المقالات

10 سبتمبر 2022

إنجيل عشية عيد النيروز

انجيل العشية : ( مت ١٣ : ٤٤ – ٥٢ ) يتكلم هذا الفصل عن خلاص السيد الذي يمنحه للمؤمنين بشريعته الجديدة التي سماها ملكوت السموات وشبهها بشبكة مطروحة في البحر ، ودليل ذلك قوله « فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية وأما الأردياء فطرحوها خارجا » تمهيد في خلال جولان السيد المسيح الثاني للتبشير في الجليل أخذ يلقى تعاليمه على الجموع عند بحر الجليل . وقد ضرب لهم أمثاله الثلاثة المعروفة التي فيها شبه بشارة الإنجيل بالكنز ، واللؤلؤة ، والشبكة . وفى هذه الأمثال بين عظمة بشارة الإنجيل ، ومصير مستمعيها ، وواجب القائمين بخدمتها . عظمة البشارة:- أيضا يشبه ملكوت السموات كنزا مخفى في حقل وجده إنسان فأخفاه و حه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل . يسمى المخلص بشارة الإنجيل « ملكوت السموات » لأنها توصل من يعمل بها إلى ذلك الملكوت ، ويشبهها وهي مخفية على الكثيرين بكنز مخفى في حقل ، ويرجع خفاؤها على الناس لا إلى تدبير إلهى بل إلى عمى قلوبهم ، لأن « الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيا » ( ۱ کو ٢ : 14 ) . وفى ذلك يقول بولس الرسول « إن كان إنجيلنا مكتوما فأنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله » ( ۲ کو 4 : ٣ - ٤ ) . والحقل المختفى فيه هذا الكنز يشير إلى العالم الذي تلقى فيه كنوز الإنجيل ، والإنسان الذي وجد الكنز هو المؤمن الذي يحتفظ بتلك الكنوز الإنجيلية في قلبه . ولما كان هذا المؤمن يدرك ذلك الملكوت الروحي الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفنى ففرحه به يحمله على بيع ما يملك لشراء الحقل . ومع أن الكنوز السماوية لاتشترى بمال ، لأنها بلا فضة وبلا ثمن كما قال أشعياء « أمنها العطاش جميعا هلموا إلى المياه والذي ليس له .فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا » ( أش 55 : 1 ) إلا أن المقصود من قول المخلص أنه « باع كل ما له واشتراه » أنه ترك كل ما وقف في سبيل ذلك الخير العظيم . وفي ذلك يقول الرسول ه لكن ما كان لي ربحا فهذا قد حسبته خسارة لأجل فضل معرفة المسيح ربى الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح » ( في 3 : ۷-۸ ) ، وهذا تأييد لقول السيد « من أحب أبا أو أما أكثر منى فلا يستحقنى . ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى . ومن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلى يجدها » ( مت ۱۰ : ۳۷ ، ۳۹ ) والغاية التي يرمي إليها المخلص من ضرب هذا المثل هي تحريض المؤمنين على ألا يتعلقوا بحطام هذا العالم وشهواته التي قد تعترض سبيلهم إلى ذلك الملكوت . مثل اللؤلؤة :- أيضا يشبه ملكوت السموات إنسانا تاجرا يطلب لآلىء حسنة . فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها . ويشبه هذا المثل الذي تقدمه مع فارق بسيط ، هو أن الذي وجد الكنز في المثل الأول وجده اتفاقا ، كما في حالة المرأة السامرية التي جاءت إلى البئر لتستقى فوجدت المسيح ، أما الذي وجد اللؤلؤة هنا فوجدها بعد بحث وتنقيب كما فعل المجوس الذين جاءوا من المشرق لرؤية الملك المولود ، والمغزى في الحالين واحد . مصير مستمعيها : مثل الشبكة : - أيضا يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع . فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ وجلسوا وجمعوله الجياد إلى أوعية . وأما الأردياء فطرحوها خارجا . هكذا يكون في انقضاء العالم . يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من الأبرار ويطرحونهم في أتون النار . هناك بين يكون البكاء الأسنان وصرير . وبعد أن بين المخلص عظمة بشارته استطرد إلى ذكر مصير مستمعيها فشبه الذين ينادون بها بالصيادين الذين ينشرون شباك التعليم ليصيدوا بها الناس وينتشلوهم من بحر هذا العالم المهلك ، وشبه المستمعين من الشعوب المختلفة بصيد الشبكة الذي يضم أصنافا مختلفة من السمك . وأما جذب الشبكة إلى الشاطئ فأشارة إلى اجتماع المؤمنين للدينونة عند انقضاء العالم . وكما أن ما يدخل الشبكة من الصيد فيه ما لا ينتفع به فيلقى خارجا ، كذلك الذين يؤمنون كثيرون ولكن ليس كلهم يتركون أهواءهم وشهواتهم ويحفظون التعاليم . ومثلهم في ذلك مثل المتكثين في عرس ابن الملك الذين جمعهم عبيده من الطرق أشرارا وصالحين ( مت ۲۲ : ۱۰ ) . ولما دخل الملك عليهم رأى أحدهم بغير لباس العرس ، فأمر خدامه بربط رجليه ويديه وطرحه في الظلمة الخارجية . وهكذا في نهاية العالم يرسل الله ملائكته فيفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار حيث دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ ( أش 66 : ٢٤ ) ، و « حيث البكاء وصرير الأسنان » ، أي حيث الحسرة والندم على ما فعلوا ، والغم على شيطان أطاعوه ، ونعيم مقيم فقدوه . وفى هذا المثل إرهاب للسامعين ، وصد لهم عن متابعة الشرور . واجب الخدام :- قال لهم يسوع أفهمتهم هذا كله ، فقالوا یا سید فقال لهم من أجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء . مضى المخلص بعد ذلك يتساءل عما إذا كان تلاميذه قد فهموا أمثاله ، وسؤاله ليس عن جهل منه بمدى فهمهم بل رغبة في أخذ إقرارهم بذلك . ولما أجابوا بالإيجاب أخذ يبين لهم واجبهم وواجب من يتصدون لخدمة الكلمة من الرعاة وغيرهم ، وهو ضرورة الاتصاف بالحكمة والفهم والقدرة على تأييد تعليمهم بأدلة من العهدين القديم والجديد فقال « من أجلذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعنقاء » ، أي كما أن رب الأسرة يدخر في بيته من الأثاث والمؤونة الجديد والقديم ، إذ بعض الأشياء قديمها أفضل كالحمر ، وبعضها جديدها أفضل كالعسل ، كذلك يجب في خادم الإنجيل أن يخرج من كنز علمه ما يناسب الزمان والمكان والسامعين من تعاليم التوراة والإنجيل كليهما . الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة الجزء الأول
المزيد
13 يناير 2023

ختان القلب

قال القديس استفانوس شهيد المسيحية الأول لرؤساء كهنة اليهود : « یا قساة الرقاب ، وغير المختونين بالقلوب والأذان ! أنتم دائما تقاومون الروح القدس » ( أعمال 7 : 51 ) ، فبرغم كونهم مختونين بالجسد وهم حفظة الناموس والطقوس والعبادات إلا أنهم غير مختونين بالقلوب والأذان ، فقلوبهم غطتها غلفة الكبرياء ومحبة المال ونجاسات العالم ، وأذائهم الغلفاء ثفل سماعها فلم تميز الحق ولم تعرف صوت الراعي الصالح ، كانت ظواهرهم تبدو مثل الصديقين وبواطنهم مملوءة رياء وخبثا ، وقد قال لهم الرب إنهم يشبهون القبور المبيضة ، لم ينفعهم ختان الجسد في شيء بل لما تعدوا الناموس الحقيقي وقاوموا الروح القدس ، حسب أهل الغرلة " الوثنيون " أفضل منهم ، عندما فتحوا قلوبهم وأذائهم لصوت الروح وقبلوا الكرازة بالإنجيل بفرح . عهد الختان الأول كان علامة في الجسد لأن الإنسان كان جسديا مبيعا تحت الخطية ، وحتى الوصايا كتبها الله على لوحي حجر لأن قلب الحجر كان داخل الإنسان . فلما جاء ملء الزمان وولد مخلصنا من القديسة مريم متحدا بطبيعتنا صائرا في شبه الناس - أكمل الختان في اليوم الثامن ، وسالت القطرات الأولى من الدم الزكي وحقق في جسده الطاهر كمال العهد بين الله والناس . فإن كان الختان هو عهد الله مع إبراهيم حيث قول الله : « سز أمامي وكن كاملا » ( تكوين ۱۷ : ۱ ) ، فقد ارتفع ربنا يسوع بهذا العهد إلى الكمال المطلق في الفعل والقول ، وما عجز عنه جميع الآباء والأنبياء أكمله المسيح بجسد بشريتنا فسمع صوت الاب من السماء : « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ ". الختان الجديد ... ختان المسيح : عن الختان الحقيقي يقول معلمنا بولس : « وبه أيضا ختنتم ختانا غير مصنوع بيد ، بخلع جسم خطايا البشرية ، بختان المسيح » ( كولوسي ٢ : ١١ ) ، فإن كان الختان القديم يتم بقطع غلفة الجسد فإن الختان الجديد صار لنا بخلع جسم خطايا البشرية ... أي دفن القديم بأكلمه هذا ما أخذناه في المعمودية المقدسة .. التي هي شركتنا في موت المسيح وقيامته ، في المعمودية خلعنا الإنسان القديم مع شهواته ، وجحدنا سيرتنا الأولى ولبسنا الجديد الذي يتجدد بحسب صورة خالقه « لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح » ( غلاطية 3 : ٢٧ ) ، وإن كان الختان القديم علامة في الخارج فالمعمودية هي ختان القلب في الداخل ، وإن كان الختان يجعل الإنسان محسوبا من شعب إسرائيل وله الحق في أكل الفصح ، فالمعمودية جعلتنا أعضاء جسد المسيح ولنا الحق التناول من الذبيحة المقدسة ، وإن كان بالختان يأخذ الإنسان اسما في جماعة الرب فإنه بالمعمودية صارت أسماؤنا مكتوبة في السماوات ، وإن كان الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة لما خانوا العهد وأسلموا نفوسهم للخطايا لم ينفعهم الختان وصارت قلوبهم واذانهم غير مختونه ... فماذا نحن عاملون ؟ لقد أخذنا العهد الجديد بدم المسيح ... واستنرنا بالمعمودية المقدسة وذقنا كلمة الله الصالحة والمواهب السماوية . فإن كنا بعد ذلك نجاري العالم ونسلك بحسب الطبيعة القديمة وشهوات الجسد وأساليب الناس في المكر والخبث ومحبة المال والكبرياء والنجاسات والبغضة ... إلى آخر هذه الامور التي متنا عنها وجحدناها ... فإننا نكون قد شابهنا أولئك الذين قيل عنهم " غير المختونين في القلوب والآذان " . لنحفظ يا إخوة عهد ختاننا .. عهد المعمودية ، لنحفظ القلب مختونا حساسا لمحبة الله ومحبة القريب لأن البغضة تحرم الإنسان من الله ، لنحفظ ثياب المعمودية بيضاء مغسولة بدم الذي فدانا ، لنحفظ الحواس مكرسة لله مختومة بختم الله الحي حتى متى ظهر في مجيئة الثاني نلاقية بوجه مكشوف ويكون لنا ثقة ولا نخجل منه . المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
27 يناير 2023

مدرسة الرهبنة

الرهبنة والحياة الديرية مدرسة عظيمة تكونت عبر الأجيال منذ القرون الأولى لنشأة هذه الحياة في براري مصر ولهذه المدرسة مناهج ومعالم وأخبار وقصص وسِيَر وحكم وأقوال واختبارات عميقة ومذهلة ومتجددة وفعالة، واكتسبت قدرتها وفعلها عبر الزمن، وصار لها جذور وأصول شكّلت في مجملها فلسفة إنسانية راقية وروحانية مسيحية عالية.والواقع أن البشر ضعفاء مُستعبَدون لتفاهات هذا العصر الكثيرة، فإنسان اليوم يقيس تقدمه بما يملك: بسيارته، بمنزله، بأثاث بيته، بملابسه، بمقتنياته، بأمواله وحساباته... ويرى أنه قد بلغ الكمال لمجرد أن عنده أحدث كمبيوتر وبريد إلكتروني وصفحه على مواقع التواصل الاجتماعي... وغير ذلك... وتكون النتيجة لكل هذا أن يعجز عن رؤية حقيقيه وتشخيص ضعفاته التي تحصره في نطاق الترابيات وتبعده عن السمائيات... وكما نصلي في الأجبية ونقول: "إن العمر المنقضي في الملاهي يستوجب الدينونة" (صلاه النوم - القطعة الأولى).ورغم التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي في مسيرة البشر، إلّا أن الصراعات والنزاعات والعنف والجريمة والإدمان والتفكك ما زالت قائمة وتزداد حدة، وكأن الانسان يفقد صوابه رويدًا رويدًا.ولذلك صارت الرهبنة مرآة لحقيقه الوجود الإنساني لأنها باختصار هي «الحياة بحسب الإنجيل» (فيلبي١: ٢٧)، والانجيل هو: «كلمه الله الحيّة والفعّالة والأمضى من كل سيف ذي حدين، والخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، والمُميِّزة أفكار القلب ونيّاته» (العبرانيين ٤: ١٢)، ومن هنا -من الإنجيل- اكتسبت الرهبنة لمعناها وعمقها وجاذبيتها حيث تكونت الجماعات الرهبانية الأولى في البراري المصرية الشرقية والغربية والجنوبية تحت إرشاد الآباء المؤسسين لهذه الحياة أمثال أنطونيوس الكبير ومكاريوس الكبير وباخوميوس الكبير وغيرهم الكثيرون، ومن جيل إلى جيل، وامتدت هذه الحياة الصادقة إنسانيًا من مصر إلى ربوع العالم، ويكاد لا توجد بلد بلا دير أو رهبان أو راهبات. شاعت المدرسة الرهبانية بالصلاة والعبادة والخدمة تقدم نموذجًا رفيعًا للإنسان الذي يعطي أشواقه وعشقه للمسيح يسوع، الذي سبق وأعطانا هذا الحب الإلهي المتدفق على خشبة الصليب نحو كل البشر قائلًا: «تعالوا إليّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى ١١: ٢٨).والحياة بحسب الإنجيل ليست قصرًا على الرهبان، وإنما كل مسيحي مدعو أن يعيش بمقتضى الإنجيل، وتصير الرهبنة نموذجًا متقدمًا لهذه الحياة والتي تُعتبر تذوُّق مسبق لملكوت الله، بمعنى أن الراهب الحقيقي يعيش الأبدية في قلب الزمن، ولا يرى أمامه ألّا السماء والنصيب السماوي، ولا ينشغل بالأرضيات التي يتوه فيها ويفقد طريقه ومسيرته ودوره الحقيقي الذي صار من أجله راهبًا أو راهبة.ورغم أن هناك -وفي كل زمان- قلّة من الرهبان يكتفوا بالشكل دون الجوهر، إلّا أن الغالبية يعيشون هذه الحياة الرهبانية بكل فرح ومسرة، في جهاد روحي عميق والتزام رهباني أصيل، ناظرين فقط إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله ربنا يسوع المسيح. وأود في هذه المقال أن أذكر بعض أقوال من اختبارات الحياة الرهبانية وجمالها: مخافة الله السراج المضاء يبدد العتمة، أمّا مخافة الله فتبدد ظلمة القلب البشري وتعلمه الوصايا الإلهية. سأل شاب أحد الشيوخ: كيف تستطيع النفس أن تقتني مخافة الله؟ فأجابه الشيخ: ثَمّة طريقان يقودان النفس إلى مخافة الله: التواضع واللا قنية. نصح شيخ تلميذه: لا تألف نقد أخيك على أعماله، بل بادر إلى نقد نفسك... وبهذا تولد مخافة الله فيك. حياه الغربة الغربة الحقيقية هي أن يعرف المرء كيف يضبط لسانه حيثما حلَّ. إن من يخطئ في حياته عليه أن يفصل نفسه عن الناس، إلى أن تتم مصالحته مع الله، وذلك لأن الاتصال الدائم بالناس من شأنه أن يعرقل الاتصال بالله. إن لم تروّض نفسك على الصمت اولًا، فحتى ولو ذهبت الى آخر بقاع الأرض لا يمكنك ان تبلغ الغربة. حياه الطهارة اشتكي أحد الإخوة لأبيه الروحي: أوشكت ان أموت بسبب أفكار الدنس...! فقال له الشيخ: تعلّم من الأمهات اللاتي يضعن المُرّ على صدورهن عندما يفطمن أولادهن فيرفض الطفل الرضاعة، هكذا أنت اجعل في ذهنك ذكر الموت والعذاب الأبدي فتنفطم عن الأفكار الدنسة. يستحيل أن يصبح الإنسان عديم الهوى طلبًا للطهارة، ألّا إذا سكن الله في داخله. ينبغي أن نكبح جماح الغضب بطول الأناة، أمّا شهوة الجسد فنجفّفها بالتعب الجسدي وبالصوم المغبوط. اليقظة والتمييز لا تدع ضميرك يلومك ويعاتبك في أي شيء. إن كنا لا ندرس فنحن لن نتقدم في الفضائل. سأل الأب موسى أباه الروحي: هل يستطيع الإنسان أن يبدأ كل يوم جديد؟ فأجابه الشيخ: إن كان هذا الانسان محبًا للفضيلة، ليس فقط كل يوم، بل كل لحظة أيضًا يمكنه أن يبدأ من جديد. بمناسبه تذكار نياحة الأنبا انطونيوس أب جميع الرهبان (22 طوبه-30 يناير).كل سنة وأديرتنا ورهباننا وراهباتنا بخير وفرح وسلام. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
09 أبريل 2023

أحد الشعانين

غادر السيد المسيح بيت عنيا صباحا مع تلاميذه، وعندما وصل إلى بيت فاجى وهى قرية قريبة من أورشليم بالقرب من جبل الزيتون، أرسل أثنين من تلاميذه ليحضروا له أتانا وجحشا.. ركب السيد المسيح الأتان فى الجزء الأول من الطريق ثم أكمل الطريق راكبا الجحش، وفى هذا دلالة رمزية إلى ترك الله للأمة اليهودية التى ترمز إليها الأتان، وإلى قبول الله للأمم الوثنية ويرمز إليهم بالجحش، وكما أن خروف الفصح يجب أن يؤخذ ويفرز فى اليوم العاشر من الشهر قبل ذبحه بأربعة أيام فى اليوم الرابع عشر من الشهر (خروج 12: 3 – 6). هكذا السيد المسيح فصحنا الحقيقى دخل أورشليم فى اليوم العاشر من الشهر.هكذا بقى حمل الله الذى يرفع خطيئة العالم بين جدران أورشليم مترددا بين الهيكل وبيت عنيا.ولما أقترب السيد المسيح من أورشليم وظهرت أمام عينيه مبانى الهيكل المغشاة بالذهب.. وأشعة الشمس تنعكس عليها معطية إياها منظرا أخاذا، بكى عليها.. بكى عليها فى يوم مجده.. مشفقا عليها من نتيجة رفضها له، وما سيحيق بها حين يحل بها غضبه الإلهى.. ويتركها لتدمرها جحافل الجيوش الرومانية سنة 70 م.وحين بدت أورشليم أمام أعين التلاميذ ثارت فيهم عواطفهم الدينية فهتفوا للرب ولم يجدوا إلا ثيابهم ليفرشوها على الطريق.. وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر.. ولما: " سمع الجمع العظيم الذى جاء للعيد أن يسوع قادم إلى أورشليم، فأخذوا سعف النخل، وخرجوا لأستقباله، وهم يهتفون قائلين: هوشعنا. تبارك الآتى بأسم الرب ملك إسرائيل.. أوصنا لأبن داود، أوصنا فى الأعالى.." معترفين أنه المسيح الآتى من نسل داود وأنه آت بأسم الرب.والعجيب أن يذكر كل من انجيل القديس متى وانجيل القديس مرقس أن الجماعة التى خرجت لأستقباله قسمت نفسها إلى خورس يمشى أمام السيد المسيح وخورس يمشى ورائه.ومن العجيب أن يفسر المدراش (كتاب لتفاسير ودراسة المزامير وبقية الأسفار عند اليهود) الآية: " هذا هو اليوم الذى صنعه الرب.. نبتهج ونفرح فيه " (المزمور 118: 24).. بأن ذلك يعنى يوم الفداء الذى سينهى كل العبودية إلى الأبد.. والشارح يصور خورسا من المسبحين من رجال أورشليم يتجاوبون مع رجال يهوذا.. والمسيا المنتظر يقترب من أورشليم.. مرددين كلمات المزمور 118.. ثم بعد ذلك تتحد جماعة أورشليم مع جماعة يهوذا فى تسبيح واحد..والعجيب أن يذكر الكتاب المقدس: " ولم يفهم تلاميذه ذلك فى مبدأ الأمر، ولكنهم لما تمجد يسوع تذكروا أن ذلك مكتوب عنه، وأنهم فعلوا له هذا ".إن مسيحنا ملك متواضع، مملكته ليست من هذا العالم – إن مسيحنا ملك ولكنه غريب عن العالم ليس له أين يسند رأسه، فالويل للكنيسة التى تؤمن فى امكانياتها المادية فى هذا العالم ولا تحيا حياة الغربة.. سيتلقفها العالم وتخرج من ملكية الملك الغريب.هذا الملك المتواضع الغريب رفضه اليهود، لأنه لم يأت كما أرادوه، إننا يا إخوتى لا بد أن نقبل المسيح كملك لا كما نريد نحن بل كما يريد هو، نقبله ملكا غريبا، ومرفوضا من العالم، فالمسيح ملك للمتواضعين، إذا لننسحق الآن فى الكنيسة ونتضع لكى يملك الرب علينا " ليأت ملكوتك ".أحداث الأسبوع الأخير تسير بسرعة وأنجيل باكر أحد الشعانين يقول: " يا زكا أسرع وانزل "معنى ذلك أن أحداث الخلاص تسير بسرعة مهولة، ومن يتأخر ولا يسرع تفوته.الأحداث من أحد الشعانين إلى الصليب (ساعة الصفر) مركزة بصورة رهيبة لا تستطيع كتب العالم أن تستوعبها..ووراء المسيح يسير الأطفال هاتفين وفرحين.. ورؤساء اليهود يأكلهم الغيظ، ربنا تهلل بالروح وقال أحمدك أيها الآب السماوى لأنك أعلنت هذه للأطفال وأخفيتها عن الحكماء دخل السيد المسيح أورشليم باحتفال عظيم، كما تنبأ عنه زكريا قائلا: " إبتهجى جدا يا إبنة صهيون، إهتفى يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وراكب على حمار وعلى جحش إبن أتان ". (زك 9: 9). القمص تادرس يعقوب ملطى كاهن كنيسة مارجرجس اسبورتنج عن كتاب أحداث الأسبوع الأخير
المزيد
20 يناير 2023

التوبة...معمودية ثانية

قال القديس يوحنا الدرجي: "ثوب المعمودية دنّسناه كلنا، لكن دموع التوبة هى جرن ثانٍ للمعمودية. المعمودية توبة ثانية"... ذلك لأن جوهر المعمودية هو "الموت مع المسيح، والقيامة معه" كقول الرسول بولس: «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أقِمْتُمْ أيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي إقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (كو2: 12). التوبة أيضًا "ميتانيا" (ميتا= تغيير، نوس= الذهن).. أي أن التوبة هي تغيير وتجديد الذهن، كقول الرسول: «وَلاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَة» (رومية 2:12). الإنسان التائب – في الحقيقة - يقوم بأمرين: 1- "ميتانيا" بالمعنى الحرفي، أن يغيّر ذهنه من طريق الشر إلى طريق الخير. 2- "ميتانيا" بالمعنى الحِسّي، أن يسجد بجبهته حتى إلى الأرض، ثم يقوم... تمامًا كأنه "مات وقام" مع المسيح! التغيير في التوبة - إذن- هو تغيير عميق فى الذهن، فبعد أن كان الإنسان يعيش بفكر السقوط والخطيئة، يغيّر ذهنه ليعيش بفكر القيامة والروح!. لذلك رسمت الكنيسة أن يكون الرشم الأول من رشومات الميرون على الرأس، لأن فيه "العقل" الذى يقود كل شيء في حياة الانسان.. فإذا ما تركناه لنفسه أو لعدو الخير، فقد يقودنا إلى الخطأ، أمّا إذا أسلمناه لقيادة الروح القدس، ودشّناه بالميرون، يستنير، ويقودنا بفكر الإنجيل وإرشادات الروح!! • إن خطيئة الشيطان بدأت بفكرة: «أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ» (إشعياء 14: 14). • وخطيئة الإنسان بدأت بفكرة: «تَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» (تك3: 5). • والتوبة أيضًا تبدأ بفكرة: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي» (لو15: 18). وهكذا تتغيّر الحياة كلها، تجديدًا لفعل المعمودية والميرون. ويستكمل الكاهن رشومات الميرون؛ الـ36 صليبًا هكذا: + صليب على الرأس: لتقديس الفكر. + 7 صلبان على الحواس: لتقديس الحواس. + صليبان على الصدر والبطن: لتقديس الأحشاء والقلب. + صليبان على الظهر: لتقديس الإرادة. + 6 صلبان على كل من الذراعين: لتقديس الأعمال. + 6 صلبان على كلا الساقين: لتقديس الخطوات. تصوّر معي - أخي القارئ - إنسانًا تغيّر بعمق، من الظاهر والباطن: الفكر والحواس والقلب والإرادة والأعمال.. هذا هو التائب الحقيقى!! .... فليعطنا الرب أن نتوب هكذا نيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
المزيد
25 سبتمبر 2022

كيف تقرأ الكتاب المقدس؟

يقول لنا إنجيل اليوم أنّ :" فريسى قام ليجربّة 0فقال له يسوع كيف تقرأ "الموضوع الذى نركّز عليه اليوم بنعمة ربنا هو كلمة " كيف تقرأ " فهو رجل حافظ الناموس0ومن جهة المعرفة هو عارف وقال ما هو الناموس0وبما أنّه حافظ فإنّه سيبدأ يسمع0فقال له رب المجد يسوع : كيف تقرأ 0فى الحقيقة ياأحبائى رب المجد يسوع لم يوجّه هذا السؤال للرجل الفريسى أو للشاب الغنى فقط0ولكن هو بيسأله لكل واحد فينا ويقول له :0 كيف تقرأ ؟! توجد مشكلة فى داخل حياتنا إننا عارفين الوصايا ونحفظها ولكن ممكن نكون لم نعيشها0فأنت كيف تقرأ ؟! أبونا قبل قراءة الإنجيل 0الكنيسة تخصص أوشية أى طلبة أو صلاة قبل قراءة الإنجيل0وتقول له " كى نستحق أن نعمل بأناجيلك المقدسة " لكى تجعلنا نسمع ونعمل وليس فقط نسمع0يعقوب الرسول يقول " لكى نكون سامعين عاملين لا خادعين أنفسنا " الوصية ياأحبائى تحتاج أن تنتقل فى حياتنا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة الحياة وهنا يقول رب المجد يسوع : كيف تقرأ ؟ نحب اليوم أن نتكلّم فى ثلاث نقط : 1- الوصية هى حياة :- ياأحبائى الإنجيل ليس مكتوب لمجرد معلومات0فهو ليس كتاب تاريخ0الإنجيل ليس سجلات0فرب المجد يسوع قال : " الكلام الذى أكلّمكم به هو روح وحياة " 0ويقول لنا الكتاب " فقط عيشوا كما يحق لإنجيل يسوع المسيح " فالإنجيل ليس المطلوب منه المعرفة العقلية0ولكن الإنجيل يتكلّم عن معاملات الله الحية مع شعبه " كما كان هكذا يكون " فهو يثبت فينا مقاصد الله0ويكشف لنا عن صلاح الله فى كل قصة وهى تكشف لنا عن خلاصنا نحن الآن0فعندما نقرأ عن عبور البحر الأحمر00وعندما نقرأ عن أبونا إبراهيم عندما يقدّم إبنه تكون القصة لنا ونكتشف أنفسنا فيه00فهو كتاب حياة0ولابد أنّ كلامه يدخل فى أعماق حياتنا0فكثيراً ياأحبائى تكون الوصية عارفينها ولكن يجب ياأحبائى أنّ الوصية تدخل فى الأعماق وتدخل فى الذهن وتقدّسه0وتدخل فى داخل القلب فتقدّس الإرادة فبذلك يكون قلب وذهن وإرادة وسلوك فيكون كيان مقدّس0فتتقدّس المشاعر وتبدأ الدوافع تجعل الإنسان يتحرك بالإنجيل وليس بنفسه فداود النبى يقول " سراجاً لرجلى كلامك ونوراً لسبيلى " فما الذى ينير الطريق ؟!00هو كلامك00داود النبى بيعبّر عن حُبة للوصية وتفاعله معها وتلّذذه بها 0فيقول له " أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة 00" فهل توجد علاقة بينك وبين الكتاب المقدّس أم لا ؟!0فهل مسنودين به أم لا ؟! وهل بنأخذ منّه وعد بالحياة الأبدية أم لا ؟! تخيّل أنّ هذا أجمل شىء فى بيتنا0فإحذر أن يكون مُهمل القديس الأنبا أنطونيوس أتوا إليه الجنود من عند الملك قسطنطين بموكب ومعهم رسالة من الملك0فخرج الجنود لإستقبال الموكب0وكانت الرسالة إلى الأنبا أنطونيوس فهو أضافهم ثم صرفهم0وكان الرهبان مشتاقين أن يعرفوا ماذا أرسل لهم الملك ، ففى اليوم الثانى توقّعوا أنّ الأنبا أنطونيوس سهر يقرأ الرسالة0وقد مرّ يومين وثلاثة فسألوه0فسكت0وقال لهم أراكم مشغولين جداً جداً برسالة الملك ياليتكم تكونوا مشغولين بالإنجيل هكذا 0أليسّ الإنجيل هو رسالة من الملك السماوى0فهو نقلنا إلى ملكوت إبنه0فالإنجيل هو بشارة مُفرحة0فماذا تريدون أكثر من ذلك0شىء يفرّحكم0 فهل قرأت الإنجيل فشعرت أنك مرفوع0فيقول الكتاب " لتسكن كلمة الإنجيل بغنى " ، أرميا يقول عنّه الكتاب أنّه أكل درج فيه سفر مكتوب فيه كلمة ربنا0وحزقيال وجده كالعسل0فأحلى طعم نُشبّه به الحاجات الأرضية فنقول ( مثل العسل )الإنسان ياأحبائى عندما يكون الإنجيل مكشوف له يكون فرحان0ومرفوع به0وخاضع له0فبولس الرسول يقول " نشكر الله لأنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التى تسلّمتموها " فأطيعها بقلبى0وأقول له يارب ساعدنى على تنفيذها0يارب إسند ضعفى0فنكون نحن البشارة المُفرحة للعالم 0فننقله للعالم بحياتنا لأنّه بداخلنا0فعندما حاولوا المضطهدين أن يقطعوا الأناجيل ويحرقوها 0الأباء قالوا لهم أنتم سوف لا تقدروا أن تحرقوها فى قلوبنا0ربنا فى العهد القديم فى سفر التثنية قال لموسى " ليكن الكلام الذى كلّمتك به على قلبك " فأين يضع الكلام ؟! فى قلبك000" تكلّم بها حين تمشى وحين تنام " حين تنام أى تقدّس عقلك وإنسانك الباطن0فتكون فى داخلك حين تنام0إجعلها على أبواب بيتك يريد أن يقول له أن تكون كلمة ربنا تكون أمام عينىّ0وأمام خطواتى وأقُصّها وتكون فى داخلك حين تنام وحين تقوم وعندما قام موسى بتسليمها ليشوع قال له " لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك أبداً " فهذه هى كلمة الحياة0هذه هى الوصية التى ربنا يريد أن يراها فى أولاده0فنحن فُقراء جداً فى العمل0ولذلك نجد أنفسنا لا يوجد عندنا القدرة على فعلها فداود النبى يقول له " خبأّت كلامك فى قلبى لكى لا أُخطأ إليك " ، فالإنسان يجب أن يفكر كيف يعيش الوصية0فربنا يسوع يقول " أنتم أنقياء من أجل الكلام الذى كلّمتكم به " اليوم ربنا يسوع بيقول لك وبيقول لى : كيف تقرأ ؟! فالوصية حياة يقول عن أبونا بيشوى كامل أنّه من ضمن أتعابه ( الإنجيل المُعاش ) 0أى أنّه الوصية لم يكتفى بأن يعرفها 0ولكنّه عاشها0كُلنا حافظين الوصية " حب قريبك كنفسك " فهل نعملها ؟ هل نعيشها ؟ ولذلك الإنجيل بيقول لك مع الشاب الغنى : كيف تقرأ 0وهنا ندخل فى كلمة كيف تقرأ ؟ 2- كيف نقرأ الإنجيل :- الإنجيل لا يُقرأ أبداً إلاّ بالصلاة والتأمل ورفع القلب00لا يُقرأ كدراسة وكمعلومات أو لنضيف لأذهاننا تعاليم0لا فالإنجيل يُقرأ بصلاة0الإنجيل مكتوب بالروح0إذن لابد أن يُقرأ بالروح لكى أفهمه00فهذا هو مفتاح الإنجيل0ولا تحاول أن تخضع المعلومات لتحليلات ذهنية كثيرة أو أن تجعل عقلك يعمل فاصل بينك وبين الوصية0فعقولنا هى التى تخضع للوصية فلابد أن أقرأه بالروح0ولابد أن أقرأه بصلاة وبتأمل0فأنا أقرأ وأسجد وأنتظر وأقول له ماذا تريد يارب أن تقول لى0وأغمض عينّى وأرفع قلبى00ما أجمل أن أكتشف عناية الله بىّ فى الإنجيل0فالإنجيل مكتوب لكى أكتشف حقيقة حُب الله للإنسان ويكشف كم أنّ ربنا بيدبر الخلاص للإنسان فالمفسرين عندما حلّلوا الكتاب المقدس وجدوا أنّ الإنجيل بيتكلّم بالأكثر عن الإنسان من الله 0فهو يريد أن يقول أننا موضع حُب الله0وموضع تدابير الله0وأنّ هذا الكتاب هو من أجل تقديس الإنسان فلماذا كل هذه التعاليم الكثيرة ؟ كل هذا هو لنا0ولذلك يقول كل هذه الأمور كُتبت لتذكيرنا0ولمنفعتنا0 فعندما نقرأه نقرأه بروح خاشعة0بروح صلاة0بروح تأمّل فإن كان داود النبى يقول له " إكشف عن عينّى لأرى عجائب من ناموسك " ، فعندما أقرأ قصة فى الكتاب المقدس أقول له يارب ماذا تريد أن تقول لى فى هذه القصة ؟ ما أجمل أن نشعر عندما نقرأ الكتاب المقدس أنّ ربنا يكلّمنا " كلمة ربنا تُضىء العينين " 0وهى تُضىء القلب فأتقدّس وذهنى يُنير0وقلبى يملُك عليه محبة ربنا فعندما أقرأ الكتاب المقدّس أقرأه بالروح0لابد ان أتضرع لربنا لكى يكشف لى عن الوصية ولكى أعرف ما هى الوصية التى يريدنى اليوم أن أخرج بها وأأخذها0وأفرح بها فعندما يقرأ الإنسان قصة سقوط آدم0ويأخذها كقصة فيعاتب ابونا آدم ويقول له : أنت جلبت لنا العقوبة 00ولكن لابد أن أجعل نفسى شىء غير أبونا آدم وممكن ما أنا أفعله هو ما فعله أبونا آدم وهذا ما أفعله كل يوم ، فسقوط آدم هو سقوطى أنا وآدم هو أنا ففى طاعة أبونا إبراهيم لا أقول له برافو عليك0فأنت خليل الله00ولكن هل أنا عندى إستعداد أن أترك من أجل الله0هل عندى إستعداد أن أخرج من سلطان أرضى وعشيرتى لكى أُرضى الله ؟!! وبذلك يبتدأ الإنجيل يكون له السلطان أن يوجّه حياتى كلها0والإنسان يشعر بسلطان الله0وعندما يقف الإنسان يصلى يقول له " أنت قلت " أنت فقلت " أنّ شعور رؤوسكم كلها محصاه00وأنتم أفضل من عصافير كثيرة "00ما أجمل أن نذّكر الله بمواعيده0فنقرأه بالروح ونقرأه بالصلاة0ما أجمل أنّ الإنسان قبل أن يقرأ يقول له يارب إكشف عن عينّى لأُبصر عجائب من ناموسك00إكشف لى عن كنوزك وأسرارك " أبتهج بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة "0 3- بعض تداريب عملية :- مامن آية نقرأها إلاّ ونقول له : يارب ساعدنى أن أعيشها لابد أن نُقرّب المسافات حتى ولو بمحاولة حتى ولو برغبة0فمثلاً لنفرض أنّ الآية تقول لى " صلّى كل حين صلّى بلا إنقطاع " ، فأننى سأقول يارب كيف يكون ذلك وأنا عندى شغل0فأنا بنام بالليل0فكيف أصلّى كل حين ولا أملّ ! إغمض عينيك وإرفع قلبك وقل له يارب ساعدنى0وعندما ترفع قلبك ستجد حالاً معونة0وتجد مساندة وتجد الله يقول لك يعنى أن تكون فى حالة من رفع القلب بإستمرار فحين تتكلّم وأنت فى الشغل00ويكون بإستمرار عندك آية تردّدها0وتكون فى حالة إحساس بحضور الله0فإحفظ عدّة آيات ورددّها وقل له " اللهم إلتفت إلى معونتى يارب أسرع وأعنى00اللهم بإسمك خلّصنى وبقوتك أُحكم لى00إستمع يا الله صلاتى00محبوب هو إسمك يارب فهو طول النهار تلاوتى00يارب يسوع المسيح خلّصنى " عبارات قصيرة تجعلنى أشعر بإستمرار أنى فى حضرة الله0صدقّونى ياأحبائى يوجد ناس عاشوا حياتهم لكى يتقنوا وصية0فيوجد سائح روسى وصلت به الدرجة أن يردد إسم يسوع آلاف المرات فى اليوم أعطيكم تدريب أن تُردّدوا إسم يسوع 50 مرة فى اليوم0وعندما أردّد إسم يسوع أحبّه فإبتدأت أزوّد العدد أكثر0فأكلّمة بكمية غير محدودة فلابد أن أنظر للآية وأقول كيف أتمتّع بها0فالإنجيل لابد أن يدخل فى داخلنا ونشبع به ونتمتّع به فداود النبى يقول " بفرائضك أتلذذ " 0فتدخل فى داخلى وتعمل فى حياتى فتوجد آية أخرى تقول " طوبى لأنقياء القلب " فأقول له يارب أنا مشتاق أنّ قلبى يكون نقى00فما الذى يجعلنى غير نقى ؟! فهل شهوات ، غرور ، بُغضة لفلان ، حقد فكل هذا يجعلنى غير نقى0ولكن نقاوة القلب تجعلنى أعاين الله0فأجد الوصية لها سلطان0وهى التى تعمل بنا وليس نحن0فالوصية قادرة أن تُضىء حياتى ولكن لابد أنكّ تُبدى إستعداد0فهى بتعمل الجزء الأصعب 0وأنا طوال اليوم أفكّر كيف يكون قلبى نقى0وأقول له ساعدنى ياربى لكى يكون قلبى نقى00تعال إنت يارب وإعمل وسلّط ضوءك على قلبى لكى يكون نقى0فالموضوع هو موضوع تطبيق للوصية فتوجد آية أخرى تقول " حب قريبك كنفسك "وأبدأ أقيس محبتى للناس0وياترى عندى فعلاً إحساس بمشاعر حقيقية بحُب كامل نحو الكل00ياترى هل أنا أحب الذى يحبنى فقط أم إنى أحب الكل00وأبتدأ أقف عند هذه الآية يوم وإثنين وثلاثة00وأحوّل الآية إلى صلاة0وإلى سلوك0فيصير الإنجيل هو الذى يقودنى0ويتكلّم فى حياتى0ما أجمل أن أقيس نفسى على الآية0وأبتدأ أشتاق أن أعملها فأنت كيف تقرأ الإنجيل ؟! رب المجد يسوع اليوم مع الشاب الغنى الفريسى الذى له الشكل الحلو0وهو شكله أنّه حافظ الوصايا00شكله من الخارج حلو جداً0وبيسأل عن الحياة الأبدية0فهو عنده إشتياقات للحياة الأبدية حلوة0وعندما سأل كان حافظ الإنجيل ولكن المهم أن نعيش الإنجيل0فممكن أن نكون لا نعمل بكلام الإنجيل00فما الفائدة ؟! صعب أن يكون إنتمائنا لربنا يسوع شكلى0ولا نعيش الإنجيل0ما أجمل ياأحبائى الإنسان الذى يجتهد فن أن يحوّل المعرفة إلى حياة000فنحن ينقُصنا الفعل ربنا يسوع يعطينا ويكشف لنا كنوز كلماته0ويعطينا خزائن الروح0ويعطينا نعمة ويسند كل ضعف فينا ولإلهنا المجد دائماً أبدياً أمين0 القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك الاسكندرية
المزيد
18 يوليو 2022

البر الذاتي

بعض الناس أبرار في أعين أنفسهم، والبعض الآخر أبرار في أعين الآخرين، والبعض الثالث أبرار قدام الله. البار في عيني نفسه: هو شخص لا يشعر بخطيئته وبالتالي لا يقدم توبة عنها، هو حساس لخطايا الآخرين بينما يتضايق إذا ما واجهه الآخرين بأخطائه فيدافع ويرد لهم الاتهامات، أو يعجب بنفسه ويتمركز حول ذاته، مثل الفريسي الذي بعد أن استعرض أنشطته الروحية الخارجية دان العشار المسكين الذي لام نفسه فقط وطلب المغفرة من الله فهو خاطئ ! (لوقا 18: 13). أمّا البار في أعين الآخرين: فهو الذي يسعى جاهدا لكي ينال الكرامة من الآخرين، وقد يدفعه ذلك إلى السلوك برياء، واقتراف الكثير من الخطايا إذا كان في ذلك إرضاء للناس، كما يجعله ُيخفي خطاياه عن الناس حتى لا يحتقرونه. مثل هذا وذاك يهمس الله في أذنه قائلاً أنا عارف أعمالك .. (رؤيا 2 : 2). وأمّا البار قدّام الله: فهو الذي يأتي بالملامة على نفسه ويرى جميع الناس أبراراً إلاّ هو، إن هذا الفكر النقي جعل "خيّاطاً" في مدينة الإسكندرية ُمساوياً في درجته للأنبا أنطونيوس أب الرهبان. ليس المهم أن يمدحك الناس، أو تمتدح ذاتك – إذا لم تجد من يمدحك- وإنما أن يزكيك الله "لانه ليس من مدح نفسه هو المزكّى بل من يمدحه الرب" (2كو10 : 18).فقد يخطئ إنسانا فلا يلحظ الناس خطيئته، وبالتالي ينجو من تبكيتهم أو احتقارهم، وقد لا يعاقبه الله أيضا في حينها بسبب طول أناته. ولكن عليه أن يحاسب نفسه في مخدعه، أي لا يمررها لنفسه (حتى إن كان الله قد تغاضى عنها أو لم يلحظها الناس). لقد كانت أعظم شهادة كتابية عن زكريا وأليصابات هي "وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم (لو1 : 6). نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
01 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس ميخا

ميخا "لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد"" مى 4: 3 " مقدمة عاش أفلاطون الفيلسوف اليونانى ما بين عامى 428، 348 ق. م.، ومع أنه كان فى الأصل رجلاً غنياً متمتعاً بخيرات كثيرة، لكن قلبه كان ممتلئاً من الألم والأحزان على مآسى الناس حوله، لقد وجد أن الجهل والشر والتعاسة من نصيب جميع الأمم والقبائل، وجلس الرجل يفكر فى عالم أفضل من العالم الذى يراه، وبات يحلم باليوم الذى ينتهى فيه نزاع الناس، وتموت أطماعهم وتنتهى حروبهم ومخاوفهم، ومن أجل ذلك كتب كتابه « الجمهورية » يتخيل فيه العالم السعيد والجمهورية تقسم الناس إلى ثلاث طبقات، الطبقة العالية طبقة الحكام والرؤساء، والطبقة المتوسطة طبقة رجال الجيش، والطبقة السفلى طبقة التجار والزراع والصناع، ويقول أفلاطون إن الموسيقى والألعاب الرياضية والفضيلة ينبغى أن تنتشر فى جمهوريته هذه، وقد حاول أن يطبق هذا النظام فى مدينة سراكوسا بصقلية إذ كان صديقاً لملكها، غير أنه فشل وطرد وكاد يعرض حياته للهلاك،.. وبعد مدة طويلة أدرك أفلاطون نقطة الخطأ فى جمهوريته، إذ أنه فى البداءة لم يتنبه كثيراً إلى اللّه الذى يحفظ هذه الجمهورية، ويحرسها، ولأجل ذلك عندما كتب كتابه « القوانين » صحح هذا الخطأ، ودعا إلى الإيمان باللّه والدين!!... ولو أن أفلاطون قرأ ما كتبه ميخا وإشعياء من قبله بقرنين ونصف من الزمان لاستطاع أن يفهم كيف يتحقق هذا العصر الذهبى للعالم،... إنه لا يمكن أن يتم إلا باللّه، وفى اللّه،... ولسنا نعلم أيهما كان أسبق فى النبوة عن السلام ميخا أو إشعياء، وإن كان البعض يتصور أن ميخا كان أسبق فى النبوة، مع أنه كان أصغر من إشعياء، وأياً كان الأمر، فإن الفارق بين النبيين أن ميخا كان من طبقة الشعب، بينما كان إشعياء من أعلى الطبقات فى عصره، كما أشرنا عند الحديث عن شخصيته،... وقد عاش ميخا يدافع من الطبقات الكادحة والفقيرة، وحقوق الإنسان، وانتظارات اللّه من البشر، وها نحن نتابع قصته فيما يلى: ميخا من هو كان ميخا المورشتى فى مطلع الحياة وربيع العمر، فى الوقت الذى بلغ فيه إشعياء كمال رجولته وقوتها، وقد كان ميخا من طبدقة العامة وأفراد الشعب بينما كان إشعياء من الطبقة الأرستقراطية، وعلى الأغلب من العائلة المالكة، كما سبقت الإشارة عند دراسة شخصيته، وقد نشأ ميخا فى مورشت، القرية الصغيرة الواقعة على بعد خمسة وعشرين ميلا إلى الجنوب الغربى من أورشليم، والبقعة التى ولد فيها وعاش بقعة جميلة خصبة غنية بالمراعى والأشجار وحقول الحنطة، وما من شك أن مخيا قد تأثر بها، فصفت نفسه، وأرهفت أحاسيسه، وقويت عاطفته، واستجابت حياته لما فى الريف، من صدق واستقامة وصراحة ونقاء وغيرة، وحيث أننا لا نعرف شيئاً عن أبيه أو أمه، فمن المعتقد أنه نبت بين أحضان عائلة ريفية فقيرة، ولكن اسمه « ميخا» أو « من مثل الرب » مما يشجع على أن عائلته كانت تقية تعلى مجد اللّه، وتتمنى أن يسير ولدها فى طريق الرب والتشبه به!!.. ومع أن رسالة ميخا كانت ليهوذا وإسرائيل معاً، إلا أنها على وجه أخص كانت موجهة إلى بنى يهوذا، وقد حدث فى يهوذا كما حدث فى أورشليم، أن تباعدت المسافة بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، وانتشر الجشع والاغتصاب والظلم والسلب، مما دفع ميخا، وهو ابن الشعب، ومن صميم أفراده، إلى أن يهب للدفاع عن الحقوق البشرية الضائعة. لقد أبصر ميخا القسوة والوحشية والفساد وضياع الشعور الإنسانى مستولية على الرؤساء والقضاة والكهنة والأنبياء الكذبة، وأبصرهم جميعاً وقد سحقوا المساكين والبؤساء تحت أقدامهم فامتلأ من روح اللّه والقوة والبأس، وكان النبى العظيم الذى استخدمه اللّه لنصرة المظلومين التعساء!!.. هب ميخا للدفاع عنهم، وتحدث عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد، وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل عصراً ذهبياً مجيداً، يثبت فيه بيت الرب، وتخرج من صهيون الشريعة، عندما يسود المسيح سيادته الكاملة، وتتخضع كل الشعوب تحت موطئ قدميه، وتزول من البشرية أشباح الحرب والمخاوف والمجاعات والمتاعب والمعاثر، ويختم ميخا سفره وهو يرينا سبيل الإنسان العملى إلى هذا السلام!!... ومع أن أسلوبه لا يرقى، ولا شك، إلى مستوى إشعياء، لكنه اتسم بالجزالة والصفاء والقوة، والمنطق والكناية والمجاز، وشدو التعبير،، ومن المرجح أنه بدأ رسالته حوالى عام 725 ق.م. حتى عام 686 ق.م. ميخا والدفاع عن الحقوق البشرية كان ميخا واحداً من أعظم الأبطال القدامى، الذين وقفوا إلى جانب الفقير والمظلوم والضعيف والمستعبد،.. وقد جاء ذكر دفاعه الباسل الذى هز - ولا شك - الأمة بأكملها، أيام الملك حزقيا، كمثال عظيم، لا لدفاعه فحسب، بل أكثر من ذلك لعظمة الملك الذى قبل هذا الدفاع: « إن ميخا المورشتى تنبأ فى أيام حزقيا ملك يهوذا وكلم كل شعب يهوذا قائلا هكذا قال رب الجنود: إن صهيون تفلح كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر. هل قتلا قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا. ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذى تكلم به عليهم. فنحن عاملون شراً عظيما ضد أنفسنا » " إر 26: 18 و19، ميخا 3: 12 "... والذى يتابع ميخا وهو يتحدث عن الحقوق البشرية الضائعة، يرى تصويراً دقيقاً لكيفية ضياعها، ويحس قبل كل شئ أن « المال » هو السبب الأكبر لضياعها،... إن محبته حقاً هى « أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة »... " 1 تى 6: 10 " وهل نشأت كل لوثات التاريخ وشروره وآثامه إلا بسبب المال وما يتبعه من رذائل؟؟ فى ظلمة الليل وعندما يهجع الناس جميعاً فى مضاجعهم، يسهر عبيد المال ليفكروا ماذا يفعلون فى نور الصباح للحصول على المال، وقد قال عنهم ميخا فى مطلع الأصحاح الثانى: « ويل للمفتكرين بالبطل والصناعين الشر على مضاجعهم. فى نور الصباح يفعلونه لأنه فى قدرة يدهم، فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها والبيوت يأخذونها، ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه »... وهكذا يتطور حب المال بأصحابه من فكرة، إلى شهوة، إلى ظلم، إلى اغتصاب، وما من شك فى أن أى إنسان، يتطور إلى هذه الحال، لا يمكن أن يكون إنساناً بل وحشاً رهيباً جشعاً،.. على أن الأمر الذى يبدو أكثر شناعة وبشاعة هو سقوط الأنبياء والقضاة والكهنة تحت سلطانه،... أما الأنبياء فقد ضللوا الشعب، وخدعوه بنبواتهم الكاذبة، إذ حدثوه بالناعمات، وتكلموا له عن السلام، وأبوا أن يشيروا إلى خطاياه وآثامه، لاستجلاب رضاه، والانتفاع بعطاياه وهباته،... وألا ينطبق هذا على عدد كبير من الخدام الذين يتملقون الأغنياء والسادة والجماهير من أجل المصلحة والمادة والمغنم؟!! كما أن القضاة تفشت بينهم الرشوة، فكرهوا الحق، وعوجوا المستقيم، ورموا بالعدل إلى الأرض... هذا فى الوقت الذى كان فيه الكهنة يعملون بالأجرة، ويخدمون بالثمن!!.. ولكن السؤال: كيف يمكن لميخا وهو رجل فقير أن يقف فى وجه السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء؟ وكيف يستطيع أن يندد بآثام المجتمع التى يبصرها دون خوف أو تردد أو تراجع؟!.. لقد كشف ميخا عن السر فى قوله: « لكننى أنا ملآن قوة روح الرب وحقاً وبأساً لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته »... " ميخا 3: 8 " إن ميخا وحده أعجز من أن يرفع صوته فى مواجهة الفساد والطغيان ولكن ميخا وقد امتلأ من روح الرب، أضحى ممتلئاً من القوة والحق والبأس، وإذا كان بطرس قد ضعف أمام الجارية، عندما كان خلواً من هذا الامتلاء، فإنه بعد الامتلاء أضحى القادر على أن يواجه سادة الجارية، مهما كان مركزهم وسلطانهم!!... وهل نستطيع بذلك أن نجد الرجاء العظيم فى أنه «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود »" زك 4: 6 "؟! … وهل نستطيع أن نتذكر أنه على قدر ما نسمح للروح أن يملأنا، بقدر ما نتحول إلى ميخا آخر أو بطرس أو بولس، أو أبطال الكنيسة الذين صنعوا المعجزات، لأنهم امتلأوا إلى آخر الحدود من روح اللّه القادر على كل شئ؟!.. ومع أن ميخا كان رجلاً وطنياً، لكن وطنيته لم تغط الشر أو تداهن الفساد، ومن ثم نراه يندد بأورشليم أقسى تنديد، فهو لا يرضى لها أن تبنى وتجمل بالدماء والظلم والرذيلة والاعوجاج،... كما أنه لم يعف السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء من نتائج سلوكهم الشرير، وإثمهم الفاضح لتوكلهم المزيف على الرب: « قائين أليس الرب فى وطنا لا يأتى علينا شر »... كلا بل سيأتى الشر و« تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً، ووجبل البيت شوامخ وعر » " ميخا 3: 11 و12 " وفى كل مجتمع يقسو فيه الرؤساء، ويتاجر فيه الكهنة، ويحب رجال الدين المال، وتكثر الرشوة، عينيه كانت أو مادية، ويضيع القضاء العادل، لابد أن تحل على هذا المجتمع، بصورة قاسية، كارثة مريعة تأتيه من اللّه المنتقم العادل حارس حقوق الإنسان فى كل الأجيال. ميخا ورؤيا السلام العظيم بعد أن تحدث ميخا عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد،... وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل، عصراً ذهبياً مجيداً يثبت فيه بيت الرب، وتتخرج من صهيون الشريعة، وتسعى الأمم إلى اللّه، ويسود الدين والسلام والأمن والرخاء والمحبة،... وقد اشترك إشعياء مع ميخا فى التنبؤ عن هذا العصر كما جاء فى إشعياء " 2: 2 - 4، مى 4: 1 - 5 "، ولا يمكن أن نجزم أيهما كان أسبق فى نبوته ورؤياه، فإذا أخذنا بالعمر، فإن إشعياء كان أسبق،... غير أن ميخا ألحق بالنبوة: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه، ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد »... وقد شجع هذا البعض على الاعتقاد أن نبوة ميخا كانت أسبق، على اعتبار أنها لم تنس واقع الشعوب المحيطة بشعب اللّه،.. فى بيته بعد أن تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً،... أما إشعياء فقد تجاوز هذه الحقيقة مأخوذاً بالنبوة نفسها، وأثرها، الذى لا يمكن معه الوقوف عند الصورة الجميلة دون النظر إلى الظلال القاتمة!!.. على أية حال إن كليهما دفعا الأجيال إلى التطلع نحو ذلك العالم المجيد المرموق،... وقد اختلف المفسرون، واتجهوا، وجهات مختلفة أشهرها وجهتان، يطلق عليها: ما قبل الألف سنة، و« مابعد الألف سنة »، أما قبل الألف، فتشير إلى مجئ المسيح الثانى حرفياً لمدة ألف عام، أما بعد الألف فتشير إلى المجئ روحياً لمدة ألف سنة، أو مدة طويلة لا يشترط أن تكون حرفياً ألف سنة،... أو فى لغة أخرى أن الخلاف يدور حول جبل الرب، وهل المقصود به الجبل الحرفى، أو أورشليم المدينة التاريخية، التى يعتقد الآخرون بالمعنى الحرفى أنها ستتعود إلى مجدها العظيم التليد، بل إلى مجد لم تعرفه فى تاريخها السابق على الإطلاق،... الأمر الذى لا يقبله أو يأخذ به المؤمنون بالمجئ الروحى، والذين يفسرون الأمر كله تفسيراً روحياً، فأورشليم عندهم، هى أورشليم الروحية التى قال عنها الرسول بولس فى رسالته إلى غلاطية: « وأما أورشليم العليا التى هى أمنا جميعاً فهى حرة »... وكان يفرق فى ذلك بينها وبين: « أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها ».. "غل 4: 25 " وامتدت به التفرقة وهو يتحدث عن الصليب، فكشف عما يعتقده فى معنى « إسرائيل » وهو لا يقصد إسرائيل بحسب الجسد، أو الجنس اليهودى، بل يقصد المؤمنين أبناء اللّه فى القول: « فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة وعلى إسرائيل اللّه »... " غل 6: 16 " وهو يقابل ما ذكره الرسول يوحنا فى سفر الرؤيا « ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فى ما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند اللّه مهيأة كعروس مزينة لرجلها »... " رؤ 21: 1 و2 " ولا يتصور بداهة عند الرسولين، أن الحديث عن أورشليم هو بالمعنى الحرفى، بل بالمعنى الروحى أو « الكنيسة » وهو ما نعتقد أنه التفسير الصحيح لنبوة ميخا وإشعياء،... إن جبل الرب المرتفع هو ذلك الحجر الذى قطع بغير يدين والذى قال عنه دانيال للملك نبوخذ نصر: « كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر فى الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذى ضرب التمثال فصار جبلا كبيراً وملأ الأرض كلها ».. " دا 2: 34 و35 " وكل هذه إشارة إلى ملك المسيح وكنيسته التى ستملأ الأرض،... والذى لا خلاف عليه - حتى مع الآخذين بالمعنى الحرفى - أنه لا يمكن أن يأتى العصر الذهبى أو يتم السلام فى الأرض دون أن يقبل الجميع من اليهود أو الأمم الرب يسوع المسيح، مخلصاً وفادياً ورباً، كشرط أساسى لإتمام الخلاص وامتداد ملكوت اللّه على الأرض، إذ أن علاقة المسيح بأى إنسان قبل أن ترتبط بمكان أو زمان أو ظرف، هى علاقة روحية شخصية، كما أن خلاصه شامل كامل لم يعد وقفاً على اليهود، بل يتسع ليشمل شعوباً وأمماً كثيرة، إذ أنه خلاص الإنسانية بأكملها، الإنسانية التى جاء المسيح ومات من أجلها ليفتديها ويحررها من اللعنة والخطية والإثم، وهو خلاص أبدى لا يتزعزع أو ينهزم... إن ممالك الأرض تقوم وتسقط... فأين مصر وصور وصيداء، وبابل واشور واليونان وروما!!؟ أين الممالك التى انحنى العالم لسلطانها ومجدها العظيم؟؟... لقد بادت وتلاشت ولم يبق منها إلا قصة تذكر فى التاريخ، وتروى مع الأيام أما خلاص الله فأبدى ثابت إذ: « أن جبل الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه شعوب » " ميخا 4: 1 " أو فى لغة أخرى إن خلاص المسيح سيسمو ويعلو على كل ما شمخت به جبال العالم، ومرتفعات الزمن،... وهو خلاص قوامه حياة البر: « فيعلمنا من طرقه ونسلك فى سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب »... " ميخا 4: 2 " ومن الملاحظ أن هذا الخلاص سيكون عظيما وقوياً ومؤثراً فى حياة الناس إذ سيملأهم بالغيرة المقدسة فيقولون بعضهم لبعض: « هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب »... وهل هذا إلا إعلاناً قوياً عن محبتهم للّه، ومحبتهم بعضهم لبعض؟؟.. قال القديس زافييه لمحدثيه: « أنتم تقولون إنهم سيقتلوننى بالسم وإنه لشرف كبير لخاطئ مثلى لا أجرؤ على الحلم به، ولكنى مستعد أن أموت عشرة آلاف مرة من أجل خلاص نفسى واحدة»... وهذا الخلاص سيكون مصحوباً بالنور: « فيعلمنا من طرقه » وسيادة المسيح وخلاصه لابد أن يصحبهما النور المشرق،.. أليس هو نور العالم ومن يتبعه لا يمشى فى الظلمة؟، ألم يأت ليمنحنا النور الذى به نخلص من الجهل والخرافات والفساد والخطية؟؟.. وخلاص المسيح مرتبط بالسلام: « فيقضى بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمه سيفاً ولا يتعلمون الحرب فى مابعد ».. وهذا الخلاص مرتبط آخر الأمر بالرخاء: « بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب لأن فم رب الجنود تكلم »... " مى 4: 3 و4 ".ومع أن هذا الخلاص فى أحضان المستقبل، ويرتبط بالمسيح، إذ أن آخر الأيام التى ذكرها يعقوب وموسى ودانيال وإشعياء وميخا وغيرهم من الأنبياء تشير إلى عصر المسيا، وقد فرق ميخا على ما يعتقد بعض المفسرين بين هذا العصر، وعصر السبى البابلى الذى قال فيه قبل هذه النبوة مباشرة: « لذلك بسببكم تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر »... ولعل هذا هو السبب الذى جعله يضيف العبارة التى لم ترد فى إشعياء: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد » فيرى البعض أنها تتحدث عن سلوك إسرائيل فى السبى، وهم يرفضون العبادة الوثنية التى أحاطت بهم، وكان هذا سر رجائهم وقوتهم وعودتهم من السبى،... ويرى آخرون أنها تشير إلى الكنيسة، وهى تأخذ طريقها إلى الانتصار الكاسح، فى عالم الوثنية والفساد والشر، وهو التصور الأصح فى نظرنا.وقد تحدث ميخا عن هذا الخلاص على أية حال بلهجة الواثق المتأكد: « لأن فم رب الجنود تكلم » " ميخا 4: 4 ".. وهل يتكلم الرب إلا بالصدق، وهل يغفل عن أن يسهر على كلمته ليجربها؟!!.. لئن كان هناك من رجاء أو أمل فى كل التاريخ فى أن نصل إلى الأمن والسلام والاستقرار، والرخاء والمحبة والأخاء، فإن هذا الرجاء أو الأمل يرجع إلى ثقتنا الوطيدة فى كلمة اللّه!!.. وما من شك فى أن الكنيسة المسيحية يقع عليها وحدها الرجاء فى الدفاع عن الحقوق البشرية،... مع أن الإنسان يسير بطيئاً جداً فى الدفاع عن هذه الحقوق،.. وها نحن نرى هيئة الأمم المتحدة وقد أقرت ميثاق « حقوق الإنسان »، وهو ثمرة جهاد طويل منكوب بالحروب والمتاعب والمجازر البشرية، وهو يتكون من اثنتين وعشرين مادة، وهو جزءان: الجزء الأول منه يتكون من أربع مواد، ويسير إلى ضرورة احترام الدولة المشتركة فيه لكل نصوصه وقوانينه، ومساهمتها فى تنفيذ مواده بكل ما تملك من قوة ونفوذ - والجزء الثانى ويتكون من ثمانى عشرة مادة، ويفصل حقوق الإنسان فى الحياة والسلامة والحرية والأمن والملكية والدين والكلام.. غير أن الأمم المتحدة لا تملك قوة تنفيذية تلزم المخالف بهذه الحقوق، وإنما هى أحلام أفلاطون تظهر مرة أخرى على سطح التاريخ كما تمنى فى الجمهورية أو « اليوتوبيا، أى عالم الكمال، الذى كان يحلم به توماس مور أو « المدينة الفاضلة » التى كان يتخيلها فرنسس بيكون!!.. على أن كلمة اللّه، تتجه بنا بكل يقين إلى أورشليم السماوية، إلى مدينة اللّه النازلة من السماء، بمعنى أنها ليست مجرد حلم أو خيال بشرى، أو جهد يقوم به الإنسان فى الأرض، بل هى من صنع اللّه القادر على كل شئ، وبترتيب منه، وعلى الصورة التى قصد أن تكون، أو هى كنيسة المسيح الممجدة السماوية التى جعلت ملتون يقول: " أخرج من غرفتك الملكية يارئيس ملوك الأرض، وألبس ثوب جلالك ومجدك الإمبراطورى المنظور". ميخا والديانة المطلوبة من الإنسان تحدث ميخا عن الخراب الذى جلبته الخطية، والمستقبل اللامع الذى يراود أحلام الإنسان فى كل الأجيال والعصور، وكان لابد أن يتحدث عن السبيل للوصول إلى هذا المستقبل، وأكد ميخا أنه لا يوجد سوى الدين الذى ينقل الإنسان إلى العصر الذهبى اللامع، عصر السلام،... ومن الغريب أن الرئيس « كارتر » وهو يخطو إلى تولى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أكد هذه الحقيقة فى حفل تنصيبه، إذ جعل شعاره ما قاله ميخا فى الأصحاح السادس وهو يعبر تعبيراً عظيماً رائعاً عن مضمون الحياة الدينية: « قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك » " ميخا 6: 8 " وقد لا يعلم الكثيرون أن هذه الآية قد وضعت فى الغرفة الملحقة بالقسم الدينى فى مكتبة الكونجرس فى واشنطون، ومبنى هذه المكتبة من أفخم المبانى فى العالم، وهو يشمل أقساماً عديدة مستقلة لكل العلوم والمعارف، ولكل فرع غرفة مطالعة خاصة به زينت بما يلائمها، وعندما أرادوا أن يضعوا فى غرفة المطالعة بالقسم الدينى آية مناسبة، إستشاروا بعضاً من كبار رجال الدين وأساتذته، وأخيراً تم الاتفاق على الآية المذكورة فى نبوات ميخا!!.. وقد كشف ميخا بهذه الآية عن خلاصة الدين الصحيح، على أروع ما يمكن أن يكون... فالحياة الدينية أولا وقبل كل شئ علاقة شخصية بين الإنسان وربه أينما يكون وكيفما يكون: « قد أخبرك أيها الإنسان »... وفى الحقيقة أن هناك علاقة بين اللّه والأمة، وقد أسس اللّه علاقته مع شعبه على أجمل أسلوب، وهو حتى فى محاكمته للشعب يذكره بهذه العلاقة العظيمة: « ياشعبى ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك؟ أشهد على. إنى أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم ياشعبى أذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور - من شطيم إلى الجلجال لكى تعرف إجادة الرب » " ميخا 6: 3 - 5 "..ومن الحقيقة أيضاً أن هناك علاقة بين اللّه والأسرة: « أما أنا وبيتى فنعبد الرب » " يشوع 24: 15 "... لكن هذا كله، يؤسس على العلاقة الشخصية الفردية بين الإنسان وربه... وهذه العلاقة لا يعرفها الإنسان خيالا أو ظناً أو تصوراً أو هماً بل هى ثمرة إعلان اللّه للبشر: « قد أخبرك »... إذ إن اللّه ليس ساكناً أو ساكتاً فى السموات، بل إنه يسعى وراء كل إنسان ليخبره، وقد أكد السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله: «خرافى تسمع صوتى » " يو 10: 27 " إذ أنه يتكلم إلينا بأصوات متعددة، وهو يريد أن ننصت ونسمع، وكلمته فى الكتاب، والضمير، والحوادث، والظروف المحيطة بنا، تتحدث إلينا، وطوبى لمن يصغى لهذه الأصوات،... وهو يؤكد أكثر من ذلك أن هذه الأصوات ملزمة، وليس لى أن أختار قبولها أو رفضها كما يشاء لى الهوى أو الرفض: « وما يطلبه منك الرب »..والديانة المطلوبة فى الواقع ليست شخصية فحسب، بل وروحية أيضاً، إذ أنها ليست مجرد فرائض أو طقوس، ويبدو أن كثيرين تصوروا هذا، وربما سألوا اللّه عن طريق ميخا: « بم أتقدم إلى الرب وأنحنى للإله العلى؟ هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت؟ هل أعطى بكرى عن معصيتى ثمرة جسدى عن خطية نفسى » " ميخا 6: 6 و7 " على أن اللّه أجاب أن الديانة الحقيقية أعمق من ذلك بما لا يقاس، إذ أنها ديانة روحية لبابها السجود للّه بالروح والحق!!.. وفد على مدينة أدنبره، جماعات لا هم لها دينيا إلا إثارة الإنفعالات والعواطف والتغير من مذهب إلى مذهب،.. وقد كتب أحد وعاظهم إعلاناً فى الصحف عن المجئ الثانى للمسيح تحت عنوان: « ملايين الناس لن يروا الموت »... إذ كانوا يعتقدون أن المجئ سيأتى وشيكاً،... وما أن قرأ أحد خدام اللّه هذا الإعلان. حتى كتب إعلاناً عن عظته المزمع أن يلقيها يوم الأحد تحت عنوان: « ملايين الناس مائتون فعلا »... ومن الواجب إنقاذهم، قبل إشباع غرائزهم وفضولهم، وشكراً للسيد الذى أغنانا بذبيحته عن ألوف الكباش وربوات أنهار الزيت!! والديانة المطلوبة: « أن تصنع الحق »... إذ أن الدين ليس مجرد نظريات غيبية أو تخيلية، بل هو حقيقة عملية »... والحق دائماً مثلث، يبدأ بالحق تجاه اللّه الذى هو الحق، وما نحن إزاء اللّه إلا وكلاء فى كل شئ،... فى العهد القديم لم تكن الأرض ملكاً لأصحابها، وكانت تقسم، ولا يجوز لإنسان أن يبيعها أو يتخلى عنها مطلقاً، لأن الأرض ملك اللّه، والإنسان مجرد وكيل وبهذا المعنى نحن جميعاً وكلاء أمام اللّه!!.. والحق تجاه الآخرين ألا نكيل بكيلين ونزن بميزانين،... أخذ مدير الشركة يقرع أحد الموظفين أمامه، لأن الموظف أخبره بأن ابنه فشل فى الامتحان، ونسب إلى الأب الإهمال وسوء التربية، وما هى إلا لحظات حتى وصلت برقية تقول إن ابن المدير قد رسب فى الإمتحان،... فغمغم قائلا: إن الوقت ما يزال أمامه إذ هو صغير،!!... لم يستطع أن يطبق الحق على نفسه كما طبقه على الآخرين!! والحق تجاه النفس، هو مناقشتها ومحاسبتها على الدوام، والتوفيق معها دون تساهل أو تهاون أو كسل!!.. على أن الديانة أكثر من ذلك هى ديانة الرحمة: « وتحب الرحمة »... فإذا كان الإنسان على الدوام يتجه صوب الحق، فإن الأجمل والأعظم أن يحب الرحمة، وأن يمتلئ قلبه بها، وأن يشفق على الآخرين، وأن يتسامح مع خطاياهم وآثامهم، قتل رجل فى حماقته فى الحرب طفلة فى التاسعة من عمرها، ومات هو، وذهب أبواها إلى زوجة الرجل وقالا: لقد سامحناه إذ كنا ننظر إليه كمريض أكثر منه قاتلا!!.. تحدث أحدهم إلى كلارا بارتون مؤسسة الصليب الأحمر الأمريكى، عن إساءة قاسية حدثت فى حياتها، فأجابت: لقد تعودت أن أنسى إساءات الناس!!... والديانة الرحيمة هى التى تجتهد فى أن تقيل عثرة الآخرين.. قال مدير المدرسة لشاب أخطأ: يا ابنى أنا أعلم أنك تعثرت، وسأكتب عثرتك هذه بقلم رصاص، فإذا لم تتكرر سأمحوها!!... وليس أعظم وأجمل من أن نمد أيدينا إلى الضعيف والمنكوب، والمتألم والعاجز لأنه: « طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ».. " مت 5: 7 ".ثم هى آخر الأمر ديانة التواضع: « وتسلك متواضعاً مع الهلاك، والتواضع الصحيح هو النضوج بعينه، إذ هو التواضع أمام عظمة إلهنا، ومن نحن التراب والدود والرمة، أمام إله عظيم مجيد سرمدى!!... بل نتواضع إزاء إحسانه: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك »... " تك 32: 10 " وأكثر من هذا كله أمام غفرانه العجيب، ولا نملك هنا إلا أن نقف مع ميخا، وهو يختم سفره بأقوال من أروع الأقوال التى سطرت أمام عين الإنسان فى كل التاريخ: « من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يسر بالرأفة. يعود يرحمنا يدوس آثامنا وتطرح فى أعماق البحر جميع خطاياهم. تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم »..! " ميخا 7: 18 - 20 "..
المزيد
30 مايو 2023

بمناسبة عيد حلول الروح القدس

مجاري الأنهار تُفرِّح مدينة الله نرتّل هذه الآية كلّ يوم ضمن مزامير الساعة الثالثة.. وهي تشير بوضوح لعمل الروح القدس الذي يجري في الكنيسة مدينة الله كما تفيض الأنهار في قوّة وسلاسة، فتروي وتُغني وتُحيي الأرض.. فمن خلال الأسرار المقدّسة والصلاة والتسابيح والكلمة الإلهيّة يعمل الروح ويُغني أولاد الله، ويقدِّسهم أيضًا.. هذا هو الروح الذي أودعه السيّد المسيح في الكنيسة، تحقيقًا لوعده: "لا أترككم يتامي" (يو14: 18).. "مَن آمن بي.. تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو7: 38).. "إن عطش أحد فليُقبِل إليّ ويشرب" (يو7: 37).. "مَن يعطش فليأتِ، ومَن يُرِد فليأخُذ ماء حياة مجّانًا" (رؤ22: 17).. هذه هي مجاري الأنهار التي تفرّح الكنيسة مدينة الله وتقدّسها وتُغنيها..! مدينة الله أيضًا هي النفس البشريّة التي قيل عنها: "أعمال مجيدة قيلت عنكِ يا مدينة الله" (مز86: 3 الأجبية)، وعن سُكنى الروح القدس فيها قال السيّد المسيح: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو17: 21).يصِف القدّيس مكاريوس الكبير في عظته الأولى النفس البشريّة بأنّها مثل المركبة الشاروبيميّة الحاملة للعرش الإلهي (حز1)، وحيثما يقودها الروح تسير (حز1: 20) فيقول "النفس التي حُسِبَت أهلاً لشركة روح نور الربّ واستُنيرَت ببهاء مجده غير الموصوف، والتي أعدّها هو لتصير له عرشًا ومنزلاً، تلك النفس تُصبِح كلّها نورًا... يقودها ويجلس عليها البهاء الفائق الوصف الذي لمجد نور المسيح."ويقول أيضًا في عظته الثانية والأربعين "النفوس التي قد ازدانت بالمعرفة والفهم والذِّهن الشديد الحِدَّة هي أشبه بمُدُن عظيمة، إنّما يلزم أن تحترس لكي تكون مُحصّنة بقوّة الروح القدس، لئلاّ يتسلّل إليها الأعداء ويخرّبوها."هكذا نفهم أنّ سرّ غنّى النفس وقوّتها هو سكنى الروح القدس فيها بالنعمة وتغذيته لها، كيف يحدث هذا؟! يجيبنا القديس مكاريوس الكبير في عظته التاسعة عشرة قائلاً "الذي يريد أن يأتي إلى الربّ ويؤهَّل للحياة الأبديّة ويصير مسكِنًا للمسيح ويمتلئ من الروح القدس، حتّى يمكنه أن يصنع ثمر الروح ووصايا المسيح بنقاوة وبلا لوم، يلزمه أن يبدأ هكذا: أوّلاً يؤمن بالرب بثبات، ويكرِّس نفسه بالتمام لكلمات وصاياه.. وينبغي له أن يواظب على الصلاة كلّ حين، منتظرًا الرب في إيمان، ومتوقِّعًا على الدوام افتقاده ومعونته، وموجِّهًا نظرَ ذهنِه أبدًا صوبَ هذا الغرض. ثمّ يتوجَّب عليه.. أن يغصِب نفسه إلى كلّ صلاح وإلى كلّ وصايا الرب: فمثلاً ليغصِب نفسه إلى التواضع أمام كلّ إنسان، وليحسب نفسه أدنى وأشرّ الكلّ، غيرَ طالبٍ من أحد كرامةً أو مديحًا أو مجدَ الناس كما هو مكتوبٌ في الإنجيل، بل جاعلاً الرب وحدَه ووصاياه أمام ناظرَيه على الدوام، مُبتغيًا إرضاءه هو فقط في وداعة قلب.. بالمِثل فليُعَوِّد نفسه بكلّ قوّته أن يكون رحيمًا، لطيفًا، شفوقًا، صالحًا.. وفوق الكلّ فليتذكّر بلا نسيان تواضع الرب وسيرته ودِعتَه.. وليواظب على الصلوات، متوسِّلاً على الدوام بإيمان، لكي يأتي الرب ويسكن فيه ويكمّله ويمَكِّنه مِن جميع وصاياه، ولكي يصير الرب ذاته مَسكِنًا للنفس."هكذا يرسم لنا القديس مكاريوس الطريق للامتلاء من روح الله؛ بالمواظبة على الصلاة، والتغصُّب في تنفيذ وصايا الإنجيل مع الاتضاع.. وبهذا تجري فينا أنهار المياه الحيّة وتفرِّح قلوبنا على الدوام..! القمص يوحنا نصيف القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل