المقالات

26 يوليو 2021

الحكمة

هي أجمل العطايا وأعظم المواهب. هي التمييز بين الأمور المتخالفة. وهي الإفراز بين الجيد والرديء. هي الربان الحكيم لسفينة الحياة. هي الشيبة الصالحة الوقورة. هي موهبة سمائية. وهي حلو الكلام، وعذوبة الحديث، وُحسن المنطق. إنها مفتاح الغنى. وحقن للدماء. هي مجلبة الصداقة النافعة. وهي بوابة الملوك والعظماء. ومجلبة الكرامة والمجد. الفقير بالحكمة يغتني والكثير المال بجهله يفتقر. فيها الراحة وفيها الخير. هي أفضل ما يطلبه الإنسان. هي الحافظ للمواهب. وبدونها لا قيمة لفضيلة. بالحكمة تنجو المدينة من الهلاك. وبها نسحب السموم الشريرة ونطفيء السهام الملتهبة، وننجو من عروض الخطيئة المحيطة بنا. إذا أثمر الذكاء خيرا جعل صاحبه حكيما. والأحمق هو الذي يلد ذكاؤه خبثا وشراً. بها أكمل الشهداء جهادهم ونال المجاهدين إكليلهم. هي المسيح أقنوم الحكمة، اللوغوس كلمة الله. نطق الله العاقل وعقل الله الناطق. وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له (يعقوب 1 : 5). نيافة الحبر الجليل انبا مكاريوس اسقف المنيا وتوابعها
المزيد
25 يوليو 2021

الخادم والأنشطة

كثرت الأنشطة بالكنيسة في عصرنا الحالي وتعدّدت نتيجة زيادة الاحتياجات وتغيرات وسلبيات المجتمع وتضاعف الأعداد ...لذا وجدت الكنيسة أنه من الواجب عليها أن تقدم لأبنائها ما يحتاجونه في كافة المجالات الروحية والنفسية والاجتماعية والرياضية. ولأن الكنيسة تعلّمت من سيدها يسوع المسيح كيف تقدّم خبزًا للجائع وماءً للعطشان وسندًا للمريض وعزاءً للمتضايق... ولأن الكنيسة بلا شك هي التي تحتضن العالم وتقدسة وترقّيه وتربّيه في المسيح يسوع، فقدّمت الكنيسة كل جهدها لتقديم المعونه لابنائها... ولكن مع تزاحم الأنشطة وجب علينا أن ننتبه دائمًا إلى مراجعة الهدف باستمرار لئلا يضيع هدف الخدمة الحقيقي وسط تداخلات الاحتياجات (وهو التوبة والتقديس وربح الملكوت ومجد المسيح على الأرض) لئلا تتحول الكنيسة إلى مؤسسة زمنية اجتماعية تقدّم الكورال والتمثيل والكومبيوتر والنادي والمسرح دون هدف واضح، وبحسب نصيحة معلمنا بولس الرسول «فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح»(فيلبي 2: 1). وما نخشاة أن تكون قوة الاستحابة لمثل هذه الأنشطة تمثّل تعويضًا عن الضعف الروحي وتقصيراته الداخلية... فتجد الكنيسة مكدّسة بأعداد المتردّدين للأنشطة بينما العبادة متناقصة... ونصل إلى حالة اكتفاء كاذب، ونتائج غير حقيقية، ويتردّد المخدومون على الكنيسة بشكل دائم مما يفقدهم الكثير من هيبه وكرامة الكنيسة... وتتحوّل العبادة والأسرار إلى مجرد فواصل بين الأنشطة. لذلك وجب تقنين ومراجعة الأنشطة بشكل أكثر تدقيقًا... ويجب أن نتحلّى بالحكمه والتأنّي في اختيار النشاط ومراجعته باستمرار، من هنا وجب على الخادم أن يضع في قلبه عدّة أمور: 1- الأنشطة هي وسائل وليست أهداف. 2- يُراعى فيها تقديم الاحتياجات الروحية من خلالها. 3- الأنشطة فرصة لجذب نوعيات نعجز عن الوصول إليها. 4- هي من أجل نمو روح الشركة والحب بين الخادم والمخدومين، والمخدومين وبعضهم البعض. 5- هي فرصة للتعرّف على المخدوم وضعفاته وجذبة بشكل أقوى من خلال الاحتكاك المباشر به والتقرّب إليه. 6- اكتشاف مواهب المخدومين والارتقاء بها. 7- حفظ المخدومين من الفراغ والعثرات. 8- غرسهم في الكنيسة والاندماج مع عبادادتها لئلا يُصاب بالاغتراب في الكبر. وأخطر ما في الأمر أن تكون دوافع الخادم مثل دوافع المخدوم في أي نشاط... فقد يحضر المخدوم للنشاط فقط من أجل قضاء وقت مع الأصدقاء أو للتسلية، أمّا الخادم فيجب أن يري أبعد من ذلك بكثير... بحسب قول القديس يوحنا ذهبي الفم إنه يجب أن يكون الفرق بين الخادم والمخدوم كالفرق بين الراعي والقطيع، الراعي يهتم بامور أبعد ما تكون عن فكر القطيع، فهو يدبّر المراعي الخصراء والماء والأماكن الآمنة، ويتعهد سلامة القطيع في كل الأحوال. كذلك الخادم فهو يصلي ويدبّر ويعدّ ماهو مشبِع ومسرّ لنفوس مخدوميه.... لئلا نقدّم النشاط ونخسر القطيع، ونشبه نحاسًا يطن أو صنجًا يرن. القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديس جوارجيوس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
24 يوليو 2021

صلاة القديسين من أجلنا

القديس يوحنا الذهبي الفم يحسن بنا الإعتماد على صلاة قديسي الله ولو كنا نشيطين بتتميم الواجب، وربما تقول: ما الحاجة الى صلاة الآخرين، إذا كنت أتمم واجباتي بنشاط؟ فأنا لست بحاجة إليها! لم يقل القديس بولس الرسول: لا حاجة الى صلاة الآخرين. مع أن الذين صلّوا لأجله لا يُضاهونه بشيء. فكيف تقول انت ما حاجتي الى صلاة الآخرين عني؟ والقديس بطرس الرسول لم يقل ما الحاجة الى هذه الصلاة، بل قيل: "وكانت الكنيسة تصلي الى الله من أجله بلا انقطاع" (أعمال ٢:٥) وأنت تقول ما الحاجة الى صلاة الآخرين؟ إنها تلزم، وخاصة لأنك لا تعترف بالحاجة إليها. إنك في حاجة الى صلاة الآخرين، ولو كنت معادلاً للرسل المتقدمين على غيرهم.إنني أكرر القول أن صلاة الغير من أجلنا نافعة لنا إذا كنا نتعب بتأدية واجباتنا. أما شهد رسول المسيح بقوله :"لأني أعلم أن هذا يؤول الى خلاصي بصلاتكم وبإعانة روح يسوع المسيح" (فيلبي ۱:۱٩) "والذي ينقذنا الآن بمعونة دعائكم لنا حتى أن كثيرين يودون الشكر على الموهبة" (٢كور ۱:۱٠و۱۱) ولكن لا أحد يستطيع أن يساعدنا بصلواته إذا كنا متهاملين. فما الفائدة التي حصل عليها النبي إرميا لليهود؟ ألم يصرخ الى الله ثلاثاً ويسمع ثلاثاً: "وأنت فلا تصلي عن هذا الشعب ولا ترفع صراخاً ولا صلاة لأجلهم ولا تشفع إليّ فإني لا أسمع لك" (إرميا ٧:۱٦) وما المنفعة التي قدّمها النبي صموئيل للإسرائليين؟ ألم يهلكوا جميعاً غير ناظرين إلى نبي الله الذي شهد عن نفسه: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ الى الرب وأترك الصلاة من أجلكم" (ملوك الأول ۱٢:٢٣) لذلك يجب أن نعلم أن صلاة الآخرين من أجلنا تعود علينا بالنفع العظيم إذا قمنا بواجبات الصلاة نحن أيضاً. إن الصلاة تعمل وتساعد من يتمم واجباته، أما إذا كان متكاسلاً فلا تعود عليه بفائدة. ألم يصلِّ القديس بولس الرسول من أجل العالم بأسره؟ ألم نصلِّ نحن من أجل خلاص الجميع؟ فلماذا لا يصير الأشرار أبراراً؟ لأنهم لا يهتمون لنفوسهم! فالصلاة من أجلنا تفيدنا إذا أتممنا ما يجب علينا. أتريد أن تعرف أيها المسيحي كيف تكون الصلاة نافعة لنا؟ اسمع ما يقول يعقوب للابان: "ولولا أن إله أبي ابراهيم ومهابة اسحق معي لكنت سرحتني فارغاً" (تك ٣۱:٤٢) واسمع أيضاً ما قال الرب الإله: "فأحمي هذه المدينة وأخلّصها من أجلي ومن أجل داود عبدي" (الملوك الرابع ۱٩:٣٤) لكن متى يكون هذا؟ كان بواسطة حزقيا الذي كان صديقاً. ولكن إذا كان للصلاة قوة أثناء الشدائد العظيمة فلماذا أسلم الرب المدينة الى نبوخذنصر عند هجوم البابليين؟ لان الفساد ازداد في تلك الأيام، وهكذا النبي صموئيل من أجل الإسرائليين، نجح لما أرضى الإسرائلييون العلي. وربما تقول ما الحاجة الى صلاة الآخرين من أجلك إذا كنت عائشاً في طاعة الله؟ فهذا لا يجوز لك أن تقوله مطلقاً بل اسمع ما قاله السيد الرب عن أصحاب أيوب: "إن عبدي أيوب يصلي من أجلكم فتترك لكم خطاياكم" (أيوب ٤٢:٨) لأنهم قد خطئوا ولكن خطيئتهم لم تكن عظيمة، وهذا الصديق نفسه الذي خلّص اصدقاءه لم يقدر أن ينقذ اليهود من الهلاك لأن "إثمهم كان عظيماً" (حزقيال ۱٤:۱٤). وقد قال السيد الرب بواسطة أنبيائه: "ولو كان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب إنهم لا ينقذون لها بنين ولا بنات والأرض تصير مستوحشة" (حزقيال ۱٤:۱٥) "لو أن موسى وصموئيل وقفا أمامي لما توجهت نفسي الى هذا الشعب" (إرميا ۱٥:۱) وعندما صرخ النبي حزقيال: "آه أيها السيد أتهلك جميع بقية إسرائيل". عرَّفَه الرب أن عدم مساعدته للاسرائليين لم تكن لأنه توسط لهم بل "لأن إثم اسرائيل ويهوذا عظيم جداً" (حزقيال ٩:٨ و٩). فبتذكرنا أيها الاحباء كل هذا يجب ألا نحتقر صلاة القديسين أو نعتمد عليها وحدها، بل لنحافظْ على الشرط الثاني أي ألاّ نتكاسل، ونصرف حيلتنا في البطالة، حتى لا نُحرَم من الخيرات العظيمة. لنسألْ سكان السماء القديسين أن يساعدونا بصلواتهم لنقضي حياتنا في الصلاح حتى نحصل على الملكوت الأبدي. عن كتاب "منهج الواعظ" للمطران أبيفانيوس زائد مجلّة التراث الأرثوذكسي
المزيد
23 يوليو 2021

لا تدنو ضربة من مسكنك ج1

هذا هو الوعد الإلهي للساكن في سِتر العَلِيِّ، وفي ظلّ الإله القدير يبيت. فكيف يتجرّأ العدو أن يضرب الساكن في الحصن الإلهي والحضن الأبوي؟ هذا هو ميراث الذين يحيون في المسيح يسوع، الذي أعطى لنا أن نتّحد به ونحتمي فيه. لقد صِرنا «أَعْضَاءَ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أف5: 30)، «وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَحْتَمِي (نعتصم) إِلَى أَنْ تَعْبُرَ الْمَصَائِبُ (يعبر الاثم)» (مز57: 1) المُجرِّب لا يكُفُّ ولا يهدأ ولا ينام. ولكنّ واقع الأمر أنّ المسيح فضح خُطَطَهُ ودَحَرَهُ (دفعه بعنفٍ وطرده) وسحق قوّته وأرجعه خائبًا مذلولاً، بعد أن أكمل على جبل التجربة كلّ ما استطاع من تجارب. ولكن القدوس الذي بلا شرّ صار «مُجَرَّبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا،(ولكن) بِلاَ خَطِيَّةٍ... يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب4: 15، 2: 18)أنا في المسيح غالب ومنتصر والعدو ذليل.. أنا في آدم الأول مغلوب وساقط وميّت. «فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، أمَّا فِي الْمَسِيحِ فيُحْيَا الْجَمِيعُ» (1كو15: 22)لا ولم يوجد إنسان نجَّى نفسه من تجارب العدو الشرير.. ولا ولم يوجد إنسان في تاريخ البشرية لم يُسقِطْه العدو. الخطية كائنة في الطبيعة القديمة، وهيهات أن يفلت منها الإنسان. الخطيّة في الطبيعة القديمة تسبي الإنسان سَبْيًا حتى لو كان من أعظم القديسين ناموس روح الحياة في المسيح يسوع حررنا من «نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِنا» (رو7: 23). إذن إن كنت أريد أن أغلب لابد أن أتّحد بالغالب. المسيح وحده «خَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ» (رؤ6: 2) لأنّه هو وحده الذي بلا خطية.الاتحاد بالمسيح نلناه بالمعمودية، ونناله بالتناول.. الثبات في المسيح قوامه الحبّ الذي أحبَّنا به. وحِفْظ وصايا يسوع هو برهان الحُبّ الوحيد «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي» (يو14: 21).«وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). لا يعرف أحد أعماق الشيطان ولا يتخيّل أحد قدراته وخبايا شرّه. ربنا يسوع المسيح وحده قاس أعماقه وقدراته المُخرِّبة المضادّة لكلّ ما هو خير أو صلاح.. أليس هو ضد الله، أي ضدّ الحقّ المطلق والحب المطلق. لذلك كان من خطّة خلاص الإنسان من براثن هذا العدو القَتَّال، أن يُجَرَّب المسيح، وأن يدخل إلي صميم التجارب، وينتصر عليه، وينزع سلاحه المتّكل عليه، ويُجرِّده من وهم النُّصرة الكاذبة. فالتجارب كانت فِعليّة واقعيّة بلا خيال. واستلزم الأمر في التدبير الإلهي مُدّة الأربعين يومًا التي قضاها المسيح صائمًا على جبل التجربة، بلا مأوى وبلا طعام أو شراب. فالعدو شرس قتَّال، والفِخاخ والتجارب لا حدود لها المسيح وهو حامل طبيعتنا فيه ومتّحدٌ بها اتحادًا كاملاً غير منقوص، غَلَبَ بها كلّ التجارب التي تأتي على طبيعتنا البشريّة؛ والتي لم يَنجُ منها إنسان، والتي عثر فيها كلّ إنسان، حتى أقدس الآباء والأنبياء. ولكن لماذا غلب المسيح؟ أليس هو القائل «لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يو14: 30). المسيح وحده غير خاطئ.. غير مضبوط بآلام الخطايا.. «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو8: 46) لم تكن التجارب أمرًا هيِّنًا، ولكنّها معارك ضارية، جازها المسيح لأجلنا، وسحق الشيطان وأهانه. ثم جاءت سنوات كرازة الإنجيل، أي البشارة المُفرِحة، أنّ العدو قد اِنكسر، وجاءت أزمنة الخلاص والنجاة من يد القاهر الغالب والقادر على كلّ شيء. لذلك كان المسيح يُخرج الشياطين.. «وَكَانَتْ تَصْرُخُ... فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ» (لو4: 41).. هذا كان ثمرة جبل التجربة ثم ما صنعه يسوع لأجلنا أعطانا إيّاه، إذ «أعْطَانَا سُلْطَانًا لِندُوسُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ» (لو10: 19). وهكذا أُؤْتُمِنَتْ الكنيسة، واستودعها المسيح سرّ النصرة على الشيطان. وقال للرسل الأطهار: «أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ... فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ» (مت10: 8، 17) فأجاب الرب وقال: «لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ (الشياطين) تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ» (مت10: 20) فصار نصيبنا في السموات هو مصدر الفرح، حيث أعادنا الرب إلى حضن الآب، بعد أن كسر شوكة العدو الذي أغوى جنسنا. على أنّ كسرة الشيطان وهزيمته لا تعني أبدًا أنّه تخلّى عن مقاومته، أو سكت عن حروبه وضلالته، أو أصابه اليأس وكفَّ عن الغواية. بل على العكس، زاد في عدم رحمته ومقاومته.. وصار «كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8). ولكن الرسول يوصينا قائلاً: «فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ». فهو مثل أسد ولكنّه مُصاب بجرح مميت. لذلك فهو فى هياج عالمًا أنّ له زمانًا يسيرًا. بل وأكثر من ذلك قال الرسول: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يع4: 7)هكذا صارت لنا هذه النعمة والنصيب الصالح في المسيح يسوع: إنّنا بنعمته نُقاوم العدو فيهرب مخذولاً. وهذا ما حدث في حياة آبائنا القديسين الأبطال الذين «غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤ12: 11)، وتقوّوا في الإيمان، وجاهدوا الجهاد الحسن، ودخلوا إلى الفرح منتصرين على هذا يتعيّن على الإنسان أن يتأكّد جدًّا من التصاقه بالربّ، وحياته فيه واتحاده به، الذي صار لنا بالمعمودية والمسحة وسرّ القربان، حتى إذا صار هذا الاتحاد حيًّا فَعَّالاً ضَمَنَ بالنعمة النُّصرة في جميع الحروب، والانفلات من جميع الفخاخ التي ينصبها العدو لينال بغيته من الإنسان ثمّة أمر آخر جدير بالاعتبار؛ أنّه كثيرًا ما يخدعنا العدو بسبب ضعف طبيعتنا، أو بسبب الإهمال، أو الكسل، أو التراخي، وتسويف العمر، فنجد أنفسنا وقد انطلت علينا حيله أو صرنا فريسة لفخاخه، أو ضرباته ذات اليمين في الافتخار والاتكال على الذات أو حب الظهور..الخ. أو الضربات الشمالية التي توقِعنا في الخطايا العمد، أو السهوات، من جهة ما هو ضدّ الروح، وضدّ وصايا المسيح، وضدّ قداسة طبيعتنا المخلوقة فينا بالنعمة. فنحن والحَال هكذا نحتاج إلى التوبة، التي هي تجديد الاتحاد، وتواصُل الثبات في المسيح، بغَسل الخطايا بدموع التوبة، وقبول روح التجديد، وقوّة القيامة من العثرة. وهكذا تصير أعمال التوبة كمعمودية متجدّدة. وهكذا يستعيد الإنسان ما فُقِد منه، ويتعافى في الروح، ويختبر ثانية فرح النصرة على العدو ومجد القيامة. فإن كان الشيطان لا ييأس في محاربتنا مهما تكرّرت مرّات خيبته، فكَم بالحري يكون الحال معنا إذا كُنّا ممسكين بالحياة الأبدية، ومتعلّقين باسم الخلاص؟ فمهما تكرّرت مرّات هفواتنا أو سقوطنا فلن نيأس، بل بالحريّ نتمسّك بمراحم الله الذي يُقيم الساقطين. ونثق أنّ النصرة بالنهاية ستكون للذي داس الموت وكسر شوكة الجحيم. (يُتّبَع) المتنيح القمّص لوقا سيداروس
المزيد
22 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس بيلشاصر

بيلشاصر " فى تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين "" دا 5: 30 " مقدمة لعله ليس هناك وصف أروع أو أجل من وصف متى هنرى، لليد التى ظهرت أمام النبراس على مكلس الحائط أمام بيلشاصر عندما قال: " يقول الربيون: إنه الملاك جبرائيل الذي استخدم هذه الأصابع فى الكتابة، ويقول دكتور لا يتفوت، وهو واحد منا، إنها ذات اليد الإلهية التى كتبت لوحى الشريعة للشعب، وهى تكتب الآن نهاية بابل وبيلشاصر معاً على الحائط "!! ومن العجيب أنه لا يوجد هنا ما يمكن أن يخيف من صوت، أو تهديد للحياة، أو رعد قاصف، أو برق خاطف، أو ملاك مهلك يحمل فى يده سيفاً مسلولا، بل قلم تحمله يد تكتب على الحائط أمام النبراس أو الشمعدان، حتى تظهر للجميع،.. وكتابة الكلمة الإلهية تفزع أعتى الخطاة عندما يقصد اللّه ذلك. ومن الملاحظ أن الملك لم ير سوى طرف اليد التى تكتب، وبالتالى لم ير الشخص الذى له هذه اليد التى تكتب ما يفزع،... ونحن لا نرى من اللّه، عندما يريد أن يكتب فى كتاب الخليقة أو الكتاب المقدس، إلا طرف اليد التى تكتب أو على حد قول أيوب: " ها هذه أطراف طرقه وما أخفض الكلام الذى نسمعه منه، وأما رعد جبروته فمن يفهم " " أيوب 26: 14 "... فإذا كانت هذه إصبع اللّه فكم تكون ذراعه!!؟.. هل نستطيع أن ندرك أنها ليست قصة بيلشاصر وحده، بل قصة كل واحد على ظهر الأرض؟ لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسى المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً!! " 2 كو 5: 10 ".. ومن ثم فنحن فى أمس الحاجة إلى أن نتعلم ونتعظ من الملك القديم،.. ولعلنا لذلك يمكن أن نتابع قصته فيما يلى: الملك والميزان الإلهى: كان بيلشاصر ملكاً على بابل، وشريكاً لأبيه نابونيداس، الذى كان يهتم أكثر من ابنه بالنواحى العلمية والثقافية، وكان الابن هو الحاكم الفعلى لبابل، وعلى وجه الخصوص عندما غاب الأب لمدة عشر سنوات فى حملة خارج البلاد فى أواسط الجزيرة العربية، وقد كشف الحفريات الحديثة عن اسمه مع أبيه، مما لم يكن معروفاً من قبل، حتى أن بعض النقاد ادعوا بأنه لا يوجد اسم ملك يحمل هذا الاسم، ولكن الكتاب يثبت صدقه دائماً، وتتهاوى كل الأراجيف التى تحاول النيل منه،.. ومن المعتقد أنه إبن ابنة نبوخذ نصر، إذ أن أباه تزوج بابنه نبوخذ نصر وأنجب منها هذا الأبن،... وبهذا المعنى قالت أمه الملكة، عندما أرشدته إلى دانيال ليفسر الكتابة، إن أباه نبوخذ نصر كان يستخدمه فى تفسير الأحلام والعوائص التى تواجهه!.. ومن المعتقد أنه كان فى أوج الشباب عندما حاصره كورش الفارسى، وقد كان شاباً أيضاً يصحب جيوشه الجرارة، بالمشاركة مع حميه داريوس المادى، وكان الشاب يعطى توقيراً كاملا لحميه، ويقدمه، ولذا أشير إلى أن حماه استولى على المملكة وهو فى الثانية والستين من عمره،... على أية حال كانت جيوش مادى وفارس تحاصر بابل، عندما أقام بيلشاصر حفلة لعظمائه الألف، والاسم. بيلشاصر " معناه " بيل يحمى الملك " وبيل هو إله بابل، ونحن لا نعلم لماذا أقام هذا الحفل العظيم،... هل أقام لمناسبة عيد ميلاده، أو عيد تتويجه؟، أو لأنه عيد إلهه،؟ أو لأنه - كما يعتقد البعض - أراد أن يقوى من عزيمة أبطاله فجمع ألفاً منهم، وهو يعتد بحصونه ضد القوات المهاجمة، وقد أراد أن يظهر كبرياءه وشجاعته، وقدرته التى لم يصل إليها نبوخذ نصر نفسه، فأمر بإحضار الآنية المقدسة ليشرب فيها الخمر ويسبح آلهته!!.. على أية حال، لقد ظهرت الكتابة أمامه تقول: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً"!!.. " دا 5: 27 " وهل لنا أن نقف قليلا من الميزان الإلهى؟!!.. إن هذا الميزان يختلف - ولا شك - من كل الموازين الاخرى!!.. إنه يختلف عن ميزان الإنسان لنفسه، أو الميزان كما يتخيله الإنسان، ويزن به نفسه!!.. وإذا صح ما يتفكهون به أنك إذا سألت اليهودى عن قيمة شئ، وثمنه، فإنه سيسألك أولا: هل سيشترى هذا الشئ أم يبيعه، فإذا كان هذا هو المشترى فإن الثمن أقل، وإذا كان هو البائع فإن الثمن أكثر - ولعله بهذا يفسر ما قاله الحكيم سليمان: " ردئ ردئ يقول المشترى وإذا ذهب فحينئذ يفتخر " " أم 20: 14 ".. وهى النفس البشرية التى حذرها المسيح فى الموعظ على الجبل: " لا تدينوا لكى لا تدانوا لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون، وبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم، ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفطن لها أم كيف تقول لأخيك دعنى أخرج القذى من عينك وها الخشبة فى عينك. يا مرائى أخرج أولا الخشبة التى من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك.. " " مت 7: 1 - 5 ".. أو ما قاله بولس: " لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك لأنك أنت الذى تدين تفعل تلك الأمور بعينها. ونحن نعلم أن دينونة اللّه هى حسب الحق على الدين يفعلون مثل هذه " " رو 2: 1 - 2 ".يقول ما كارتنى فى عظته المشهورة عن حزائيل، عندما قال لأليشع: " ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم " " 2 مل 8: 13 ".. إن أعظم فاعلى الشر فى الأرض كانوا رجالا لم يخطر ببالهم أن يفعلوه من أول الأمر، فنابليون فى مطلع حياته كتب رسالة لأكاديمية ليون بعنوان: " أخطار الطموح "... وقال نيرون: " ليت هذه اليد ما تعلمت الكتابة " وهو يوقع على أول قرار بالإعدام،.. وروبسبيير والذى أرسل الآلاف إلى المقصلة فى الثورة الفرنسية، كان قد قدم استقالته قبل ذلك كقاض فى محكمة إقليمية لأنه لا يستطيع أن يوقع عقوبة الإعدام على مجرم ثبتت إدانته!!... ولو أنك جئت إلى الملك داود وقلت له إنك ستكون زانياً وقاتلاً فى يوم من الأيام لصرخ فى وجهك: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا!!.. ولو أنك جئت إلى سليمان فى جبعون وهو جاث يقدم على المرتفعة ألف ذبيحة، ويطلب القلب الفهيم ليميز بين الخير والشر!!.. وقلت له إنك ستبعد عن اللّه وتتبع النساء الأجنبيات اللواتى انحرفن إلى عبادة الأوثان، لصاح: هذا مستحيل!!.. سل بطرس الذى سيخرج فى تلك الليلة، وقبل أن يضيع طعم الطعام من فمه،.. وقل له إنه سينكر السيد، وهو يصيح: هذا لا يمكن أن يكون.. تصور نفسك نبياً، واعرف ماذا سيفعل الناس، وانظر أعمالهم، وحدثهم بها، وهم سيرمونك بالكذب لأنك تجرؤ على أن تصورهم بهذه الصورة ولكن نبوتك ستتحقق، وكما بكى أليشع قد تبكى عندما تثبت عينيك فى إنسان لتحدثه بما لا يخطر بباله أن يفعل لأن " القلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه!!.. " إرميا 17: 9 " حقاً إن الميزان البشرى الذى يصنعه الإنسان لنفسه لا يمكن أمام كبريائه أو ضعفه أو فساده أو نجاسته أن يكون صحيحاً أو دقيقاً،.. ومن الواضح أن بيلشاصر لم ير أى خطأ فيما فعل أو عيب أو نقص أو قصور،... بل لعله وهو يفعل ما لم يجرؤ عليه نبوخذ نصر نفسه، كان يرى فى نفسه أشجع وأعظم وأصدق وأدق من سلفه العظيم!!.. فإذا نظرنا إلى ميزان آخر - وهو ميزان الناس لغيرهم من الناس - لوجدنا أنه ليس أقل خطأ أو قصوراً أو تضليلا،.. كان بيلشاصر قد أقام حفله العظيم لألف من عظمائه، الذين هم أبطال الأمة وقادتها،.. وقد نظر إليه هؤلاء نظرة الإعجاب كالقائد الشاب الشجاع الذى هو سيد الأمة وبطلها العظيم،.. وشتان بين حكم الأرض، وحكم السماء... وشتان بين تفسير العظماء، وتفسير دانيال، وقد شاء المسيح أن يعطينا صورة كاملة عن الفارق بين الحكمين والتفسيرين، فى منظر الغنى ولعازر، والصورة الأرضية والصورة السماوية المتتابعتين لهذا المنظر العتيد،... ففى ركن زاوية على الطريق جلس لعازر فى مواجهة قصر الغنى الذى يرفل فى البز والأرجوان،.. ولو طلب إلى الناس أن يضعوا مقارنة بين الرجلين، لما وجدوا أى مجال للمقارنة، فهل يمكن أن يقارن المترف بالمجروح والشبعان بمن لا يجد الفتات؟ والذى يمتلئ بيته بالإشراف من الزوار، بمن لا يجد إلا الأصدقاء من الكلاب التى تلحس القروح؟!!.. ولعلهم يقولون: وأين الثرى من الثريا؟ وهم - ولاشك - سيرون الثرى فى المسكين الذى يجلس على التراب، والثريا فى ذاك الذى يتألق بيته بالأنوار اللامعة المنيرة العظيمة!!.. هذا هو حكم الأرض،.. ولكن ميزان السماء صنع الهوة التى لا تعبر، وفى قمتها بائس الأمر، وفى قاعها المترف الذى هبط إلى الهاوية التى لا قرار لها!!. إن القصة ترينا أن هذا الميزان سجل حكمة إزاء النبراس أو الشمعدان حتى يراها الكل،. وميزان اللّه هو ميزان النور،.. إن عدالة اللّه ليست عمياء، كما ألف الناس أن يروا العدالة فى صورة امرأة معصوبة العينين تمسك ميزاناً بيدها، وفى اليد الأخرى سيفها المجرد!!.. إن عدالة اللّه، بالأحرى، فاحصة نيرة بالغة الدقة، فى وزنها، أو على ما تقول حنة فى صلاتها: " لأن الرب إله عليم وبه توزن الأعمال " " 1 صم 2: 3 ".. مررت يوماً بميزان من تلك الموازين التى توضع فى الأماكن أو المؤسسات العامة أو الخاصة، والتى تضع فيها العملة حتى تخرج لك تذكرة مكتوب عليها وزنك...، وهل رأيت من باب التسلية أوحب الاستطلاع، أو الخوف من زيادة الوزن أو نقصه من يزنون أنفسهم؟، أو هل رأيت الطبيب يزن الطفل أو الرجل قبل أن يفحصه طبياً؟،.. هذه موازين بشرية لغايات تتصل بالجسد أو سلامته، أو الاطمئنان على الصحة أو ما أشبه، وأين هذه من ميزان النفس عند اللّه؟، وعلى وجه الخصوص، إن الرب إله عليم، وبه توزن الأعمال، وهو فى وزنه للأعمال يتغور إلى الداخل العميق، لأنه يعرف السرائر ولا تخفى عليه خافية،.. وهو يصل إلى أعماق النبضات والنأمات، والنوايا والبواعث المتشابكة التى لا تستطيع العين أن تدركها!!.. فإذا أصدر اللّه أمراً إلى يا هو بن نمشى أن يبيد بيت أخاب ليحل محله فى الملك، وإذا صادف الأمر الهوى العميق فى قلب ياهو، فهو يبيد، وبغير اعتدال، وهو لا يرى فى عمله هذا إلا إتماماً لأمر اللّه، إلى الدرجة التى يقابل فيها يهو ناداب بن ركاب فيباركه ويقول له: " هل قلبك مستقيم نظير قلبى؟ فقال يهوناداب: نعم ونعم... هات يدك، فأعطاه يده، فأصعده إليه إلى المركبة وقال: هلم معى وانظر غيرتى للرب، وأركبه معى فى مركبته وجاء إلى السامرة وقتل جميع الذين بقوا لآخاب فى السامرة، حتى أفناه حسب كلام الرب الذى كلم به إيليا " " 2 مل 10: 15 - 17).. وإذا كان اللّه قد بارك ياهو وأجلس أبناءه إلى الجيل الرابع، لأنه تمم الإرادة الإلهية،... لكن هناك تياراً رفيعاً أسود كان فى قلب ياهو، استطاع أن يخفيه عن يهوناداب بن ركاب، وعن كل إنسان آخر، لكنه لم يكن خافياً على اللّه، وجرى فى القلب التيار الأسود مع الأبيض، ووزن اللّه وفصل بين التيارين، وقال على لسان هوشع: " بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل " " هو 1: 4 "... هل تستطيع مهما بلغت من الإدراك والحكمة أن تكتشف التيارين الممتزجين؟؟، وإذا أمكن أن تكتشف، فهل تستطيع الفصل بينهما فتبارك التيار الأبيض، وتعاقب الأسود؟،... ليس هناك إلا ميزان واحد يستطيع ذلك، هو ميزان اللّه، الذى فصل من البداءة بين النور والظلمة، " فالظلمة أيضاً لا تظلم لديه، والليل مثل النهار يضئ كالظلمة هكذا النور، " " مر 139: 12 " هل أساء إليك زميل أو رفيق، فحفظت فى قلبك شيئاً عميقاً غائراً لا يدركه أحد، وانتهزت خطأ ارتكبه هذا الزميل، أو خطية ما، فإذا بك تثور ناهضاً ضد هذا الخطأ أو الخطية، باسم الغيرة للّه؟ ويحمدك الناس لأنك لا تعرف المجاملة على حساب الحق،... ولكن رقيب الناس يتعقب شيئاً دفيناً أسود لا يراه أحد، ويزنه بميزان العدالة البالغة الدقة، ويفصله على حده، ويتعامل معك إزاءه، سواء فى السريرة أو فى العلانية، حتى تعلم أنك تستطيع أن تخدع نفسك أو تخدع الآخرين، لكنك لا تستطيع أن تخدع اللّه البتة!! كان بيلشاصر عظيماً فى ميزان النفس، وميزان الناس،.. ولكنه أبصر على مكلس الحائط تجاه النبراس القول: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً ".. بيلشاصر والأوانى المقدسة: - يقولون إن بيلشاصر كان متعبداً لبيل إله الكدانيين، وقد أراد أن يثبت لعظمائه شيئاً يختلف عما وصل إليه نبوخذ نصر، فإذا كان نبوخذ نصر قد انتهى إلى سيادة اللّه على كافة الآلهة، عندما قال لدانيال الذى فسر له الحلم الذى عجز حكماء بابل عن معرفته وتفسيره: " حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار " " دا 2: 47 "... كما قال للثلاثة فتية بعد خروجهم من الأتون: " إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجى هكذا " " دا 3: 29 ".. فإن بيلشاصر يمكن أن يثبت شيئاً يختلف عما ذكره الملك العظيم، إذاً فليرفع بيل على حساب اللّه، ولا مانع من التسبيح لآلهة الفضة والذهب، والنحاس، والحديد، والخشب، والحجر - التى لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف - متجاهلا، اللّه الذى بيده نسمته وله كل طرقه!!.. كما قال له دانيال " دا 5: 23 " وغنى بليشاصر وعظماؤه لبيل على أمل أن يساعدهم فى اليوم الأسود ضد الجيوش المهاجمة التى تحاصر المدينة، وما هو البرهان، فى عرفه، تزلفاً وتملقاً لبيل، وتحدياً لإله إسرائيل، وذلك بإحضار الآنية المقدسة، واستخدامها لشرب الخمر والسكر والعربدة!!.. أو أنه - فى عبارة أخرى التمرد والنجاسة معاً،.. وما فعله بيلشاصر قديما ما يزال يفعله الإنسان فى كل جيل وعصر عندما يتمرد على اللّه، وينجس الأوانى المقدسة التى أعطاه اللّه إياها لتستخدم لجلاله ومجده: " ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر للّه... ألستم تعلمون أن الذى تقدمون ذواتكم له عبيداً للطاعة، أنتم عبيد للذى تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر ". " رو 6: 13 و16 " " أما تعلمون أنكم هيكل اللّه وروح اللّه يسكن فيكم، إن كان أحد يفسد هيكل اللّه فيفسده اللّه لأن هيكل اللّه مقدس الذي أنتم هو " "1 كو 3: 16 و17 ".. " ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح، أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية، حاشا، أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد. اهربوا من الزنا، كل خطية يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد لكن الذي يزنى يخطئ إلى جسده، أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم الذى لكم من اللّه وأنكم لستم لأنفسكم " " 1 كو 6: 16 - 19 "أيها الشاب الذى تذهب إلى الفجور والدنس، إنك بيلشاصر، على مائدة النجاسة تقدم الأوانى المقدسة التى صنعها اللّه لمجده وجلاله!!. بيلشاصر والضمير:- والضمير كما وصفه ا. ج. جوردون هو: " سلم يعقوب الحقيقى فى داخل قلب الإنسان والذى يصل إلى السماء، وفوقه ملائكة الاستحسان والتوبيخ تصعد وتنزل ".. وقد جاء إلى الملك فى لحظة الموسيقى الضاحكة والكأس الممتلئة، فلماذا يفزع ويرتعب، وألا يجوز أن بيل آلهته أرسلت إليه كلمات مشددة مشجعة ضد الجيش المهاجم؟ فلماذا تفزعه أفكاره وتنحل خرز حقوبه، وتصطك ركبتاه؟،.. إنه الضمير الذى ينهض اللّه فى أعماق الإنسان ليفزعه ويروعه، وهو العين المرهبة التى صورها " فيكتور هوجو " تلاحق قايين ليلا ونهاراً، وهو يصرخ على الدوام: " ذنبى أعظم من أن يحتمل " " تك 4: 13 "... وهو الضمير الذى جعل هيردوس الملك،.. مع أنه كان من الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة إلا أنه عندما يسمع عن المسيح يقول: إنه يوحنا المعمدان الذي قطعت أنا رأسه... وهو الضمير الذى أرعب فيلكس لما كان بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون!!.. وهو الضمير الذى كانت تتمنى، معه، أن تقابل " مارى الدموية " جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، دون أن تواجه يوحنا نوكس بصوته المفزع المرهب الشديد "!!ومن الغريب أن بيلشاصر شرب الكأس فى مواجهة الجيوش الغازية دون أن يفزع منها، وارتعب من طرف يد تكتب على مكلس الحائط أمام النبراس: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً ".. إنه الضمير الذى ينهض فى اليوم الأخير فى الأشرار وهم يقولون للجبال اسقطى علينا وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش ومن غضب الحمل؟؟!!.. والسؤال: أيها الشاب ماذا أنت فاعل تجاه الضمير وهو يكتب علي مكلس الحائط تجاه عينيك: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً "..؟؟ بيلشاصر والنهاية المخيفة:- والنهاية فى مرات كثيرة، تكون أسرع جداً مما يظن أو يتصور أصحابها. لست أعلم إلى أى مدى أخذ بيلشاصر تفسير دانيال، فمع أن دانيال تحدث معه بكل قسوة وعنف، فهو يرفض عطاياه، أو إذا أراد أن يعطيها فلتكن لغيره: " لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى " " دا 5: 17 ".. على أية حال إن بيلشاصر صدق كلمات دانيال، ومع ذلك فهو يظن أنها لن تكون بهذه السرعة، ومن ثم فهو يصدر قراراً: " أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة " " دانيال 5: 29 ".. ومع أن هذا القرار لن يتسع وقت بيلشاصر لتنفيذه، إلا أن دانيال سيأخذ مركزه العظيم بقرار آخر، ولكن من داريوس، وليس من بيلشاصر!!.. وسيبقى دانيال أميناً يعلم أن القرار الصحيح لا يصدره ملك أرضى، بل يصدره اللّه ملك الملوك ورب الأرباب، الإله المتسلط فى مملكة الناس، وهو الذى يمنع ويمنح. وسعيد ذلك الذى يتسلم مركزه وسلطته ومجده من اللّه وليس من الناس!! سقطت بابل بدون قتال، بخدعة عملها كورش والماديون والعيلاميون الذين كانوا معه بتحويل مجرى نهر الفرات وسقطت فى ذات الليلة التى كان يعربد فيها بيلشاصر ويسكر، ولعله مما تجدر الإشارة إليه أن مصوراً أمريكياً اسمه " واشنطون ألستون " قضى اثنى عشر عاماً وهو يرسم منظر حفل بيلشاصر دون أن يتمكن من إتمام الصورة، وكانت العقبة الرئيسية أمام المصور العبقرى الفنان هى عجزه عن إبراز الفزع الكامل، واليأس الرهيب الذى استولى على الملك، وظهر على قسمات وجهه،... ومع ذلك، فالصورة في متحف الفنون فى بوسطن، وهى تكشف، بالعمل الناقص، عن عجز الإنسان مهما كانت قوته وقدرته وعبقريته عن تصوير فزع الضمير الذى يلاحق الخاطئ ملاحقة أبدية!!..
المزيد
21 يوليو 2021

الضمير صلاحيته عناصره أنواعه تأثراته

الضمير هو طاقة أوجدها الله في الإنسان للتمييز بين الخير والشر، والحلال والحرام، و اللائق وغير اللائق وما يجوز وما لا يجوز. لذلك دعي بالشريعة الطبيعية أو بالشريعة الأدبية غير المكتوبة.وقد كان هو الحكم الداخلي في الإنسان قبل زمن الأنبياء، قبل الوحي والشريعة المكتوبة. وبه كمثال تسامي يوسف الصديق عن الخطأ مع امرأة سيده حين طلبت ذلك منه. بينما عاش يوسف قبل موسي النبي بمئات السنين، وقبل أن يأمر الله في الوصايا العشر قائلا 'لا تزن' ولكن كان هناك الضميرولكن لما ضلٌ الضمير، حينئذ أرسل الرب وصاياه الإلهية لترشد الإنسان وتكون ميزانًا يزن به أفعاله ونواياه. وسنضرب أمثله للدلالة علي أن الضمير قد يضلٌ: ذلك الشخص الذي يقتل ابنته أو أخته إذا سقطت وفقدت عفتها ألا يري بضميره انه يمحو عار الأسرة ويرد شرفها؟! بل إن البعض في الريف قد يتعبه ضميره إن لم يقتل هذه الفتاة!! كذلك الشخص الذي يفجر نفسه أو يفجر سيارة، ويقتل بذلك مجموعة من الأبرياء، ويدمر بعض ألاماكن، ألا يعتبر نفسه شهيدا، وانه قام بعمل وطني يسجل له بالفخر؟! وقد شجعه ضميره علي ذلك!! يمكننا إذن أن نقسم الضمائر إلي أنواع منها الضمير الصالح الذي يحكم حكمًا خيرًا ونيرًا، ودقيقًا. وهو مثل ميزان الصيدلي لا يزيد في تركيب الدواء ولا ينقص وهناك ضمير واسع يبلع الجمل، وهو يقبل أمورًا خاطئة عديدة، لا يوبخ عليها إطلاقًا، بل قد يجد لها تبريرًا يريحه! بينما هناك أيضًا ضمير ضيق أو موسوس أو متشدد. يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو يضخم كثيرًا من قيمة الأخطاء. وهو بهذا يضيق علي الناس بأحكامه ويغلق أمامهم أبواب السماء! علي أن هناك أنواعًا أخرى من الضمائر كالضمير الغائب، أو الضمير النائم أو الضمير الميت الذي يوصف صاحبه بأنه بلا ضمير!! مثال ذلك القاتل الذي تعوَّد القتل، أو السارق الذي تعود السرقة، أو الظالم الذي يصبح الظلم جزءا من طبعه! وكذلك القاسي القلب وكل من هؤلاء يرتكب الخطايا ولا يشعر انه قد اخطأ ومثلهم أيضًا الكاذب الذي تعود الكذب، والفاجر الذي تعود الفجورهؤلاء تصير خطاياهم شيئا طبيعيا في نظرهم، لا يبكتهم عليها ضمير، ولا يندمون كلما أخطأوا..! أما الضمير السليم أو الضمير الصالح، فله وظائف مهمة منها التشريع، والمحاكمة، وإصدار الحكم.. ففي التشريع يعلن ما كان ينبغي أن يقال أو أن يفعل طبقًا لوصايا الله وتمشيًّا مع المبادئ السليمة والمثل. ومن جهة المحاكمة يقول للشخص ماذا فعلت؟ ولماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ وكيف جرؤت أن تفعل؟ وأين خشية الله في قلبك؟ ومن جهة إصدار الحكم يحكم الضمير باللوم أو بالتوبيخ وقد يصل الأمر إلي تعذيب الضمير، وقد يحكم بوجوب تصحيح ما قد فعله وعلاج نتائجه والضمير لا يحكم فقط علي الفعل، إنما حتى علي النية والغرض. ويحكم علي المشاعر الباطنية، وعلي الفكر ومن هنا كان الضمير أوسع دائرة وأعمق أثرًا من القوانين الموضوعة وما أكثر الأمور التي لا يحكم عليها القانون. ولكن يحكم عليها الضمير، ويكون حكمه غير قابل للنقض ونطاق الضمير يشمل ما قبل الفعل وما بعده فهو من جهة النواحي الطيبة، يستحث ويدفع ويشجع. أما من جهة الأمور الرديئة، فهو يمنع أو ينذر ويبصر بالعواقب كما انه لا يتناول الفعل فقط، إنما يحكم أيضًا علي تأثيره ونتائجه ومقدار ردود هذا الفعل علي أن الضمير قد يصطدم بالإرادة التي ربما تقف ضده! فضمير الشخص قد يقول له إن هذا الأمر واضح الخطأ ومع ذلك فانه يفعله!! كالتدخين مثلًا: يقول له الضمير انه يضر صحتك وصحة الذين حولك.. وفيه تفقد مالك وتفقد إرادتك. ومع ذلك لا يمتنع الإنسان عن التدخين، لان إرادته لا تستطيع! ومن هنا قال البعض عن الضمير انه قاض عادل غير انه ضعيف والضعيف يقف ضد تنفيذ أحكامه أما لماذا هو ضعيف، فذلك لان هناك مؤثرات أخرى كثيرة تضغط عليه.. وقد لا يستطيع مقاومتها.الضمير يتأثر بالشهوة.. وكلما كانت الشهوة قوية، يضعف أمامها الضمير والشهوة علي أنواع. منها شهوة الجسد، وشهوة المناصب والارتفاع، وشهوة العظمة، وشهوة السيطرة، وشهوة الانتقام، وغير ذلك.. وحينما تشتد الشهوة فإنها تطرح الضمير جانبا فيفقد سلطانه وتتولي الشهوة قيادة الموقف، بلا ضمير، وتدبر الأمر حسب هواها.. ومن هنا أيضًا كانت المصالح الشخصية هي من الأمور الضاغطة علي الضمير أو السيطرة عليه، أو التي تحل محله، سواء بالنسبة إلي ضمير الفرد أو ضمير الدول. حتى لو كانت النظرة إلي المصالح الشخصية نظرة غير سليمة. إذن الدوافع ­أيًا كانت­ لها سيطرة علي الضمير مما يؤثر علي الضمير أيضًا مقدار المعرفة ودرجة الذكاء فقد يخطئ الضمير في حكمه نتيجة للجهل أو لنقص المعرفة أو لخطأ في الأمور المعروضة عليه وعلاج ذلك هو التوعية والإرشاد السليم. وقد يخطئ الضمير، أو تختلف أحكام الضمائر، باختلاف العقول وتنوع درجات الذكاء فيها. فضمير الإنسان الحكيم العاقل غير ضمير الإنسان العادي أو الأقل ذكاء أو البسيط في تفكيره وعلاج نقص العقل أو المعرفة هو الاسترشاد. وكما قال الشاعر: فخذوا العلم علي أربابه.. واطلبوا الحكمة عند الحكماء ومن الناحية المضادة قد يخطئ الضمير نتيجة للإرشاد الخاطئ إن كان خاضعًا لإرشاد يضلله. وكما يقول المثل 'أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى'، يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ (إنجيل متى 15: 14؛ إنجيل لوقا 6: 39).مما يؤثر علي الضمير أيضًا: العرف و البيئة وحماس الجماعة: فهناك عادات متوارثة وعرف سائد وتأثيرات للبيئة قد يتبعها الإنسان دون أن يفكر أو يحلل.. وبهذا تحل محل ضميره! كما تؤثر علي الضمير مشاعر الجماعة واقتناعها أو حماسها. مثال ذلك في بعض مظاهرات الطلبة قد ينقاد بعضهم وراء هتافات الجماعة وحماسها، دون أن يفكر ما هو الخير. ولكنه إذا خلا إلي نفسه، أو إذا قبض عليه وجلس في الحبس منفردا، ربما يناقش الأمر بضمير آخر قد تخلص من تأثير المظاهرة وهتاف الزملاء ونفس الوضع لمن يكون تحت تأثير ما تنشره بعض الصحف، أو ما توحي به بعض دور الإعلام. في كل ذلك وما يشبهه يكون الضمير تحت تأثير خارجي، يستمر إلى أن يوجد ما يتوازن معه.الضمير أيضًا قد يتأثر أيضًا بالمبدأ الميكيافلي 'الغاية تبرر الواسطة' فقد يقبل وسيلة خاطئة، إن كانت في نظره توصل إلي هدف يراه سليمًا، وكثيرًا ما تستخدم هذه الفكرة عن الوصوليين الذي هدفهم هو مجرد الوصول إلي ما يريدون أيًا كانت الوسائل!! والعجيب أن هؤلاء يبررون وسائلهم الخاطئة اعتمادًا علي أهداف وحجج وأسباب تكون حكيمة في أعينهم! وقد قال احد الآباء الروحيين "كثيرًا ما يكون طريق جهنم مفروشا بالأعذار والتبريرات" والمقصود هو التبريرات التي تغطي علي حكم الضمير. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
20 يوليو 2021

المسيحية والبتولية

لقد تميزت المسيحية عن غيرها من الديانات الأخرى في فكر البتولية وحياة البتولية هذه تعني عدم الزواج، وهي ليست حياة العفة.. فحياة العفة والطهارة مطلوبة من الكل (بتوليين ومتزوجين). أما حياة البتولية.. فيسلك فيها مَنْ لا يريد الارتباط بزوج أو زوجة.. فهو يريد أن يعطي كل حياته للسيد المسيح (الرهبان والراهبات)، ويخدم السيد المسيح بكل قوته وحياته (المكرسين والمكرسات). والبتولية قد عُرفت قديمًا بين بعض الديانات الوثنية لدى شعوب الحضارات القديمة.. أمثال المصريين والهنود والصينين، وأيضًا عُرفت بين شعب الله فى العهد القديم.. فكان البعض يحيون حياة البتولية مثل: "إيليا النبي".. ولكنها في المسيحية أخذت مفهوم سامٍ.. فبدت تتألق بين الفضائل جميعها.. فهي أسمى الفضائل وأجملها لأنها تهيئ للإنسان أن يرتبط بعريس نفسه السماوي السيد المسيح فالسيد المسيح هو المثل الأعلى لنا (المسيحيين).. فقد عاش بتولًا.. ووُلد أيضًا من عذراء بتول (السيدة العذراء الدائمة البتولية).فنجد السيد المسيح نفسه يتكلّم عن البتولية في حديثه عن الخصيان الذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات.. "قالَ لهُ تلاميذُهُ: "إنْ كانَ هكذا أمرُ الرَّجُلِ مع المَرأةِ، فلا يوافِقُ أنْ يتزَوَّجَ!". فقالَ لهُمْ: "ليس الجميعُ يَقبَلونَ هذا الكلامَ بل الذينَ أُعطيَ لهُم، لأنَّهُ يوجَدُ خِصيانٌ وُلِدوا هكذا مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِهِمْ، ويوجَدُ خِصيانٌ خَصاهُمُ الناسُ، ويوجَدُ خِصيانٌ خَصَوْا أنفُسَهُمْ لأجلِ ملكوتِ السماواتِ. مَنِ استَطاعَ أنْ يَقبَلَ فليَقبَلْ" (مت19: 10-12). وأيضًا عندما سألوه الصدوقيين عن المرأة التى تزوجت من سبعة أخوة... ففي القيامة لمَنْ تكون زوجة من السبعة.. فكان رده واضحًا عليهم قائلًا: "لأنَّهُمْ في القيامَةِ لا يُزَوّجونَ ولا يتزَوَّجونَ، بل يكونونَ كمَلائكَةِ اللهِ في السماءِ" (مت22: 30)، (لو20: 35).. ويقصد بذلك أن حالة عدم الزواج (البتولية) تشبة حياة الملائكة.ويؤكد هذا الفكر القديس "كبريانوس الشهيد" فى إحدى رسائله لبعض العذارى قائلًا لهن: "لقد ابتدأتن الآن وأنتن في هذه الحياة في التمتع بما سيكون لكّن في السماء بعد القيامة. لأنكّن بحفظكن بكارتكن قد تشبهتن بالملائكة" ونجد مُعلمنا بولس الرسول مَثلًا آخر واضح في حياة البتولية.. فقد تحدث عنها راجيًا أن يكون الجميع مثله متمتعين بحياة البتولية قائلًا "ولكن أقولُ لغَيرِ المُتَزَوجينَ وللأرامِلِ، إنَّهُ حَسَنٌ لهُمْ إذا لَبِثوا كما أنا" (1كو7: 8) "فأُريدُ أنْ تكونوا بلا هَم. غَيرُ المُتَزَوّجِ يَهتَمُّ في ما للرَّب كيفَ يُرضي الرَّبَّ، وأمّا المُتَزَوّجُ فيَهتَمُّ في ما للعالَمِ كيفَ يُرضي امرأتَهُ" (1كو7: 32-33) "إذًا، مَنْ زَوَّجَ فحَسَنًا يَفعَلُ، ومَنْ لا يُزَوّجُ يَفعَلُ أحسَنَ" (1كو7: 38). ففي هذه الآيات يوضِّح أهمية البتولية.. بل أن البتولية أحسن من الزواج (مَنْ لا يُزَوّجُ يَفعَلُ أحسَنَ).. ولم يقصد هنا أن الجميع يعيشون حياة البتولية، ولكنها في مرتبة أحسن من مرتبة من يتزوج. فلا يستطيع الكل أن يعيشوا حياة البتولية.. فالطرق كثيرة وكل منَّا يسلك حسب ميولة وحسب اشتياقات قلبه وإمكانياته الروحية.ونرى مُعلمنا يوحنا الرائي يوضِّح لنا مركز البتولية في السماء فيقول: "ثُمَّ نَظَرتُ وإذا خَروفٌ واقِفٌ علَى جَبَلِ صِهيَوْنَ، ومَعَهُ مِئَةٌ وأربَعَةٌ وأربَعونَ ألفًا، لهُمُ اسمُ أبيهِ مَكتوبًا علَى جِباهِهِمْ. وسَمِعتُ صوتًا مِنَ السماءِ كصوتِ مياهٍ كثيرَةٍ وكصوتِ رَعدٍ عظيمٍ. وسمِعتُ صوتًا كصوتِ ضارِبينَ بالقيثارَةِ يَضرِبونَ بقيثاراتِهِمْ، وهُمْ يترَنَّمونَ كتَرنيمَةٍ جديدَةٍ أمامَ العَرشِ وأمامَ الأربَعَةِ الحَيَواناتِ والشُّيوخِ. ولم يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يتعَلَّمَ التَّرنيمَةَ إلاَّ المِئَةُ والأربَعَةُ والأربَعونَ ألفًا الذينَ اشتُروا مِنَ الأرضِ. هؤُلاءِ هُمُ الذينَ لم يتنَجَّسوا مع النساءِ لأنَّهُمْ أطهارٌ. هؤُلاءِ هُمُ الذينَ يتبَعونَ الخَروفَ حَيثُما ذَهَبَ. هؤُلاءِ اشتُروا مِنْ بَينِ الناسِ باكورَةً للهِ وللخَروفِ. وفي أفواهِهِمْ لم يوجَدْ غِشٌّ، لأنَّهُمْ بلا عَيبٍ قُدّامَ عَرشِ اللهِ" (رؤ14: 1-5) وهنا نجد كلامًا في غاية الوضوح عن عِظم وامتياز البتولية والبتوليين.. فهو يظهرهم هنا أنهم ملازمون للمسيح (الخروف)، فهم يتبعونه حيثما ذهب، وأيضًا ينفردون عن غيرهم في معرفة الترنيمة التي لا يستطيع أحد أن يرددها غيرهم (حياة التسبيح المستمرة).. والسبب في ذلك: "إنهم لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار"هكذا سارت موجة شديدة من الحماس للبتولية على مر العصور، وتغلغلت في صدور المؤمنين بعمق، وفتغنى بها آباء الكنيسة، وتباروا في مدحها.. ليس عن اصطناع ومغالاة بل عن حب وعمق وممارسة وتقدير لأهميتها.. فقد عاشها الآباء الأولين بعمق.فنجد القديس "أمبروسيوس" أسقف ميلان.. يكتب ثلاث كُتب عن البتولية لأخته مرسللينا، ويقول فيها: "ليست البتولية مستحقة المديح من حيث أنها توجد في الشهداء، بل لأنها هي نفسها تصنع الشهداء. ومَنْ الذي يستطيع أن يدرك بفهمه البشري ذاك الذي لا تحويه الطبيعة في قوانينها؟ أو مَنْ يقدر أن يشرح في أسلوب مألوف ذاك الذي فوق مستوى الطبيعة؟ لقد استحضرت البتولية من السماء ما يمكنها من أن نحاكيه على الأرض"وبعد أن وصف البتوليين كملائكة الله استكمل كلامه قائلًا: "وما قلته ليس كلامي طالما أن الذين لا يتزوجون ولا يزوجون هم كملائكة السماء.. فلا تعجب إذن اذا ما قورنوا بالملائكة الملتصقين برب الملائكة. مَنْ يقدر إذن أن ينكر أن هذا النهج من الحياة له نعمة فى السماء؟ ولم نجده بسهولة على الأرض إلاَّ بعد أن نزل الله أخذًا جسدًا بشريًا".فهل ترى أيها الحبيب فى الرب.. أن حياة البتولية هي بتولية الجسد فقط.. أم يشترك فيها بتولية الفكر والحواس؟ فكر معي!! كيف يسلك الإنسان في حياة البتولية في هذا العالم الشرير، وهذا المجتمع المليء بالمعاثر والشهوات!! هل يلزم ذلك منَّا جهادًا مستمرًا ونموًا روحيًا دائمًا.. أيًا كان كل واحد منَّا راهبًا أو راهبة أو مكرسًا أو مكرسة أو علمانيًا؟ فلنتمسك بالمسيح ونطلب معونته لتآزرنا في جهادنا وحياتنا على الأرض لكي نكون كملائكة الله في السماء.ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
19 يوليو 2021

فضيلة الوداعة

الفضيلة ليست تفضل من الانسان، ولكنها فيض، فقد امتلأ بنعمة ما وفاضت النعمة فخرجت للآخرين " فاض قلبي بكلام صالح" (مزمور 45 : 1) فالوديع مثلا انسان امتلأ قلبه بالوداعة ففاضت منه فى الخارج، ولذا فالفضيلة هى عمل روحى داخلى، ظهر فى ملامح الانسان .. انها عمل للروح القدس، وألا ُحسبت ابتسامات المطاعم والطائرات والدعاية والاعلان فضائل، كلاّ ولكنها مهنة. بعض الفضائل يظهر فى سلوك الناس، مثل احترام الآخرين .. أو الصبر، والبعض الآخر يكون في الفكر (التفكير) مثل الاتضاع، والعض الآخر يظهر فى ملامحهم مثل الوداعة ..البشاشة. والوداعة تختلف عن الاتضاع، لأن المتضع فد يكون صامتاً من الخارج .. بل نعرف الكثير من القديسين كانوا جادين .. حارين فى الروح، وآخرين اجتذبوا ببشاشتهم الكثيرين إلى الحياة النسكية مثل القديس أبوللو صديق القديس أبيب .. والقديس مكاريوس السكندرى وغيرهم .. ورغم ما يقال عن أن السيد المسيح لم يضحك أبداً بل بكى، فإنه من المؤكد أنه كان لطيفا بشوشاً أليس هو القائل بفمه الطاهر "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" ولكن الضحك غير البشاشة والوداعة .. وبالطبع لا أقصد بالبشاشة تلك الابتسامة الصفراء أو التى ليس لها معنى. علامات الوداعة: الإنسان الروحي عليه صورة المسيح الوديع المتواضع القلب، كما أن وداعته انعكاس لعمل الروح فى قلبه، فهو بسيط غير ماكر .. (أي مستريح من الداخل) يقول القديس باخوميوس (منظر الانسان الوديع المتواضع القلب، هو أجمل ما يمكن أن تنظر العين وعن افضل من هذا المنظر لا تبحث .. الوديع هو شخص مريح القسمات .. بعكس شخص آخر تشعر بأن عليه غضب الله، فى الكنيسة يمثل العبادة المفرحة .. والمسيح المبهج .. تصوروا لو أن خادم أو خادمة يعود من الكنيسة إلى البيت فيجدونه عصبياً لا يتكلم، قاسي الوجه حديدى الملامح .. فهم سيعثرون فى الكنسية والخدام .. ومع ذلك فليس من اللائق أن تكون له تلك الابتسامة التى تثير الغيظ والحنق !! بل أن الوداعة تمجد الانسان مثل اكليل يتجلى به "يابنى مجد نفسك بالوداعة واعط لها من الكرامة ماتستحق" سيراخ 31:10) ويقول سيراخ أيضا "الإيمان والوداعة يغمران صاحبهما بالكنوز"(سيراخ 35:1) وحسبما ورد في كتاب الدرجي فإن الغضب له درجات: الغضب = بغض مكتوم وهو شهوة الإساءه لمن أغضبك. الغيظ = اشتعال القلب بغتة. الحنق = تحول الاخلاق بسرعة وجعل النفس قبيحة. فى حين أن كل مرارة وغضب يزولان برائحة التواضع .. 3 - منابع الوداعة: الوداعة هى رداء المسيح وبالتالى المسيحى، لذلك يقول القديس بولس "فالبسوا كمختارى الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناه" (كو 12:3). والوديع لابد أن يكون مستريحاً من الداخل، بلا شر، فالشرير لا يمكن أن يكون وديعاً، قد يجتهد أن يكونمهزارا وهناك فرق بين الوداعة والهزر السخيف والنكات الخارجة.ً عموماً فإن هذه الفضيلة تحتاج إلى طلب بحرارة من الله، لأن الابتسامة السريعة أو المرسومة يمكن ممارستها بالتدريب (مثل السياسيين والدبلوماسيين والمضيفين وغيرهم) ولكن الملامح المريحة تعكس قلباً يفيض بالهدوء والفرح .. 4- الخادم والأب الوديع: عندما تكلم الشاب الغنى مع المسيح، نظر إليه يسوع وأحبه .. أنها نظرة الحنو والوداعة لخادم تجاه مخدومه، والخادم بوادعته يقدر أن يكسب للمسيح أكثر مما يكسب بلباقته وعلمه، لأنه بذلك يقدم صورة المسيح الوديع ( مثلما حدث في حواره مع السامرية) هكذا الخادم مع المخطئ، فالتبكيت والتأنيب اللازع لن يجدى بقدر الشرح وعرض أبعاد المشكلة، كما أن النصح المخلص أفضل من التهكم والسخرية .. "أيها الاخوة إذا أنزلق انسان فأخذ فى زلة ، فأصلحو انتم الروحانين مثل هذا بروح الوداعة" .. (غلاطية 1:6). مثل الأب الذى ينتهر طفله فيبكى الطفل ليس بسبب الكلام (أو حتى الضرب) وانما بسبب ملامح أبيه القاسية وصوته المرعب .. أو الأم التى تنتهر ابنها بالشتائم .. أو ترضعه وهى غاضبة فقد يصاب بالتسمم .. يقول بن سراخ: "انفعال الانسان بالغضب يقوده إلى السقوط" (سيراخ 21:1) لقد قال الكتاب عن موسى النبى كخادم "كان الرجل موسى حليما جدا اكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عدد 13:12) من المتوقع أن يخطئ الناس ولكنه من الواجب على الراعى احتمالهم وتعليمهم بصبر ووداعة وأبوة وأمومة حلوة. "مؤدباً بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق"(2 تيمو 25:2). بل حتى الموظف والبائع والمذيع يتدربون طويلاً كيف يتعاملون مع الجمهور بلطف ويحتملون سخافاته وكثرة أسثلته واستبداله للبضاعة، بل يبادر بعرض أصناف أخرى بمزياها (هذه لك خصيصا ً.. وهذه احتفظت بها لك .. وهذه تناسبك ..) وقد يزدحم مكان بسبب لطف البائع الذى فيه .. وابتسامته المشرقة التى يوزعها هنا وهناك .. (ومع ذلك فقد يعود إلى البيت مهموماً لا يطيق أسئلة أولاده ولا استفسارات زوجته، كيف وهو صاحب الابتسامة العريضة !.. إنه عمل .. ودور يؤديه مقابل أجر، مثل الممثل الكوميدى .. يسعد الجماهير .. وقد لا يكون سعيدا بسبب صحته .. أو زوجته .. أو أولاده .. الخ. هكذا المذيع الذى يعود إلى القسمات الطبيعية لوجهه طالما ينتهى البرنامج، هكذا الموظف الذى يتعامل مع الجمهور .. لا سيما فى الشركات الخاصة أما أولئك فمن أجل الاجر والمال والكرامة الزمنية واحراز شعبية بين الجمهور. أما نحن كخدام فمن أجل المسيح الوديع والروح الذى انسكب بغنى فى قلوبنا. 5- ولكن هل يغضب الوديع ؟ : يقول القديس بولس "ماذا تريدون أبعصا أتى إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة" (1كو 21:4 ) فإذا غضب لابد وأن يكون لأمر خطير، وسيكون غضبه مقدساً وليس ثأرا لكرامته هو. ولا يثور لكن يعلن رفضة بهدوء، الوديع إذا غضب سيكون مثل الطفل الذى ما أن يغضب حتى يصفو ويهدأ ويبتسم، بعكس الشرير، يقول مار اسحق (من السهل عليك أن تحرك جبلا من مكانه فى حين ليس من السهل أن تحرك الانسان الوديع عن هدوئه) وأخيرا:ًاأطلب من الله بإلحاح أن يطبع عليك صورته ويهبك هذا الروح الوديع الهاديء " الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن (1بط 3 : 4) يقول القديس يوحنا الدرجى (فالروح القدس هو سلام النفس، والغضب اضطراب القلب، فلا شئ يمنع حضور الروح القدس فينا مثل الغضب) وتذكر قول الآباء: (لا تحزن أحداً من الناس قبل رحيلك إلى الرب) وعندما تجد نفسك غاضبا وقد يؤذى منظرك الآخرين، لا سيما وقد اعتادوا على رؤيتك بشوشاً، اعتزل لبعض الوقت حتى تهدأ، وربما كان من المفيد الترتيل فقد يزيل الغضب، وبكت نفسك على غضبك، يقول يوحنا الدرجى (كما أن الماء المنسكب على النار يطفئها هكذا المسكنة الحقيقية ُتطفىء لهيب الغضب والغيظ). نيافة الحبر الجليل انبا مكاريوس اسقف المنيا وتوابعها
المزيد
18 يوليو 2021

الخادم والازدواجية

الخادم يمثّل المسيح أمام المخدومين، يحمل فكره، يتكلم بكلامه، وينشر رسالته وتعاليمه. هكذا يرى المخدومون الخادم أنه في درجه من الكمال، وقد لا يستوعبون أنه شخص تحت الآلام مثلهم. وكثيرًا ما نجد الخادم قد يُسَرّ بهذه الصورة ويرسّخها في أذهان المخدومين، بينما الحقيقة مختلفه تمامًا! فتجد الخارج غير الداخل، والكلام غير الأفعال، والمظهر غير الجوهر، ممّا جعل الخادم يحيا في ازدواجية تجعله غريبًا عن نفسه. وأخطر ما في الأمر هو تباعُد المسافة بين ما يقول وما يفعل إلى أن يصل إلى درجة الازدواجية المريضة.وهناك موقف في الكتاب المقدس يوضّح لنا كيف يحيا الإنسان مزدوجًا؛ حين تقدّم أبونا يعقوب إلى أبيه إسحق لنوال البركة عوض عيسو البكر«فتقَدَّمَ يعقوبُ إلَى إسحاقَ أبيهِ، فجَسَّهُ وقالَ: «الصَّوْتُ صوتُ يعقوبَ، ولكن اليَدَينِ يَدا عيسو». ولَمْ يَعرِفهُ لأنَّ يَدَيهِ كانتا مُشعِرَتَينِ كيَدَيْ عيسو أخيهِ، فبارَكَهُ. وقالَ: «هل أنتَ هو ابني عيسو؟». فقالَ: «أنا هو».» (تكوين 27: 21-24) كثيرًا ما يوجد داخلنا هذا التناقض الصوت صوت يعقوب، واليدان (اللتان تشيران إلى الأعمال) يدا عيسو! وتجتهد النفس في تزييف حقيقتها لتأخذ ما ليس لها، وتدقّق وتجتهد لتلبس الثياب وتأخذ الشكل بل والرائحة، وتمتد إلى ما أهو أكثر وأعقد من ذلك وهو تغطية الجلد حتى يحصل على ضمان اقتناء الشخصية المرغوبة، ويتحمّل المخاطر ويستمرّ في الخداع حتى وإن ظهر الشك في أمره، ولكنه يؤكد: «أنا هو»! ما أخطر خداع النفس وما أسوأ النتائج حين يتوقّع المخدوم من الخادم كمالات لا يجدها، بل والأكثر حين تظهر أمور عكس ما يظهر أو يعلم.لقد مدح السيد المسيح من عَمِل وعَلَّم أنه يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات (متى 19:5)، بل وقد وجدنا في شخصه القدوس تحقيقًا وتطبيقًا واضحًا لكل ما عَلَّم به، فلم يتكلم عن المتّكأ الأخير بينما يتنافس على المتكآت الأولى، ولم يحدّثنا أن «بيعوا أمتعتكم وأعطوا صدقة» بينما يسكن هو في القصور، ولم يتكلم عن ضرورة حمل الصليب بينما يهرب هو من حمله، بل على العكس نجده فعل أكثر مما تكلّم به لدرجة عجز الكلمات عن التعبير.أعظم عمل للخادم هو التأثير، والعين أكثر تفاعلاً من الأذن، فنحن لا نحتاج إلى كلمات بقدر ما نحتاج إلى أفعال، ولا نحتاج إلى خدام بل إلى نماذج، ومن المعروف أن أي تعليم يستمدّ قوته من قائله، فالذي جعل القديس تيموثاؤس يتبع بولس الرسول ليس فقط تعليمه بل سيرته وقصده وإيمانه وأناته ومحبته وصبره (تيموثاوس الثانية 10:3) التي رآها وتلامس معها بشكل عملي.ليت نفوسنا تتوحّد في خوف الله، ونقدم صورة للمسيح الذي يحيا في داخلنا، ولا ننجذب لغيره ولا نتبع غيره، فنقدم صورته وكلامه وحياته لأولاده فيجذبهم فيجروا وراءه. القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديس جوارجيوس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل