المقالات

14 نوفمبر 2020

المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشرواستعداد النفس للدينونة

هلموا يا إخوتي فأسمعوا مشورة إفرآم الخاطئ الفاقد الأدب ؛ فها قد بلغ إلينا يا أحبتي ذلك اليوم المخوف المرعب ؛ ونحن بما أننا متوانون نتنزه غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ؛ ونحرص أن نستغفر اللـه ؛ لأن الأيام والشهور تعبر كمنام، ومثل ظلال مسائي ليوافي بإسراع ورود المسيح المرهوب العظيم ؛ لأن ذلك اليوم بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة اللـه ويخلصوا. فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح هنا الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ لأن كافة الأشياء تزول كلها وتبيد، لا ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها من هنا، لأن كل واحد مزمع أن يحمل أقواله وأعماله قدام مجلس قضاء الحاكم المقسط. فالقلب يرتعد والكليتين تتغيران إذا صار هناك إشهار الأعمال وتحقيق الفحص عن الأفكار والأقوال ؛ خوف عظيم يا إخوتي ؛ رعدة عظيمة يا خلاني، من ترى لا يرتعد من لا يبكي من لا ينتحب، لأن هناك تُشهر الأفعال التي عملها كل واحد في السر والظلمة. أفهموا يا إخوتي هذا المعنى الذي أقوله لكم ؛ إذ أمنح مودتكم إقناعاً حقيقياً. الأشجار المثمرة من باطنها تبرز الثمر مع الورق في أوان الإثمار، ولا تكتسي الشجر من خارجها جمالها حسن بَهائها لكن من باطنها بأمر اللـه تينع الثمر، كل واحدة منها بطباعها. هكذا في ذلك اليوم المرهوب تبرز كافة أجسام الناس، وتينع كل الأشياء التي عملتها إن كانت صالحة أو خبيثة، ويحمل كل واحد قدام مجلس قضاء الحاكم المهول عمله كثمر، وكلامه كورق. فالصديقون يحملون ثمراً جيداً ومطرباً، القديسون يحملون الثمر العطر نضارته، الشهداء يحملون فخر اصطبارهم على العذابات والعقوبات، النساك يحملون النسك والحمية والسهر والصلاة. والناس الخطاة المدنسون المنافقون يحملون هناك ثمراً قبيحاً متهرياً ؛ ويكونون مملوءين نحيباً وحزناً وعبرات حيث دود لا يرقد ونار لا تخمد. مهول يا إخوتي مجلس القضاء لأن كافة الأشياء تظهر بغير شهود، الأفعال، الكلام، الأفكار، النتائج، وبمحضر الماثلين ربوات ربوات، وألوف ألوف، ملائكة ورؤساء ملائكة، الشاروبيم والساروفيم، الصديقون والقديسون، الأنبياء والرسل، الجماهير التي لا تحصى. فلِمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ. حين يبدي الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور. فلو عرفنا يا إخوتي ما أستعد لنا لبكينا كل حين في النهار والليل متضرعين إلى اللـه أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة، لأن فم الخاطئ ينسد أمام الموقف، والبرية كلها ترتعد، ومواكب الملائكة القديسين ترهب من ذلك المجد مجد وروده. ماذا نقول له يا إخوتي في يوم الدينونة إن توانينا في هذا الوقت ؟ لأنه هو تمهل وجذبنا كلنا إلى ملكه، وسيطالبنا بجواب عن التواني في هذا الزمان اليسير. فيقول لنا بذاته: من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض ظاهراً جهاراً، من أجلكم جُلدت، من أجلكم بُصق عليَّ، من أجلكم لُطمت، من أجلكم صُلبت مرفوعاً على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سُقيت خلاً لكي أجعلكم قديسين سمائيين. وَهَبت لكم الملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس، سميتكم إخوة لي، قربتكم إلى الآب، أرسلت إليكم الروح القدس، فأية أشياء أكثر من هذه لم أصنعها لتخلصوا أنتم، سوى أني لست أشاء أن أقتسر النية لكي لا يكون لكم الخلاص بشدة وإلزام. قولوا لي أيها الخطاة والمائتون بالطبع، ماذا أصابكم من أجلي أنا السيد المتألم من أجلكم. فها الآن قد أستعد المُلك والجائزة والنياحة والفرح، العذاب الخالد في ظلمة قصوى، فأين ما شاء كل واحد يسلك في ذات سلطانه. هلموا فلنسجد له باتفاق، ولنبكِ كلنا أمام الرب الذي خلقنا قائلين: يا سيدنا هذه كلها إنما صبرت عليها من أجلنا بما أنك إله، ونحن بما أننا خطاة نجحد كل وقت إحساناتك، وأنت بما أنك لم تذل إلهاً لابدَّ لك بالطبيعة غير مدرك بلا لوم غير محتاج. أثرت بألم صليبك أن تخلص مجاناً الخطاة الذين لم يعرفوك، وأعطيتهم نور المعرفة بك، فبماذا نجازيك نحن جنس الخطاة ؟ وبماذا نكافئ الإله الذي لا يدرك الصالح المتحنن ؟ نحن الذين صرنا بالنية منافقين لا بالطبيعة، لأنه من قبل أن نخلص كان جنسنا منافقاً. ونحن الآن بعد هذه الإحسانات كلها خطاة بالنية، أنت أيها السيد كل حين صالح ومتحنن ومرهوب وممجد ؛ خالق الدهور محتمل منذ القديم صعوبة أمرنا برأفاتك الجزيلة التي أوضحتها فينا نحن البشر، فغلبت من محبتك ورأفاتك وعانقت الصليب من أجل خلاص المسكونة كلها. فهذا لائق أن يقال من قبل نعمتك أمام مجدك، لأنه لو لم تغلب أيها المسيح من قبل تحنناتك، لما كنت بذلت ذاتك ذبيحة وقرباناً عن الخطاة. قد شبع عقل عبدك أيها السيد، وامتلأ من حلاوة نعمتك البهية ؛ ومحبتك النفيسة، فلذلك أيها المحب للناس فيما هو يزداد حلاوة، ويستنير متواتراً، ويتأيد دائماً، يخالف كل حين ويعود وينتقل إلى مرارته غير مؤثر أن تكون له حلاوة سيده دائماً. أيها الابن الوحيد الجنس، يا شعاع الآب الساكن في الضياء الذي لا يدنى منه، النور الذي لا يدرك، المنير كافة المسكونة، أضئ الناظر المظلم الذي فيَّ، لأنه قد خفي فيَّ ناظر مظلم فائضة بنعمتك ورأفاتك لئلا يدلهم العدو الغاش، لأن عقلنا المريض يضاهي النصبة الجديد نصبها التي تحتاج إلى سقي الماء دائماً. هكذا ذهننا هو ضعيف مريض محتاج بلا انقطاع إلى الاستنارة من نعمتك، قولك يارب فتح عين المكفوف منذ مولده، عجب عظيم صار أيها السيد بسلوام، إذ الضرير حين أبصر بعينيه الجسدانيتين، أضاء ناظر ذهنه للحين ليبشر بلا خوف بخبره إنه إله الكل. أضئ أيها السيد أعين قلبنا لنحبك، ونكمل بشوق مشيئتك دائماً، وإذ عين سلوام نائية عنا بعيداً، فها كأس دمك الرهيبة موعوبة نوراً وحياة فهبها لنا للفقه وللاستنارة. فلنتقدم إليها بأمانة وشوق وقداسة، لتصير لنا تمحيصاً للخطايا لا للدينونة، لأن من يتقدم للأسرار الإلهية بنفس غير مستحقة يشجب ذاته، إذ لم ينظفها ليقبل الملك في حجلته. فنفسنا هي عروس مقدسة للختن الذي لا يموت، والعرس هو الأسرار الإلهية، مأكولة بتقوى ومشروبه بجزع في النفس المقدسة. فأصغِ إلى ذاتك حافظاً حجلتك بلا دنس، وكن مشتاقاً أن تقبل الختن السمائي المسيح الملك، لكي في يوم وروده يصنع فيك منزلاً مع أبيه، فيكون مديحاً كبيراً قدام الملائكة ورؤساء الملائكة القديسين، وتدخل إلى الفردوس فرح عظيم. أيها الأخ ماذا يلتمس اللـه منك سوى خلاصك، فإن توانيت ولم تؤثر أن تخلص، ولم تسلك في طريق اللـه الممهدة، ولم تشاء أن تكمل وصاياه، فإنك تقتل نفسك، وتُخرج ذاتك من الخدر السمائي. فإن الإله القدوس والغير خاطئ وحده لم يشفق من أجلك على ابنه الوحيد، وأنت يا شقي لا ترحم ذاتك. فُقْ من نومك قليلاً يا مسكين، أفتح فمك مستغيثاً به، أطرح عنك ثقل الخطايا، ارحم نفسك، تضرع دائماً، أبكِ متواتراً، أهرب من الاسترخاء، أمقت الخبث، أرفض الرذيلة، حب الوداعة، تُقْ إلى الحمية، أدرس الترنم. أحرص أيها الأخ ما دام يوجد وقت، حب اللـه من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلاً للـه فيسكن فيك الإله العلي، فإن النفس الحاوية اللـه في ذاتِها هي هيكل للـه مقدس ونقي، تخدم فيها الأسرار العالية الإلهية أي مجد اللاهوت ويتبادر إلى افتقادها موكب الذين لا أجسام لهم. فمنذ يسكن الرب في النفس، فالملائكة السمائيون يبتهجون بِها، ويحرصون أن يوقروها لأنَها هي هيكل سيدهم. مغبوط الإنسان الذي أحبك من كل قلبه، ومقت العالم والأشياء التي فيه كلها ليقتنيك وحدك أيها الإله الكلي الطهارة، الدرة النفيسة، كنز الحياة. فمن أحب اللـه هكذا حباً صافياً، وذهنه ليس على الأرض بل في العلا أبداً، حيث أحب واشتهى أن ينال، من هناك يتحلى، من هناك يستضىء، ومن هناك يشبع من محبة اللـه، بالحقيقة هي مملوءة سروراً وحلاوة، ومغبوط من ذاقها. فمن يستطيع أن يصف حلاوة محبة اللـه وصفاً كما يجب، فإن بولس الرسول الذي ذاقها وشبع منها يهتف قائلاً: لا العلو بما معناه الذي فوق، ولا العمق الذي أسفل، ولا هذه الحياة نفسها، ولا الموت المنتظر، ولا جماعة الملائكة الرؤساء والسلاطين، ولا خليقة أخرى، فهذه كلها لا تستطيع أن تفصل من محبة اللـه النفس التي ذاقت حلاوته. نار لا تموت، محبة اللـه في النفس المشتاقة إليه، فإنَها تجعل حواسها متلألئة الضياء، فترفعها من الأرض لتبغض الأرضيات وتعاين الإله الذي أحبته. والشهداء والقديسون يعلموننا الذين ذاقوها وتملوا منها، أن محبة اللـه قيد لين ناعم، ولا يمكن السيف ذو الحدين أن يقطعها، فالأمراء قطعوا أعضاء القديسين، فأما محبتهم فما استطاعوا أن يقطعوها. يا لقيد محبة اللـه الناعم الذي لا يمكن أن يفك، إن المحبة لا يقطعها سيف، ولا تطفئها نار. قطعوا الأعضاء والمحبة ما صرموها، حرقوا الأعضاء وقيود المحبة لم يفكوها، حرقوا أجساد القديسين أيضاً ومحبتهم لم يحرقوها، قيدوا أعضاء الأبرار ولم يقيدوا محبتهم. من ماذا ترى لا يتعجب من قيد المحبة اللين الترف الذي لا ينقطع قط ولا ينفك أبداً، من أحب اللـه حباً صافياً فقد أقتنى مثل هذه المحبة، لأن هذه المحبة أعطاها المسيح لكنيسته أن تتزين دائماً بِهذه المحبة، لأن هذه المحبة عربون اللـه للنفس. المحبة قاعدة راسية في النفس القديسة، هذه المحبة أنزلت الابن الوحيد إلينا، بِهذه المحبة تأنس الإله، بِهذه المحبة شوهد من لا يرى، بِهذه المحبة فُتح الفردوس، بِهذه المحبة قُيد القوي، بِهذه المحبة صارت النفس عروساً للختن الذي لا يموت، لكي ترتأي حسن نَهاية في ذاتِها دائماً. من أجل هذه المحبة تألم الختن الطاهر الذي لا يتألم، لأن النفس إن كانت مصفرة من المحبة لا يرضى بِها السيد السماوي، ولا يشاء أن يظهر بالكلية اختيار نيتها. فلذلك خولها سلطاناً دفعة أن تسير دائماً كما تشاء وترتأي، أفترى من يستطيع ومن يكون كفواً أن يمجد ويسبح الإله المخلص عن الموهبة التي أخذناها كلنا بنعمة اللـه. المجد والسجود لمسرته. فإذ قد سمعتم يا إخوتي مشورة حقارتي النافعة، فلنحرص دائماً ما دام لنا زمان أن نسير بطهارة، وبما هو أهل للـه ليسكن فينا الروح القدس، وتتكاثر محبة اللـه فينا، مكملين مسرته كل حين. لا نقتني يا إخوتي سوى هذا الاهتمام، وهو أن نجد نفوسنا في النور، وأن لا نطفأها بأحد الأمور الأرضية، والهموم العالمية، والقنية والأموال. ولنزينها بالصلوات والأصوام والأسهار والدموع، حتى تجد النفس دالة يسيرة أمام منبر المسيح المرهوب، حيث تقف النفوس كلها بخوف، حيث يصير تمييز المختارين من الخطاة، ويقف الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار. فأيقنوا يا أولادي أن ورود المسيح قريب ليعطي كل واحد نظير عملة، ويسكن مختاريه في الضياء والسرور الخالد، والخطاة الذين أغاظوه يقطنهم في الظلمة. فمغبوط الإنسان الذي يجد في تلك الساعة دالة ويسمع ذلك الصوت السعيد القائل: تعالوا يا مباركي أبى، ويا جماعة مختاري رثوا مملكتي. حينئذ يشاهد كل واحد ذاته في النور، ويتأمل بذاته مجداً لا يقاس قدره، فيتعجب متفكراً في ذاته قائلاً: أترى أنا هو، فكيف وجدت هكذا أنا الحقير مستحقاً. وحينئذ تتقدم الملائكة بسرور يشرفون القديسين ويمجدونَهم ويشرحون ويصفون لهم سيرتِهم، وهي النسك، الحمية، السهر، الصلاة، الفقر الاختيارى، هجر القنية الكامل، الصبر في العطش، الثبات في الجوع، الدوام في الصلاة، الفرح في العري من أجل المحبة التامة التي للمسيح. تقول هذه الملائكة للصديقين بفرح، فيجيبهم الصديقون قائلين: يوماً واحداً من أيامنا على الأرض لم نصنع فيه تقويماً حسناً. فتذكرهم الملائكة أيضاً بالموضع والوقت، فإذا تعجبوا في ذاتِهم يمجدون اللـه ناظرين أجسام القديسين ألمع من النور، لأنَهم حزنوا على الأرض باختيارهم، وبصبرهم خبئوا فيهم الدرة النفيسة، وصنعوا لهم حلة لا دنس فيها للعرس. وجدوا في الحقل كنزاً، فباعوا كل الموجودات التي لهم على الأرض، واقتنوا ذلك الكنز. تعب النسك قليل يا إخوتي، والراحة عظيمة، تعب النسك زمان قصير، وراحته في جنة النعيم إلى أبد الدهر. فمن عرف ذاته أنه أخطأ إلى اللـه، وتراخى بنيته، وأخطأ عمداً، فما دام يجد زماناً؛ فليبكِ باشتياق، ولينتحب بلا انقطاع، ليجذب الدموع إلى قلبه سروراً، وليقتنِ تخشعاً، ويحمِ جسمه بالدموع والزفرات. هل اختبرتم يا إخوتي الدموع ؟ هل استضاء أحدكم بنعمة الدموع من أجل اللـه ؟ فأيقنوا يا إخوتي أن ليس على الأرض ألذ حلاوة من الفرح والتخشع في تلك الساعة. إذا صلي الإنسان ورأى الإله جالساً في قلبه دائماً، من منكم أختبر هذا، أو أستطعم الدموع حين صلى بارتياح وشوق، وأرتفع من الأرض وصار بجملته خارج الجسم، أليس يصير خارج هذا الدهر كله، ولا يكون على الأرض، لأنه يناجي الإله نفسه، ويستضئ بالمسيح، ويتقدس بالروح القدس. يا إخوتي عجب عظيم أن يخاطب إنسان ترابي في صلاته الإله الذي لا يُرى، مغبوط الرجل الذي له كل وقت تخشع من أجل اللـه. التخشع يا إخوتي هو شفاء النفس، الخشوع هو استنارة النفس، التخشع يفيد دائماً غفران الخطايا، التخشع يجذب إليه الروح القدس، الخشوع يُسكن فينا الابن الوحيد إذا صبونا إليه، وإني لخائف أن أصف لكم اقتدار الدموع. حنة بالدموع أخذت من اللـه صموئيل النبي بسمو وفخر لقلبها، المرأة الخاطئة في منزل سمعان أخذت من المسيح غفران خطاياها حين بكت وبلت رجليه المقدستين. عظيمة قوة الدموع وتقتدر كثيراً، الدموع التي من أجل اللـه تُجلى دائماً النفس من الخطايا، وتنظفها من الأثام، العبرات تمنح دالة لدى اللـه القدوس، والأفكار الدنسة لا تقدر قط أن تقارب النفس الحاوية التخشع. فماذا ترى يكون أعلى سمواً من هذه الحلاوة ؟ وأي شيء يكون مأثوراً أكثر من تطويبها إذا ما حوت الإله الذي تصلي وتبتهل إليه ؟ أيها الإخوة إذا صبت النفس إلى اللـه تبصره دائماً في صلاتِها وتدرس في الليل والنهار، التخشع هو كنز لا يُسلب، النفس الحاوية التخشع تفرح فرحاً لا ينطق به، وقلت التخشع لا يوماً واحداً فقط بل إنما أعني التخشع الصائر دائماً باطناً في النفس ليلاً ونَهاراً. التخشع في النفس هو كعين صافية، تسقي أغصانِها المثمرة فيها، وقلت أغصانَها المثمرة، أعني بذلك الفضائل التي تسقى دائماً بالدموع والزفرات، فتثمر ثمراً رائقاً نضارته في نفسك نافعاً أبداً. فلتكونن غروسك مختارة وبَهية، أسقِ أيها الأخ غروسك بلا انقطاع مبتهلاً بدموع حتى إذا سقيت تنمو وتثمر يوماً فيوماً، لا تصر متشبهاً بي أنا المسترخي الخاطئ الذي أقول كل يوم ولا أعمل ألبته. لا تصر هكذا متوانياً بنيتك مسترخياً باختيارك، فإنه لا يكون لك خشوع ولا صلاة نقية، فأنني أعرف نفسي كل حين خاطئاً، وأنا متخوف دائماً من الدينونة المنتظرة، وليس لي اعتذار عن جرائمي. فأطلب إليكم يا إخوتي القديسين الخائفين من اللـه، والعاملين دائماً الأفعال التي ترضيه، أن تشفعوا إليه عني أنا الحقير لتوافي إليَّ نعمة بصلاتكم، وتخلص نفسى في تلك الساعة المخيفة المرعبة إذا جاء المسيح ليكافئ كل واحد نظير أعماله. المجد للإله وحده القدوس الذي لا يموت، الصالح المرهوب الطاهر المتحنن، الجاعل لساننا الحقير بنعمته مترنماً بألفاظ العدل والمحبة والتخشع لإبتناء النفس، وإنارة القلب، ومنفعة الذهن، حتى تتحلى النفس بتلاوة هذه الأقوال، وتجتذب إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح.الذي له المجد والعز والقدرة الآن ودائماً وإلى آباد الدهور آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
13 نوفمبر 2020

اعرف حقيقة نفسك

«مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟» (1كو2: 11). + الناس يعرفون عنّا ما يرونه. وأحكام الناس فينا هي أحكام مبنيّة على ما نبدو عليه من الخارج. الشكل الخارجي قد يختلف كثيرًا عمّا هو بالداخل. فكلّ إنسان يعمل جاهدًا أن يَظهر بمظهر لائق، ويجاهد لكي يخفي ما لا يليق أو ما لا يَعجِب. والطامة الكبرى هي ضبط السلوك الخارجي بينما الداخل على غير ذلك. وقد كانت هذه عِلّة الكتبة والفريسيين والكهنة ومعلّمي الناموس. + كانوا عارفين الحقّ، وكان عندهم مفاتيح المعرفة. وقد قال الرب لهم بكلّ الأسف: «مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ» (لو11: 52). وقد يبدو أنّ هذه الضربة لم ينجُ منها إنسان ولا سيّما المتديّنين. وقد بلغ الأمر أنْ قيل عنهم «لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تي3: 5). ويجدر بالإنسان أن يراجع الويلات الثمانية التي قالها الرب للكتبة والفريسيين قديمًا (راجع مت23). وإن كان هؤلاء قد مضوا ومضى زمانهم.. فلنعتبر نحن لئلا يصيبنا ما أصابهم. اعرف حقيقة نفسك الأمر يحتاج إلى مَرّات ومَرّات يجلس فيها الإنسان منفردًا في هدوءٍ، ويبدأ يزيل كلّ ما هو غريب على طبيعته المخلوقة على صورة الله فى القداسة والحق. هذه الأيقونة البديعة شوّهتها الأيام، والمعرفة الكاذبة، ومعرفة أنواع الشرور، وممارسة الكثير منها.. طبقات طبقات من سنين جهل، وسلوك غير منضبط، وخِبرات شرور، وما علَق في الذّهن من مبادئ عالمية، أو أناس فاسدي الذّهن عادمي الحقّ.. إلى خُلطة أناس غير مقدّسين.. إلى انفتاح الذهن على طرق الشرّ والخبث والحقد وحُب النقمة. إلى ما صار مخزونًا في الذاكرة، من مناظر ومواقف تخدم الشرّ والشهوات.. إلى حُبّ المال، وحُبّ الظهور، وما هو سائد من أعراف العالم وحتميّاته الكاذبة.. إلى ما جُرِحَت به النفس جراء سقوطها في يد العدو وقبولها مشورات الخبث.. شيء مهول كَتَرَاكُم جبال. كم يحتاج إلى الخلود إلى الحق، لكي يكشف الإنسان عوار نفسه؛ ويحتاج إلى دموع توبة، وتبكيت وسهر وصلاة، حتى يصِل إلى حقيقة النفس التي تغرَّب عنها. لأنّه لما قبلنا بإرادتنا كلّ ما عُرِضَ علينا من أمور العالم، وزيف كلّ ما فيه، وتفاعَلنا عائشين بالأيام والسنين حسب أهواء الناس كباقي المجتمع.. صار فينا بذلك تراكُمات من عوائد وتصرّفات بعيدة عن طبيعتنا الجديدة المخلوقة في المعمودية. لذلك وَجَبَ علينا أن نعود إلى أصلنا. وإن كانت الحياة بعيدة عن أصلنا أفقدتنا كثيرًا من وعينا الروحي، وقدراتنا، بل وحُبّنا وتمتُّعنا بما هو روحي سماوي. ولكن قوة التوبة والرجوع تجعلنا نتحصّل على ما فُقد منا، بل بالحرى أكثر وأكثر، لأنّ لهيب الغيرة الروحية عند اكتشاف ما فُقد منا يدفعنا إلى جهادات وصراع وتصحيح وحزن، بل وبُكاء وغيرة متقدة.. قادرة بالنعمة أن ترد إلينا ما كان لنا بالأكثر كثيرًا. + خُذْ مثلاً.. إذا جلستَ إلى نفسك: بصلاة وهدوء، وتذكّرتَ أيام طفولتك الأولى.. كيف كان شكلك؟ كيف كان ذهنك وفكرك وقلبك.. وبساطة نفسك؟ كلّها نور، وكلّها خير، وكلّها بساطة واتضاع ونقاوة قلب وفكر وفرح.. كلّ هذا الخير وهذه الصورة القديمة التي في ذهنك هي حقيقة نفسك. فأين أنت منها الآن؟!! وهل من رجوع؟ وهل ممكن الرجوع إلى تلك الصورة بعينها؟!! ألستَ تعلم أنّ هذا هو قول الرب: «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (مت18: 3). التوبة هي الرجوع إلى الأصل. والأصل فينا هو معموديّتنا المقدّسة. وولادتنا من الله من بطن الكنيسة، مخلوقين «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23). قد يندم الإنسان عندما يَضَع مقابله صورته الأولى، وما فيها من براءة الأطفال، وواقعه الحالي بكلّ ما فيه. ولكن هذا الندم لابد أن يكون الدافع الأول للرجوع. إذ أنّ الربّ لم يغلق الباب ولن يغلقه لأنّه قال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا» (يو6: 37). بل بالعكس فالرب ذاته قال: أنا «وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ» (رؤ3: 20). إذن المفتاح من داخلك.. في يدك وفي مقدورك.. فلتفتحْ للرب باب قلبك. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
12 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إرميا

" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى "" إر 9: 1 " مقدمة لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل، فى مطلع الحرب العالمية الثانية، وهو يقول للشعب الإنجليزى: « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع»، ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً، إذ تصورت قرب نهاية الحرب، يابانياً محباً لبلاده وشعبه، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين!!.. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه: « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك ».. " لو 19: 41 - 44 "كان إرميا نبى الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى »،... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى؟! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات فى مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات، وقد تحول رأسه إلى ماء، وعيناه إلى ينبوع دموع، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال!!.. لم أعطي هذا الحظ، ولم سار فى الطريق المنكوب!!؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى: إرميا ومن هو!!؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم، فبينما يراه جيروم « مرفوع الرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى »، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس، ويوجد من اعتقد أن المعنى « اللّه يؤسس ».. وعلى أية حال، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه، وأخرجه من الرحم، وأقامه: « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1: 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى: « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت، وكان إرميا هو نبى إسرائيل، لما دنت شمس أورشليم للغروب. فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام، والحريق والدمار الذى ألم بها »... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة، بل كان واحداً منهم فقط، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم!!.. وكان يتنقل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم!!ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه... كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية، ونعنى بها آشور، ومصر، وبابل. وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية، وقد غزا مصر فيها مرتين، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب، بل إلى السيطرة والقوة،.. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة، وتولى ابنه يهوحاز الملك، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً!!ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفى الغالب، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهى محاصرة، وعندما دمرت عام 586 ق.م.، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل. لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا،... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر، رغم ارتدادهم عن اللّه، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه، ورجموه، فمات فى مصر!! عاش إرميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها،... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة، التى يسكن فيها إلى بيت وولد، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد: « ثم صار إلى كلام الرب قائلا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16: 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب، ولم يكن له متسع، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج.... بل إن الرسول أوصى: « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7: 27: 28 " كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة، طالما هى على الحقوين،.. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها. وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ،... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر، كانت جديدة ولكنها لم تغسل،.. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه،... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب، ففسد، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل،... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً،... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب، فإذا فسد الطين، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد،... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء، إذا اجتاز فى النار، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم، أمام شيوخ الشعب، وشيوخ الكهنة، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل، وقد ضاع الرجاء فيها، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم، والذى أضحى رمزاً لجهنم، مكان العذاب الأبدى، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم، وكان مباءة للديان والجراثيم، يجمع بين الظلمة الدائمة، والنار التى لا تطفأ، ومن ثم قيل: « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9: 44 ". ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه، نير الثور، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه،... وفى مصر، فى أخريات حياته، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعدة، والتى لا جدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها!! ولعل العصر الذى عاش فيه، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع، وآخرون نبى الفشل، وغيرهم نبى الأحزان،.. أو نبى التناقض، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به، وبعصره، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة، ازداد اتساعاً، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات، وقد كان إرميا من هذا النوع، فقد جمع، على أعظم صورة، بين: الرقة البالغة، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا، إلا بهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح: « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1: 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره، وهو بطبعه حيى خجول متضع، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حد الدموع، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة،... وهو يقف مع موسى الذى رفض، فى مطلع الأمر، الدعوة، وهو يقول للّه: « أرسل بيد من ترسل » " خر 4: 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية، يهرب إلى ترشيش، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته،... إن هذا النوع من الخدام، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول: « ها أنذا أرسلنى " إش 6: 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل، » " أع 9: 6 ".. ولكنه مع ذلك، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض ».. " إر 1: 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم!!... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه، وهل تكلم إليه بصوت مسموع، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق!!.. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد،... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هى قوة روح اللّه فيه، ولمس اللّه شفتيه، وجعل كلامه فى فمه!!.. فإذا قيل، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس، قبل وبعد، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة، أو كما صوره أحدهم: نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة، كمن يهرب من أسد يطارده، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك: إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم، وإلى العواطف التى تملكهم، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر!! وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والأضطهاد، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى: « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20: 7 - 9 "... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه. اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً. ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا: قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20: 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد، ومن سجن إلى سجن، وغاص فى حمأة الجب، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر!!... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال،... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة!!... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ!!... الحنان الذى لا يوصف، والقسوة الشديدة كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4: 19 "... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى. ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9: 1 و2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها، أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق فى المسيح. لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9: 1 - 3".. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه، لكنه كان فى وسطهم: « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه. فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11: 19 - 23 ".. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة!على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض، هو الموقف بين الوطنية والدين،... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض،... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه، ولا عيب فيه البتة، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه،... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة، والاستسلام لنبوخذ ناصر،... ومن لى، فى تلك الساعة، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال!!.. كان يتمزق بين الحنان المرهف، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب،... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو: هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن،... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين!!؟.. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض!!... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام!!.. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره: أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء!!.. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال: أنا مع وطنى فى الحق،... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه!!.. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل، حيث أعلى له الحق فى ذلك،... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام، وهم يشبهون أمريكا، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها، بسدوم وعمورة،... ويصرحون، وهم وطنيون مخلصون، بأنها على شفا الهلاك، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض!!.. إرميا ونموذج الخادم العظيم أما وقدأطلنا الحديث عن شخصية إرميا ومقوماته كإنسان متسع، يبدو ممزقاً أو موزعاً بين عواطفه الذاتية، والنداء الإلهى الموجه إليه، فإنه يجمل بنا أن نراه كخادم أمين للّه، وهو فى هذا المجال، من أروع خدام اللّه العظام فى كل التاريخ، وربما نستطيع التركيز فى الأصحاح الثانى والعشرين من سفره، عندما كلفه اللّه بأن يذهب إلى الملك ورجاله فى القصر الملكى ليتحدث إليهم برسالة الرب، وهنا نرى الخادم فى أجل أوصافه: الخادم والرسالة العلوية قال الرب لإرميا: « انزل إلى بيت ملك يهوذا » " إر 22: 1 " ويبدو إن إرميا كان فى الهيكل، والهيكل كان فى أعلى بقعة، فمن يترك الهيكل لابد سينزل نزولا جغرافياً، لكن المعنى أشمل وأعمق من مجرد النزول الجغرافى، إذ أن من يحمل رسالة اللّه عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو فى مركزها وسلطانها وأمرها على كل عظماء الأرض وسادتها، وملوكها،... ويبدو أن النبى قد أمر بالذهاب إلى العائلة المالكة لأنه يعلم مدى نفوذها فى الخير أو الشر على حد سواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائماً على منوالهم، إذ يرغبون فى تتبع اثارهم ومحاكاتهم وتقليدهم فى كافة الظروف والأوضاع، وليس أدل على ذلك من أنه فى أيام الرئيس ترومان رئيس الولايات المتحدة، بدأ هذا الرجل يلبس القمصان المشجرة، فإذا بها تنتشر فى كل الولايات المتحدة، بل فى العالم بأجمعه،... وإذا أدركنا ذلك كم يبدو لنا كقادة أو آباء أو أمهات، عمق تأثيرنا فيمن يتطلعون إلينا، ويسيرون فى أثرنا ويحاكوننا، عن دراية أو عن غير دراية!!ومن اللازم أن نلاحظ ههنا شجاعة النبى وبراعته وحكمته... فالشجاعة أن تذكر القادة بأن عليهم أن يتقبلوا كلمة اللّه وأمره لا تفضلا أو تجملا بل امتثالا وخضوعاً وانتظاراً، وعلى الخادم أن يتحرك فيذهب حاملا الرسالة، دون أن ينتظر أن يأتى إليه السامع، أو كما قال أحدهم، إن من واجب الخادم ألا ينتظر من سامعيه أن يجروا وراءه، بل من واجبه أن يخلق الاجتماع، وعليه أن يجعل رسالته رسالة علانية واضحة، لا أن يخفيها فى حيز ضيق صغير، وعليه ألا يخدم فقط بين جدران الكنيسة، حيث من السهل أن يتقبل السامعون الرسالة، بل عليه أن يخرج إلى الخارج ليتحدث بها بين أناس قد يعادونه ويؤذونه بسببها!!... إن الدين ليس لمن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً للعشارين والخطاة، ومن يظنهم الناس أنهم أبعد الجميع منه!!.. الخادم والرسالة المشجعة ذهب إرميا إلى الملك والقادة يحمل رسالة إيجابية مشجعة: « أجروا حقاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكياً فى هذا الموضع » " إر 22: 3 " وهذا وعظ إيجابى عملى واضح، لم يحلق فيه الواعظ نحو النجوم، أو يتحدث بلغة الفلسفة، ولم يلجأ إلى المنحنيات والدروب فى التعبير، بل هو كلام مستقيم لا التواء فيه، كما أنه وعظ يبدأ بالتشجيع والترغيب قبل التوبيخ والانتهار، وهذا يعلمنا أن نضع الشجاعة فى موضعها، وأن نمتنع عن كل تهور واندفاع فى غير موضعهما، بل هذا فى الواقع حسن الاستهلال الذى ينبغى أن يبدأ به الواعظ رسالته، ليكتسب الأذان ويجتذب المشاعر، ولم يكتف النبى بهذا التشجيع بل لوح بالوعود المباركة إذ قال: « إن فعلتم هذا الأمر يدخل فى أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين فى مركبات وعلى خيل » (عدد 4) وكم كان من الواجب أ ن يشرح هذا قلب الملك لأنه سيجد حماية وحراسة رب الجنود ملك إسرائيل، فى الوقت الذى فيه تتهدده الجيوش الأجنبية، بل إن فى القول: « ملوك جالسون لداود على كرسيه »... إعلان عن إمكانية عودة المملكة إلى مجدها القديم أيام داود، وامتداد رفاهيتها وسلطانها أجيالا طويلة!!.. الخدام والرسالة المحذرة ومن الواضح أن إرميا، عندما اتجه إلى أعلى الطبقات فى البلاد وأكثرها سطوة وجاهاً ونفوذاً، لم يجعل من صفاتهم أو مناصبهم معطلاً له عن إتمام الرسالة على أكمل وجه، وقد كان عليه أن يوجهها إليهم كما توجه إلى أضعف الناس أو أقلهم نفوذاً... ومن الوعاظ من يتحدث بالسهل اللين اليسير من الكلام، دون التحذير الواضح، لكن إرميا لم يفعل هكذا،... لقد تحدث إلى الملك والقادة بأن سر عظمة المملكة يرجع أولاً وأخيراً، إلى ما عندها من أخلاق أكثر مما عندها من مادة، إذ لم يقل للملك أن سر النجاح والنجاة للملكة يرجع إلى ما عندها من جيوش، وما تملك من قوات، أو تنال يدها من ذهب،..إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا هذه هى الحقيقة الدائمة فى كل العصور، وقد كان على الملك أن يجرى أولا، الحق والعدل،... والحق أوسع وأشمل من العدل، إذ أن الحق يشمل كل ما هو ضد الباطل والكذب والاستبداد والاستعباد سواء فى علاقة الناس بعضهم ببعض أو فى تصرفاتهم الفردية، بينما يتحدث العدل عن موازنة الحقوق بين الأطراف المتنازعة ويبدو هنا أن الملك يهوياقيم كان قد داس الحق والعدل معاً، فى أعماله، إذ سخر الشعب فى بناء قصره، دون أجر أو رحمة،... وكان الأمر الثانى معونة الضعيف، ويبدو هذا فى الوقوف إلى جانب المغصوب ضد الظالم، وعدم اضطهاد اليتيم والأرملة والغريب، ويجمل بنا هنا أن نذكر أن مساعدة هؤلاء ليست مجرد عمل اجتماعى تمليه الديموقراطية أو الاشتراكية الحقة، بل هو العمل الذى يسر به قلب اللّه!! » وجدير بالذكر أن التحذير كان واضح التعبير، ظاهر الدلالة، وعدم الانتباه له، سيجلب نتيجته المؤكدة، النتيجة التى أقسم الرب بها فى خراب المملكة، والبيت المالك معاً،... وكانت المأساة الكبرى أيام إرميا هى التعلق بالشكليات، فمدينة أورشليم فى تصور شعبها مدينة محبوبة من اللّه، ومادام الهيكل موجوداً بها، فلا يمكن أن تمسها قوة فى الأرض،......... وكان حديثهم: « هيكل الرب هيكل الرب هو » " إر 7: 4 ".. وكأنما اللّه يسكت على الشر والفساد مادام الظاهر من الدين موجوداً،.. وإذا باللّه يقول: "حى أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتماً على يدى اليمنى فإنى من هناك أنزعك، وأسلمك ليد طالبى نفسك وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذ ناصر ملك بابل وليد الكلدانيين »... " إر 22: 24 و25 ". أجل إنه من الحماقة أن يظن إنسان أو شعب أنه لمجرد أن اسم اللّه قد وضع عليه، فإنه آمن من كل خطر أو ضرر أو شر، مهما يرتكب من إثم أو خطية أما عن يهوياقيم نفسه، الذى قسى قلبه وأحرق الدرج، وفعل الظلم والشر والفساد، فقد بين له الفرق بينه وبين أبيه يوشيا: « هل تملك لأنك أنت تحاذى الأرز أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلا؟ حينئذ كان له خير. قضى قضاء الفقير والمسكين. حينئذ كان له خير. أليس ذلك معرفتى يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين آه يا أخى أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد أو آه ياجلالة، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم!! " إر 22: 15 - 19 ". إرميا والفكر اللاهوتى فى سفره سنلم ببعض الأفكار اللاهوتية التى جاءت فى سفر إرميا ولعل أهمها: كلمة اللّه وكلمة اللّه عند إرميا تبلغ مركزها الأعلى، إذ هى الكلمة التى ينبغى عليه أن يعلنها، وقد جاءته هو واضحة فى الدعوة إلى النبوة، وقد وضعت هذه الكلمة باللمسة الإلهية على شفتيه، لينادى بنتائجها البالغة للأمم والممالك، وكلمة اللّه ليست مجرد ألفاظ ينطق بها، بل هى الكلمة التى تحمل قصد اللّه وإرادته، والمصحوبة بفاعليته وسلطانه، وفى صراعه مع الأنبياء الذين إدعوا النبوة فى عصره، كشف إرميا لهم عن إعلانات اللّه له، وبين الفارق بينه وبينهم، إذ أن اللّه أعلن أنه لم يرسل هؤلاء الأنبياء قط: « لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا " إر 23: 21 ".. ولا يستطيع الإنسان أن يتكلم باسم اللّه، إلا بعد أن يجلس فى حضرة اللّه، وينصت بعمق وتأمل إلى اللّه: « لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته؟ من أصغى لكلمته وسمع؟... ولا وقفوا فى مجلسى لأخبروا شعبى بكلامى وردوهم عن طريقهم الردئ وعن شر أعمالهم » " إر 23: 18، 22 "... إن الأنبياء المضلين يحلمون أحلاماً من ذواتهم: « قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمى بالكذب قائلين حلمت حلمت. حتى متى يوجد فى قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن ينسوا شعبى اسمى بأحلامهم التى يقصونها الرجل على صاحبه كما نسى آباؤهم اسمى لأجل البعل. النبى الذى معه حلم فليقص حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق ما للتبن مع الحنطة يقول الرب » " إر 23: 25 - 28 ".. « فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمى وأنا لم أرسلهم وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع فى هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء » " إر 14: 14، 15 " والسمة البارزة فى كلام هؤلاء الأنبياء هى تملق السامعين، والمناداة لهم بما يطيب لهم أن يسمعوه،... على العكس من كلمة اللّه التى تظهر كالحنطة، إذ قورنت بالتبن الذى تذروه الرياح،... وهى المطرقة التى تحطم قساوة القلوب الصلدة، والنار التى تلهب حياة الناس ومشاعرهم وتسيطر على إرادتهم!!.. وذلك لأنها مصحوبة بفاعلية روح اللّه!!.. معرفة اللّه والحقيقة الثانية التى تبدت أمام إرميا: المعرفة المتبادلة مع اللّه، معرفة اللّه له، ومعرفته هو للّه » وهو يصف اللّه بالقول: « وأنا العارف والشاهد يقول الرب»..... وقد عرف اللّه إرميا: « قبلما صورتك فى البطن عرفتك " إر 1: 5 " وحياته من البدء مكشوفة أمام اللّه، وهى مكشوفة فى الأزمات: « وأنت يارب عرفتنى » " إر 12: 3 "، « والرب عرفنى فعرفت. حينئذ أريتنى أفعالهم » " إر 11: 18 "، « أنت يارب عرفت. أذكرنى وتعهدنى وانتقم لى من مضطهدى. بطول أناتك لا تأخذنى. أعرف احتمالى العار لأجلك » " إر 15: 15 " « أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك » " إر 17: 16).. « وأنت يارب عرفت كل مشورتهم على للموت » " إر 18: 23 " كان إرميا يدرك أن اللّه يعرف حياته جملة وتفصيلاً، بل يعرف من قبل أن يولد إرميا هذه الحياة فى كافة أو ضاعها، وعلى وجه الخصوص، فى الضيقات والأزمات... ومن الجانب الآخر، كان إرميا يعرف اللّه، وهو يختلف هنا عن غيره من الكهنة: « الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفونى، والرعاة عصوا على، والأنبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع » " إر 2: 8 ".. « أما أنا فقلت إنهم مساكين. قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم » " إر 5: 4 ".. « لأن شعبى أحمق، إياى لم يعرفوا، هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء فى عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون » " إر 4: 22 ".. « وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها » " إر 7: 9 ".. « بل اللقلق فى السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئها، أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب » " إر 8: 7 "... لكن إرميا كان يؤمن باليوم الآتى الذى سيقطع اللّه فيه عهداً جديداً مع شعبه: « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ليس كالعهد الذى قطعه مع ابائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى اقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتى فى داخلهم، واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين أعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفوننى من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد » " إر 31: 31 - 34 "... وقد تحقق هذا فى قول المسيح المبار ك: « وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى » " يو 10: 14 ". نشاط اللّه فى حياة البشر لم تكن عقيدة إرميا أن اللّه خلق الناس ليتركهم دون أن يبالى بهم كما كان يتصور توماس كارليل، أو ليقف متفرجاً على آلامهم وأحلامهم وتعاساتهم كما كان يزعم لورد بيرون، بل أن نشاط اللّه له الدور الكامل فى حياة الناس، على أن هذا النشاط يختلف ولا شك عند إرميا بالنسبة للمؤمنين، ولشعب اللّه، وللأمم، وللوجود كله،... ففى حياة النبى مثلا، يدرك إرميا مدى تدخل اللّه فى حياته، من مجرد دعوته التى أشار إليها فى الأصحاح الأول من سفره، أو كما قال أحدهم: تكفى الإشارة إلى الأفعال الواردة من " عدد 5: 10 " " صورتك " " عرفتك " "قدستك " " جعلتك " " أرسلك " " آمرك " " لأنقذك " " جعلت كلامى فى فمك " " وكلتك "... وهذه الأفعال تغطى حياة النبى جملة وتفصيلا، مما لا يترك واردة أو شاردة، دون تدخل اللّه، ومن ثم نراه يقول: «عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته» " إر 10: 23 ".. وفى حياة الشعب، مهما تلونت ظروفه، وتغيرت، وسواء وقع تحت التأديب أو الحض أو الوعد، فهو الشعب المختار من اللّه: « إسرائيل قدس للرب أوائل غلته. كل آكليه يأثمون. شر يأتى عليهم يقول الرب » " إر 2: 3 ".. « وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها. فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة » " إر 2: 21 ".. وهو المحبوب: "ما لحبيبتى فى بيتى. قد عملت فظائع كثيرة " " إر 11: 15 " « قد تركت بيتى رفضت ميراثى دفعت حبيبة نفسى ليد أعدائها ». " إر 12: 7 ".. وهو الميراث: « رعاة كثيرون أفسدوا كرمى، داسوا نصيبى، جعلوا نصيبى المشتهى برية خربة » " إر 21: 01 " وهو قطيع الرب: « وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسى تبكى فى أماكن مسترة من أجل الكبرياء، وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب » " إر 13: 17 " وهو البكر: « لأنى صرت لإسرائيل أباً وأفرايم هو بكرى » " إر 31: 9 ".. وهو المرتبط بالعهد مع اللّه: « لا ترفض لأجل اسمك، لاتهن كرسى مجدك. اذكر ألا تنقض عهدك معناً » "إر 14: 21 "... « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب » " إر 31: 31، 32 "... ومن المعلوم أن إرميا جاء بعد هوشع بزمن،... وقد اتفق الإثنان على تصوير العلاقة بين اللّه وشعبه فى صورة الزوجة والبنين،... يقول إرميا: « قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة » " إر 2: 2 " « ألست من الآن تدعيننى يا أبى أليف صباى أنت » " إر 3: 4 "... « وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم. وقلت تدعيننى ياأبى ومن ورائى لا ترجعين » " إر 3: 19".. « إرجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » " إر 3: 22 "... هذه هى العلاقة الخاصة بين اللّه وشعبه، مع تفوق العهد الجديد الذى يعلن لنا اللّه فيه بالروح القدس تلك الرابطة التى لا يمكن أن تنفصم أو تنقطع بين المسيح وكنيسته إلى أن يأتى فى مجيئه الثانى العتيد!!..ومن الواضح أن تاريخ الأمم خاضع لسيطرة اللّه وسلطانه: « والآن قد دفعت كل هذه الأراضى ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدى وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب، وابنه وابن ابنه حتى يأتى وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام » " إر 27: 6، 7 "... بل إن الوجود كله يخضع للسلطان الإلهى: « أنى أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذى على وجه الأرض بقوتى العظيمة وبذراعى الممدودة وأعطيتها لمن حسن فى عينى » " إر 27: 5 ".. وهو الذى يعطى المطر: « ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة » " إر 5: 24 ".. « هل يوجد فى أباطيل الأمم من يمطر، أو هل تعطى السموات وابلا، أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه » " إر 8: 7 ".. كان إرميا يؤمن بالتدخل والنشاط الإلهى، فى كل شئ، فى حياة الجميع بصورة كاملة دائمة كل يوم!!. الخطية والدينونة والتوبة والخلاص أعلن اللّه لشعبه إرادته المقدسة، وقد أعلنها فى التوراة وعن طريق الكهنة والأنبياء، وكان المطلوب من إسرائيل أن يخضع لهذه الإرادة الإلهية ويتمسك بها: «هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار.. بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر: بأنه يفهم ويعرفنى أنى أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا ً فى الأرض لأنى بهذه أسر يقول الرب » " إر 9: 23، 24 " وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد قواعد أدبية أو خلقية، بل هى أوامر إلهية أعطاها اللّه إفصاحاً عن طبيعته وكمالاته الإلهية، وهو لهذا يسر بها، فخروج شعبه عنها، أو خروج الإنسان عنها، هو الضياع بعينه: « هل بدلت أمة آلهة وهى ليست آلهة. أما شعبى فقد بدل مجده بما لا ينفع » " إر 2: 11 "..، وهو السير وراء الباطل: « هكذا قال الرب ماذا وجد فى اباؤكم من جور حتى ابتعدوا عنى وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً " إر 2: 5 "، وهو الشرود والنسيان: « لماذا قال شعبى قد شردنا لانجئ إليك بعد. هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها. أما شعبى فقد نسينى أياماً بلا عدد » " إر 2: 31، 32 " وهو الأعوجاج: « لأنهم عوجوا طريقهم» " إر 3: 21 ".. وهو الزنا: « لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية » " إر 2: 20 ".. « حقاً أنه كما تخون الامرأة قرينها هكذا خنتمونى يا بيت إسرائيل يقول الرب » " إر 3: 20 "، وهو المرض: « ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » "إر 3: 22 "، والدينونة الواقعة على الشعب، والعقوبة القاسية، لأن الخطية تمكنت منهم وتغلغلت فى حياتهم، وأصبحوا كأتان الفرا التى فى شهوتها تستنشق الريح " إر 2: 24 ".. أو فى الصورة الأخرى: « هل يغير الكوشى جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر » " إر 13: 13 ". « سمعاً سمعت أفرايم ينتحب. أدبتنى فتأدبت كعجل غير مروض. توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى. لأنى بعد رجوعى ندمت، وبعد تعلمى صفقت على فخذى. خزيت وخجلت لأنى حملت عار صباى. هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر، لأنى كلما تكلمت به أذكره بعد ذكراً، من أجل ذلك حنت أحشائى إليه. رحمة أرحمه يقول الرب » " إر 31: 18 - 20 " كان إرميا نبى الدموع، ولن يعرف العالم مرة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسى فى كل العصور،... لكنه لم يعرف واعظاً، وكاتباً، وراثيا مرة أخرى كإرميا، وإذا كانت القديسة تريزا قد قالت: إن الدموع تكسب كل شئ،... فإن دموع إرميا التى بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخربة، إلا أنها، - ويا للعجب - لم تنفد إلى الآن، فقد تحول رأسه فعلاً إلى ماء لا يكف عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوعاظ منها عبرة ومثالا وهم يبكون على قتلى الخطية نهاراً وليلاً فى الطريق المنحدر إلى الضياع الأبدى، والعذاب والتعاسة، فى جهنم التى كتب على بابها دانتى فى الكوميديا الإلهية: « أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!.. »
المزيد
11 نوفمبر 2020

العولمة: فوائدها وتأثيرها وأضرارها

العولمة هي انفتاحنا على باقي بلاد العالم, وانفتاحها هي علينا, وكسر الحواجز الفاصلة مع احتفاظنا على قدر الإمكان بما للشرق من مبادئ وقيم وطبيعي إننا لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن العالم ونصبح كجزيرة منفردة بذاتها في المحيط. فالعالم الآن قد صار مختلطًا وممتزجًا, بحيث أنه في تفصيلات حياته يأخذ ويعطى وليس العولمة جديدة عليه, بحيث يمكن قبولها أو رفضها. فقدت بدأت فعلًا. والمهم الآن هو ما مدى الانتشار الذي يُسمح به لها؟ وما مدى الفائدة العائدة منه أو الضرر. أول انتشار هو عالمية الأخبار: فقد أصبحت أخبار كل جهات العالم متداولة, وفي معرفة كل ما يريد. وذلك عن طريق الصحف والإذاعة والتلفزيون وكثرة الفضائيات التي انتشرت وباقي وسائل الإعلام. بحيث يمكن لأي شخص أن يستخدم الانترنت مثلًا, ويستخرج ما يشاء من المعلومات والأخبار, عن أي بلد, أو أي شخص, أو أي علم. ويعرف بذلك تفاصيل التفاصيل, بلا مانع ومع ما في هذا الأمر من فائدة, إلا أن له أضرارًا فالانترنت ينشر كل شيء, ما ينفع وما يضر, ينشر الصدق وكذلك الكذب والأخبار المبالغ فيها. وكل من يريد أن يسجل فيه منهجه وفكره. فتجد فيه الهجوم والدفاع, والهجوم المضاد. ومن يأخذ كل تسجيلات الانترنت كقضية ثابتة, إنما يشوش أفكاره. فيحتاج الأمر إلى فحص وإلى تحقيق, ومقارنة الأخبار. وليس هذا بإمكان الكل. الأمر الثاني في العولمة هو انتشار العلم بكل فروعه: لم يعد العلم حكرًا على بلد معين, أو عالم محدد بالاسم, إنما هو للكل. فعلوم الطب والصيدلة والدواء وطرق العلاج أصبحت متداولة بين باقي الشعوب, سواء عن طريق البعثات العلمية, أو ما ينشر عنها في الكتب أو المجلات العلمية. وينطبق هذا أيضًا على ما ينشر عنها في الكتب أو المجلات العلمية. وينطبق هذا أيضًا على كافة العلوم من هندسة وزراعة واقتصاد وغير ذلك وكل هذا مفيد ونافع. وعلى كل دولة أن تنتفع بما وصلت إليه باقي الدول من حضارة ورقي وتقدم. ولا تتخلف عن الركب. من الأمور النافعة في العولمة أيضًا كافة المخترعات المفيدة: فبعد أن تخطينا زمن اختراع الطائرات ووسائل الميديا Media, بدأ انتشار الريكوردر, والكمبيوتر, وتليفون السيارة, والتليفون المحمول, وأدوات التصوير الحديثة, والفاكس, وغير ذلك من المخترعات في مجال الهندسة, والنقل, والريّ بالرش, وأنواع من الماكينات, ووسائل البناء الحديثة. وكل ذلك لم يكن معروفًا من قبل. ونشرته العولمة, حتى إننا نجد في أمريكا نفسها سيارات يابانية, وصناعات دقيقة من الصين ومن وكوريا.وعن طريق العولمة بدأ أيضًا استخدام الذرة, وتخصيب اليورانيوم Uranium. وهنا تبدو الخطورة في تنافس كثير من الدول على إنتاج القنبلة الذرية, والصواريخ الموجهة البعيدة المدى, وباقي أصناف الأسلحة الفتاكة, المهلكة للشعوب والحضارات وإن كانت العولمة باختراعاتها, كان من نتائج ذلك تسهيل كل أنواع الاتصالات. فلعل من أضرار ذلك سوء الاستخدام سواء من جهة الأسرار أو الأخبار أو بعض أمور الأمن. وحتى الأطفال حاليًا ينشغلون بالكمبيوتر والانترنت كلون من التسلية وحب الاستطلاع. ويكون لذلك ثأثيره على تحصيلهم الدراسي, بل وعلى أخلاقهم أيضًا, إذ يفتح أذهانهم على أمور تضرهم, أو ينشغلون بروايات وأفلام جنسية تثيرهم وتتعبهم. أو عن طريق هذه الاتصالات السهلة يقعون في علاقات معينة وتتفتح أمامهم أبواب للانحراف ويرى جيل الانترنت والكمبيوتر أن آبائهم على درجة من الأمية إذ ليست لهم نفس معرفتهم ومقدار معلوماتهم. وهكذا لا يوجد تواصل بين الأجيال المتتابعة وإن كان العلم حاليًا في تطور للوصول إلى التليفون الذي ينقل الصورة أيضًا بين المتخاطبين, فما أسهل أن يكون لهذا الأمر ضرره أيضًا من حيث الخوض في خصوصيات من الخطر أن تُعرف... ومن تأثير العولمة أيضًا تطور الآلات: وعلى الرغم من فوائد النمو في صناعة الآلات, إلا أن القاعدة المعروفة هي أنه كلما ازداد استخدام الآلة, كلما ازدادت البطالة, إذ أن الآلة توفر عددًا كبيرًا من العمالة. وهذا له ضرره من الناحية الاجتماعية, وإن كان يفيد من جهة سرعة ووفرة الإنتاج. ولكنه يفيد الرأسمالية بوجه خاص..! وكمثال لذلك: بعد أن كان ريّ فدان من الأرض الزراعية يحتاج إلى ستة من الفلاحين, أصبح استخدام الري بالرش يلزمه حوالي ثلاثة عمال فقط لري عشرين فدانًا. ونفس الأمر في وسائل البناء والنقل... كان استخدام الآلة هو بدء الانقلاب الصناعي في أوروبا. وبكثرة استخدام الآلات انتشرت البطالة في أجزاء كثيرة من العالم. وبدأت تقوم الاصطدامات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال بقى أن نتكلم عن تأثير العولمة على الحضارة, وتفاعل الحضارات أو اصطدامها. وتأثيرها على الثقافة واللغة, وعلى المبادئ والأخلاقيات والقيم. وتأثيرها على الحرية والديموقراطية, وعلى الأسرة والمجتمع ووضع المرأة سياسيًا واجتماعيًا. وثأثيرها من جهة الإنجاب وبنوك الأعضاء, وموضوع الاستنساخ وتطوره, وموضوع الاستثمار, وكل ما يتعلق بالهجرة فإلى اللقاء في المقال المقبل, لنكمل حديثنا هذا, إن أحبت نعمة الرب وعشنا. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
10 نوفمبر 2020

تَذْكَارُ الأرْبَعَةُ الأَحْيَاءُ غَيْرُ المتَجَسِّدينُ

أربعة كائنات سماوية حية، لكل منها وجه ، تتشفع في جنس البشر وحيوانات البرية وحيونات الحقل وطيور السماء، في صورة (وجه أسد وثوَر وإنسان ونسر).كائنات قريبة من الله له المجد أكثر من سائر الروحانيين السمائيين... ويرى الآباء في هذة الوجوة إشارة إلى الأناجيل الأربعة التي تدخل بالنفس إلى الخلاص فتتمتع بالملكوت السماوي، لا كأمر خارج عنها بل من داخلها، وتصير هي مَقدِ سًا للرب، وأشبه بمركبة نارية حاملة الله القدوس فيها.هذة الكائنات السماوية الحية غير المتجسدة لها أجنحة؛ يسترون بها عيونهم من بهاء عظمة مجد الله... تتحرك في كل الاتجاهات حاملة للعرش الإلهي ولا ظهر لها بل كلها وجوه وأعين دائمة التطلع للعرش بلا انقطاع، في حضرة دائمة ولقاء لا ينقطع.إنهم الأربعة الأحياء يشفعون وينشرون تمجيدهم في أربعة أقصاء جهات المسكونة الأصلية في الخليقة لأطراف الدنيا كلها، وهم قرون المذبح الأربعة دائمو التشفع ونطق الكرامة على أجنحة الرياح، الرب هو إكليلهم وهم مركبته... يصيحون بلا سكوت قدوس قدوس قدوس الحي إلى أبد الآبدين.أصواتهم وحركتهم مرعبة كصوت مياه كثيرة وكصوت جيش يصيحون تسبحة الغلبة والخلاص ، مملوؤن أعينًا ومخز نًا للمعرفة ، متلألئين كالبرق ، قريبين من الحمل ، وتسبحةالثلاثة تقديسات هي غذاؤهم وشبعهم " الله الآب القدوس والابن الوحيد القدوس والروح القدس القدوس " .يعطون المجد والكرامة والشكر للجالس على العرش الحي إلي أبد الآبدين؛ بالتقديس المثلث لإلهنا من أجل قداسته وقدرته وأزليته وسرمديته المطلقة. بطلبات الأربعة كائنات الأمراء الذين لضابط الكل والمفسرين الذين لملكوت السموات المسبحين للثالوث حاملي الكراسي؛ الذين أعطاهم السلطان أن يطرحوا العدو... الحيوان الأول طرح العدو، والثاني نزع قوته، والثالث جرده من حُلته، أما الرابع أنزله من علو السماء. بطلباتهم يارب أنعم لنا بغفران خطايانا.. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
09 نوفمبر 2020

القيم الروحية فى حياة وتعاليم السيد المسيح (15) الوداعة

مفهوم الوداعة وعلاماتها + الوداعة هي والهدوء والوقار واللطف والبعد عن العنف.. الوداعة هى دماثة فى الأخلاق والوقار والسكينة والحلم . الوداعة تعنى الاتزان فى التفكير والقول والعمل والالتزام بالهدوء فى مختلف الظروف العامة ومواجهة المشكلات بروح الحلم والبساطة والوقار والاخلاق . ان الوداعة هى اقتداء بالسيد المسيح الذى تميز بالوداعة والتواضع والوقار ودعانا ان نتعلم منه { احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لاني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم }(مت 11 : 29).الوداعة هي بعد عنالغضب او الكراهية تشبها بالمسيح الذي لا يخاصم ولا يصيح ولايسمع أحد في الشوارع صوته. +الوداعة ثمرة من ثمار الروح القدس .. الروح القدس هو روح الوداعة والحكمة والقداسة ومن ثمارة الوداعة بعكس السلوك حسب شهوات الجسد { واعمال الجسد ظاهرة التي هي زنى عهارة نجاسة دعارة.عبادة الاوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب شقاق بدعة. حسد قتل سكر بطر وامثال هذه التي اسبق فاقول لكم عنها كما سبقت فقلت ايضا ان الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله.واما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول اناة لطف صلاح ايمان.وداعة تعفف} غلا 19:5-23 . عندما نحيا فى مخافة الله ومحبته ونسعى باجتهاد وصلاة ليعمل فينا فاننا نقتنى هذه الثمرة الطيبة التى بها بها نسمو ونربح من حولنا بالمحبة واللطف والهدوء. ومن خلال الوداعة والمسامحة يستطيع كل من يتعامل مع الإنسان أن يكتشف انه مسيحي، ليس بالاسم بل بالواقع العملي، لان المسيحية ليست ديانة تكتب في هوية الأحوال المدنية بل هي حياة يعيشها المؤمن الحقيقي، متسربلا بثوب العفة والطهارة واحتمال الآخرين .الوداعة هي سلاح قوي قادر أن يدخل القلوب ويغيرها لتكون رقيقة وممتزوجة بالطيبة أن الوداعة قوة خارقة قادرة أن تجعل من المرء حليما وحكيما، مع رؤسائه ومرؤوسيه . لا يتذمر ولا يقاوح اويجادل ولا يتذمر ولا يصاب بالكأبة أويواجه حتى الاساءة بالاساءة بل بالاحسان { لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير} (رو 12 : 21). + القساوة والكبرياء ونتائجهم السلبية.. اننا عندما ننظر حولنا ونرى النتائج المرة لقساوة القلب والغضب والعجرفة والكبرياء ندرك أهمية الوداعة . العنف لا يولد الا العنف ونحن لا نستطيع ان نطفئ نيران الكراهية بالكراهية بل بالحكمة والوداعة واحتمال نقائص الآخرين .ان القساوة تصنع مرضي نفسيين حاقدين على من حولهم مما يقود الى العنف وتفشى الجريمة وتبعد المحبة والسلام عن بيوتنا ومجتمعاتنا، والغضب ينتج عنه الخصام وعدم التفاهم والكراهية والكبرياء تولد الخصومات والنزاعات والحروب. اننا قد صرنا نعانى من مجتمع تسود فيه ثقافة العنف الذى يفتقد فيه الانسان الى الأمن والامان وتسودة شريعة الغاب والبقاء للاقوي باللسان او الذراع او السلاح اننا ان لم نواجه كحكماء هذه الظواهر المرضية بقوة الأخلاق والقانون والرفض الاجتماعى للعنف والكراهية والبلطجة سنجد انفسنا قد اصبحنا مجتمع بدائي متخلف ينحدر من هوة الى أخرى دون توقف اوعلاج . + الوداعة وترويض النفس والمكأفاة فى الارض والسماء .. لقد طوب السيد المسيح الوداعة { طوبى للودعاء لانهم يرثون الارض} (مت 5 : 5) الكلمة اليونانيّة هنا المترجمة (ودعاء) إنّما تستخدم لوصف الحيوانات المستأنسة، وكأن السيّد يطوّب طبيعتنا التي كانت قبلاً شرسة، وقد خضعت لله مروّضها، فتحوّلت إلى ألفة وحسن عشرة فى علاقتها مع الذات والغير والله بعدما كانت عنيفة صارت مروضة ، قد رُوِّضت غرائزها ودوافعها. أمّا المكافأة فهي أن ترث الأرض فبعدما كان شرسًا ومقاومًا للروح صارحتى الجسد الترابى خادمًا للروح ملتهبًا بنار الروح القدس.ولئلا تُفهم الوداعة كحياة خنوع أو ضعف قدّم السيّد نفسه مثالاً للوداعة، بقوله: {تعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب}، ليس لأنه كان محتاجًا إلى ترويض، بل بوداعته الطبيعيّة غير المكتسبة يُروِّضنا. يهبنا حياته فينا فتحمل وداعته داخلنا. العالم يظن أن الشخص الوديع يفقد الكثير بسبب خبث الأشرار ومكائدهم، لهذا أكّد السيّد أن المكافأة هي (ميراث الأرض). وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: أن الأرض هنا تُفهم بالمعنى الحرفي، بينما يظن أن الوديع يفقد ماله، يعد المسيح عكس ذلك، إنه لا يحثّنا بالبركات العتيدة فحسب بل وبالبركات الحاضرة أيضًا. لكن ما يقوله لا يعني أنه يحدّد المكافأة في الأمور الحاضرة، وإنما يربطها بالعطايا الأخرى أيضًا. ففي حديثه عن الأمور الروحيّة لا يستبعد الأمور الخاصة بالحياة الزمنيّة. + الوداعة لا تعنى الخمول او عدم الشجاعة .. أن البعض قد يفهم الوداعة فهما خاطئاً وكأن الوديع يبقى بلا شخصية ولا فاعلية، وكأنه جثة هامدة خاملة لا تتحرك . ان هذا فهم خاطئ للوداعة يتنافى مع تعليم الكتاب ومع سير الانبياء والاباء وكما يقول قداسة البابا شنوده الثالث( الحقيقة ان الوداعة لا تتعارض مع الشهامة والشجاعة والنخوة والحزم. الوديع يعرف ان { لكل شيء زمان و لكل امر تحت السماوات وقت} جا1:3. المهم ان يعرف الوديع كيف يتصرف ومتى ؟). يجب ان نعرف اذاً متى نكون طيبين ولطفاء فى حكمة وعندما يدعو الموقف الى الشهامة والشجاعة والحزم والشهادة للحق لابد ان نكون شجعان فى شهامة وكرم . ان امتناعنا عن التحرك للدفاع عن المظلوم والايتام والضعفاء ليس وداعة بل ضعف فى الشخصية ورخاوة فى الطبع ولا مبالاة نحو من حولنا . الاخلاق الكريمة والروحانية الحقة لا تعني التمسك بفضيلة دون الاخري بل تعنى التكامل والحكمة بين الفضائل . ففضيلة الوداعة لا يجوز لها أن تعطل الفضائل الاخرى. ابراهيم ابو الاباء كمثال .. تميز بالوداعة وطيبة القلب ومعها الشجاعة والشهامة .. رايناه وديع، طيبا مع الجميع ومع لوط ابن اخاه وكان هو العم الاكبر الذى اتى بلوط معه من اور العراق وكان يدعوه اخاه وعندما تخاصم رعاة لوط مع رعاة ابراهيم تكلم فى وداعة مع لوط لحل المشكلة بل جعل لوط يختار الافضل من الارض لانه كان عف النفس طيب القلب {ولوط السائر مع ابرام كان له ايضا غنم وبقر وخيام. ولم تحتملهما الارض ان يسكنا معا اذ كانت املاكهما كثيرة فلم يقدرا ان يسكنا معا. فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي ابرام ورعاة مواشي لوط وكان الكنعانيون والفرزيون حينئذ ساكنين في الارض.فقال ابرام للوط لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لاننا نحن اخوان.اليست كل الارض امامك اعتزل عني ان ذهبت شمالا فانا يمينا وان يمينا فانا شمالا } تك5:13-9. ولكن عندما قام جيش من شمال البلاد بالاغارة على سدوم وسبوا لوط ابن اخاه واسرته وذهبوا رايناه شجاعا شهما { فاتى من نجا واخبر ابرام العبراني وكان ساكنا عند بلوطات ممرا الاموري اخي اشكول واخي عانر وكانوا اصحاب عهد مع ابرام. فلما سمع ابرام ان اخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاث مئة وثمانية عشر وتبعهم الى دان. وانقسم عليهم ليلا هو وعبيده فكسرهم وتبعهم الى حوبة التي عن شمال دمشق.واسترجع كل الاملاك واسترجع لوطا اخاه ايضا واملاكه والنساء ايضا والشعب} تك 13:14-17. ان الرب عاقب عالى رئيس الكهنة قديماً لانه لم يكن حازما مع اولاده عندما سمع بخطاياهم البشعة ولم يردعهم {فقال صموئيل تكلم لان عبدك سامع. فقال الرب لصموئيل هوذا انا فاعل امرا في اسرائيل كل من سمع به تطن اذناه. في ذلك اليوم اقيم على عالي كل ما تكلمت به على بيته ابتدئ واكمل. وقد اخبرته باني اقضي على بيته الى الابد من اجل الشر الذي يعلم ان بنيه قد اوجبوا به اللعنة على انفسهم ولم يردعهم. ولذلك اقسمت لبيت عالي انه لا يكفر عن شر بيت عالي بذبيحة او بتقدمة الى الابد} 1صم 10:3-14. + الوداعة وفن التعامل مع الآخرين.. الوداعة تجعل الإنسان ناجحا فى علاقاته مع الآخرين ومحبوباً منهم فهو لا يميل الى العنف او الانتقاد بل يحترم الاخرين ويقدرهم ولا يقيم نفسه قاضيا على الغير او يتدخل فيما لا يعنيه وان طلبوا تدخله يُصلح الامور بهدوء ورقة دون ان يجرح مشاعر الغير. يجعل الاخرين يحترمون رأيه دون ان يفرضه عليهم ولا يغضب على الاخرين حتى لو صدرت منهم الفاظ جارحه بل يعالج الامور بحكمة . الشخص الوديع تراه باشا باسما، لا يعبس فى وجه الاخرين ويعلم ان وجهه ليس ملكه فهو لايراه الا فى المرآة لذلك تراه يرحب بابتسامة صادقة بالغير . واذ يعلم ان الكلام اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط ، فانه يقدم كلاما طيباً للخير من قلب محب للاخوة . الوديع يعرف ان القساوة والغضب ضعف وليس قوة فيعمل بالوداعة على ارضاء الغير {فيجب علينا نحن الاقوياء ان نحتمل اضعاف الضعفاء ولا نرضي انفسنا. فليرض كل واحد منا قريبه للخير لاجل البنيان. لان المسيح ايضا لم يرض نفسه بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت علي. لان كل ما سبق فكتب كتب لاجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء. وليعطكم اله الصبر والتعزية ان تهتموا اهتماما واحدا فيما بينكم بحسب المسيح يسوع} رو 1:15-5. + صفات الشخص الوديع.. الشخص الوديع يتصف بالبشاشة والمحبة والهدوء فى الملامح والمشى والتصرفات والصمت الحكيم والتواضع امام الله والناس . يثق فى ثقة ببساطة فى وعود الله وانه صانع الخيرات الرحوم والقادر يخرجه من كل ضيقة وهو مسالم وهادئ متزن فى حله للمشكلات ومواجهته للتجارب والضيقات وفى تعامله مع الآخرين يتميز باللطف ودماثة الخلق ويتحمل ضعفات الضعفاء فى حكمة ودون ضجر اوتذمر ويتميز بسهولة التعامل معه بعكس الانسان القاسي او المتكبروالملتوي الخبيث .الوديع شخص قوى شجاع يضبط نفسه وانفعالته واقواله وتصرفاته حتى وسط الجو العاصف والخصام . الوداعة اذا فضيله حلوة نحتاج اليها فى حياتنا الشخصية والاسرية وفى مواجهة التحديات التى تواجهنا لنتجاوزها فى وداعة وحكمة وبساطه القديسين . وداعة السيد المسيح وتعاليمه المقدسة + تكلمت النبؤات فى العهد القديم عن المسيح الوديع.. ومجئيه الى العالم وديع وهادى لكنه لا يكل او ينكسر حتى يضع الحق فى الارض {وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم.لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ الى الامان يخرج الحق.لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته} اش 1:42-4. لقد راي زكريا النبى دخوله الى اورشليم فى وداعة وتواضع {ابتهجي جدا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت اورشليم هوذا ملكك ياتي اليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتانْ} (زك 9 : 9). وبهذه الوداعة { روح السيد الرب علي لان الرب مسحني لابشر المساكين ارسلني لاعصب منكسري القلب لانادي للمسبيين بالعتق وللماسورين بالاطلاق.لانادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لالهنا لاعزي كل النائحين.لاجعل لنائحي صهيون لاعطيهم جمالا عوضا عن الرماد ودهن فرح عوضا عن النوح ورداء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة فيدعون اشجار البر غرس الرب للتمجيد} اش 1:61-3. لهذا راينا السيد المسيح في بدء خدمته دخل الى مجمع الناصرة وقال لهم اليوم تم هذا المكتوب على مسامعكم {وجاء الى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرا. فدفع اليه سفر اشعياء النبي ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه.روح الرب علي لانه مسحني لابشر المساكين ارسلني لاشفي المنكسري القلوب لانادي للماسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر وارسل المنسحقين في الحرية. واكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلمه الى الخادم وجلس وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة اليه.فابتدا يقول لهم انه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه} لو 16:4-22. + بالوداعة عمل وعلم .. كان يجول فى المدن والقرى وبين الحقول وفى الطرقات وفى المجامع والهيكل ، يعلم ويشفى كل مرض وضعف فى الشعب ويمحو الذنب بالتعليم ويشبع الجموع ويشفق على الجموع وعلى كل رجل وامراة وطفل {و لما راى الجموع تحنن عليهم اذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها }(مت 9 : 36). وعندما بدء العظة على الجبل رايناه يطوب الودعاء والمساكين والمضطهدين {ولما راى الجموع صعد الى الجبل فلما جلس تقدم اليه تلاميذه . ففتح فاه وعلمهم قائلا. طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى لانهم يتعزون. طوبى للودعاء لانهم يرثون الارض. طوبى للجياع والعطاش الى البر لانهم يشبعون. طوبى للرحماء لانهم يرحمون. طوبى للانقياء القلب لانهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من اجل البر لان لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم اذا عيروكم و طردوكم و قالوا عليكم كل كلمة شريرة من اجلي كاذبين.افرحوا وتهللوا لان اجركم عظيم في السماوات فانهم هكذا طردوا الانبياء الذين قبلكم} مت 1:5-12. دعانا الى تعلم الوداعة والتواضع منه فنستريح {تعالوا الي يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وانا اريحكم.احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لاني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.لان نيري هين وحملي خفيف} مت 28:11-30. + وداعته فى التعامل مع الاطفال.. كان وديعا مع الأطفال محباً لهم يريد ان يشجعهم وينميهم ويجعلهم مثالاً لنا فى التواضع والوداعة والبساطة {فقدموا اليه الاطفال ايضا ليلمسهم فلما راهم التلاميذ انتهروهم. اما يسوع فدعاهم و قال دعوا الاولاد ياتون الي ولا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت الله. الحق اقول لكم من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله} لو 15:18-17. وعندما سالوه عن من هو الاعظم فى الملكوت قال لهم ان يتعلموا من الاطفال التواضع والوداعة والبساطة ومن وداعته قال لنا من يقبل الاطفال فكانه قبلني { في تلك الساعة تقدم التلاميذ الى يسوع قائلين فمن هو اعظم في ملكوت السماوات.فدعا يسوع اليه ولدا و اقامه في وسطهم. وقال الحق اقول لكم ان لم ترجعوا وتصيروا مثل الاولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الاعظم في ملكوت السماوات .ومن قبل ولدا واحدا مثل هذا باسمي فقد قبلني. ومن اعثر احد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له ان يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر} مت 1:18-6. + كما رفع من شأن المرأة واحترمها .. ودافع عن الخطاة منهن محرراُ اياهم من قيود الخطية والظلم الإجتماعى فعندما امسك شيوخ اليهود بامرأة فى ذات الفعل تركوا الرجل وصبوا جام غضبهم على المرأة وارادوا ان يروا ما هو حكمه عليها، رايناه يدافع عنها ويحررها من ايديهم {وقدم اليه الكتبة والفريسيون امراة امسكت في زنا ولما اقاموها في الوسط. قالوا له يا معلم هذه المراة امسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس اوصانا ان مثل هذه ترجم فماذا تقول انت . قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه واما يسوع فانحنى الى اسفل وكان يكتب باصبعه على الارض.ولما استمروا يسالونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها اولا بحجر. ثم انحنى ايضا الى اسفل وكان يكتب على الارض. واما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدا فواحدا مبتدئين من الشيوخ الى الاخرين وبقي يسوع وحده والمراة واقفة في الوسط. فلما انتصب يسوع ولم ينظر احدا سوى المراة قال لها يا امراة اين هم اولئك المشتكون عليك اما دانك احد. فقالت لا احد يا سيد فقال لها يسوع ولا انا ادينك اذهبي ولا تخطئي ايضا} يو 3:8-11. ومع المرأة السامرية رايناه يرفع العداوة بين اليهود والسامريين وبين المراة والرجل ويخاطبها فى ود ويشجعها على التوبة ومعرفة وعبادة الله بالروح والحق. + وديعاً مع الخطاة والعشارين والمنبوذين .. كان فى حب يدافع عن الخطاة والعشارين ويقدم لهم المحبة والوداعة فاتحا لهم باب الرجاء والخلاص {لان ابن الانسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك. ماذا تظنون ان كان لانسان مئة خروف وضل واحد منها افلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال. وان اتفق ان يجده فالحق اقول لكم انه يفرح به اكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل.هكذا ليست مشيئة امام ابيكم الذي في السماوات ان يهلك احد هؤلاء الصغار} مت 11:18-14. كما رايناه يشفق علي المرضى بالبرص الذى كان يعتبر رمزا للنجاسة والنبذ من المجتمع { اذا ابرص قد جاء وسجد له قائلا يا سيد ان اردت تقدر ان تطهرني.فمد يسوع يده و لمسه قائلا اريد فاطهر وللوقت طهر برصه. فقال له يسوع انظر ان لا تقول لاحد بل اذهب ار نفسك للكاهن وقدم القربان الذي امر به موسى شهادة لهم} مت 2:8-4. ومع أعمى اريحا الذى كان يتسول على الطريق، راينا الجموع تزجر الاعمي ان يسكت لكن السيد المسيح يذهب اليه فى محبة ووداعة ويشفيه {وجاءوا الى اريحا و فيما هو خارج من اريحا مع تلاميذه وجمع غفير كان بارتيماوس الاعمى ابن تيماوس جالسا على الطريق يستعطي.فلما سمع انه يسوع الناصري ابتدا يصرخ ويقول يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره كثيرون ليسكت فصرخ اكثر كثيرا يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وامر ان ينادى فنادوا الاعمى قائلين له ثق قم هوذا يناديك.فطرح رداءه و قام وجاء الى يسوع. فاجاب يسوع وقال له ماذا تريد ان افعل بك فقال له الاعمى يا سيدي ان ابصر .فقال له يسوع اذهب ايمانك قد شفاك فللوقت ابصر وتبع يسوع في الطريق} مر 46:10-52. + وداعته مع مقاوميه واعدائه.. راينا السيد المسيح فى وداعته يعمل علي أقناع المقاومين له بحجته ومنطقه الرزين فى حكمة { ثم انصرف من هناك و جاء الى مجمعهم. واذا انسان يده يابسة فسالوه قائلين هل يحل الابراء في السبوت لكي يشتكوا عليه. فقال لهم اي انسان منكم يكون له خروف واحد فان سقط هذا في السبت في حفرة افما يمسكه ويقيمه. فالانسان كم هو افضل من الخروف اذا يحل فعل الخير في السبوت. ثم قال للانسان مد يدك فمدها فعادت صحيحة كالاخرى} مت 9:12-13. رايناه يدافع عن تلاميذه عندما جاعوا فى السبت واخذوا يلتقطون السنابل ويفركوها بايديهم وياكلونها وكان هذا للفريسيين بمثابة كسراً لقدسية السبت {في ذلك الوقت ذهب يسوع في السبت بين الزروع فجاع تلاميذه و ابتداوا يقطفون سنابل وياكلون. فالفريسون لما نظروا قالوا له هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت. فقال لهم اما قراتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه. كيف دخل بيت الله واكل خبز التقدمة الذي لم يحل اكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط. او ما قراتم في التوراة ان الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم ابرياء.و لكن اقول لكم ان ههنا اعظم من الهيكل.فلو علمتم ما هو اني اريد رحمة لا ذبيحة لما حكمتم على الابرياء. فان ابن الانسان هو رب السبت ايضا} مت 1:12-8. وعندما اتهموه انه برئيس الشياطين يخرج الشياطين لم يغضب عليهم بل كان حزينا على غلاظة قلوبهم وناقشهم بالمنطق والحجة {ثم دخل ايضا الى المجمع و كان هناك رجل يده يابسة. فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت لكي يشتكوا عليه.فقال للرجل الذي له اليد اليابسة قم في الوسط.ثم قال لهم هل يحل في السبت فعل الخير او فعل الشر تخليص نفس او قتل فسكتوا.فنظر حوله اليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم وقال للرجل مد يدك فمدها فعادت يده صحيحة كالاخرى. واما الكتبة الذين نزلوا من اورشليم فقالوا ان معه بعلزبول وانه برئيس الشياطين يخرج الشياطين.فدعاهم وقال لهم بامثال كيف يقدر شيطان ان يخرج شيطانا. وان انقسمت مملكة على ذاتها لا تقدر تلك المملكة ان تثبت. وان انقسم بيت على ذاته لا يقدر ذلك البيت ان يثبت. وان قام الشيطان على ذاته وانقسم لا يقدر ان يثبت بل يكون له انقضاء.لا يستطيع احد ان يدخل بيت قوي وينهب امتعته ان لم يربط القوي اولا وحينئذ ينهب بيته} مر1:3-5،22-27. + السيد المسيح يحذرنا من الغضب .. ان السيد المسيح يدعونا الى ان نتعلم منه التواضع والوداعة ويحذرنا من الغضب لخطورته { قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم.واما انا فاقول لكم ان كل من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لاخيه رقا يكون مستوجب المجمع و من قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم} مت 21:5-22. ان الغضب يفقدنا حلمنا ووداعتنا ويقودنا الى فقد أعصابنا وقد يتطور ويقود الى الكراهية والحقد والجريمة { الرجل الغضوب يهيج الخصام و الرجل السخوط كثير المعاصي} (ام 29 : 22). ومع الغضب تكثر الاخطاء والخطايا لهذا قال القديس يعقوب الرسول { لان غضب الانسان لا يصنع بر الله} (يع 1 : 20). وينبهنا الكتاب قائلا{ لا تسرع بروحك الى الغضب لان الغضب يستقر في حضن الجهال} (جا 7 : 9). من اجل هذا قال القديس اسحق السريانى : ( ان الذى يصوٌم فمه عن الغذاء ولا يصٌوم قلبه عن الغضب والحقد ولسانه عن الأباطيل فصومه باطل فصلاة الحقود كبذار وقعت على الصخر، فالحقود يستثمر فى صلاته ما يستثمره الزارع فى البحر من الحصاد). + الوداعة والحزم والشجاعة .. لم تكن وداعة السيد المسيح ضعفا او افتقاراً للشجاعة بل شجاعة وقف أمام رؤساء الكهنة ومجمع السندريهم وامام هيرودس وبيلاطس معترفاً الاعتراف الحسن {في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له اخرج واذهب من ههنا لان هيرودس يريد ان يقتلك. فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب ها انا اخرج شياطين واشفي اليوم وغدا وفي اليوم الثالث اكمل. بل ينبغي ان اسير اليوم وغدا وما يليه لانه لا يمكن ان يهلك نبي خارجا عن اورشليم. يا اورشليم يا اورشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها كم مرة اردت ان اجمع اولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا.هوذا بيتكم يترك لكم خرابا والحق اقول لكم انكم لا ترونني حتى ياتي وقت تقولون فيه مبارك الاتي باسم الرب} لو 31:13-35. ورايناه قبل الصلب فى شجاعة وغيرة روحيه يطهر الهيكل من الباعة والصيارفة الذين حولوا بيت الصلاة الى مغارة لصوص {وجاءوا الى اورشليم ولما دخل يسوع الهيكل ابتدا يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام.ولم يدع احدا يجتاز الهيكل بمتاع.وكان يعلم قائلا لهم اليس مكتوبا بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الامم وانتم جعلتموه مغارة لصوص.وسمع الكتبة ورؤساء الكهنة فطلبوا كيف يهلكونه لانهم خافوه اذ بهت الجمع كله من تعليمه} مر15:11-18. وعلى الصليب كان كحمل يرفع خطايا البشرية لم يكن ضعيفا بل راينا وديعا يطلب من الآب السماوى المغفرة لصالبيه {فقال يسوع يا ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون } (لو 23 : 34). + الرسل القديسين وحياتهم وتعليمهم بوداعة.. سار الاباء الرسل على نهج معلمهم الصالح بوداعة ودعوا اليها فها هوذا القديس بطرس يوصينا بالوداعة واللطف والكلام الحسن حتى مع مبغضينا {والنهاية كونوا جميعا متحدي الراي بحس واحد ذوي محبة اخوية مشفقين لطفاء.غير مجازين عن شر بشر او عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين انكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة. لان من اراد ان يحب الحياة ويرى اياما صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه ان تتكلما بالمكر. ليعرض عن الشر ويصنع الخير ليطلب السلام ويجد في اثره.لان عيني الرب على الابرار واذنيه الى طلبتهم ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر.فمن يؤذيكم ان كنتم متمثلين بالخير. ولكن وان تالمتم من اجل البر فطوباكم واما خوفهم فلا تخافوه و لا تضطربوا.بل قدسوا الرب الاله في قلوبكم مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسالكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف.ولكم ضمير صالح لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يخزون في ما يفترون عليكم كفاعلي شر.لان تالمكم ان شاءت مشيئة الله وانتم صانعون خيرا افضل منه وانتم صانعون شرا} 1بط 8:3-17. وعلى ذات الدرب عمل وعلم القديس بولس الرسول { فاطلب اليكم انا الاسير في الرب ان تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها.بكل تواضع ووداعة وبطول اناة محتملين بعضكم بعضا في المحبة. مجتهدين ان تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام.جسد واحد وروح واحد كما دعيتم ايضا في رجاء دعوتكم الواحد.رب واحد ايمان واحد معمودية واحدة} اف 1:4-5. فكمختاري الله القديسين يكون لنا أحشاء رافات ووداعة. هكذا علينا ان نسير فى طريق الفضيلة والتقوى لنمسك بالحياة الابدية التى اليها دعينا {هذا واتبع البر والتقوى والايمان والمحبة والصبر والوداعة. جاهد جهاد الايمان الحسن وامسك بالحياة الابدية التي اليها دعيت ايضا واعترفت الاعتراف الحسن امام شهود كثيرين} 1تيم 11:6-12. كيف نقتنى الوداعة ... + السيد المسيح قدوتنا.. نحتاج ان نجعل السيد المسيح قدوة لنا فى وداعته وتواضعه واحتماله وصبره { لانكم لهذا دعيتم فان المسيح ايضا تالم لاجلنا تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته. الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر.الذي اذ شتم لم يكن يشتم عوضا و اذ تالم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل.الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر الذي بجلدته شفيتم.لانكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الان الى راعي نفوسكم واسقفها} 1بط 21:2-25 . اننا يجب ان نفكر فى مختلف مواقف الحياة بماذا كان يرد او كيف كان يتصرف السيد المسيح لو كان مكاننا؟ { مع المسيح صلبت فاحيا لا انا بل المسيح يحيا في فما احياه الان في الجسد فانما احياه في الايمان ايمان ابن الله الذي احبني واسلم نفسه لاجلي} (غل 2 : 20). بهذا نغلب العالم ونقتنى الوداعة والحكمة { لانه من عرف فكر الرب فيعلمه و اما نحن فلنا فكر المسيح }(1كو 2 : 16). + اللطف والبعد عن القسوة ... اننا نحتاج الى الوداعة والرقة والبشاشة والشفقة والترفق بالآخرين والبعد عن الخشونة والقسوة والتعامل الإنسانى الذى يتسم باحترام الأخر وقبوله والتعاون مع الغير فى حل المشكلات {كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين} (أف 2:4) . فهذه هى وصية الكتاب المقدس لنا { فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين احشاء رافات ولطفا وتواضعا ووداعة وطول اناة} (كو 3 : 12). علينا ان نسعى لاكتشاف النقاط المشتركة والبيضاء فى كلام وتصرفات وسلوك الاخرين ونبنى علينا ونعمل على كسب قلوبهم ونشجعهم على السلوك الحسن فنحن حين نريد ان نجنى العسل لا يجب علينا ابداً ان نحطم خلية النحل بل يجب علينا ان نغذى النحل ونزرع له الورود حتى وان تعرضنا للسعاته فى بعض الاحيان . فاننا لا ننكر ان الوديع قد يعانى من الظواهر السلبية حوله ولكن يحتمل الآخرين كمرضى فى حاجة الى علاج وليس كعدوى نبتعد عنها بسلبية وبغضة تذيد من تفاقم المرض. + التواضع ولوم النفس.. الانسان المتواضع لا يغضب من أحد ولا يغضب أحد ، تراه يلقى بالملامة على نفسه . وان أخطأ اليه أحد يسامحه ويقول فى داخل نفسه انى استحق ذلك بسبب خطاياى فيجد نعمة فى عين الله والناس { كذلك ايها الاحداث اخضعوا للشيوخ وكونوا جميعا خاضعين بعضكم لبعض وتسربلوا بالتواضع لان الله يقاوم المستكبرين واما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه.ملقين كل همكم عليه لانه هو يعتني بكم. اصحوا واسهروا لان ابليس خصمكم كاسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الايمان عالمين ان نفس هذه الالام تجرى على اخوتكم الذين في العالم.واله كل نعمة الذي دعانا الى مجده الابدي في المسيح يسوع بعدما تالمتم يسيرا هو يكملكم ويثبتكم ويقويكم ويمكنكم} 1بط 5:5-10. اننا سنقف أمام الديان العادل لنعطى حسابا عن أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا من اجل هذا نحرص ان لا نذيد أثقالنا بالكبرياء والغضب بل بالمحبة نستر كثرة من الخطايا ونستثمر ربح جزيل فى مسامحة المخطئين الينا{ فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي }(مت 6 : 14). + الجواب اللين فى حكمة .. يجب ان نحرص على هدوء أعصابنا وافكارنا واذا ما واجهنا انسان غاضب علينا او على من حولنا نعمل على تهدئته بالكلام اللين { الجواب اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط (ام 15 : 1) . وان لم نستطيع فلنبتعد عن مصادقة الغضوبين او نبعد عنهم وقت غضبهم ان أمكن {لا تستصحب غضوبا ومع رجل ساخط لا تجئ }(ام 22 : 24). قد نحتاج الى الحكمة فى الرد فمع البعض يكون الصمت علاج ومع الاخرين يكون شرح الأمور وتفسيرها العلاج الناجع ومع البعض يكون أخذ الامور بهدوء والرد بفكاهة او ابتسامة او اعتذار هو الذى يلطف الجو ويهدئ المشاعر . + تذكر نتائج عدم الوداعة والغضب... يجب علينا ان نتذكر فى ساعات الغضب ، النتائج السيئة التي تترتب عليه ونضبط ذواتنا. نحن فى غضبنا نقول كلاما صعباً نندم عليه وليس من السهل علاجه واصلاحه وقد يتطور الغضب الى ما هو اسوء من خصام وأيذاء واعتداء على الغير وعلينا وتحطيم وأفساد للعلاقات . كما ان الغضب هزيمة للانسان الروحى وأنتصار لشيطان الغضب ويجلب الامراض ويفقدنا أبديتنا . لكن ليس معنى هذا ان نهرب من التعامل فى انطواء بل نهدء ونعمل على نقاوة قلوبنا وفى اوقات الهدوء نعاتب الاخرين فى محبة ووداعة وأعتذار على الاخطاء سواء منا او من الغير فنحن نهدف الى نمو المحبة وحسن المعشر وتقوية الروابط الاخوية فى حكمة ونمو فى حياة الفضيلة والبر. الوداعة من أقوال مار افرام السرياني مغبوط بالحقيقة مغبوط الإنسان الحاوي الوداعة لأن الرب المخلص القدوس يضمن له الارض والسماء قائلاً : مغبوطون الودعاء فإنهم يرثون ملكوت السموات، ويرثون الأرض. فماذا يكون أعظم من هذا التطويب ؟ ماذا يكون أعلى من هذا الوعد ؟ ماذا يكون أبْهى من هذا السرور ؟ أن يرث إنسان أرض الفردوس. فلذلك يا أخوتي إذ قد سمعتم فضل سمو هذا الوعد وجسامة وقدر ثروته فبادرا أن تقتنوا الوداعة ، وسارعوا إلى بَهاء الفضيلة إذ قد سمعتم شرفها فتخشعوا واحرصوا بكافة قوتكم أن ترثوا هذه الأرض لئلا نبكي بكاءً مراً متندمين حيث لا ينفع الندم ، إذ قد سمعتم تطويب الوداعة فبادروا إليها، أسمعتم ما قال عنها إشعياء النبي الصادق بالروح القدس: إلى من أنظر قال الرب إلا إلى الوديع الهادئ المرتعد من أقوالي. أترى لا يجب أن نتعجب من هذا الوعد، لأنه ماذا يكون أشرف من هذه الكرامة ؟ فاحذروا يا أخوتي أن يسقط أحدكم من هذا التطويب ومن الفرح والابتهاج الذي لا يحصى، أتضرع إليكم أن تبادروا متسارعين لتقتنوا الوداعة . فإن الوديع تزين بكل عمل صالح. الوديع إن سُبَ فرح، إن حزن شكر، يُسَكن غيظ الساخطين بالمحبة، يلبث متأدباً هادئاً في الخصومة، يبتهج في الأسهار، يفرح بالتواضع، لا يستعلي ذهنه بتقويماته، لا يتحير، يستعمل السكوت لدى الكل، يتعبد في كل طاعة، مستعد لكل عمل نجيب، في كل شئ ممدوح من الجماعة، خالٍ من الرياء. القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
08 نوفمبر 2020

رفع البخور للقداس الإلهي

رفع البخور: هي مقدمة للقداس من خلال رفع بخور عشية وباكر، ولما نقرأ في: - (خر 30: 1 – 10): وتصنع مذبحًا لإيقاد البخور وتجعله قدام الحجاب الذي أمام تابوت الشهادة.. فيوقد عليه هارون بخورًا عطرًا كل صباح.. بخور دائمًا أمام الرب في أجيالكم.. هي مقدمة للقداس من خلال رفع بخور عشية وباكر، ولما نقرأ في: - (خر 30: 1 – 10): وتصنع مذبحًا لإيقاد البخور وتجعله قدام الحجاب الذي أمام تابوت الشهادة.. فيوقد عليه هارون بخورًا عطرًا كل صباح.. بخور دائمًا أمام الرب في أجيالكم.. قدس أقداس هو للرب. - (خر 30: 34 – 36): وقال الرب لموسى خذ لك أعطارًا ميعه وأظفارًا وقنة عطره ولبانًا تكون أجزاء متساوية فتصنعه بخورًا عطرًا صنعه العطار مملحًا نقيًا مقدسًا. - (خر 30: 36 – 38): تستحق منه ناعمًا وتجعل منه قدام الشهادة في خيمة الاجتماع حيث اجتمع بك قدس أقداس يكون عندكم وبالبخور الذي تضعه علي مقاديره لا تضعوا لأنفسكم يكون عندك مقدسًا للرب. هذه 3 قراءات تقسم إلى 3 أجزاء: 1- فكرة عن تركيبة البخور وأهمية تقديمه كذبيحة. 2- كيفية أن البخور شهادة لله أو عبادة أي شهادة لقدسية الله (قدوس القديسين) قابل العبادة و الصلاة. 3- البخور كقدس أقداس للصلوات المرفوعة لله لذلك تصاعد البخور لأعلي يعطي إحساس لارتفاع وصعود الصلاة المرفوعة لله والبخور للأيقونات تعبر عن شركة الصلاة بيننا وبينهم أي تختلط صلواتنا وصلواتهم وتصعد إلى فوق من أجلنا. 4- الله قد حرم استخدام البخور خارج بيت الله، إذ لا يستخدم إلا في بيت الله ولا يستخدم في البيوت والمنازل العادية. والكاهن يستخدمه في البيوت للصلاة والبركة. فهو يستخدم في بيوت المؤمنين عن طريق عمل الكهنوت. أما بخور الأصابع، أو أي شيء آخر ما هي إلا شيء ليغير رائحة المكان. سؤال: هل البخور عمل وثني أم عمل مسيحي؟ سؤال آخر: هل البخور كان يستخدم في العهد القديم فقط أم ممكن استخدامه في العهد الجديد أيضًا؟ الإجابة: يذكر في (نش 1: 12) ما دام الملك في مجلسه أفاح ناردين رائحته، والناردين هو نوع من الطيب غالي الثمن مثل طيب ناردين الذي سكبته مريم أخت لعازر علي قدمي السيد المسيح. ما دام الملك في مجلسه تفيد الديمومة أو الاستمرار أو الجلوس الدائم وهو أسلوب عبادة لله، إذا ديمومة جلوس الله علي عرشه مرتبط بالبخور، إذا البخور من العطور (المواد العطرية) (المر – الميعة – السليخة) مستمر بل أكثر من ذلك نجد في (رؤ 8: 3 -4) وجاء ملاك آخر ووقف علي المذبح ومعه مبخره من ذهب وأعطي بخورًا كثيرًا لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم علي مذبح الذهب الذي أمام العرش فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله.إذًا ملاك أمام المذبح وبيده المبخرة يقدم بخور كثير مع صلوات القديسين أما العرش في الأبدية.. فالبخور موجود حتى في الأبدية ونحن دائمًا نرشم البخور باسم الثالوث الأقدس فكيف إذًا يكون عمل وثني؟ وهناك إثباتات من الكتاب المقدس تبين أن البخور يستخدم في الكنيسة الأولى الرسولية قبل كل الانشقاقات: ففي العهد الجديد في الكنيسة الأولى نجد ما يفيد البخور في: 1- قصة الكشف والإعلان عن بتولية القديس ديمتريوس الكرام (البابا الثاني عشر) كان متزوجًا ويعيش مع زوجته بتولًا، فلما تذمر الناس عن زواجه وضع جمر نار من المبخرة في ملابسة وملابس زوجته ولم تحرقه، إذا كان هناك مبخرة وبخور. 2- أقوال ديونيسيوس الإريوباغي: [ليس هو الإريوباغي - قابل بولس في (أع 9)] يقول: أما الأسقف عندما ينتهي من الصلاة المقدسة علي المذبح يبدأ بالتبخير عليه (علي المذبح) ثم يدور دورة كاملة في المكان المقدس (الكنيسة) هي نفسه دورة البخور. 3- القديس هيبوليتوس الأسقف (سنة 170 م. - 236 م.) في أقواله يقول: يقدم البخور في الكنائس وكان يعتبره تسليم رسولي وكل الفلاسفة الوثنيين المتنصرين كانوا ينوهون أن البخور عمل مسيحي وليس وثني أمثال أثناغوراس، ترتليانوس. 4- القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو: يقول عبارة جميله: ليته يقف علي جوارنا ملاك وقت حرق بخور علي المذبح. 5- القديس ما افرام السرياني (306-373) يقول احرقوا بخوركم في بيت الرب كرامة له ومديحًا من البخور فيه تكريم لله (عبارة فيها كرامة لله). 6- القديس يوحنا كاسيان قديس القرن الرابع يقول: حينما نطوف بالبخور حول المذبح ونقدم للأيقونات والشعب فإنما نحن نجمع الصلوات كصوت واحد ويحمله البخور المقدس وترفعه الملائكة المكلفة بالخدم مع صلوات السيدة العذراء وباقي القديسين وهكذا. مما سبق يتضح أن البخور عمل مسيحي تشترك فيه الكنيسة المجاهدة مع القديسين (الكنيسة المنتصرة) في صلواتهم / بدليل المجامر التي في أيدي 24 قسيسًا.. يقدمون بخور هي صلوات القديسين. في (رؤ 5: 8) ولما أخذ السفر خرت الأربعة حيوانات والأربعة والعشرون شيخًا أمام الخروف ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخورًا هي صلوات القديسين. ويقول كاسيان أيضًا: حينما نشتم رائحة البخور الذكية تجتمع حواسنا وتأخذ النفس نشوة روحية كرائحة الفضيلة والتقوى وحلاوة بيت الله فنتنهد علي خطايانا المرة.إذًا التوبة هي ثمرة لذبيحة البخور التي نقدمها لله فتأخذ النفس نشوة روحية. أيضًا البخور يحمل دلالة حضور الله (1 مل 8) سليمان الحكيم يدشن الهيكل الذي بناه، نري السحابة الحالة في الهيكل إشارة إلى مجد الله وبخور كثير إعلان عن حضور الله ومجد الله، لذلك في عيد العنصرة يوضع موقد ويوضع به جمر وبخور يعطي سحابة (علامة حلول الروح القدس) لذلك نعتبر البخور هو تسبحة مثل تسبحة الأجبية و تسبحة نصف الليل بالإضافة إلى: - أحداث الخلاص و التجسد بدأت من عند مذبح البخور عندما ظهر الملاك المبشر لزكريا الكاهن (البخور علي الجمر إشارة للتجسد). - أحداث التجسد بدأت من مذبح البخور وكل بخور يوضع في الشورية يرشم علي اسم الثالوث القدوس ودائمًا يقدم البخور صباحي في رفع بخور باكر ومسائي في رفع بخور عشية. نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها عن القداس الإلهي في اللاهوت الطقسي القبطي
المزيد
07 نوفمبر 2020

المقالة السادسة عشرة في كيف تبتهل النفس إذا جربها العدو

أيها السيد القدوس ؛ قد تقدمت إليك نفس حزينة متضرعة إليك بعبرات لتنقذها من العدو المفسد ؛ ساجدة لك بتواضع ؛ مستغيثة بك من المعاند الذي يحزنَها.فإذ قد دنت إليك بوقاحة أستجب لها سريعاً، وإذ قد لجأت إليك بشوق فتعاهدها باهتمام، فإنك إن أعرضت عنها هلكت حزينة، وإن أبطأت عن استجابتها فنيت بالحضرة، فإن تفقدتَها من أجل رأفاتك فقد ظفرت ؛ وإن أقبلت بناظرك إليها خلصت، إن استجبت لها تأيدت.أيقظ الغيرة من أجلها لأنَها خطيبتك، لأن الذي خطبها لك هو بولس الرسول، لا تعرض عنها لئلا يتخذها العدو. أيها السيد أدبني برأفاتك ؛ ولا تسلمني إلى أيدى المفسد ؛ فإننى هاأنذا قد جمعت أفكاري من كل جهة، فلم أجد شيئاً صالحاً أذكره قدامك سوى هذا فقد، أنني لست أعرف آخر سواك. إن نعمة أشفيتك هي لا يقدر عرضها ولا يحصى ؛ وتمنح الشفاء لكافة المتقدمين إليك، لأن جراحاتي برأفاتك تشفى ثم يعاودها الوجع من أجل ونيتي، في حال صحتي أنسى الطبيب فينساني في مرضي لأن خطاياي تتعبك.وأنا أعلمك إذا رحمتني أغيظك ؛ ولا أنسى أنك تتحملني من أجل تحننك، لأن الأم المتحننة إذا خالفها طفلها لا تحتمل أن تعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت كذلك فكم أولى بتحننك.وها يا سيدي تحننات الطائر مسكوبة على فراخه ؛ وفي كل ساعة يفتقدها ويقدم لها طعاماً ؛ ويغذيها بتعب لأنه يغلب من تحنناته، فإن كانت المخلوقات العديمة النظر لها مثل هذا التحنن ؛ فكم بالحري نعمتك أن تغلب ربوات أضعاف من قبل تحنناتِها ؛ فترحم المقبلين إليها والطالبين إياها بالحقيقة. وها أيضاً عين الماء مملوءة مياهاً تنبع بلا انقطاع ؛ وتمنح المقبلين إليها ماءها بلا حسد ؛ وهي غير محتاجة إلى المدائح البشرية لأنَها ليس لها أن تمدح على ذلك بل الذين ينالون منها يمدحونك بِها، لأنه من البين أن من أجل إحسان نعمتك تمنح تلك العين مشروبَها. فها قد شاع ذكر عين لجة رأفاتك التي لا يمكن اختبارها ؛ أنَها بلا حسد تروي القوات السمائية والبرايا التي على الأرض ؛ مدبراً كل نسمة وأنت غير محتاج إلى مديح وتمجيد سائر المخلوقات، لأنك لم تزل ممجداً بجوهر عظمتك وعظم جلالك.إن محبتك تائقة لخلاصنا، فأمر بِها إلينا لكي ما إذا مجدناها نتعظم وننال مجداً، لأنني موقن أن محبة نعمتك تعتنق وتقبل المقبلين إليها.وبما أنك لم تزل عالماً بعلم سابق ؛ فتتقدم وتعرف قلب المقبل إليك إن كان خلع العالم بالكلية ؛ فقبل أن يصل إلى الباب تفتح له، وقبل أن يجثو ساجداً تناوله يداً، قبل أن يفيض دموعاً تقطر عليه رأفاتك، وقبل أن يعترف بجرائمه تعطيه الغفران. ولا تقول له كيف أجزت زمانك ؟ أين أفنيت وقتك ؟ ولا تطلب كتاب خطاياه، ولا تتذكر إغاظة توانيه، ولا تعير إنكاره إحساناتك.لكنك تتقدم فتبصر التواضع والبكاء وسجية القلب ؛ وتَهتف أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه إياها، اذبحوا العجل المسمن للفرح والسرور ؛ ليحضر الملائكة ويفرحوا معنا بوجود الابن الضال ؛ وعودة الوارث الضائع ؛ وبمنزلة تاجر عائد من سفره بغنى جزيل.هكذا نعمتك تقبل المقبل إليها من كل نفسه، لأنَها تتوق أن تبصر الدموع ؛ وتعطش إلى معاينة التوبة ؛ وتسر بحرص الحريصين أن يتوبوا. فأوضح إذاً فيَّ تحننك الجزيل ؛ وأرثِ لي ؛ وارحمني من محاضرة المفسد فإنه بعد أن جرحني وقف يستهزئ بي.فكما تقدم التلاميذ في البحر وأيقظوك ؛ وبصوت فمك المبارك انقطعت زوبعة الريح ؛ وسكن اهتياج البحر، هكذا أستجب لعبراتي فإنَها نَهاراً وليلاً تيقظك. إن الأطباء تعبوا أثنتا عشر سنة ؛ ولم يستطيعوا أن يشفوا نزف المرأة السقيمة ؛ بل سببوا لها وجعاً زائداً ؛ وكل ما لم يكن لأولئك منحته لها ؛ وبمقدار ما شهروها إنَها لم تبرأ صحتها ؛ منحتها شفاء بلا وجع.لأنَها رجت أن تكتم أمرها عنك ؛ فتقدمت سراً ودنت على هدب ثيابك، تقدمت لا لتلتمس جسدك الأقدس بل لتلمس لباسك وحده ؛ فمنحتها البرء وأرحتها من الخجل من أطباء كثيرين.فأرح نفسي الحزينة من تعير محزني العدو، أيها الطبيب المتحنن أظهر في أعضائي حكمتك الجزيلة ؛ وأجعل جراحاتي غير مدنسة ؛ وألمع فيها نور جمال الفضيلة، ولتكرز نعمتك إنَها هي نجتني.أيها الخروف غير الخاطئ الذي ذُبحت عن خلاص المسكونة، وصنعت الصلح بين السماء والأرض ؛ لا تطرحني فإنني بوقاحة أقبلت إليك، ولا تحاكمني بما احتملته من أجلي في ذلك اليوم المرهوب المرعب.فإنك ستقول بلا محالة لنا نحن الخطاة: أما قد عرفتم ما صبرت عليه من أجلكم ؛ كنت غير مرئي فشوهدت منكم، كنت غير مائت فحوكمت من أجلكم، كنت بلا تبعة فلطمت من أجلكم، وكمال ذلك أنني صلبت فما سخطت، وأستهزئ بي فما لعنت.فأنا السيد لم أزل أعلى من كل الخطايا والزلات احتملت كل هذه ؛ وأنتم المجرمون ماذا احتملتم من أجلي ؟.فمن أجل هذا ليس لأحد منا اعتذار، أذكر يا سيدي أن هذه كلها من أجل تحننك وصلاحك وعدلك اصطبرت عليها من أجل تقويماتنا، فكما سُلمت من أجلنا وأنت الصالح القدوس الغير خاطئ، وأنت الآن أيضاً هو لأنه لم ينتقل تحنن لاهوتك الطبيعي ولم يتغير.أما نحن فكنا منافقين وأشراراً ؛ والآن خطاة وضعفاء ؛ فالموهبة التي وهبتها لنا بتحننك لا تنتزعها منا ؛ لأنك لو كنت افتديتنا من أجل برنا لكنت الآن إذ أخطأنا تسخط وتنتزع نعمتك، فكنا نقول بواجب إنك افتديتنا من أجل برنا. والآن إذ أخطأنا ابتعدت منا والحال إننا كنا منافقين والآن خطاة، فالموهبة التي حبوتنا بِها من أجل تعطفك على البشر ثبتها لنا إلى النهاية.أما أنا يا سيدي فبنفس مغمومة أصرخ إليك ؛ وأتضرع إليك من أجل عدوي فإنه قد آذاني، انظر يا سيدي وصر لي رجاء، وأخزِ المجربين فإنَهم في كل ساعة يذهلونني.يسرقوني ولا أعلم ؛ ينزهوني ويعيقوني لئلا أتخشع من الاستغاثة بك ؛ لأنَهم قد عرفوا أنني إن هتفت إليك بدموع لا تبعدني.ويلي أي مصارع لي في المقام، والغبطة لي أي منقذ لي ومعطي جائزة في الجهاد.أما ملك الحيات والوحوش الردىء فهو مهلك ردىء في كل حركاته بنظره وبمروره، وهذا الثعبان في الأمرين كلاهما أخبث منه كثيراً في مصارعته وفي وقاحته.فبالقوة الإلهية التي قلبت العصى إلى ثعابين أزجر هذا الثعبان ؛ فإنه بوقاحة يجىء إليَّ، فاحتمال وقاحة صراعه تذخر للصابرين كنزاً نفيساً، والحزن الذي يحتملونه من تَهويلاته يجعل لهم تطويباً محيياً ؛ لأن فرح هذا الدهر موعوب حزناً. فأما الحزن والتنهد يسببان سروراً وحياة خالدة.أيها السيد أنا كل حين أسقط وأمرض ؛ لكن نعمتك كل حين تفتقدني وتشفيني، ولئن كل ساعة أنكر صلة أشفيتها، إذ أشفية نعمتك لا ثمن لها ولا قيمة، تمنحها مجاناً.وإذ كنت بالدموع تَهبها، فهب لي بعبراتي أشفية نفسي ؛ لأن أمراً بيناً واضحاً عند الكل، إن الدهر يضاهي موقف الجهاد، والثعبان القوي يجتهد أن يغلب الكل، فيغلب من قوم ويداس، ويغلب قوماً ويطأهم.وأناس في مصارعتهم ينغلبون وقوم بالصراع يكللون، وأناس بمرارته ينالون حلاوة الحياة الدائمة، وقوم بحلاوته ورخاوتَهم يكتسبون مرارة العذاب الأبدي.قوم بتناهيهم في عدم القنية يقهرونه بسهولة، وقوم من أجل اشتمالهم بالأمور الأرضية والتفافهم بِها يقهرون.فالذين يحبون اللـه من كل نفوسهم ؛ محاربته ليست عندهم شيئاً، أما الذين يحبون العالم فمحاربته عندهم مستصعبة وغير محتملة، فمغبوطون الذين يحبون اللـه ؛ وبمحبته يحتقرون كل الأشياء. مغبوطون الذين يبكون نَهاراً وليلاً لينجو من الرجز المستأنف، الطوبى للذين يواضعون ذاتَهم باختيارهم فإنَهم هناك يُرفعون. الطوبى للمساكين وذوي الحمية فإن فردوس النعيم ينتظرهم، الطوبى للذين صاروا طوعاً هيكلاً للروح القدس فإنَهم عن الميامن يقفون. الطوبى للذين صلبوا ذاتَهم ؛ فإن دراستهم قد صارت في ذكر اللـه نَهاراً وليلاً، الطوبى للذين منطقوا أحقائهم بالحق ؛ ومصابيحهم معدة ؛ ويتوقعون ختنهم متى يأتي العرس. مغبوط المقتني أعيناً عقلية لمعاينة الخيرات العتيدة والعذاب المؤبد ؛ وحرص أن يتعب لينال الخيرات الخالدة، الطوبى لمن نصب أمام عينيه تلك الساعة المرهوبة دائماً وحرص أن يرضي اللـه ما دام توجد ساعة. الطوبى لمن صار على الأرض بلا ألم مثل ملاك ليمكنه أن يبصر مع الملائكة المطربات التي في العلا ؛ ويتفطن الأسرار التي فوق ؛ ويتذكر الأمور التي في العلا ؛ وينطق بالأمور التي فوق.ويعمل الأعمال التي في العلا، ويتجر ويستفاد الفوائد التي فوق، ويتلو الخيرات التي في العلا.ولا يميل إلى الأمور التي أسفل حيث لذات وشهوات هذا الدهر الباطل الحامل الموت، وأمر حسن أن يبصر بناظر القلب لئلا يسقط شيء في حدقة العين، إما فكر خبيث أو شيء آخر من الأشياء التي لا ترضي الإله السيد وتظلم العقل.لكن أسمع معي أيها القارئ ما أقول: ماذا لنا نتفكر فيه دائماً ؟ لنا الملائكة، لنا رؤساء الملائكة، لنا القوات، لنا الأمجاد التي للربوات، لنا الشاروبيم، لنا السارافيم، لنا ذاتنا، لنا الإله سيد الكل الاسم الفائق الجود الأقدس.لنا الأنبياء، لنا الرسل، لنا الأناجيل المقدسة أقوال الرب، لنا الشهداء القديسون المعترفون الآباء القديسين البطاركة، الرعاة الكهنة، السماوات وكل البرايا التي فيها. أفتكر في هذا وتفطن فيها ؛ فتصير ابن السيد الإله. بنعمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد. آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
06 نوفمبر 2020

سراج الجسد

قال ربنا يسوع: «سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا» (مت6: 22). فإن أردتَ راحةً ونورًا وسلامًا لجسدك احفظ عينَكَ بسيطةً كقول الرب. فالعين هي آلة التصوير في جسدِك. إن انفتحَتْ على السماويات وتطلّعت إلى كلّ ما هو جليل وكلّ ما هو طاهر فإنّها تحفظ نقاوتها وتزداد بساطتها والعكس صحيح. افتح عينك في الإنجيل.. واجعلها تمتلئ من نور الكلمة الإلهية. افتح عينك على أيقونات القديسين وتأّمل حياتهم المنيرة فتستنيرادخل إلى الكنيسة المقدسة وقُل مع داود المرتّل الذي قال: «أدْخلُ إلَى مَذْبحِ (هيكل) الله تِجاهَ وَجْه اللهِ الَّذي يُفرحُ شَبابي» (مز42 أجبية). وقال أيضًا: «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ المقدس» (مز27: 4).هناك تفرح العين وتمتلئ من النور الإلهى. افتح عينك لتشاهد مجد الله في خليقته. تأمّل في السموات فإنّها تُحدِّث بمجد الله، بل افتح عينك وتأمل نفسك، وما صنعه الله بك ورحمك.. إنّ مَن ينظر خطاياه ويتوب عنها أفضل من الذي يرى الرؤى. من جهة الجهاد السلبي احفظ عينك من العثرات والمناظر والخيالات النجسة، لأنّ العدو يستغل هذا ويحاربك ليلاً ونهارًا بآلاف الصور، التي سمحْتَ لعينك أن تلتقطها بإرادتك.. فهو يهجم عليك، ويحول جسدك إلى الظلمة. فجاهد أن تجعل عينَك عفيفةً، ولا يغرّك غِشّ الجمال الباطل ومناظر الخلاعة. درّب عينك على النظر العميق – لا تنظر إلى الشكل الخارجي – بل تأمّل جوهر الأشياء.. الخارج سريعًا ما يتغيّر ويضمحل، أمّا الداخل فهو باقٍ دائم. قال الرسول: «نَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ» (2كو4: 18)اِعلَم «أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً» (1يو5: 20).. أي العين الداخلية في خِلقتنا الجديدة التى نرى بها أسرار الله وأعمال الله ويد الله من وراء ما هو منظور. «فطُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ» (مت5: 8) العين البسيطة والقلب النقي يفتحان أمام الإنسان المجال الإلهي، فيحيا على الأرض حياة فردوسيّة مملوءة بالفرح الذي لا يُنطق به. الرب نوري وخلاصي.. لذلك يضيء طريقي وينير سبيلي في كلّ زمان ومكان. قُلْ للرب في الصلاة «أَنِرْ عَيْنَيَّ لِئَلاَّ أَنَامَ نَوْمَ الْمَوْتِ» (مز13: 3). وتمتّع بقول المسيح «طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ... لأنّ ملوكًا وأَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا» (مت13: 16، 17). أمّا مِن جهة أمور هذا العالم، والذين يشتهون هذا العالم وخيالاته.. فإنّ الحكيم قال: «الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ» (جا1: 8).. ففي السعي وراء نظر الأمور العالميّة، لا يوجد امتلاء، ولا يوجد شبع. اجعل عينَك تشبع من الذي قيل عنه «أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ» (مز45: 2). لا تتطلّع إلى الأرضيات، بل ثبِّت نظرك إلى أعلى وقل: رفَعتُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ، مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي» (مز121: 1)أنت إنسان سماوي، أنت تدعو الله أبًا وتقول: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.. أنت تقول: الرب نوري.. وتقول: بنورك يا رب نعاين النور سراج جسدك هو عينك.. احذر لئلا ينطفئ السراج.. احفظه منيرًا.ارشم علامة الصليب على عينك فتتقدّس. في قصّة شمشون الجبار أحد قضاة بني إسرائيل، لمَا كسر نذره وارتمى في حضن الخطايا وفقد قوّته. قبض عليه الفلسطينيون وقلعوا عينيه.. فلما فقد البصر وصار أعمى عاش في مذلّة ما بعدها مذلة.. إلى أن جاء الوقت الذي عادت إليه قوّته، فقال للرب اسمعني هذه المرّة فقط لأنتقم لعينيَّ. كانت المرارة كلّها في فقد بصره وبصيرته.اطلُبْ من الرب بقلب كامل، أن يحفظ نظرك، ويقدِّس بصيرتك، ويجعل سراج جسدك منيرًا بنور الله. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل