المقالات

09 يوليو 2021

اسلكــــوا بالـــروح ج

بحسب ما تَسَلّمنا من إيمان إنّنا حينما اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح.. وبحسب ما كُتب أيضًا صِرنا هيكلاً للروح «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ... لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (1كو3: 16، 17)، وبحسب الإيمان أيضًا «جَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا» (1كو12: 13)، «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (رو8: 11).ومِثل ذلك كثير.. والسؤال الذي يجب أن يلحّ علينا: كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح حسب المكتوب «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ» (رو8: 14).والواقع العملي إنّنا حصلنا على كلّ وعود الله الصادقة، والواقع العملي أيضًا أنّنا نلنا وأخذنا. فإن كان العالم واقع تحت سلطان روح الظلمة، «الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ» (أف2: 2). وهذا بالطبيعة يُثمِر كلّ أفعال الشرّ والنجاسات والطمع والكذب والخبث والحقد والقتل، وكلّ باقي الأفعال التي نراها في العالم ونسمع عنها كلّ يوم وفي كلّ مكان. فإذن الحاجة الماسة الشديدة أن يوجّد أولاد الله سالكين بالروح المضاد لروح العالم، يشهدون ضدّه، ويشهدون عليه، ويدينون أفعاله وكلّ قوّته الشريرة. «اسْلُكُوا بِالرُّوحِ... الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ» (غل5: 16، رو8: 14) لا تطفئوا الروح (هو نار غير مادية لكن ينطفئ في الهالكين). إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون (هذا هو عمل الروح). أُصلِّي بالروح (بدونه لا صلاة). لا تُحزِنوا الروح (بل على العكس فرِّح قلب الله بتوبتك). جئت لأُلقي نارًا.. وكيف تُضرَم النار (أضرِم الموهبة التي فيك). الروح يحيي (بدونه الموت حتمًا). روح الحقّ (ضد روح الضلال الذي في العالم). روح الذي أقام يسوع (يقيمنا ويحيي أجسادنا وأرواحنا). روح البنوّة (به صِرنا أبناء للآب). روح الله (مَن يقبله؟). امتلئوا بالروح (إلى كلّ ملء الله). كلّنا سُقينا روحًا واحدًا (الماء والروح). يُبكِّت العالم على خطيّة وعلى بِرّ وعلى دينونة. يأخذ مِمّا للآب ويخبركم (المسيح لم يتكلّم مِن ذاته وحدَه، بل كما سمع من الآب). ذاك يمجّدني (الآب يمجِّد الابن، والروح يمجِّد الابن، والابن يمجِّد الآب). يتكلّم بكلّ ما قلته لكم (الروح والكلمة). كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح؟ بادئ ذي بدء قلْ لي هل تشعر بروح الله في داخلك؟ ألم يَقُل المسيح إنّه ينبع في الداخل كنبع الحياة الأبدية؟ هل تشعر بحضوره المفرح وحلوله المشبع الذي يسيطر على كلّ ما فيك؟ هل تشعر به يملأ كيانك؟ هل تستشعر عذوبة حلول الروح وعزاءه الذي لا يُعَبَّر عنه؟ هل تسمع صوته؟ هل تخضع لتلبيته عندما يَنخُس الضمير، ويوقِظ ما كان نائمًا مِن مبادئ ومُثُل، بل حينما يُقيم ما كان ميتًا من الحواس المقدسة؟ هل تستنشق أريجه الإلهي، حين يملأ الداخل بعطر القداسة ونسيم الوداعة الإلهية؟ هل تَخلُد إلى السكون العميق الذي يسدله الروح على الحواس، ويجعلها مرهَفة للإنصات؟ هل تهبّ عليك ريحه، فتسيل المياه من الداخل، فتَجري من الينبوع إلى المآقي كسواقي الله؟ هل صار الصوت الخفيف والنسيم الهادئ يلفّك من كلّ ناحية، فتشعر أنّك جزء من وجوده؟ أَم هل لحقتك النار في طرف من أطراف كيانك، فحوّلَتْ البرودة، بل وألغتها، وأشعَلَت الغِيرة والفرح؟ وهل سعدتَ بكلّ هذا، أو بعضه، وهل طلبت المزيد؟ وهل توسلتَ أن تدوم هناك؟ (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
18 سبتمبر 2021

«لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ»

قال ربنا يسوع هذا القول الإلهي ليرفع عنا ثقل ونير الهمّ. أولاً: لأنّه مهتم بمستقبلنا، ليس للغد فقط، بل بمستقبلنا الأبدي، فإن كان الأمر كذلك وقد وضعنا الغد في يده، فما أسعده غد! كثيرًا ما نضع أمرًا يخصّنا في عهدة إنسان كبير أو حكيم أو صاحب سلطان من أيّ نوع. ونطمئن أنّ هذا الموضوع صار في عنايته ونحن نثق فيه.. فكم بالأولى إذا سمعنا أنّ أبانا السماوي مهتمّ بنا ويرعى حياتنا بعنايته الفائقة. لقد عرَّفنا الرب يسوع على الآب، وقال: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا أَبَانَا» (لو11: 2)، وقال: «الآب نَفْسهُ يُحِبُّكُمْ» (يو16: 27)، ومن جهة الاحتياجات قال: «لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (مت6: 8).. وقال: «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ (وأنتم أباء) تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت7: 11). ولكشف الأمر بأكثر عمق قال: «حَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ» (مت10: 30). وليس في الأمر تشبيه ولا مغالاة، فقول المسيح هو الحقّ كلّ الحقّ. فتفكر يا أخي أنّ عناية الآب السماوي تشمل حياتك، الأمور الكبيرة والصغيرة معًا.. حتّى شعر رأسك معدود، واحدة منه لا تسقط بدون إذن أبيك. أتذكر لمّا أُصيب أبونا بيشوي كامل بمرض السرطان وبدأ العلاج الكيماوي، تساقط شعر رأسه ولحيته، فلمّا رأى أن‍چ‍يل زوجته منزعجة، قال لها: ألا تعلمين أنّ كلّ شعرة سقطت بإذن الآب. ثانياً: الغد بالنسبة لأي إنسان مجهول.. قال الرسول يعقوب: «أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ» (يع4: 14). فماذا ينفع إن كان الإنسان (يعول) الهَمّ من جهة الغد؟ هل يغيِّر هذا شيئًا؟ أمّا أبونا السماوي فهو غير الزمني ليس عنده ماض ولا مستقبل، بل الكلّ مكشوف، معروف، ليس شيءٌ مَخفيًّا أو مجهولاً. قال الحكيم: «الْغَمُّ (الهم) فِي قَلْبِ الرَّجُلِ يُحْنِيهِ» (أم12: 25) وهذا حقٌّ. الإنسان (عوّال) الهموم، كثير الأوجاع وكثير الأمراض، ليس من جهة الجسد فقط، بل الهموم تجعل نفسه في اضطرابٍ وخوف وتوجس، تُرى ماذا يخبئ الزمن؟ وهذا ضدّ الثقة والإيمان في الله مدبر أمورنا. إنّ حياة الاتكال على الله مريحة، تملأ النفس سلامًا وطمأنينة «أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ» (مز55: 22)، «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟» (مت6: 27). قال لنا ربنا: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا... تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو... إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا» (مت6: 26–30). لنا في حياة أبائنا القدّيسين الذين ألقوا رجاءهم بالتمام على الله، أعظم دروس الإيمان والثقة بالله والاتكال عليه وحده. لقد عال الذين سكنوا الجبال والمغائر وشقوق الأرض. واعتنى بالذين ساحوا (طافوا) جائلين في جلود غنم وجلود مِعزى، مكروبين ومُذلين.. وفى الواقع «لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ» (عب11: 38). ثالثاً: قد تتوقّع بحسب فكرك أنّك ستواجه مشاكل أو أمورًا صعبة أو أشياء مخيفة.. وتظلّ مهمومًا قلِقًا، وقد تأتي الأمور على غير توقع. كنت أقرأ في سفر التكوين عن يعقوب أب الآباء، لما ترك خاله لابان وقصد أن يرجع.. وكان الخوف كلّ الخوف من أخيه عيسو. لقد صارت قطيعة بينهما أكثر من عشرين عامًا.. وقتها هرب يعقوب من وجه عيسو لأنّ عيسو كان مفتكرًا أن يقتله. وقد ملك الخوف على يعقوب وصار يتفكّر عسى ماذا سيحدث، وصار مهمومًا وطار نومه.. وصارعه إنسان حتى الفجر. ولما اقترب من المكان قال: أسترضي وجه أخي بالهدية.. فعمل قطعان صغيرة من الغنم والبقر.. وجعلها تسير أمامه وأوصى الغلمان أن يقولوا: هذه هدية لعيسو. وكان عيسو قد جهّز نفسه للقاء أخيه، ومعه أربعمائة رجل، وهذا ألقى الرعب بالأكثر في قلب يعقوب. ثم من كثرة الخوف أيضًا رتّب بمكرٍ أملاكه وأسرته.. جاعلاً الخادمات وأولادهن أولاً.. ثم ليئة وأولادها.. وأخيرًا راحيل وابنها.. وكأنه يقول إن أصابه الشر.. فأبقى المحبوبة آخر الكل. ولكن للعجب العجاب كانت كلّ هذه التهيؤات وهذا الهم القاتل مجرد نتاج الفكر البشري، الذي إذا سلّم الإنسان نفسه له يتزايد، لأنّ الفكر الرديء لا يقف عند حَدّ. ولك أن تتخيّل كيف قابل عيسو يعقوب بالأحضان والبكاء والكرم والشهامة. وقد نسى الإساءة وغلَّب الحُبّ والأُخوّة، وتبدّدت مخاوف يعقوب، وحسب كلّ ما عاناه من الهم في حساب الخسارة وبقت عنده بقيّة من ظلّ الخوف، فطلب من أخيه أن يرحل واعتذر له أنّه يريد أن يسوق على مهل لئلا يكدّ الأملاك، ثم إذ وصل لم يسكن في كنعان بل عبر الأردن إلى سكوت ثم إلى شكيم. بقِيَ أن ندرك الفرق الهائل بين الهموم والاهتمام: فالاهتمام بالأمور يُظهِر الروح المسيحيّة في العناية والتدبير، ويبرهن على الأمانة في العمل الموكَّل به إلينا لكي نعمله بدِقة وأمانة واخلاص، وهو ضدّ التواكل والكسل واللامبالاة. فالإنسان المسيحي السالك بالتدقيق هو كثير الاهتمام، كثير العمل، دقيق في كلّ طرقه، طالب أن يرضي الرب في كلّ شيء، وبحسب مسئوليته التي من الله يتدبّر الأمور بالحكمة. أمّا أن (يعول) الإنسان الهمّ ويصير مهمومًا، مُضطربًا وخائفًا ومتشائمًا من المستقبل.. فنجده دائمًا قد فَقَد حتى الابتسامة والفرح.. ويُصاب بالكآبة ولا يتوقّع الخير. وهذا كلّه ضدّ الإيمان وضدّ الرجاء بالرب وضدّ الاتكال عليه. قال المرنم: «إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مز23: 4)، وقال: «وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ... فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مز46: 2، 27: 3). وقال عن الرجل الخائف الرب إنّه «لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ. قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلاً عَلَى الرَّبِّ» (مز112: 7)، وقال: إنّ «الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الرَّبِّ فَالرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِهِ» (مز32: 10). يا أخي ضعْ كلمات الرب يسوع أمامك كلّ يوم.. يكفي اليوم.. يكفي أن نُقدِّس اليوم وبعمل اليوم، قال الرب في المَثَل: «يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي» (مت28: 21). وهذا المنهج الإلهي مريح للنفس، يطرد عنها الهموم، إذ تتسلم اليوم جديدًا في كلّ صباح تشكره وتعمل لحسابه على قدر المستطاع. أمّا الغد فهو مضمون بضمان إلهي أنّه في تدبير الرب الصالح، الذي وهو مُخَبَّأ عنّا ولكنّه في يد الآب، كمثل ما يخفي الأب يده عن الابن ويقول له: خمّن ماذا في يدي وماذا أخبئ لك؟ بكلّ تأكيد ما يخفيه الآب هو أفضل وأعظم ممّا نظنّ أو نفتكر. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
21 يوليو 2021

الضمير صلاحيته عناصره أنواعه تأثراته

الضمير هو طاقة أوجدها الله في الإنسان للتمييز بين الخير والشر، والحلال والحرام، و اللائق وغير اللائق وما يجوز وما لا يجوز. لذلك دعي بالشريعة الطبيعية أو بالشريعة الأدبية غير المكتوبة.وقد كان هو الحكم الداخلي في الإنسان قبل زمن الأنبياء، قبل الوحي والشريعة المكتوبة. وبه كمثال تسامي يوسف الصديق عن الخطأ مع امرأة سيده حين طلبت ذلك منه. بينما عاش يوسف قبل موسي النبي بمئات السنين، وقبل أن يأمر الله في الوصايا العشر قائلا 'لا تزن' ولكن كان هناك الضميرولكن لما ضلٌ الضمير، حينئذ أرسل الرب وصاياه الإلهية لترشد الإنسان وتكون ميزانًا يزن به أفعاله ونواياه. وسنضرب أمثله للدلالة علي أن الضمير قد يضلٌ: ذلك الشخص الذي يقتل ابنته أو أخته إذا سقطت وفقدت عفتها ألا يري بضميره انه يمحو عار الأسرة ويرد شرفها؟! بل إن البعض في الريف قد يتعبه ضميره إن لم يقتل هذه الفتاة!! كذلك الشخص الذي يفجر نفسه أو يفجر سيارة، ويقتل بذلك مجموعة من الأبرياء، ويدمر بعض ألاماكن، ألا يعتبر نفسه شهيدا، وانه قام بعمل وطني يسجل له بالفخر؟! وقد شجعه ضميره علي ذلك!! يمكننا إذن أن نقسم الضمائر إلي أنواع منها الضمير الصالح الذي يحكم حكمًا خيرًا ونيرًا، ودقيقًا. وهو مثل ميزان الصيدلي لا يزيد في تركيب الدواء ولا ينقص وهناك ضمير واسع يبلع الجمل، وهو يقبل أمورًا خاطئة عديدة، لا يوبخ عليها إطلاقًا، بل قد يجد لها تبريرًا يريحه! بينما هناك أيضًا ضمير ضيق أو موسوس أو متشدد. يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو يضخم كثيرًا من قيمة الأخطاء. وهو بهذا يضيق علي الناس بأحكامه ويغلق أمامهم أبواب السماء! علي أن هناك أنواعًا أخرى من الضمائر كالضمير الغائب، أو الضمير النائم أو الضمير الميت الذي يوصف صاحبه بأنه بلا ضمير!! مثال ذلك القاتل الذي تعوَّد القتل، أو السارق الذي تعود السرقة، أو الظالم الذي يصبح الظلم جزءا من طبعه! وكذلك القاسي القلب وكل من هؤلاء يرتكب الخطايا ولا يشعر انه قد اخطأ ومثلهم أيضًا الكاذب الذي تعود الكذب، والفاجر الذي تعود الفجورهؤلاء تصير خطاياهم شيئا طبيعيا في نظرهم، لا يبكتهم عليها ضمير، ولا يندمون كلما أخطأوا..! أما الضمير السليم أو الضمير الصالح، فله وظائف مهمة منها التشريع، والمحاكمة، وإصدار الحكم.. ففي التشريع يعلن ما كان ينبغي أن يقال أو أن يفعل طبقًا لوصايا الله وتمشيًّا مع المبادئ السليمة والمثل. ومن جهة المحاكمة يقول للشخص ماذا فعلت؟ ولماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ وكيف جرؤت أن تفعل؟ وأين خشية الله في قلبك؟ ومن جهة إصدار الحكم يحكم الضمير باللوم أو بالتوبيخ وقد يصل الأمر إلي تعذيب الضمير، وقد يحكم بوجوب تصحيح ما قد فعله وعلاج نتائجه والضمير لا يحكم فقط علي الفعل، إنما حتى علي النية والغرض. ويحكم علي المشاعر الباطنية، وعلي الفكر ومن هنا كان الضمير أوسع دائرة وأعمق أثرًا من القوانين الموضوعة وما أكثر الأمور التي لا يحكم عليها القانون. ولكن يحكم عليها الضمير، ويكون حكمه غير قابل للنقض ونطاق الضمير يشمل ما قبل الفعل وما بعده فهو من جهة النواحي الطيبة، يستحث ويدفع ويشجع. أما من جهة الأمور الرديئة، فهو يمنع أو ينذر ويبصر بالعواقب كما انه لا يتناول الفعل فقط، إنما يحكم أيضًا علي تأثيره ونتائجه ومقدار ردود هذا الفعل علي أن الضمير قد يصطدم بالإرادة التي ربما تقف ضده! فضمير الشخص قد يقول له إن هذا الأمر واضح الخطأ ومع ذلك فانه يفعله!! كالتدخين مثلًا: يقول له الضمير انه يضر صحتك وصحة الذين حولك.. وفيه تفقد مالك وتفقد إرادتك. ومع ذلك لا يمتنع الإنسان عن التدخين، لان إرادته لا تستطيع! ومن هنا قال البعض عن الضمير انه قاض عادل غير انه ضعيف والضعيف يقف ضد تنفيذ أحكامه أما لماذا هو ضعيف، فذلك لان هناك مؤثرات أخرى كثيرة تضغط عليه.. وقد لا يستطيع مقاومتها.الضمير يتأثر بالشهوة.. وكلما كانت الشهوة قوية، يضعف أمامها الضمير والشهوة علي أنواع. منها شهوة الجسد، وشهوة المناصب والارتفاع، وشهوة العظمة، وشهوة السيطرة، وشهوة الانتقام، وغير ذلك.. وحينما تشتد الشهوة فإنها تطرح الضمير جانبا فيفقد سلطانه وتتولي الشهوة قيادة الموقف، بلا ضمير، وتدبر الأمر حسب هواها.. ومن هنا أيضًا كانت المصالح الشخصية هي من الأمور الضاغطة علي الضمير أو السيطرة عليه، أو التي تحل محله، سواء بالنسبة إلي ضمير الفرد أو ضمير الدول. حتى لو كانت النظرة إلي المصالح الشخصية نظرة غير سليمة. إذن الدوافع ­أيًا كانت­ لها سيطرة علي الضمير مما يؤثر علي الضمير أيضًا مقدار المعرفة ودرجة الذكاء فقد يخطئ الضمير في حكمه نتيجة للجهل أو لنقص المعرفة أو لخطأ في الأمور المعروضة عليه وعلاج ذلك هو التوعية والإرشاد السليم. وقد يخطئ الضمير، أو تختلف أحكام الضمائر، باختلاف العقول وتنوع درجات الذكاء فيها. فضمير الإنسان الحكيم العاقل غير ضمير الإنسان العادي أو الأقل ذكاء أو البسيط في تفكيره وعلاج نقص العقل أو المعرفة هو الاسترشاد. وكما قال الشاعر: فخذوا العلم علي أربابه.. واطلبوا الحكمة عند الحكماء ومن الناحية المضادة قد يخطئ الضمير نتيجة للإرشاد الخاطئ إن كان خاضعًا لإرشاد يضلله. وكما يقول المثل 'أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى'، يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ (إنجيل متى 15: 14؛ إنجيل لوقا 6: 39).مما يؤثر علي الضمير أيضًا: العرف و البيئة وحماس الجماعة: فهناك عادات متوارثة وعرف سائد وتأثيرات للبيئة قد يتبعها الإنسان دون أن يفكر أو يحلل.. وبهذا تحل محل ضميره! كما تؤثر علي الضمير مشاعر الجماعة واقتناعها أو حماسها. مثال ذلك في بعض مظاهرات الطلبة قد ينقاد بعضهم وراء هتافات الجماعة وحماسها، دون أن يفكر ما هو الخير. ولكنه إذا خلا إلي نفسه، أو إذا قبض عليه وجلس في الحبس منفردا، ربما يناقش الأمر بضمير آخر قد تخلص من تأثير المظاهرة وهتاف الزملاء ونفس الوضع لمن يكون تحت تأثير ما تنشره بعض الصحف، أو ما توحي به بعض دور الإعلام. في كل ذلك وما يشبهه يكون الضمير تحت تأثير خارجي، يستمر إلى أن يوجد ما يتوازن معه.الضمير أيضًا قد يتأثر أيضًا بالمبدأ الميكيافلي 'الغاية تبرر الواسطة' فقد يقبل وسيلة خاطئة، إن كانت في نظره توصل إلي هدف يراه سليمًا، وكثيرًا ما تستخدم هذه الفكرة عن الوصوليين الذي هدفهم هو مجرد الوصول إلي ما يريدون أيًا كانت الوسائل!! والعجيب أن هؤلاء يبررون وسائلهم الخاطئة اعتمادًا علي أهداف وحجج وأسباب تكون حكيمة في أعينهم! وقد قال احد الآباء الروحيين "كثيرًا ما يكون طريق جهنم مفروشا بالأعذار والتبريرات" والمقصود هو التبريرات التي تغطي علي حكم الضمير. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
04 يونيو 2021

ليكونوا واحداً

تقرأ علينا الكنيسة في هذا الصباح المبارك جزء من إنجيل معلمنا مار يوحنا 17 تقول فيه آخر حديث لربنا يسوع المسيح في خدمته على الأرض .. وهو حديث يحمل كل فكر ربنا يسوع نحو أبيه السماوي ونحو جنس البشر .. ربنا يسوع يخاطب الآب ويقول ﴿ أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ﴾ نفس المجد الذي أعطيتني أنا أعطيتهم إياه .. أنت جئت بي للعالم ليس لأخلص العالم فقط بل وأيضاً لأعيد للإنسان مجده الأول لذلك الذي أعطيتني أنا أعطيته لهم .. أخذوا نفس المجد .. لماذا ؟ ﴿ ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد ﴾ ( يو 17 : 22 ) .. ربنا يسوع أعطانا نفس المجد الذي أخذه من الآب .. عندما يكون فينا نفس المجد الذي أخذه من الآب صرنا واحد .. تخيل شخص متميز عن الآخر جداً بالغنى ثم يقسم ثروته مع الآخر ويقول له قد صرنا واحداً في الغنى متساويين .. إنسان متميز عن الآخر بالذكاء فيعطيه نفس ذكائه ويقول له قد صرنا واحداً نحن الفرق بيننا وبين ربنا يسوع المسيح كبير جداً .. هوة كبيرة جداً .. الفرق بيننا في المجد قال سأعطيكم من هذا المجد .. لماذا ؟ يقول * ليكونوا واحداً معي * .. يا لعظمة تدبير ربنا يسوع المسيح إتجاهنا .. أن نكون واحداً معه ؟ نعم ليس معه فقط بل واحداً مع أبيه الصالح أيضاً حتى أنه يريد أن تكون وحدته مع الآب هي هي وحدتنا معه .. لنرى قوة وحدته مع الآب تكون على نفس مستوى وحدتنا معه .. ليكونوا واحداً .. لمن نشبه ؟ ﴿ كما أننا نحن واحد ﴾ .. وكلمة * نحن * هنا إشارة للثالوث القدوس .. نحن ثلاثة .. ﴿ أنا فيهم وأنت فيَّ ﴾.. أنت فيَّ وأنا أيضاً فيهم فصاروا هم فيَّ وفيك وصرت أنا فيك وفيهم وكلنا صرنا واحد في المسيح يسوع هذه هي سر عظمة عمل ربنا يسوع على الأرض .. هذه هي العطية التي صارت الكنيسة مديونة بها للمسيح .. صرنا واحد معه وواحد مع الآب وواحد بعضنا معاً .. نحن واحد مع بعضنا البعض وكلنا واحد معه وكلنا واحد معه ومع أبيه الصالح .. ﴿ ليكونوا مكملين إلى واحد ﴾ ( يو 17 : 23 ) من أجمل الأمور التي أعطاها لنا ربنا يسوع أن نشعر أننا كلنا واحد .. من أجمل الأمور أن أشعر أن بيَّ نفس الروح التي في الآخر وأن أشعر أننا كلنا مدعوين لوليمة واحدة وكلنا نأكل خبزة واحدة ونمارس صوم واحد معاً ونفطر معاً ونتوب معاً ونمارس الأسرار معاً أجمل ما في الكنيسة أنها جعلت الفرد ملغي والجماعة هي القائمة لذلك ونحن نسبح نقول ﴿ نسبحك .. نباركك ﴾ .. لنا لسان جماعة وليس فرد .. كلنا لنا نفس الإشتياقات فنقول له﴿ إهدينا يارب إلى ملكوتك ﴾ .. كلنا لنا نفس الطلبة فنقول له ﴿ إنعم لنا بمغفرة خطايانا ﴾ نحن جماعة متآلفة أهدافنا واحدة فنقول له ﴿ نحن أيضاً الغرباء في هذا العالم إحفظنا في إيمانك وانعم لنا بسلامك ﴾ .. لنا طلبة واحدة لا يوجد شخص فينا يقول هذه الطلبة لا تعجبني أو لا تناسبني لن أقولها .. لا .. كلنا لنا أهداف واحدة واشتياقات واحدة وطلبات واحدة .. كلنا موحدين في المسيح موحدين في الآب .. موحدين معاً .. ﴿ مكملين إلى واحد ﴾ لنفرض أن شخصيتي مختلفة عن غيري .. يقول لنا الوحدة لا تلغي الفرادي .. الوحدة لا تلغي التميز أبداً .. عندما دعى ربنا يسوع تلاميذه نجد أن كل واحد منهم قد يكون له فكره الخاص لكن مع ذلك كلهم مكملين إلى واحد .. قد يكون إختلافهم هو سبب وحدتهم .. قد يكون إختلافهم هو الذي يجعلهم في النهاية يعزفون لحن واحد .. وإن كانوا كلهم واحد أو كلهم نسخة موحده لما كانت السيمفونية المتآلفة فيهم .. تخيل آلة موسيقية ليس بها سوى نغمة واحدة تعطي نغمة واحدة ستكون منفره لكن تخيل أصوات مختلفة لنغمات مختلفة فهذه تعزف لحن جميل هكذا نحن في الكنيسة تميز أعضائها ليس لينفرد كل واحد عن الآخر بل ليدخل كل واحد في الآخر ويكمله كما يقول اللحن الكنسي ﴿ هؤلاء الذين ألفهم الروح القدس معاً مثل قيثارة ﴾ ( ذكصولوجية باكر ) .. هكذا نحن مؤلفين بالروح .. تجد شخصية متى الإنجيلي غير شخصية لوقا غير شخصية يوحنا غير شخصية مرقس .. متى الإنجيلي شخصية تميل للسلطة لذلك لم يرد أن يظل طول حياته يهودي لكنه أراد أن يدخل مع الرومان ويصير جابي للضرائب .. لديه حب السلطة .. لوقا الإنجيلي يميل للبعد الإنساني .. يوحنا الإنجيلي عنده البعد اللاهوتي والروحي .. مارمرقس الإنجيلي عنده البعد الخدمي والبذل والتضحية .. لذلك نجد معلمنا مار متى عندما كلمنا كلمنا عن المسيح الملك لأنه محب للسلطة ومارمرقس كلمنا عن المسيح الخادم .. ومارلوقا كلمنا عن المسيح المتجسد .. نقول نحن كنا محتاجين أن نعرف هذا البعد عن ربنا يسوع في النهاية تكملت الصورة لذلك هم ليسوا ضد بعض لكن كل واحد رسم جزء من الصورة كي تكون في النهاية أيقونة متكاملة .. ﴿ هؤلاء الذين ألفهم الروح القدس معاً مثل قيثارة ﴾ في النهاية لمن يعود المجد ؟ لإنجيل ربنا يسوع المسيح .. في النهاية الفضل لمن ؟ لربنا يسوع في النهاية ما هو الهدف لكل واحد منهم ؟ إنتشار ملكوت ربنا يسوع .. تعال لترى شخصية بطرس ويعقوب وبولس الرسول و ....... كلٍ منهم له بصمة .. له إتجاه .. لكن في النهاية مكملين إلى واحد .. ربنا يسوع المسيح .. مكملين كلهم كي يعزفوا نفس اللحن ولهم نفس الهدف هو إنتشار ملكوت ربنا يسوع على الأرض ولأننا ككنيسة أعضاء نعم مختلفين لكن مكملين فممكن أنا أنجذب ليوحنا اللاهوتي وآخر ينجذب لمارمرقس وآخر لمارلوقا .. كلٍ منا يجد ما في شخصه ما يغذي شخصه وينميه والكل لحساب ربنا يسوع هكذا في قديسي الكنيسة تجد فيهم ما يناسبك تجد الشيخ وتجد الشاب وتجد الطفل وتجد المرأة .. والعذراء و ..... تجد ما يناسبك ليس في نوعيتهم فقط لكن أيضاً في نمطهم .. فتجد الشاب الشجاع وتجد الشاب الوديع والراهب .. تجد الشهيد وتجد الناسك والباحث .. تجد اللاهوتي .. تجد كل ما يناسبك .. ما هي شخصيتك ؟ هل شخصيتك تميل للعزلة والوحدة ؟ كُل واشبع .. هل تميل للدراسة والتأمل ؟ كُل واشبع .. هل تميل للممارسات النسكية ؟ كُل واشبع إلى ما لا نهاية .. هل تميا إلى الشهادة والخدمة ؟ إلى ما لا نهاية .. ما هذا ؟ ﴿ هيأت قدامي مائدةً تجاه مضايقيَّ ﴾ ( مز 22 – من مزامير الثالثة ) .. أعطاك مائدة دسمة مشبعة من كل ما تطلبه وتحتاجه ولأننا كلنا واحد في المسيح فكلنا مكملين بروح ربنا .. صرنا خبزة واحدة لذلك تجد في القربانة إثني عشر صليب حول صليب كبير يسمي الإسباديقون وهو الجزء السيدي ويمثل ربنا يسوع وحوله إثني عشر صليب .. بذلك تكون الكنيسة كلها في هذه الخبزة لذلك مهما كان كثرة المتناولين في الكنيسة الأرثوذكسية فهي تتمسك بالتناول من خبزة واحدة .. لا تقل القداس اليوم به زحام شديد أو نحن في ليلة عيد أو قداس خميس عهد نقدم قربانتين أو ثلاثة ليأخذ كل واحد من المتناولين قطعة كبيرة ليتلذذ بها .. لا .. هي خبزة واحدة وإن كان كل واحد فيها يمثل حبة دقيق وقد يأخذ كل واحد منا قطعة بحجم حبة الدقيق وبذلك يأخذ الجسد كله هذا قصد الكنيسة لأن جميعها عجنت بماء واحد ونحن بنا روح واحد صرنا واحد وأي جزء فينا يمثل الكل .. ﴿ هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح ﴾ ( رو 12 : 5 ) .. صرنا مسكن لله لذلك المؤمنين في الكنيسة لهم تشبيهان مهمان .. يقول أنت فلك نوح مبني من عوارض خشبية كثيرة هكذا مؤمنوا الكنيسة كل واحد منا قطعة خشبية ليس لها قيمة لكن إن تجمعت بجانب بعضها صارت فلك جميل .. أيضاً كل واحد منا مثل خيمة الإجتماع بها عوارض وأوتاد وألواح كثيرة كل واحد منا يمثل شئ منها في النهاية يعطي خيمة لكن إن عزل كل واحد منا عن أخيه فماذا يشكل مسمار وحده أو قطعة خشب أو حبل ؟ لا شئ .. لكن عندما تدخل داخل المجموعة يصير له قيمة﴿ ليكونوا مكملين إلى واحد ﴾ لذلك إن كنا متميزين فلأننا متكاملين .. لذلك لا تجلس في بيتك وتقول هذا الولد متعب أو صفاته صعبة لا أعرف كيف أتعامل معه .. لا .. هذا لون من ألوان التمايز إقبله ووظفه بإسلوب صحيح إقبله وضعه مكانه .. زوجة تشكو أن زوجها مختلف الطباع نقول لها قد يؤدي هذا الإختلاف إلى التكامل وليس التنافر .. لذلك كل واحد منا مهم للآخر .. كل واحد منا يقبل الآخر ويعمل معه ويقبله حتى على علاته .. المهم أن يوضع في مكانه الصحيح .. من هنا المسمار مهم للخشب والمسمار والخشبة مهمان للحبل .. والمسمار والخشب والحبل مهمين للألواح و كلهم محتاجين للرمل كل واحد منا مهم للآخر لكن إن تنافر مع الآخر يصير بلا قيمة مستقل .. لذلك عندما يقول شخص أنا في حالي قل له هذا لا ينفع .. أنت لابد أن ترى وزناتك وتعرف إمكانياتك وإمكانيات من حولك والمسيح فيك وفيهم ومادامت روح المسيح فيك وفيهم فلا يمكن أن تكونوا إلا واحد ربنا يسوع الذي وحدنا معه يوحدنا به ويعطينا نعمة الوحدة لكي نكون مكملين إلى واحد ربنا يكمل نقائصنا ويسند كل ضعف فينا بنعمته له المجد دائماً أبدياً آمين. القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك
المزيد
23 فبراير 2021

آية يونان النبي

38:12 "حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً". بنوع من برود الأعصاب وعدم الاكتراث، بعد الذي سمعوه من المسيح يطلبون أن يروا آية. وكأنهم لم يروا شفاء الأعمى الأخرس أو بقية المعجزات. ولكن هذا في الحقيقة يُخفي عدم الإيمان وعدم الثقة معاً به وبأعماله، وما هذا الطلب إلاَّ نوعاً من التجربة. وكأنما يكرهون أن يسمعوا تعاليمه ويودُّون لو يسكت ليتسلَّوا بعمل آية. "نريد أن نرى منك آية (من السماء)": لم يعتبروا الأشفية ولا إخراج الشياطين آية، بل أرادوا آية "منك" أي شخصية تخص ذاتك ويكون مصدرها السماء، حتى نتعرَّف عليك بحسب ادعائك أنك أتيت من الله. وهذا فيه كثير من الصدق، لذلك ردَّ عليهم المسيح ردًّا صادقاً حقيقياً مُقنعاً، غير أنهم لم يفهموه بل كان يستحيل أن يفهموه، ولكن لا بد أن يفهموه! 39:12و40 "فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ". ابتدأ المسيح بوصف الجيل الذي يطلب آية من السماء، أنه جيل فاسق وشرير، بمعنى أنه خرج عن علاقته الأمينة بالله كما تخرج الزانية عن علاقتها بزوجها. وليس ذلك فقط ولكنه جيل يمارس الخروج عن ناموس الحياة الخاضعة لله. وهذا هو الشر عين الشر. والآن فقد صار حالهم كحال أهل نينوى الذين أرسل الله لهم يونان: "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتَّاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها لأنه قد صعد شرُّهم أمامي" (يون 1: 1و2)، "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى" (يون 4:3). واعتبر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي ينقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظلَّ في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا سيصير المسيح وإنما في باطن الأرض. وهذه هي معجزة الخلاص، لأن بموت المسيح وبقائه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ تمَّت ذبيحة الكفَّارة ومات المسيح بالجسد، أي بالبشرية التي فيه، وهكذا كفَّر عن خطايا البشرية، وقام بالجسد أي البشرية المفتداة للمصالحة مع الله. لذلك احتُسِبَت الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ في القبر أنها معجزة الجيل الفاسق الشرير - العظمى - لأن بهذه المعجزة الفائقة أُكمِلَت كل المعجزات وتمَّ استعلان المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبة. وطبعاً قال المسيح هذا وهم لا يدرون ما يقول، ولكن كان لازماً جداً أن يرد المسيح على طلبهم، لأنه يبدو أنه كان طلباً صادراً عن رغبة الفهم والمعرفة، إذ لم تكفِهم معجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، وهذا حق. فهذه المعجزات جميعاً لا تكفي لكي تحدِّد شخصية المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل. وهكذا أراح المسيح ضميره بأن قال لهم الحق الذي سيفهمونه فيما بعد، حتى وإن طال الزمن حتى الآن!! أمَّا تعليقنا على الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ فهي هكذا: النهار الأول أخذ ضمناً الليل السابق عليه، لأن اليوم اليهودي يُحسب من الغروب إلى الغروب، وأي جزء من النهار أو الليل يُحسب يوماً كاملاً، والمسيح استودع جسده في القبر قبل الغروب ثم دخل ليل اليوم الثاني، وهكذا يُحسب ما قبل الغروب يوماً كاملاً بليلته السابقة.فأول يوم هو يوم الجمعة لأنه حُسب له في القبر لأنه دُفن قبل الغروب + (ليلة السبت صابح السبت + نهار السبت = اليوم الثاني) + (ليلة الأحد صابح الأحد + الفجر = اليوم الثالث). 41:12و42 " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكَمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!" أمَّا الآية التي طلبوها فقد قالها لهم ليرضي قلبه وضميره، أمَّا أعمالهم التي يعملونها فهي أنهم لم يسمعوا لا ليوحنا المعمدان ليتوبوا معترفين بخطاياهم ويعتمدوا، ليصيروا قادرين أن يسمعوا للمسيح ويفهموا حتى ينالوا معمودية الروح وسر الملكوت؛ ولا هم سمعوا لنداء المسيح حتى إذا قبلوه غُفرت خطاياهم وتُركت آثامهم. بل قالوا على يوحنا إن به شيطاناً وقالوا على المسيح إنه بشيطان يُخرج الشياطين. وكأن خلفية معرفتهم وفهمهم هي على أساس الشيطان، لينسبوا إليه كل الأعمال حتى الحق. وهنا يواجههم المسيح بالمصير الأسود أن رجال نينوى بل ونساءهم وأطفالهم سيقفون في الدينونة يفتخرون عليهم أنهم تابوا بمناداة يونان النبي. أمَّا هُم فلا للمعمدان اعترفوا وندموا، ولا للمسيح تابوا. فصارت دينونتهم فضيحة لحكمة إسرائيل ومهزأة لأولاد إبراهيم.وزاد المسيح بملكة التيمن أنها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، أمَّا هم فقد داسوا أقوال الله على فم المسيح وأهانوها. فالذي كالوه للمسيح أشكالاً وألواناً من المراجعة والصدام والمَعْيَرة والإهانة والتهديد بالموت، بل والتعذيب قبل الصليب وعليه، سيصبح يوماً منظراً لكل العالم وهم واقفون يُسألون عنه وقد خرست أفواههم. وهكذا يا إخوة كل مَنْ لم يعمل للدينونة حساباً!! 43:12-45 " إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ".آخر ما يمكن أن يكشفه المسيح عن هؤلاء المتزعمين لجيل الكتبة والفرِّيسيين، وآخر ما كنَّا نظن أن نفتكر به. فالمسيح يوضِّح هنا سر كل الأمور التي عُرضت علينا والتي ستُعرض من جهة أعمال هؤلاء الحكماء والفهماء اليهود مع رؤساء كهنتهم وكهنتهم وشيوخ الشعب المتضافرين معهم، الذين ظهروا في النهاية عصبة واحدة متحدة قلباً وفكراً ونطقاً: "اصلبه اصلبه". فنحن كنَّا مذهولين من أعمالهم العدائية مع المسيح. لماذا؟ لماذا هذا الصدود المجاني؟ لماذا هذه المقاومة العلنية التي أضعفت إيمان الشعب؟ لماذا هذا الهجوم الفاجر ومحاولة القتل مراراً؟ ولكن عند الصليب انكشف المشهد الأخير عن قتلة محترفين وأعداء للحق والصدق والرحمة والعدل!! والآن فقط وهنا وفي هذه الآية فهمنا سر رؤساء هذا الشعب الذين نكَّدوا على الشعب هذه القرون كلها، والله طالب خلاصهم وطالب ودّهم. يُرسل لهم الأنبياء جماعة وراء جماعة من خيرة رجال النعمة والعظماء حقًّا، أنبياء تفتخر بهم البشرية، ويزيِّنون تاريخ الله مع الإنسان. قاوموهم واضطهدوهم وقتلوهم ثم زيَّنوا قبورهم وجعلوها مزارات. ولكن بقيادة هؤلاء الرؤساء والمعلِّمين والربيين قادوا الشعب من عصيان إلى عصيان، وما كُنَّا ندري أنه لهذا الحد يبلغ بهم فجور العصيان والتمرُّد على الله، مَنْ كان يصدِّق؟ هوذا الآن نصدِّق، فقد كرروا تمرُّدهم هذه المرَّة على ابنه الوحيد الذي أرسله الله يطلب ودّهم ويطالب بالثمر، ثمر آلاف السنين تعزية ومعونة ونعمة وسخاء ومجداً لهذا الشعب الجاحد.والآن عرفنا، ومِنْ هذه الآية، أن الشيطان كان هو الذي يقودهم ويعلِّمهم أصول التمرُّد ويسوقهم أمامه لعبادة الأصنام والشياطين والنجاسة، لكي يغيظ الله بواسطتهم وقد نجح أعظم نجاح. ولمَّا جاء الابن أذاقه المرار بواسطة حكماء هذا الشعب وعلمائه وكتبته وكهنته الذين ورثوا مع الختانة الخيانة، الخيانة لعهد الله وكلامه ووصاياه، واجتمعوا على الابن الوحيد فهزأوا به ومرَّروا حياته ثم قتلوه!وجيل يسلِّم جيلاً حتى صارت عدد الشياطين الساكنة فيهم سبعة شياطين مضافة إلى الواحد، وكلَّها أشرّ منه، هؤلاء طلبوا آية فكانت آية الصليب!حنَّان، قيافا، شيوخ الشعب، كتبة، فريسيُّون، ناموسيُّون، هيرودسيُّون، سنهدرين، مشيخة الشعب، خُدَّام، كلها قِناعات لبسها الشيطان بعدما فرَّق الأدوار على الأبرار الكاذبين، وخرجوا بمظاهرة دينية رائعة يهدِّدون بيلاطس، وخاف بيلاطس طبعاً. اصلبوه أنتم!! لا ليست لنا عادة أن نقتل أحداً!! اقتله أنت. فسلَّمه إليهم فقتلوه!! "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة." (لو 53:22) 46:12-50 " وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِلقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَواتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي". جيِّد من القديس متى أن يأتي إلينا هنا بأخبار الأُم الطاهرة والتلاميذ الأتقياء لنشتَمَّ رائحتهم العطرة ونَبِلَّ ريقنا بعد أن نشّفه لنا هؤلاء الكتبة والفريسيُّون ونزحوا علينا روائحهم الكريهة! مسكينة هذه الأُم المباركة القديسة زينة البشرية نبيَّة العهد الجديد وعزاء الأتقياء - جاءت تسأل عن ابنها! هي تعرف سرّه وتعرف سرّها، ولكن استودعت الكل قلبها وانتظرت ماذا ستكشف عنه الأيام. لا تستطيع أن تسير في الشوارع وحدها فجاءت تستند على أهل يوسف. لم تكن تطلب إلاَّ أن تراه فرأته من بُعد وارتاح قلبها وعادت.أمَّا هو فقد وجدها فرصة أن يعرِّفنا بالعائلة الكبيرة التي اتسعت لتضمنا. وهنا يكشف المسيح سر احتوائه للكنيسة الجديدة، كيف تآخى هو مع البشرية عندما صار بـِكْرَها بالتجسُّد، وكيف اتحدوا به في موته وقيامته، وكيف سلَّمنا جسده المقام من الموت لنصير فيه كلنا أعضاءً من لحمه وعظامه. وبالبداية وبالنهاية هي إرادة الآب السماوي التي صنعت منَّا كنيسة حيَّة واحدة إلهية. آباء وأُمهات وإخوة وأخوات، عجنة واحدة مقدَّسة، باكورة من خلائقه، أحبَّ أن يكون فيها هو الرأس فكان، وأحبنا أن نكون فيه الجسد فأعطانا!! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 يونيو 2022

التواضع في التعليم

صدقوني أكثر ما يتعب كنيستنا حاليًا هو عدم التواضع في التعليم.كل خادم يأتي له فكر جديد في تأملاته أو من قراءاته يحاول يجعله عقيدة ويُدَرِسَه للناس، وهناك نوع من الكُتّاب، ويروق لهم إلغاء المفهوم السائد ليُقَدِّموا بدلًا منه مفهومًا جديدًا وكأنَّ الواحد منهم قد اكتشف ما لا تعرفه الكنيسة كلها والناس جميعًا وكأنَّه يعلم ما لا يعلمون.المشكلة هي تقديم المفاهيم الشخصية وليس تعليم الكنيسة وعقيدتها. ومحاولة للجدل وللإثبات ولإقناع الناس بخطأ المفهوم السائد والبعض قد ينتقد الكنيسة. والبعض يُغَيّر ألفاظ القداس والبعض يُصَرِّحْ بزيجات بعكس قوانين الكنيسة والبعض يُصَلِّى بقداسات غير مألوفة في كنيستنا.وكل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه مصدرًا للتعليم.وكأنَّه جبهة مستقلة في تعليمه أو جزيرة قائمة بمفردها في المحيط وإنْ تدخلت الكنيسة لإصلاح الوضع، يقيم الدنيا ويقعدها، ويُحيط نفسه بمجموعة خاصة من تلاميذه لتسانده، ويقف ضد الكنيسة وينادى بأنَّ تعليمه هو السَّليم والكل مخطئ! وقد تجد لكل فرع من التربية الكنسية منهجًا خاصًا.أمين الفرع لا يعجبه المنهج العام، فيُعَدِّل فيه ويُبَدِّل، أو يضع منهجًا خاصًا يرى أنه الأفضل والأصوب.وإن شاء الله سنضع منهجًا موحدًا ونأخذ فيه رأى الآباء وقادة الخدمة فنرجو بعد وضعه أنْ يتواضع الخدام ويعملوا به.. ولا يقف لنا أحد ليقول من حقي أنْ أعترض.. ومن حقي أنْ أرفض، ومن حقي أنْ أسير حسب فكرى وإلاَّ فأين هي الديمقراطية في الكنيسة ولا يقول له أحد أين هو التواضع؟! الكنيسة الأولى تميزت بالفكر الواحد.لأنَّها كانت كنيسة متضعة تخضع لفكر قادتها.أمَّا البروتستانتية التي نادت بالحرية في التفسير والتعليم، فقد تكونت فيه مواهب متعددة زادت فيها مذاهب على المائة، أمَّا الكنيسة المحافظة التقليدية فإنها تحفظ الإيمان سليمًا، ولا تسمح بالمفاهيم الفردية التي تتحول إلى عقائد بل تنصح أصحابها بالاتضاع. الخادم المتواضع أيضًا لا يستعرض معلوماته!! إنَّما يقدم التعليم في أسلوب روحي هادئ. لا يحاول أن يفلسف المعلومات ولا يمسك ببعض الكلمات ويضع أمامها النص العبري أو اليوناني، أو بعض الترجمات الإنجليزية. وقد لا يكون الشعب على علم بشيء من كل هذا. وقد لا يكون كل هذا لازمًا لإثبات الفكرة التي يُقَدِّمْها. وقد لا تكون المراجع التي يستخدمها سليمة وقد يتبع في ذلك بعض المذاهب التي تسير بالمنهج العقلاني لا بالمنهج الروحي الخادم المتواضع ينزل إلى مستوى الخدومين ولا يبهرهم بمعلومات فوق مستواهم لا تفيدهم بشيء. إنَّه لا يُفكر في ذاته والمستوى الذي يريد أنْ يأخذه الناس عنه. إنَّما ينشغل بفائدة الناس الروحية، بينما تختفي ذاته تمامًا.لذلك هو يُحَضِّر درسه أو عظته أو محاضرته ولا مانع عنده أنْ تكون ورقة تحضيره ظاهرة فهو لا يُضَيِّع فائدة السامعين من أجل أنْ يأخذوا عنه فكرة أنَّه يتكلم من الذاكرة.. الخادم المتواضع يهتم بتحضير درسه. ولا يعتمد على معلوماته السابقة ولا على ذاكرته، كما يفعل بعض الخدام الكبار، ولا يُحَضِّرون ما يقولون فتبدو كلماتهم أحيانًا ضعيفة لأنَّهم لم يتواضعوا بل وثقوا بأنفسهم وبقدراتهم أزيد مما يجب. الخادم المتواضع يحترم عقليات السامعين مهما صغروا.ويبذل كل جهده لكي يقدم لهم كلامًا دسمًا يشبعهم. التواضع والذات الخادم المتواضع ينكر ذاته. يختفي لكي يظهر الرب، كما قال القديس المعمدان "ينبغي أنَّ ذلك يزيد وأنِّى أنا أنقص" (يو30:3).أمَّا غير المتواضع فيتخذ الخدمة ليبنى بها ذاته بطريقة خاطئة فهو يفكر كيف يرتقى في الخدمة، وليس كيف يرتقى بالخدمة، ويفكر في مستوى المجالات التي يتكلم فيها، وربما يسعى إلى المناصب وقد يصطدم بقيادات الكنيسة. ويتعوَّد كيف يأمر وينهى وينتقد وربما يفتخر بخدمته ومدتها ومستواها.يقول أنا لي 20 سنة في الخدمة. أنا خرَّجت أجيالًا.. ويكبر في عينيّ نفسه ويريد أنْ يُطاع، لا أنْ يطيع ويصطدم بالأنظمة الموضوعة. ويحكى قصصًا عن ماضيه ويدخله روح العظمة. الخادم المتواضع يكون كالنسيم الهادئ. في دخوله وخروجه لا يشعر به أحد، يكون رقيقًا دمثًا وديعًا، لطيفًا في معاملاته، لا يخدش شعور أحد، لا يجرح إنسانًا، لا يهتم بتولي مناصب في الخدمة، يطيع في كل ما يوكل إليه، "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت19:12) "ولا يرتئي فوق ما ينبغي" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 3). احذر أنْ تُفقدك الخدمة تواضعك.لأنَّ كثيرين كانوا متواضعين قبل الخدمة ثم تغيروا. أمَّا أنت فلا تكن كذلك لأنَّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! (مت26:16). قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي الجزء الأول
المزيد
01 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس باروخ

باروخ "وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة. لا تطلب "إر 45: 5 مقدمة لم يكن باروخ الكاتب نبياً أو ملكاً، ولكنه كان - إذ صح التعبير - الساعد الأيمن لإرميا النبى، وسعيد إرميا إذ عثر على هذا المساعد الأمين، الذى عندما قدم نفسه للخدمة، لم يقدمها طمعاً فى مال، فأغلب الظن أنه كان من عائلة غنية شريفة، ولم يقدمها طمعاً فى جاه، إذ قبل على العكس أن يكون ثانياً للنبى، عندما يريد الناس أن يعرفوه، فإن معرفتهم به ستأتى خلال معرفتهم للنبى العظيم، وإذا تحدثت قصته إلينا بشئ فإنها تؤكد أن خدمة اللّه ليست قاصرة على أصحاب الخمس الوزنات، بل هى فى حاجة إلى أصحاب الوزنتين أيضاً، وأن أعظم حركات التاريخ لم تتم بدون هؤلاء المساعدين الذين يقفون إلى جوار العظماء والأبطال، كما وقف يشوع إلى جوار موسى، وكما وقف أليشع إلى جوار إيليا، وكما وقف تيموثاوس إلى جوار بولس، إنهم قد يكونون من الرعيل الثانى فى الخدمة عندما يسقط الرداء عن الرعيل الأول، ومهما يكن الدور الذى يلعبونه، فقد يكون دور الغلام الصغير المساعد، الذى كان لابد أن يقوم به، عندما قدم الخمسة أرغفة من الشعير والسمكتين، فصنع بها المسيح معجزة إطعام الخمسة اللاف رجل ما عدا النساء والأولاد.وعلى هذا الأساس يمكن متابعة قصة باروخ فيما يلى: باروخ: من هو كان باروخ بن نيريا، ونحن لا نعلم من هو نيريا هذا على وجه التحديد لكن العائلة - على الأغلب - كانت من العائلات الشريفة الارستقراطية، إذ أن سرايا أخا باروخ (إر 15: 95) كان من الرؤساء الذين رافقوا الملك صدقيا إلى بابل، وأو بعبارة أخرى، كانت هذه العائلة من العائلات التى انتظم واحد من أبنائها فى السلك السياسى، وآخر فى السلك الدينى،.. واحد كان صديق الملك وفى معيته، وآخر كان صديق النبى وفى صحبته، ويبدو أن العلاقة بين سرايا وإرميا كانت طيبة، وفى الغالب كان سرايا من الرجال الطيبين، الذين مس اللّه قلبهم، حتى أن إرميا كلف برسالة خاصة يحملها إلى بابل، تحدث عن عمق إيمان النبى بمصير المدينة العظيمة التى أذلت بلاده، وحطمتها تحطيماً: " الأمر الذى أوصى به إرميا النبى سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل فى السنة الرابعة لملكه، وكان سرايا رئيس المحلة فكتب إرميا كل الشر الآتى على بابل فى سفر واحد كل هذا الكلام المكتوب على بابل. وقال إرميا لسرايا إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام، فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الوضع لتفرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خرباً أبدية. ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجراً وتطرحه إلى وسط الفرات، وتقول: هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون " " إر 51: 59 - 64 ".. ومهما تختلف الظروف الاجتماعية بين أخوين، ومهما يكن خط كل واحد منهما، فيكون الواحد فى القصر الملكى، ويكون الآخر فى الكوخ الصغير، فإنه لا يجوز لأحدهما أن يتعالى على الآخر، وعلى كل منهما أن يتمم رسالته، ويؤديها مهما يكن حظه أو وضعه فى الحياة!!.. ومهما يكن من وضع باروخ، فمما لا شك فيه، أن الرجل كان آية فى الوداعة والتواضع ونكران الذات، وذلك لأنه جاء دائماً ثانياً بعد إرميا وفى موضع الظل منه،.. فهو لم يضع حساباً لأصله وفصله كما تعود الناس أن يأخذوا هذا فى الاعتبار والحسبان. وهو لا يمانع فى خدمة إرميا وحمل حذائنه، والمسير معه، والمبيت على الطوى، دون أن يرى فى هذا أية مهانة أو تحقير لحياته ومركزه،.. ومع ذلك فقد كان الرجل شجاعاً، ولعله كان من أشجع الناس فى جيله، لقد كان عليه أن يحمل رسالة إرميا الثقيلة ضد الملك ورؤساء البلاد بل وضد الشعب نفسه، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من بلغوا أعلى درجات الجسارة والبطولة،.. من السهل جداً أن يصفق الناس لمن يرضى عليه الرئيس أو لملك، أو من يتمشى مع لغة الجماهير والشعوب ويتملقها،... ولكن أصعب الصور أن يسبح الإنسان ضد التيار مهما كان عاتياً وقوياً،.. وكان باروخ بهذا المعنى فى مواجهة التيار بل كان باروخ، أكثر من هذا، من أخلص الناس وأوفاهم، لقد ظل فى صحبة النبى وخدمته عشرين عاماً على الأقل، وقد صاحبه، لا فى مختلف الظروف فحسب، بل فى جولاته وتنقلاته، وقد ذهب معه إلى مصر، وهكذا كان الرفيق الوفى الأمين لنبى الأحزان،... وإذا كان الناس قد درجوا فى العادة على الفخر بالوفاء والإخلاص لمن ضحكت لهم الحياة وابتسمت الدنيا، فإن الوفاء الأصدق والأعمق يبدو فى الحقيقة عندما تأتى المحن والآلام،... كان فخر لوقا أن بولس وصفه بالقول: " لوقا وحده معى "،.. " 2 تى 4: 11 " فى الوقت الذى قال فيه: عن الآخرين فى احتجاجى الأول لم يحضر أحد معى بل الجميع تركونى لا يحسب عليهم "!!.. " 2 تى 4: 16 " وهكذا جاء باروخ ليعطى صورة للوفاء والولاء، عندما عز هذا أو ذهب من بين الناس!!.. باروخ والرسالة التى كلف بها لعل من أهم الحوادث فى حياة الرجل، الرسالة التى أوصاه إرميا النبى أن يكتبها، ويقرأها فى بيت اللّه، فى الهيكل، ويبدو أن عداء الرؤساء كان مستحكماً ضد إرميا، إذ منعوه من الدخول إلى البيت المفدى، بل كان محرماً عليه أن يدنو منه،.. ولما لم يجد سبيلا إلى الاتصال بالشعب، أملى الرسالة إلى باروخ وكلفه أن يقرأها فى آذان الشعب، وإذ قرأها، وكانت تتحدث عن عقاب أورشليم ويهوذا الرهيب نتيجة لخيانتهم الرب، وكان هذا كثيراً على الكهنة، والملك الذى بدلا من أن يتعظ ويتوب كما فعل يوشيا، ارتكب الحماقة الكبرى، إذ حاول القضاء على الكلمة وعلى الرسول الذى أعلنها، وعلى النبى المرسل بها من اللّه،.. كان يهوياقيم عندما قرأوا أمامه بعضاً من الرسالة جالسا فى بيت الشتاء يستدفئ، ولم يطق الملك سماع الرسالة المرسلة، فأخذ مبراة ومزق بها الكلمة، وألقى بها فى النار وظن أنه بذلك استطاع أن يتخلص منها وينتهى" انظر إر 36: 20 -32 "، وهو لا يعلم بأن ما مزقه، لن تحرقه النيران، إذ عاود إرميا وكتبه مرة أخرى بصورة أقسى وأشد، وحمل باروخ مرة أخرى الكلمة التى يحسن أن نقف لنراها، فيمن لا يزالون إلى اليوم يحاولون حرقها، ومع أننا لا نستطيع أن نعدد أنواعهم لكننا على الأقل يمكن أن نرى أشهرهم فى جماعات الملحدين الذين لا يؤمنون باللّه، وعندما تقدم كلمته لهم، لا نسمع منهم سوى كلمات السخرية والهزء، فالكتاب فى نظرهم قصة خرافية قديمة لا يأبهون لها، أو يتأملون فيها، وكم من الفلاسفة والناقدين والمتهجمين، من مد يده بجرأة وكبرياء ودون تعقل إلى الكتاب العظيم، وأمسك مبراته ومزقه ورمى به فى النيران،.. وهى كبرياء العقل البشرى، وسيتبين لنا عما قليل، حماقة هذا العقل وقصوره عن الرؤية الصحيحة للكتاب،.. وهناك جماعات السياسيين، الذين مزقوا الكتاب المقدس بدافع من سياستهم التى لم تستطع أن تعطى ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه،.. وهناك أيضاً جماعات المتعصبين، الذين أعماهم التعصب الدينى، وهم لا يريدون للكتاب انتشاراً، فقاوموا ترجماته، ليفسروه كما يحلو لهم ولرجال الكهنة فيهم،.. وتعيش الشعوب أسرى تقاليدهم التى ما أنزل اللّه بها من سلطان،... وهناك أيضا المهملون الذين قد ينتسبون إلى المسيحية، وقد نجد فى بيوتهم كل شئ إلا نسخة من الكتاب المقدس،... وقد نجد الكتاب، ولكن قد غطاه التراب إذ هو أقرب الأشياء إلى التحف التى يراها الإنسان كصورة أو زينة،.. ومن الغريب أن وقت هولاء يتسع لقراءة مختلف الكتب والدراسات، لكنه لا يتسع مطلقاً لدراسة الكلمة الإلهية أو قراءتها، أو الإلمام بما فيها،... وهناك أيضاً الخطاة المتعلقون بشرورهم وخطاياهم، وهم لا يقبلون الكلمة الإلهية التى توبخ خطاياهم، أو كما قال السيد المسيح: " وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله " " يو 3: 19 و20 ".. وهؤلاء جميعاً يتوجون يهوياقيم بن يوشيا ملكاً عليهم، ويحمل كل واحد منهم مبراته ليمزق الكلمة الإلهية ويلقى بها فى النار!!.. على أن السؤال هو هل استطاع هؤلاء الرافضون أن يتخلصوا من الكتاب المقدس، ومن سلطانه الأبدى عليهم؟؟.. كلا وإلى الأبد كلا!! إذ أن نيران التاريخ كلها أعجز من أن تنتصر على كتاب اللّه،... عندما ترجم وليم تندال العهد الجديد، وأقبل الناس على شرائه، أرادته الحكومة الانجليزية فى ذلك الوقت منع هذه الترجمة، فسعت إلى جمع النسخ وشرائها بأى ثمن وأحرقتها، وكان تندال فى حاجة إلى المال ليتوسع فى نشر الكتاب، ومن المال الذى وصل إليه، نتيجة شراء الحكومة الإنجليزية للكتاب لحرقه، استطاع أن يترجم الكتاب المقدس بأكمله، وينشره بين الناس، ولعلنا نذكر ما قاله فولتير عندما قال: إن هذا الكتاب سينتهى بعد خمسين سنة، ولم يحلم فولتير بأن بيته سيكون فى ذلك التاريخ الدار التى يطبع فيها الكتاب المقدس، ويخرج منها إلى فرنسا وغير فرنسا!!... ومن المثير أن الألمان النازيين عندما أحرقوا الكتب الدينية والمقدسة، وقال جوبلز إننا نضع الآن أساس حرية جديدة، وروح جديدة، وبهما سنغلب، لم يكن يعلم أن صحيفة ألمانية ستكتب بعد سقوط النازية: إن، الكتاب المحترق مايزال يعيش!!... كان الملك يهوياقيم أحوج الكل إلى كلمة اللّه،... كانت مصر تستعبده، وبابل تهدده، والظروف الضيقة تحيط به من كل جانب، وكان فى حاجة إلى صديق ومرشد ومنبه ومحذر، وكانت كلمة اللّه يمكن أن تكون هذه جميعها له، ولكنه لم ينتفع بالكلمة كما انتفع أبوه يوشيا بها، وكانت خسارته لذلك فادحة وقاسية،... وليس هناك من خسارة تعدل خسارة إنسان لا يقرأ الكلمة الإلهية، أو يطوح بها، أو يحرقها، أو يلقى بها فى طريق حياته، وموكبه الأرضى،... وإذا كانت توماس كارليل قد قال: إنه من وقت عصا موسى حتى اليوم ليس هناك قوة تضارع قوة العلم،... وهو يقصد بذلك أثر الكلمة المكتوبة فى حياة الناس، ومما تفعله الصحف والكتب والمجالات، فإنه مما لا شك فيه أن الكلمة الإلهية تقف من كل كلمة أخرى مكتوبة الموقف الذى ذكره إرميا حين قال: " ما للتبن مع الحنطة يقول الرب، أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر "؟.. " إر 23: 28 و29 "، أو بعبارة أخرى، إن الفارق بين كلمة البشر، وكلمة اللّه، هو الفارق بين التبن والحنطة،... وكل الاثار التى يمكن أن يتمخض عنها كلام البشر، وإذا قورنت بالكلمة الإلهية، هى التبن عندما يقارن بالحنطة إذ صح أن نقارن بين الاثنين،... فالتبن بادئ ذى بدء خفيف وكلام البشر كاذب يطير فى الهواء إذا قورن بالصدق الإلهى،... وما أكثر كذب الناس أو نفاقهم الذى تمتلئ به الصحف والمجلات والكتب كل يوم بالمقارنة أو الموازنة مع الحق الإلهى!!.. والتبن ليس غذاء للإنسان، بل هو طعام الحيوان والكلمة البشرية فى سداها ولحمتها، ليست إلا غذاء للحيوانية الكامنة فى الإنسان، ويوجد كثيرون من الكتاب لا يفعلون شيئاً من وراء الكلمة التى يكتبونها سوى إشباع الحيوانية فى الإنسان، أو إرضاء النزوات الحسية أو الاجتماعية، ويحتاجون إلى من يصرخ فيهم، هذا كذب، وبهتان وتضليل، وهوس وحشى حيوانى!!.. والتبن رخيص، وكل أدب إذا قورن بأدب الكتاب هو أدب رخيص وتافهه وحقير،... والتبن تذروه الرياح سريعاً، وتلتهمه النيران فى ومض البصر!!.. وكذا الكلام البشرى أمام الحق الإلهى واللهيب الأبدى!!... وعلى العكس من ذلك كلمة اللّه التى هى الحنطة المشبعة... كان شيشرون عندما يخطب يعتقد أنه يقول الحق تماماً،... وعندما يذهب إلى بيته يتساءل: هل كل ما قاله حق تماماً،... لكن كلمة اللّه تشبع على الدوام الفكر والمشاعر والإرادة،... إنها الحنطة الحقيقية للإنسان،... وهى إلى جانب ذلك الكلمة الملهبة إذ أنها نار، والنار تضئ قبل ان تحرق،... وكلمة اللّه هى النور المرسل لإنسان يعيش غارقاً فى الظلام - وهى النار المحرقة التى تحرق كل كذب وضلال.وجاء فى أسطورة قديمة أن هناك سائلا إذا شربه أى إنسان فإنه يضحك ويظل يضحك حتى يموت من الضحك،... وما أكثر ما تكون هكذا كلمات البشر التى تخدع الإنسان وتضحكه، وكان أولى بها أن تبكيه، لو أنها كانت بحسب الحق الذى يعلنه اللّه القدير فى كتابه، والذى يحرق الأوهام والأضاليل، ويضع الحقيقة مجردة وعادية أمام الإنسان،.. والكلمة الإلهية هى أيضاً، المطرقة التى تحطم الصخر، والإنسان إذا قسا قلبه وتحجر واستعبد للتقاليد والعادات الاثمة والشريرة، فليست هناك قوة تستطيع أن تحطم عنفه وقسوته وشره كما تفعل كلمة اللّه،... ولعل يهوياقيم بن يوشيا كان فى حاجة إلى هذه الكلمة التى رق أمامها قلب أبيه العظيم الملك يوشيا!! باروخ والعظمة المهجورة قال اللّه لباروخ: " وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة؟ لا تطلب ". ولعل باروخ كإرميا ضاق بالالام التى أحاطت به، والمتاعب التى توالت فى حياته، فى أيام امتلأت بالاضطهاد والمشقة والأحزان،... وربما جرب كإنسان، عندما كان أخوه فى القصر الملكى، يتمتع به الساكنون فى القصور،... لماذا لا يكون كأخيه، واحداً من عظماء الأمة، وسادة القوم ألم تلده أمة، كما ولدت أخاه!!؟ وألم ينشأ فى بيت واحد، فلماذا ينعم أخوه بما ينعم به العظماء فى الأرض، ويبقى هو على حظ من المعاناة والمتاعب! فى الحقيقة إن هذه تجربة البيوت العظيمة فى الأرض، عندما يتراجع أو يتقاعس أولادها عن الخدمة الدينية، لما قد يكون فى هذه الخدمة من عار أو تعب أو مشقة أو ضيق، ولكن أولئك الذين دخلوا الخدمة، وكانوا من أعظم البيوت على الأرض، لم يترددوا قط فى إدراك الحقيقة التى ملأت قلب موسى الذى " لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنه فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه على أن يكون له تمتع وقتى بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر " عب 11: 24 - 26 ". واستولت على مشاعر يوسف حتى حمل شعبه الرسالة أن تؤخذ عظامة عند رحيلهم من مصر، مع أنه كان يمكن أن يفاخر بأنها تتحنط لتغالب الأيام والليالى كجثث المصريين المحنطة،... وهى التى دعت نحميا إلى أن يرى فخره العظيم، لا فى أن يكون ساقياً للملك، أو وزيراً مفضلا فى قصره بل بالأحرى، أن يقف على أكوام التراب فى مدينة ابائه المحترقة، كى يرممها ويعيد أسوارها من جديد!!.. وهى التى جعلت دانيال ورفاقه من الشرفاء، أن يتطلعوا بأحلامهم وخيالهم، من البلاد البعيدة، نحو المدينة التى أسروا منها، ولكنها كانت آسرة لقلوبهم وعواطفهم فى السبى والمنفى،... كان باروخ يدرك ما هى العظمة الحقيقية، إذ أنها ليست المنبت العريق أو القصور الشامخة الماضية،... بل هى الحقيقة الكامنة فى أعماق الإنسان نفسه حيث يمكن بشخصه، دون بيته، أن يكون عظيماً أو غير عظيم،... كان اثنان يتجادلان، وكان أحدهما يفخر بعائلته، ويقول للآخر: وأنت من أنت!!؟... وأجابه الآخر: إن فضيلتى تبدأ من حيث تنتهى فضيلتك، إذ حسن أن تكون من عائلة عظيمة وعريقة، ولكن الأفضل لا أن تنبت من عائلة عظيمة، بل أن تكون أنت فى ذاتك عظيماً!. وكان باروخ، بهذا المعنى، على عكس الظاهر، أعظم من أخيه سرايا، الذى وإن كان كما يبدو من اللغة الكتابية، رجلاً كريماً طيباً، لكنه لا يمكن أن يرقى بحال ما إلى شخصية أخيه الذى عاش مع إرميا وفى خدمة اللّه!!... إن نقطة العظمة الصحيحة تبدأ من علاقة الإنسان باللّه،... عندما زار مارك نوين أوربا، استقبله المللوك والأمراء، وأفردت له الصحف مكاناً كبيراً على صفحاتها، وفى عودته إلى أمريكا قال له ابنه الصغير على ظهر الباخرة: يا أبى يخيل إلى أنك أصبحت تعرف جميع الملوك والأمراء والعظماء، ولم يبق إلا اللّه لتعرفه!!.. وأنها لأكبر مأساة على الأرض أن يعرف الناس العظمة بهذا المعنى فيعرفون ويعرفون إلا من اللّه،... إن الشهرة طبل أجوف لا يلبث ان ينتهى أو يضيع، ولعل اللّه وهو يقول لباروخ لا تطلب لنفسك أموراً عظيمة، كان يقصد أن يذكره بهذه الحقيقة التى ربما غابت عنه وراء التجارب والمحن التى أحاطت بحياته!!. وما أكثر الأخطار التى تلحق بالإنسان من العظمة حسب مفهوم الناس، وهو يوم ينسى اللّه، أو يهمل الشركة معه، سيتعرض للكثير من التجارب الروحية والأدبية، إذ يتعرض للانانية وحب الذات، والرغبة الكاملة فى أن يعيش جيله وعصره، تسلط عليه الأضواء، ويلمع اسمه بالنور، وإلا فإنه سيقاتل ويصارع، ويسحق كل من يحاول أن يقف فى طريقه، أو يضعه فى الظلال أو الظلام،... وهو على استعداد أن يفعل ذلك، فى نطاق الحياة العالمية أو الكنسية أيضاً، ألم يفعل هذا ديو تريفس الذى يحب أن يكون الأول، وهو على استعداد أن يفعل كل شئ فى سبيل ذلك إلى الدرجة التى فيها لا يقبل الرسول يوحنا، ويهذر عليه بأقوال خبيثة، ولا يقبل الأخوة، ويمنع أيضاً الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة، " انظر 3 يو: 9 و10 ".. كما يتعرض الباحث عن العظمة إلى ما يخف بها من حياة الترف والدعة أو الكسل، أو حياة الكأس والطاس، دون أن يبالى بآلام الآخرين أو تعاساتهم أو أحزانهم أو ماسيهم، وكان باروخ مجربا بهذه كلها، ومن ثم قال له: " وأنت فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة؟ لا تطلب … ".. باروخ والضمان الإلهى لا يستطيع الإنسان أن يفهم الضمان الإلهى لباروخ إلا إذا ذكر أن هذا الضمان جاءه فى عام 605 ق. م. عندما قام نبوخذ ناصر بغزواته الواسعة، فقضى على اشور فى عام 613 وتحول إلى مصر فى موقعه كركميش المشهورة، وانتصر على فرعون نخو، وكان نبوخذ ناصر فى اكتساحه للأمم والممالك، أشبه بهتلر فى اكتساحه لغرب أوربا فى الحرب العالمية الأخيرة حيث ترك وراءه الفزع والرعب والحيرة والقلق فى كل مكان، ولا شبهة فى أن باروخ كان كإرميا مشغولا بمصير بلاده ووطنه، وزادته نبوات إرميا حزناً على حزن، وألماً على ألم، وعندما كانت بنفسه أفكار العظيمة التى يحلم بها، ولماذا لا يكون على الأقل مثل أخيه فى القصر الملكى؟... أعطاه اللّه الصورة المروعة للخراب الذى ستصل إليه بلاده،...: " هأنذا أهدم ما بنيته، واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض " (إر 54: 4) ولعله قد أبصر المصير التعس الذى سيذهب إليه أخوه نفسه، الذي سيهوى مع الملك صدقيا من حالق، ويساق وإياه إلى السبى القاسى فى بابل، وهو لن يأسف على العظمة الضائعة لبلاده فحسب، بل على المصير المحزن للاخ الذى تاق أن يكون مثله!!.. وقد قصد اللّه أن يريه قصة العظمة البشرية التى مهما علت، فإنها فى سبيلها إلى الحضيض والرماد،... ولست أظن أن هناك صورة تتفوق على ماكتبه إرميا عن مصير بابل المؤكد مما أشرنا إليه قبلا، وكيف أن المدينة، فى أعلى مجدها وقمته، ستغرق إلى الأبد دون أن تقوم لها قائمة إذ هى رمز للشر والفساد اللذين مهما علا فعلهما وامتد، فإنه سيسقط، كما صاح الرائى فى روياه العظيمة: " سقطت سقطت بابل العظيمة.. من أجل ذلك فى يوم واحد ستأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوى. وسيبكى وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين: ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية، لأنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك ".. " رؤ 18: 2 و10 "وكل عظمة بشرية، طال الزمان عليها أو قصر، مصيرها إلى الضياع والهلاك، لأن يد اللّه القوية تتعقبها فى كل مكان، وتغرقها كالحجر الذى يسقط فى نهر الفرات!!.. على أنه على قدر ما يحدث من اضطراب أو فزع لجميع الشعوب والناس، فإن المؤمن سيبقى على الدوام محروساً باللّه مضموناً بقدرته وقوته، وأينما يذهب باروخ وأينما يتنقل، وفى الوقت الذي يجلب فيه اللّه الشر على كل ذي جسد: " أعطيك نفسك غنيمة فى كل المواضع التى تسير إليها ".. " إر 45: 5 " فإذا كان إرميا قد طوحت به الحياة، وباروخ معه، ورأيا روى العين، الهجوم الذي دمر أورشليم، والجماعات التى ألزمتهما بالذهاب معها إلى مصر،.. فهما فى أى مكان فى الأرض، وفى وسط الحروب والقلاقل والفزع الذى يكتسح العالم بأجمعه يعلمان تمام العلم، أن المؤمن آمن لأنه فى قبضة يمين القادر على كل شئ،... ولعلهما غنياً معاً، أو غنى الواحد منها: " الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت أقول للرب ملجأى وحصنى إلهى فأتكل عليه. لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر. يخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى - ترس ومجن حقه - لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير فى النار، ولا من وبأ يسلك فى الدجى ولا من هلاك يفسد فى الظهيرة، يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار ".. " مز 91: 1 - 8 ".
المزيد
01 يناير 2022

القديس يوسف البار ج4

في خضوع الرب: الأمر الذي يُربِك الذهن، كيف احتمل القديس يوسف خضوع الربّ وامتثاله له، لكلّ ما يؤمَر به أو يُوَجَّه إليه. فالأمر ليس يومًا أو بعض أيام.. بل سنوات وسنوات، منذ الميلاد إلى أن أكمل القديس يوسف غربته على الأرض، وهذه بحسب التقليد تربو على سبع عشرة سنة. عاش الرب خلالها كابن مع أبيه بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، في الحياة اليومية، وفي النمو الطبيعي، في كلّ الأطوار بالطبع يجوز الأطفال في أيّام الصحّة والمرض.. ولكنّنا ننحاز إلى الفكر أنّ الرب لم يمرض، وإن كان في أيّام خدمته لخلاصنا حمل أمراضنا عليه، وحمل تأديب سلامنا، بل وحمل موتَنا على الصليب. فإن كان المرض شيء طبيعي للطبيعة الساقطة التي تحمِل الموت فيها، إذ اجتاز الموت إلى جميع الناس، وهكذا يَظهَر المرض كعلامة من علامات ضدّ الحياة، أي الموت.لذلك نقول إنّ المسيح له المجد في تجسّده اتّحد بطبيعتنا البشرية دون أن يكون عنصر الخطية فيها. فالروح القدس حلّ في أحشاء البتول، قدَّسها وطهَّرها وملأها نعمة. لذلك عَبَر الربّ سنوات الطفولة بكلّ ما فيها، ولكن بدون مرض أو نقص، فهو الكمال المُطلَق الذي لا يشوبه عوار. ولكن كطفل طبيعي سهر عليه القديس يوسف والأم العذراء وقاما بكلّ ما تتطلّبه رعاية الطفولة عاش الصبي يسوع، ونما في النعمة والقامة، وتسلّم مِن القديس يوسف صَنعة النجارة، وصار يمارسها حتّى دُعِي نجّار الناصرة، واشتُهِرَ بها حتى قالوا: «أَلَيْسَ هذَا النَّجَّار ابْنَ يُوسُفَ؟ (لو4: 2، مت13: 55). في البداية كان يساعد القديس يوسف كصبيّ نجار، يحمل الأخشاب ويجهّزها.. ويمسك بطرفها عند نشرها، ويساعد في تثبيتها.. يقضي مُعظم نهاره يراقب ويساعد إلى أن تَسَلّم تفاصيل الصنعة. وتعامَل مع طلبات الناس يلبّيها، ولم يخلُ الأمر من تفاوُت أمزِجة الناس، فمنهم الطيّب المسالِم، ومنهم غير ذلك، ومنهم الأمين الملتزِم، ومنهم على غير ذلك.. ومنهُم مَن يشكر ويمدح العمل، ومنهم غير ذلك ونحن يتملّكنا العجب حينما يذهب بنا الفكر إلى تفاصيل الحياة اليومية آنذاك، ومعاملات الناس على اختلاف أنواعهم، وحين نفكّر أنّ الربّ فاحص القلوب، ومُختبر الكُلَى الذي عيناه تخترقان أستار الظلام.. وكلّ شيء مكشوف وعريان أمامه، حتّى نيّات الناس وخفيّات أسرارهم كانت أمامه. ولكنّه تعامَلَ معهم كمن أخلى ذاته آخذًا شكل العبد «ناظِرٌ كَثِيرًا وَلاَ يُلاَحِظُ. مَفْتُوحُ الأُذُنَيْنِ (العينين) وَلاَ يَسْمَعُ (يبصر)» كما تنبّأ عنه إشعياء (إش42). فنيَّات الناس وأفكار قلوبهم مكشوفة أمامه، ولكنّه كان كمَن لا يَرى ولا يعرف، وذلك بحسب تدبير الإخلاء الذي أكمله بإرادته وحده. قيل عن القديس يوسف البار إنّه كان قد تزوّج في شبابه، وإنّه أنجب أولادًا وبنات، وهُم مَن دُعوا أخوة الرب. وقد أيّد هذا الرأى بعض الآباء الأولين، بينما عارضه آباء آخرون، وقالوا ببتولية القديس يوسف، وفسَّروا أمر أخوة الرب أنّ العادة في تلك الأيام أن يلقَّب أولاد الخالة إنّهم أخوة. وقالوا مثلاً إنه مكتوب: «وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، مريم أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي» (يو19: 25). فليس من المعقول أن تكون مريم أم يسوع ومريم الأخرى أختَيْن بنفس الاسم، فهما أولاد خالات، ولذلك دُعِيَ أولاد مريم زوجة كلوبا أخوة ليسوع، باعتبار إنّهم أولاد أختَيْن. وقد مالت الكنيسة الكاثوليكيّة إلى هذا الرأي، وهكذا معظم آباء كنيستنا. على أيّ الأحوال، سواء كان ذلك الرأي، أو الرأي الآخر، فالأمر لا يغيّر شيئًا من الرسالة العظمى التي اضطلع بها، والدور المحوري الروحي الذي اختاره الروح القدس لتكميله، والذي بسببه صار للقديس يوسف مَنزلة منفردة لم يشاركه فيها أحد من القديسين، كحارس للسر الإلهي، كمُعتنٍ ومُربٍّ وقائم بالعناية والتربية، وبدور ربّ البيت، كرجلٍ للسيّدة البتول، وكأبٍ للطفل الإلهي. قائمة نسب المسيح: القديس متّى الإنجيلي بدأ إنجيله هكذا: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ». وبدأ يتتبّع التناسل من أب الآبّاء إبراهيم حتّى داود الملك، وقد رصد أنّ هذه الحقبة أربعة عشر جيلاً. ثم من داود إلى أيام سبي بابل أربعة عشر جيلاً، ثم من سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً. وتتبّع القديس متى ما كان مُسَجّلاً من الأسماء واحدًا فواحدًا دون إغفال أيّ اسم مهما كان شأنه، فبعضهم قديسون مشهودٌ لهم من الروح القدس في الأسفار، وبعضهم كانوا غير ذلك. وقد سَجّل بالروح أيضًا بعض التلميحات، مثل يهوذا ولد فارص من ثامار [ثامار كنّته.. أي زوجة ابنه عندما رفض أن يزوّجها لابنه خوفًا عليه من الموت، فتظاهَرَتْ كأنّها زانية، وجلست على الطريق حينما عَبَرَ يهوذا، وزنى معها، وأخذَتْ مِنه رَهنًا، وإذ قِيل أنّ ثامار حامل، قال يهوذا أن تُرجم.. ولكنّها أظهرَت الرّهن، وقالت مِن الرجُل الذي له هذه أنا حُبلَى -الرهن كان خاتمه وعصابته وعكازه-. فقال يهوذا أنتِ أبَرّ مِنِّي]. لم يَعبُر الروح على هذه رغم آلاف السنين!! هكذا عندما سجّل أنّ داود وَلَد سليمان.. قال الروح: «مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا».. أي مِن التي ليسَتْ له. على الرغم من التوبة التي قدّمها داود.. وعلى الرغم من ألف سنة مَضَتْ. لكن تَسَجَّلت هذه الواقعة وغيرها في سجلاّت الأبد. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
19 يونيو 2021

ميمر في عيد العنصرة

سبيلنا أن نتفلسف في العيد قليلاً. ليكون تعييدنا روحانيّاً. وذلك لأنَّ لكل أحدٍ غيرنا عيداً يخصه. وأما خادم الكلمة. فعيدهُ النطق. ومن النطق ما كان ملائماً للوقت. وليس شيءٌ حسنٌ يسرُّ ھكذا لأحدٍ من مؤثري الحسنات مثل حضور من يودّ الأعياد والمواسم الروحانية. ويجب علينا أن ننظر ھكذا. وذلك أن اليھودي يعيّد ولكن بما يخصُّ الكتاب لأنه قصد الناموس الجسداني فلم يصل الى الروحاني.والصابئَ يعيّد أيضاً ولكن بما يلائم الجسم وعلى حسب مذھب آلھتِه وشيطانية الذين منھم مَن أبدع عوارض الفساد على رأيھم أنفسھم ومنھم من كان تكريمهُ من ھذه الأعراض فلذلك صار تعييدھم مضاھياً للفساد حتى يكون تكريم الإله عندھم الإثم بعينِه فيفرّ إليهِ عوضاً من الفساد كأنه محمدة. ونحن نع يد أيضاً ولكن بحسب رأينا في الروح. والرأي عندنا: إما أن نقول شيئاً مما ينبغي. وإما أن نعملهُ. وھذا ھو تعييدنا أن نخزن للنفس شيئاً مما يثبت وينضبط لا مما ينحلُّ وينصرف. ويطرب الحسَّ قليلاً ويفسدهُ كثيراً ويضرُّ به. على حسب الرأي عندي يكفي الجسم شرَّ ذاتِه فلِمَ يزادِ اللھيب مادَّةً ولِمَ للوحش أن يغمر طعاماً حتى يزيد التمكُّن منهُ بعداً ويصعب على الفكر انقياده. فمن ھھنا يجب أن نعيّد تعييداً روحانياً.فأول الكلام فيما يجب أن نقوله وإن طال الشرح قليلاً فيجب على وامقي الكلام أن يؤثروا التعب في ذلك لنخلط ذلك في ھذا الموسم مثل ملذَّة ما وذلك أن أولاد العبرانيين يكرمون السابع على سنَّة موسى. كما أكرم أصحاب بيثاغوروس بعدھم الرابع فجعلوه لھم قسماً. وكما أكرم أصحاب آل سيمون ومركيون عدد الثمانية وعدد الثلاثين فقد سمُّوا دھوراً تسامي ذلك في العدد ولست أعلم على أي رأي وقياس ذلك؟ وأية قوَّة لھذا العدد فيكرمونه بھا. ولكن على كل حال ھم لذلك مكرومون. إلا أن الظاھر في ذلك أن لله عزَّ وجلَّ أبدع الھيولى في ستة أيام وصوَّرھا وزيَّن ھذا العالم المنظور بأنواع وصور شتَّى لما خلقه. فلما كان اليوم السابع استراح على ما يدلُّ عليهِ اسم السبت فإنهُ باللغة العبرانية يدلُّ على الراحة. فإن كان ھھنا رأي آخر أشرف فيتفلسف فيه غيرنا.والكرامة عندھم (عند العبرانيين) ليست في الأيام وحدھا بل ھي واصلة الى السنين. فكرامة الأيام ولَّدت لھم ھذا السبت الذي يكرّمونه دائماً وعلَّته من عدد أيام رفع الخمير عندھم. وأما كرامة السنين فمنھا صار السابع من السنين عام الفصح والتسريح. وليست الكرامة عندھم في السبعة وحدھا بل في سبعة السابعين وذلك متشابهٌ عندھم في الايام والسنين. فأمّأ سبعة الأيام فولدت يوم الخمسين يوماً مدعواً عندھم "مقدساً" وأما سبعة السنين فولدت العام الذي يسمونه يوبيلاً وفيه يكون عندھم تسبيل الأرض وعتق العبيد وإطلاق ما اقتني بثمنٍ. فبذا القبيل ليس يزكي لله بواكر الغلات والأبكار وحدھا بل نواجم الأيام والسنين أيضاً. فعدد السبعة المكرَّم عندھم بعث لنا كرامة البنديقستي وذلك أن السبعة إذا كرِّرت بمثلھا سبعة كانت خمسين إلا واحداً وھو اليوم الذي أخذناهُ من الدھر المستأنف فھو بعينه يزم ثامن وأول بل ھو واحد لا ينحلُّ ولا يزول وھناك ينبغي أن تنتھي سبوت النفوس كما يجب أن بعطى جزءٌ للسبعة بل للثمانية أيضاً بحسبما رأى قوم ممن كانوا قبلنا في قول سليمان.إلا أن إكرام السبعة لع شھادات جملة فيكفينا قليل من كثير. كما أن ھھنا أرواح سميت كريمة لأن أشعياء عندي (أي حسب رأيي) أنه كان يؤثر أن يدعو أفعال الروح أرواحاً. وكلام الرب مطھَّر سبعة أضعافٍ عند داود. والصدّيق مخلَّص من الشدائد ست دفعات والسابعة فھو فيھا غير مجروح. والخاطئ فمصفوح عنه ليس سبع مرات فقط بل سبعةً في سبعين وبضدّ ذلك عقاب الشرّ ممدوح فقايين أُخِذَ منه الثأر سبع مرات. أي طولب بالثار عن قتلهِ أخاه. وأما لامخ فمؤَدٍّ ذلك سبعةً في سبعين لأنه كان قاتولاً بعد الناموس وفرائض الدين. وأما الذين كانوا ذوي شرور فصاروا آخذين في حضونھم سبعة أضعاف ما بُذِر منھم. وبيت الحكمة كان مدعوماً من العمد بسبعة وحجر زربابل فبعدد ذلك عيوناً كان مزيناً. ولله ممجدٌ بالتسبيح سبع مرات بالنھار. والعقر ولدت سبعة وأتت بالعدد الكامل وھي ضدٌّ لمن كانت غير تامَّة الأولاد.وإن تدرجت في النظر في العھد العتيق وجدت أخنزخ السابع في السالفين بالنقلة من المكرمين. ووجدت ابراھيم الحادي والعشرين برئاسة الأبوًّة من الممجدين بزيادة في السرّ مضاعفة لأن السبعة إذا ثُلِّثت كانت بھذا العدد آتية. وقد يجسر أحد من المتجاسرين في كل شيءٍ على الأقدام على آدم الجديد الذي ھو إلھنا وربنا يسوع المسيح فيجدهُ من آدم العتيق الذي كان تحت الخطيئة سابعاً وسبعين في العدد بحسب نسبة لوقا المعكوسة. وأرى أيضاً سبعة ابواق يشوع ابن نون ودورات الكھنة. كذلك بھذا المقدار من الأيام فد ھُدِمت أسوار أريحا. وأرى عودة إيليا النبي الثالثة لما عاد على ابن الأرملة الصرفندية قد نفخَت فيه الروح المحيي وأرى نضحهُ على شقق اللحم بھذا العدد قد استدعى ناراً منزلة من عند لله أحرقت الضحية وحكمت على أنبياءِ الخزي لما لم يقدروا على مثل ذلك بما قدموهُ من دعائھم. وأرى كذلك مراقبة الغمام وقد أمر بھذا الغلامَ سبع مراتٍ. وأرى من أليشع سبع عطفات على ابن الصومانية قد عطفت بالحياة عليه. ومن ھذا المعنى أيضاً أذكر الآن منارة الھيكل ذات السبعة القوائم والسرج السبعة. وفي سبعة أيام أرى الكاھن متمّماً وفي مثلھا الأبرص مطھَّراً والھيكل في عدد مثلھا مجدّداً. والشعب في السنة السبعين من السبي عائداً ليكون ما تقدم في الآحاد في العشرات مكرراً وسرُّ السابع في عددٍ أتمَّ من غيره مكرماً. وما لي أطيل في القول ويسوع نفسه الذي ھو التمام النقي قد رأى أن بغذي في القفر بخمس خبزات خمسة آلاف وبسبع أيضاً أربعة آلاف. وفضل عنھم بعد ما شبعوا أما ھناك فاثنتا عشرة قفة وأما ھنا فسبعة سلال وليس شيء من ذلك في ظني بغير قياس ولا بعيد من استحقاق الروح. وأنت إذا تفقدت في نفسك وجدت أعداداً كثيرة فيھا ما ھو أعمق من ظاھرھا إلا أم ما تحتاج إليه في ھذا الوقت أن العبرانيين إمَّا على ھذه الأحوال. و‘ما على ما يقرب منھا. وإما على ما ھو أجلُّ منھا يكرمون البنديقستي (العنصرة) ونكرم ذلك نحن أيضاً كما أن ھھنا أيضاً من رسوم العبرانيين أشياءَ أُخر كثيرة معمولة على جھة الرسوم وعائدة عندنا على معنى السرّ.فإذا كنا قد قدَّمنا في ھذا اليوم ھذا المقدار من الكلام فسبيلنا الآن أن نصير الى ما يتلو ذلك فيما بعد من القول. فنقول إننا معيدون عيد الخمسين وورود الروح وصلوا الميعاد وتمام الأجل. والسرُّ عظيم القدر وكريم من كل جھة. فجسدنيات المسيح قد انتھت بل الذي انتھى ھو أحوال قدومهِ الجسداني لأنني متوقف عن أن أسباب الجسد قد انتھت ما دام لا يقنعني قول بأن الأجود انتزاحهُ عن الجسد.وقد ابتدأت الآن أسباب المسيح؟ فھي بتولٌ وميلادٌ ودذود وتقميط وملائكة يمجدون ورعاة يتسارعون ومسير كوكب وسجود مجوس وحملھم ھدايا وقتل ھيرودس اطفالاً وھرب يسوع الى مصر وعودتهُ من مصر وختانتهُ ومعموديتهُ والشھادة لهُ من العلو وامتحانهُ ورجمهُ بالحجارة لأجلنا نحن الذين كان ينبغي أن يعطينا مثالاً للتألم من أجل الكلمة وتسليمهُ وتسميرهُ ودفنهُ ونشورهُ (قيامته) وصعودهُ وأتيانهُ وما نالهُ كثيراً والآن إمّا من قِبل ماقنيهِ من المسبة واحتمالهِ لھا لأنهُ طويل الأناة. وأمّا من قبَل وامقيهِ (محبيه) فمن الاقتضاءِ والتسخُّط وھو ينظر فكما يؤخر الرجز عن أولئك كذلك يؤخر الصلاح عن ھؤلاء. أما أولئك فيمھل لھم عطية وقت يكون لتوبتھم وأما ھؤلاء فيمتحن ودَّھم ألاّ يكونوا في الأحزان ناكصين وفي الجھاد عن حسن الديانة مقصرين وذلك أصل في التدبير الإلھي وشأن لأحكامهِ التي لا تدرك وبھا يقوّم أحوالنا بحكمته. فھذه أحوال المسيح وھذا شأنھا وستبصرھا فيما بعد زائدة شرفاً. ويا ليتنا كذلك عندھا.وأما أحوال الروح فايحضرني الروح لذكرھا ويجود عليَّ بنطق بمقدار ما أؤثر. ولإن لم يكن بھذا المقدار فبالمقدار الذي يكون مضاھياً للوقت. وعلى كلٍّ فسيحضر ھو كما يحضر سيد لا كما يحضرعبدٌ ولا ينتظر من غيرهِ أمراً كما ظنَّ قومٌ بل يھبُّ أينما يشاءُ وعلى من يشاءُ ومتى أراد بالقدر الذي يختارهُ. وكذلك ألھمنا نحن أن نعتقد ونقول في الروح فأما الذين يحطون الروح القدس الى أن يكون خلقة فھم شاتمون وعبيد اشرار وشرٌّ من كل شرير. لأن العبيد الأشرار من شأنھم إنكار الولاءِ والمروقُ والمعاندة لصاحبھم وتصيير الحرّ مساوياً لھم بالعبودية.وأما الذين يعتقدون أن الروح إلهٌ فأولئك إلھيّون وفي أذھانھم بھيون. وأما الذين سمونهُ بذلك فإن سموَّهُ كذوي طاعةٍ ومحافظةٍ فھم رفيعون. وأن سموَّهُ كمنخفضين فليسوا مدبّرين إذ ايتمنوا طيناً على جوھرة وسمعاً فاسداً على صوت رعد وألحاظاً ضعيفة على النظر الى الشمس. ومَن كان بعدُ يرضع لبناً على الطعام الصلب. وقد كان من الواجب أن يستجروھم الى قدام رويداً رويداً ويھبوا لھم الضوءَ بالضوءِ ويفيدوھم الحقَّ بحقٍّ.إلا أننا نترك الكلام الكامل الآن في ذلك إذ كان ليس ھذا وقتهُ ونخاطبھم ھكذا يا قوم أن كان عندكم أن الروح القدس ليس إلاّ مخلوقاً. وليس إلا تحت زمان فھذا بلا محالة فعل الروح النجس. فسلموا للغيرة أن تجري أن تجري قليلاً وإن كنتم قد وصلتم الى ھذا المقدار من الصحة والسلامة حتى تحيدوا عن الكفر المبين فتجعلوا من يجعلكم أحراراً من العبودية برياً فانظروا فيما يتلو ذلك مع الروح ومعنا. لأنني أثق بأن معكم شيئاً منهُ فأخالطكم حينئذٍ في النظر كما يخالط الأخصون. أو سلموا إليَّ شيئاً يتوسط فيما بين الملك والعبودية حتى أضع ھناك رتبة الروح. وإن ھربتم من العبودية فلا يخفى أين ترتبون المطلوب أفأنتم لمن يصعب عليه الحروف ويتعثر باللفظ وذلك لكم حجر عثرة وصخرة شكٍّ لأن المسيح قد صار كذلك لقومٍ. إن ذلك لألمٍ بشري. فسبيلنا أن نوافق بعضنا بعضاً بالروح ونكون ذوي محبة للأخوة أكثر من الودّ لذواتنا. وسلموا قوة اللاھوت حتى يسلم إليكم الصفح عن الاسم. واعترفوا بطبيعتهِ بألفاظٍ أخرى وإن وجب أن تكونوا منھا خجلين ونحن أذ ذاك نطببكم كما نؤاسي أي نكبب المرضى. متحياين في شيءٍ نسرفهُ لكم مما تكونون به متلذذين. فقبيح قبيح وبعيد من القياس جداً أن تكونوا في النفوس معافَيْن وفي الكلام وتضايقين كأننا نستر كنزاً لغيرنا حاسدين.أو تجزعوا من أن تقدسوا اللسان فرقين. وأقبح من ذلك ان يدخل علينا ما نشكوهُ ونكون على البخل بالكلام لا يمين فنتضايق نحن ايض اً في الحروف. فاعترفوا يا قوم أن الثالوث من لاھوت واحدٍ وإن شئتم من طبيعة واحدة فنطلب نحن لكم الاسم الذي ھو الإله من الروح إذ كنت أعلم حسناً أن الذي أعطي الأول سوف يعطي الثاني لا سيما إن كانت المعاندة جناية روحية ولم تكن دفعاً شيطانياً.وأنا أقول ما ھو أب ين من ھذا وأوجز لا تلومونا نحن في اللفظة العالية فليس حسداً من أجل استعلاءٍ الى ما ھذه صورتهُ فلا نشكو نحن منكم أيضاً اللفظة التي لم تصلوا الى سواھا ما دمتم صائرين الى ھذا المعنى بطريق أخرى إذ كنا لا نطلب أن نغلب بل أن نحتضن أخوة نحن منزعجون لفراقھم. فھذا قولنا لمن نجد عندهُ شيئاً من آلة الحياة وھم معشرة الاصحاء في امر الإبن الذين نحن من سيرتھم متعجبون إلا أننا لسنا لرأيھم حامدين. فيا من عندھم أسباب الروح اتخذوا الروح لكيلا تجاھدوا فقط بل يكون ذلك على موجب الناموس الذي منهُ الإكليل يا ليت ھذا يكون لكم ثواب اعن سيرتكم أن تقرُّوا بالروح اقراراً كاملاً وتنشروا ذكرهُ معنا وقبلنا بمقدار ما ھو أھلهُ فإني أجسر من أجلكم على ما ھو أكثر من ھذا وذاك أن أقول كما قال السليح ھذا مقدار محاماني عنكم ومقدار استحيائي من لباسكم الحسن زيُّهُ ومن لونكم المنبيء بنسككم ومن مجامعكم الطاھرة والبتولية اللطيفة النقية التي فيكم والصلاة الليل أجمع. ومحبة الفقراءِ وودِّ الأخوة ومقة. الضيافة حتى أني أرضي أن أكون عن المسيح في ناحيةٍ وأن يلحقني شيءٌ مما يلحق الذي قد وجب عليهِ الحكم إذا أنتم وقفتم معنا ومجدنا الثالوث معاً.وأما غيركم فماذا ينبغي أن أقول فيھم وقد ماتوا بالكلية وليس لاحدٍ غير المسيح أن يقيمھم إذ كان ھو المحيي الأموات بقدرتهِ وھم المنفصلون بالموضع انفصالاً ردياً وإن كانوا بالقول معافين فھم بھذا المقدار في مخالفة بعضھم لبعضٍ بمقدار مقلتين منقلبتين شاخصتين الى شيء واحد فھما من حيث وضعھما لا من حيث الناظر بل مختلفتان ھذا متى وجب أن نشكو منھم الإعوجاج ولم يكن العمى ھو الشكوى منھما. والآن فإذا كنا قد أتينا بمقدار القصد فيما بيننا وبينكم فھات نعود الى الروح وأظن أنكم تتبعونني. إن الروح القدس كان وھو كذلك الآن ولا يزال لا بداءة له ولا نھاية ولكنه منتظم ومتصل ومعدودٌ مع الآب والابن أبداً لأنه ما حسن قط أن يخلو الآب من الابن ولا الابن من الروح وإلا لو كان ذلك لكان اللاھوت عادماً للمجد في أكثر الأشياء. كأنه صار الى تمام كمال على تدرّج من رأي الى رأي. إلا أن الروح لم يزل ينال منه ولا يحتاج الى النوال. يتمّم ولا يتمَّم يكمّل ولا يكمَّل. يقدّس ولا يقدَّس. يؤلّه ولا يؤلَّه. وھو شيءٌ واحدٌ في ذاته موافق لھا دائماً ولمن ھو مرتَّب نعھا. لا يبصَر ولا يحويه زمان ولا يسعهُ مكان لا يستحيل. ولا يشوبهُ كيفية ولا كمية ولا صورة ولا لمسٌ ھو متحرك بذاته. ودائم بذاته. وقدرتهُ كلية. وإن كان الى العلة الأولى منتسباً فكما أن أسباب الابن الوحيد الى الآب راجعة كذلك أسباب الروح أيضاً. فھو حياةٍ ومحيٍ وھو نور ومانح نوراً. ھو في ذاته خير ومعدن للخيرات ھو روح مستقيم. رئيس. سيدٌ. مرسَل. مميّز. صانع محلاتٍ لذاته. ھادٍ . فاعل كما يشاءُ. موزع المواھب. ھو روح النبوة والحقّ والحكمة والفھم والمعرفة والكرامة والرأي والقوة والخوف ھذه الاشياء التي ھي معدودة. بهِ يعرَف الآب ويمجَّد الابن. ومنھما وحدھما يعلم بهِ فالانتظام واحد. والعبادة واحدة. والسجود واحد والقوة والتمام والتقديس – وما لي أطول – كلما للآب فھو للابن ما خلا أن ذاك غير مولود. وكلما ھو للابن فھو للروح ما خلا أن ذاك مولودٌ. وھذه الأشياء فليست بحسب رأيي تميّز جوھراً بل ھي تمييز حول الجوھر. فإن كنت تتمخض على المعاندة فإني أنا أتلھف على ارسال الكلام. فأكرم يوم الروح واضبط لسانك قليلاً إن كان ذلك ممكناً فإن الكلام في ألسنٍ اخرى فاستحي منھا أوفخفھا فإنھا شوھدت كالنار. فسبيلنا اليوم أن نذكر الرأي مطلقاً ثم نصفهُ في غدٍ من حيث الصناعة وأن نعيد اليوم ونشتھر بالقبح في غدٍ. ويكون ھذا من معنى السرّ الروحاني وذاك من معنى مشاھد الھزل. ويكون ھذا في البيع وذاك في الاسواق. وھذا لمن كان صاحياً وذاك لمن كان سكران. ھذا لذي الجدّ وذاك لمن ھم في الھزل من قصدھم الروح والآن إذا كنا دفعنا الغريب فھات نصلح القريب.فھذا الروح لم يزل فعلهُ قديماً في القوات السماوية الملائكية وكل ما كان منھا حول لله لأنه لم يكن لھا التمام والنور وبعد الخفوف الى الشرّ وعدم الحركة إليهِ بالكلية من جھة أخرى لا من جھة الروح القدس. ثم كانت آثارهُ بعد ذلك في الآباءِ والأنبياءِ. فنھم من تخيل لله أو عرفه. ومنھم من سبق فعرف ما يكون بما نقشه الروح في صفوة عقله فصاروا مشاھدين المستقبل كمشاھدة ما ھو حاضر إذ كانت كذلك قوة الروح. ثمَّ ظھر فعله في تلاميذ المسيح وأنا أترك أن أقول في المسيح الذي كان معهُ حاضراً ولم يكن فيهِ كفاعل بل كان كما يكون المشارك في الكرامة موافقاً. وكان اتصالهُ بالتلاميذ من ثلالثة اوجه بمقدار ما كان في طاقتھم أن يسعوهُ في أوقاتٍ ثلاثة منھا قبل تمجُّد المسيح بالأمم وبعد تمجيده بالقيامة وبعد ارتقائه وعودته الى السموات. أو غير ذلك مما ينبغي أن يقال. ويدلُّ على ذلك تطھيرھم في الأول من الأمراض والأرواح. وأن ذلك لم يكن خلواً من الروح. ثم النفخة بعد تمام التدبير ومن البيّن أنھا كانت منحة تزيد على غيرھا في الإلھية. وبعد ذلك ھذا التقسيم وتوزيع الألسن النارية الذي نحن معيّدوهُ اليوم إلا أن الأول كان خفياً والثاني كان أوفر بياناً وھذا أتمُّ. لأنه لم يكن حضوره في العقل والأثر كما كان في القديم بل كان ملابساً ومطابق اً كما قد يكاد الانسان يقول بالجوھرية وقد كان لائقاً لما نجانا الابن بالجسم أن يظھر ھذا من معنى جسم ولما عاد المسيح الى ذاته أن ينحدر إلينا ذاك قادماً كربّ مرسلاً كموافق غير مخالف. وھذه الألفاظ تدلُّ على الموافقة أكثرمن دلالتھا على فصل الطبائع ومن أجل ھذا كان ذلك بعد المسيح حتى لا نخلو من معزٍّ. ومن قبيل آخر لتذكر أنت المساواة في الكرامة. لأن الآخر إنما ھو آخر ھواناً وھذا إنماھو اسم للمشاركة في الملك وليس ھو اسماً للھوان لأنه لا يقال آخر على من كانت طبائعه غريبة بل على من كان متفقاً بالجوھر.أما ظھوره في أَلسنٍ فلوضع اختصاصه بالنطق. وأما كونھا نارية فأنا أطلب في ذلك إحدى الخصلتين. إما أن يكون ذلك من أجل الطھارة. لأن القول عندنا قد عُرف ناراً مطھرة بحسب ما يعرف ذلك من يريدهُ من مواضع كثيرة. وإما من أجل الجوھر لأن إلھنا نار ونار مھلكة للفساد وإن كنت أنت تتسخط من حيث يضيق عليك أن يكون في الجوھر مساوياً. وأما أن الألسن كانت منقسمة فذلك كرسيّاً كان لاختلاف المواھب. وأما أنھا كانت جالسة فلأجل الملوكية والاستقرار في القديسين لأن ھو الشاروبيم. وأما نزوله في علية فإن لم يُظَنَّ بي التجاوز عن الواجب فذلك لاستعلاءِ القابلين إياه وارتفاعھم عن الأرضيين لأن ھنا علالي مكنوفة بمياه إلھية يسبح لله. ومع ذلك فيسوع نفسه في علية شارك في السرّ الذين كملوا في الرفيعات ليبيّن ھذا أنه في بعض المعاني ينبغي أن يتطأطأ لله إلينا بحسب ما عرفت أنه كان في القديم بموسى مصنوعاً وفي معنى آخر سبيلنا نحن أن نرتفع إليهِ ثم يصير ھكذا الاتصال فيما بين لله وبين البشريين بامتزاج الرتبتين. ولكن إذ أثبت كل واحد منھما فيما يخصهُ أحدھما في شرفه والآخر في ذلتهِ فالجود حينئذٍ ممسك عن المخالطة في النوال والتفضل على البشر فلا وصول للمشاركة فيهِ. وقد حصل فيما بينھما ھوة عظيمة لا سبيل الى عبورھا ولا تكون مانعة للغني وحدهُ عن ألعازر وأحضان ابراھيم المأثورة بل تمنع الطبيعة الكائنة الزائلة عن غير الكائنة الثابتة. وھذا الروح قد أنذر بهِ الأنبياءُ حسب ما قيل "روح الربّ عليَّ الذي بهِ مسحني". وسوف يستقرُّ عليهِ سبعة ارواح. وانحدر روح الربّ فھداھم وأرشدھم. وروح علم أفعم بصلئيل رئيس صنَّاع قبَّة الزمان. وروح جديد رفع إيلياس على عجلة. وطلبهُ أليشع مضاعفاً. وداود اعتضد واھتدى بروحٍ صالح رئاسي وھذا الروح وعد بهِ في الأول على لسان يوئيل النبي في قولهِ: سيكون مؤمن وعلى بنيكم وبناتكم. وما الخ. في الايام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل جسدٍ أي جسدٍ ووعد به أيضاً يسوع المسيح بعد ذلك لما مجَّد ومُجّد اي مجَّد الآب وجَّدهُ الآب وأما الميعاد فعمرٌ جزيل وھوأن يدوم الى الدھر ويثبت. أي مع المستحقين له الآن على ممرّ الأوقات. وفي الآخرة مع مَن يستأھله ھناك. إذا نحن حفظناهُ في سيرتنا كاملاً وام نطرحهُ بمقدار خطايانا. ھذا الروح خلق الخليقة والقيامة مع الابن ويحقق ذلك عندك قوله بكلمة الرب تشددت السموات وبروح فيهِ كل قواتھا. وقوله روح الإله صنعني ونسمة ضابط الكل ھي التي تعملني وقولهُ في موضع آخر ترسل روحك فيخلقون وتجدّد وجه الأرض. وھو الذي يصنع الميلاد الثاني الذي ھو روحاني. ويحقق ذلك عندك قولهُ: إنهُ لا يمكن أحد أن يرى ملكوت السموات أو يصل إليھا إذا لم يولد من فوق بالروح. وإن لم يتطھر من المولود الأول الذي ھو سرٌّ من أسرار الليل بخلقة نھارية مضيئة يخلقھا كل أحدٍ في ذاته. ھذا الروح حكيم جدّاً يحبُّ البشر حبّاً شديداً فإن أخذ شاباً من الرعاة جعله مظفراً بالغرباء ولك شھادة على ھذا ظفر داود بجليات وجعلهُ طارداً الأرواح النجسة بالحانهِ وترنمهِ وأشھرهُ على اسرائيل ملكاً وإن أخذ راعي غنم مق لماً ثوبهُ جعلهُ نبيّاً فاذكر في ذلك داود وعاموص وموسى كليم لله. وإن أخذ غلاماً ذكياًّ جعلهُ مع صغر سنهِ قاضياً على الشيوخ ويشھد بذلك دانيال الذي غلب الاسد في الجبّ. وإن مجد صيّادين صادھم المسيح ليتصيدوا العالم بشصّ كلامھم وخذ لي في ھذا بطرس وأندريا وبني الرعد الذين أرعدوا الروحانيات. وإن كانوا عشَّارين فھو يربح منھم التلمذة ويصنعھم وصار اليوم بشيراً وإن كانوا ◌ً تجاراً ليسافرون بالأرواح والقائل ذلك متى الذي أمس عشّاراَ مضطھدين ملتھبين أَحال غيرتھم وجعلھم كبولس بدلاً من شاول وبلغوا في حسن العبادة ما بلغوهُ في الشرّ وھذا الروح ھو روح دعةٍ إلا أنه يحتدُّ على الخطأة فسبيلنا أن نباشرهُ وديعاً لا غضوباً باعترافنا بما ھو أھلهُ ونفورنا من مسبَّتهِ ولا نؤثر أن نراهُ ساخطاً سخطاً لا غفران لهُ. وھذا الروح ھو الذي جعلني لكم اليوم نذيراً جرياً فإن لم ينلني شيءٌ من المكروه فللَّه المنَّة ولإن نالني فالمنَّة أيضاً كذلك. ففي الأول من ھذين الإشفاق على مبغضينا. وفي الثاني يقدسنا. ويكون ھذا الثواب خدمتنا في بشارتهِ أن نتوفى بدمائنا. وأما أن كلامھم كان بألسن غريبة ليست ألسن آبائھم فإن ذلك لعجب عظيم كلامٌ نطق ممن لم يكن قد تعلمهُ والآية في ھذا للكفار وليست للمؤمنين لتكون خصماً لمن لا إيمان له. وقد كُتِب في ذلك "أني سأخاطب ھذا الشعب بشفاهٍ أخرى وألسنٍ غير ھذه ولا ھكذا يسمعون قال الرب". وأما في القول عنھم أنھم سمعوا فأمسك ھھنا قليلاً واشكك وانظر كيف نميز القول. فإن في اللفظة شكّ اً بيانهُ في الوقوف على ھذه النقطة. ھل سمع كل واحدٍ كلاماً بلغتهِ كأن الصوت كان في انطلاقهِ واحداً ثم سُمع أصواتاً كثيرة من جھة انفصالهِ في طنين الھواء. وإن زدت كلامي بياناً قلتُ كأن الصوت صار أصواتاً. أو سبيلنا أن نقول سمعوا ونقف ثم أنھم كانوا يتكلمون بلغاتھم ونضمُّ اللغات الى ما يتلو حتى يكون كلامھم بلغات السامعين التي ھي غريبة عند الناطقين فھذا ھو رأيي لأن العجيبة إذا كان الأول تكون من السامعين أكثر منھا من الناطقين. وأما كونھا ھكذا على المعنى الثاني قتكون من الناطقين الذين نُسِبوا الى السكر عندما صنعوا ھذه العجيبة بالروح في اللغات. إلا أن تشتُّت اللغات في القديم كان ممدوحاً عندما بنى البرج الذين كان اتفاق لغاتھم من الرداءّة صادراً والى الكفر مؤدياً كما يتجاسر البعض في ھذا الوقت. إلا أن اتفاق رأي أولئك القدماءَ لما انحلَّ باختلاف لغاتھم انحلَّ مع ذلك مرامھم. وأما العجيبة التي كانت الآن في انقسام ھذه الألسن فھي أشدُّ عجباً وبحسب ذلك وصفھا ونعتھا: فأولاً لأنھا نعمة انصبَّت من روحٍ واحدٍ الى جماعة ثمَّ اجتمعت الى نظامٍ واحدٍ وصار الفرق في المواھب محتاجاً الى موھبة أُخرى في تمييز الأفضل وإلاّ فكلّھا لا تحلو من شيء ممدوح. وھذا الانقسام أيضاّ جيّدٌ وھو الذي ذكرهُ داود في قولهِ: "غرّق يا ربّ وفرّق ألسنتھم" لماذا؟ لأنھم أحبوا كلام التغريق كلهُ وألسناً مغتالة كانت دغلة إنما كان الألسن التي ھھنا ظاھراً وھي التي تبترُ اللاھوت. ھذا من الكلام فلينتهِ الى ھھنا مقدارهُ.إلا أن الألسن لما كان خطابھا لسكان أورشليم من أتقياءِ اليھود من الفرس وأھل خراسان والعجم والديلم وأھل الأھواز والأقباط والإفريقيين والإقريطشيين والعرب وأھل الجزيرة وأھلي أناالكبادوكيين ومن كان من كلّ أمّة تحت السماءِ قد اجتمع ھناك من اليھود بحسب ما يفھمهُ الإنسان. فمن الواجب أن ننظر مَنْ كان ھؤلاءِ؟ ومن أيّ سبيٍ اجتمعوا لأن النقلة الى مصر والى بابل قد كانتا محدودتين ثمَّ انحلَّتا بالعودة. وأما نقلتھم وتشتيتھم من قبل الروم فلم يكن تمَّ بعدُ بل كان عتيداً أن يقدعقوبةً على ما جسروا عليهِ ضدَّ المخلّص. بقي الآن أن نتوھم أن ذلك من سبي أنتيوخس الذي لم يكن بعيد القدمة من ھذه الأوقات. فإن كان أحد لا يقبل ھذا الشرح وكان فيهِ فضلٌ في البحث من حيث الاحتجاج بأن السبي لا يكن عتيقاً ولم ينبسط في جميع المسكونة وطلب ھذا الانسان ما ھو أقنع مما ذكرناهُ فيجوز أن نرى ما ھو أكثر بياناً من ھذا. إن ھذه الأمة قد جُلِبت دفعاتٍ وسباھا جماعة بحسب ما ذكرهُ عزرا الكاتب فعاد عدة أسباط وتأخَّر منھا جماعة تفرقوا في أممٍ شتى فجاز أن يكون قد حضر جماعة منھم في ذلك الوقت فوصلوا الى ھذه العجيبة. وقد فحص عن ھذا محبُّو العلم فحصاً لعلَّهُ لا يُنسَب الى زيادة على ما يحتاج إليهِ. ومھما أحضرهُ غيرنا لھذا اليوم فھو مشارك لنا فيما أحضرناهُ.والآن قد حان لنا أن نطلق ھذا الجمع إذ كان فيما قلناهُ كفاية. وأما الموسم فلا نسرحهُ ابداً بل سبيلنا أن نعيّد دائماً أمّا الآن فأعياداً بعضھا جسمانية وأما بعد قليل فكلھا روحانية بحيث نعرف أحوال ھذه الأشياء معرفة جلية بيّنة بالكلمة نفسهِ الذي ھو الھنا وربنا يسوع المسيح الذي ھو العيد الصادق والفرح الأھل الخلاص المجدُ والعزُّ والكرامة للآب الأزلي. معهُ. ومع الروح القدس المحيي دائماً الآن والى الدھر. آمين. القديس غريغوريوس اللاھوتي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل