرية. وانتظار طول زمان هذه الحياة الحاضرة، وجزعاً من النسك، وعجزاً عن الصلوات، ونوماً في الترتيل، وراحة بشرية. فبمقدار ما يحرص ذلك نضجع ونتوانى، بقدر ما يمكن ذاك نتهاون نحن، فلنعلم موقنين أن أيامنا قصرت، والوقت قد أزف، ورب المجد سيجيء بحسن بَهائه، وبقوات ملائكته المرهبين، فيجازي كل واحد نظير عمله. فأخشى يا إخوتي أن يتم فينا قول القائل: أنَهم سيجيئون من المشارق والمغارب، والجنوب والشمال، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملك السماوات، وأنتم تلقون خارجاً. إليك أتضرع أيها المسيح نور الحق، وابن الآب المبارك، صورته وشعاع أقنومه، أيها الجالس عن يمين عظمته، أيها الابن الذي لا يُدرك، المسيح الذي لا ينتهي أثره، الإله الذي لا يفحص. يا فخر وسرور الذين يحبونك، أيها المسيح حياتي، خلصني أنا الخاطئ في ملكك، إن الفاعل المتعوب ينتظر أن يأخذ حقوق أجرته، ويلي فإن لساني يتعب في تلاوة التمجيد، لا تجازيني نظير أعمالي بل خلصني بنعمتك، وترأف عليَّ بتحننك فإنك أنت هو المبارك والممجد إلى الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
11 ديسمبر 2020

ميلاد المسيح وميلاد الإنسان

وُلِدَ المسيح من روح الله القدوس، ومن عذراء لم تعرف رجلاً تُدعى مريم، فكان ميلاداً إلهيّاً، لم يحدث له نظير قط لا من قبل ولا من بعد! سبق أن تحدَّثَتْ عن هذا الميلاد الأسفار المقدَّسة، وجميع الأنبياء تنبَّأوا عنه بآياتٍ كثيرة، وكانت الحوادث كلها تتَّجه نحوه، وتنتهي إليه، حتى الزمن قيل إنه سيبلغ مِلأَه يوم مجيئه، وقد كان، فبُدئ بالتاريخ جديداً منذ الميلاد. وهكذا لم يكن المسيح نبيّاً ليتنبَّأ عن مجيء أحد آخر، ولا رسولاً ينتهي عند تكميل رسالته، بل كان هو «كلمة الله» صار جسداً، صائراً في صورة الناس آخِذاً شكل العبد! (في 2: 7)، وعاش كإنسان بين الناس، ودَعا نفسه «ابن الإنسان». ولكنه كان ذا مجدٍ إلهي، رآه أخصَّاؤه رؤيا العيان مجداً فريداً «مجداً كما لوحيدٍ من الآب» (يو 1: 14). وهو قال عن نفسه: إن الله أبوه (يو 5: 18). والله ناداه من السماء على مسمعٍ من تلاميذه: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مر 9: 7). ولكنه وَضَعَ نفسه كالعبد، اختياراً، باتضاعٍ عجيب ومُذهل، حتى يرفع كل العبيد إلى درجة بنوَّته!! «لا أعود أُسمِّيكم عبيداً... لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ لأني أَعْلَمتُكم بكلِّ ما سمعته من أبي» (يو 15: 15)، وأخلى نفسه قدر ما أمكنه من كلِّ مجدٍ ظاهر حتى يتفرَّغ لشركة الآلام مع الناس، هذه الآلام التي وُلد خصيصاً لكي يحملها عنهم كاملة، ليرفع لعنتها عن بني الإنسان، ويُتوِّجها في النهاية بموتٍ اختياري، قَبِلَه كقضاء دين وحُكْم تأديب، عن كلِّ خطاة الأرض، ليهبهم بموته براءة. وهكذا لم يَعُد الموت للإنسان قضاء دَيْنٍ وحُكْمَ تأديب عن خطية وعن إثم وتعدٍّ، بل حُكْم براءة وكفَّارة! وقام المسيح من بين الأموات بمجد وجلال ومشيئة سبق أن أعلن عنها، فأَعطى للإنسان بالقيامة قوَّة الغلبة على الموت، وطبيعة الحياة الجديدة الممتدَّة مع الله بعد الموت وإلى الأبد، يستمدُّها الإنسان من المسيح وبروح الله منذ الآن كعربون لِمَا هو آتٍ. فأصبحنا، ونحن الآن في قيامة المسيح، لا يمنعنا الموت عن البقاء في حياةٍ مع الله لا تزول. هكذا احتضن المسيح العالم كله بآلامه وموته وقيامته، فوَهَبَ الإنسان ميلاداً جديداً في ميلاده، وآلاماً شافية بآلامه، وموتاً بموته، وقيامة مُبرَّرة لحياةٍ أخرى أبدية. أو بمعنى آخر، فإنَّ المسيح جعل الإنسان خليقةً جديدة روحية بعد أن كانت خليقةً ترابية وحسب. وصارت حياة الإنسان مُمتدَّة في الله إلى مالان‍هاية. وبالتالي، لم يَعُد تراب الأرض أو الجنس أو اللون أو العنصر الذي ينحدر منه الإنسان، سبب فخر أو علَّة عار فيما بعد! فالإنسان، كل إنسان، قد تجنَّس بالمسيح، وبالتالي بالله في المسيح!! ولم تَعُد المرأة من دون الرجل، ولا العبد من دون الحُر، ولا الفقير من دون الغَني، ولا الجاهل من دون الحكيم، لا كأن‍ها حقوق إنسان تؤخذ بالمنطق أو تؤخذ غِلاباً؛ بل هي عطية الله للإنسان بميلاد المسيح، إذ رَفَع البشرية فيه إلى درجة بنوَّته، فصار الكل أبناء الله يُدْعَوْن!! والبنون متساوون في كلِّ شيء. لقد وُلِدَ الإنسان جديداً يوم ميلاد المسيح، لميراث أبوي محفوظ له في السموات، لفرح لن يُن‍زع منه، ومجد لا يُنطَق به. هو عطاءٌ مجَّاني للإنسان الذي شبع شقاءً عَبْر الدهور، فكما كان ميلاد المسيح أعظم هبات الله للإنسان، هكذا صار لنا هذا الميراث معه في السماء كعطية مجَّانية، كالشمس والهواء للخليقة الترابية، فمَنْ ذا يشتري الشمس أو مَنْ ذا يبيع الهواء؟ هكذا الله في المسيح لا يبيع برَّه بثمن، ولا قيامته ولا ميراثه في المجد. كل مَنْ يسأل يأخذ، ومَنْ يطلب يجد، ومَنْ يقرع يُفتَح له (لو 11: 10). بل وأكثر من ذلك، فإنه يسبقنا إلى باب السؤال عينه: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). إن بنويَّة الله للإنسان قد صارت مَشاعاً على وجه الأرض كلها لكل بني الإنسان، في ميلاد المسيح! + ( + البشرية لم تستوعب ميلاد المسيح بعد، بمعناه الـ ”فوق بشري“، لأن عقلها صار لها فخّاً وعثرة، غير أن‍ها تسير وتتحرَّك نحو هذا الميلاد بحركة تفوق وعيها. فالبشرية يشدُّها إلى أعلى صوتٌ مُبهَم يُقلقها من الداخل ويضطرم فيها اضطراماً، تُعبِّر عنه بمفهومات تنطقها دون أن تكتشف بعد مصدرها العلوي، وتُخرجها كصيحات ترتفع من كل أقطار الأرض معاً وفي نَفَسٍ واحد. فالكل يُنادي بضرورة وحتمية السلام، سلام على مستوى العالم كله!! وحقوق الإنسان لكل إنسان!! وحرية الشعوب، والرأي، والتعبير، والعبادة، وحق تقرير المصير، وعدم الانحياز، ورفع الفوارق بين الطبقات والحياة الأفضل. هذه ليست مجرَّد شعارات، كما يظنُّها رَجُل السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الدِّين، ولكنها خصائص الإنسان الجديد الذي يتعطَّش إليها، لأن‍ها وُهِبَت له لتكون جزءاً حيّاً من كيانه وطبيعته العُليا الجديدة، بدون‍ها كأنَّ الإنسان في شِبْه نوم يجلس في الظلمة وظلال الموت مُذَلاًّ بقيود كأن‍ها من حديد، حتى أشرق عليه نور الله يوم ميلاد المسيح: «أنا هو نور العالم، مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يو 8: 12). لأن في المسيح تنازَل الله إلى أعماق كيان الإنسان وأضاء بحبِّه وقداسته كلَّ ظلام طبيعته، وبدَّد كلَّ أحزانه، وقطع كلَّ قيوده وأوهامه، وأعطاه كلَّ ما يتناسب والحياة الأفضل، ونعمة فوق نعمة (يو 1: 16)؛ كل خصائص الإنسان الجديد. وطالما شعر الإنسان أنه فاقدٌ لهذه الصفات، فسيظل حائراً قلقاً، بل ثائراً مُتمرِّداً على كلِّ وضع، لا يفتأ يطلبها بإلحاح ويُحطِّم في سبيلها كلَّ القيود، لأن‍ها روحه الجديدة التي لن يستطعم للحياة بدون‍ها أي معنى. وإن كانت هذه الخصائص التي يُنادَى بها الآن تبدو كأن‍ها مجرَّد حقوق أو أصالة إنسانية أو حق وطني أو تقدُّم حضاري أو افتخار بشري، إلا أنها في حقيقتها تظل تعبِّر تعبيراً خفياً عن امتداد روح الإنسان الجديد نحو الله، والتهيُّؤ المناسب للتلاقي معه على مستوى ميلاد المسيح! المسيح وُلِدَ بجسد من روح الله ومن عذراء؛ جسد إلهي هو، مقدَّس، ممتد، لا حدود له، يشمل البشرية كلها بالتبنِّي؛ فقد قيل في الكتاب إن المسيح هو ”آدم الثاني“، رأس البشرية الجديدة، كل مَنْ قَبِلَه واعتمد باسمه، يولَد له بالروح ويصير ابناً لله فيه! المسيح، إذن، هو رأس البشرية الجديدة بالتبنِّي! لذلك يقول الكتاب: إنه «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10). هؤلاء في حقيقتهم الروحية هُم جسده الكبير الممتد ليُغطِّي كل أجيال الدهور في السماء والأرض. يقول بولس الرسول عنهم وعنه هكذا: «ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض، في ذاك» (أف 1: 10). ولكن المسيح لم يبلغ بعد إلى ملء قامته في الإنسان! لأن البشرية لم تبلغ بعد ملء قامتها في المسيح. البشرية إلى الآن تنمو فيه مجرَّد نموٍّ، ولكن لم تكتمل صورت‍ها النهائية لتُطابق صورة المسيح. المسيح بدأ يتصوَّر في الشعارات فقط، وكأن البشرية ”تتوحَّم“ بصورة جنينها الجديد، ولكنها في نفس الوقت تتقيَّأ، وباستمرار، تراثها الميت الذي عافته. فهي الآن في توتُّر بلغ أقصاه: حروب، نزاعات، مجاعات، عداوة، خصام، تحزُّب، تكتُّل، تحدٍّ، حرمان، تجويع، فقر، إباحية، ثورة على التقليد والعفة والروتين والدِّين، وعلى الله نفسه. لماذا هذا التقيُّؤ كله؟ نعم، لماذا هذا كله معاً وفي جيلٍ واحد؟ أليس هذا لأن البشرية تجوز الآن مخاضها الأخير؟ إن‍ها تصرخ متوجعة: «لأن الأجنَّة دَنَت إلى المولد، ولا قوة على الولادة!» (إش 37: 3) البشرية تصرخ بشعارات‍ها الجديدة وكأن‍ها ت‍هذي: سلام عالمي، سلام سلام وليس سلام! مؤتمرات كل يوم في كـل مكان وبلا هدوء، ما هذا؟ البشرية تريد أن تتغيَّر عن شكلها، ولكن لا يسعفها ميراثها التقليدي، سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصاديّاً أو حتى الدِّيني!! لأن كل ميراثها أصبح يعوزه الروح. لقد تعفَّن القديم كله وأنتن، وقارَبَ على الاضمحلال، وأصبح لا يُشبِع البشرية ولا يُغنِي عن جوع، وليس أمل، في الواقع، إلاَّ في ميلادٍ جديد لبشرية جديدة تولَد من الروح!! هذه هي الحياة الفُضلَى! ولا يمكن أن تكون حياة أفضل من حياة إلاَّ بمقدار عمل الروح، روح الله في التجديد. فالسياسة يعوزها الروح، والاجتماع والاقتصاد والدِّين وكل ضوابط البشرية، إذا لم يضبطها الله بروحه عاملاً في عمق كيان الإنسان بتجديدٍ يشمل الفكر والضمير العالمي، لأَخَويَّة على الأرض تستمدُّ روحها وأصالتها من بنويَّة واحدة لله؛ فسيظلُّ الإنسان يتقيَّأ نفسه. وأي شعار مهما أتقنه ونفَّذه، إنْ هو كان خالياً من روح الإنسان الجديد، أي من عمق معنى التبنِّي؛ فسيخرج هذا الشعار سَقْطاً ميتاً. فالسياسة، مهما ارتقت، إنْ هي لم تَرَ في جميع الأجناس والألوان والشعوب والأوطان أبناءً متساوين لله الواحد، لهم حقوق متساوية في أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة، فهي سياسة أرضية ميتة وسَقْط ممسوخ متكرر لتقليد ترابي عافَه الإنسان جدّاً وتقيَّأه، وأصبح لا يطيق أن يسمع عنه أو يقرأ له! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
10 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
09 ديسمبر 2020

قالوا في العلم والحكمة وفي الحب والصداقة

في العلم سئل عالم "ما أفضل العلم؟" فأجاب: هو معرفة الإنسان لنفسه. وقيل: اليوم الذي يمرّ من عمرك دون أن تتعلم فيه شيئًا جديدًا, هو يوم ضائع. سواء كان هذا التعلم بالقراءة أو الملاحظة أو السماع أو التأمل, أو الخبرة أو المعاناة. قال الشيطان ذات يوم: كنت من قبل أعلّم الناس الشر, فصرت الآن أتعلم منهم. قيل: أكثر الناس علمًا في العالم كله, يكون على جهل تام بعدد كبير من الأمور. وقيل: العاقل يتعلم من أخطاء الآخرين. وقيل: الفنان العظيم كان يومًا فنانًا مبتدئًا. وقيل: تعرف الإنسان من أسئلته أكثر مما تعرفه من إجاباته. وقيل: أتريد أن تعرف حقيقة إنسان؟ استمع إليه في مشاجرة. في العقل والقلب قيل: كن أعقل من غيرك, ولكن لا تصرّح له بذلك. وقيل: فقر العاقل خير من ثراء الأحمق. وقيل: العقل له أحكام, والقلب له أحلام. وقيل: من شاور الحكماء, شاركهم في عقولهم. وقيل: رجل واحد يحمل رأسًا فوق كتفيه, خير من مائة رجل بلا رؤوس. وقيل: المشروعات الواسعة لا يمكن تنفيذها بأفكار ضيقة. وقال فرانس بيكون: إن قليلًا من الفلسفة قد يقرّب الإنسان من الإلحاد. أما التعمق في الفلسفة فيردّه إلى الله. وقيل: القراءة هي أن تفكر بعقل غير عقلك. وقيل: عندما تفكر, فإنك تجرى حوارًا مع نفسك. وقيل: للقلب منطق هيهات للعقل أن يفهمه. في العمل قيل: إن الأماني هي بضاعة الضعفاء. أما العمل هو بضاعة الأقوياء. وقيل: من لا عمل له, يُوجد الشيطان له عملًا. وقيل: فكّر ببطء, ولكن اعمل بسرعة. وقيل: لا تطلب, ولكن اعمل. وقيل: إذا أجّلت عملًا ثقيلًا إلى الغد, ضاعفت ثقله. وقيل: إن التجربة هي أعظم أستاذ في العمل, ولكن نفقاتها باهظة. وقيل عن شخص: عنده مواهب كثيرة, ولكن تنقصه موهبة واحدة, وهى استخدام مواهبه! وقيل: إذا أردت أن تتحاشى النقد, لا تعمل شيئًا, ولا تقل شيئًا, ولا تكن شيئًا! فى الحكمة قيل: الملوك حكّام على الناس. والحكماء هم حكّام على الملوك. وقال أحدهم: نحن ألف رجل, وفينا حكيم واحد, ونحن نستشيره ونطيعه. فكأننا ألف حكيم. وقال الآباء: الذين بلا مرشد يسقطون مثل أوراق الشجر. وقال حكيم: الرؤوس تكون أكثر حكمة إن كانت هادئة. والقلوب تكون أكثر قوة, إن نبضت تعاطفًا مع القضايا النبيلة. وقيل: يلجأ الإنسان إلى الخبث, حين لا يسعفه الذكاء. وقيل: لا تشرب السّم, اعتمادًا على ما عندك من الترياق. وقيل: الجاهل يكون دائمًا أكثر إصرارًا على رأيه من العالم. ومن الأمثال الصينية: إذا أعطيت إنسانًا سمكة, فسوف يأكل وجبة واحدة. ولكن إن علمته الصيد, فسوف يأكل طول حياته. في الحب والصداقة قال حكيم: اهتم بالرفيق قبل الطريق. وقال آخر: من شروط المرافقة, الموافقة. وقال ثالث: حياة بلا أصدقاء, هي جنازة بلا مشيعين. وقيل: من عاش بغير حب, مات في يوم مولده. وقال أحدهم: ليس صديقًا مَنْ "يبلع لك الظلط" (الحجارة). إنما صديقك هو من يحذرك من الغلط. وقيل: الصديقان الحميمان إذا اتفقا على موعد, ذهب كلّ منهما إليه قبل الآخر. وقيل: الحب هو أن تفّضل شخصًا آخر على نفسك. وقال حكيم: إن قلت لي من هم أصدقاؤك, أقول لك من أنت. وقيل في الصداقة: زهرة واحدة لا تصنع حديقة. في الحب والعداوة قال القديس ذهبي الفم: من لا توافقك صداقته, لا تتخذه لك عدوًا. وقال أيضًا: هناك طريقة مثلى تستطيع بها أن تقضى على عدوك, وهى أن تحوّل العدو إلى صديق. وقيل: الناس أعداء ما جهلوا. قيل: المحبة تبنى, والعداوة تهدم.والذي يبنى يصعد دائمًا إلى فوق،والذي يهدم, يهبط إلى أسفل. وقيل: كل عداوة تُرجى إزالتها, إلا عداوة من عاداك عن حسد. وقال: ميخائيل نعيمة: هناك مبالغة في قولهم "الحب أعمى". والحقيقة أن الحب بعين واحدة. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
08 ديسمبر 2020

أهم 10 معلومات عن شهر كيهك

تقوم الكنيسة في شهر كيهك بتكريم السيدة العذراء مريم أم الله . خلال هذا التقرير سنلقي الضوء على أهم 10 معلومات عن الشهر الكيهكي . شهر كيهك هو الشهر الرابع من السنة الطقسية العاطفة تجاه العذراء في هذا الشهر يقوم المؤمنين بإظهار عاطفتهم تجاه السيدة العذراء مريم ، حتى تقوم بإظهار عاطفة الأمومة لكل إنسان اتخذها شفيعة له . أصل تسميته يعود أصل تسميته إلى الإله "كاهاكا" اله الخير علاقة الشهر الوثيقة بالسيدة العذراء ينظر المؤمنين خلال شهر كيهك إلى إتمام سر التجسد ، حيث يتأملون الله الذي اخذ شكل إنسان وولد من العذراء ليخلص شعبه . الشهر المريمي يسمى شهر كيهك بالشهر المريمي نسبة للسيدة العذراء . اللحن الكيهكي للشهر الكيهكي لحن خاص داخل الكنيسة يسمى " اللحن الكيهكي" . مدائح كيهك قام المتنيح الأنبا "اثناسيوس ميخائيل الزيات" الأسقف الفخري على كرسي الفيوم ، بجمع مدائح الشهر الكيهكي في العالم الشرقي والغربي . تسبحة الشهر الكيهكي تسمى تسبحة كيهك " سبعة وأربعة" لان ترتيبها الأساسي عبارة عن أربعة هوسات وسبعة ثيئوطوكيات . شهر كيهك وميلاد الرب يسوع تكثر الكنائس من التسبيح في الشهر المريمي قبل أعياد الكريسماس ، استعدادا لعيد الميلاد المجيد . كيهك وتطويب العذراء قالت السيدة العذراء بعد أن بشرها الملاك جبرائيل بأنها ستكون أما للمسيح الذي يخلص شعبه من خطاياهم . " فهوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني " ، لذلك تقوم الكنائس بتطويبها قبل أعياد الميلاد. روماني صبري
المزيد
07 ديسمبر 2020

التجسد الألهى وكرامة الجسد

الجسد الإنساني في المسيحية : لقد اخذ الجسد الإنساني كرامة ومجداً بتجسد الله الكلمة " والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوء نعمة وحقاً " يو 1 : 14 . لقد شابهنا الرب يسوع المسيح في تجسده في كل شيء ما عدا الخطية وحدها وعندما قام من الموت وصعد للسماء اصعد باكورتنا للسماء ليكون سابق لأجلنا. إن الكنيسة في إيمانها بقيامة الجسد في اليوم الأخير للمكافأة أو العقاب " لأننا لا بد جميعاً أن نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد منا ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً " 2 كو 5 : 10 .الجسد الإنساني ذلك الكيان الأنسانى الذي تكرمه المسيحية والذي يحمل نسمة الحياة داخله من الله ، وهو هيكل الروح القدس الذي يحل عليه بالعماد والميرون المقدس ليقدسه ويطهره" أم لستم تعلمون إن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله ولستم لأنفسكم " . ذالك الكيان الذي يتناول من الأسرار المقدسة " من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير " يو 6 : 54 . إن أجسادنا لها كرامتها بكونها أعضاء جسد المسيح السري الذي هو كنيسته المقدسة " أم لستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء جسد المسيح " 1 كو 6 : 9 . وهذا الجسد الترابي وان مات وتحلل فانه سيقوم جسد نوراني ممجد في القيامة العامة ليحيا في السماء " الذي سيغير جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء " في 3 : 21 .ولهذا تكرم الكنيسة رفات القديسين وتصنعهم تحت المذبح وفي الكنائس لأنهم أكرموا الله في أجسادهم وأرواحهم التي لله لقد أقامت عظام اليشع النبي الميت عندما لامسته قديماً وكانت المناديل وعصائب القديس بولس المأخوذة من على جسده تشفي الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة . وما زالت رفات القديسين تصنع المعجزات في كنائسنا حتى اليوم لأنها تحمل سمات وقوة أشخاصهم وهم كسحابة شهود محيطة بنا وليسوا عنا ببعيد والرب اله أبائنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب واثناسيوس وانطونيوس ومار جرجس اله أحياء وليست اله أموات لان الجميع عنده أحياء . الجسد في الكتاب المقدس : عندما تأتي كلمة جسد في الكتاب المقدس فانه يقصد بها العديد من المعاني ولهذا سنتعرض لها حتى حتى نكون على وعي بمعانيها المختلفة كما جاءت في الإنجيل . " ولو لم يقصر الرب تلك الأيام لم يخلص جسد ولكن لأجل المختارين قصر الأيام " مر 13 : 20 ." فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء كل ما في الأرض يموت " تك 6 : 17 . " ويرحض جسده في مكان مقدس ثم يلبس ثيابه ويخرج ويعمل محرقته ومحرقة الشعب ويكفر عن نفسه " لا 26 : 24 . " سراج الجسد هو العين فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً " مت 6 : 23 . " لم يبغض احد جسده قط بل يقوته ويربيه " أف 5 : 29 " بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر " رو 3 : 20 . " وان أطعمت كل أموالي وان سلمت جسدي حتى احترق وليس لي محبة فلا انتفع شيء " 1 كو 13 : 3 – 62 ." وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده " يو 2 : 21 . " الذي حمل خطايا في جسده على الخشبة " ا بطر 2 : 24 ." ولما لم يجدن جسده أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا انه حي " لو 24 " 23 . أو عن الجسد الافخارستى في القربان المقدس : " واخذ خبزاً وكسر وأعطاهم قائلاً هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم اصنعوا هذا لذكري " لو 22 : 19 . " فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم " يو 6 : 52 ." كاس البركة التي نباركها أليس هي شركة دم المسيح الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح " 1 كو 10 : 16 " لان الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة وهو مخلص الجسد " أف 5 : 29 . " هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح " رو 15 : 5" فلذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون جسداً واحداً " تك 2 : 24 ، مت 9 : 5 ، أف 5 : 31 " من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد " أع 2 : 30 ." إخوتي انسبائي حسب الجسد " رو 9 : 3 . " إن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال المواعيد في المسيح بالإنجيل " أف 3 : 6" لأننا لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا تعمل فينا " رو 7: 5. " عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً " 1 كو 9 : 27 . " وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد " غل 5 : 16 ." مع المسيح صلبت فاحيا لا أنا بل المسيح يحيا في فما أحياه ألان في الجسد فإنما أحياه في الإيمان ابن الله الذي أحبني واسلم نفسه لأجلي " غل 2 : 20 " ابعد ما ابتدأتم بالروح تكملون ألان بالجسد " غل 3 : 3" أعمال الجسد ظاهرة التي هي زنى ، عهارة ، نجاسة ، دعارة عبادة أوثان ، عداوة ، خصام ، غيرة ، سخط ، تخريب ، شقاق ، بدعة ، حسد قتل سكر بطر وأمثال هذه التي اسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضا إن الذين يفعلون هذا لا يرثون ملكوت الله " غل 5 : 20 ، 21 . الأهواء والشهوات الجسدية : المسيحي مطالب أن يسير ويحيا بالروح ، لا حسب الأهواء والشهوات الجسدية بل ينقاد بروح الله للقداسة والمحبة والسلام " الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات " غلا 5 : 24 . أي إننا مطالبون أن نصلب الأهواء والشهوات من النفس وليس ضد الجسد كلحم ودم فالنفس العفيفة تجعل الجسد مقدساً فأعمال وأهواء الطبيعة البشرية العتيقة الخاطئة هي التي نحاربها ونجاهد ضدها .لقد أعطينا الحرية أن نصير أبناء الله بالإيمان ويختم الجسد بكل أعضاءه بالميرون المقدس ليتقدس فكره وإرادته وعمله وسلوكه وجسده بما فيه من غرائز وعواطف وبالتوبة والتناول نأخذ طبيعة جديدة لنحيا حياة البر والقداسة وننمو فيهما وهذا لا يعني عصمتنا من الخطأ لان الإنسان يظل حراً مسئولاً يقدر أن يفعل الخير والشر.إن علاج الخطيئة والشهوات الجسدية هو محبة الله والشركة معه فعندما ننجذب لله ونتحد به بالأسرار والمحبة تتقدس أجسادنا وتعود لنا الصورة الإلهية للإنسان من المخلوق على صورة خالقه في القداسة والبر، وبالتوبة والاعتراف تمحو كل الأوساخ التي تغطي هذه الصورة المقدسة والتواضع والوداعة تلبسنا كرامة من الله وأمام الناس . كرامة الجسد الانساني : أجسادنا هي الهيكل الذي يحتوي النسمة الإلهية التي وهبنا الله إياها وبه نعبر عما في نفوسنا من مشاعر وبه نتحرك ونحيا في وحدة كيانيه نفساً وروحاً وعقلاً وبه نخدم ونصلي وهو يكشف لنا عن قدرة الخالق وعظمة الإنسان كسيد وتاج الخليقة وهو مرآة النفس في أحزانها وأفراحها وخيرها وشرها .لقد أراد الله لنا أن نحيا في انسجام جسداً وروحاً ونفساً لنحقق وجودنا ورسالتنا على الأرض بلا انقسام أو خطية وهنا نرى جمال الجسد وسلامة النفس ووداعتها ، وقداسة الروح ورجاحة وحكمة العقل وقوة الإرادة لنصير هيكلاً لروح الله وأعضاء في جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة 1 كو 6 : 5 .إن الجسد بما فيه من أجهزة وأعضاء بشرية كلها مقدسة وظاهرة حتى الأعضاء التناسلية لها كرامتها الفائقة كمستودع لامتداد الحياة البشرية والتعبير عن المحبة الطاهرة ، سر الزواج المقدس فلماذا يستحى البعض من أعضاء لم يستحى الله إن يخلقها بل إعطائها قدسية واحترام " فان الجسد أيضا ليس عضواً واحداً بل أعضاء كثيرة . لا تقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك ولا الرأس أيضا للرجلين لا حاجة لي إليكما . بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر اضعف هي ضرورية. وأعضاء الجسد التي نحسب أنها بلا كرامة نعطيها كرامة أفضل " 1 كو 12 : 14 – 23 . إن أردت لجسدك كرامة ومجداً ولكيانك وجوداً فاعلاً وحياة أبدية فليكن ذالك بان تحترمه وتزينه بالوداعة والتواضع وتسعى في اقتناء الفضائل وعلى رأسها ثمار ومواهب الروح القدس لكي لا يكون عثرة وان تزين جسدك بلباس الحشمة في زينة الروح وبالأكثر تنمية في الحكمة فالحكمة هي الله نفسه " أنا الحكمة عندي الغنى والكرامة " ام 8 : 18 . فالله يكرم قديسيه " مجد وكرامة لكل من يفعل الصلاح " رو 2 : 1 ، كما أن الاتضاع يعطيك كرامة " ثوب التواضع هو مخافة الرب هو غنى وكرامة وحياة " أم 22 : 4 .فلا تخاصم جسدك أو تكرهه بل ربيه وقوته لكن لا تدلله أو تتخمه بالأكل فيثور عليك ولا تضعفه وتهمله وتقسو عليه فيعتل وتعجز عن الخدمة كما يليق .إن النسك والزهد المسيحي هو حياة ترك وبذل للذات من اجل المسيح الذي بذل ذاته عنا فهو حب وبذل وصوم وجهاد روحي للنمو دون تفكير في كون الجسد خطية هو قهر للأهواء والشهوات الجسدية " فأميتوا أعضائكم التي هي على الأرض . الزنا ، النجاسة ، الهوى ، الشهوة الرديئة الطمع الذي هو عبادة الأوثان " الجسد أذن مقدس وكريم للإنسان الروحي عندما نروضه للبر والقداسة والبذل . الجهاد الروحي : الجهاد الروحي هو أعمال الصلاة والصوم والسهر والبذل والخدمة والعطاء والتوبة وفي ذلك يشترك الجسد والنفس والفكر والروح من اجل إرضاء الله وصنع إرادة الله ومقاومة الأهواء سواء أتت من داخل الإنسان وميوله أو من البيئة المُعثرة في إغرائها أو سواء أتت من الشيطان في حروبه وان كان القلب محصن بمحبة الله والفكر مقدس لله ويفكر ايجابياً في إرضاء الله والحواس مختومة بالنعمة والجسد مضبوط بالجهاد فلا تجد الخطية لها مكان فينا .الجهاد الروحي تؤازره النعمة وعندما يرى الله أمانتنا في الجهاد يهبنا العفة والطهارة وقداسة الفكر وكلما قويت أرواحنا رأينا الجسد يسعى لإرضاء الله في فرح وسلام وحب " حياة الجسد هدوء القلب ونخر العظام الحسد " أم 14 : 30 . " يا الله الهي أنت إليك أبكر عطشت إليك نفسى. يشتاق إليك جسدي في ارض ناشفة ويابسة بلا ماء " مز 63 : 1 .الجسد إذا شريك حقيقى غير منفصل عن الروح في الجهاد يخدم ويصلى ويسجد ويصوم هو جسد مهذب مقدس وليس جسد نعذبه كما يفعل الهندوس مثلاً من اجل التخلص من خطية الجسد وتحرير الروح أو كما قال بعض الغنوسيين أهل البدع انه من صنع اله الشر الأمر الذي تحرمه المسيحية . ففي نسكك ودرجة صومك يجب أن يتم ذلك في اعتدال وحكمة واستشارة لأبيك الروحي إننا بالصوم والنسك والجهاد نسمو ونطلب عمل الروح القدس ونعمته ليقدس كياننا وليست تكفيراً عن خطايانا التي لا يكفر عنها إلا دم المسيح الذي سفك على عود الصليب من اجل خلاصنا . جسدك وكيانك هبة ووزنة من الله لا تسيء إليه ولا تجعله عثرة للآخرين أو سلعة تباع وتشترى فقدموا أعضائكم عبيداً للبر والقداسة رو 6 : 9 " اله السلام يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح " افس 5 : 23 .يقول القديس أغسطينوس " تعال إلى الله بنجاستك وخطاياك ، بقلبك واشتياقك الروحية وفي الخفاء اخلع أعمال الظلمة ، اخلع جسم خطايا البشرية وحينئذ يرفع عنك ويجدد فيك الروح القدس ،الحواس التي فسدت بالإثم وتصير نفوسنا مقدسة وروح الله يسكن فيها .إن خير مثل للحكمة والاعتدال نجده في سيرة الأنبا انطونيوس الكبير الذي ذهب للبرية الداخلية وقضى عشرين سنة في صوم وصلاة ووحدة ولما عرف الناس حياته وذهبوا إليه وجدوه سليما راجح العقل صحيح الجسم يشع سلاماً وصحة وجمال روحي لا ضعيفا من النسك ولا مترهلا من الكسل بل إن كل من كان يراه يمتلئ من السلام ومن قداسته يأخذ عبره وعظه وكان يوصي بحياة الطهارة فيقول برسالة له " يا أولادي الأحباء فلنجاهد من اجل الطهارة حتى الموت ، لنشع بالطهارة فان ثمرتها هي نور وحق واستيقاظ . فلا تصيروا عبيداً للأوجاع الرديئة المرذولة او للذات الشريرة النجسة أمام الله . اكتبوا اسم الله على قلوبكم ليصرخ داخلكم انتم هيكل الله الحي وموضع راحة للروح القدس. ولنسعى في طلب الطهارة لأنها فخر الملائكة حياة الطهارة ومجدها : الطهارة والعفاف المسيحي هم فضيلة ايجابية تعني طهارة الوجدان وقداسة الفكر الداخلي وعفة الحواس والجسد سواء للشباب وللبتولين والمتزوجين ، هي الامتناع عن عمل ما لا يحل من شهوات جسدية مخزية تتعارض مع السلوك الروحي حسب وصايا المسيح .هي طهارة وعفة وامتناع عن الأفكار والممارسات الجنسية للاتحاد بالمسيح سواء بتكريس الروح والنفس والجسد للمتبتلين أو في زيجة مقدسة أمينة في سر الزواج تجعل الجنس تعبيرا عن الوحدة والمحبة والشركة . إننا كنفوس مكرسة لله يعمل فيهم الروح القدس في شركة حب الله كنفوس عذارى " إني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح " 2 كو 11 : 2 .حقاً " ما أحسن الجيل العفيف " مك 4 : 1 . وعندما جاء المسيح متجسدا ولد من عذراء بتول وعاش حياة البتولية وعندما صعد الرب للسماء عهد ليوحنا الرسول البتول برعاية العذراء . ويدعونا الرب يسوع المسيح لحياة القداسة التي بدونها لا يرى احد الرب ولا يمكن أن يطلب الله من الإنسان شيء ليست في استطاعته عمله.والعفاف والطهارة تحتاج منا إلى البعد عن العثرات وتقديس الحواس والفكر والعواطف والغرائز والميول فالعين العفيفة لا تتطلع إلى المغريات أو حتى أسرار الغير واليد لا تلمس أو تمتد إلى عمل أثيم والسمع يتقدس بكلمة الله والفكر الطاهر يبتعد عن الحسد والخبث والشر والأعضاء تتقدس في أداء كل ما يمجد الله " لأنكم اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله " 1 كو 6 : 20 .انظر إلى جسدك نظرة مقدسة روحية " وان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً " أنت هيكل روح الله القدوس " ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح أفأخذ أعضاء المسيح واجعلها أعضاء زانية ؟ " 1 كو 16 : 15 .كلما تظل ثابتاً في المسيح القدوس فانه يقودك في موكب نصرته مقدساً حياتك نفساً وجسداً وعقلاً وروحاً محرراً إياك من العزلة أو الانطواء أو الانحرافات الجنسية وكلما أحببته وكانت لك عشرة حية معه اشبع روحك وعواطفك وسمت غرائزك وأحببت الآخرين محبة روحية تنظر أليهم كأعضاء مقدسة في جسد المسيح .لتملأ حياتك بالروحانيات الايجابية من قراءة وصلاة وتأمل وخدمة ونشاط وكف عن التفكير في الشهوات وجاهد من اجل الطهارة فان النعمة تسندك وتطرد عنك كل عاطفة غير مقدسة . نحن نحتاج إلى اليقظة الروحية وعدم الانجراف وراء الحواس والعواطف والأفكار التي تدنس الجسد والروح والنفس فلا ندخل أفكار دنسه إلى عقولنا ولا نجاري الفكر ونسمح له بالتردد على عقولنا طالباين الطهارة كهبة من الله. قدسية الزواج المسيحي : الزواج المسيحي سر مقدس يعمل فيه الله ليوحد الاثنين "ويكون الاثنان جسداً واحداً فالذي جمعه الله لا يفرقه الإنسان" مت 19 : 4 – 6 . إن الأب السماوي يبارك الزواج المسيحي وهو الذي ككل أبوينا ادم وحواء في الفردوس وبارك الرب يسوع عرس قانا الجليل .ويعمل الروح القدس ليقدس الزوجين ويرفع الزواج ليكون كسر اتحاد المسيح بالكنيسة .في الزواج المقدس يقدس الرب البيت المسيحي وكلما كانت محبة الله في بيوتنا انتفى الخصام ويحب الرجل زوجته كنفسه ويبذل من اجل سعادتها وتحترم الزوجة رجلها وتطيعه في تفاهم وتضحية ولا يكون لأحد منهما سلطان على جسده بل للأخر . ويوحد الروح القدس اتصالهما ويجعل مضجعهما نقياً مقدساً وغير دنس تكون العشرة الزوجية تعبيراً عن هذا الحب المقدس والوحدة .وتكون ثمرة البطن الأبناء ، بركة وسعادة للأسرة ولبناء ملكوت الله على الأرض وفي السماء، وتكون الحياة في تفاهم وانسجام وحب واحترام وتعاون وبذل، شهادة لإيماننا وسعادة لحياتنا وعون للأسرة للسعادة على الأرض وللدخول بسعة للدخول للملكوت السماوي .أما الذين قد أعطى لهم مجد البتولية والتكريس وقد أصبحوا نفوس مكرسة للمسيح فقد تمتعوا بالحياة الملائكية وهم على الأرض ، مع الاقرار منهم لقدسية الزواج كسر مقدس . والمكرس لله يحيا حياة الملائكة وهو على الأرض وهو مجاهداً من اجل عفة حواسه وفكره وجسده مقتدياً بسيده مدرباً نفسه على الصلاة والصوم تائباً عن أخطاءه وخطاياه كل يوم نامياً في الشركة والاتحاد بالله إلى أن يدخل العرس السماوي مرتلاً مع المائة والأربعة والأربعين ألفا البتوليين ترتيله الأبكار هؤلاء الذين يتبعون الخروف والراعي الصالح حيثما ذهب ( رؤ 14 : 1 – 4 ) . الهي ما أعظمك ما أعظمك يا رب فيما وهبتني، فسيداً للخليقة جعلتنى، وعلى صورتك خلقتني وعلم معرفتك أعطيتنى، وبالروح الحكيمة كللتني وجسداً بديعاً خلاقاً منحتنى، ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت. علمنى يا رب أن لا افقد صورتك في، فأكون طاهرا ، جسدا وفكراً وروحاً، بالتواضع والوداعة والحكمة أسير ، وكما تريد لي من قداسة وطهارة وبر أصير ، ساعدني يا رب أن أكون ابنا لك وصورة متواضعة منك ، مقدسا روحى وعقلى وجسدي لإنى ابنك . يا رب أنت تعلم إني أريد أن احبك ، وان لا أكون عثرة لأحد فعلمني أن انظر للجميع أنهم أخوة وأعضاء في الكنيسة المقدسة، امنحني رقة الإحساس لأكون محبة طاهرة ، تعطى بلا مقابل . وتحيا بلا أنقسام ، امنحني شبعاً و اروي عطش نفسي بحبك ، هبني التوبة والنقاوة ، العفة والقداسة لأعاينك داخلي ، ربي ... اصنع لك في داخلي مسكناً لأعاين مجدك كل حين . 1 - تأتي كلمة جسد تعبيراً عن الكيان الإنساني ككل بما فيه من جسد وروح وعقل " إذا أعطيته سلطان على كل ذي جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته " يو 17 ، 2 " . 2 - الجسد اللحمي الذي نلبسه مثلما جاء في العديد من الآيات 3 - جسد الرب يسوع المسيح المتجسد أو الافخارستي : 4 - الكنيسة ككيان مقدس وجسد المسيح السري . 5 - الاتحاد الروحي المقدس 6 - قرابة اللحم والدم 7 - الجسد بمعنى حالة الخطية أو بمعنى الانصياع للشهوات الغريزية. القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
06 ديسمبر 2020

ما معنى التجسد؟

"عظيمٌ هو سِرُّ التَّقوَى: اللهُ ظَهَرَ في الجَسَدِ" (1تي3: 16). التجسد الإلهي:- يعني أن الله وهو ملك السموات والأرض قد تنازل وأخذ جسدًا إنسانيًا، فاتحد بطبيعتنا، وظهر بيننا على الأرض وأن الله الغير منظور قد صار منظورًا في جسد الإنسان وأن الله قد تواضع حبًا فينا، وأخلى ذاته وأخذ جسدنا "أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ" (في2: 7)"والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا" (يو1: 14). الله الكلمة:- الله الكلمة "أقنوم الابن" صار إنسانًا وحلّ بيننا وكلمة (صار) لا تعني هنا الصيرورة أو التحول بل هي تعني حرفيًا (أخذ جسدًا) فأقنوم الابن "الله الكلمة" أزلي لا يتغير ولا يتحول بل هو ثابت وكل ما حدث هو أنه أخذ جسدًا ليحل بيننا بصورة حسية، فنسمعه ونراه ولذا يقول مُعلِّمنا يوحنا الرسول "الذي سمِعناهُ، الذي رأيناهُ بعُيونِنا، الذي شاهَدناهُ، ولَمَسَتهُ أيدينا" (1يو1: 1) أقنوم الابن لم يتجسد فقط ولكنه تجسد وتأنس، وهذا يعني أنه تجسد في جسد إنساني وأخذ الطبيعة الإنسانية كلها التجسد الإلهي لا يعني أن الله قد أخلى السماء من وجوده حين نزل على الأرض، فوجوده يملأ السموات والأرض وإنما أخلى ذاته من المجد هذا الأمر دخل في دائرة قدرة الله وليس فيه صعوبة أو غرابة، لأن الذي يملك الكل يملك الجزء، والذي يملك الأكثر يملك الأقل أليس في قدرة الملك أن يلبس رداء العمال ويجلس بينهم ويتحدث إليهم!!أليس في قدرة المدرس أن ينزل إلى مستوى التلاميذ ويتحدث إليهم!!أليس في إمكان الرجل الرفيع الشأن أن يتنازل ويسير بين عامة الناس!! ولذلك نطرح سؤالًا هامًا ونقول.. هل من قدرة الله أن يتجسد أم ليس في قدرته؟ فإذا قلنا إن الله ليس في قدرته أن يتجسد فإننا ننسب إليه الضعف إذ هو لا يستطيع أن يتجسد.فممكن أن يقول البعض إن التجسد هو ضعف لا يليق بالله، ولكنه هذا ليس من الحق في شيء فإن التجسد هو عمل من أعمال القوة وليس عملًا من أعمال الضعف، وهو داخل في قدرة الله اللانهائية وغير المحدودة التجسد معناه شيء كان موجود غير محسوس (لا مرئي)، وليس له كيان جسدي، وبعد ذلك أخذ جسدًا مثل "فكرة" في الذهن "غير محسوسة وغير مرئية"، ثم أفكر فيها كثيرًا، فتتحول إلى فكرة محسوسة في صورة (ماكيت، شعر، مقالة....) وبذلك تأخذ كيان محسوس. الله كائن منذ الأزل:- الله كائن منذ الأزل ويملأ الوجود ولكن ليس له جسد، وفي ملء الزمان أخذ جسدًا لكي نراه بعيوننا فإذا كان لم يأخذ جسدًا كنا لا نراه ولا نتكلم معه ولا نحسه الوحيد الذي تجسد هو السيد المسيح لأنه هو الوحيد الذي كان موجودًا قبل ميلاده وليس عنده جسد وهذا ما يفسر لماذا وُلد من غير أب لماذا وُلد من غير أب؟لأنه كان موجودًا قبل كل الدهور ولكن ليس له جسدًا الأب يعطي الوجود والأم تعطي الجسد، أي كائن حي موجود على الأرض أيًا كان حيوان أو إنسان أو نبات يحتاج إلى أب وأم.. النبات: "البذرة" (الأب)، "الأرض" (الآم). ليس له جسد:- الوحيد الذي كان موجودًا وليس له جسد هو الله لذلك احتاج أُمًا تعطي له جسدًا، ولكنه كان لا يحتاج إلى أب لأنه كان موجود (الأب يعطي الكيان "البذرة" بالنانو جرام، والأم تعطي الجسد)كان ممكن أن السيد المسيح يحضر له جسدًا من السماء ولا يحتاج لهذا الجسدكان ممكن ولكنه لو حدث ذلك لأصبح من طبيعة أخرى غير طبيعتنا البشرية، وكان لا يستطيع أن يخلصنا على الصليب لأنه ليس ابن الإنسان.فالفداء يحدث عن طريق الإنسان ليفدي الإنسان الذي أخطأ فيلزم نفس الطبيعة ربنا يبارك حياتكم ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين. القمص بطرس البراموسي
المزيد
05 ديسمبر 2020

المقالة العشرون في أيهما أفضل البكاء أم الضحك

بدء انقلاب نفس العابد الضحك والدالة، فإذا رأيت ذاتك فيهما، فأعرف أنكَ قد انتهيت إلى قعر الشرور، فلا تفتر متضرعاً إلى اللـه أن ينجيك من هذا الموت. الضحك والدالة يهلكان أثمار العابد، الضحك والدالة يجعلانه يتكردس إلى الآلام القبيحة، الضحك والدالة يحدرانه إلى أسفل، وقد قال أحد القديسين عن الدالة: أن الدالة ريح الشوب تفسد أثمار العابد. وعن الضحك أسمع الآن، الضحك يطرح النوح خارجاً، وينقض الفضائل المبنية، الضحك يُحزن الروح القدس، ولا ينفع النفس، ويفسد الجسد، يطرد الفضائل، وليس فيه ذكر الموت، ولا دراسة العذاب. أنزع مني يارب الضحك، وأعطيني النوح والبكاء الذين تطلبهما مني. بدء النوح أن يعرف الإنسان ذاته، وليكن نوحاً لا من أجل إنسان ولا لنشاهد الناس، لكن من أجل اللـه العارف مكتومات القلب، لكي ما نُطوَّب منه ونغبط. ولنكن من الآن حسان الوجه، مبتهجون بالروح القدس بمواهب الرب باكين نائحين بمعقولنا، مستعطفين اللـه كي يحفظنا من كل نوع خبيث لئلا نعدم ملك السماوات بالخيرات التي عدها اللـه للذين يرضونه. النوح يبني ويحفظ، النوح يروض النفس ويرضها نقية طاهرةً، النوح يولد العفة، ويقطع اللذات، ويقوم الفضائل. وماذا أقول أيضاً: النوح يطوب من اللـه ومن الملائكة، فلذلك واحد من تلاميذ الرب قال: ينبغي أن يعود ضحككم نوحاً وفرحكم اكتئاباً. تواضعوا إذاً تحت يد اللـه العزيزة فيعليكم. ماذا أصنع أنا الخاطئ، إذ لم أنح ولم أبكي على نفسي بتخشع، لأنني أتكلم ولا أعمل، ويلي كيف أتَهاون وكيف أتوانى في خلاصي ؟ ويلي لأنني بمعرفة أخطئ، أعرف فعل الشر ولا أعطف ذاتي عنه، ويلي فإنني بلا معذرة لأنه بأقوالي يحسبني قوماً أنني من ذوي اليمين، وبأفعالي أقف عن اليسار. لك يارب، أيها الصالح والفاقد الحقد وحدك، أعترف بخطيئتي، وإن صمت أنا تعرف كل الأشياء وليس شيء مكتوماً من اتجاه عينيك، لكن قد قلت يارب بنبيك: قل خطاياك لكي ما تخلص. قد أخطأت يارب قد أخطأت، ولست أهلاً أن أتفرس وأبصر علو السماء من قبل وفور آثامي، لأنني من أجل لذة يسيرة تَهاونت بالنار. ماذا أصنع أنا الأشقى من كل الناس ؟ أبكي على ذاتي ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع، هب لي أيها الصالح الرحوم وحدك دموع خشوع، لكي ما أتوسل بِها إليك أن تطهر وسخ قلبي. ويلي ماذا أصنع في جهنم وفي الظلمة القصوى حيث البكاء وصرير الأسنان، ماذا أعمل نحو الزمهرير والعذاب الذي لا ينقضي، والدود النافث السم الذي لا يرقد، وماذا أصنع عند تَهويل الملائكة الموكلين بالعقوبات، لأنَهم مرهبون وغير راحمين. من يعطي لرأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأجلس أبكي ليلاً ونَهاراً لأستعطف الإله الذي أسخطه. يا نفس قد أخطأْت فتوبي، فإن أيامنا تعبر عبور الظل بعد قليل أيضاً وننصرف من هنا، يا نفس أنت عازمة أن تعبري في أماكن مخيفة، فلا تسوفي يوماً فيوماً أن تعودي إلى الرب. يا نفسي طردتِ بالأفعال الدنسة الملائكة القديسين الذين يحفظونك، فلا تمنحي ذاتك راحة ولا تفتري حدقة عينيك من السجود للإله الصالح المتعطف على البشر ليعطيك معونة من العلي. يا إخوتي نحن مزمعون ليس بعد حين طويل أن نعبر أماكن مخيفة، وغير ممكن أن لا نعبر تلك الطريق، وليس أحد من هنا يرافقنا للمعونة، لا والدان ولا إخوة ولا أصدقاء ولا جنس ولا غنى ولا شيء من نظائر هذه. فلا نتوانى في الأعمال الصالحة التي سنجدها في زمان الحاجة، ولنستفق في هذا الدهر لئلا يقبض علينا بعد الفراق رؤساء الظلمة، ومن المُعِين والفادي في تلك الساعة من أيديهم إن صودفنا مجردين من ستر اللـه. إن رؤساء الظلمة متمردون وغير رحومين، لا يرهبون ملكاً ولا يكرمون أميراً، ولا يبجلون صغيراً ولا كبيراً، سوى العائش بالديانة البهية فقط، صاحب الأعمال الصالحة، من وجه هذا يرهبون ويعتزلون ويخافون ويولولون منهزمين بتسارع كثير. كما كتب: أن النعمة والرحمة سابغتان على مختاريه وتعهده لأبراره. ويقول أيضاً: إن نفوس الصديقين بيد الرب، ولا يمسهم العذاب، لأن عدلهم يتقدم فيصير قدام وجوههم، ومجد اللـه يجللهم. حينئذٍ يصرخون، فيستجيب لهم الرب، وفي حين تكلمهم، يقول هاأنذا قد حضرت لأن صادقاً الواعد. مغبوط من يوجد حراً في ساعة الفراق، لا نتوانى يا إخوتي الأحباء، ولا نجذب إلى ذاتنا الأشياء الأجنبية الضارة البالية، لأن تلك الطريق تحل كل شيء. إذا حانت ساعة الفراق تذبل اللذات، وتَهلك التنعم والشرف الباطل، فيبيد الغنى وحب الرئاسة إذا حضرة ساعة الفراق، وهذه كلها ونظائرها تنحل وتزول. أيها الرب إذا تذكرت تلك الساعة فأَخر ساجداً لصلاحك ألا تسلمني إلى الذين يظلمونني، لئلا يفتخر أعدائي على عبدك، مصريّ أسنانَهم، ومفزعي نفسي الخاطئة. يقولون: قد حصلت في أيدينا ؛ ودفعت إلينا، فهذا اليوم الذي كنا ننتظره. يارب لا تنسى رأفاتك، لا تكافئني نظير أثمي، ولا تعرض بوجهك عني، لا تقل لي حقاً أقول لك أنني ليستُ أعرفك، أنت يارب أدبني لكي أبرأ برأفاتك، ولا تشمت بي العدو بل أخمد تَهويله، وبطل كافة حيله، وامنحني الطريق إليك غير مذمومة. أيها الرب الصالح عزني لا باستقامتى لكن برأفاتك، ومن أجل صلاحك الجزيل خلص من الموت نفساً مغمومة. اذكر أيها الصالح أنني لما أخطأت وجرحت بكلوم تقارب الموت، ما لجأت إلى طبيب أخر، ولا بسطت يدي إلى إله غريب، بل إلى خيريتك، لأنك أنت إله الكل الماسك كل نسمة. أنت يارب قلت اسألوا تعطوا، نقني أيها الرب قبل الوفاة من كل خطيئة، ولا ترفض طلبتي أيها الرب الصالح، ها فمي غير مستحق يهتف إليك، وقلبي غير نقي، ونفسي مدنسة بالخطايا. أستجب لي يارب من أجل صلاحك لأنك لا تطرح وسيلة التائبين بالحقيقة. أما توبتي أنا فغير نقية بل مفسودة، لأني أتوب ساعة وأخطئ وأسخطك ساعتين، وطد قلبي بمخافتك، أقم رجلي على صخرة التوبة، ليغلب صلاحك الرذيلة التي فيَّ. يا من فتحت عيون العميان، أفتح عيني ذهني المظلمتين، يا من طهرت البرص بكلمة، طهر أدناس نفسي، لتصر يارب نعمتك فيَّ كالنار تحرق الأفكار النجسة التي فيَّ لأنك أنت هو النور الذي يفوق كل سرور، الراحة التي تسموا على كل راحة، الحياة الحقيقية، الخلاص الباقي إلى الأبد. لك وحدك أجثو ساجداً متضرعاً، أنا المستوجب كل عذاب، أنا المستحق كل عقاب. إليك أيها الفادي أبتهل متوسلاً ألا يدركني المضاد في الانقضاء، لكن أنت بما أنك صالح وغير حقود ورحوم، انْهض أعضائي التي هشمتها الخطيئة، أضئ قلبي الذي أظلمته الشهوة الخبيثة. ونجني من كل عمل خبيث، وألمع فيَّ يارب يسوع المسيح مخلص العالم محبتك الكاملة، وأكتب اسم عبدك في سفر الحياة، وأهب لي نِهاية صالحة، لكي ما أرفع راية الظفر، وأسجد بلا خجل أمام عرش ملكك مع كافة القديسين. إنه بك يليق المجد إلى الدهور. آمين. فأطلب إليكم يا إخوتي الأحباء، المختارين من اللـه، أن تطلبوا من أجلي أنا الخاطئ إلى اللـه، كما طلب الرسل من أجل الكنعانية، لأنكم أنتم المستحقون أن تشفعوا فيَّ أنا الغير مستحق، أيها المكرمون اسألوا فيَّ أنا الحقير لكي ما تدخل طلبتي في جملة طلباتكم المقبولة قدام اللـه. لأنه يليق بك العز والعظمة والمجد الآن ودائماً وإلى كافة الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
04 ديسمبر 2020

سر التجسد الإلهي

سر التجسد يعني إتّحاد الله بالجسد هو إتّحاد حقيقي ليس إتحاد جزئيّ ولا مرحليّ ولا صوَريّ، الله صار إنساناً، الله الإله صار إنسان، الله نزل كي يرفع الإنسان. إذاً أتمنّى أن يصدمنا هذا العيد، صدمة روحية بدلاً من العيش في الروتين والمظاهر الخارجية. (الشجرة، المغارة، الأضواء)، أتركوا هذه المظاهر وفكّروا أنّ الله صار إنساناً، لهذا علينا نسأل أنفسنا، ماذا علينا نعمل لاستقبال المسيح ؟ إلى أين أذهب؟ من المهمّ جدّاً أن نقفز في حياتنا الروحية وندخل في هذا السر العظيم سر المحبة غاية الله من التجسد، غاية الله أن يرفعنا ويجعلنا آلهة، وبه أعطانا الثالوث، الابن المرتبط بالاقنوم الآب بقوة محبة اقنوم الروح القدس. الابن جاء محملا بمحبة الآب، وتعاليمه الخلاصيّة تدفعنا إلى عيش المحبة بكل أبعادها، و هذا التجسد، مشروعه الخلاصي منذ الأزل، جاء يعرضه علينا ليجدّد علاقتنا به ويعيدنا الى حضنه الأبوي. التجسد فعل محبة! إنّه سر المحبة! وثمرة محبة الله للبشر ولذلك لماذا نرفض التجسد؟ ولماذا نرفض دخول الله حياتنا؟ ونسعى وراء آلهة غريبة، غير موجودة، هي صُنْعُ أيدي البشر، ونَزواتِ البشر وشَهواتِ البشر، وتصوُّراتِ البشر، وتَفاهاتِ البشر؟ سر التجسد إنه سرُّك وسرّي وسرُّ كلِّ إنسان! سرُّ المسيحيّ والمسلم واليهوديّ والبوذيّ… سرُّ شوق الإنسان إلى الله، وشوق الله إلى الإنسان. التجسد هو تلبية أشواق الإنسان الدفينة الحقيقية… ولا أدري لماذا نعتبره سرّاً صعب الإدراك، ويدَّعي البعض أنّه يخالف العقل البشري. وربما ٱعتبره البعض كُفراً وزندقة. التجسد هو التعبير الدَّقيق الصَّميم الباطنيّ الطبيعيّ البديهيّ والأكثر ملاءَمةً لأحلام الإنسان وتطلعات نفسه الخالدة، وسموِّ طبيعته الضعيفة. التجسد هو الثمرة الطبيعية للخلق! وإذا كان الله خلق عن محبة، فقد تجسّد أيضاً عن محبة، التجسد الإلهى .. بدايته الزمنية هي بشارة العذراء والحبل الالهى . التجسد هو اجتيازي المعمودية وخلع الإنسان العتيق ، والولادة من فوق ، ولبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله. ) أف 4 :22-23). إن الإله يقدر أن ينزل للإنسان ويأخذ جسده ولكن الإنسان يعجز أن يمسك الله بفكره. التجسد الالهى هو اتحاد طبيعة الله بطبيعة الإنسان . وهذا هو قمة الالتصاق الذي علينا أن نكتشفه دائماً فينا . إنّه يتجسد في تاريخ كل إنسان! لأنه خالق كل نسمة حياة في هذا الكون. وهذا ما أكّده بولس الرسول للأثينييّن في وسط الأريوباغس: “فهذا الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه هو الذي أبشِّركم به. إن الإله الذي أبدع الكون وكلَّ ما فيه، وهو ربُّ السماء والأرض… هو يعطي الجميعَ الحياة والنفس وكلَّ شيء…، إذ فيه لنا الحياة والحركة والوجود” (أع 17: 23-28). هذا هو التجسّد! تجسّد في تاريخ البشرية، في التاريخ، في مطلع المسيحية. بركات التجسد الإلهي كشف لنا عن محبة الله العميقة للإنسان الخطوة الأساسية لفداء الإنسان جدد طبيعة الإنسان الساقطة ورفعنا معه بالتجسد عرفنا الثالوث وعرفنا الإبن والروح القدس قدم لنا المثل الأعلى للحياة على الأرض بصورة الله ومثاله. كيف أعيش سر التجسد:- أُقدس حياتي وإنسانيتي حتى أكون دائماً في حضرة الله عليّ أن أقدس كل مكان أتوجد فيه وأعلن عن حضور يسوع المسيح من خلال كلامي وتصرفاتي وسلوكي اليومي حتى أكون أبن حقيقي لله. عليّ أن أسعي لتقديس الآخر، لأن يسوع عندما ولد وأخذ الشكل البشري، ليصبح كل إنسان أخ لي، وإذا تكلّمنا بلغة الميلاد، لغة التجسّد، كلّ الناس أخوة طالما يسوع أخذَ هذا الشكل. في النهاية نطلب من يسوع المسيح طفل المغارة أن يقدس حياتنا ويجعلنا نولد معه من جديد وندخل معه في مسيرة حياته، ونطلب منه يعطي السلام لبلدنا مصر حتى نكون في أمن واستقرار. الاب بطرس انور راعى كنيسة العائلة المقدسة للأقباط الكاثوليك – الفيوم
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل