المقالات

05 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس آدم

"وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" تك 1: 26 مقدمة قد لا يعرف التاريخ البشري شخصيات كثيرة اختلف حولها الكتاب والشعراء ورجال الدين والعلم والأدب والفلسفة والاجتماع والفن كما اختلفوا حول أبينا آدم، وقد لا يعرف التاريخ شخصيات كثيرة استعصت على الفكر البشري، واختلف الناس في الحكم عليها، وتنوعت وتباينت نظرياتهم ومذاهبهم وآراؤهم كما اختلفوا حول أول إنسان ظهر على هذه الأرض!! فمنهم من رفعه إلى قمة المجد، وألهه، كما فعل ايبكتيتوس الفيلسوف الرواقي القديم!! ومنهم من هوى به إلى أسفل وأحط الدركات، كما فعل منتاني، الذي رآه حيواناً قذراً من أحط وأقذر الحيوانات!! ومنهم من عاد به إلى أزمان قديمة، كصاحب نظرية النشوء والارتقاء؟! ومنهم من رده إلى عصور أقرب وأحدث، آخذاً بنظرية الكتاب، كما فعل تويبني أعظم مؤرخ في القرن العشرين، الذي كتب مؤخراً في مجلة اتلانتيك منثلي يقول: "إن عمر الجنس البشري لا يمكن لآن يزيد بحال ما على ستة آلاف سنة!!"على أنه مهما تختلف هذه النظريات وتتنوع، ومهما يكن حظها من الاقتراب إلى الحق أو البعد عنه، فمما لا شبهة فيه، أن العصور الحديثة أخذت تؤكد -أكثر من أي وقت مضى- أن قصة آدم، كما وردت في الكتاب، هي أدق وأصح القصص عن الإنسان الأول، وأنها لا تتدانى أو تباري في الإيجاز والعمق والبساطة والجمال!! وأن البشر ية، كما يقول بروفيسور مور "لم تتقدم بعد خطوة واحدة، رغم القرون الطويلة، وراء الوصف الأخاذ المدون في سفر التكوين عن الخليقة"!!كم يكون إذاً فذاً وجميلاً، ونحن ندرس شخصية أبينا آدم الأول، أن نقف قليلاً من هذه القصة، وما حف بها من قصص وتقاليد وأساطير ونظريات، لنخرج بصورة واضحة مجلوة عن آدم!! من هو!! وكيف جرب وسقط وعوقب؟!! وكيف خلص وأخذ طريقه مرة أخرى إلى الفردوس؟!! آدم من هو؟!! لا مندوحة، ونحن بصدد دراسة وتحليل شخصية آدم، من الاعتراف بأن شخصيته من أعقد وأعسر الشخصيات التي واجهها العقل البشري، وذلك لأنه فضلاً عن كونه أول وأقدم إنسان، وقد باعد بيننا وبينه التاريخ. ولم يترك لنا من قصته سوى بضع صفحات متناثرة هنا وهناك بين أساطير وتقاليد الشعوب، فإن المؤرخين والكتاب والشراح والمفسرين لا ينظرون إليه كشخصية مجردة منفردة تتميز وتختلف عن غيرها من الشخصيات، بل ينظرون إليه كمثال ورمز للجنس البشري بأكمله، بما في هذا الجنس من مزايا وعيوب وأمجاد وسقطات، ومن ثم عجزنا عن أن ندرك ملامحه الحقيقية، إذ اختفت شخصيته الخاصة وراء شخصيته الرمزية!! كما أن موسى عندما تحدث عنه لم يقصد أن يعطينا تاريخاً مفصلاً أو مجملاً لحياته بقدر ما آثر أن يرينا إياه كصنعة يدي الله، ونقطة البدء في التاريخ البشري، وكيف تفاضلت نعمة الله عليه، فأعدت له وللأجيال المنحدرة منه الفداء المجاني العجيب!!على أنه مهما تكن الصعوبة في فهم شخصيته، مما لا شك فيه أن الجمال والحكمة، والعظمة كانت من أظهر صفاته!! الجمال.. ومن المؤكد أن آدم لم يكن جميلاً فحسب، بل لعله أجمل رجل خلق على هذه الأرض، وقد كان الربيون اليهود يعتقدون أن الله عندما أراد أن يصنعه، تمثل بشراً سوياً، ثم أبدعه على الصورة التي تمثل بها، وقد ساير الكثيرون في الكتاب المسيحيين هذه الفكرة، فقالوا أن آدم كان أشبه جماله بابن الله على جبل التجلي!! وسواء صح رأي هؤلاء أو أولئك أو لم يصح، فمن المؤكد أن آدم كان يتمتع بجمال مذهل أخاذ، وكيف لا يكون كذلك وهو ختام عمل الله المبدع في الخليقة؟!! وكيف لا يكون كذلك، وقد صنعه الله بكيفية متميزة متفردة عن غيره من المخلوقات؟!! فهذه كان يقول لها: لتكن فيكون؟!! أما هو فقد قال فيه: "لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" وقد اختلف الشراح في المقصود بصيغة الجمع الواردة في هذه العبارة، فذهب البعض إلى أنها دليل التعظيم والإجلال اللائقين بشخص الله، وهو دليل، فيما نعتقد ضعيف، لأن صيغة الجمع لم تظهر في لغة البشر كدليل التعظيم والإجلال عند الملوك وغيرهم من السادة والعظماء إلا في وقت متأخر نسبياً من التاريخ، ولو صح هذا المعنى لكان من اللازم أن تكون كل كلمة تقال من الله أو توجه إليه تعالى ترد في صيغة الجمع، لأنه هو وحده المتفرد في العظمة الدائمة الأبدية!! وذهب غيرهم إلى أن الله كان يتحدث في تلك اللحظة مع الملائكة وجند السماء!! وذهب آخرون إلى أنه كان يتحدث إلى الأرض ذاتها، وما بها من مخلوقات! على أن الرأي الراجح أن المقصود بصيغة الجمع هنا هو أن الله كان يتحدث إلى ذاته في الثالوث الأقدس العظيم!وأن الإنسان بهذا المعنى، لم يخلق كغيره من المخلوقات السابقة، بل جاء نتيجة المشورة والتدبر والحكمة الإلهية الخاصة، أو في لغة أخرى، جاء وليد قرار خاص متميز منفرد عن غيره من قرارات الله! وهل يمكن لآن يحدث هذا دون أن يأتي آدم قطعة فريدة رائعة في الجمال؟!! يضاف إلى هذا كله، أن آدم خلق بدون خطية، فخلق بذلك محرراً من المرض والضعف والوهن والقبح والتشويه والدمامة التي تسببها الخطية!!.. وألا يتفق هذا مع التقليد اليهودي الطريف الذي يقول: أن آدم بعد أن طرد من جنة عدن قال للملاك الواقف لحراسة طريق شجرة الحياة: ولكن متى أعود إلى الجنة مرة أخرى؟!! فأجابه الملاك: عندما ترجع بالوجه الذي أعطاه لك الله في الجنة!! أجل فلقد غيرت الخطيئة وجهه الجميل البريء الحلو، ورسمت عليه سحابة قاتمة سوداء من الظلال، بعد أن سلبته النقاوة والدعة والهدوء والبراءة والرقة والبهجة وغيرها من المقومات الأساسية الأصلية لكل جمال ملائكي دائم!!. الحكمة.. وقد اختلف الشراح والمفسرون في مدى الحكمة التي أوتيها آدم، فذهب بعضهم مذهب التقليد اليهودي الذي زعم أنه أوتي من الحكمة ما لم يؤته الأولون والآخرون، وأنه كان أعلى فهماً وإدراكاً من موسى وسليمان وغيرهما من الحكماء، بل ومن الملائكة أنفسهم، وأن الله قال لهؤلاء، عندما خلقه، أنه سيكون أكثر فطنة وحكمة منهم جميعاً، ولكي يبرهن على هذا جاء لهم بحيوانات البرية وطيور السماء، وطلب إليهم أن يدعوها بأسماء، فعجزوا، وعندما أحضرها إلى آدم قسمها جميعاً إلى أجناس وفصائل، ودعا كل ذات نفس باسمها الخاص كجنسها وفصيلتها.. وسار التقليد في طريقه الخيالي، فقال أن حكمة آدم ترجع في جوهرها إلى السماء التي أنزلت إليه جميع مفاتيح الحكمة والفهم البالغ عددها ألف وخمسمائة مفتاح وأن آدم فقد هذه المفاتيح بالسقوط إذ استردتها السماء مرة أخرى، وقد شارك بعض الكتاب المسيحيين الأوائل هذا الرأي، وأن يكن في غير جموح، إذ قالوا أن أرسطو الفيلسوف اليوناني العظيم كان مثل آدم في حكمته!!.. وذهب الرأي المعاكس إلى أن آدم لم يؤت من الحكمة شيئاً، وأنه كان أدنى إلى الطفولة الساذجة وعدم الفهم، ومن هنا نشأت أسطورة الإنسان الوحشي القديم!!. على أننا نعتقد أن كلا المذهبين غير صحيح، وأن كليهما مغرق في الخيال بعيد عن الواقع والحق.. لقد خلق آدم، كما يرى كل متأمل متعمق في قصة الكتاب ذا ملكات ومواهب، وخلقت له الجنة، ووضع فيها ليعملها ويحفظها، أو في لغة أخرى ليدرب هذه الملكات والمواهب، كما وضعت له شجرة معرفة الخير والشر، وحرمت عليه ثمرتها، لا لأن الله يريد أن يحرمه من معرفة الفارق بين الخير والشر بل لأنه يريد له هذه المعرفة، ولكن بطريقته هو لا بطريق الشيطان، كان الله يريد لآدم أن يعرف الخير، وبضده يمكنه معرفة الشر، وكان الشيطان يريد العكس، إذ يريد أن يعرف آدم الشر، وبضده يمكنه معرفة الخير! ومن هنا نعلم أن الجنة كانت مدرسة آدم ومركز تعليمه وتدربه! كما أن الأسلوب الرمزي الذي استعمله الله في تعليمه وتدريبه يشجع على الاعتقاد بأنه كان وسطاً في المعرفة والإدراك. وأنه كان يحتاج إلى زمن وكفاح طويلين، حتى يصل إلى ما تخيله له المغرقون في الخيال والتصوير من علم وإدراك وحكمة! يضاف إلى ذلك أن قصة الكتاب تشجعنا على الاعتقاد أن آدم كان أذكى من حواء وأقل عاطفة، أو في لغة أخرى، أنه كان يتفوق عليها في الذكاء، وكانت تتفوق عليه في العاطفة.. وإذا سرنا في طريق الاستطراد، يمكننا أن نقول ونحن نوازن بين عقله وقلبه، أن عقله كان أقوى من قلبه، وأكثر تنبهاً وأصالة وإدراكاً.. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الشيطان يبدأ التجربة بالانفراد بالمرأة دون الانفراد به. العظمة.. وما من شك بأن آدم كان عظيماً، وإن كنا لا نتفق مع التقاليد اليهودية التي زعمت، بأنه كان مهيب الطلعة، رائع المنظر، فارع القوام، إلى درجة أنه كان يستطيع خوض المحيطات دون أن يغطيه ماؤها إلى النصف كما كان يمكنه أن يرى الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وهو واقف على قدميه، وقد بدت عظمته هذه أمام الملائكة فأخطأوه ذات مرة وحسبوه الله فسجدوا له، لولا أنه زجرهم، ونبههم إلى شخصه، كما تقول ذات التقاليد، أن الله داس على رأسه بعد السقوط، فتقلص طوله، ومع ذلك بقى أطول رجل على ظهر الأرض!!ومع ذلك، فمما لا شبهة فيه أن آدم كان عظيماً وكيف لا يكون كذلك. وقد خلقه الله على صورته وشبهه إذ قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" ومن المتفق عليه أن الصورة والشبهة يفيدان معنى واحداً. وإن كانت كلمة الشبه تعتبر تأكيداً وتخصيصاً للصورة. إذ تعبر عن التماثل القوي الكائن بين الأصل والصورة. ولكن كيف يمكن لآن يكون آدم على صورة الله وشبهه، وكيف يمكن لآن يكون هناك تماثل بين الله وبينه؟!! لقد ظن البعض أن التماثل قائم في الشبه بين الله المثلث الأقانيم، والإنسان ذي الطبيعة المثلثة -في نظر هؤلاء- الروح والنفس والجسد، ولكن الكثيرين من المفسرين يستبعدون هذا التفسير، إذ يستبعدون التثليث في طبيعة الإنسان!! كما يستبعد الجميع، بداهة التماثل بين الإنسان من الوجهة البدنية، والله، إذ أن الله منزه عن اللحم والدم!!والرأي المسلم به أن التماثل قائم أولاً بين الإنسان، من الوجهة الطبيعية، والله، أو في معنى آخر، بين الإنسان، كإنسان ذي ملكات خاصة، وبين الله، أو في تعبير آخر بين الإنسان، كشخص، وبين الله، كشخص.فالإنسان هنا كشخص الله له مقومات الشخصية الثلاثة: الفكر، والشعور والإرادة، مع هذا الفارق الحاسم أن الله له هذه المقومات في كمالها اللانهائي بينما يحوزها الإنسان في المعنى الجزئي المحدود، فمثلاً هناك فرق بين فكر الله وفكر الإنسان، فالله هو الإله المدرك لذاته، والمدرك لكل شيء صنعه، وما إدراكنا نحن مهما امتد واتسع إلا كومضة ضعيفة باهتة، إزاء نور معرفته الكامل، وإدراكه اللانهائي، بل أن المسافة القائمة بين إدراك أي إنسان أو ملاك، وإدراك الله أكثر بما لا يقاس من المسافة القائمة بين إدراك الإنسان نفسه وإدراك الملاك، أو المسافة القائمة بين إدراك الطفل وإدراك الفيلسوف!!..وما يقال عن الفكر يمكن أن يقال عن الشعور أيضاً، والشعور هو ذلك الإحساس المثير العام الذي ينهض في أعماق الشخصية ويعبر عما بها من عواطف وانفعالات!! وهو بهذا المعنى أساس كل ما نعرف أو نختبر من لذة أو بدونه يفقد الفكر حوافزه، والإرادة دوافعها ومحركاتها، وإذا جاز للشعور البشري أن يضعف أو يخبو فإن مشاعر الله هي النار الآكلة والوقائد الأبدية!!وما يصح في القول عن الشعور يصح أيضاً في القول عن الإرادة، وفي الواقع، أن الإرادة -كما وصفها أحدهم- إن هي إلا النفس في العمل، أو النفس حين تضبط عن نفسها، ولا يمكن للأفكار أو المشاعر أن تنساب إلى الوقائع العملي، ما لم تكن هناك إرادة تحولها إلى ذلك!! وقد أعطى الله هذه الإرادة للإنسان واحترامها على الدوام فيه!!..ويكفي الإنسان عظمة أن يكون على صورة الله وشبهه في هذه كلها، مهما يكن الفارق بينهما كالفرق بين شعاعة النور والشمس الكاملة!!..على أن التماثل قائم أكثر من ذلك بين الإنسان، من الوجهة الروحية، وبين الله، إذ أنه لا يمكن أن يستريح أو يهدأ أو يشبع بعيداً عن الله ولو أعطيته الدنيا بأكملها، ولعل هذا ما حدا بتوماس كارليل أن يقول ذات مرة: "إن شقاء الإنسان يرجع فيما أعتقد إلى عظمته، أو إلى اللانهائية الكامنة فيه، اللانهائية التي لم يستطع أن يغطيها أو يدفنها تحت نهائيته، ولو أن وزراء المال في أوربا الحديثة تكاتفوا مع تجار الأثاث والأطايب لما أمكنهم أن يحققوا السعادة لإنسان واحد من ماسحي الأحذية" كان ثلاثة من الشبان يزورون المتحف الأهلي بواشنطون، وقد توقفوا عند صندوق زجاجي بداخله عدة أباريق زجاجية، اثنان منها ممتلئان ماء، وبآخر مواد من جير وفسفور وحديد وكلسيوم، وبغيره أيدروجين ونيتروجين وأوكسجين، وكتب على الصندوق: جسد رجل يزن مائة وخمسين رطلاً، وقال الثاني: وهل هذا كل ما في؟! وهل لا يوجد ما هو أكثر؟!! فأجابه رجل كان واقفاً إلى جواره: نعم توجد نسمة القدير التي تجعل من كل هذه المواد إنساناً حياً!!.وهنا عظمة الإنسان ومجده!! العظمة التي تجعلنا نغني مع شكسبير: أي قطعة من العمل هذا الإنسان!! كم هو رائع في عقله!! لا نهائي في ملكاته!! وفي صورته وحركته!! وكم هو مندفع ومثير!! في أعماله كملاك!! وفي إدراكه كإله!! آدم ولماذا خُلِّق؟!! أما وقد عرفنا من هو آدم فمن السهل أن نعرف لماذا خلق؟!! لقد خلق كما يقول قانون الإيمان ليمجد الله أو كما قال أغسطينس: "قد خلقتنا لنفسك، وقلوبنا لن تجد الراحة إلا بين يديك" وبهذا المعنى يمكن أن نقول أن آدم خلق ليمجد الله بالعبادة، والسيادة، والإثمار في الأرض!! العبادة.. وربما ندرك هذه الحقيقة في الاسم الذي أطلقه الله على آدم، وقد اختلف الشراح في معنى هذا الاسم، فقال البعض أنه من الأديم أي من التراب الذي يذكره على الدوام بمركزه في حضرة الله، ومن الله، وقال آخرون. أنه يعني الأحمر إذ كانت بشرته حمراء، أو من التراب الأحمر!! فإذا أضفنا إلى ذلك أن كلمة "إنسان" تعني في اللغة اليونانية المرفوع النظرة، وفي اللغة الإنجليزية الكائن المفكر، وعند علماء فلسفة اللغات "الكائن النبيل الطلعة" أدركنا أن الإنسان خلق قبل كل شيء، وبعد كل شيء ليعبد الله، عبادة الإنسان الوديع المتضع، الذي يرفع عينيه على الدوام إلى الأعالي، مستغرقاً في الفكر والشعور والتعبد، لامع الوجه كأنه ملاك!! وهنا يبلغ المرء لذته الكاملة ونشوته العميقة، بل هنا يمكنه أن ينشد مع الشاعر المتصوف: وليت الذي بيني وبينك عامر وليتك ترضى والأنام غضاب إذا نلت منك الود يا غاية المنى وبيني وبين العالمين خراب فليتك تحلو والحياة مريرة فكل الذي فوق التراب تراب السيادة.. وخلق آدم أيضاً ليسود، إذ هو وكيل الله ونائبه على هذه الأرض. ومن ثم أعطاه الله أن يملأها ويخضعها، ويتسلط على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض، وهذا التسلط لخير هذه المخلوقات وخيره، أو كما قال جورج آدم سميث "إن علاقة الإنسان بالحيوان نوع من العناية، فهو يرعاها بحكمته فلا تهيم، وهي تخدمه وتعينه في أعماله" وهنا لا نملك ألا أن نقول مع دكتور ديل: "إني أرفض أن أتنازل عن عظمتي وسيادتي في مواجهة الكون المادي، إذ أني أعظم من الشمس، وأعظم من البحر، وأعظم من الكواكب، وأعظم من النجوم، أعظم منها جميعاً، إذ أنها خاضعة لي، وأنا سيد، وهي مربوطة، وأنا حر". الأثمار.. وما كان آدم ليبقى في الأرض بمفرده، أو هو وحواء فقط، بل خلق على صورة الله، وخلق ذكر وأنثى، وخلق لينال بركة الله ويثمر ويكثر ويملأ الأرض، وذلك لأنه بالطبيعة التي صنعه الله عليها يأبى الانفراد والعزلة إذ هو دائب الحنين للاتصال بالآخرين ومعاشرتهم، وسجنه القاسي البعد عن المجتمع، والحرمان من التجارب مع غيره، يضاف إلى ذلك أن هذا الإثمار فيه الزيادة المستمرة الدائمة في تمجيد الله وتعظيمه!! إذ أنه يلد على مدى الأجيال ما لا يعد أو يحصى من بني البشر الذين يرفعون أيديهم وشفاههم وقلوبهم بالحمد والسبح لله وخدمته كل يوم!! ويكفي ما قاله أحدهم: إن الله عندما يريد أن يصنع في الأرض عملاً عظيماً ومجيداً يخلق طفلاً!! آدم وكيف جرب وسقط وعوقب؟!! ومن واجبنا ونحن نبحث تجربة آدم وسقوطه أن نستضيء بقول الرسول: "وآدم لم يغو لكن المرأة أغويت" 1تي 2: 14 لنرى أن التجربة عند آدم تختلف عنها عند حواء، إذ أن سقوط المرأة كان وليد الخداع "الحية غرتني".. لقد جاءت الحية إلى المرأة كمن يطلب لها الخير، ويريد أن يرفعها إلى مركز الله، وأخفت عنها الجنة المهدمة والحزن والشقاء والدموع والمأساة والموت، وما إلى ذلك مما سيصيب الجنس البشري على توالي الأجيال!! أما آدم فقد سقط بعين مفتوحة، إذ يظن البعض أنه شك في كلمة الله، عندما أبصر حواء تأكل من الشجرة، دون أن تموت في الحال، كما كان يتوقع.. على أن ملتون يذهب في التفسير مذهباً آخر، إذ يقول في خياله الشعري في الفردوس المفقود: أن آدم أكل من الشجرة مدفوعاً بحبه لحواء، إذ آثر أن يموت معها، دون أن تهلك وحدها!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك فإن سقوط أبوينا استتبع أكثر من نتيجة وعقاب!! العار.. لقد جاءتهما الخطية بالخجل والخزي والعار، إذ أدركا أول كل شيء أنهما عريانان، ولعل هذا أول ما يحس به المرء عند ارتكاب الخطية!! ولعل هذا هو الدافع الذي يجعله يرتكب الخطية في الظلام!! "وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 19- 20)، وكلمة الخطية على الدوام مقارنة وملاصقة للعار والخزي، إذ أنها تهدر في الإنسان كل ما هو آدمي وإلهي إذ تقتل فيه المروءة والشرف والكرامة والنبل والإنسانية، وتسفل به إلى الحيوانية القذرة المنحطة، ألم تعر آدم، وتكشف نوحاً، وتغطي داود بالوحل، وتنحط بأمنون إلى أسفل الدركات!! على ألا تنسى على الدوام ما اصطلح رجال النفس على تسميته بعقدة أوديب، عقدة ذلك الفتى اليوناني القديم، الذي قتل أباه، وتزوج أمه، وعندما أدرك بشاعة عمله، فقأ عينيه، ووقع بنفسه أفظع عقاب يجرؤ عليه إنسان!! الخوف.. وإذ سمع آدم وحواء صوت الرب الإله ماشياً في وسط الجنة عند هبوب ريح النهار فزعاً وخافاً، وهذا ما تصنعه الخطية دائماً بمرتكبها، إذ تظهره في مظهر الضعيف الأعزل الذي تمسك به حبال آثامه وشروره، فلا يستطيع الهروب من عدل الله، مهما حاول إلى ذلك سبيلاً، لقد ظن آدم وحواء في باديء الأمر، أن التعدي والأكل من الشجرة، سيجعلها مثل الله، وفي مستواه تعالي، ولكنهما تبينا آخر الأمر، أنهما أضافا إلى ضعفهما ضعفاً، إذ لم يجسرا على النظر إلى الله فحسب، بل خشيا حتى من مجرد الاستماع إلى صوته عند هبوب ريح النهار!! والخطية توهم المرء على الدوام أنه قوي، وجسور، حتى يرتكبها، فإذا به يكتشف أنه ضعيف، وجبان، وأنه أعجز من أن يواجه نفسه، أو المجتمع، أو صوت الله!! وقد جاء صوت الله إلى أبوينا عند هبوب ريح النهار، أو قبيل الغروب، كما يرجح بعض المفسرين عندما سكنت الطيور إلى الأعشاش، والحيوانات إلى المرابض، ولم تكن هناك نأمة أو حركة، ما خلا الريح التي هبت، وجاء معها صوت الله، قوياً مؤثراً، يبلغ الشغاف والأعماق، وهكذا يأتينا هذا الصوت عندما نرتكب الخطية، بقوة لا تغالب أو تناهض، في الحوادث والأحداث التي تمر بحياتنا وفي تأنيب الضمير المرهب، وعذاباته، وضرباته التي هي أقسى من لذع السياط، أو طعنات السيوف، فننكمش، ونتقلص، ونفزع، وتصنع منا الخطية جبناء كما يقول شكسبير!! العداوة.. والخطية سر كل نزاع وخصام وعداوة في الأرض، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، وإذ سقط أبوانا الأولان، ضعفت المحبة بينهما، فلم تكن في جمالها الأول، كما نشأت بينهما وبين الحية عداوة قاسية، وأكثر من ذلك قتلت محبتهما لله!! أما أن محبتهما لم تكن كالأول، فذلك يبدو من محاولة آدم إلقاء التبعة على زوجته، دون أن يهتم بحمايتها أو تحمل ذنبها، كما كان ينتظر منه كمحب مخلص غيور، ولا ننسى أيضاً أنه عندما ذكرها أمام الله لم يقل "زوجتي" و"حواء" بل قال "المرأة التي أعطيتني" مما يدل على أن محبته لها لم تعد في قوتها الأولى!!.. أما العداوة للحية فقد أضحت عداوة دائمة مستمرة أبدية!! ومن المستطاع ملاحظتها إذا ذكرنا العداوة القائمة بين الجسد والروح في الإنسان الواحد، وبين المؤمن وغير المؤمن على طوال الأجيال!!..أما العداوة لله فتبدو في البعد عنه، وعدم الشوق إليه، ومن هنا نعلم لماذا يعيش الإنسان على الدوام في الفزع والرعب والقلق والفوضى وعدم الاستقرار؟!! بل هنا نعلم لماذا تبدو حياته مجموعة من الأشتات والمتناقضات، أو كما يصفه بسكال الفيلسوف: "مزاج فريد من المتناقضات، جمع الكرم والخسة، والسمو والصغار، والقوة والضعف، حتى أصبح لغزاً عسير الحل… وهو بطبعه يميل إلى التصديق، ويميل إلى الشك، شجاع وجبان، راغب في الاستقلال وخاضع لشهواته، محتاج دائماً إلى شيء ما، مضطرب، قلق، سريع الملل، تخدعه حواسه، ويخدعه خياله، ويخدعه حبه لنفسه، فلا يرى الأشياء كما هي وإنما يراها من وراء ستار، ولا أدل على ذلك من اختلاف نظرات الناس إلى شيء واحد باختلاف أشخاصهم وبيئاتهم وعواطفهم ونزعاتهم.. يستطيع أن يقتل إنساناً مثله، ولكن ذبابة تستطيع أن تقتله هو"!! الموت.. وأجرة الخطية هي موت، وقد مات آدم وحواء في اللحظة التي سقطا فيها، وانفصلا عن الله، لقد ماتا في الحال الموت الروحي والأدبي، إذ لم تعد لهما الشركة الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب وأبيهما القدوس، بل لم يعد لهما ذلك الإحساس، الذي ألفاه ودرجا عليه، إحساس الحنين إليه والشوق إلى رؤياه!! بل لقد شعرا للمرة الأولى بأن غبشة من الظلام استولت على عيونهما، فلم يعودا يميزان للمرة الأولى بالفرق بين الحق والباطل، والنور والظلام، والجمال والقبح، والخير والشر، بل شعروا بما يشبه السم الزعاف القاتل يسري في بدنيهما فيخدر في كيانهما كل المعاني والحقائق ويقتلهما في بطء وعذاب وقسوة!! وإلى جانب هذا كله شعرا بالموت المادي يأخذ السبيل إلى جسديهما بالضعف والوهن والتعب والمرض والانحلال!!وهكذا أدركا صدق الله القائل: "لأنك يوم تأكل منهما موتاً تموت". الحياة المعذبة.. طرد آدم وحواء من الجنة فطردا بذلك من الحياة الوادعة الآمنة المستريحة، ولعنت الأرض بسببهما، فضعفت خصوبتها، وتحول الشطر الأكبر من اليابسة إلى البراري والصحاري والقفار، وكان على آدم أن يجد لقمته بالتعب والجهد وعرق الجبين: "ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى تراب تعود" وكان على حواء أن تعيش حياتها متألمة كزوجة وأم، وفقد الاثنان سيادتهما على العدد العديد من الحيوانات إذ استضرت وتوحشت وسار الركب البشري يئن مجهداً مثقلاً متعباً يقول مع يعقوب عن الحياة: "قليلة وردية" ومع موسى في مزموره الباكي: "وأفخرها تعب وبلية" ومع بولس: "فإننا نعلم أن الخليقة تئن وتتمخض معاً" آدم كيف خلص وأخذ طريقه مرة أخرى إلى الفردوس!!؟ على أن قصة آدم لم تنته بالطرد أو الموت أو الهلاك، وهيهات لها أن تكون كذلك، وقد سبقت نعمة الله فأعدت له الخلاص المجاني الكامل العظيمولعلنا نستطيع ونحن نتابع هذا الخلاص أن نلاحظ!! إن الله أعلن خلاص آدم قبل إعلان عقابه وهذا واضح مما نقرأ في سفر التكوين إذ قال الله للحية، قبل أن يحكم على آدم: "وأضع عداوة بينك وبين المرأة نسلك وبين نسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" أو في لغة أخرى، إن آدم سمع حكم الخلاص قبل أن يسمع حكم الموت!! وهل هناك برهان على عمق رغبة الله في خلاص البشر كهذا البرهان؟!! وهل هناك دليل على أن الله يسر بالرحمة والرأفة ولا يسر بموت الخاطيء كهذا الدليل؟!!.. سار الشاب البائس في إحدى ليالي الشتاء القارسة البرد يتخبط في ظلمات المدينة، وقد أفقده الإدمان على المسكر كل شيء كان يمتلكه، إذ باع ملابسه وأثاثه وكل ممتلكاته، ولم يتبق له منزل أو ثوب أو حذاءفخرج في شوارع المدينة حاسر الرأس، حافي القدم، ممزق الثياب، وأخذ يضرب في الطرقات والشوارع والأزقة على غير هدى، حتى بلغ ملجأ من ملاجيء اللقطاء والبؤساءوإذ دلف بقدميه المتعبين، وبطنه الجائع، يطلب لقمة واداما، ومبيت ليلة واحدة إذا أمكن، وجد عدداً كبيراً من أمثاله التعساء والمساكين ينتظرون ما ينتظر، ويطلبون ما يطلب، فجلس في وسطهم، وإذا بواعظ يتحدث إليهم قبل تناول الطعام عن الله وجوده وحبه ورحمته وحنانه بانياً كلامه على ما ورد في سفر أيوب الأصحاح السادس والثلاثين والعدد الخامس: "هوذا الله عزيز ولكنه لا يرذل أحداً" وأكد الواعظ أن الله لا يرذل أو يحتقر المنبوذ والضائع والمتروك والمهمل من جميع الناس، وأن رحمته واسعة وبعيدة ولا نهائية، وأن محبته موجودة وإحسانه كالبحر الطامي ومن غير حدودوإذ سمع الشاب هذه الأقوال استيقظ في قلبه شعاع من نور وأمل، وبدا له كما لو أن الظلمة العميقة الضاربة حوله توشك أن تتمزق، فركع على قدميا وصرخ إلى الله وهو يقول: "إني أعلم يا إلهي أنك قوي عزيز، ولكنك لا تحتقرني، لقد دمرت نفسي بالمسكر، ولكن لا تحتقرني!! اغفر لي خطاياي وساعدني لأحيا حياة جديدة" وسمع الله له، وأنقذه من وهدته، وجلب له سلام القلب، وخير الحياة، حتى لقد ألف أن يقول في حياته الجديدة. فقد كنت في الخطية قبلا بدون حذاء، وبدون مأوى، وبدون مسيح!! أما الآن فقد نلت في المسيح كل شيء!! أن الله أعلن خلاص آدم بالدم لقد حاول آدم وحواء تغطية الخطية تغطية مشوهة حمقاء: "إذ خاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" وهما أول من يعلم أنها لا يمكن أن تبقى أو تستر، أما الله فقد ستر عريهما وخزيهما بذبيحة: "وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما" إذ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة".وهنا ندرك أمرين أساسيين أصيلين في الخلاص، أنه أولاً وقبل كل شيء، من صنع الله، والله وحده: "وصنع الرب الإله.." وأنه ليس للإنسان في إعداده وترتيبه أدنى نصيب أو مجهود أو مشاركة، إذ يرجع في جملته وتفصيله إلى فضل النعمة الإلهية المجانية الكاملة.. والأمر الثاني أن الخلاص بالدم، والدم وحده! وهنا نلمح كما قال أحدهم: "شجرة الخلاص في بذرة أو نسر الإنجيل في بيضة" بل هنا نرى النبوة الأولى عن الصليب، والتفسير الحاسم لما جاء في الكتاب من تعاليم وشرائع ورموز ونبوات وطقوس وفرائض!! الأمر الذي بدونه تضحى هذه كلها ألغازاً وأحاجي ومعميات، بل هنا نجد الجواب الأوحد من الله المخلص للعالم الخاطيء الآثم الملوث الشرير، والدواء الناجع للينبوع البشري الدفاق الممتليء بالصديد، والإعلان الشامل لما ينشده البشر في كل جيل من راحة إزاء الآلام، وتعزية في الضيقات، وستر للخجل، وتهدئة للخوف، وتغطية للعار، وما إلى ذلك مما تئن به الخليقة وتتخمض!!..ألا يجمل بنا إذاً -ونحن في هذا المقام- أن نحول أنظارنا قليلاً من آدم الأول إلى آدم الثاني، ومن أبي البشرية في الخطية إلى إلهها في الخلاص، وألا يجمل بنا ونحن في هذا المقام أن نهتف مع الرسول قائلين: "فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع.. وهكذا مكتوب أيضاً صار آدم الإنسان الأول نفساً حية وآدم الأخير روحاً محيياً.. الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء" بل ألا يمكننا أن نقول هنا أيضاً مع هنري فان دايك: "أنه لو انتزع الرجاء المبارك من الكتاب المقدس أن نسل المرأة يسحق رأس الحية فلن يتبقى هناك سوى جنة مهدمة، وإنسان مشرد، وطوفان غامر، ونيران ملتهبة، وناموس رهيب، ومرامير يائسة، ونبوات صارخة: "من مفرج على الحزن قلبي في سقيم، هوذا صوت استغاثة بنت شعبي من أرض بعيدة.. ألعل الرب ليس في صهيون أو ملكها ليس فيها".. "أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب فلماذا لم تعصب بنت شعبي" ولكن شكراً لله لأنه لم يعطنا هذا الرجاء فحسب بل أعطانا إياه منذ فجر التاريخ، وعلى الصفحات الأولى من كتابه العظيم!! إن الحكم على آدم كان لإتمام هذا الخلاص فالعقاب الذي أوقعه الله على أبوينا الأولين لم يكن لمجرد العدالة الإلهية فحسب، بل كان أكثر من ذلك تحتمه وتلزم به رحمته الفائقة!! فلو أن آدم وحواء أكلا من شجرة الحياة وهما خاطئان، لكانت الحياة لهما أمر عقاب وعذاب، ولكان بقاؤهما في الجنة هو الجحيم بعينه، ولكن الطرد والتشريد والتعب والألم ولذعة الضمير لهما الباب الضيق والطريق الكرب إلى الفردوس المردود.عندما حكم على دانتي بالنفي، وطرد من فلورنسا، وحرم عليه أن يراها حتى الموت، سار الشاعر الشريد يضرب في المنفى على غير هدى، وإذ امتلأت نفسه من الأحزان والمتاعب والعذابات، صدف عن الأرض، وحن إلى السماء وكتب كتابه العظيم الخالد "الكوميديا الإلهية"!! وهل أنا وأنت والمؤمنين جميعاً إلا دانتي الشريد تنتزعه نعمة الله من التعلق بالأرض عن طريق الآلام والأوجاع والضيقات!! وهل أنا وأنت والمؤمنون جميعاً إلا ذلك الركب الذي يسير في موكب الحياة وقد قيل عنه: "تجربوا في هزء وجلد ثم في قيود أيضاً وحبس رجموا نشروا ماتوا قتلاً بالسيف طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض.."؟دعونا إذاً نشكر الله لا على الشمس المشرقة فحسب بل على الغيوم أيضاً!! ولا على الماء الرقراق بل على الأمواج المزبدة كذلك، ولنهتف من الأعماق مع الرسول قائلين: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده، لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين والذين سبق فعينهم فهؤلاء بررهم أيضاً. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً"!!..
المزيد
04 نوفمبر 2020

من حيل الشياطين

للشياطين حيل كثيرة, صارت بعضها معروفة, ومنها: تقديم خطيئة باسم فضيلة: الشيطان خبيث. ويرى أن بعض الناس يرفض ضميرهم الخطيئة إن كانت مكشوفة. فلا مانع عنده من أن يعرض خطايا معينة بغير أسمائها, بأسلوب يسهل قبوله, بحيث تلبس الخطايا ثياب فضائل فالتهكم على الناس والاستهزاء بهم, يقدمه على اعتبار أنه لطف وظرف, ومحبة ودالة, وخفة روح ومحاولة للترفيه والدهاء أو الخبث يسميه باسم الذكاء! أما الكذب فيمكن للشيطان أن يقدمه باسم الحكمة, كنوع من حسن التصرف أو إنقاذ للموقف. والطبيب قد يكذب على المريض مرات, ويسمى ذلك "حفظ معنويات المريض" وحمايته من الانهيار. والبعض قد يسمى أنواعًا من الكذب باسم الكذب الأبيض. وربما يعتبره في أول أبريل دعابة وفكاهة والقسوة على الأبناء يقدمها الشيطان للآباء باسم الحزم والحرص على تأديبهم وتربيتهم ومنعهم من الانحراف, وربما تقودهم هذه القسوة إلى الانحراف للهروب من قسوة الآباء. وهذا ما يريده الشيطان والتزين الذي يصل إلى التبرج, يُقدم باسم الأناقة والنظافة وقد يقدم للبعض جريمة القتل باسم آخر. فقتل الأخت الخاطئة يسميها غسل عار الأسرة. وقتل آخر يطلق عليه اسم الدفاع عن الوطن أو الدفاع عن الدين أو تطهير الأرض من المخطئين أو من الطغاة لا مانع عند الشيطان من الدخول في خداع المسميات. إذ يرى أنه ليس من (الحكمة) أن يسمى الخطية بأسمائها المنفرة, ففي ذلك كشف لأوراقه. وعدم الوصول إلى هدفه. البخل مثلًا لا يسميه بخلًا لأن هذا الاسم غير مقبول. إنما يسميه "حسن تدبير المال" أو عدم الإسراف وعدم التبذير. أو حفظ المال لحاجة المستقبل... وهكذا العلاقات الشبابية غير الطاهرة يسميها باسم الحب, بينما هي شهوة وليست حبًا وإعطاء الخطية اسم الفضيلة, يساعد الخطاة على الاستمرار فيها. كما يوقف تبكيت الضميرفلا يزعج الإنسان أو يقوده إلى ترك الخطية.فليحترس إذن كل أحد من هذه المسميات الزائفة, ولا يسمح للشيطان أن يخدعه. فالخطية هي الخطية مهما اختفت وراء اسم آخر. ومن حيل الشيطان أيضًا التدرج الطويل: إن وسائل الشيطان تتعدد, وقد يبدو بينها أحيانًا شيء من التناقض بين أسلوب وآخر, ولكن يجمعها هدف واحد وهو إسقاط الفريسة فالشيطان في بعض الأحيان قد يضربه ضربة سريعة فجائية, بحيث لا يكون الشخص مستعدًا لها. وأحيانًا يعمل في تدرج طويل لا يشعر به صاحبه. والتدرج يلزمه وقت قد يطول. ولكن الشيطان لا يهمه الوقت, بل يهمه السقوط. والتدرج يصلح غالبًا للأشخاص الذين لا يقبلون خطية معينة بسهولة. ولكن الشيطان يوصلهم إليها تدريجيًا في هدوء, بجرعات قليلة أو قليلة جدًا, تزداد بالوقت حتى تقضى عليهم. وقد يقسّم الخطية إلى مراحل, كل مرحلة تثبت أقدامها بالوقت إنه يحب -حينما يضرب الضربة- أن تصيب مقتلًا. وهذا يتطلب منه أحيانًا تمهيدات طويلة المدى. بحيث حينما يدخل القلب يجده مزينًا مفروشًا مهيئًا لعمله, ويجد الضحية جاهزة بلا مقاومة. وحتى إن قاومت تكون بلا قدرة على الإطلاق, فتسقط أمامه بسهولة وفى خطة التدرج, كل خطوة يقترب فيها الشخص إلى جو الخطية تجعله يعتادها, وتضعف إرادته أمامها. وبمرور الوقت يألفها ولا تصبح غريبة عليه. وبالتدريج تدخل إلى فكره ثم إلى مشاعره ومن أمثلة التدرج الطويل, تأتى العادات. وكل عادة مسيطرة على الإنسان, أتبدأ هكذا مطلقًا. ربما كان هو المسيطر عليها أولًا ويستطيع تركها. ولكنه بالتدرج الطويل فقد سيطرته, ثم سيطرت العادة عليه. وربما قال له الشيطان في أول خطوة: "جرّب أو اختبر.. الحياة كلها خبرات, والأمر بيدك تستطيع أن تمتنع وقتما تشاء". وظل به هكذا إلى أن أتى الوقت الذي فيه سلّم إرادته بالتمام, ولم يعد يقاوم, بل لا يشاء أن يقاوم ونصيحتنا لمقاومة سياسة التدرج هذه التي ينتهجها الشيطان, أن يبعد الشخص عن الخطوة الأولى بكل حزم, مهما بدت بريئة أو حاول الشيطان أن يقنعه بأنها بريئة احترس من كذب الشيطان إن قال لك إنها خطوة واحدة ولن تتكرر أو لن تتطور. فالشيطان لا يقبل على خطته أن يتركها عند حدود الخطوة الواحدة, دون أن يتقدم بها باستمرار نحو هدفه البعيد. إذن احترس حتى من الخطوة الأولى, وليس فقط من تطورها, مهما بدت هذه الخطوة في نظرك من الأمور الصغيرة... من حيل الشيطان أيضًا, (الأمور الصغيرة)! إنه يحارب بها, لأن الشخص قد لا يهتم بها, ولا يحترس منها... بل يقول لنفسه: "وهل مثلى يخاف من هذه الأمور الصغيرة. إنها قد تتعب المبتدئين. أما نحن فقد كبرنا عن أمثال هذه الأمور..!"حقًا إن شيطان الأمور الصغيرة يمكن أن يهلك الإنسان. فيمكن أن تغرق سفينة من ثقب صغير في قاعها. والإنسان لا يشترط أن يكون موته بواسطة وحش خطير يفترسه, إنما يكفى لموته ميكروب لا يُرى بالعين المجردة أو مجر فيروس والأمور الصغيرة قد لا تكون صغيرة فعلًا, ولكن الشيطان يسميها هكذا. والله -تبارك اسمه- قد يختبر إرادتنا بأي اختبار مهما كان بسيطًا, ولكن تنكشف به نفسيتنا من الداخل هذه الأمور الصغيرة قد تكون مثل قليل من التساهل مع الحواس أو القراءات أو السماعات, أو عدم التدقيق في الكلام, أو تمسك الإنسان برأيه, وعدم استشارية لأحد, أو عدم لوم النفس على أخطائها, أو التقصير في الصلوات وطريقة الخلاص من شيطان الأمور الصغيرة هي في حياة التدقيق. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
03 نوفمبر 2020

الملكة هيلانة المحبة للمسيح

ذهبت الي اورشليم مدينة الهنا ،لتبحث تحت كوم رابية الجلجثة ،واستمرت في سعيها باجتهاد ،الي ان وجدت الخشبة العتيدة،مع الخشبتين اللتين صلب عليهما اللصان ،مع السيد عليهما،وقد وضعت ميتا علي الصلبان الثلاثة ،فلما وضع علي احدهم ،،،قام الميت حيا للوقت ،،،،كذلك تميز صليب المخلص بالمكتوب علية ...عظيمة هي هيلانة التي اجتهدت وسعت باشتهاء مقدس لتري خشبة عود الصليب ،،ولم تمل البتة حتي وجدتة ،فيالها من غنية صالحة وملكة تقية،اخذت الوف الجند ورافقتهم الي جلجلة الاقرانيون ،وهناك اظهر الرب صليبة ،وعندئذ سجدت الملكة لملك الملوك،وقد وجدت ايضا المسامير الخلاصية..الطوبي لك ايتها العظيمة الملكة هيلانة ام الملك قسطنطين ،لانك رفعت علامة الخلاص والافتخار. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
02 نوفمبر 2020

القيم الروحية فى حياة وتعاليم السيد المسيح (14) حياة الطهارة

مفهوم الطهارة وأهميتها .. الطهارة تعني قداسة الفكر والمشاعر والسلوك.. بالبعد عن الخطية والشهوة والانحرافات الاخلاقية فيحيا الانسان نقياً وعفيفاً فى أفكاره وفى أقوال فمه ونظرات عينيه وأحاديثه وكل طرقه وحياته الداخلية والخارجية معاً . الطهارة ليست طهارةَ اليدين والرجلين والجسد، فتلك نظافة في نظر المسيحية ولا ترقى ابداً لمستوى الطهارة ، وعكس الطهارة هو النجاسة ، نجاسة القلب والفكر الذي تصدر عنه الافكار والاتجاهات والمشاعر والسلوك والقرارات الخاطئة . اننا نؤمن ان الرب قدس الطبيعة الإنسانية عندما اتحد بها وصار ملتزما بها وراعيا لها ومدبرا لخلاصها وعندما صعد الى السماء وجلس عن يمين الاب احتفظ بجسده الذي أخذه من القديسة مريم وهكذا دخلت الطبيعة الإنسانية الي أعماق السماء كما أصبح الله في أعماق الإنسان لقد أصبح الإنسان بالعماد ابناً لله وبالميرون المقدس اصبح مكرسا للرب وصار هيكلا للروح القدس ومسكنا للرب وعضوا فى الكنيسة التي هي جسده السري. وفى هذا يقول الإنجيل {ألستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وإنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفى أرواحكم التي هي من الله } (1كو 6: 19-20).كما ينبه علينا باهمية العفاف {ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح، أفآخُذ أعضاء اعضاء واجعلها أعضاء زانية؟ حاشا} (1كو6:15) لقد خلق الله الانسان طاهراً على صورته ومثاله.. ووهبه كل الامكانيات اللازمة للطهارة والنقاوة الداخلية . ان الانسان يقع فى النجاسة والخطية لا لانها أقوى منه ولكن من أجل تراخيه وكسله عن الجهاد او سعيه وراء الشهوات المحرمة . العفاف والطهارة هم سر قوة الانسان ونجاحه فى الحياة . ان يوسف العفيف أنتصر فى كل مجالات الحياة رغم الضيقات والتجارب الخارجية لانه كان أمينا طاهراً عفيف القلب واللسان والفكر والسلوك فى بيت أبيه ، وعندما ذهب ليسأل عن سلامة أخوته الحاسدين له، وفي بيت فوطيفار عندما راودته امرأة سيده ثم فى السجن . لقد خلصه الله من جميع ضيقاته ورفعه من اجل طهارته . ولهذا وهبه حكمة من روحه القدوس وبحسن تدبيره انقذ مصر واهلها واهله من المجاعة الى حاقت بهم ، بعكس ذلك شمشون الجبار الذى ارتمى فى أحضان دليله وأستسلم لشهواته فخانته وسلمته لاعدائه فقعلوا عينيه وجعلوه يعمل كثور يدور على الطاحون . + الطهارة تظهر فى تعاملك مع الجنس الاخر.. فإنك تتعامل معهم كأخوة أحباء باحترام ونقاء دون إزالة للكلفة أو خدش للحياء وإنما بود وإعزاز كأعضاء معك في جسد المسيح أو في أسرة الإنسانية. ولكن إذا شعرت أن شخصاً منهم قد سرق اهتمامك وتفكيرك وخيالاتك حينئذ بنضج ووعي يكون لديك إمكانية لضبط لعواطفك واتخاذ ما تراه مناسبا بالحرص والجهاد او الابتعاد ، فنحن نحتفظ بعواطف الحب الزيجى لشريك حياتنا فى سر الزواج المقدس والذى تكون فيه العلاقات الزوجية مقدسة وتعبيراً راقيا عن المحبة دون ابتزال او شهوة امتلاك انانى للآخر. والطهارة هي النظرة المقدسة للجسد سواء جسدك أو جسد الآخر. فالطاهر هو الذي ينظر إلي كل أعضائه بالتكريم كمكان يسكن فيه روح الله. إن الانسان الطاهر لا يشتهي ولا يتطلع للجمال الجسدي للآخر لأنه يعرف أن الجمال باطل والحسن غش كما يقول الحكيم والجمال الحقيقي يحترم فيه الانسان ككل كهيكل لله . اننا فى تقديرنا للآخرين لا نشتهيهم ونقدرهم ولا نريد أن نمتلكهم ونستهلكهم بل إن نقييم الآخرين كشخصيات لا كمجرد أجساد. فالجسد هو الغلاف الخارجي ولكن الذي نحترمه بالأكثر هو ما يحويه هذا الغلاف من طباع ومفاهيم وقامة روحية وفكر وإرادة وشخصية. اننا كابناء وبنات الله لا نشترك مع أهل العالم فى كلامهم او افكارهم او أفعالهم الخاطئة بل بالاحرى نوبخها بقداسة سريرتنا وسيرتنا كما كان لوط يعذب نفسه البارة بافعالهم الاثمة { اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالافعال الاثيمة (2بط 2 : 8) فالمؤمن الحقيقى يأخذ الامور بجدية وروحانية . انها ليست مزاح او تسلية او قضاء وقت بل هي قضية حياة أو موت، أبدية أو هلاك، إيمان أو انحلال، قداسة أو استهزاء؛ تمايز وشهادة أو انجراف في التيار. إاننا نقدس الحياة والجسد والجنس سواء ما يختص بالحياة الزوجية أو النظرة السليمة لأعضاء الجسد. فالشاب المسيحي الذي أدرك قيمة كرامة جسده يحرص على أن يلبس الرب يسوع ولا يشاكل هذا الدهر ولا يسلك في طريق الأشرار وفى مجلس المستهزئين لا يجلس لأن ذهنه قد استنار وحياته قد تجددت وأصبح حريصا على أن يرضى الرب في طرقه ويحفظ الوصية عن حب لذاك الذى صلب وقام لاجله ...فنحن لا نشابه أهل العالم في أهدافهم وطرقهم وألفاظهم وسلوكهم. { ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد اذهانكم لتختبروا ما هي ارادة الله الصالحة المرضية الكاملة} (رو 12 : 2) + اقتناء الطهارة يأتى من عمل نعمة وعطية الروح القدس في المؤمن ولكنها تحتاج إلي جهاد وسهر ويقظة قلب. نحن لا نستطيع بمفردنا أن نجعل أنفسنا أطهاراً ولكننا نستطيع أن نصلى ونجاهد ونطلب من الله ان يهبنا طهارة الفكر والعواطف والسلوك ويقوينا لكي نحتفظ بطهارتنا فى المسيح يسوع ربنا وعمل نعمته وفعل روحه القدوس. من أجل هذا نصلى كل يوم للروح القدس طهرنا من دنس الجسد والروح وانقلنا إلي سيرة روحانية لكي نسعى بالروح ولا نكمل شهوة الجسد ونطلب من الله ان يجدد فى أحشائنا نعمة روحه القدوس ، روحاً مستقيماً ومحيياً روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة لانها قادر علي كل شئ وهو ضياء نفوسنا . + الطهارة وتحقيق الذات .. الذي يحيا طاهراً لا يحقق ما تتطلبه الوصية فقط وإنما يحقق ذاته وينجح أولاً. ويصبح الإنسان كما يريده الرب. يحرص على أن تظهر االطهارة والقداسة في حياته ويرفض أن يطمسها بالحياة الشهوانية والتصرفات الجسدانية. ويقول رجال علم النفس أن الشاب الطاهر تحيا غرائزه وتنمو في انسجام واتفاق وتكامل بعكس الشاب الشهواني إذ يسيطر عليه الانهماك في الملذات الجنسية، الأمر الذي يجعل بقية الدوافع في خلل وارتباك. فالطهارة مطلب نفسي وروحى. لهذا نرى الشاب الطاهر حقيقة الذي لا يعاني كبتاً أو قهراً يحيا في سلام ونضارة وفرح وسعادة تخلو نفسيته من العقد النفسية والهموم والأحزان وتأنيب الضمير وأوجاع النفس المختلفة. النجاسة تقدم لذة وقته للخاطئ ولكن هل هذه اللذة تؤدي إلي الشبع الكامل والشعور بالاستقرار النفسي الحقيقي؟. يجب ان نتأكد أن الله لا يريد سوى سعادتنا وهو لم يخلق الجنس ليعذبنا به وإنما لنستخدمه في مجراه الإنساني السوي فنتمتع بكل طاقتنا فلا نحاول أن نستخدم أجهزتنا بطريقة غير تلك المخلوقة من أجلها، حقاً إن حياة الطهارة تؤدي إلي السعادة النفسية فهي مطلب نفسي وإنساني كما هي وصية إلهية وفضيلة روحية، والطهارة تحمي الإنسان من الأمراض الجنسية وتحفظ نضارة الشباب ، ولذلك تجد وجه الشاب الطاهر يختلف تماماً عن وجه الساقط في بالوعة الشهوات الجنسية. ورغم تقدم الطب في معالجة الأمراض لكن مازالت للنجاسة ضحايا كثيرة مثل أمراض الايدز والكبد الوبائى والزهري والسيلان علاوة على الامراض النفسية ومن قلق وكابة وانفصام الشخصية واليأس وغيرها . السيد المسيح والحياة الطاهرة المقدسة ... + ان الرب الهنا يتميز بالقداسة ويدعونا اليها { اني انا الرب الهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لاني انا قدوس ولا تنجسوا انفسكم } (لا 11 : 44) بالتجسد الإلهى صار الكلمة جسداً وحل بيننا وشابهنا فى كل شئ ما عدا الخطية وحدها ، لم يفعل خطية ولا وجد فى فمه غش ومرة بكت السيد المسيح اليهود قائلاً {من منكم يبكتني على خطية فان كنت اقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي }(يو 8 : 46) من اجل هذا دعانا القديس بطرس ان نتبع خطواته { بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا انتم ايضا قديسين في كل سيرة }(1بط 1 : 15). فان ارادة الله قداستنا وامتناعنا عن الشر { لان هذه هي ارادة الله قداستكم ان تمتنعوا عن الزنا} (1تس 4 : 3). لاننا مدعوين كابناء الله الى حياة الطهارة والقداسة وملكوت السموات {فاذ لنا هذه المواعيد ايها الاحباء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد و الروح مكملين القداسة في خوف الله} (2كو 7 : 1). فاننا بدون القداسة والطهارة لن نعاين الملكوت او الله { اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى احد الرب} (عب 12 : 14). من اجل هذا دعانا لحياة التوبة المستمرة وان نصنع ثمارا تليق بحياة الطهارة والقداسة { فاصنعوا اثمارا تليق بالتوبة و لا تبتدئوا تقولون في انفسكم لنا ابراهيم ابا لاني اقول لكم ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة اولادا لابراهيم} (لو 3 : 8). + اهتم السيد المسيح بطهارة الحواس لانها ابواب الفكر { ليس احد يوقد سراجا ويضعه في خفية ولا تحت المكيال بل على المنارة لكي ينظر الداخلون النور.سراج الجسد هو العين فمتى كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا ومتى كانت عينك شريرة فجسدك يكون مظلما.انظر اذا لئلا يكون النور الذي فيك ظلمة.فان كان جسدك كله نيرا ليس فيه جزء مظلم يكون نيرا كله كما حينما يضيء لك السراج بلمعانه } لو 33:11-36. كما علمنا ان نحترس من النظرات الخاطئة او اللمسات الخاطئة التى تنحرف بعاطفة الانسان وتجعله يزنى فى قلبه { قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن. واما انا فاقول لكم ان كل من ينظر الى امراة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وان كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم} مت 27:5-30. + طهارة القلب واللسان والسلوك . دعانا السيد المسيح الى الحرص نقاوة القلب وطهارته لانه من فضلة القلب يتكلم الفم { كيف تقدرون ان تتكلموا بالصالحات وانتم اشرار فانه من فضلة القلب يتكلم الفم. الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات والانسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور.ولكن اقول لكم ان كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساب يوم الدين. لانك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان} مت34:12-37. وبين لنا اهمية الطهارة والنقاوة الداخلية التى تقود الى حياة مقدسة فى الرب { ثم دعا الجمع وقال لهم اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينجس الانسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الانسان.حينئذ تقدم تلاميذه وقالوا له اتعلم ان الفريسيين لما سمعوا القول نفروا. فاجاب وقال كل غرس لم يغرسه ابي السماوي يقلع. اتركوهم هم عميان قادة عميان وان كان اعمى يقود اعمى يسقطان كلاهما في حفرة. فاجاب بطرس وقال له فسر لنا هذا المثل. فقال يسوع هل انتم ايضا حتى الان غير فاهمين. الا تفهمون بعد ان كل ما يدخل الفم يمضي الى الجوف ويندفع الى المخرج. واما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر وذاك ينجس الانسان.لان من القلب تخرج افكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف. هذه هي التي تنجس الانسان واما الاكل بايد غير مغسولة فلا ينجس الانسان} مت 10:15-20. هكذا وبخ السيد المسيح الفريسيين الذى اهتموا فقط بالنظافة الخارجية دون القلب ومحبة الله والحق والرحمة والإيمان {و فيما هو يتكلم ساله فريسي ان يتغدى عنده فدخل و اتكا. واما الفريسي فلما راى ذلك تعجب انه لم يغتسل اولا قبل الغداء. فقال له الرب انتم الان ايها الفريسيون تنقون خارج الكاس والقصعة واما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا. يا اغبياء اليس الذي صنع الخارج صنع الداخل ايضا . بل اعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقيا لكم.ولكن ويل لكم ايها الفريسيون لانكم تعشرون النعنع والسذاب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله كان ينبغي ان تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ويل لكم ايها الفريسيون لانكم تحبون المجلس الاول في المجامع والتحيات في الاسواق. ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون} لو 37:11-44. + هكذا كرز التلاميذ بحياة الطهارة والتعفف.. فما عاشوه وتعلموه من معلهم الصالح ساروا به وعلموه . لان غاية الوصايا هى المحبة من قلب طاهر{ واما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وايمان بلا رياء (1تي 1 : 5). هكذا يوصى القديس بولس الرسول { اخيرا ايها الاخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن ان كانت فضيلة وان كان مدح ففي هذه افتكروا. وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورايتموه في فهذا افعلوا واله السلام يكون معكم} فى 8:4-9. اننا رغم أغراءات العالم نسلك فى حياة الطهارة فى البتولية او فى الزواج المقدس كما يحق لإنجيل المسيح { فمن ثم ايها الاخوة نسالكم ونطلب اليكم في الرب يسوع انكم كما تسلمتم منا كيف يجب ان تسلكوا وترضوا الله تزدادون اكثر. لانكم تعلمون اية وصايا اعطيناكم بالرب يسوع. لان هذه هي ارادة الله قداستكم ان تمتنعوا عن الزنا. ان يعرف كل واحد منكم ان يقتني اناءه بقداسة وكرامة. لا في هوى شهوة كالامم الذين لا يعرفون الله. ان لا يتطاول احد ويطمع على اخيه في هذا الامر لان الرب منتقم لهذه كلها كما قلنا لكم قبلا وشهدنا.لان الله لم يدعنا للنجاسة بل في القداسة. اذا من يرذل لا يرذل انسانا بل الله الذي اعطانا ايضا روحه القدوس. واما المحبة الاخوية فلا حاجة لكم ان اكتب اليكم عنها لانكم انفسكم متعلمون من الله ان يحب بعضكم بعضا} 1تس 1:4-9 + الأهتمام بطهارة الحواس واللسان والفكر والقلب والجسد .. ان ابتعادنا عن العثرات والاعثار بالحواس يجعلنا فى بعد عن الافكار الخاطئة ، بهذا يوصينا السيد المسيح ان نبتعد عن من يعثرنا ولو كان انسان مهم لنا كاليد اليمنى او العين { ويل للعالم من العثرات فلا بد ان تاتي العثرات ولكن ويل لذلك الانسان الذي به تاتي العثرة .فان اعثرتك يدك او رجلك فاقطعها والقها عنك خير لك ان تدخل الحياة اعرج او اقطع من ان تلقى في النار الابدية ولك يدان او رجلان. وان اعثرتك عينك فاقلعها والقها عنك خير لك ان تدخل الحياة اعور من ان تلقى في جهنم النار ولك عينان} مت 7:18-9. لهذا ايضا نوصى بناتنا وابنائنا ان لا يكونوا عثرة فى ملابسهم او تصرفاتهم كما اوصانا القديس بطرس الرسول { ولا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب. بل انسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن}1بط 3:3-4. اننا نحافظ على عفة الاذان بتعودها على سماع التراتيل والعظات والعيون بتطلعاتها للسماء والقديسين والايدى بان لا تمتد الى ما لغيرها ولا نفرح بربج قبيح او رشوة او عيش مسرف بل تسرع فى خدمة المحتاجين والعطاء ونبتعد بلساننا عن الادانة والتهكم والكذب والكلام الغير بناء اما القلب اى الانسان الداخلى فيمتلئ بمحبة الله والمشاعر المقدسة والعواطف الروحية { فوق كل تحفظ احفظ قلبك لان منه مخارج الحياة} (ام 4 : 23). اننا نحرص على نقاوة قلوبنا بالتوبة والانشغال بمحبة الله والأمتلاء من ثمار ومواهب الروح القدس فلا يجد ابليس سواء بالافكار او العواطف غير المقدسة مكاناً له فى قلوبنا ونرى الله ونعاين مجده { طوبى للانقياء القلب لانهم يعاينون الله }(مت 5 : 8). كيف نقتني حياة الطهارة .. + تجنب السلبيات والعثرات .. يجب علينا ان نحرص على البعد عن كل مسببات الخطية والشهوة سواء التى تاتى من داخل الانسان او من الخارج .. فيجب علينا تجنب العثرات التى تأتى من الجسد كالطعام الدسم او الذائد الذى يولد حرارة الجسد لاسيما قبل النوم ، ونمارس الصوم باعتدال ومعه تواضع القلب والصلاة لله ليهبنا حياة الطهارة والعفة ونتجنب الكسل والفراغ ونهتم بنقاوة قلوبنا ونبعد عن الكبرياء كسبب لابتعاد نعمة الله المقوية عنا { قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح} (ام 16 : 18).كما ان البعد عن الاسباب الخارجية من قراءات او مشاهدات خاطئة او علاقات معثرة تغلق الباب على حروب الشهوة من اجل هذا يوصينا الانجيل بالبعد بل بالهروب من العثرات { اما الشهوات الشبابية فاهرب منها واتبع البر والايمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي (2تي 2 : 22). + التوبة الصادقة.. بدون التوبة الصادقة تظل الحياة في صراع، والقلب في انقسام، والسقوط والقيام متكرر، ويزرع فينا الشيطان روح اليأس والانهزام. أما العزم الصادق على الحياة مع المسيح والجهاد الدءوب للحفاظ على النعمة المعطاة بالروح، فهذه هي وحدها التي تحمينا من خطورة الانزلاق وهاوية السقوط. ليس معنى هذا أن الحرب ستنتهي للابد ، وليس معنى هذا أن لا نتعرض للتجارب ، ولكن الذي نعنيه هو أن القلب سيكره الخطيئة مهما عرضت، وسيرفضها مهما ثقلت وسينهض من الكبوة إذا النفس عثرت يشبه الآباء القديسون الفارق بين التائب وغير التائب بالحمل والخنزير، الحمل قد يعثر ولكن سرعان ما ينفض التراب ويقوم من كبوته ولا يطيق الوحل على فروته. تنعشه النظافة وتزيده صحة ووزناً، أما الخنزير فحتى لو عطرته بالعطور الغالية فإنه يجري وراء المزبلة ليأكل منها ويتقلب في مراغة الحمأة.نحتاج إلى توبة واعتراف والصلاة بالروح لننال الطهارة ونكون آنية مقدسة وهياكل طاهرة وأعضاء حية في الجسد المقدس لتنفيذ مقصد الآب . كما ان حضور القداسات والتقرب من الاسرار المقدسة يجعل المسيح يحل بالايمان فى قلوبنا ويقدسنا جسدا ونفسا وروحا . فنثبت فى المسيح كما تثبت الاغصان فى الكرمة ونأتى بثمر ويدوم ثمرنا . + الصلاة بالروح والحق.. الله روح ويريدنا ان نصلى اليه بالروح والحق وتكون صلواتنا عشرة محبة مع الله وسيرنا معه احساس صادق بوجوده الدائم معنا ، يسمع ويستجيب لنا كعريس للنفس البشرية من اجل هذا قال القديس بولس الرسول { فاني اغار عليكم غيرة الله لاني خطبتكم لرجل واحد لاقدم عذراء عفيفة للمسيح} (2كو 11 : 2). نحيا حياة الصلاة والتسبيح. إننا بالصلاة تسمو غرائزنا وتتسامى طاقتنا العاطفية إلى المحبة الكاملة الصادقة مع الله ، نشكره على احساناته ونبثه همومنا وضعفنا ونطلب منه فى صلة دائمة ان يقودنا فى موكب نصرته . + القراءة فى الإنجيل والكتب الروحية .. ان كلمة الله قوية وفعاله { لان كلمة الله حية و فعالة و امضى من كل سيف ذي حدين و خارقة الى مفرق النفس و الروح و المفاصل و المخاخ و مميزة افكار القلب ونياته} (عب 4 : 12). وهى تنقى الانسان الذى يقرائها { انتم الان انقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به} (يو 15 : 3) فيجب علينا ان نعطى لها الاهمية بالدارسة والعمل بها كما ان كتابات الاباء الغنية بالروحانية تجذبنا الى حياة النقاوة وتهبنا مادة مقدسة للصلاة وتحفظ الفكر مقدساً فى الرب . كما ان قراءة سير القديسين والتعلم من حياتهم ومصادقتهم كامثلة حية للحياة الطاهرة تقودنا الى حياة مقدسة . + الصوم المقدس .. الصوم المقبول وباعتدال وارشاد يغلب الشيطان ولاسيما نهم البطن ويقوى الروح ويضبط أهواء الجسد.. الصوم رياضة روحية عظيمة يعطى فرصة للروح أن تنطلق في العبادة بلا عائق الصوم الإنقطاعي مع الصلاة والحياة الروحية الحقة يجعل الجسد شفافا رقيقا ويخفف ارتباط الإنسان بالأرض ويوجه اهتماماته إلى السمائيات {ليس بالخبز وحدة يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله} الصوم تدريب على طاعة الله واختبار إماتة شهوات الذات، فيه خشوع وانسحاق وفيه زهد عن العالم وتوبة عن الخطايا. وكلما ارتبط الصوم بالصلاة والسجدات والتذلل أمام الله يصبح فعالا ويحرق افكار النجاسة الخاطئة. +أستغلال الطاقاتك بايجابية روحية .. لدى كل إنسان منا طاقات ومنها الطاقة العاطفية والفكرية والبدنية والجنيسة فيمكننا ان نستخدمها للبناء او الهدم . علينا ان نستخدم طاقاتنا فى البناء الروحى السليم ونتسامى بغرائزنا وطاقاتنا ولا ندع انفسنا فريسة للفراغ والضياع بل نعمل وننجح ونتميز فى دراستنا وعملنا ونمارس الانشطة والخدمات الكنسية والوطنية . وننمى مواهبنا سواء القراءة او كالرسم او الموسيقي او الاشغال اليدوية او الرحلات او خدمة الكنيسة وانشطتها فى افتقاد المرضي والمحتاجين والقرى المحتاجة او بالرياضة الجسدية التى تكسب الجسم القوة والنشاط وتخفف الضغوط والتوترات { لان الرياضة الجسدية نافعة لقليل ولكن التقوى نافعة لكل شيء اذ لها موعد الحياة الحاضرة و العتيدة} (1تي 4 : 8). ان الطهارة والعفاف المسيحى يعنى قلباً ملتهباً بالحب الإلهي الذي يشبع النفس ويملأ الفراغ الداخلي ويحل مشكلة العزلة والملل والسأم، ويغمر قلب الانسان بنعمة الروح القدس الوديع الهادئ فتنطفئ كل شهوة خاطئة وتهدأ حركات الجسد واعضاءه وتمتلئ النفس فرحاً وسلاماً ونعيماً. وتنمو فينا طاقات المحبة الإيجابية ونوجهها التوجيه السليم . شئ من التاريخ المسيحى الاول من نص الدفاع عن المسيحية موجه إلى الإمبراطور الروماني هارديان للقدِّيس يوستينوس الشهيد عاش من 100م فى نابلس بفلسطين حتى استشهد فى 165م بروما الباب الثاتي : تعاليم الديانة المسيحيةالانتقال من الظلمة إلى النور – الطهارة في الزمن الماضي، كنا نُسرّ بالفجور، أما اليوم فإن الطهارة هي كل ملذَّاتنا كنا نستسلم للسِحر، أما الآن فإننا نكرِّس أنفسنا للَّه الصالح. كنا نحب المال والممتلكات ونبحث عنها أكثر من كل شيء، أما الآن كل أموالنا مشتركة يقاسمنا فيها الفقراء كانت الأحقاد تفصلنا عن بعضنا البعض، وكانت الفروق بين العادات والتقاليد لا تسمح لنا بقبول الغريب في بيتنا، أما اليوم بعد مجيء المسيح، فإننا نعيش معًا، ونصلِّي من أجل أعدائنا، ونحاول أن نكسب مضطهدينا الظالمين أرى أنه يحسن أن نذكِّركم ببعض تعاليم المسيح نفسه. وعليكم بفضل مقدرتكم وسلطانكم الإمبراطوري، أن تحكموا إذا كانت التعاليم التي أخذناها ونسلِّمها هي تعاليم مطابقة للحق الطهارة {كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها} (مت 5: 28-29). {خير لك أن تدخل ملكوت اللَّه أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار}(مر 9: 47). {ليس الجميع يقبلون هذا الكلام، بل الذين أُعطي لهم. لأنه يوجد خِصيان وُلدوا هكذا من بطون أمَّهاتهم. ويوجد خِصيان خَصاهم الناس. ويوجد خِصيان خَصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات. من استطاع أن يقبل فليقبل} مت 19: 11-12 وهكذا، فإن الذين بحسب القانون البشري يعقدون زواجًا مضاعفًا. اما لدينا الذين ينظرون إلي امرأة ليشتهوها متساوون في الذنب أمام ربنا. فهو لا يمنع الزنا فحسب، بل يمنع نيَّة الزنا أيضًا، لأن أفكارنا معلومة لدى اللَّه مثل أعمالنا إن رجالاً ونساء كثيرين، إذ تعلَّموا منذ الصبا في ناموس المسيح، ظلُّوا أنقياء حتى سن الستين والسبعين، وإني اَفتخر بأن أذكر لكم بعض أمثلة هؤلاء في كل الطبقات. وهل يلزم أن أذكركم أيضًا بالعدد الغفير من أولئك الذين تركوا الرذيلة لكي يخضعوا لهذه التعليم؟ والمسيح لم يدع الأبرار والأطهار للتوبة، بل الكفرة والمرذولين والأشرار. ألم يقل: "لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مر 2: 17). لأن الآب السماوي يفضل توبة الخاطئ على معاقبته.. القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
01 نوفمبر 2020

الألحان المستخدمة في القداس الإلهي

هي موسيقي تحرك المشاعر، إما تخاطب الروح مثل الحان الكنيسة وتجذب العاطفة نحو الله، وأما جسدية (تخاطب الغريزة) مثل حفلات ما بعد الأكاليل والـD.J. وذلك لا يصلح ولا يناسب أولاد الله. فالألحان هي موسيقي تخاطب الروح وتحرك العواطف وتجذب الإرادة نحو الله وتثير الدفوع والخشوع. فالهزات هي نبرات لحنية والهدف منها الإحساس بالكلمات والحركات لذلك سيدنا قداسة البابا شنوده قال المفروض تدرس النوتة الموسيقية للألحان الكنسية. إذًا الكنيسة علي مر العصور بعمل الروح القدس تجسد المعاني الروحية من خلال موسيقي الألحان في الصلاة. لذلك نجد: الكلمات + الحركات تحتاج للفهم الكلمات + الألحان تعطي إحساس بالتوبة. الحركات + الألحان تعطي إيضاح الطقس الكنسي لذلك علي الطالب الإكليريكي معرفة مغزى الطقس (فهم – توبة – حركات – كلمات – الحان) لذلك نجد عند عدم ثبات الطقس عند البروتستانت وصلوا 6000 طائفة!! الالتزام بطقس ثابت في صلاة القداس قد يتساءل البعض: لماذا نلتزم بطقس ثابت في الصلاة؟ الرد: عدم وجود ثبات في الطقس أدي إلى أن البروتستانت طلع منهم أدفنتست، شهود يهوه، لكن ثبات الطقس المُسَلَّم من جيل إلى جيل يحفظ التقليد والتسليم عبر الأجيال. الطقس مصدر مهم من مصادر التقليد (Tradition) لأن التقليد هو التسليم الشفاهي لحياة معاشه. لذلك يقول بولس الرسول في (1 كو 11:11) سلمتكم ما قد تسلمته، التقليد ليس محاكاة (Timition) ولكن تسليم لأن المحاكاة هي حركي ظاهري لا يفيد كثيرًا لأن ليس له جوهر ومن هنا كانت أهمية الثبات في الطقس يحفظ التقليد والتسليم عبر الأجيال. طبعًا التقليد دون فهم يسيء للطقس، إذًا يجب فهم الكلمات، الحركات، الألحان. إذًا عمل الروح القدس لا يتغير لذلك عندنا ثبات في الطقس وفي الصلاة. لذلك: 1- الطقس لا يتغير ولكن يتجدد فهمه روحيًا. 2- يجعل الطقس له قوة مؤثرة ومتجددة عبر الأيام بدليل الإنسان يخرج من القداس ويريد سماعه مره أخري. لأن عمل الله ممتد غير محدود لأن الله غير محدود. 3- والكلمات مستوحاة من الكتاب المقدس. 4- شمولية طقس القداس "شامل كامل" وكأن السيد المسيح يحتضن العالم كله من خلال القداس الإلهي. الطقس يعبر عن الإيمان الثابت. س: ما الفرق بين العبادة قديمًا في العهد القديم والعهد الجديد؟ ج : نوعية العبادة تعلن عن مصير الإنسان بعد الموت، ففي العهد القديم كان المصير هو الجحيم لذلك كانت واجهة العبادة إلى الغرب تشير للموت عبادة موت، نوع العبادة كانت تظهر بشاعة الخطية (الدم والنار) ورئيس الكهنة كان يدخل مرة واحدة قدس الأقداس في السنة يرش الدم، فهل يمكن تخيل رائحة قدس الأقداس بعد سنة.. صعبة جدًا.إشارة لسلطان الخطية الذي يعطي هذه الرائحة وبشاعتها. أما في العهد الجديد: المصير هو الحياة الأبدية فالعبادة تشير إلى الحياة ننظر للشرق إشارة للحياة، لأن السيد المسيح هو شمس البر، الشر إشارة للحياة، كما تشرق الشمس تدب الحياة علي الأرض واتساع العبادة يشير إلى قوتها.العبادة في العهد الجديد عبادة غير دموية (روحية) ذبيحة البخور والخبز والخمر المتحول إلى جسد ودم كريم لذلك نجد فرق بين مذبح النحاس في العهد القديم تقدم عليه ذبائح دموية أما المذبح في العهد الجديد يقدم عليه بخور ذبيحة روحية.ولذلك اتسعت العبادة إشارة إلى قوتها وعظمتها هناك صلاة جميلة في القداس الباسيلي لذهبي الفم بالخولاجي أما الخروف فروحي وأما السكين فنطقية غير جسمية نطقيه (ليس مادية "روحية")، جسمية (غير جسدية). نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها عن القداس الإلهي في اللاهوت الطقسي القبطي
المزيد
31 أكتوبر 2020

المقالة الخامسة عشرة في ذكر الآباء المتوفين

يوجعني قلبي فتوجعوا معي يا إخوتي العبيد المباركين، تعالوا فأسمعوا أن نفسي توجعني وجوانحي تؤلمني، أين الدموع ؟ وأين التخشع ؟ حتى أحمِ جسمي بالدموع والزفرات. من ذا ينقلني ويخلصني من مكان غير مسكون ؛ حيث لا يوجد ألبته صوت أبناء البشر ؛ حيث يكون الصمت وعدم جلبة، حيث لا يكون رهج يقطع الدموع، ولا مفاوضة شعب تعوق البكاء.فكنت أرفع صوتي وأبكي لدى الإله بعبرات مرة، وأقول بزفرات: أشفيني يارب لكي أبرأ ؛ لأن قلبي يوجعني فوق الإفراط ؛ وزفراته لا تتركني لحظة أن أنال راحة. لأنني أعاين قديسيك كذهب منتخب، تأخذهم من هذا العالم الباطل إلى نياحة الحياة. بمنزلة الفلاح الفهيم العاقل الذي إذا رأى الأثمار بالغة حسناً يقطعها بإسراع لئلا تضرها عوارض ما وتفسدها.هكذا أنت أيها المخلص تجمع المصطفين العاملين أعمالهم ببر ؛ ونحن الوانيين والمسترخين بالنية تبقينا في قساوتنا وثمرنا لا يتغير عن ماهيته. لأن ليس له نية ليبلغ في الأعمال بلوغاً حسناً ؛ ويقطف كما يليق ؛ ويجعل في مخزن الحياة ؛ لأن ثمرنا ليس له دموع لتوصله إلى تناهي البلوغ ؛ ولا تخشع لتتناهى نضارته من نسيم العبرات.ولا تواضع ليظلله من الحر الكثير، ولا هجر قنية لينتقل من الأمور المضادة، ولا محبة اللـه الأرومة القوية الحاملة الثمر، ولا عدم الاهتمام بالأمور الأرضية، ولا سهر، ولا عقل متيقظ في الصلاة.فعوض هذه الأشياء الحسنة ؛ والفضائل الصالحة له أضدادها غيظ مذموم، وغضب ييبسان الثمر لئلا ينمو فينتفع به، وكثرة قنية، والضجر العظيم ينقلانه إلى أسفل.هذه المصائب كلها تشتمله ؛ ولا تتركه ينتهي إلى البلوغ كما يليق ليستوي ؛ ويصلح لصاحبه الفلاح السماوي.ويلك ويلك يا نفس تكلمي وأبكي إذ فقدت بسرعة الآباء الكاملين ؛ والنساك الأبرار.أين الآباء ؟ أين الكاملون ؟ أين القديسون ؟ أين المستفيقون ؟ أين المتيقظون ؟ أين المتواضعون ؟ أين الودعاء؟ أين الصامتون ؟ أين الساكتون؟ أين المتورعون ؟ أين العادمون القنية ؟أين المتخشعون المرضو اللـه الذين كانوا يقفون في الصلاة النقية قدام اللـه كملائكة منيرين يبكون حتى يبلوا الأرض بعبرات الخشوع الحلوة ؟ أين المحبو اللـه الموعبو محبة ؛ الذين لم يقتنوا شيئاً على الأرض ؛ بل حملوا صليبهم ؛ وأتبعوا المخلص أتباعاً دائماً ؛ وسلكوا في الطريقة الضيقة متأملين حذرين أن يسقطوا في الهفوات.أو في برية غير مسلوكة ؛ وفاقدة الماء ؛ ومظلمة ؛ بل سلكوا طريق الحق الممهد ؛ طريق وصايا الرب ؛ سائرين في الطريق المملوء استنار ؛ إلا وهو أوامر المسيح ؛ خادمين اللـه بسيرة حسنة وبحرارة، حزناء باختيارهم في العالم الباطل.فلهذا أحبهم اللـه جداً ؛ وضمهم إلى ميناء الحياة ؛ وإلى الفرح الخالد وليستبشروا هناك ؛ ويتنعموا في فردوس النعيم ؛ وفي خجلة الختن الباقي ؛ لأنَهم ساروا من هنا بفرح إلى الإله القدوس ومعهم المصابيح معدة.فليس فينا نحن فضيلة أولئك ؛ ولا نسكهم؛ ولا حميتهم ؛ ولا مسكهم؛ ولا ترتيبهم ؛ ولا ورعهم ووداعتهم وتخشعهم ؛ ولا زهدهم في القنية ؛ وليس لنا سهرهم، وليست فينا محبة اللـه ؛ ولا تحنن الإله ؛ ولا تألم الأعضاء.لكننا متنمرون غير مستأنسين، ولا يحتمل بعضنا بعضاً ألبته، فألسنتنا هي محمية ؛ نتكلم بِها على بعضنا البعض، كلنا نلتمس الكرامة ؛ ونؤثر التشرف ؛ ونبتغي الراحة لأنفسنا ؛ ونحب القنيات.نحن مسترخون غير مثابرين على الصلوات، أقوياء في الهذيان وفي الدوران غير خاضعين، ضعفاء في السكوت، نشيطون إلى التنعم، مقطبون في الحمية والمسك، باردون في المحبة، حارون في الغضب، عاجزون في الصالحات، حرصون في السيئات.ترى من لا ينتحب، من لا يبكي على محبتنا الموعبة رخاوة، إن أولئك الآباء إذ صاروا قبلنا مرضين للرب خلصوا أنفسهم، ما كانوا متراخين، ولم يتخذ الكاملون فكرين لكن فكراً واحداً وهو كيف يخلصون.وكانوا مرآة صافية للناظرين، وكان الواحد منهم يستطيع أن يبتهل إلى اللـه من أجل أُناس كثيرين ؛ واثنان منهم إذا وقفا أمام اللـه في الصلوات النقية كانا يقدران أن يستعطفا الإله المتعطف كما يليق عن ألوف أناس.ويلك يا نفس في أي زمان أنت.ويلنا يا أحبائي إلى أية حمأة المساوي بلغنا ؛ ونحن نريد أن ينكتم أمرنا؛ ولكون ناظر النفس لا يتيقظ من كثرة العمي والتنزه فلذلك لسنا قادرين أن نتأمل الحزن المنصوب.وها الآن الأبرار والصديقون يختارون ؛ ويجمعون إلى ميناء الحياة ؛ لكي لا يعاينوا الحزن والشكوك التي تتبعنا من أجل خطايانا. كان أولئك ينتحبون ونحن نتناعس، أولئك يجمعون ونحن نتناوم، أولئك يحفظون ونحن ننجذب إلى العالم الباطل، أولئك يذهبون إلى اللـه بدالة ونحن نتنزه على الأرض. حضور الرب قد وقف على الأبواب ونحن نتشكك ونتقسم، الصوت السماوي متهيئ أن يبوق بأمر الرب ويزعزع الكل بصوته المفزع فينهض الموتى ليستوفي كل أحد نظير عمله. قوات السماوات مستعدة وقوفاً في مواكبهم ؛ أيوافوا بتقوى أمام الختن إذا جاء بمجد في سحب السماء ليدين الأحياء والأموات ؛ ونحن غير مصدقين.أترى كيف نكون يا إخوتي في تلك الساعة المخوفة ؟ كيف نعتذر إلى اللـه هناك عن توانينا في خلاصنا ؟ إن لم نحرص الآن ونبكي بوقاحة ونتوب توبة حسنة بتواضع نفس ووداعة كثيرة، فكم كل واحد منا مزمع أن ينتحب في ضغطته ؟وإذا تندم يقول بدموع غزيرة: ويلي أنا الخاطئ، ماذا داهمنى بغتة ؟ كيف عبر عمري وغاب عني بالجملة ؟ كيف سُرق زماني أنا المتنزه الطموح ؟ أين تلك الأيام الهادئة التي قضيتها في التنزه حتى أتوب بمسوح ورماد ؟ لكن لا ينتفع من كثرة هذه الأقوال.وإذا شاهدنا القديسين يتطايرون بمجد في السحب ؛ سحب الأهوية لاستقبال الرب ملك المجد ؛ ونعاين ذاتنا في ضغطة عظيمة. ترى من منا يستطيع أن يحتمل ذلك الخزي والتعيير المض ؟فلنفيق يا إخوتي ؛ فلنستفق يا أحبتي، ولنتيقظ أيها المحبو اللـه، ولننهض يا خلان اللـه.أيها الأولاد المحبوبون من الإله الآب، لنصغين إلى ذاتنا ؛ ولنجمعن أفكارنا قليلاً من هذا العالم الباطل ؛ ولنبحث أمام اللـه بعبرات غزيرة متضرعين بوقاحة وحرص وزفرات قلب ؛ لينجينا من النار التي لا تطفأ، والعذاب المر، لئلا نفارق السيد الحلو الذى أحبنا وبذل ذاته على الصليب من أجلنا.وأنا غير المستحق الخاطئ، أتضرع إليكم وأطلب إلى جماعتكم ؛ أن تذرفوا من أجلي دموعاً في صلواتكم وطلباتكم النقية ؛ طالبين لي التخشع لأبكي معكم ؛ وليستضئ قليلاً قلبي الأعمى.وأطلب إلى الإله المخلص القدوس ؛ لكي ما يعطيني نشاطاً وحرصاً فأتوب ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع ؛ وأخلص معكم. يا إخوتي أنا غير مستحق الحياة، يا أحبتي أطلب إليكم أن تقبلوا استغاثة إفرآم الخاطئ أخيكم المسترخي ؛ ولنحرص كلنا أن نستغفر الإله القدوس ما دام لنا زمان ؛ لأن ها الرب قد وقف على الأبواب ليفني العالم الباطل.وله السبح إلى الأبدآمـين هذا هو اليوم المتقدم والمشرف ؛ فلنسبح بتشريف أسرار الابن الوحيد ؛ ولنصرخ بالتسبيح في الكنيسة التي هي عروس المسيح ؛ مشيدين بانتصار الآباء الأبرار ؛ ولنرتل مدائح القاطنين القفر ؛ واصفين جهاد الذين تركوا المدن ؛ وآثروا بشوق أن يسكنوا البرية لمنفعة كافة الذين يسمعونه ؛ لكي بصلوات الآباء الأبرار ؛ وبصلوات السامعين يخلص المتكلم. لأن الآباء الأبرار لم يبتعدوا منا إذ اشتقنا إليهم ؛ ولم نفارق جلالهم كأنَهم غرباء عنا لأنَهم يبتهلون دائماً من أجل هفواتنا.وليسوا ذوي مقامات دنيئة بل مشرفون ولا حقيرين بل مكرمون، ولا فاقدي العلم بل علماء لأنَهم كانوا معلمين لكل الناس بأعمالهم الصالحة لأنَهم كانوا قد تعلموا من سيدهم أن يجولوا الجبال مغتذين كاغتذاء الوحوش.كانوا تامين مملوءين عدلاً ؛ وإذ صاروا أعضاء الكنيسة لم يفصلوا أنفسهم من الرعية لأنَهم أولاد الاستنارة المقدسة ؛ ولم ينقضوا الناموس بل حفظوا الكهنوت ؛ وحفظوا الوصايا ؛ ولم يقاوموا الشريعة بل كانوا حارين في الأمانة.وحين كان الكهنة المكرمون يقفون قدام المائدة المقدسة يقربون الخدمة كانوا هم أول من يمدون أيديهم فيقبلون بأمانة جسد السيد الذي كان معهم دائماً.كانوا كحمام طائر في العلاءِ، نصبوا مساكنهم في الصليب ؛ تائهين في مواضع مقفرة كالغنم.فحين سمعوا صوت الراعي عرفوا في الحين سيدهم الصالح، كانوا تجاراً قد خرجوا يلتمسون الدرة النفيسة، كانوا مجتهدين مختبرين في جهاد العبادة الحسنى.أصغوا إلى مسامعكم ؛ أميلوا آذانكم حتى أصف لكم سيرة الآباء القاطنين البرية، أجمعوا فكركم وسافروا به معنا إلى وسط الصقع المقفر فسنشاهد هناك عجباً عظيماً ؛ ومجداً ؛ ولنذهبن في طرفة فنسطر رسوماً صالحة وعجيبة رسوم سيرتِهم.فإن الشوق إليهم يضطرني كثيراً أن أذهب فأعرف من كنوز سيرتِهم، وأرهب أن أتقدم إليهم سراً ؛ وإذا حضرت عندهم ولو مدة يسيرة وأراهم يحنون ركبهم ليبتهلوا إلى اللـه ؛ يستطيعون أن يجعلوني أنا الموجود الضعيف متأيداً متوطداً.إذا مدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء ؛ يقوموا نطقي لكي ما أمدحهم بأمانة، إذا تضرعوا يقف معقولي ثابتاً ويفرح بوداعتهم، وكذلك لساني يتلذذ إذا تنغم بوصف سيرتِهم.إذا سكب واحد منهم سحابة دموع عن هفواتي فللحال يستجاب له، أولئك القديسون شابَهوا المسيح نفسه، واقتنوا البيوت في البرية لأنه لا يمنع من كنوزه الصالحة الذين يقصدونه في الساعة التاسعة والعاشرة ؛ بل يعطيهم أولاً بما أنه سيد صالح كإعطاء الأجرة للفاعل الذي عمل في الساعة الحادية عشرة في كرمه بنشاط ؛ فقد فتح المخزن والغنى يعطي للمريدين أن يتقدموا ويتسربلوا بالمجد الذي كانوا يلتمسونه دائماً.فلنتخذ رسماً حسنة شريفة ؛ ونصير مشابِهين لسيرتِهم، فمن يريد أن يحرص ويذهب فيلبس الحلة التي لهم ويستغنى بثروتِهم.ومن قام عندهم يبدأ في الحين أن يعطي للذين يسألونه طلباتِهم، لأنَهم يعطون لكافة من يسألهم، ويمنحون الكل المواهب التي اقتنوها.فلنتقدم فنأخذ منهم عطية نفيسة صلاة وترتيلاً، نأخذ محبتهم التي هي أشرف وأرفع من جواهر كريمة وزبرجداً شريفاً، وعوض اللؤلؤ فلنأخذ أمانتهم القوية المشرفة التي من أجلها صاروا تائهين في الجبال والآكام والمغائر والثقوب.هب لي يارب قوة وتأييداً للساني لئلا ينغلب من تعب سيرتِهم ولأصف شيئاً من جهادهم البهي، فلهذه الحال إذا نَهضنا فلنطرح أسلحة الشيطان ونعطف قلبنا ونجعل لنا أجنحة حمامة ؛ ونطير فنبلغ حتى نشاهد سيرتِهم.لأنَهم تركوا المدن وضوضاءها ؛ وتاقوا إلى الجبال والبراري أكثر منها، فنمضي فنشاهد مساكن أولئك، وكيف هم جالسون كالموتى في القبور، نذهب فنعاين تنعم الذين يتنعمون بفرح بين الجبال.نمضي فنبصر الماقتين للعالم والمؤثري التصرف في البراري أكثر جداً، نذهب فنشاهد أجساد أولئك كيف قد تسربلت بشعورهم، نمضي فنعاين مسوحهم التي لبسوها بسرور ممجدين اللـه، نذهب فنشاهد وجوههم كيف بتقطيبها قد ضاعفوا بِها نفوسهم. نمضي فنبصر الملائكة معهم مهللين ومرتلين بسرور جزيل ؛ نذهب فنشاهد طاساتِهم الممزوجة بدموعهم، نمضي فنبصر موائدهم مملوءة دائماً من البقول البرية، هلموا فلنبصر حجارة أولئك التي يضعونَها تحت رؤوسهم.فلنذهب ونأخذ من شعور القديسين ؛ لنتخذ السيد متعطفاً علينا، إن شاهدهم لص يجثوا ساجداً لأنَهم متدرعوا الصليب دائماً.إذا أبصرت الحيوانات الوحشية مسوحهم ؛ للحين تبتعد منهم ناظرين عجباً عظيماً، كل ما يدب يدوسونه بأرجلهم ؛ لأنَهم لابسون ومحتذون أمانة العدل.إذا أبصرهم الشيطان في الحال يفرق منهم ويعج بتوجع هارباً في الحين، لأنَها تكسرت ربوات فخاخ نصبها وراءهم ؛ ولم يمكنه بالجملة أن يضرهم لأنَهم لم يكونوا مسترخين مثلنا نحن الجهال بل منتصبون بشهامة في محاربة العدو إلى أن سحقوه تحت أقدامهم إلى النهاية، وسحقوا أفكاره واغتيالاته، ولم يجزعوا من كافة حيلة.فكان إن أراهم غنى لم يعتدوا به شيئاً بل يحتقرونه ويطئونه كالصخرة، لأن الغنى كان لهم في السماوات مع الملائكة القديسين.والجوع ما كان يحزنَهم لأنَهم كانوا يغتذون من خبز المسيح النازل من السماوات القدسية، إن العطش لم يلهبهم لأن المسيح كان لهم في أنفسهم وفي لسانَهم عين الحياة. لم يستطع الخبيث أن يزعج فكراً واحداً من أفكارهم ؛ لأنَهم وضعوا أساس أمرهم على الصخرة.وقطنوا المغائر والكهوف كأنَهم في القصور المزخرفة، والجبال والروابي التي كانت تكتنفهم كانوا يؤثرونَها بمنزلة أسوار عالية، وكانت الأرض والجبال لهم مائدة، وعشائهم كانت الحشائش البرية، ومشربَهم اللذيذ الماء من الأودية، وخمرهم الماء من ثقوب الصخور.وكانت لهم كنائس ألسنتهم التي بِها كانوا يكملون صلواتَهم الاثنتا عشر ساعة التي يشتمل عليها النهار، كانت لهم صلاة إلى سيدهم، والتمجيد الذي كانوا يرتلون به في الجبال والمغائر كان يقدم إلى اللـه ذبيحة حسنة مقبولة. هم كانوا كهنة لأنفسهم.ويشفون بصلواتِهم أمراضنا لأنَهم شفعاء لنا كل حين،لم يعقلوا رؤيات عالية، ولا كانوا يلتمسون التصدر في المجالس لأن شرفهم كان التواضع. صاروا مشابِهين للسيد المسيح الذي تمسكن من أجلنا نحن الأشقياء.لم يعطوا أنفسهم نياحاً في العالم إذ كانوا منتظري النياح الذي هناك.فلنصيرن متشبهين بالقاطنين في الجبال ؛ ومشاركين لسيرتِهم، لأن أولئك كانوا جائلين مع الوحوش كأنَهم وحوش، وكالطيور كانوا يطيرون في الجبال، يرعون كالآيلة مع الوحوش الوحشية.ومائدتِهم كانت مستعدة دائماً ؛ لأنَهم كانوا يرتعون العشب الأخضر والحشائش بمداومة ؛ جائلين في الجبال كسروج واضح ضيائها، وكان الذين بشوق كثير يقتربون إليهم يستضيئون بضيائهم.كان الآباء الذين في البرية سوراً منيعاً ؛ فلذلك أي موضع كانوا يسكنونه يجعلونه أميناً أنيساً، إلى أي صقع انتهى واحد من الآباء يصير جميع الموضع الذي يحيط به أنيساً موعباً سلامة.كانوا يتطايرون إلى الروابي نظير جمع الحمام ؛ ومثل النسور في الجبال الشامخة، لا يتنعم رؤساء العالم بالقصور والسقوف المذهبة كما يسر هؤلاء بالجبال والمغائر، وربما الملك يضيق به البلاط أما هؤلاء فواسعة عليهم ثقوب الأرض ورحبة كثيراً.الثياب الشعرية التي لبسها الآباء الأبرار وابتهجوا بِها أكثر من الملابس البرفيرية ؛ فهذه رثت وبليت، والمسح من أجل صبر الآباء القديسين بُجل ووقر، لأنَهم رفضوا الكبرياء وآثروا التواضع الجزيل، مقتوا كل شرف العالم الباطل ؛ وها هم يشرفون من كافة الناس من أجل غزارة تواضعهم ووداعتهم.فالملوك ما اقتنوا مثل هذه الراحة ؛ نظير الراحة التي أقتناها الآباء في البرية، لأن المسيح كان بَهجتهم، رعوا في البرية الحشائش كالوحوش كانوا ينتظرون الفردوس المطرب.إذا ضعفوا من الجولان في الجبال كانوا يضجعون على الأرض كأنَهم في نعيم لذيذ، إذا ناموا كانوا يقومون بإسراع كأنَهم أصوات أبواق ملوكية يسبحون المسيح المشتهى، وكانت مواكب الملائكة معهم دائماً وتحصنهم وتحفظهم كل وقت، ونعمة السيد كانت معهم سرمداً.ولم يخدعهم العدو، وحين كانوا يحنون ركبهم يصنعون قدامهم طيناً وينشدون من عبراتِهم غدراناً، إذا ختموا تسبيحهم يقوم السيد وعبيده يخدمون مرادهم.إذا حلك الظلام ؛ في الحين يرفعون أجنحتهم ؛ ويطيرون في كافة المسكونة، لأنَهم لم يكن لهم مسكن ظاهر ؛ لأن مسكن الآباء القديسين الحقيقي هو عدن، حيث تغرب لهم الشمس هناك يحلون، وحيث ما يلحقهم الليل هناك يجعلون منزلهم.ما كانوا يذكرون قبراً ؛ لأنَهم كانوا موتى ؛ وإنصلبوا للعالم بالشوق إلى المسيح ؛ لأنه حيث كان أحدهم يسكن يصير له ذلك الموضع قبراً.وكثيرون منهم إذا أحنوا رؤوسهم في الصلاة ؛ تنيحوا بِهدوء أمام السيد، آخرون استندوا إلى صخرة ؛ وسلموا نفوسهم إلى سيدهم، آخر بينما كان يتمشى في الجبال مات وصار له الموضع قبراً ومدفناً معاً.آخر دفن ذاته بارتسام الشكل فقبض بنعمة سيده، آخر بينما كان يرعى خضرة السيد نعس فتوفى في مائدته، آخر حين كان واقفاً في تلاوة التمجيد خطفت منه نعمة نسمته.آخر بينما هو واقف في الجبال مرتلاً ومتضرعاً ختم الصلاة بنفسه، كانوا منتظرين النهاية القدسية، الصوت الذي ينهض فيزهرون كالأزهار الفائحة نسيم الطيب.إذا أمرت الأرض أن تبرز الموتى يينعون في الحين ويزهرون كالسوسن الأبيض، وحينئذٍ السيد عوض العمل الكثير والتعب الذي احتملوه من أجل محبة المسيح يعطيهم الحياة الدائمة سرمداً.وبدل شعورهم يمنحهم إكليلاً مضفوراً شريفاً، وعوض المسوح التي شقوا بلبسها يعطيهم حلة العرس المجيدة، عوض الحشائش وضيقة الماء يصير لهم المسيح مطعماً ومشرباً، وبدل ثقوب الأرض التي سكنوها يمنحهم المسيح الفردوس المعظم، ولكونَهم لم يأثروا أن يكون لهم حِرز في العالم هو يخول لهم السرور العظيم.أنه غير ممكن أن نوضح بالكلام الفرح الجزيل الذي يحصل فيه كافة القديسين ؛ الذين باختيارهم حزنوا وضيقوا على أنفسهم في هذا العالم، الذين ناصبوا وجاهدوا الآلام النجسة ؛ وغلبوا العدو ؛ وحفظوا وصايا الإله العلى.فلذلك يطوب الملائكة القديسين ؛ ويقولون لهم: مغبوطون أنتم الذين من أجل شوق المسيح دبرتم مركبكم تدبيراً سديداً في الأرض بفطنتكم ؛ وبغزارة صبركم، وقومتم وصايا المسيح السيد الصالح بحق.فلذلك وصلتم إلى الميناء الصاحي واتخذتم المسيح الذي تُقتم إليه، نَسر معكم أيها المغبوطون لأنكم نجوتم من فخاخ العدو ؛ وجئتم إلى المسيح الذي كللكم وصرتم وارثين ملكه، وحين يرى الخبيث نفسه مغلوباً يجلس فينتحب ويقول ببكاء:الويل لي أنا الشقي ؛ وماذا أصابني أنا المُحطم ؟ كيف غُلبت ؟ أني أنا سبب هذا الأستخزاء، لأني أنشأت معهم الحرب بإلحاح كثير، ولما هُزمت من المعركة الأولى والثانية كان يجب أن أفطن أن المسيح معهم.فالآن إذ حاربت القديسين العجيبين فازداد ثوابِهم بذلك وغُلبت، فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ملطخاً رأسي بالدماء من جراحاتي ؛ لأنني نصبت الفخاخ لاقتنصهم ؛ فأخذوها وكسروا بِها رأسي، ونشابي الحاد الذي أرسلته إليهم تناولوه بدهاء وقتلوني به.أنا حاربتهم بآلام مختلفة ؛ وهزموني بقوة الصليب، فبواجب تألمت بِهذه أنا الجزيل الغباوة، إذ أوضحت المجاهدين بغير اختياري مدربين مختبرين، لأنه كان سبيلي أن أرتدع من آلام المسيح لأنه هدم كافة قوتي، كنت عملت كل الأشياء حتى يُصلب ؛ فبموته دفعني إلى الموت.وهذا الأمر أصابني نظيره من الشهداء؛ إذ صرت عاراً وخزياً وضحكاً، لأنني حركت الملوك، وأعددت لكي ما إذا عاينوها يُذهلون ويجحدون المسيح، فليس أنَهم لم يُذهلوا فقط من آلام العذاب المختلفة بل إلى الموت اعترفوا بالمسيح.هكذا الآن لما أردت أن أغلب هؤلاء بالقتالات غُلبت فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ولن أستطيع أن أحمل العار الذي حل بي أنا المتشامخ بالعظائم، تحطم عزي وكافة اقتداري من أناس حقيرين.أما بعد فلست أعلم ماذا اصنع أو بماذا أعتذر، إن الحقيرين والأميين قد أخذوا إكليل الظفر وأنا الشقي احتضنت بالخزي، أظلميت تحيرت نفذت قوتي.ماذا أعمل أنا الشقي ؟ وماذا أصنع ؟فأهرب إذاً من هؤلاء المجاهدين الشجعان ؛ وأذهب إلى أصدقائي المتوانيين بنيتهم ؛ حيث لا يكون لي تعب ؛ ولا أحتاج لحيل.لأنني آخذ منهم رباطات وأشدهم بِها ؛ وإذا قيدتَهم بالقيود التي يسرون بِها يكونون فيما بعد تحت يدي ؛ ويحصلون لي مثل عبيد، ويعملون دائماً مشيئتي باختيارهم.وإذا غلبتهم أعود إلى ذاتي قليلاً مفتخراً كبطل ظافر ؛ فإنَهم وإن كانوا يسقطون إلى الهوة لكن مع هذا أتلذذ أنا بِهلاكهم، وأسر إذا اقتدتَهم إلى طريق التهلكة ليكونوا لي مشاركين في النار التي لا تطفأ.فإذ قد عرفنا يا إخوتي ضعفه ؛ فلنصغين إلى ذاتنا مغايرين الآباء ؛ فإنَّا إن سلكنا الطرق التي سلكوها ؛ فسنجد فيها يسوع المسيح مرشداً وموازراً إيانا ؛ فإذا أبصر العدو معنا المسيح النور الحقيقي فهو لا يجترئ بالجملة أن ينثني بنظره إلينا، لأن النور الذي فينا يعمي عينيه.وكما تقدمت فقلت لكم أيها الإخوة المحبون للمسيح أقول: احرصوا بنا أن ننقي قلوبنا حتى نجذب إلينا معونة نعمة المخلص حتى لا يقتدر العدو علينا، لأن السفهاء الأغنياء يرومون أن يعطوه قوة علينا بإبعادنا من اللـه بمخالفتنا وصاياه المقدسة ؛ ليجدنا العدو عراة من النعمة ؛ فيقتادنا ويرشدنا إلى طريقه.فأتضرع إذاً وأتوسل إليكم دائماً ؛ أن نَهرب من الخبيث مبتعدين منه ؛ ولنحل ونفك القيود التي قيدنا بِها باختيارنا ؛ ملتجئين إلى المسيح حاملين نير تحننه الصالح الخفيف ؛ حتى إذا سلكنا في طرق وصاياه الصالح نصل إلى المدينة التي أعدها اللـه للذين أحبوه. ويليق المجد والكرامة وعظم الجلالة بالآب والابن والروح القدس ؛ إلى أبد الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
30 أكتوبر 2020

فاض قلبي بكلام صالح

الملء يسبق الفيض.. «... القَلْب... مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ» (أم4: 23). هناك حفظ القلب مِمّا هو سائد في العالم من الشرور والخطايا بأن يسهر الإنسان على مداخل النفس: العين والأذن واللسان حتى لا يتسرّب إلى داخله شيء من النجاسات أو الشرور. ولكن الحركة الإيجابية هي أن يمتلئ القلب من النعمة ويمتلئ من روح الله، من كلّ ما هو جليل وطاهر، من كل ما هو نور وحق.فإن امتلأ القلب بهذه الحاسيات الإلهية يصير كنز القلب صالحًا كقول الرب.«خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي... » (مز119: 11).. فصارت كلمة الرب تسكن هناك وهي «حَيَّةٌ (قوية) وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ» (عب4: 12).«أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً (غنائم كثيرة)» (مز119: 162).. يتحصّل القلب بفرح على كلمة الحياة الأبدية بابتهاج لا يُعبَّر عنه.. يجد فيها لذّة لا تدانيها لذّة.. يمتلئ بها الداخل ويغتني، ويَستغني بها عن كلّ غِنى أرضي.«وُجِدَ كَلاَمُكَ (حلو) فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ» (إر15: 16) قال الرب لحزقيال لما أراه في الرؤيا الكلمة الإلهية المكتوبة في دَرَج الكتاب.. قال له الرب: «كُلْ مَا تَجِدُهُ..» فخضع حزقيال للأمر وقال: «فَفَتَحْتُ فَمِي فَأَطْعَمَنِي... فَصَارَ فِي فَمِي كَالْعَسَلِ حَلاَوَةً» (حز3: 1–3). فأطعم جوفه للشبع.عندما تسكن كلمة الرب بغنى في القلب، وعندما تجد في القلب أرضًا صالحة، تُثمِر الكلمة «ثَلاَثِينَ وَسِتِّينَ وَمِئَةً» (مت13).سُكنى الكلمة في القلب تُغيِّر القلب الحجري إلى قلب لحم. أي أنّ الكلمة الإلهية تُرَقِّق المشاعر، وتجعل الإنسان رحيمًا رقيقًا، ذا ضمير حساس مرهَف لعمل الصلاح والإحسان والشعور بالضعيف والمظلوم والذين في ضيقة.ومتى مَلَكَت الكلمة على القلب، صارت توجُّهات القلب كلّها نحو الصلاح والحقّ، وصار مضبوطًا بالحب، وصار البذل والعطاء منهجًا للحياة.عمل الكلمة في القلب لا يمكن شرحه، فهي ضابطةٌ للسلوك، وضابطة للكلام والتصرفات، ضابطة للطبع والمزاج، ضابطة للصحو والنوم والفرح والحزن.. بحيث أنّ الكلمة تقود وتوجِّه وتُحَكِّم.قال أب فاضل لآخر كان يشتمه: "كنت قادرًا أن أردّ عليك، ولكن ناموس إلهي أغلقَ فمى".ملء القلب من نعمة الكلمة يأتي من اللهج فيها النهار والليل.«لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي (هي تلاوتي)، لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي» (مز119: 92).. القلب الطالب ناموس الرب يجد فيها مسرته عندما يمتلئ القلب يفيض، فتجري الكلمة على اللسان بدون مانع ولا عائق، تتدفّق كالنهر الجارف طبيعيًّا بدون تَكَلُّف. يفيض القلب فيضانًا دائمًا كقول الرب: «تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو7: 38). قال الرسول: «لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ» (2كو2: 27).الكلمة الفائضة من قلب مملوء نعمة، لا تحتاج إلى فلسفة الكلام الكلمة الفائضة من قلب مملوء نعمة، لا تحتاج إلى زُخرف الألفاظ وجمال اللغات الكلمة الفائضة من قلب مملوء نعمة، لا تحتاج إلى جدل لإثبات، بل هي تحمل قوّة الله للعمل في القلب.لا تحتاج للتمثيل، وحركات الوُعَّاظ، وعلو الصوت وخفضه، وكلّ المؤثّرات البشريةهي بعيدة عن الكلام االمَلِقُ (اللين) لكي تُرضي السامعين، أو تشتري وِدّهم. فالرسل الكذبة وصفهم القديس بولس أنّهم بالكلام المَلِق يخدعون قلوب السُلماء ويُغرِّرون بهم، وهم يخدمون بطونهم ومصالحهم ويعملون لحساب ذواتهم لا لحساب المسيح. «لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ. وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ» (رو16: 18).لذلك فالفيض من ينبوع الروح يكون لحساب المسيح وحده، والروح هو الذي يعمل في الكلمة.. ألا تذكُر كيف رجع الخدام الذين أرسلهم الكتبة والفريسيون ليأتوا بالمسيح؟ كيف أنّهم رجعوا يقولون: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَانِ!» (يو7: 46) لأنهم استمعوا إلى كلمات النعمة الخارجة من فمه المبارك كلّ من يمتلئ يفيض.. هكذا عرفنا الآباء القديسين، وهكذا قنَّنت الكنيسة أقوال الآباء القديسين الذين فسروا لنا الكتب وحفظوا لنا الإيمان. وهذا أيضًا ما كتبه القديس بطرس: «بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (1بط1: 21). أيها الأخ الحبيب ليجعل الله كلمته الحيّة تدخُل بالحقّ إلى أعماق قلبك ونفسك وتعمل عملها العجيب كما قال الرب: «لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إش55: 11). وليجعل قوله كاملاً فيك: «اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ» (لو6: 45). المتنيح القمّص لوقا سيداروس
المزيد
29 أكتوبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أخيتوفل

"وخنق نفسه ومات" 2صم 17: 23 مقدمة كان أخيتوفل واحداً من أقرب الناس إلى الملك داود، وهو الرجل الذي يطلقون عليه "يهوذا الاسخريوطي العهد القديم"،... إذ كانت له نفس الشركة والمكانة التي كانت ليهوذا الاسخريوطي، من ابن داود، ابن الله،.. وكلاهما باع صديقه، ووصل إلى نفس المصير!!... كان الرجل من أبرع الحكماء وأعظمهم، ولم يوجد له نظير بين رجال داود في الفهم والحكمة،... ولكنه على قدر ما امتلأ من المعرفة والحكمة، فرغ من الحب والفضيلة، -في لغة أخرى- كان عقلاً دون قلب، ومن ثم حق أن يوصف أنه الميكافيلي الإسرائيلي، الذي لا مبدأ له، والذي ظهر قبل أن يعرف العالم الميكافيلي الحديث في العصور الأخيرة، الميكافيلي الذي وضع أبشع قاعدة خلقية: إن الغاية تبرر الواسطة!!كان أخيتوفل كتلة من الحكمة والذكاء، ولكنه وقد تخلى عن الحق والرحمة لم تعد له الحكمة النازلة من فوق، بل الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية، الممتلئة بالتحزب والغيرة والتشويش، وكل أمر رديء،... وأضحت مأساته مأساة العالم كله، المتقدم في المعرفة، والمتخلف في الأخلاق، والغارق في الدم والتعاسات والأحزان والآلام،.. لم يقتل داود أخيتوفل، ولم يشتر أحد الحبل ليهوذا سمعان الاسخريوطي،... ولكن كليهما مضى وخنق نفسه ومات،... وإذا كانوا في العادة يقولون إن ذكاء المرء محسوب عليه، وإذا كان الكتاب يقول إن أخيتوفل انطلق إلى بيته إلى مدينته وأوصى لبيته وخنق نفسه، ونحن لا نعلم ماذا أوصى لبيته، لكننا سنجتهد أن نفتح وصيته الرهيبة التي خلفها وراءه للأجيال وللتاريخ، ومن ثم يحق لنا أن نراه من النواحي التالية: أخيتوفل الصديق القديم أغلب الظن أننا لانستطيع أن نفهم أخيتوفل قبل أن نقرأ المزمور الخامس والخمسين، ومع أن داود تنبأ في هذا المزمور عن يهوذا سمعان الاستخريوطي، إلا أن عينه في الوقت نفسه كانت على أخيتوفل الجيلوني صديقه الخائن الذي تمرد عليه، وشارك أبشالوم في ثورته ضده، ولم يكن أخيتوفل إلا رمزاً لذلك الذي قبل يسوع المسيح، وهو يسمعه يقول: "يا صاحب لماذا جئت؟".. وسنعرف أخيتوفل من داود إذا عرفنا يهوذا سمعان الاسخريوطي من ابن داود، من يسوع المسيح، ومع أن الفارق بعيد ولا شك بين داود والمسيح، وما فعل داود مع أخيتوفل، وفعل يسوع المسيح مع يهوذا الاسخريوطي إلا أن كليهما كان الشخص الذي قيل فيه: "لأنه ليس عدو يعيرني فاحتمل ليس مبغضي تعظم علي فأختبيء منه، بل أنت إنسان عديلي ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" فإذا أحسست معه حرارة الحب والود، في ذاك الذي رفعه داود إلى مستوى العديل الأليف الصديق، فإنك تقترب من ذاك الذي رفعه يسوع المسيح إلى المركز بين تلاميذه الاثنى عشر، وإذ تقرأ من خلال القول: "الذي معه كانت تحلو لنا العشرة" وهي تحمل رنين الماضي الجميل الحافل بأرق المشاعر وأجمل الذكريات، فإنك يمكن أن ترتفع إلى العتبات المقدسة، وأنت تذكر السنوات اثلاث التي قضاها الاسخريوطي مع يسوع المسيح،.. وإذا أردت أن تتغور في حنايا الماضي، فإنك لا يمكن أن تجد أفضل من اللحظات التي كان يذهب فيها داود وصاحبه، ويسوع المسيح وتلميذه، إلى بيت الله في وسط الجمهور المرنم المتعبد!!... فإذا أردت أن تتعرف أكثر على هذه الصداقة، فإنك ستجدها واضحة الملامح، من حيث كونها الصداقة النافعة، والصداقة الحلوة والصداقة الدينية،.. أما أنها كانت الصداقة النافعة، فهذا مما لا شك فيه، فداود لا يختار صديقاً أو المسيح لا يأخذ تلميذاً، إلا إذا كان هذا المختار يتميز بميزات ووزنات وهبات تؤهله لهذا الاختيار، ومع أننا سنترك الآن يهوذا الاسخريوطي كالتلميذ المؤتمن على أمانة الصندوق، والوحيد بين التلاميذ الذي أختير من اليهودية ولم يؤخذ من الجيل، فإنه مما لا شك فيه أن الذكاء الخارق لأخيتوفل كان يقف على رأس الأسباب التي جعلت داود يقربه إلى ذاته ودائرته، وأن هذا الذكاء كان لازماً جداً في حل الكثير من العوائص والمشكلات التي كانت تجابه داود والأمة بأكملها، ومن ثم كانت مشورة أخيتوفل على ما وصفت به كمن يسأل بكلام الله!!.. وكانت من أهم أسباب تعلق داود به،... على أنه واضح أيضاً أن الرجل لم يكن ذكياً مجرداً من الإحساس والعاطفة، بل كان متقد المشاعر، حلو الحديث، دافق العاطفة: "تحلو العشرة معه" أو في -لغة أخرى- أنه لم يكن قريباً إلى عقل داود فحسب، بل إلى قلبه أيضاً، ولعل داود عاش طوال حياته يذكره بالأسى والألم، كلما ذكر الأوقات الجميلة الحلوة التي امتدت في حياتهما سنوات متعددة طويلة،.. ولم تكن صداقة الرجل لداود بعيدة عن محراب الله،.. أو هي نوع من الصداقة الأدبية أو الاجتماعية التي تربط الناس بعضهم ببعض، بل هي أكثر من ذلك كثيراً، إذ كانت الصداقة التي عاشت كثيراً تحت محراب الله في بيته المقدس، وكان من الممكن لهذه الصداقة أن تستمر وتبقى، لو عاشت في ظلال الله،.. ولكن أخيتوفل، قبل أن يفقد صداقته لداود فقد الصلة والصداقة بالله، وتهاوت مشاعره الدينية الأولى، وأضحت مجرد ذكريات لماضي لم يعد، وتاريخ ولى وتباعد!!.. أخيتوفل الخائن المتمرد ولعلنا هنا نلاحظ أكثر من أمر، فنحن أول كل شيء نصدم بالصداقة المتغيرة المتقلبة، وما أكثر ما نراها في اختبارات الناس، وحياة البشر، على اختلاف التاريخ والعصور والأجيال،.. فإذا كان السياسيون يؤكدون بأنه لا توجد بين الدول ما يمكن أن نطلق عليه الصداقة الدائمة أو العداوة الدائمة، فأعداء الأمس قد يكونون أصدقاء اليوم، والعكس صحيح إذ يتحول أوفى الأصدقاء، إلى أقسى الخصوم وأشر الأعداء،... فإن هذه القاعدة تكاد تكون مرادفة للطبيعة البشرية المتقلبة، وليست وقفاً على السياسة أو السياسيين،.. ومع أني لا أعلم مدى الصدق أو العمق، في القول الذي ألف الناس أن يقولوه، إنه ليست هناك صداقة قوية حارة عميقة إلا بعد عداوة، إلا أني أؤمن بتبادل المواقع بين الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، فما أكثر ما يقف الصديق موقف العدو، وما أكثر ما يتحول العدو إلى الصديق المخلص المحب الوفي... وأغلب الظن أن أخيتوفل في مطلع صداقته مع داود، لم يكن يتصور بتاتاً أنه سيأتي اليوم الذي سيتحول فيه عدواً، لا يخاصم داود فحسب، بل يطلب حياته أيضاً!!... وهل لنا هنا أن نتعلم الحكمة، فنعرف أنه يوجد صديق واحد لا يمكن أن يتغير أو يتبدل في حبه على الإطلاق،.. وهو أقرب إلينا من أقرب الأقربين، ومهما تكن العوامل التي تقربنا أو تفصلنا عن أقرب الناس إلينا، لكننا نستطيع -على أي حال- أن نقول مع داود: "إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني"، أو مع بولس: "في احتياجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني لا يحسب عليهم ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم فأنقذت من فم الأسر"... وفي الوقت عينه علينا ألا نضع رجاءنا كثيراً في الصداقة البشرية، فهي -مهما امتدت أو قويت أو استعت- لا تأمن الثبات أو التغير أو الانقلاب!!وإذا كان السؤال الملح بعد ذلك: لماذا انقلب أخيتوفل على داود، ويهوذا الاسخريوطي على يسوع المسيح،... ومع أنه من الواجب أن نضع هنا مرة أخرى التحفظ ونحن نقارن بين الصداقتين، إذ أن يهوذا الاسخريوطي لم يكن له أدنى عذر في الانقلاب على المسيح أو الغدر به على النحو البشع، الذي جعله يبيعه بثلاثين من الفضة، أو يسلمه بالقبلة الغاشة المخادعة المشهورة، وإن كان من الواضح أنه سلمه بعد أن تبين أنه لم يعد هناك ثمة لقاء بين أطماعه وأحلامه في مركز أو جاه أو مال، وبين حياة المسيح وخدمته ورسالته في الأرض!!.. أما أخيتوفل فقد كان وضعه يختلف، إذ كان له من الأسباب ما يمكن أن يثير ضيقه وحفيظته من داود، وقد جاءت هذه الأسباب أثر سقوط داود في خطيته الكبرى مع بثشبع، وبثشبع بنت أليعام، وأليعام هو ابن أخيتوفل الجيلوني، وقد كانت هذه الخطية بمثابة الذبابة الميتة التي سقطت في طيب العطار، لتنته وتفسده، ومن تلك اللحظة تباعد الرجلان، وامتلأ قلب أخيتوفل بالكبرياء والحقد والضغينة، ولم يكن يرضيه البتة، إلا دم داود، سواء بسواء مثل دم أوريا الحثي الذي ذهب ضحية هذه الفعلة الرهيبة الشنعاء!!... ومن المعتقد أنه عاد إلى مدينته جيلوه، وبقى هناك في ثورة أبشالوم الذي استدعاه لمساندته ضد أبيه،... ومن الملاحظ أن ذكاء أخيتوفل الخارق، قد أعطاه نوعاً من الكبرياء لم يستطع معه أن يتسامح مع داود أو يغفر له، بل لعله وقد سمع عن غفران الله للرجل الذي كان يمكن أن تهلكه هذه الخطية، وتضيع حياته الأبدية، وفي الوقت عينه سمع عن عقاب الله الذي لابد أن يتم، بسبب العثرة التي أوجدتها هذه الخطية، كان يتصور أنه من الجائز أن يستخدمه الله لإتمام هذا العقاب، أو المشاركة فيه، عندما سمع عن الثورة التي قادها ابنه ضده!!لم يستطع أخيتوفل أن يغفر، ومع أنه كان من الممكن أن يتسع فكره وقلبه للملك التائب، الذي وإن كان قد سقط، إلا أنه حاول أن يصلح ما يمكنه إصلاحه من آثار هذا السقوط بضم بثشبع، والصلاة من أجل ثمرة السقوط، لعل الله يبقي على الولد، كما أنه عزى زوجته الضحية، وأنجب منها ابنه الآخر سليمان الذي أحبه الرب، وأحبه ناثان أيضاً، وتولى تربيته، وكان يمكن لأخيتوفل أن ينظر إلى بثشبع وابنها نظرة ناثان النبي، النظرة المليئة بالحب والحنان والعطف والترفق، وأن يكون لسليمان ولداود المشير والناصح والمعين والمساعد، لكن أخيتوفل، لم يكن هكذا، بل وعجز عن أن يكون هكذا، لأنه قد ضرب بأمرين ملآه إلى الحد الذي لا يمكن معه الصلح أو الغفران أو اللقاء!!... وهما: الكبرياء والحقد، وويل للإنسان الذي تسيطر عليه هاتان العاطفتان، وويل للناس منه إذ واتته الفرصة للتصرف في ملء غله وحقده وطغيانه وكبريائه!!.ومن الثابت أن الجريمة الكبرى للرجل ليست مجرد التمرد على داود، أو أخذه بكل أسباب الحقد والضغينة والقسوة والشر بل إنه غيب الله تماماً عن المشهد، ولم تعد دوافعه إتمام المشيئة الإلهية حسبما تصورها أو تخيلها، بل كانت دوافعه أرخص وأخس وأحط من كل ذلك بما لا يقاس،.. وإذا كان يهوذا الاسخريوطي قد أتم إرادة الله في تسليم يسوع المسيح، لكن العبرة لم تكن في هذا التسليم الذي كان لابد أن يتم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، إنما العبرة كل العبرة، كانت في الدوافع المنحطة الرخيصة التي سيطرت على الرجل عند التسليم!!.. وهكذا كان أخيتوفل الذي قتله الحقد الأعمى، فهو لا يهدأ أو يستريح حتى يسفك دم داود، وهو يقترح لذلك أن ينتخب اثنى عشر ألف رجل، ليسعى وراءه وهو متعب مرتخي اليدين، فيهرب كل الشعب الذي معه، ويضربه هو وحده!!... أو قصاري الأمر أن دم داود هو الذي يشفي غليله، ويهديء ثائرته!!على أن الوجه القبيح للرجل، هو أنه من أقدم الناس الذين آمنوا بأن الغاية تبرر الواسطة، لقد أراد أن يفصل بين داود وابنه أبشالوم فصلاً أبدياً بالمنكر البشع، إذ قال لأبشالوم: "أدخل إلى سراري أبيك اللواتي تركهن لحفظ البيت فيسمع كل إسرائيل أنك قد صرت مكروهاً من أبيك فتشدد أيدي جميع الذين معك"... وفي الحقيقة أن هذا السبب المذكور يخفي وراءه السبب الأعمق، وهو الانتقام البشع من جنس ما فعل داود بحفيدته بثشبع،.. وإذا كان المبدأ الذي أطلقه ميكافيلي في قاموس السياسة الأوربية، طرح كل المباديء الأخلاقية، وذبحها في سبيل حصول الأمة على ما تريد، دون أدنى وازع من نوازع الضمير والإنسانية، فإن أخيتوفل الجيلوني كان من أقدم الذين آمنوا بهذا المبدأ -إن صح أنه مبدأ- وشجع على تطبيقه على النحو الفاضح الذي فعله أبشالوم فوق السطح في القصر الملكي،... رداً لفعل داود الذي أبصر من فوق السطح حفيدته بثشبع وهي عارية!!.لم تكن رغبة أخيتوفل في الواقع إتمام المشيئة الإلهية، والتي لا يمكن أن يتممها الإنسان بهذا الأسلوب البشع الشرير الخاطيء، إذ أن الله لا يمكن أن يعالج الخطية بخطية مثلها، وقد حق لمتى هنري أن يقول: "إن هذه السياسة الملعونة، التي اتبعها أخيتوفل، لم تكن سياسة من يريد أن يتمم مشيئة الله، بل مشيئة الشيطان"... ومع ذلك فإن الله، وإن كان لا يرضى على القصد الشرير، إلا أنه يستطيع السيطرة عليه لإتمام مشيئته العظيمة العليا، أو كما قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحمي شعباً كثيراً".. وقد شارك أخيتوفل في تمام المشيئة الإلهية بمشورته الرهيبة، وإن كانت دوافعه الشريرة تتباعد عن الدافع الإلهي بعد السماء عن الأرض!!.. إن الحكمة في الواقع حيث قصدها الله، كعطية منه للإنسان، هي ذلك الإلهام الذي يمنحه للعقل البشري، فيما يستغلق عليه من أمور، أو يواجه من مشاكل، أو يقابل من صعوبات، ومثل هذه الحكم تختلف تماماً عن الحكمة البشرية، أو بالحري الشيطانية التي تنزع إلى الشر، وتبتكر كل الوسائل الشريرة الآثمة، التي تفتق عنها العقل البشري طوال أجيال التاريخ،.. فإذا قيل: وكيف يستطيع الإنسان إذاً التفرقة بين الحكمتين؟ كان الجواب فيما أورده الرسول يعقوب، إذ أن الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية هي حكمة أخيتوفل المقترنة بالغيرة والتحزب والتشويش والأمر الرديء،.. على العكس من الحكمة الإلهية: "وأما الحكمة التي من فوق فهي أولاً ظاهرة، ثم مسالمة مترفقة مذعنة، مملوءة رحمة وأثماراً صالحة عديمة الريب والرياء".. ومن الواضح أن خيانة أخيتوفل وغدره وتمرده وثورته ضد داود، لم تكن تعرف شيئاً من هذه الأخيرة على وجه الإطلاق!! وهل هناك من شك في أن أخيتوفل رمى بثقله الكامل إلى جانب الشر والفساد، وهو أول من يعلم أنه لا يمكن أن يضع بتاتاً داود وأبشالوم في كفتي ميزان، وأين الثري من الثريا، وأين البطل والحماقة والفساد والرذيلة والشر، من الخير والجود والإحسان والرحمة!!.. ولكنها الخطية التي أعمت أخيتوفل الجيلوني، أحكم المشيرين في عصره!!.. أخيتوفل والمصير التعس وأي مصير تعس وصل إليه الرجل! لقد مضى وخنق نفسه، وفعل ذات الشيء الذي فعله يهوذا الاسخريوطي فيما بعد،... ولكني أرجو أن تتمهل لكي تتساءل متى خنق نفسه؟!!.. ولعلك تتصور أنه فعل ذلك بعد أن أوصى بيته، لكن الحقيقة أبعد وأعمق من ذلك كثيراً، لقد قتل الرجل نفسه قبل ذلك بفترة طويلة،.. لقد مات يوم لم يعد يعرف شيئاً في الأرض سوى المرارة والحقد والكراهية والانتقام، يوم انقطع عن بيت الله ليصل بينه وبين الشيطان بأقوى الأسباب، يوم افترسه الغيظ، إذ خرج من أورشليم إلى جيلوه ليجد هناك الروح النجس: "متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة وإذ لا يجد يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه فيأتي ويجده مكنوساً مزيناً ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله".. وإذا كان الكتاب قد قال بعد ذلك عن يهوذا الاسخريوطي، أنه بعد اللقمة دخله الشيطان، وخرج من حضرة المسيح ليواجه ليله المحتوم، فإن أخيتوفل فعل الشيء نفسه عندما ودع داود إلى غير رجعة في طريقه إلى الليل الطويل العميق البعيد الذي وصل إليه!!.. وآه لك يا أخيتوفل! وآه لك أيها الرجل الذي استبدلت داود بأبشالوم كما استبدل الاسخريوطي المسيح برؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين! وآه لك أيها الرجل الذي انتهيت من تلك اللحظة قبل أن يدرك الناس أو تدرك أنت أن نهايتك قد جاءت وأنت لا تعلم!!... أجل متى يموت الرجل وأين ينتهي؟!!.. إنه لا يموت بمجرد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو يسكن قلبه عن النبض والحركة، فهذا وهم وخداع علمنا المسيح أن ننبذه ونرفضه، يوم دعا واحداً من الشباب أن يتبعه، واستأذن الشاب أن يمضي أولاً ويدفن أباه،.. وأكد له المسيح أنه ليس في حاجة إلى أن يفعل هذا، إذ أن الكثيرين هناك، وهم مستعدون ومؤهلون لمثل هذا العمل: "دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله"... إن الفرق في عرف المسيح بين الكثيرين ممن يحملون النعش إلى مثواه، وبين البيت المحمول، هو فرق موهوم متى كان الموتى الذين يدفنون الميت بعيدين عن الحياة التي يعطيها الله بلمسته الأبدية،.. وقد أكد هذه الحقيقة بصورة أخرى عكسية عندما قال أمام قبر لعازر: "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد"... مات أخيتوفل الجليوني كيهوذا الاسخريوطي قبل أن يخنق كل منهما نفسه ليخرج من العالم إلى الظلمة الأبدية!!مات أخيتوفل الجيلوني يوم أن تسمم نبعه، فلم يعد الرجل الذي ينطق بالحكمة، كمن يعطي الجواب للحائر والتعس والمنكوب بكلام الله، يوم كان النبع غزيراً مترعا فياضاً بالماء النقي الحلو الرقراق،.. آه لك أيها النبع، ما الذي غيرك لتتحول إلى حمأة تقذف بالقذر والكدر والطين؟!! أين الحكمة الجميلة والماء السلسبيل؟!! لقد ضاع كل هذا لأنك لم تعد الرجل الذي يذهب مع داود إلى بيت الله، بل أضحيت شريراً قاسياً عاتياً في الشر، فحق فيك ما قيل: "أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطيناً".. وداعاً أيها النبع الرقراق يوم لم يعد للناس فيك إلا الماء المسموم العكر!!.. والسؤال بعد هذا كله: لماذا مضى أخيتوفل إلى جيلوه ليخنق نفسه؟!!.. هل خنق الرجل نفسه لأنه امتلأ بجنون الكبرياء عندما رفض أبشالوم أن ينصاع إلى حكمته مؤثراً عليها حكمة حوشاي الأركي؟ وهل يطيق أخيتوفل أن يسمع أبشالوم وكل رجال إسرائيل وهم قائلون: "إن مشورة حوشاي الأركي أحسن من مشورة أخيتوفل".. وهل بلغ الهوان به إلى أن يوجد في إسرائيل كلها من يمكن أن يستشار وهو موجود، ومن هو حوشاي الأركي هذا الذي يمكن أن يقف نداً له حكمته أو مشورته؟ فإذا كانت الأمة كلها تقدم عليه حوشاي، فإن الموت عنده أفضل بما لا يقاس من الحياة نفسها؟!!... على أن البعض يعتقد أن هناك سبباً آخر أضيف إلى هذا السبب، إذ أن الرجل لم يذهب إلى جيلوه، وهو مرجل متقد من الغيظ والغضب والكبرياء المهدورة الذليلة، بل أن الأمر أبعد وأعمق، لقد ذهب إلى هناك مأخوذاً بجنون الفشل واليأس والقنوط،.. لقد لفظت حكمته، وأدرك الرجل من اللحظة الأولى أن الثورة ستمني بكل تأكيد بالفشل والضياع والهزيمة، وأن حكمة حوشاي الأركي هي المنحدر أو الهوة التي تسقط فيها بدون قرار، وسينتهي كل شيء، على أسوأ ما يمكن أن تكون النهاية والمصير، فلماذا يبقى ليرى هذا كله؟!! ولماذا يبقى ليقتله داود أو واحد من رجاله على أبشع صورة ومثال؟!!.. وإذا لم يكن من الموت بد، فإن من حقه -كما تصور- أن يجعله بيده، لا بيد واحد من الأعداء أو الخصوم، الذين لا يمكن أن يأخذوه بالرفق والحنان والرحمة، لقد أصيب أخيتوفل الجيلوني، كما أصيب يهوذا الاسخريوطي، بأقسى نوع من الجنون، إذ أصيب باليأس المطبق الذي لا يترك للإنسان فرجة أو مخرجاً من أمل أو رجاء!!.. كانت خيانة أخيتوفل من أبشع الخيانات، وكانت مشورته المخيفة من أخبث وأشر وأحط المشورات، لكن البعض يعتقد أن داود كان على استعداد أن يقدر الجرح العميق الغائر في صدر الرجل، والذي شارك هو في صنعه، وكان على استعداد أن يتسامح مع الرجل أو يغفر له، لو أنه عاد تائباً نادماً مستخزياً عما فعل، ولكن أخيتوفل لم يفعل، لأنه جن بالكبرياء الذي يمنعه من الانحناء، وجن باليأس الذي أغلق في وجهه أي بصيص من رجاء أو أمل!!... وذهب الرجل كما ذهب يهوذا الاسخريوطي على بعد ألف عام آتية من الزمن!!لم يقتل أحد أخيتوفل الجيلوني، كما لم يقتل أحد يهوذا الاسخريوطي،.. لقد قتل كل منهما نفسه بالحبل الذي فتله بيديه، والذي وضعه في عنقه، لقد مات الرجلان لأن يد العدالة الإلهية امتدت إليهما، اليد القوية التي أطبقت على عنقيهما لتطرحهما في الظلمة الخارجية الأبدية، كما تطرح كل من لا يتعظ أو يتحكم لشتى الإنذارات التي لابد أن يرسلها الله، قبل أن يقضي قضاءه الإله المحتوم،مات أخيتوفل الجيلوني وذهب إلى مصيره التعس ليحق عليه ما قاله السيد المسيح عن الآخر: "كان خيراً لهذا الرجل لو لم يولد".. أجل وهذا حق، لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وإذا كانت العدالة الأرضية تضع أشد العقاب، على المجرم الذي يرتكب الجريمة مع سبق المعرفة والإصرار والترصد، وهي لا تستطيع أن تأخذه بما تأخذ به الغر الغرم الجهول، فبالأولى تكون عدالة السماء،.. مات أخيتوفل الجيلوني، وذهبت عنه حكمته ليموت موت الجاهل الأحمق، وليضحى الصورة الغربية المتكررة في كل الأجيال والعصور، للإنسان الذي يقتل نفسه بمدثرات "الحكمة" البشرية التي تتفنن كل يوم بالمخترعات العلمية والنفسية في تعذيبه وقتله!!.مات أخيتوفل الجيلوني، دون أن يفلح في القضاء علي داود، لأن الملك القديم وفي نفسه من الحكمة الجهنمية الشريرة بالاتجاه إلى الله في الصلاة يوم قال: "حمق يا رب مشورة أخيتوفل"... وهل لنا شيء آخر في هذا العالم الحاضر الشرير أكثر من الصلاة، لنقي أنفسنا من مشورته الرهيبة الآثمة الشريرة،.. كان داود في اللحظة التي رفع فيها هذه الصلاة مسكيناً عاجزاً مشرداً طريداً،.. واستمع إلى صلاة الرجل البائس المسكين، وضرب على مشورة أخيتوفل بالضلال، فلم تفلح، ومات أخيتوفل، ولم يمت داود،... وعاش القائد وذهب المتمرد،... وضاعت الحكمة الآثمة القاسية الشريرة، ليبقى المسكين الذي أودع أمره بين يدي الله في ذلة وخضوع!!أي أخيتوفل! أي يهوذا الاسخريوطي القديم لا نملك أن نتركك دون أن نقف لنسكب دمعة حزينة على قبرك البائس، كم نسكب دموعنا الغزيرة علي الرجل الذي أطل على وجه المسيح، ومع ذلك قدر أن يبيعه ويخونه!!..
المزيد
28 أكتوبر 2020

الشيطان: صفاته وحيله

أول وأهم صفة للشيطان أنه شرير, يحب الشر ويعمل على نشره بكافة أنواع الطرق. ويكره الخير والخيرين ويقاتلهم. وهوايته هي إسقاط الآخرين. وهو في قتاله للبشر, لا يهدأ مطلقًا ولا يملّ ولا يستريح. هو مشغول بالجولان في الأرض والتمشي فيها, يبحث عن فريسة لكي ينقضّ عليها والعجيب أنه قوى في عمله. استطاع في الأجيال القديمة أن يلقى غالبية العالم في الوثنية, وفي تعدد الآلهة, وفي إغرائهم بألوان من الخطية والدنس. بل إنه صرع أشخاصًا كثيرين وسيطر عليهم. ولكن ليس معنى هذا أن نخافه, بل نحترس منه, طالبين معونة الله للتغلب عليه والنجاة من حيله... والشيطان خبير بالحروب, وخبير بالنفس البشرية إنه يحارب الإنسان منذ أكثر من سبعة آلاف سنة, منذ أبوينا الأولين آدم وحواء. فأصبحت له خبرة طويلة في حربه مع البشرية. وقد صادف في قتاله أنواعًا شتى من نفوس البشر. فصار أقدر مخلوق على فهم النفس البشرية وطريقة محاربتها, إذ قد درسها جيدًا واختبرها, وعرف نواحي القوة والضعف فيها, ومتى تقاومه ومتى تستسلم له. وتحرّس في أسلوب محاربتها فهو إذن عالم نفساني, وعلم النفس عنده ليس مجرد نظريات, إنما هو خبرات على المستوى العملي, وبنطاق واسع جدًا, شمل البشرية كلها. لذلك فهو يعرف متى يحارب وكيف يحارب؟ ومتى ينتظر؟ ومن أي الأبواب يدخل إلى الفكر أو إلى القلب؟وهو في كل ذلك ذكى وصاحب حيله, ويتميز بالخبث والمكر والدهاء.ومن مظاهر ذكائه أنه قد يغيّر خططه وأساليبه لتوافق الظروف المتاحة له ومن صفاته الكذب والخداع والأضاليل, ليصل بذلك إلى غرضه لذلك لا يصح أن نصدق الشيطان في كل ما يقوله وما يقدمه من إغراءات يمكن للشيطان أن يستخدم الكذب والخداع فيما يقدمه من رؤى وأحلام كاذبة. وما أكثر الأحلام الكاذبة التي يضل بها الناس, أو يظهر لهم في هيئة ملاك أو أحد القديسين, ويرشدهم بطريقة مضللة!وكذب الشيطان يظهر أيضًا في ما يضعه على أفواه السحرة والعرافين وأمثالهم. وما يقوله على أفواه المنجمين ومدعى معرفة الغيب مثل المشتغلين بقراءة الكف, أو ضرب الرمل, أو قراءة فنجان القهوة أو معرفة البخت والطالع بأنواع وطرق شتى. ولما كان من الثابت دينيًا أنه لا يعرف الغيب سوى الله وحده, لذلك كل من يضع الوصول إلى معرفة الغيب لا يكون صادقًا في ادعائه ويظهر كذب الشيطان كذلك في استشارة الموتى أو تحضير الأرواح فقد ينطق في أمثال تلك الجلسات, مدعيًا أنه روح فلان من الناس. ويقول للحاضرين بعض معلومات تخدعهم مما يعرفه عن أخبار ذلك الشخص أو أسرته. فإذا صدقوه يبدأ بالتدريج بقول ما يضللهم وإغراءات الشيطان كلها ألوان من الكذب. حيث يصور للإنسان سعادة تأتيه من وراء الخطية, سواء في لذة أو سلطة أو مكسب أو جاه أو مجد... ثم يجد الإنسان أن كل ذلك سراب زائل وأشياء فانية. وهذا أسلوب الشيطان باستمرار: أنه يزخرف طريق الخطيئة, ويضفى عليه أوصافًا من الجمال تغرى من يقع في حبائله. وأيضًا أحلام اليقظة التي يقدمها لضحاياها, كلها أكاذيب: ولكنه يقدمها لهم كنوع من المتعة بالخيال, تخدرهم عن العمل الإيجابي النافع, فيعيشون فترة في وهم هذه الأحلام, يبنون قصورًا من رمال, ومتعة وأفراحًا من الخيال. ثم يستيقظون لأنفسهم فلا يجدون شيئًا. ويكون الشيطان قد أضاع وقتهم, وعطلهم عن العمل المجدي, وأراحهم راحة كاذبة!ومن أكاذيب الشيطان أن يوهم المنتحر بأن الموت سيريحه من متاعبه! ويظل يركز على هذه النقطة: إنه لا فائدة له من هذه الحياة, ولا حلّ لمشاكله إلا بالموت, حيث يتخلص من كل تعبه ويستريح. وإذ ينخدع المنتحر بهذا الفكر ويقتل نفسه, لا يجد تلك الراحة الموهومة. بل يجد نفسه في الجحيم, في تعب لا نجاة منه, ولا تقاس به كل متاعب الدنيا. ويكتشف أن الموت ليس هو نهاية لحياته المتعبة, بل بداية لحياة أخرى أكثر تعبًا وألمًا وتقريبًا غالبية الخطايا, يضع الشيطان وراءها أكذوبة من أكاذيبه: فهو يوحى للسارق بأن سرقته سوف لا تُكتشف. ويوحي ذلك أيضًا لكلٍ من المرتشي والمهرّب والغشاش. وهو في ذلك يكذب, لأنه حتى إن كان أحد لا يرى هؤلاء, فالله يرى وكل شيء مكشوف أمامه. وكذلك فإن الشيطان يوحى للقاتل أن من ينوى قتله يستحق القتل, أو أنه بقتله يغسل العار الذي يلوث شرفه, أو أن قتله يريح نفس قريب له.ولعل أخطر أكذوبة قدمها الشيطان لبعض البشر, هي الإلحاد كما أنه كذب على الوجوديين حين صوّر لهم أن وجود الله يعطل وجودهم. وكذب على بعض الشيوعيين زاعمًا أن الله يعيش في برج عال لا يهتم بالمجتمع الإنساني, تاركًا الظالم يظلم, والغنى يستعبد الفقير!من صفات الشيطان أيضًا أنه لحوح لا يملّ من الإلحاح وربما يعرض الفكر الواحد مراتٍ ومرات. ومهما قوبل بالرفض, يستمر في عرضه. فربما بكثرة الضغط والإلحاح, يستسلم الإنسان له ويخضع.. وهو لا يخجل أبدًا من الفشل, بل يعود ويستمروالشيطان في إلحاحه على الناس، لا يعترف بالعقبات، ولا تهمه درجة الإنسان الروحي الذي يهاجمه, ولا مركزه. إنما يضرب ضربته, وليحدث بعد ذلك ما يحدث. إنه يلقى سمومه في كل حين على كل أحد. وربما الذي لا يهلك بها اليوم, يهلك غدًا, أو بعد سنة أو أكثرفالشيطان مثابر نشيط لحوح, دائب على العمل, لا يثنيه الفشل عن الاستمرار, ولا ييأس من علو قدر الناس. هو ماضٍ في خطته. والذي لا يستطيع أن يدنس جسده, فعلى الأقل يدنس فكره ولما كانت باقي صفات الشيطان وكل حيله, أوسع من هذا المقال, فإلى اللقاء في مقال آخر إن أحبت نعمة الرب وعِشنا. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل