المقالات

14 أبريل 2020

ثلاثاء البصخة والحياة السماوية الملوكية

في سبت لعازر نشتهي أن نتمتع بالقيامة الأولى، لكي يبيت فينا كما في بيت لعازر وننعم بالقيامة الثانية في مجيئه الثاني والأخيروفي أحد الشعانين ندعوه للدخول كملك في قلوبنا، فيُحوِّلها إلى بيت الخاص المملوء فرحًا روحيًا وسلامًا سماويًا وفي اثنين البصخة، ندعوه أن يقتلع كل فساد، ويغرس صليبه، شجرة الحياة، أي يقيم جنته فينا والآن في ثلاثاء البصخة إذ يغرس جنته فينا يثور في داخلنا سؤالان، وهما ما هي طبيعة هذه الجنة؟ متى ننعم بها بكمال أثمارها؟ وقد جاءت أمثال السيد المسيح وأحاديثه في هذا اليوم تُجيب على هذيْن السؤاليْن. من جهة طبيعة هذه الجنة: جاءت الأمثال تؤكد إنها جنة سماوية، حيث يأتي العريس السماوي على السحاب ويدعو عروسه تلتقي معه، فيحتضنها ويدخل بها في موكب ملائكي إلى الأمجاد السماوية الكل مدعو ليكونوا العروس الواحدة البتول، أما العذارى الخمس فيُشرن إلى حواس المؤمن التي تتطهر بزيت النعمة الإلهية، فتُنير إنها العروس التي تنعم بالقيامة الأولى، تمارس الإيمان العامل بالمحبة، يسندها العريس نفسه الساكن فيها ويُجَمِّلها بروحه القدوس، فتتهيأ لهذا العُرْس الفريد! أيضًا طبيعة هذا العُرْس أنه ملوكي، فيُشبِه ملكوت السماوات ملكًا أقام عُرْسًا لابنه العروس ملكة تجلس عن يمين ملك الملوك، تحمل الروح الملوكية، صاحبة سلطان. فقد أعطانا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19) يعيش المؤمن هذا الزمان لا بروح الخوف والقلق، بل بروح الإيمان والرجاء، يتكئ على صدر الله، ويسأله أن يُقدِّسه كل يوم، لأنه يلتقي بالقدوس! من جهة الزمن الذي يتحقق فيه ذلك، يدعونا حَمَل الله أن نسهر ونستعد، مترقبين مجيئه في أية ساعة، بل ونعلن شوقنا الحقيقي لسرعة مجيئه بكل كياننا نُغنِّي ونُسَبِّح "نعم تعالَ أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20). القمص تادرس يعقوب ملطى
المزيد
29 أبريل 2020

ضرورة القيامة وإمكانياتها

قيامة الجسد:- و حينما نتحدث عن القيامة ، إنما نقصد قيامة الأجساد من الموت ، لأن الأرواح حية بطبيعتها ، لا يلحقها موت ، و بالتالي ليست في حاجة إلي قيامة . هذه الأجساد التي تعود إلي التراب الذي خلقها الله منه ، ستعود مرة أخري إلي الوجود ، و تحل فيها الأرواح و تتحد بها ، و يقف الجميع أمام الله في يوم القيامة العامة ، يوم البعث ، لكي يقدموا حساباً أمام الله عن كل ما فعلوه في الحياة الدنيا ن إن خيراً و إن شراً . إنه يوم الدينونة الرهيبة ، يتلوه المصير الأبدي لكل البشر ، إما في النعيم أو العذاب ، حسبما يستحق كل إنسان حسب إيمانه و أعماله . القيامة ممكنة:- و إمكانية القيامة تعتمد و لاشك علي قدرة الله غير المحدودة . فكلنا نؤمن أن الله قادر علي كل شئ ، لا حدود لقدرته الإلهية . و مهما كان الأمر يبدو صعباً أمام الملحدين أو غير المؤمنين ، أمام الذين يعتمدون علي الفكر أو العلم وحدهما ، فإن الله قادر علي إقامة الأجساد من الموت بلا شك ... إن عملية قيامة الأجساد ، اسهل بكثير جداً من عملية خلقها من قبل ... الله الذي أعطاها نعمة الوجود ، هو قادر بلا شك علي إعادة وجودها ... هو الذي خلقها من تراب الأرض ، و هو قادر أن تعيدها من تراب الرض مرة أخري ... بل ما هو أعمق من هذا أن الله خلق الكل من العدم . خلق الأرض و ترابها من العدم ، و من تراب الأرض خلق الإنسان . أيهما أصعب إذن : الخلق من عدم ، أم إقامة الجسد من التراب ؟! فالذي يقدر علي العمل الأصعب ، من البديهي أنه يقدر علي العمل الأسهل ... و الذي منح الوجود ، يقدر بالحري أن يحفظ هذا الوجود . نقول هذا ، مهما وضع الملحدون و أنصاف العلماء من عراقيل أمام إمكانية القيامة . و عندما أقول أنصاف العلماء ، إنما ابرئ العلماء الكاملين في معرفتهم . فتصف العالم يعرف صعوبة الأمر من الناحية المادية ، و في نفس الأمر يجهل أو يتجاهل النصف الثاني للحقيقة و هو قدرة الله ... نصف الحقيقة أن الجسد قد يمتص الأرض بعض عناصره ، و يتحلل جزء منه ، و قد يتداخل في أجساد أخري . و النصف الثاني أن المادة لا تفني ، فأينما ذهب الجسد ، فمكوناته موجودة ، و مصيرها إلي الأرض أيضاً ... و الله غير المحدود يعرف تماماً اين توجد عناصر الجسد ، و يقدر علي إعادتها مرة أخري ، بقدرته اللانهايئة ، و بخاصة لأنه يريد هذا ، و لأنه قد وعد به البشرية علي لسان الأنبياء و في كتبه المقدسة . و إذن القيامة في جوهرها تعتمد علي الله تبارك إسمه . تعتمد علي إرادته ، و معرفته و قدرته ... فمن جهة الإرادة ، هو يريد للإنسان أن يقوم من الموت . و قد وعده بحياة الخلود . و تحدث عن القيامة العامة بصراحة كاملة و بكل وضوح . و مادام الله قد وعد ، إذن لا بد أنه ينفذ ما قد وعد به . و من جهة المعرفة و القدرة . فالله يعرف أين توجد عناصر الأجساد التي تحللت و أين توجد عظامها . و يعرف كيفية إعادة تشكيلها و تركيبها . و هو يقدر علي هذا كله ، جل إسمه العظيم ، و تعالت قدرته الإلهية . و بكل إيمان نصدق هذا . إن الذي ينكر إمكانية القيامة ، هو بالضرورة أيضاً ينكر الخلق من العدم ، و ينكر قدرة الله أو ينكر وجوده . أما المؤمنون ، الذين يؤمنون بالله ن و يؤمنون بالمعجزة ن و يؤمنون بعملية الخلق ، و يؤمنون بالقدرة غير المحدودة للخالق العظيم ، فإن موضوع القيامة يبدو أمامهم سهل التصديق إلي أبعد الحدود . ضرورة القيامة:- و هناك نقطة أساسية في ضرورة القيامة ، و في فهم معني الخلود : إن الله قد وعد الإنسان بالحياة الأبدية و وعده هو للإنسان كله ، و ليس للروح فقط التي هي جزء من الإنسان . فلو أن الروح فقط أتيح لها الخلود و النعيم الأبدي ، إذن لا يمكن أن نقول إن افنسان كله قد تنعم بالحياة الدائمة ، و إنما جزء واحد منه فقط ، و هو الروح ، إذن لابد بالضرورة أن يقوم الجسد من الموت ، و تتحد به الروح ، لتكون إنساناً كاملاً تصير له الحياة الدائمة . و لولا القيامة لكان مصير الجسد البشري كمصير أجساد الحيوانات !! ما هي إذن الميزة التي لهذا الكائن البشري العاقل الناطق ، الذي وهبه الله من العلم موهبة التفكير و الاختراع و القدرة علي أن يصنع مركبات الفضاء التي توصله غلي القمر ، و تدور به حول الأرض ، و ترجعه إليها سالماً ،و قد جمع معلومات عن أكوان أخري ... ! هل يعقل أن هذا الإنسان العجيب ، الذي سلطه الله نواح من الطبيعة ، يؤول جسده إلي مصيره كمصير بهيمة أو حشرة أو بعض الهوام ؟! إن العقل لا يمكنه أن يصدق هذا ... إذن قيامة الجسد تتمشي عقلياً مع كرامة الإنسان . الإنسان الذي يتميز عن جميع المخلوقات ذوات الأجساد ، و الذي يستطيع بما وهبه الله أن يسيطر عليها جميعاً ،و أن يقوم لها بواجب الرعاية و الاهتمام ، إذا أراد . فكرامة جسد هذا المخلوق العاقل لا بد أن تتميز عن مصير باقي أجساد الكائنات غير العاقلة غير الناطقة . كذلك فإن قيامة الأجساد ضرورة تستلزمها عدالة الله . الإنسان مخلوق عاقل ذو إرادة ، و بالتالي هو مخلوق مسئول عن أعماله ، وسيقف أمام الله ، لينال ثواباً أو عقاباً عما فعل خلال حياته علي هذه الأرض إن خيراً و إن شراً . و هذا الجزاء عن عمل الإنسان ، هل يعقل أن يقع علي الروح فقط ، أم علي الإنسان كله بروحه و جسده ؟ إن الروح والجسد اللذين اشتركا في العمل معاً ، تقتضي العدالة الإلهية أن يتحملا الجزاء معاً أو يتنعما بالمكافأة معاً . الروح والجسد:- إن الجسد هو الجهاز التنفيذي للروح أو للنفس أو للعقل . الروح تميل إلي عمل الخير ، و الجسد هو الذي يقوم بعمل الخير . يجري و يتعب و يشقي و يسهر و يحتمل . أفلا تكون له مكافأة عن كل ما اشترك فيه من خير مع الروح ؟! أم تتنعم الروح وحدها ، و كل تعب الجسد يضيع هباء ؟! و هل يتفق هذا مع عدالة الله الكلي العدالة ؟! و لنأخذ الجندي في الميدان مثالاً لنا : الجندي تدفعه روحه إلي أعمال البسالة و البذل و الفداء ، و تشتعل روحه بمحبة وطنه و مواطنيه . و لكن الجسد هو اتلذي يتحمل العبء كله ، و يدفع الثمن كله . الجسد هو الذي يتعب و يسهر و يحارب ، و هو الذي يجرح و يتمزق و تسيل دماؤه . فهل يعد كل هذا تتمتع الروح وحدها ن و الجسد لا يشترك معها في المكافأة ؟! و كأنه لم ينل أرضاً و لا سماء ؟! إن العدل الإلهي لا يوافق إطلاقاً علي هذا . إذن لا بد أن يقوم الجسد من الموت ، ليشترك مع الروح في أفراحها . و نفس الوضع نذكره أيضاً في عمل الشر الذي يشترك فيه الجسد مع الروح ، بل قد يكون نصيب الجسد أوفر ... الجسد هو الذي ينهمك في الملاذ المادية ، من أكل و شرب و سكر و مخدرات و زني و رقص و عبث و مجون ، و يلذذ حواسه باللهو . و هل بعد هذا كله ، تدفع الروح الثمن وحدها في الأبدية ، و لا يلحق بالجسد شئ من العذاب أو من المجازاة ؟! كلا ، فهذا لا يتفق مطلقاً مع العدل الإلهي ، الذي لا بد أن يجازي الإنسان كله روحاً و جسداً . إذن لا بد أن يقوم الجسد من الموت ليشترك في المجازاة . و يكون الحساب لكليهما معاً ، لأنهما اشتركا في العمل معاً ، سواء بدأت الروح ، و أكمل الجسد . أو اشتهي الجسد ، و استسلمت الروح له و اشتركت معه في شهواته ...و لنضرب مثلاً واحداً للشركة بين الروح و الجسد ، و هو العين : الروح تحب أو تشفق ، و يظهر الحب و الاشفاق في نظرة العين . و الروح تغضب أو تميل إلي الانتقام . و تري في العين نظرة الغضب أو نظرة الانتقام . الروح تتجه إلي الله بالصلاة ، و تري في العين نظرة الابتهال ، أو تغرورق العين بالدموع من تأثر الروح ... و الروح الوديعة المتضعة يشترك معها الجسد بنظرات وديعة متضعة . و الروح المتكبرة المتغطرسة المتعالية ن يشترك معها الجسد ايضاً بنظرات التكبر و الغطرس و التعالي . و كما تشترك العين ، تشترك ايضاً كل ملامح الوجه ، كما تشترك دقات القلب ، و مراكز المخ ، و أعضاء أخري من الجسد ... هذه أمثلة من الشركة بين الروح و الجسد .و في مجال الجد و الاجتهاد ، نري هذا أيضاً . و يوضح هذا قول الشاعر: و إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد إذن تكون المكافأة في الأبدية للروح الكبيرة التي أرادت الخير و صممت علي عمله ، و أيضاً للجسد الذي حمل عبئ التنفيذ ، و تعب و جاهد و احتمل و صبر ، حتي يحقق للروح رغبتها . و هكذا كما اشترك معها في العمل ، ينبغي ان يقوم ليشترك معها في الجزاء و في حمل المسئولية . فالمجازاة هي للإنسان كله ...و نحن علي الأرض أيضاً نكافئ الجسد ، و نعتبر هذا أيضاً مكافأة للروح في نفس الوقت . ألسنا نمجد أجساد الشهداء و الأبرار ، و نجعل مقابرهم مزاراً ، و نضع عليها الورود ، و نصلي هناك من أجلهم ...؟ و لا نعتبر هذا كله مجرد اكرام للجسد أو للعظام أو للرفات أو التراب ، و إنما للإنسان كله . لأننا فيما نفعل هذا ، إنما نحيي روحه أيضاً . فالإنسان عندنا هو الإنسان كله ، غير متجزئ ... إن كان يستحق الإكرام ، نكرم جسده و نحيي روحه أيضاً . و إن كان لا يستحق ، ينسحب الإهمال علي جسده وروحه معاً . فالمجرمون الذين يحكم عليهم بالإعدام أو بالسجن ، تنال أجسادهم جزاءها . وفي نفس الوقت يلحق بأرواحهم سوء السمعة . و تتأثر أرواحهم بما يحدث لأجسادهم .. فإن كانت عدالتنا الأرضية تفعل هكذا ، فكم بالحري عدالة الله .. عدالة الله تشمل الإنسان كله ، روحاً و جسداً ، لذلك لا بد أن يقوم الجسد الذي عاش علي الأرض مشتركاً مع الروح في أعمالها . ينفعل بحالة الروح ، بفكرها و مشاعرها و نباتها ن الروح تقدم المهابة أو الخشوع ن فينحني الجسد تلقائياً . الروح تحزن فتبكي العين ن و يظهر الحزن علي ملامح الوجه و في حركات الجسد . الروح تفرح ، فتظهر الابتسامة علي الوجه . الروح تخاف فيرتعش الجسد ، و يظهر الخوف في ملامحه ز الروح تخجل ، فيعرق الإنسان ، أو يبدو الخجل في ملامحه ... إنها شركة في كل شئ ، ليس من العدل أن تتحملها الروح وحدها أو الجسد وحده . إنما يتحملها الإثنان معاً ، و هذا يحدث في القيامة . إن بعض الذين ينكرون القيامة ، يبدو في أسلوبهم احتقار الجسد . علي اعتبار أن الجسد هو من المادة ، بينما الروح لها جوهر يسمو بما لا يقاس عن طبيعة الجسد . و لكننا نقول إنه علي الرغم من ا، الإنسان من طبيعتين احدهما روحية و الأخري مادية ، إلا أنهما اتحدا في طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية . و الجسد ليس شراً ، و إلا ما كان قد خلقه الله ... إنما الشر هو أن يخضع الجسد للمادة و ما يتعلق بها من شهوات . و في هذا الخضوع تشترك معه الروح . لا ننسي أن الجسد له فضائله . فهو الذي يسجد في الصلاة و يركع و يرفع يديه و نظره إلي الله . و هو الذي يصوم ، و هو الذي يتعب في عمل الخير ، وهو الذي يبذلذاته من أجل وطنه ، وهو الذي يمد يده ليعطي للفقير و للمسكين . فلماذا ننظر إليه في إقلال لشأنه ؟! أليست اصابع الفنان هي التي تتحرك علي الَة موسيقية ، فتتحرك معها القلوب ، و يمكنها أن تحركها نحو الخير . أليست أصابع الفنان تتحرك بالرسم أو النحت أو التصوير ، فتقدم فناً - إن أرادت - تحرك به القلوب نحو الخير ... الجسد إذن ليس شراً في ذاته ، إنما يمكن أن يعمل في مجالات الخير و الشر ، و الروح كذلك تعمل في كليهما . و يشتركان معه . كذلك من العدالة أن تقوم الأجساد لتنال تعويضاً عما ينقصها . فالعميان مثلاً ، و المعوقون ، و اصحاب العاهات ، و المشوهون ، و كل الذين لم تنل أجسادهم حظاً من الجمال أو الصحة أو القوة ، من العدالة أن تقوم أجسادهم في اليوم الآخير ، و تقوم بلا عيب ، حتي يعوضها الله عما قاسته علي الرض من نقص . كذلك الذين عاشوا علي الأرض في فقر و عوز و جوع ومرض ، كان له تأثيره علي أجسادهم ، يحتاجون أن يقوموا بأجساد سليمة تعويضهم عما نالوه علي الأرض ، و يتفق هذا الأمر مع عدالة الله ... إننا نفرح بالقيامة ، و نراها لازمة و ضرورية و ممكنة . و نهنئ الكل بعيد القيامة ، الذي كانت فيه قيامة المسيح باكورة لقيامة البشر جميعاً . قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب تأملات في القيامة
المزيد
24 سبتمبر 2020

التناقض المزعوم بين الأسفار وبين رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ

1- بين اصحاح 6 : 4 – 6، 1 يو 2 : 1 و2 ففى الاول يقول الرسول بولس (لان الذين استنيروا مره وذاقوا الموهبه السماويه وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمه الله الصالحه وقوات الدهر الاتى وسقطوا لا يمكن تجديدهم ايضا اذ هم يصلبون لانفسهم ابن الله ويشهرونه) وفى الثانى قيل (وان اخطا احد فلنا شفيع عند الاب يسوع المسيح البار. وهو كفاره لخطايانا. ليس لخطيانا فقط بل لخطيانا كل العالم ايضا). فنجيب يجب ان نفهم معنى السقوط فى القول الاول وهو الارتداء عن الديانه المسيحيه. يقول الرسول لان الذين استنيروا مره بتجديد الروح القدس (اى تعلموا الديانه المسيحيه ووقفوا على سر مبادئها الخلاصيه) وذاقوا الموهبه السماويه (اى شعروا بالفرح الذى ينشا من الشعور يغفران الخطايا) وصاروا شركاء الروح القدس (اى نالوا بعض مواهبه) وذاقوا كلمه الله الصالحه (اى مواعيد الانجيل الكريمه الصالحه) وقوات الدهر الاتى (اى تحققوا الحصول على السعاده الابديه بالايمان) وسقطوا (اى بعد ذلك كله ارتدوا عن الديانه المسيحيه باختيارهم بعد ما اخذوا معرفه الحق. (عب 10 : 26) لا يمكن تجديدهم ايضا للتوبه (اى لا يمكن رجوعهم الى الحاله التى سقطوا منها اى الايمان بالديانه المسيحيه والتمتع بالرجاء الذى نقدمه للانسان) اذ هم يصلبون لانفسهم ابن الله ثانيه (اى يرتكبون الخطيئه اليهود الذين صلبوا المسيح فى انكارهم اياه فيوافقونهم بالفعل ان لم يكن بالقول على عملهم، الا ان اليهود لو عرفوا لما صلبوا رب المجد (1 كو 2 : 8) اما الذين عرفوا صحه دعواه وامنوا به فانهم اذا انكروه تكون خطيئتهم اعظم من خطيئه اليهود) ويشهرونه (اى للعار والافتراء على صدق ديانته كما يفعل الاعداء عند ارتداد احد من المسيحيين). 2- بين اصحاح 7 : 3، اصحاح 9 : 27 ففى الاول يقول عن ملكى صادق (بلا اب بلا ام بلا نسب لا بداءه ايام وله ولا نهايه حياه بل هو مشبه بابن الله) وفى الثانى (وضع للناس ان يموتوا مره). فنجيب : ان القول الاول عن ملكى صادق مقدر فيه (غير مذكور فى كتاب الله) اى كل ما ذكر عنه بانه بلا اب بلا ام... الخ. سببه ان كتاب الله امسك عن ذكر حياته ليصبح رمزا لابن الله. فاغفل سلسله نسبه فلم نعرف به ابا ولا اما ليرسم لنا المسيح الذى كان من جهه ناسوته بلا اب ومن جهه لاهوته بلا ام واختفى بداءه ايامه ايامه ونهايتها لنفهم ان المسيح ازلى ابدى. المتنيح القس منسى يوحنا عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
22 ديسمبر 2019

الطَّرِيق

بَعْد أنْ تَعَرَّفْنَا عَلَى شَرِيعِة مُدُن المَلْجَأ وَالمَفْهُوم الرُّوحِي لِمُدُن المَلْجَأ وَعَدَد وَمَوْقِعْ مُدُن المَلْجَأ وَوَجَدْنَا فِي كُلَّ تَفَاصِيلَهُمْ إِشَارَة لِعَمَلْ الله وَنِعْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَصَلاَحِهِ كَمَا أنَّنَا سَنَجِدْ أنَّ بَرَكَات كَثِيرَة فِي إِنْتِظَارْنَا تُكْتَمَلْ بِالدُّخُول فِي الطَّرِيق حَتَّى الوُصُول إِلَى مَدِينِة المَلْجَأ وَالإِقَامَة فِيهَا إِلَى مَوْت الكَّاهِنْ العَظِيمْ ثُمَّ الرُّجُوع إِلَى البَيْت فَهَيَّا نُسْرِع فِي الرِّحْلَة إِلَى مَدِينِة المَلْجَأ وَلاَ نَطْمَئِنْ إِلاَّ بِالوُصُول إِلَيْهَا . الطَّرِيق :- تُصْلِحُ الطَّرِيق : إِهْتَمَّ الله بِوُضُوح وَسِهُولِة الطَّرِيق فَأمَرَ{ تُصْلِحُ الطَّرِيقَ } ( تث 19 : 3 ) إِذْ كَانَتْ الطُرُق فِي القَدِيمْ تُمَهَدْ خِلاَل سِير الحَيَوانَات الَّتِي تَحْمِلْ الأثْقَال وَخَاصَّةً القَوَافِلْ وَكَانَ اليَهُود فِي ذلِك الحِينْ لاَ يَعْرِفُون الطُرُق إِذْ عَاشُوا فِي البَرِّيَّة طَوَال أرْبَعِينَ عَاماً وَلكِنْ إِلْتِزَاماً بِالأمر الإِلهِي " تُصْلِحُ الطَّرِيقَ " يَلْتَزِم المَسْؤُلُون أنْ يُهَيِّئُوا الطُرُق المُؤَدِيَة إِلَى مُدُن المَلْجَأ فَيُزِيلُوا كُلَّ العَقَبَات الَّتِي تُعَطِّل الإِنْطِلاَق إِلَيْهَا فَيَرْدِمُون الحُفَر وَيُقِيمُون المَعَابِر وَالجُسُور عَلَى الأنَّهَار وَالمَجَارِي الَّتِي فِي الطَّرِيق وَقَدْ عَيَّنُوا يَوْماً فِي كُلَّ سَنَة فِي شَهْر آزَار يُرْسَلْ إِلَيْهَا خُبَرَاء يَفْحَصُون الطُرُق وَيُصْلِحُون مَا تَلِفَ مِنْهَا وَقَرَّر مُعَلِّمُوا اليَهُود أنَّ عَرْض الطَّرِيق لاَ يَقِلْ عَنْ إِثْنَيْن وَثَلاَثِينَ ذِرَاعاً أي مَا يَقْرُب مِنْ ثَمَانِيَة عَشَرَ مِتْراً أوْ يَزِيدْ . عَلاَمَات الطَّرِيق :- وَعَلَى طُوَال الطَّرِيق وَعِنْدَ مَدَاخِلِهِ وَمُنْحَنَيَاتِهِ تُوضَعْ عَلاَمَات وَاضِحَة تُشِير إِلَى مَدِينَة المَلْجَأ مَكْتُوب عَلَيْهَا بِخَطٍ وَاضِحٌ " miklot ( مَلْجَأ ) " وَيَقِفْ بِجِوَار العَلاَمَة كَاهِنْ لِلإِرْشَاد إِلَى الطَّرِيق لِنَنْظُر يَا أحِبَّائِي فِي جَمَال عِنَايِة الله وَمَرَاحِمِهِ الَّتِي تُحِيطُ بِالخَاطِئ الَّذِي يُدَبِّر كُلَّ الأُمُور مِنْ أجْل ضَمَان الخَلاَص وَيَجْعَلَهُ بِلاَ عَائِق وَلاَ مَانِعْ إِنَّهَا تَفَاصِيلْ الوُصُول إِلَى مَلَكُوت إِبْن مَحَبِّة الله إِنَّهُ إِلَهْنَا الَّذِي رَاعَانَا بِكُلَّ الأدْوِيَة المُؤَدِيَة إِلَى الحَيَاة الَّذِي يَنْتَظِرْنَا فِي أبَدِيَتِهِ مُنْذُ الأزَل الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ خُسَارَة – إِنْ جَازَ القَوْل – إِلاَّ هَلاَكِنَا الَّذِي جَعَلَ ضَمَان الوُصُول إِلَيْهِ مَقْرُون بِشَخْصِهِ الحَبِيب إِذْ قَالَ أنَا هُوَ الطَّرِيق{ لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي } ( يو 14 : 6 ) وَلَوْ أرَدْنَا أنْ نُلْقِي ضَوءً عَلَى العَلاَمَات المَوْجُودَة لَنَا لِضَمَان الوُصُول إِلَى المَدِينَة نَجِدْ مِنْهَا :- 1- الإِنْجِيل عَلاَمَة عَلَى الطَّرِيق :- الله مَهَّدْ الطَّرِيق لِمَعْرِفَة إِبْنِهِ يَسُوع الْمَسِيح خِلاَل الآبَاء وَالأنْبِيَاء وَالرِمُوز وَالأحْدَاث حَتَّى لاَ يُوْجَدْ عُذْر لِمَنْ يَرْفُض الإِلْتِجَاء إِلَيْهِ لَقَدْ أرْسَلْ إِلَيْنَا نُبُوَات وَاضِحَة أشْبَه بِعَلاَمَات تُشِيرنَحْو شَخْص المُخَلِّص مَدِينَة مَلْجَأنَا الحَقِيقِيَّة . 2- فِي النُّبُوَات :- فَنَجِدْ عَلاَمِة نَسْل المَرْأة يَسْحَق رَأس الحَيَّة ( تك 3 : 15){ لاَ يَزُولُ قَضَيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِي شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ } ( تك 49 : 10){ هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ } ( أش 7 : 14) . 3- فِي 3الأشْخَاص :- جَعَلَ مِنْ هَابِيل وَنُوح وَمَلْكِي صَادِق وَإِبْرَاهِيم وَيُوسِف وَمُوسَى عَلاَمَات مُضِيئَة فِي طَرِيق الوُصُول إِلَيْهِ وَوَضَعَ شَجَرِة الحَيَاة وَفُلْك نُوح وَسُلَّم يَعْقُوب وَعُلِّيقَة مُوسَى وَخَرُوف الفِصْح وَالمَنَّ وَغَيْرَهَا عَلاَمَات وَاضِحَة لِلقِيَادَة إِلَى مَدِينِة المَلْجَأ الفَرِيدَة يَسُوع الْمَسِيح وَبِالجُمْلَة فَالإِنْجِيل هُوَ كَلِمَة الله الَّتِي أُعْلِنَتْ لَنَا فِي شَخْص يَسُوع الْمَسِيح كَلِمَة الآب أنْتَ عَلاَمَة عَلَى الطَّرِيق وَبِقَدْر أمَانَتْنَا لِلإِنْجِيل وَتَشْكِيلْ أرْوَاحْنَا بِكَلاَم الإِنْجِيل نَصِير نَحْنُ أيْضاً إِنْجِيلاً فَنَصِير رِسَالِة الْمَسِيح المَقْرُوءة مِنْ جَمِيعْ النَّاس يَقْرأ الكُلَّ فِينَا كَلِمَة miklot ( مَلْجَأ ) وَيَجِدُونَ فِي أعْمَاقْنَا طَرِيقاً يَقُود إِلَى المُخَلِّص وَكَمَا كَانَتْ الطُرُق مُهَيَّأة وَمُصْلَحَة يَلِيق بِخُدَّام الكَلِمَة أنْ يُهَيِّئُوا الطَّرِيق لِكُلَّ نَفْس كَيْ تَلْتَقِي بِالمُخَلِّص كَمَلْجَأ لَهَا يَلْتَزِمُوا أنْ يُزِيلُوا كُلَّ عَقَبَة وَرَدْم الحُفَر وَإِقَامِة الجُسُور وَالمَعَابِر لِفَتْح أبْوَاب الرَّجَاء أمَام الرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ فَيَتَمَتَّعُوا بِبِر الْمَسِيح وَقَدَاسَتِهِ عِوَض رَجَاسَاتِهِمْ وَعَدَم الفَسَاد يَسْتَقِر عِوَض فَسَادِهِمْ . 4- الكَنِيسَة عَلاَمَة عَلَى الطَّرِيق :- وَالكِنِيسَة هِيَ عَلاَمَة تَحْمِلْ ذَاتَ الكَلِمَة miklot ( مَلْجَأ ) تَقُودْ كُلَّ نَفْس فِي طَرِيق الحَقَّ وَتَدْخُلْ بِهِ إِلَى المَلْجَأ الإِلهِي لِيَتَمَتَّعْ بِحُرِّيِة مَجْد أوْلاَد الله وَسَلاَمٌ الله الَّذِي يَفُوق كُلَّ عَقْل وَفَرَحٌ السَّمَاء الَّذِي لاَ يَنْقَطِعْ فَنَجِدْ مَنَارَات الكَنِيسَة فِي إِرْتِفَاع يَخْرُج مِنْهَا ضُوء يُبَدِّدْ الظَّلاَم وَيُرْشِدْ التَّائِهِينْ إِلَى المَلْجَأ الحَقِيقِي مِثْل سَفِينِة نَجَاة تُنَادِي كُلَّ مَنْ تَخَبَّطْ بِلاَ هَدَف مَعَ أمْوَاج بَحْر العَالَمْ فَتُنَادِي عَلَيْهِ وَتَدْعُوه لِلتَّمَتُّع بِالخَلاَص الَّذِي تُقَدِّمَهُ مِنْ أجْلُه . 5- القِدِّيسُون عَلاَمَة عَلَى الطَّرِيق :- بِحَسَبْ وَصِيِّة الكِتَاب المُقَدَّس{ إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ وَارْعِي جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ } ( نش 1 : 8 ) وَكُلَّ مَنْ يَسْلُك فِي الطَّرِيق سَيَجِدْ أُلُوف غَيْرِهِ سَبَقُوه وَمَهَّدُوا الطَّرِيق لَهُ وَكُلَّ فَضِيلَة وَلَهَا عَلاَمَات تَقُود إِلَيْهَا فَمَا أكْثَر العَلاَمَات فَبِمُجَرَّدْ أنْ تَجِدْ عَلاَمَة إِلاَّ وَتَرْغَبْ فِي الطَّرِيق وَتُفَتِّش عَنْ غَيْرِهَا فَيَزْدَاد شَوْقَك لِنِهَايِة الطَّرِيق الَّذِي تَلْتَقِي فِيهِ مَعَ جَمِيعْ الَّذِينَ سَبَقُوك فِي ذَاتَ الطَّرِيق فَحِينَ تَتَعَرَّف عَلَى قِدِيس تَأكُلَك غِيرِة أعْمَالُه وَيُثَبِّتْ أقْدَامَك عَلَى الطَّرِيق وَيَقُودَك إِلَى غَيْرِهِ فَأيٍ مَنْ أحَبَّ العِفَّة وَلَمْ يَجِدْ لَهَا عَلاَمَات وَعَلاَمَات !!! وَمَنْ رَغَبَ فِي النُسْك وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْمِلُه !!! وَمَنْ إِشْتَاقَ إِلَى الدُّخُول مِنْ البَاب الضَّيِق إِلاَّ وَوَجَدَ مَنْ يَقُودَهُ إِلَى المَدِينَة المَمْلُؤَة أفْرَاح وَسُرُور !! فَلَيْسَ مَنْ سَارَ وَرَائِهِمْ إِلاَّ وَتَعَلَّقْ بِمَسِيحِهِمْ وَلَيْسَ مَنْ عَرِفَ مَسِيحِهِمْ إِلاَّ وَاشْتَاقَ لِمَعْرِفَتِهِمْ لِذَا يَلِيقُ بِنَا أنْ نُجَاهِدْ بِرُوح الحَقَّ كَأعْضَاء فِي كَنِيسِة الْمَسِيح وَنُدْرِك أنَّ حَيَاتِنَا هِيَ إِخْتِفَاء فِي الْمَسِيح يَسُوع مَلْجَأنَا وَمُعِينَنَا أُنْظُر إِلَى شَخْص يَسُوع الْمَسِيح سَتَجِدَهُ تَنَازَل جِدّاً لِيَكُون قَرِيباً جِدّاً مِنْكَ إِذْ مَهَّدْ طَرِيقاً بِتَجَسُّدِهِ لِيَصِل إِلَيْكَ طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً بِالحِجَاب أي جَسَدِهِ ( عب 10 : 20 ) فَتَجِدَهُ مِنْتِظْرَك فِي كُلَّ مَكَان وَفِي كُلَّ وَقْت فِي ظَلاَم الَّليْل مَعَ نِيقُودِيمُوس فِي الظَّهِيرَة يَأتِي إِلَيْكَ حَتَّى وَإِنْ كَانَ مُتْعَباً لِتُقَابِلُه مَعَ السَّامِرِيَّة وَفِي الصَّبَاح البَّاكِر تَجِدَهُ مَعَ الَّتِي أُمْسِكَتْ فِي ذَاتَ الفِعْل( يو 8 : 1 – 11) فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُصْغِياً لَنَا فِي كُلَّ وَقْت وَوَضَعْ أُذُنَهُ قَرِيبَة جِدّاً إِلَى شَفَتَيْنَا وَفِي أي وَقْت دُعِيَ أجَاب فَمَنْ يَدَّعِي إِبْتِعَادُه ؟ إِلاَّ مَنْ إِبْتَعَدَ هُوَ عَنْ طَرِيقِهِ فَهُوَ يَطْلُب الجُلُوس مَعَك فِي أي مَكَان الجِبَال البِحَار بَيْنَ الزُّرُوع فِي البُيُوت فِي الهَيْكَل سَيَلْتَقِي بِكَ بَلْ وَحَتَّى وَهُوَ عَلَى الصَّلِيب سَيُكَلِّمَك وَلَيْتَكَ تُصْغِي إِلَيْهِ لِتَسْمَعْ وَعْد ضَمَان الدُّخُول لِلمَلَكُوت وَإِنْ حَتَّى نَزَلَ إِلَى الجَحِيم سَيَتَقَابَلْ مَعَ سُكَّان الجَحِيم لِيَرْفَعَهُمْ وَيُقَدِّمَهُمْ قُرْبَاناً لأِبِيهِ الصَّالِحٌ فَهُوَ خَرَجَ مِنْ عِنْدَ الآب لِيُقَابِلَك فِي طَرِيق الحَيَاة وَأنْتَ تَسْكُنْ فِي الجَسَدٌ فَتَقَدَّم إِلِيه لِتَجِدْ نِعْمَة وَعَوْناً فِي حِينِهِ وَكُلَّ حِين هَيَّا أسْرِع إِلَيْهِ لأِنَّهُ وَعَدَ أنَا هُوَ الطَّرِيق وَاجْعَل طَرِيقُه طَرِيقَك لِتَكُون أنْتَ مِنْ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ دَاوُد النَّبِي طُرُق بَيْتَك فِي قُلُوبِهِمْ ( مز 84 : 5 ) وَاعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنْكَ ذَاكَ الَّذِي تَعِبْتَ فِي البَحْث عَنْهُ كُلَّ أيَّام حَيَاتَك فَهَيَّا نَسْلُك فِي الطَّرِيق لأِنَّهُ يَنْتَظِرْنَا هُنَاك وَمِنْ كَثْرِة تَعَلُّقْنَا بِهِ نُتْقِنُه فَيُقَال عَنَّا هذَا خَبِيراً فِي طَرِيق الرَّبَّ ( أع 18 : 25 )فَنُضِيفْ عَلاَمَة جَدِيدَة تُنَجِّي آخَرِينَ أيْضاً . القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك الاسكندرية عن كتاب مدن الملجأ
المزيد
15 يونيو 2021

الروُح القُدس مع التلاميذ

السيد المسيح – بعد القيامة – بعد أن قضى مع رسله القديسين أربعين يومًا يحدثهم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أع1:­3).. قبل أن يفارقهم ويصعد إلى السماء، قال لهم «فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (لو24: 49).وماذا كانت تلك القوة التي كان لابد أن ينتظروها؟قال لهم «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع1: 8). نعم، ما كان ممكنًا لهم أن يبدأوا الخدمة والعمل الروحي الكرازي، إلا بعد أن يلبسوا تلك القوة من الأعالي، بحلول الروح القدس عليهم..لقد تتلمذوا على السيد المسيح نفسه أكثر من ثلاث سنوات. يسمعون تعاليم هذا المعلم العظيم، «الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كو2: 3)، بكل ما في تعليمه من عمق وقوة وتأثير.. وما يرونه منه عمليًا في أسلوب التعامل مع الكل، وفي طريقة الخدمة، وفي العجائب والمعجزات.. نعم لم يرَ الرب هذا كله كافيًا لهم، ولا كذلك مدة الأربعين يومًا التي قضاها معهم بعد القيامة..بل كان لابد لهم في الخدمة من نوال قوة من الروح القدس. وهكذا ضرب لنا الرب مثلًا عمليًا في إعداد الخدام..إننا كثيرًا ما نُخطئ في سرعة تقديم خدام للعمل في كرم الرب، قبل أن ينضجوا، وقبل أن ينالوا قوة من الروح القدس..! ليس المهم في عدد الخدام، وإنما في قوتهم الروحية.وليس المهم في سرعة إعدادهم، إنما في طريقة امتلائهم.إن عظة واحدة من القديس بطرس الرسول – بعد حلول الروح القدس عليه يوم الخمسين – كانت كافية لجذب ثلاثة آلاف شخص، نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وتقدموا لقبول المعمودية (أع2: 37، 41).وهكذا كان عمل الروح قويًا مع باقي الرسل الذين كانوا «وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ» (أع4: 33). لذلك نقرأ عن خدمتهم أنه «وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (أع2: 47). ولذلك نقرأ أيضًا أنه «وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنْمُو، وَعَدَدُ التَّلاَمِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدًّا فِي أُورُشَلِيمَ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ الإِيمَانَ» (أع6: 7).هذه أمثلة واضحة من الخدمة المثمرة، التي كان روح الرب يعمل فيها باستمرار، وهو الذي يُعطي كلمة للمُبشرين. ما أوسع وما أعمق عمل الروح القدس في الكنيسة الأولى.كان الروح القدس هو الذي يختار ويأمر برسامتهم.إنه هو القائل للآباء «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» (أع13: 2). يقول الكتاب «فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس، انحدرا إلي سلوكية..» (أع13: 3، 4).إذًا الروح القدس دعا الرسولين بولس وبرنابا، وأرسلهما.. بل كان أيضًا يحدد أماكن الخدمة.. كما قيل مرة أن الروح القدس منعهم من أن يتكلموا بالكلمة في آسيا، وفي بِثِينِيَّةَ.. ثم أرشدهم أن يذهبوا إلى مقدونية (أع16: 6-10).كان الروح القدس أيضًا هو الذي يقود المجامع المقدسة.فأول مجمع مقدس عقده الآباء الرسل في أورشليم سنة 45م، ختموا قراراته بقولهم «قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ..» (أع15: 28). إذا كان عمل الروح القدس لازمًا للآباء الرسل بهذا الشكل، فكم بالأولى يكون أكثر لزومًا للخدام العاديين، الذين إذا اخطأوا يكونون عثرة للخدمة وللشعب.فإن كان البعض قد خدموا وفشلوا في خدمتهم، أو على الأقل كانت خدمتهم ناقصة لم تصل إلى مستوى الكمال المطلوب، يكون السبب الأساسي أنهم كانوا يخدمون بدون عمل الروح القدس فيهم. وهذا يُرينا أهمية قيادة الروح القدس للخدمة.أول عمل للروح القدس أنه يُعطي قوة. هو أيضًا يُعطي معرفة وحكمة وإرشادًا. ويُعطي أيضًا سلطة.والروح القدس يُعطي مواهب متعددة ومتنوعة، ذكرها القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنثوس إصحاح 12.فمن جهة القوة في الخدمة، فهو ليس فقط يُعطي كلمة للخادم كما طلب بولس الرسول الصلاة من أجله قائلًا «لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ» (أف6: 19).. إنما بالأكثر فإن الروح يُعطي للكلمة تأثيرًا وفاعلية في النفوس، ويُعطي قدرة على التنفيذ، ويعمل في الإدارة. ويُعطي أيضًا ثمرًا للكلمة. ومن اهتمام الكنيسة بعمل الروح القدس لأجل كل إنسان، وضعت لنا ضمن الصلوات اليومية: صلاة الساعة الثالثة الخاصة بحلول الروح القدس وعمله.أنا أعرف أن غالبيتكم تصلون صلاة باكر وصلاة النوم. ولكن هل تهتمون – على نفس القدر – بصلاة الساعة الثالثة، التي تقولون فيها للروح القدس "أيها الملك السماوي المُعزي، روح الحق الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات ومُعطي الحياة. هلّم تفضل وحلَ فينا وطهَرنا من كل دنس أيها الصالح، وخلَص نفوسنا".إن لكم علاقة بالآب ظاهرة في غالبية صلواتكم وفي صلاة الشكر. ولكم علاقة بالابن المخلص الفادي، وبالذات كما في صلاة الساعة السادسة، التي تقولون فيها "يا مَنْ في اليوم السادس والساعة السادسة، سمَرت على الصليب لأجلنا..". ولكن ما هي علاقتكم بالروح القدس، وأنتم لا تستطيعون أن تحيوا في حياة البر بدونه؟..إننا في الساعة الثالثة نطلب نعمة الروح القدس، وعمل هذه النعمة فينا، وبخاصة لأجل تطهيرنا.ونقول في تحليل الساعة الثالثة "نشكرك لأنك أقمتنا للصلاة في هذه الساعة المقدسة، التي فيها أفضت نعمة روحك القدوس بغنى على التلاميذ خواصك القديسين..".ونكرر عبارة نعمة الروح القدس، فنقول "أرسل إلينا نعمة روحك القدوس، وطهرنا من دنس الجسد والروح. وانقلنا إلى سيرة روحانية، لكي نسعى بالروح ولا نكمل شهوة الجسد".لاحظوا هنا إنه بالنسبة إلى الروح القدس، نتكلم عن حلول النعمة، وليس عن حلول الأقنوم، كما يخطئ البعض..وحلول النعمة هو للرسل، ولنا نحن أيضًا..ولاحظوا أيضًا عمل الروح القدس لأجل طهارة الجسد والروح.وحسن أن الإنسان يطلب طهارة نفسه عن طريق عمل الروح القدس فيه، وليس بمجرد جهاده البشري الذي يقع فيه ويقوم.. هناك أعمال أخرى للروح القدس، حيث نقول عنه في صلاة الساعة الثالثة: روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة.ويقول عنه سفر إشعياء النبي «رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ» (أش11: 2). كل هذا، نطلب عمله فينا في صلواتنا.أما عن السلطة، فهي خاصة أولاً بالكهنوت وعمله.وفي ذلك سلطان مغفرة الخطايا، كما قال الرب لتلاميذه بعد القيامة «اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو20: 22، 23).فالكاهن حينما يغفر الخطايا للمعترفين التائبين إنما يغفر بسلطان الروح القدس العامل فيه. كما يقول للرب عن الشعب في آواخر القداس الإلهي "يكونون محاللين من فمي بروحك القدوس".وروح السلطة بالنسبة إلى المؤمنين العاديين:إما أن يكون لهم سلطة على أنفسهم بضبط النفس، أو أن يكون لهم سلطة على الشياطين، فلا يمكنوها من أنفسهم أو من إرادتهم.. والروح القدس هو أيضًا روح الحق (يو15: 26) وروح العدالة.فالذي يعمل فيه روح الله، يكون حقانيًا وعادلًا يفصّل كلمة الحق بالاستقامة، ولا يأخذ بالوجوه، ولا يتكلم بالباطل.ولا نستطيع أن نضع حدودًا لعمل الروح القدس، الذي هو كنز الصالحات، ومُعطي الحياة، ومُعطي المواهب، كما ورد في (1كو12) يُعطي كلام حكمة، وكلام علم، ولآخر إيمان، وبنوة، وأعمال شفاء، وعمل قوات..وأيضًا لا ننسى عمل الروح القدس في كل أسرار الكنيسة.فنحن نولد في المعمودية من الماء والروح. ثم ننال سرَ المسحة المقدسة (بزيت الميرون المقدس) حيث نثبت في الروح، ونصبح هياكل للروح القدس، وروح الله يسكن فينا (1كو3: 16)... مع عمل الروح القدس عن طريق باقي أسرار الكنيسة. مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
16 أبريل 2020

خميس العهد والحَمَل المذبوح

نستطيع أن نقول اليوم بلغ حَمَل الله إلى اللحظات الحاسمة لتحقيق رسالته كمُخلِّص العالم، وأن كانت لا تنفصل عن كل لحظات حياة السيد المسيح على الأرض منذ البشارة بتجسده وإلى لحظات صعوده إلى السماء، بل وإلى مجيئه حقًا إن المؤمن الذي يُدرِك سرَّ الحكمة الإلهية المكتومة منذ الأزل الخاصة بخلاص البشر، يشتهي أن يلتصق بالحَمَل الإلهي الذي يرفع خطية العالم، ليقف متأملاً في أحداث هذا اليوم العجيب تذوب نفسه حبًا، ويلتهب قلبه بنار الحب الإلهي، ويشتاق لو امتدَّ هذا اليوم ليحتوي كل حياته، فيصير في عيد سيدي مُفرِح هذا ما دفع الكنيسة لتُقيم من خميس العهد عيدًا تمتزج فيه ألحان البصخة التي تبعث سلامًا عجيبًا في أعماق الإنسان مع ألحان الفرح إنه يوم فريد رحلتنا مع الحَمَل في هذا العيد تمتد كل أيام غربتنا، بل أتجاسر فأقال أنه إذ تزول السماء والأرض كأمر خالقهما، يبقى احتفالنا بالعيد ممتدًا يتحدَّى الموت، لندخل إلى أعماق جديدة حين ننعم بما تمتع ذاك الذي كان يسوع يحبه "يوحنا الحبيب اللاهوتي" "ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح." (رؤ 5: 6)لنخر معهم ونسجد أمامه ونحمل القيثارات السماوية والجامات الروحية ولنُسبِّح معهم بالترنيمة الجديدة، قائلين "مستحق أنتَ أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبِحتَ واشتريتنا لله بدمِك من كل قبيلة ولسانٍ وشعبٍ وأمةٍ وجعلتنا ملوكًا وكهنة." (رؤ 5: 6-10) رحلة هذا اليوم هي رحلة عمرنا كله، بل ورحلة تمتُّعنا الدائم بالسماء، حيث يتلألأ عمل حَمَل الله الخلاصي أمام بصيرتنا ليبقى جديدًا لا يشيخ، موضوع سرورنا وتهليلنا الدائم. هبْ لي يا رب كلمتك وروحك لعلي أستطيع أن أُسجِّل بقدر استطاعتي ما أنعم به في التصاقي بكَ يا حَمَل الله العجيب! 1- اليوم أخذ رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب مع القادة الدينيين قرارهم النهائي الذي أعلنه رئيس الكهنة في نهاية اليوم وبداية الجمعة العظيمة "خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب" (يو 18: 14) وقام بتمزيق ثوبه!بهذا اعتمد رئيس الكهنة الشهادة أن يسوع هو حَمَل الفصح الذي بلا عيب، يُقدِّم ذبيحة إثم عن الشعب، بل عن العالم عوض الذبائح الحيوانية مزَّق ثوبه ليُعلِن أنه قد أُبطِلَ الكهنوت اللاوي، فقد جاء رئيس الكهنة السماوي ليُقدَّم نفسه ذبيحة، فهو الكاهن والذبيحة وقابل التقدِّمات بل والملك!وقَّع رئيس الكهنة هذه الشهادة وهو لا يدري!يا للعجب! ارتجَّتْ القيادات المتعارضة فيما بينها في أمور كثيرة، لكنها اتَّفقتْ معًا في تقديم يسوع -حمل الله- لتُحقِّق لا إراديًا موضوع سروره، ألا وهو الصليب!اليوم تتهلل نفوسنا بمسيحنا الذي يهبنا الإرادة البشرية ولا يستخدم أسلوب الضغط، لكنه يُحوِّل حتى شرور البشر وأخطاءهم لتحقيق إرادته المقدسة، ويُتمِّم مسرته ألا وهي تقديم الخلاص لعالم كله! 2- إن كانت القيادات قررت لا إراديًا صلب حَمَل الله، فما يُحزننا أن أحد التلاميذ الذي كان بين يديه الصندوق، يتصرَّف فيما يُقدِّمه الأحباء لخدمة يسوع وتلاميذه دون رقيب، يتطوع بالالتقاء معهم ليُقدِّم أبشع خيانة قام بها إنسان في التاريخ كله!والعجيب أن الكنيسة في هذا اليوم، في هذا العيد المُفرِح تقتبس في قراءاته ما قاله بطرس الرسول عن هذه الخيانة (أع 1: 15-20)، لا لتضمه بين القراءات الكنسية بل تخصه بلحن طويل يهز أعماق النفس خاصة عندما يُرنمه الشمامسة كخورُس واحد ويشترك معهم بعض من الشعب، بلحنه الحزايني الآن أُسجِّل ما استطعتُ بعدما انسحب قلبي إلى هذا الحدث وأنا أستمع إلى اللحن، وقد اشتهيتُ لو أمكن قراءة هذا الفصل (الإبركسيس) بنفس اللحن اهتز قلب داود بهذا بهذا الحدث منذ أكثر من 1000 سنة قبل تحقيقه، وهو يرى بعيني النبوة أحد أبناء شعبه يرتكب هذه الخيانة بشعبه قَبلَ هذا البائس أن يُمارِس هذا العمل وإن كان ثمنه اليأس المُحطِّم وارتكابه جريمة الانتحار بعد أن اشترى لنفسه "حقل دم" صار بيته خرابًا، واستلم أسقفيته آخر في مرارة يقوم الكهنة مع الشمامسة بالانطلاق في موكب حزين باتجاه مخالف عن كل المواكب الكنسية يرْثون يهوذا الخائن الذي أعلن بتصرُّفه ما حلَّ بمملكة إبليس، حيث بالصليب أعلن هزيمته وسلَّم المسبيين في بيته، الذين استعبدهم، وردَّهم لحَمَل الله ليُقيم منه أبناء لله يتمتعون بمجد أولاد الله خيانة يهوذا تهز قلب الكنيسة، يُعلَن عنها خلال اقتباس نبوة داود، وكرازة بطرس، ووضع لحن خاص بها، وطقس الموكب كل هذا في الاحتفال بعيد سيدي من الأعياد الكبرى تُردِّد الكنيسة "لتصر داره خرابًا" ثلاث مرَّات، لتأكيد أن بيت إبليس قد تهدَّم ولم يعد قادرًا أن يحبسنا فيه، ولا عاد له سلطان علينا صار دارنا هو قلب حَمَل الله، إن صح التعبير، وارتبطنا بأسقف نفوسنا ربنا يسوع. 3- قام الحَمَل بنفسه بتأسيس سرّ الفصح المسيحي بطقس جديد يُعلِن إتمام الفصح الحقيقي عوض الرمزي أما أهم سمات هذا الطقس فهي:- أ‌- غالبًا ما كان الفصح يُحتَفل به في كل بيت وسط عائلة من سبط مُعيَّن، إذ كان يلتزم كل إنسانٍ أن يتزوَّج من سبطه، أما احتفال الفصح الذي تمَّ في عُليَّة مريم أم الإنجيلي مرقس فكان السيد المسيح من سبط يهوذا، وكان التلاميذ من أسباط مختلفة فحَمَل الله يجمع ليس فقط الأسباط معًا، بل واليهود مع الأمم، ليتمتَّع كل المؤمنين بالعضوية في الجسد الواحد. ب‌- في الطقس اليهودي كان رئيس المتكأ يقوم بغسل الأيدي، ليعرف الكل أنه هو أهم شخصية على المائدة استبدل السيد المسيح هذا الطقس بغسل الأرجل بعد أن اتزر بالمنشفة، ليُعلِن أن رئيس المتكأ هو من يكون عبدًا لإخوته وخادمًا للجميع. ج- كان لا يجوز لأحد أن يأكل شيئًا بعد أن يأكل الفصح، كما لا يجوز ترْك شيئًا من خروف الفصح لليوم التالي أما السيد المسيح فلم يكسر الطقس بل رفعه إلى الكمال، فقدَّم جسده ودمه ليُعلِن شبع المؤمن روحيًا وارتوائه، كما نال عربون الأبدية ولم يترك أيضًا شيئًا لليوم التالي، إنما جعل جسده ودمه مأكلاً ومشربًا يتمتَّع به المؤمنون في كل العالم خاصة في يوم الرب (الأحد) إنه يتناول ما يشتهي السمائيون التمتُّع به. د- كان الفصح اليهودي يُحتفَل به مرة واحدة في السنة، ولا يجوز الاحتفال به خارج أورشليم، ولا خارج البيت. أما حَمَل الله فقدَّمه مرة واحدة لتمتد فاعليته في الماضي حتى آدم وحواء، وإلى الأمام إلى آخر الدهور. صار يُحتفَل في كل الكنائس بكونها كنيسة واحدة، ويتناولون ذات الجسد والدم إفخارستيا بكوْن الحَمَل نفسه حاضرًا في كل قداي إلهي. ه- في الطقس اليهودي يُذبَح الحَمَل بغير إرادته، إذ لا حوْل له ولا قوة، أما حَمَل الله فقد تحقق بمسرته، وفي طاعة لأبيه ليُقدِّم مع بذله لنفسه أيضًا ذبيحة الطاعة عوض العصيان الذي أفاح رائحة فاسدة من تصرُّفات آدم الأول وهكذا إذ نتناول من جسد الرب ودمه، نحمل رائحته، رائحة البذل والشكر لذلك دُعي القداس الإلهي "سرّ الإفخارستيا" أي "سرّ الشكر". و- في الاحتفال بوليمة الفصح اليهودي يجلس رئيس المتكأ في صدر المائدة، وعن يمينه يجلس أصغر طفل قادر أن يسأله أربعة أسئلة عن سبب هذا الاحتفال وعن طقوسه ويُجيب رئيس المتكأ على هذه الأسئلة فيروي قصة خروج آبائهم من مصر وتحررهم من عبودية فرعون والتحرر من السخرة وانطلاقهم إلى البرية ليعبروا إلى أرض الموعد على يدي يشوع وغالبًا ما يجلس على يساره الضيف أو يُترَك فارغًا حاسبين ذلك كرسي إيليا، حيث يتوقعون دخوله فجأة كمُهَيء لمجيء المسيا المُخلِّص ويُترَك الباب مفتوحًا لعلهم يتمتعون بدخول المسيا أثناء احتفالهم بالفصح أما في تأسيس الفصح المسيحي، إذ كان يسوع المسيح حاضرًا كرئيس المتكأ، فقد وهبنا في كل احتفال أن يكون بنفسه حاضرًا وسط كنيسته، بكونه رأسًا وهي جسده المُقدَّس في كل احتفال نُعلِن عن اشتياقنا لمجيئه الثاني لنراه وجهًا لوجه على السحاب، ويحملنا إلى حضن الآب لا نترك أبواب الكنيسة أثناء الاحتفال لعله يأتي ليُخلِّصنا، إنما تنفتح أبواب قلوبنا لننعم بالقيامة الأولى معه ونجلس معه في السماويات كما نفتح أبواب قلوبنا المتسعة بالحب لكل البشرية، فنطلب من أجل الراقدين والأحياء، كما من أجل الأجيال القادمة. أحاديث صريحة:- قبل بدء تأسيس الفصح المسيحي، قدَّم السيد المسيح حَمَل الله، أحاديث كثيرة وحوارات تمس حياة الذين يحتفلون بالفصح كشف ليهوذا خيانته دون أن يذكر اسمه، لكن يهوذا أدرك موقفه، إذ قال له "هل أنا يا سيدي؟" (مت 26: 25) قال له "أنت قلتَ"ومع هذا لم يُقدِّم توبة صادقة بل أكمل عمله الشرير، وعندما نخس قلبه لم يترجَ الرب بل في يأسٍ مضى وشنق نفسه. لقد ترك يهوذا العُليَّة ولم يتمتَّع بالتناول من جسد الرب ودمه. بعد الاحتفال بالفصح المسيحي أعلن السيد لهم ضعفهم، فقال"كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد الرعية." (مت 26: 31) فتح لهم الرجاء ولم يرفضهم بسبب ضعفاتهم، إذ أكمل حديثه لهم: "ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل"(مت 26: 32) هكذا لا ينتفع بهذا الفصح من ظل مُصِرَّا على رفضه لمخلصه، بينما ينتفع به المؤمنون مهما كانت ضعفاتهم ما داموا يُركِّزون رجاءهم فيه. في بستان جثسيماني وسرُّ الحكمة الإلهية:- إذ أسس حَمَل الله سرَّ الفصح المسيحي، لا ليقدِّم المؤمنين ذبائح حيوانية، إنما ليتمتعوا عبر الأجيال إلى يوم مجيئه الأخير بالاشتراك في ذات الفصح الذي قدَّمه بنفسه ففي القداس الإلهي يكون بنفسه حاضرًا، ويُقدِّم جسده ودمه المبذوليْن حياة أبدية لمن يتناول منهما الآن انطلق إلى بستان جثسيماني ومعه في صحبته الأحد عشر تلميذًا، بينما انطلق يهوذا ليُتمِّم ما قد اتفق عليه مع القيادات التي تطلب الخلاص من الحَمَل الإلهي انطلق معهم وصاروا ينشدون تسابيح الفصح التي اعتاد اليهود أن يترَّنموا بها دون أن يُدرِكوا أسرارها انطلق في البستان بكونه آدم الثاني الذي بمسرة قلبه وسروره ينحني أمام الآب وهو واحد معه في الجوهر، مُعلنًا أنه يحمل خطايا العالم بكونه ذبيحة إثم عنهم في هذا اللقاء حيث تتحقق حكمة الله الأزلية الخفية حتى عن الطغمات السمائية، ليُتمِّم مصالحة كل البشرية التي تؤمن به مع الله الآب، مشتريًا إياها بدمه الثمين يفتح ذراعيه لكل الأمم والشعوب والألسنة والقبائل بصورة لا يُعبَّر عنها ولا يمكن لخليقة ما إدراكها انطلق الأحد عشر معه ولم يسيروا كثيرًا حتى طلب من الثلاثة الأخصاء بطرس ويعقوب ويوحنا أن يرافقوه إلى موضع أعمق، وهناك تركهم، وانطلق بمفرده في لحظات لا يقدر إنسان أن يرافقه أو يعاينه ويتعرَّف على سرِّ الخلاص كما هو حقًا إن المُخلِّص لا يريد أن يكون هذا السرّ مكتومًا عمن يُعدُّوا للتمتُّع بمجد أولاد الله عاد الثلاثة الأخصاء فوجدهم نيامًا، فعاتبهم إذ لم يتحمَّلوا أن يسهروا معه ساعة واحدة، في أثمن لحظات في حياة البشرية كلها تكرَّر الأمر، وأخيرًا سمح لهم أن يناموا ويستريحوا، إنه كمُخلِّص يترفق بهم لأجل ضعفهم البشري! حقًا يبقى هذا العمل الإلهي له قدسيته، كلما تلامسنا معه، نختبر عذوبة الحب الإلهي كأنها على الدوام جديدة!يا لحُبِّك العجيب يا مخلصي، فإنك على الدوام تشتهي أن نكون في صُحبتِك، ونصعد كما موسى النبي على جبل سيناء وندخل معه في الغمامة، لنرى ونتلمس ونتذوق ما لم يستطع هرون رئيس الكهنة ولا أبناؤه الكهنة ولا شيوخ إسرائيل وأيضًا كل الشعب أن يتمتعوا به كما تمتع هو جوعنا وعطشنا إليك وإلى معرفة أسرار حبك تجعلنا نشتهي أن نقول مع القديس غريغوريوس النزينزي: [ ] القُبْلَة الغاشة:- يئن العالم على الدوام من القُبْلات الغاشة التي يُقدِّمها الأصدقاء، وهم أكثر عنفًا وقسوة من الحيوانات المفترسة شكرًا لك يا حَمَل الله، فقد حملتَ أخطر قُبْلة غاشة تمت في التاريخ كله، قُبْلَة تصدر من مخلوق وُهِبَتْ له عطايا هذا مقدارها تُقدَّم للخالق المُخلِّص الذي لا يكف عن سكب فيض من نعمته وبركاته الإلهية السماوية لمن يفتح فاه لكي تملأه! بقُبْلة سلَّمك يهوذا تلميذك مقابل ثلاثين من الفضة، وهو ثمن عبد كان ليس له قيمة في ذلك الحين لم تطلب من أحد خدامك السمائيين أن يُجازيه شرًا، ولا سمحتَ للأرض أن تنشق وتبتلعه، ولا للسماء أن تُرسِل نارًا تحرقه لكنك عاتبته بكل رقة، لعله يرجع إلى عقله ويترجَّى خلاصه بك. أشار يهوذا إليك بقُبْلَتِه الغاشة، ولم يستطع الجنود أن يلقوا القبض عليه سألتَهم من يطلبون؟ وإذ قلتَ إنك أنت هو الذي يطلبونه، سقطوا في رُعبٍ. ومع هذا سلَّمتَ نفسك لهم، فاستخدموا كل قسوة، ظانين أنك لن تفلت من أيديهم. القمص تادرس يعقوب ملطى
المزيد
03 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أستير

«ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك» مقدمة هل نحن في عالم يعتني به الله؟ وما مبلغ عنايته؟ وما مدى تدخلها في أحوال الناس وظروفهم وأحداثهم وحوادثهم؟،أي السبل تسلك؟ وما وسائلها التي تتذرع بها لبلوغ مقاصدها البعيدة المتعددة المترامية؟ كل هذه أسئلة تثار، والناس يقفون ازاءها مختلفي الفكر، موزعي الاتجاه، متبايني المنطق، فمنهم من لا يؤمن بالعناية اطلاقاً، لأنه لا يؤمن بوجود إله.. ويتخذ من مظاهر هذا الكون والاضطراب والفوضى التي تتمشى فيه سندًا لحجته وقوة لها... ألم يقل عمر الخيام في فلسفة بائسة يائسة محزونة: «ما هذه القبة الزرقاء فوقنا إلا صحن مقلوب يزحف تحته البشر ويحيون ويموتون، فلا ترفع لهذه القبة يدا في طلب العون فهي صماء بكماء عاجزة مثلي ومثلك». ومنهم من يظن أن الله لا يكاد يبالي بآلام الناس وأحزانهم وتعاساتهم، كلورد بيرون، أو نأي عنهم فنفض يديه منهم كما زعم توماس كارليل، ومنهم من يؤمن بالعناية بكيفية مجملة عامة تسيطر على مصاير الجماعات والشعوب والأمم ولكنه لا يكاد يصدق تدخلها في تلك الأمور الصغيرة الدقيقة العادية التي يألفها الناس في حياتهم من أكل وشرب ولبس ومرح وبكاء ودخول وخروج وما أشبه! غير أن هناك من يؤمن بالعناية في أوسع وأدق ما تشمل من معنى، العناية الجامعة المانعة، العناية التي ترعي الصغير والكبير على حد سواء، فتحصى شعور الرءوس كما تعد الشعوب والممالك، وتهتم بعصفور صغير كما تهتم بأمة بأسرها، العناية الحكيمة الحلوة المحبة المبصرة التي صاح ازاءها كلفن: «اني لا أؤمن بعناية الله كإله فحسب، بل بعنايته كآب محب مشفق»... إزاء هذه كلها ماذا تحدثنا قصة أستير!؟ وأي ضرب من العناية تكشف لنا؟ وما أثر العناية في توجيه التاريخ والشعوب والأفراد والحوادث؟ ذلك ما أريد أن نتأمله في اتجاهين: أستير: من هي؟ كانت أستير فتاة يهودية ولدت في السبي في شوشن القصر، ويقول التقليد ان أباها مات وهي جنين في بطن أمها، كما ماتت أمها أثناء ولادتها، فهي فتاة حزينة بائسة، خرجت إلى عالم لم تتذوق فيه حنان الأمومة، وعطف الأبوة، ولم يكن لها من عائل سوى ابن عمها الفقير مردخاي، الذي تكفل بها منذ الصغر، ولعله هو الذي دعاها «هدسة» أي «آس» ذلك النوع من الشجر القصير الصغير الظليل الجميل الدائم الأخضرار العطري الرائحة، والاسم يشير إلى جمال فائق فتان تعلوه مسحة من الكآبة والوحشة والتعاسة التي أورثها الفقر واليتم والسبي، على أنها دعيت فيما بعد أستير، والكلمة سواء كان معناها «نجمة» أو «عشتاروث» آلهة الخصب والشباب والجمال، فإنها تحدثنا عن هذا الجمال حين نضج واكتمل وتألق، وسار في طريقه إلى العظمة والإبهاء والقصور، كما أنها كانت فتاة رضية الخلق، وادعة النفس، متواضعة الروح، تروق لها الدعة والبساطة والهدوء، فهي في تجملها لا تميل إلى الإفراط والإغراق الأمرين اللذين كان يتطلبهما الاستعداد للدخول إلى الملك، وحين بلغت العرش لم يبهرها الصعود السريع المفاجيء، عن الحياة الوديعة القديمة، كنت أظنها ستنسي مردخاي أو تتحاشاه، أو تذكره لماما في شيء من الأنفة والكبرياء.. أليس الفاصل بينهما الآن وسيعًا كبيرًا هائلاً لا يستطاع تخطيه، أليست هي الآن نجمة الإمبراطورية الفارسية العظيمة، وهو مجرد واحد من الرعايا اليهود الأصاغر، لكن الملكة القديمة لم تفعل، ومن العجيب أنها ظلت على روح كاملة من الولاء والطاعة له، كما كانت عنده في بيته الفقير: «وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده» أنها في الواقع صورة النفس العظيمة التي لا يلوثها الغرور أو تفتنها الكبرياء، فتشيح بذكراها عن الأيام البسيطة الصغيرة الساذجة الأولى... رفع أحشويرش إلى المجد شخصين، فقتل المجد أحدهما، وأزكى الثاني، قتل خلق هامان، وأزكى عظمة أستير!.. ولعل أستير كامرأة وملكة قديمة، تعطي صورة من أقدم وأدق الصور للشخصية اليهودية في مختلف العصور، ومن العجيب أننا يمكن أن نرى فيها الكثير من الصور التي نراها في اليهودي في القرن العشرين كما كانت في القرون السابقة على الميلاد، سواء بسواء، فهي أولا صورة اليهودي المنعزل الذي لا يمكن أن يختلط بغيره، والذي حقت عليه نبوة بلعام القديمة: «هو ذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يحسب».. كان اتصالها الدائم بمردخاي وشعبها، ولم تستطع حياة الترف والبذخ والمجد العالمي أن تفصلها عنهم أو تجعلها قريبة التنكر أو التجاهل لهم!!.. ومن الواضح أن الكثير من الجنسيات والشعوب، قد ذابت على مر الأجيال في الأماكن التي انتهت إليها، إلا اليهود أنفسهم الذين مهما اختلطوا أو ارتبطوا بغيرهم من الأمم أو الحضارات إلا أنهم إلى اليوم في أمريكا أو أوروبا أو أي مكان آخر من العالم، لا يمكن إلا أن يعيشوا في وحدة داخلية متعصبة كاملة!!.. وهي أيضًا تمثل اليهودي في سريتها، إذ لم تخبر أحدًا بحقيقة مولدها وجنسها وشعبها كما أوصاها مردخاي، والتقليد يقول إن احشويرش لما بهره جمالها يوم دخلت إليه، وأراد تمليكها، حاول أن يتعرف على شيء من أصلها وأهلها وعشيرتها وجنسها، ولكنها استطاعت أن تصرفه بمهارة ولباقة عن السؤال بكثرة ما شغلته ووجهت إليه من أسئلة عن الملكة السابقة وشتي، وفي الواقع ليس هناك أستاذ في الدنيا، كاليهودي في فن التخفي، والحياة السرية العميقة الغامضة، ويرد رجال النفس هذا للحياة المشردة التي يعيشها في كل التاريخ، على أنها إلى جانب هذا كله، يضع لنا كتاب الله قصة حياتها، كفتاة يهودية مؤمنة، في عصر الوثنية والظلام وقد عاشت في شوشن تحيط بها الوثنية من كل جانب، لكنها لم تستطع قط أن تؤثر فيها أو تنتصر عليها، أو تنسيها الحياة العظيمة القديمة التي كانت لأجدادها إبراهيم واسحق ويعقوب، كانت تؤمن بالله في أرض الوثنية، وتعيش متطلعة إليه بالحق في عالم الضلال. وعندما واجهها الخطر، وواجه قومها، كانت أنبل صورة يقدمها الإنسان من أجل شعبه، وعقيدته، ودينه، وسعت إلى الخطر بقدميها، وهي تصوم وتصلي هي وجواريها قائلة قولها العظيم الرائع «إذا هلكت هلكت» ان صورة أستير يمكن أن تكون عظة لجميع المؤمنين في كافة الأوطان والشعوب والأمم والممالك، إذ أن المؤمن الصحيح ينبغي أن يكون وطنياً متفوقًا في وطنيته، على استعداد أن يبذل كل شيء من أجل الآخرين من إخوته وأحبائه ومواطنية، وعليه أن ينسى نفسه، ويدفع الضريبة ما بلغت لمجد الله أولاً، وخير إخوته وأحبائه وشعبه ومواطنيه بعد ذلك، ولا شبهة على الإطلاق، في حياتنا كمسيحيين بعد خمسة وعشرين قرنًا من الزمان من هذه الفتاة القديمة، أن نشير إلى أن الإيمان الصحيح والوطنية الصحيحة يسيران على الدوام في خطين كاملي الاستقامة والامتداد والتوازي، وإن كنا نتحفظ في الأسلوب الذي اتبعته هذه الملكة القديمة، إذ كانت ضاربة قاسية في الانتقام لشعبها، الأمر الذي أثار حفيظة مارتن لوثر عليها، وجعله شديد التبرم منها ومن قسوتها، ومع أن الكثيرين حاولوا أن يدافعوا عنها، من هذا القبيل، إذ ذكروا أنها فيما فعلت، لم تكن في موقع الهجوم أو الاستعداء على الساكن الآمن الهادي، بل كانت تدفع ظلمًا صارخًا قاسيًا مروعًا، وكانت في موقع الدفاع والحماية لنفسها وشعبها! على أنه مهما تكن حجتها في ذلك، فمن الواضح أن روح العهد الجديد في المسيح يسوع لا يمكن أن تقبل هذا الأسلوب على الإطلاق، ولا يجوز الالتجاء إليه بتاتًا الآن، وقد رفضه المسيح بوضوح، عندما طلب ابنا زبدي نارا من السماء تحرق قرية سامرية، لم تعط السيد مكانًا وضيافة وترحابا، وقال لهما في زجر قاس: «من أي روح أنتما» وكأنما يريد أن ينبهما، أن روح إيليا النبي الملتهب الغيور، لا يجوز في العهد الجديد أن تأخذ صورة القسوة والانتقام والثأر، على أي حال لقد كانت هذه المرأة تعمل في عصرها القديم بروح العصر وأسلوب ونظامه وإيمانه، وهي فيما خلا ذلك تعطي صورة رائعة لانتصار عناية الله أزاء ظلم لم يكن له على الإطلاق، ما يبرره، من هامان المدمر الرهيب القاسي.. أستير والعناية قد يكون من الغريب في سفر أستير أن لفظ «الله» جل جلاله لم يرد في السفر، لكن عناية الله ظهرت في كل سطر فيه ونحن يمكن أن نراها فيما يلي: أستير وامتياز العناية ليس في قصص التاريخ أمثلة كثيرة لشخصيات ترتفع من الحضيض إلى المجد بهذه الصورة، فتاة فقيرة يتيمة من شعب مرذول تدبر لها العناية أن ترقي عرش امبراطورية فارس، ومن أجل هذا التدبير وفي أعقابه يرتفع أناس ويسقط آخرون، وتتلفت الفتاة الفقيرة لتجد نفسها في هذا الجو الملكي العظيم، سيدة سيدات فارس، والملكة المدللة المحبوبة، لم هذا! ألكي تلهو وتسر؟ ألكي تتمتع بأطايب الملك وخمر مشروبه؟ ألكي تغرق في الحياة البازخة الناعمة؟ ألكي تأمر وتتسلط وتستبد؟ كلا، بل أن للعناية قصدًا ثابتًا علويًا كريمًا، بدأ في أول الأمر عند مردخاي ظنًا: «من يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك» ثم تحول هذا الظن يقينا بعد أن جاء الفرج، وتحققت النجاة على يديها، إنه الامتياز يتحول إلى مسئولية لازمة، والتملك يضحي وديعة مؤكدة، والسيطرة تمسى أمانة واجبة!!. هذه قصة ما نعطي دائمًا، دعاها الله وزنات، ومن الناس من يأخذ خمسًا وآخر وزنتين، وآخر وزنة، أيا كان عددها، فهي على كل ودائع وامتيازات لم يحرم منها واحد قط في هذه الحياة! فما هي وزنتك أو وزناتك وماذا عملت بها وكيف تصرفت فيها! هل أنت ممن يضيفون إلى ما في حوزتهم «ياء النسب» جسدي، عقلي، ثروتي، ملكي، مجهودي، كدي، نشاطي؟ أم أنت ممن يعتقدون أن هذه من الله وينبغي أن ترد لمجده! إن الإجابة على هذين السؤالين، هي التي تضع الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، بين الإنسان الخارج عن وضعه، والإنسان حيث وضعته إراده الله.. من الأقوال المأثورة عن لوثر: «أني أؤمن أن الله خلقني وخلق كل الموجودات، وأنه أعطاني وما يزال يصون لي جسدي ونفسي، بكل ما أملك من أعضاء، وحواس، وعقل، وروح، وجهز لي ثوبي وطعامي وعائلتي وبيتي، ومنحني الكل دون استحقاق، لأرد له الجميع حمدا وشكرًا وطاعة وخدمة» على أنه يوجد من الناس من نسمعه يقول: إني على استعداد أن أخدم وأبذل وأجود بكل مالدي لو أن ظروفي أوفق وأحسن وأيسر، لو أن الله ينقلني بين طرفه عين وانتباهتها، من خمول الذكر والضعة والفقر، الى الرفعة والسؤدد والمجد، كما نقل أستير! مثل هذا أريد أن أذكره بقصة شابين وشابة، كان ثلاثتهم برمين بالحياة وظروفهم، وبسوء تصرف الناس فيما يملكون ويعلمون! كان الأول يقول آه لو أنني غنى لنثرت الذهب على الفقراء، وأشبعت الجياع، وكسوت العرايا، ولأنشأت الملاجيء والمستشفيات ودور العجزة، يا للأسف أني لا أملك مالا، لكن هذا الشاب على الأقل كان يمكنه أن يقتسم - ولو لمرة واحدة - مع جار له جائع لقمة خبز أو بعض آدام، وأبدا ما فكر أو حاول أو فعل!... وأما الثاني فكان ينعي على الخدام إهمالهم وقصورهم في التبشير كان يقول لو أنني خادم لهززت المنبر، ووبخت الشرير، وأرعدت الخاطيء، وقويت البائس، وأعنت المسكين،... غير أنه ما فكر مرة وهو يذهب صباح كل أحد إلى الكنيسة بالسيارة، أن يحدث سائقها عن الدين أو يدعوه إلى الدخول إلى بيت الله بدلا من الانتظار في الخارج ساعة العبادة،... أما الثالثة وكانت عانسًا لم تتزوج فقد كانت تشكو البيوت وسوء التربية وفساد الأخلاق، وتتمنى لو وهبها الله زوجًا وبيتًا وولدا إذن لأحسنت قيادتهم ورعايتهم والسهر عليهم وجعلتهم جميعًا في شركة سامية صالحة مع الله، ومن الغريب أنها نسيت أن عندها خادمة لم تر منها سوى القسوة والاستبداد والإهمال وسوء المعاملة. أيها الصديق تمسك بما عندك، وأحسن العمل به، مهما يبدو صغيرًا حقيرًا تافهًا، ولا تنس أن أرملة فقيرة ألقت في غفلة من الناس ووعي البشر فلسين حقيرين في خزانة بيت الله، ولكن رقيب الناس رآها وامتدحها ومجدها مجدًا لم يعرفه الأغنياء والأثرياء وأرباب الكنوز، ولا تنس أن ولدا صغير أنقذ نلسن في معركة من معاركه الأولى فكسب لانجلترا النيل وكوبنهاجن والطرف الأغر،.. ليتك تسمع أخيرًا عند ختام الحياة هذه العبارة الإلهية الكريمة: «نعما أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك!..». أستير ووقت العناية لعلة من المثير هنا أن ندرك أن عناية الله لا تقع من حيث الزمان على الإطلاق أمام عنصر المفاجأة، وما نتصوره نحن صدفة أو عارضًا أو مفاجأة، لا يمكن أن يكون كذلك أمام الله الذي يجمع الزمان كله بين يديه، ويرتبه ترتيبًا زمنيًا دون أن يترك دقيقة أو ثانية واحدة من غير حساب، وكان في قصة أستير، لابد أن يرتب للحوادث ويعدها، كما يلحقها دون أن تفلت نأمة أو حركة من بين يديه، فأعد أستير للملك، بعد خلع الملكة وشتي، بما يقرب من عشر سنوات على الأقل، فأضحت المملكة المحظوظة والمحبوبة، قبل ظهور المؤامرة بوقت طويل، كما أنقذ الملك أحشويرش من مؤامرة خصييه، وأجل مكافأة مردخاي للوقت المناسب، وجعل القرعة تقع في آخر شهر من شهور السنة حتى يمكن الوصول إلى أرجاء الإمبراطورية كلها، دون أن تسقط نقطة واحدة من دم الضحايا، وعند التنفيذ من ذلك، يأتي في اللحظة الأخيرة، في الهزيع الرابع، فلا ينقذ مردخاي إلا في صباح اليوم الذي كان سيصلب فيه. كما أن الشعب نفسه ينجو، عندما اقترب الأجل المحدد للخلاص منهم، والقضاء عليهم! لقد تعلمت من ذلك أن الله يمسك في العادة بأطراف التاريخ، وقبل أن يدبر الشر يحتاط هو للأمر ويعد العدة، كما أنه يبصر الخفيات العميقة التي ربما لا يستطيع أصحابها اكتشافها بعد تحت أضالعهم وبين جوانبهم، ويعد المنقذ قبل الاضطهاد، ويوجد المصلح قبل تغلغل الفساد، لا تخف إذن ولا ترتع، وتقول... لقد ضعنا، وقد انهد الأمل وانطوى الرجاء، وضاعت الفرصة، ألا فاعلم أن الزمن لا يسبقه أو يتأخر عنه واذكره يقول: «من اغتصاب المساكين من صرخة البائسين الآن أقوم يقول الرب اجعل في وسع الذي ينفث فيه».. «اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخر».. تستطع أن تترنم أومن بك يا صخر الدهور ومنية الآكام الدهرية!.. أستير وسعة العناية في أي مكان تعمل العناية، وعند أي حدود تنتهي، قديمًا كان الوثنيون يعتقدون أن لكل آلهة مكانًا خاصًا لا تبرحه، بل تسيطر عليه وتعمل فيه، وكانوا يظنون أن آلهة الجبال لا تصلح للوديان، وآلهة البحر لا تصلح للبر، كان لكل آلهة منطقة خاصة لا تتجاوزها أو تتعداها، وكان اليهودي يحتاج إلى زمن طويل حتى يفهم سعة العناية بالمعنى الذي عرفه فيما بعد، ألم يقل يعقوب بعد أن بارح بيت أبيه، وصادف في البرية مكانًا رأى فيه الله: «حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم» لكن قصة أستير تعلمنا جميعًا أن العناية في كل مكان، في شوشن، كما في الهند، وكوش، في كل أرض أحشويرش، بل في كل مكان على هذه الأرض!!. أيها الصديق ألا تستطيع أن تغني مع داود في مزموره العجيب عن العناية: «من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت علي يدك. عجيب هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها، أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك، فقلت إنما الظلمة تغشاني فالليل يضيء حولي. الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء كالظلمة هكذا النهار»؟... ومع ماري سليسر التي صاحت «ما كنت أجرؤ أن أفعل شيئًا أو أجزم أمرًا إلا ليقيني أنني أراه دائمًا في الطريق أمامي»... لقد أبصرته هاجر في الصحراء حيث ظنت نفسها وحيدة، ورأه يونان في بطن الحوت حين التف عشب البحر برأسه، واختبره الثلاثة فتية في أتون النار، وعرفه دانيال في جب الأسود، وجاء إلى يوحنا في بطمس.. ليس هناك مكان يختفي عنه عينيه.أيتها الأم التي لها ابن ناء عنها في أقصى الأرض اذكري الله وصلي لأجل ولدك فإن الرب إلى جواره، أيها الأب الذي لا تعلم ماذا ما يجري في بيتك فكر في الله لأنك لا تستطيع أن تصون دارك دون عنايته، ذكرنا يارب أن نعلم أنك كما أنك بعيد عنا فأنت إلى جوارنا أيضًا جداً قريب. أستير وقوة العناية وما أقواها من عناية تلك التي تسخر خليطًا عجيبًا من الناس، فيهم الملك وفيهم الصعلوك، فيهم السيد وفيهم العبد، فيهم الطيب، وفيهم الماكر، فيهم البسيط وفيهم الشرير، فيهم المتكبر وفيهم الوديع، فيهم المؤدب وفيهم فظ الأخلاق، هذا والملك أحشويرش يضع لنا التاريخ صورة مرعبة لحياته تماثل ما نقرأ في سفر أستير، أنه لم يكن ملكًا بل كان وحشًا همجيًا شهوانيًا مستبدًا متغطرسًا في ثياب ملك، جرد أكبر جيش عرفه التاريخ القديم لمحاربة اليونان، وعمل جسرًا من السفن على بوغاز الدردنيل، ولما هاجت الزوبعة وكسرت سفنه أمر بجلد البحر وقطع روؤس المهندسين الذي شادوا الجسر، كان لا يعرف الرحمة أو تتطرق الرقة إلى قلبه، مع الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، توسل إليه صديق اسمه بسياس أن يعفي ولده الأكبر من الذهاب إلى الحرب وكان قد قدم أولاده الخمسة الباقين، فما كان منه إلا أن شطر الولد شطرين، وأمر الجيش أن يمر بينهما ليعرف الجميع كم هو حازم صارم، ما أقوى العناية التي تستغل مثل هذا، وهامان بكبريائه وعجرفته، وأنانيته، ودهائه،... ووشتي بوداعتها وفضيلتها،.. وأستير بجمالها وحيويتها، ومردخاي بتعصبه وغيرته، وغيرهم من المعلومين لنا أو المجهولين لدينا، كل هؤلاء تستغلهم العناية أبرع استغلال وأوفاه، بعواطفهم وميولهم، ونزعاتهم ومواقفهم، أشرارًا وأخيراً معاً، سواء كانوا في القصر أم على الطريق، داخل الحجاب أم في الخارج، ممن يصعب الوصول إليهم أو من يبلغهم الجميع... تأمل كذلك أيضًا كيف تشق العناية سبيلها في المستحيل، فهذه شريعة مادي وفارس لا يمكن أن تتغير، وما تصدره من أحكام لا يستطيع تفاديه، وقرار الإمبراطورية، لا يستطيع الإمبراطور نفسه أن يعدل عنه بعد ما أصدره، فما فائدة الصلاة أو الصوم، لقرار أضحى واجب التنفيذ، ولا توجد قوة على الأرض يمكن أن تلغيه، لكن هل يعجز الله على الانتصار على أي قرار بشري. إن الإيمان يؤكد أنه حتى ولو لم تتدخل أستير، وسكتت عاجزة عن أن تفعل شيئًا، فإن النجاة ستأتي بأي سبيل آخر، وتتخطى كل النظم والنواميس والقوانين، حتى ولو كانت أقسى نواميس الطبيعة أو شريعة مادي وفارس التي لا تتغير، لم يستطع الإمبراطور أن يعدل عن قراره، ولكنه أصدر الأمر للشعب المجني عليه بأن يستعد للدفاع عن نفسه، وأن يجد كل معاونة في الإمبراطورية للقضاء على خصومه، أنه يشبه في ذلك ما فعله سلطان قديم قيل إنه أصدر قرارا بأن يجلد كل من يرى وهو يشرب خمرا ثمانين جلدة، وكان لهذا السلطان صديق شاعر يدمن الخمر وأراد السلطان تكريمه، فطلب منه أن يتمنى عليه بأي طلب، فأجابه الشاعر لا رغبة لي ولا أمنية الا أن أشرب خمرًا وأعفى من العقوبة فقال له السلطان: ولكن هذا محال لأني كيف أنقض حكمًا عاماً أذعته، ورجاه أن يطلب شيئًا آخر، غير أن الشاعر لم يكن عنده غير هذا الطلب، ففكر السلطان وفكر بدافع إعزازه للرجل كيف يخلصه من العقوبة، واخيرًا اهتدى إلى حل.. أن يضرب الشاعر ثمانين جلدة إذا أبصر يشرب خمرًا، على أن يضرب من يشهد عليه مائة جلدة، فكان الناس إزاء هذا الحكم يضحكون ويتندرون قائلين: من يدفع ثمانين جلدة للشاعر ليأخذ بدلاً منه مائة.. وهذا ما فعله أحشويرش تمامًا ليخرج من مأزق القرار الأول الذي أصدره، وبذلك استطاع المظلوم لا أن يدفع عن نفسه الظلم فحسب، بل أن يتخلص من ظالمه أيضًا. على أي حال أنها العناية الإلهية العجيبة، التي تمسك بالشر لتحول منه إلى الخير، أو كما ذكر يوسف الصديق لإخوته، «أنتم قصدتم لي شرًا أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم» أو كما قال شمشون: «من الآكل خرج آكل ومن الجافي خرجت حلاوة» أو كما هتف أساف قائلاً: «لأن غضب الإنسان يحمدك، بقية الغضب تتنطق بها» وما أكثر اختبارات القديسين التي لا تنتهي في كل التاريخ من هذا القبيل. وهي العناية التي تأتي للضعيف العاجز ليأخذ قوته وأمنه وهدوءه وسلامه، كذلك الطائر الذي صوره وردثورث وقد دفعته الرياح العاتية في بلاد النرويج، وهو مقرور يكاد يموت من البرد، وحاول أن يقاوم بجناحيه الواهنتين الضعيفتين، ولكن الريح دفعته دفعًا نحو المحيط فأغمض عينيه واستسلم، ولكنه لم يسقط في المحيط، بل طرحته العاصفة في بقعة مشرقة هادئة في شمال انجلترا.. أليست هذه هي صورة حياتنا جميعًا حين نرفرف في مواجهة المتاعب بأجنحة ضعيفة مرتعشة لا تلبث أن تخور، وتكف عن كل محاولة ومجهود، ولكن عناية الله تظهر عندئذ.لقد علم عصفور صغير قذفت به الزوبعة إلى غرفة تشارلس ويسلي، حيث وجد من المرنم الموهب حنانا وعطفا عبرا به أرض الخوف والموت والهلاك، علمه هذا العصفور أن يرنم ترنيمته الحلوة التي مطلعها: من يسوع المعتمد لاجئا أرجو النجاة بينما الأرياح قد غمرتني بالمياه أعطني الستر الحصين ريثما يأتي الحمام وأهدني المينا الأمين خاتمًا لي بالسلام ألا يجمل أن نقول بعد هذا كله: «منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي» «هل تسلب من الجبار غنيمة وهل يفلت سبي المنصور فإنه هكذا قال الرب حتى سبي الجبار يسلب وغنيمة العاتي تفلت وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف....».... طوبى لجميع المتكلين عليه!!...
المزيد
25 أبريل 2020

التدبير الروحي في الخمسين المقدسة

يشكو الكثيرين أنفسهم في مثل هذه الأيام بأنهم يتراجعون روحياً وتبرد حميتهم الروحية، فالصوم قد توقّف والميطانيات ممنوعة ومسحة النسك التي كانت تغطي السلوك التدبيري قد بهتت ولكن فترة الخمسين المقدسة إن كانت تشير إلى شيء فهي إنما تشير إلى الأبدية، لا خطايا ولا توبة بالتالي، لا دموع و قرع صدر لأنه الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد، فالطعام روحي "لان ليس ملكوت الله أكلاً و شربًا بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (رومية 17:14) والسجود بفرح، وفي سفر الرؤيا جاء ذكر السجود للجالس على العرش اثنتي عشر مرة " وكانت الحيوانات الاربعة تقول امين والشيوخ الاربعة والعشرون خروا وسجدوا للحي إلى أبد الآبدين (رؤيا 14:5 ) إذا فالسجود ليس في كل مرة هو سجود التذلل، وانما يمكن أن يتم بمشاعر البهجة الممزوجة بالفرح، مثلما ينحني إنسان أمام أب كاهن أو حتى جده ليقبل يده بودّ وفرح وليس بتذلل. هكذا يوجد السجود في السماء، ويمكن بالأحرى أن يتم على الأرض وفي فترة الخمسين إذا هذه الفترة ليست للتسيب وإلاّ فإن ذلك يعني أننا صمنا على مضض مكرهين ! وما أن انتهى الصوم حتى تنفس البعض الصعداء !. لذلك ربما لاحظت أن البعض يتعجّل نهاية القداس ليلة العيد، ومثله من يتعمّد أن يأكل دسماً بشراهة يومي الأربعاءوالجمعة خلال الخمسين !!.أعرف بعض الآباء في البرية والذين اعتادوا الصوم حتى الثالثة كل يوم، فإذا حلت الخمسين حلوا صومهم صباحاً بكسرة خبزبسيطة على أن تكون الوجبة الأساسية في موعدها عند الثالثة، بل منهم من كان له تدبير - بالاتفاق مع الأب الروحي – على صوم يوم في الاسبوع بمستوى ما خلال هذه الفترة بل وعمل عدد من الميطانيات أيضاً. فإذا لم يحدث شيئا من هذا خلال الخمسين فإننا سنجد صعوبة شديدة في استئناف الجهاد الروحي في صوم الآباء الرسل.إن الإنسان الروحي يتساوى عنده الصوم مع الطعام فيختار الصوم، والمسوح مع الأرجوان، والتنعم مع الزهد، ففرحه داخلي وتعزيته في المسيح وغايته الأبدية، والقانون هو السمو فوق كل القوانين. نيافة الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف عام المنيا وابو قرقاص
المزيد
17 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إشعياء

" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد " إش 6: 1 مقدمة كان إشعياء واحداً من أعظم عمالقة التاريخ، وسفره هو الأول بين ما يطلق عليها: «أسفار الأنبياء الكبار »، ولا تستطيع أن تقرأ سفره دون أن ترتقى الهضاب العالية، وتمد بصرك إلى الآفاق البعيدة التى تجتاز العصور والأجيال، وتأتى إلى آخر الأيام فى الرؤى المذهلة العجيبة،... أليس هو الرجل الذى بدأ نبوته بذلك المنظر المهيب للسيد وهو جالس على كرسيه العالى والمرتفع، وأذياله تملأ الهيكل؟؟.. ومن ذا الذى يمكن أن يرى السيد فى مجده العظيم، والملائكة واقفون بين يديه، دون أن يحس بحاجته إلى الارتقاء إلى أعلى مقام عن هذه الأرض، ليخشع فى فزع قائلا: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 ".. وأليس هو الرجل الذى طوى مئات السنين، ونقلنا فى الأصحاح الثالث والخمسين إلى هضبة الجلجثة، لنرى دقائق الصلب وتفاصيله، كمن يراها رؤيا العيان، ويكتب عنها من تحت الصليب،... وأليس هو النبى الذى اخترق حجب المستقبل القريب والبعيد، فأوقفنا على هضاب آيته لاحقة لتاريخه،... فرأينا كورش يجتاح الممالك، ويطويها، ويسقطها تحت قدميه، ويعطيه اللّه اسمه قبل أن يولد بمائة وخمسين عاماً،... ولم يكن كورش إلا رمزاً لذلك الذي خرج غالباً ولكى يغلب، والذى يقود أعظم المعارك فى الأرض، ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل،... ولا يتعلمون الحرب فيما بعد » "إش 2: 2 - 4 " لأنى هأنذا خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال » " إش 65: 17 ".ولعلنا نتأمل الآن هذا الرجل العظيم من فوق هذه الربى والهضاب العالية لنراه مع سفره ونبواته وهو يحدثنا فيما يلى: إشعياء من هو!!؟ الاسم « إشعياء » يعنى « خلاص يهوه » أو « خلاص الرب » وهو ابن « آموص » أو « القوى » وقد أطلق على زوجته « النبية » وربما كان القصد فى ذلك أنها زوجة النبى، وإن كان البعض يظن أنها كانت تملك موهبة النبوة، وقد ولد له ولدان اسم الأول « شآر ياشوب » أو « بقية سترجع » ولعل القصد من ذلك رجوع البقية من السبى، أو رجوع البقية إلى اللّه برسالة إشعياء، والثانى: « مهير شلال حاش بز » ويعنى « سلب يعجل خراب يسرع » والمقصود بذلك أنه على قدر السرعة فى جمع الأسلوب ونهبها، على قدر ما يأتى الخراب المعجل،... وقد أوضح النبى أن نبوته جاءت فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا، ومن المعتقد أنه ولد قبل موت عزيا بعشرين عاماً على الأقل، وإذا صح التقليد القائل بأنه مات منشوراً على يد منسى الملك، فمن المتصور أنه عاش حتى بلغ التسعين من عمره أو ما بين عامى 780، 690 ق.م. ومن الجدير بالذكر أنه فى ذلك التاريخ بنيت مدينة روما، والتى كانوا يطلقون عليها « المدينة الخالدة » وقد عاش إشعياء على مر الأجيال والتاريخ أكثر عظمة وجلالا وخلوداً،... وفى تصور الكثيرين أن إشعياء كان ينتسب إلى البيت الملكى، وأنه على أية حال كانت له المكانة التى تجعله يعطى المشورة للملك آحاز، والذى لاذ به الملك حزقيا أمام غزوة سنحاريب للبلاد، وحصاره لأورشليم، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً، لا يعرف المداورة أو المهادنة فى كل ما يتصل بالدين،... يستوى عنده فى ذلك الملك أو غير الملك، ألم يقل للملك آحاز: « اسمعوا يا بيت داود. هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهى أيضاً » " إش 7: 13 " وقال للملك حزقيا: اوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش » " إش 38: 1 "، هوذا تأتى أيام يحمل فيها كل ما فى بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يترك شئ يقول الرب » " إش 39: 6 " وقد صور إسرائيل فى مرتبة أدنى من الحيوان فى مطلع سفره « الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما اسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم. ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلى الشر أولاد مفسدين ». " إش 1: 3 و4 " « كيف صارت القرية الأمينة زانية » " إش 1: 21 " « لأنه شعب متمرد أولاد كذبة ».. " إش 30: 9 " ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رفيق القلب شديد الحدب والعطف، ويكفى أن نراه يقول: « لذلك قلت اقتصروا عنى فأبكى بمرارة. لا تلحوا بتعزيتى عن خراب بنت شعبى » "إش 22: 4 " بل لعله كان يبكى تجاه آلام الآخرين، حتى ولو كانوا من الأمم، وهو القائل عن موآب: « يصرخ قلبى من أجل موآب » " إش 15: 5 "« لذلك أبكى بكاء يعزير على كرمة سمة أوريكما بدموعى ياحشبون وألعالة ». " إش 16: 9 " كان يندد بالخطية أشد تنديد، وفى الوقت نفسه يبكى على الخطاة،... ومن الجانب الآخر كان فرحه عظيماً بالأمم التى تجرى إلى اللّه: « ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم »" إش 2: 2"« ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً » " إش 11: 10 "« فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجئ الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعد المصريون مع الأشوريين فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل » "إش 19: 23 - 25 ". لم يكن الرجل ضيق الأفق، محدود النظرة، تمتلكه نعرة الجنس، تحجب رؤياه عن العالم الواسع الذى لا حياة لهن بدون اللّه،... على أن هذا لا يعنى أنه لم يكن غيوراً لوطنه، متحمساً له، يهتم بالدفاع عنه ورعايته، لقد كان وطنياً من طراز ممتاز، وهو القائل لآحاز: احترز واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا » " إش 7: 4 ".. كما قال لحزقيا: « هكذا يقول الرب إله إسرائيل الذى صليت إليه من جهة سنحاريب ملك آشور هذا هو الكلام الذى تكلم به الرب عليه: احتقرتك استهزأت بك العذراء ابنة صهيون. نحوك أنغضت ابنة أورشليم رأسها » "إش 37: 21 و22".وكان إشعياء، مع ذلك، رجلا عميق التعبد والاحترام للّه،... ولعل الرؤيا التى رآها فى الهيكل، تركت طابعها العميق فى حياته بجملتها!!.. وهو لا يرى هذا التعبد فى مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية، فالذبائح لا قيمة لها: « لماذا كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر » " إش 1: 11" والاهتمام بأيام معينة فى نظره باطل وكذب: « رأس الشهر والسبت ونداء المحفل لست أطيق الإثم والاعتكاف » " إش 1: 13 " كما أن الهيكل فى حد ذاته لا معنى له: « هكذا قال الرب: السموات كرسى والأرض موطئ قدمى. أين البيت الذى تبنون لى وأين مكان راحتى » " إش 66: 1 " إن العبرة عند اللّه بالحياة الروحية العميقة فى روح الطاعة: « إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض » "إش 1: 19" وحياة البر وخوف اللّه: « وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامى » "إش 66: 2 " كان إشعياء يعيش على الدوام أمام اللّه العلى: « لأنه هكذا قال العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه. فى الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين » "إش 57: 15 " « أدخل إلى الصخرة وأختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته » " إش 2: 10 "... ولا حاجة إلى القول بأن الرجل كان شديد الثقة باللّه، كامل الاعتماد عليه، ومن ثم كان يرفض تماماً التحالف مع آشور أو مصر،... وقد قاوم مثل هذا التحالف ما وسعته المقاومة سواء فى حياة الملك آحاز أو الملك حزقيا،... ومع أن مصر واشور كانتا الدولتين العظميين، قبل أن تظهر بابل فى الأفق،... إلا إنه كان يعتقد بحق، أن الإيمان باللّه وحده، هو الذى يعطى الإنسان اطمئنانه الكامل، وسلامه الدائم،... وأن الدول المتحالفة إذا أعانت بعض الوقت، فسيلحقها العجز بعد ذلك، وتضحى عبئاً، لا عوناً، وأكثر من ذلك إنهاء تحول المتحالف معها إلى فريسة يمكن أن تبتلعها متى أتيحت لها الفرصة، وسنح الوقت!!.. وقد كان الرجل صادق المشورة فى هذا المجال، بل كان واثقاً من النتيجة عندما استمع حزقيا الملك، وقد أدرك هذا الاختبار، فتعاون أولا مع آشور، ثم عاد ليواجهها معتمداً على اللّه،... وسقط عند أبواب عاصمته زهرة الجيش الأشورى مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الجنود فى ليلة واحدة!! ومن المسلم به أن إشعياء كان واسع الثقافة، بلغ السمت والقمة بين الأنبياء، فلم يتفوق عليه أحد منهم من الوجهة الإنسانية. فى فخامة اللفظ، وجلال التعبير، ورصانة الأسلوب،... وقد قيل أنه لم يبره أحد قط منهم فى الجمع بين فخامة العبارة، ودسامة التفكير، إذ لم تكن فصاحته على حساب المعنى، أو معناه على حساب التعبير الجزل الجميل!!ولم يكن عند الرجل رتابة فى الأسلوب أو قصور فى المنطق، بل تحس وأنت تقرأ سفره أنك تسير بين أعلى القمم وأعمق الوديان،... ولعل هذا كان الباعث الأكبر عند عدد من النقاد، إلى الزعم بأن هناك أكثر من إشعياء فى كتابة السفر... وقالوا إن هناك إشعياء الأول والثانى وربما الثالث.. لأنهم تصوروا أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا السفر العظيم فى أصحاحاته الستة والستين!!.. ومع أن التاريخ اليهودى أو الكنسى، كان فيه ما يشبه الإجماع على أن إشعياء وحده هو كاتب السفر، ولم يشذ عن هذا الإجماع، سوى بن عزرا فى القرن الثانى عشر الميلادى، والذى قال إن الأصحاحات من الأربعين إلى الستة والستين ربما لا تكون من عمل إشعياء، ولم يجاره فى الكنيسة المسيحية سوى كاتب ألمانى اسمه كوبى (Koppe) الذى زعم أن هذا الأصحاحات كتبت على الأغلب بعد السبى البابلى، وتمشى فى إثره بعد ذلك، من تمشى من النقاد، وحجتهم فى الغالب أن الإصحاحات الأخيره المشار إليها، كتبت كما لو كان السبى البابلى حقيقة قد وقعت، وأن إشعياء (الثانى كما يزعمون) لم يكن قد ولد عندما جاء كورش، وأن قرابة مائة وخمسين عاماً أو تزيد، كانت لابد أن تمر قبل أن يأتى ذلك الملك العظيم المشار إليه فى إشعياء!! وأن الأسلوب فى الجزئين من السفر شديد التغير، مما يحتمل معه أن شخصاً مجهولا يمكن أن يطلق عليه إشعياء الثانى كتب الأجز اء الأخيرة من السفر بعد السبى، وضمت إلى إشعياء!!. وقد بلغ التصور عند نقاد آخرين إلى أن سبعة من الكتاب اشتركوا فى كتابة هذا السفر، وليس مجرد إشعياء ثان فقط!!... على أن أعظم علماء الكتاب قد قاوموا هذا التصور مقاومة حادة ونادوا بوحدة السفر ونذكر منهم فى ألمانيا... جاهن، وهستنبرج، وكلينرت، وهافرنك، وستاير، وكايل، وديلتش، ورينو شمعان،... وفى إنجلترا، هندرسون، وهاكستبيل، وكاى، ويورك، ودين باين سميث، وبروفسور بركس، وبروفسور ستانلى ليسز... وقد بنى هؤلاء وغيرهم، وحدة السفر على أسس خارجية، وأخرى داخلية،... أما الخارجية فتظهر من أن الترجمة السبعينية وهى الترجمة المعروفة من سنة 250 ق.م. تنسب الكتاب كله لإشعياء بن آموص، وابن سيراخ الذى عاش حوالى سنة 180 ق.م لا يتردد فى نسبة الأجزاء الأخيرة إلى إشعياء،... كما أن مخطوطات وادى قمران، وهى أحدث مخطوطات اكتشفت عام 1947 ق.م. بقرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والثانى قبل الميلاد يظهر فيها سفر إشعياء كاملا منسوباً إلى إشعياء بن اموص!! كما أن اقتباسات العهد الجديد والسيد المسيح والرسول بولس، تظهر دائماً منسوبة إلي إشعياء، فقد جاء فى الأصحاح الثالث من إنجيل متى: « فإن هذا هو الذى قيل عنه بإشعياء النبى القائل صوت صارخ فى البرية »... " مت 3: 3 " وفى إنجيل لوقا الأصحاح الرابع قيل عن السيد المسيح: فدفع إليه سفر إشعياء النبى، ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين.. الخ " لو 4: 17 و18 " وفى إنجيل يوحنا فى الأصحاح الثانى عشر: « ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يارب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب » " يو 12: 38 "وقول بولس فى الأصحاح العاشر من رسالة رومية: « لأن إشعياء يقول يارب من صدق خبرنا... ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبونى.. إلخ » " رو 10: 16 و20 " أما عن تنوع الأسلوب، من الواجهة الداخلية، فما لا شك فيه، أن شاعرية أو عبقرية إشعياء، إذا جاز هذا التعبير، وتمكنها من ناصية المنطق والبلاغة، يمكنها أن تسمو وتبسط، دون أن يكون هناك مساس بالكاتب الواحد، ومن ثم فنحن نرى رغم هذا التنوع، الفكر الواحد المطبوع، فاللّه السيد الذى رآه: « جالسا على كرسى عال ومرتفع وأزياله تملأ الهيكل " إش 6: 1 ".. هو نفسه: « العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه » " إش 57: 15 ".. والشعب الذى وصف بالتمرد والعصيان: « ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا علىّ» " إش 1: 2 ".. « فإنك رفضت شعبك بيت يعقوب لأنهم امتلأوا من المشرق » " إش 2: 6 ".. « ذكرنى فنتحاكم معا، حدث لكى تتبرر، أبوك الأول أخطأ وسطاؤك عصوا علىّ » " إش 43: 26، 27 " كما أن اتساع النظرة وإعطاء الفرصة للأمم، قد جاءت فى أول السفر وآخره، ويكفى أن نشير هنا: « فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معاً وصبى صغير يسوقها. والبقرة والدابة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون فى كل جبل قدسى لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر» " إش 11: 6 - 9 ".. « الذئب والحمل يرعيان معاً والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون فى كل جبل قدسى قال الرب » " إش 65: 25 "فإذا قيل آخر الأمر كيف يمكن أن يكون الحديث عن السبى البابلى كأمر واقع، وإن يذكر اسم كورش الفارسى الذى لم يأت بعد،.. كان الرد ميسوراً: أن نبوات إشعياء ترى النهاية منذ البداءة « لأنه معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله » " أع 15: 18 ".. وقد تحدثنا عندما تعرضنا لشخصية يربعام كيف أن النبى تنبأ عن يوشيا الملك الذى سيأتى ويذبح كهنة المرتفعات ويحرق عظامهم، قبل ولادته بزمن طويل... وقد امتدت النبوة إلى هضبة الجلجثة لتصفها بدقة، كما لو كان الواصف ينظر إلى الصليب بمرأى عينيه، وقد سار الرجل بنا إلى آخر الأيام، لنرى الصورة اللامعة للأرض بعد أن تتحرر من الخطية والدنس!! والحقيقة أن السهم القاتل لنظرية إشعياء الثانى يكمن فى أن الآخذين بها، حاولوا حل الصعوبة، بصعوبة أفدح وأقسى إذ كيف يمكن التصور منطقياِ، أن هذه الأصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بما فيها من أروع النبوات أو التعاليم، تصدر عن نبى مجهول، جاء بعد السبى، ولا يعرف الناس عنه شيئاً، ويعلن هذه الروائع، ويكتبها، ويغيب فى التاريخ من غير علم أو دراية من أحد!!.. إن الفهم الكتابى الصحيح، واجماع التقليد فى المجمع اليهودى والكنيسة المسيحية يؤكدان أن إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد لسفره الشامخ العظيم بين أسفار الكتاب االمقدس، دون أدنى شبهة أو تردد!! إشعياء ورؤياه وكانت هذه الرؤيا نقطة التحول فى تاريخ الرجل، أو بتعبير أدق، هى دعوة اللّه العليا التى بها ناداه إلى الخدمة العظيمة،... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض، هم الذين تغيرت حياتهم، وغيروا حياة الناس، لأن رؤيا اللّه حولت تاريخهم بأكمله،.. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم، فقام برحلته الخالدة،... وظهر لموسى فى العليقة، فقام برسالته العظيمة،... وظهر لجدعون، فحوله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال،... ومن المثير أن الجنرال فوشى الذى كسب الحرب العالمية الأولى يقول إنه فى 26 مارس عام 1918 ظهر له اللّه فى رؤيا وأعطاه يقيين النصر!! ولم يكن هذا الجنرل خرافيا، ولكنه آمن باللّه ورؤيته وانتصر!!... وها نحن الآن نتابع رؤيا إشعياء من جوانبها المختلفة: الرؤيا والسيد قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس: « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين: « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه »... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم،... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا، غداة وفاة الملك عزيا، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل،... ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً، فطرده اللّه لكبرياء قلبه، بعد أن أصيب بالبرص، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته،... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته.. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص، إلى الملك القدوس، رب الجنود، الذي له وحده عرش الجلال والكمال،... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، وإلى ملائكته ينسب حماقة!!... والمسيح دائماً هو مثال الكمال، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم،... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر، إذ تكشف عن الملك الدائم، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان، ويستولى علينا اليأس والقنوط،... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول: كل شئ ضدنا!!.. الظروف ضدنا!!.. الناس ضدنا!!.. صاحت فيه امرأة زنجية: ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت!!.. فثاب الرجل إلى رشده، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم!!.. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب؟؟. الرؤيا والملائكة لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين » « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة » " مز 104: 4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة، فهناك جناحان للطيران، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه!!... والخدمة المسيحية، لابد أن تكون هكذا،... كان واحد من خدام اللّه الصينيين، وكان غيوراً للمسيح، فى الولايات المتحدة، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية، وذات مرة رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة، وقدم لها نبذة عن الخلاص،... وإذا سألته عما فيها قال: إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها، فصاحت في ووجهه: لا أريد، وألقتها فى وجهه،.. وقد راعه أكثر أن الكمسارى قال له: إن هذا ممنوع وتألم الرجل، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص؟... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا: إنك هززت قلبى من الأعماق، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده!!... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى المسيحية، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده!!... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه!!... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق،... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً!!.. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً، ويكرر الكلام، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما، وأخيراً قال له: أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة!!... ألا تعرف من أنا!!؟... وقال العضو: نعم أعرف، فانت الواعظ!!... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال: هل ينظر الناس إلى أنا، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟… وذهب إلى بيته، وأغلق على نفسه، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق … وعاد ليعظ: « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3: 03 ز.. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة، لأنه كان جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع: أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة … وبكى الرجل العجوز وقال: أعطنى هذه الفرصة الأخيرة … فعين فى قرية، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه.. لكنه دخل إلى مخدعه، وصارع مع اللّه، وعندما خرج، خرج إنساناً آخر، حتى كانوا يصفونه بالقول: إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه!! … وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين، وهو الأمر الثالث فى الخدمة، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته، … تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك … قال: لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة، فقال الراعى: لا مؤاخذه. فهذا ليس بيتى!! … إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته!! الرؤيا والنفس بعد أن أبصر إشعياء اللّه، والملائكة، رأى نفسه وحالته فصاح: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » (إش 6: 5) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم!!... وقال أحدهم: إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم، ويمكن أن يقال لهم: لقد أكلتم، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم: ويل لى إنى هلكت » جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح، وعمده الرسول يوحنا، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه، أو المسيح يسوع!!... وقال الشاب: إنى أختار المسيح، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين،... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى، وسأله الكاهن: لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم!!؟ … ثم ابتدره – على ما تقول القصة – بالسؤال: هل يمكن أن يعطيه – أى للكاهن - اسم المسيح، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ؟!!... وقبل الشاب المبادلة، وسار فى إتجاه بيته القديم، ليجد أباه فى ضجعة الموت، وقال له الأب: إنى آسف يابنى لأنى عاملتك هذه المعاملة القاسية... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى؟ وارتبك الشاب وهو يقول: « انتظر يا أبى قليلا... حتِى أشرح لك السر!!. وقال له الأب: لا أستطيع الانتظار، ومات بين يديه!!... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة، فبكى وهو يقول « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً!!... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها!!... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح: « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ» "لو 5: 8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه؟!!. الرؤيا والتطهير ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه: « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف » (إش 1: 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر، إذ طار واحد من السرافيم، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه، والسؤال: لماذا هى جمرة، ولماذا أخذت من على المذبح!!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى... ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح، وتأثير الروح القدس،... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه، أو ينظر إليه بغضب، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها.جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا، وقال: يا سيدى إن خطاياى كثيرة... وأنا حزين عليها!!... ولشدة دهشته سمع السيد يقول: « إنى لا أذكر البتة خطية لك، لقد محوتها جميعاً!!.. الرؤيا والرسالة «من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ ».. " إش 6: 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض، … وهو القائل دائما: إن أراد أحد أن يأتى ورائى!!.. " مت 16: 24 “ ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها!!.. إنه يطلق النداء العام، وعليك أن تقبل أو ترفض،.. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول: « ها أنذا أرسلنى » … " إش 6: 8 "… ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه، والنفس التى لا تطيع، معرضة للضياع على الدوام!!،كان على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة، فى سبيل الخدمة، … وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض!!.. إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها!!.. ويمكن أن نراها بوضوح فى: سيادة اللّه ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو، يذكر: « أنا الرب وليس آخر، لا إله سواى... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى. إله بار ومخلص. ليس سواى » " إش 45: 5، 21 ".. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع، الذى يعلو على كل متعظم وعال: « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم. فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2: 10 - 12 "... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هى من صنع الناس: « وامتلأت أرضهم أوثاناً، يسجدون لعمل أيديهم، لما صنعته أصابعهم... وتزول الأوثان بتمامها... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور، وفى شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2: 8، 18، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى. لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى.. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » (إش 44: 9، 10).. وأمام سيادة اللّه وعظمته، ما هو الإنسان، مهما علا شأنه وامتدت قوته؟ أنه كما صوره إشعياء: « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2: 22 ".. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى. أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا. ليس عن فهمه فحص. يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40: 22، 23، 25 - 31 ". قداسة اللّه وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم: « قدوس قدوس قدوس »، والتعبير فى مفهومه العبرى تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة عن الخطية، أو الكمال الأدبى المطلق، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده!!.. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها،.. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 "... والخطية هى العصيان: « ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1: 2 " وهى المرض: « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت ».. " إش 1: 6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة. الإيمان باللّه والإيمان، عند إشعياء، يرتبط بالسكينة والهدوء، والاطمئنان والأمن: « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7: 9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28: 16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03: 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها!!.. خلاص اللّه وقد رأى إشعياء عمانوئيل، والابن العجيب، الإله السرمدى، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء،.. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول: « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم!!.. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر: « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى، إنه أعمق وأسمى أصحاح، فى العهد القديم »، وقد حاول البعض أن يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية،.. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه!!.. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى، أن الصليب سينتهى إلى المجد، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب، بل هو عظيم ورائع أيضاً!!.. فإن نصرته ستكون حاسمة، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!! ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب، وأظهر به ذاته وذراعه،... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة، وجاء من أم فقيرة قروية، ولم يكن له أين يسند رأسه، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر، إلا أن الحياة القاسية التى وجد فيها، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحف به المظاهر الخداعة، والأوضاع الشكلية،.. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس، ولم يحتقروه فحسب، بل خذلوه أيضاً، أو فى لغة أخرى، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته. وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه. وإلى حزن عميق فى نفسه، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن. وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه، ويخذلون آماله فيهم، ومايزال يبدو أمامنا، وقد رفضه الناس، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق. ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً: « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً ».. " إش 53: 4 ".. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن... على أنه فى المعنى الأعمق، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هينة، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه...، ولم يؤدب، بل ضرب بالسياط، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة، إلا بآلامه من أجلنا، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا!!... لقد ضللنا وأثمنا، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم!! على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً. ظلم فقبل الظلم والمذلة، دون أن يحتج أو يشكو، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه، وهكذا بدا فى موته عظيماً، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين!!.. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره، إذ سر بأن يسحقه بالحزن، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر!! كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب، وقداسته، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم: التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر »..!!.. " إش 45: 22 ".
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل