المقالات

25 نوفمبر 2022

مفهوم الاتحاد الزيجي الاتحاد الاجتماعي

تكلمت معكم في المرات السابقة تحت عنوان "اسرتي مقدسة"، ونحاول الإجابة على السؤال: كيف نبني أسرة مقدسة؟ وقلنا أن هناك خمسة ابعاد اساسية: تكلمنا عن البعد الفكري أو العقلي، والبعد العاطفي أو القلبي، والبعد الروحي أو الايماني، واليوم نتكلم عن البعد الاجتماعي أو النفسي حين تتكون أسرة، فهي تعيش في مجتمع في بلد في مدينة، وتُكتب في سجلات الدولة أن فلانًا تزوج فلانة يوم كذا في بلد كذا وهو ما نسميه "التوثيق"، ويتم داخل الكنيسة من خلال سر الزيجة المقدس وأيضًا من خلال عقد الزواج الذي نوقع عليه، ويصبح هو العقد الرسمي. الخطبة لها محضر، أما الزواج فله عقد. أريد أن أضع امامكم عدة اساسيات للبعد الاجتماعي: (1) كل انسان له شخصية مستقلة: كلا الرجل والمرأة لهما شخصية، هو عالم صغير وكذلك هي. يجب أن يعرف كلاكما أن الشخصية لا يمكن أن تتغير، لكن يمكن أن تتطور. (2) الشخصية تتكون من عوامل كثيرة: هذه العوامل تختلف من شخص لآخر، هناك البيئة التي نشا فيها، التربية في المنزل سواء من الأسرة الصغيرة أو الأسرة الكبيرة، الجينات العوامل الوراثية والتي لها دور كبير جدًا في حياة الإنسان، كذلك الثقافة، الظروف الحياتية والمادية لكل أسرة، مستوى ونوعية التعليم، مستوى إشباع الاحتياجات لأن الوفرة تربّي والحرمان أيضًا يربّي، الحالة الصحية، ماضي الشخص وحاضره... الخلاصة أن الشخصية تتكون من عوامل كثيرة، وطبيعي أن يكون بين الخطيبين اختلافات، لذا لا بد من حساب الأمر جيدًا. (3) مكانة الخطيب أو الخطيبة في أسرتيهما: هل هي بنت وحيدة؟ هل لها إخوة ذكور؟ هل هي كبرى إخوتها أو ضغراهم؟ ومثل هذا الكلام يُقال عن الرجل أيضًا. مكانة الشخص في الأسرة تجعل التربية تختلف، والتعليم، وأحيانًا في الظروف الصحية.عند الخطبة يبدأ الخطيبان في التعامل مع المجتمع بهذه الحيثية، ويجب الانتباه لما يلي: (1) ألّا يجهل أحد الخطيبين قدسية الزواج: بل تكون نظرتهما للزواج نظرة مقدسة. الإعلام لا يقدم صورة حقيقية أو صورة نقية عن الزواج، فلا بد أن تكون عندكم نظرة لقدسية الزواج وإلّا كيف ستبنون أسرة مقدسة؟ (2) نحن نؤمن بشريعة الزوجة الواحدة: لقد ارتبط كلٌّ منكما بالآخر لنهاية عمره، لهذا قرار الزواج قرار خطير، ويسمّي كلاكما الآخر: "شريك الحياة". (3) خطية الزنا تدمر الزواج: فكونوا في منتهى الحرص لكي تحموا أنفسكم من السقوط في هذه الخطية التي تدمر الزواج. لا بد أن عند الخطيب والخطيبة عفة في الحواس والأفكار، لا تسمحا للفظ خارج أو غير لاسق أن يخرج من أفواهكما. احفظوا حواسكم نقية عفيفة. ويجب على الرجل أن تكون نظرته للمرأة وقورة، يظهر في سلوكه وتصرفاته أنه يحترم المرأة، بل أن العفاف يعطيك أن تنظر حتى إلى الجنس بنظرة قدسية. (4) الارتباط الدائم بالكنيسة: الدورات التي تعملها الكنيسة تعطيك فرصة لتكون مرتبطًا بالكنيسة باستمرار. ابتعدوا عن حالات الفتور، شجعوا بعضكما على حضور القداسات والاجتماعات، فكل منكما حارس للآخر. ومن الأمور المهمة جدًا في فترة هي علاقة الخطبيبن بالإنجيل، فالإنجيل هو الذي يبنينا، ومن أجمل التداريب لكل المخطوبين قراءة سفر الأمثال معًا ليتعلموا منه كيفية التعامل مع الحياة وماهية الحياة. (5) البعد عن النمط الاستهلاكي: ابتعدوا عن التبذير وعن البخل، أما الطريق الوسطى فهي التدبير. كونوا معتدلين. وإياكم الارتباط بشخص كسول، لأن الرخاوة لا تمسك صيدًا. لا تستقوا المبادئ والقيم للأسرة السعيدة من الإعلام والدراما، اخذروا أن يشكّل الإعلام وعيكم. احذروا مفاهيم السحر واللجوء إلى أعمال الشيطان، بل تمسكوا بالله. ابتعدوا عن الإدمان بكل صوره وأشكاله، لا تستسهلوا الأمور الصغيرة, تذكروا قول الكتاب: «اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ تَدُوسُ الْعَسَلَ، وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ كُلُّ مُرّ حُلْوٌ» (أم27: 7). انتبهوا لأن الإدمان أحد أسباب بطلان الزواج إذا ثبت أن أحد الخطيبين كان مدمنًا قبل الزواج. كذلك هناك قائمة بالموضوعات التي يجب أن تراعوها في النواحي الاجتماعية: أ- التواريخ المهمة عند شريك حياتك، ومراعاة الوقت الذي يقضيه الخطيبان مع بعضهما البعض. ب- المال، التدبير حلو، كونوا معتدلين في كل شيء، واحذروا البخل. ج- المظهر اللائق في المجتمع، ولائق للطرف الآخر، كونوا وقورين في ملابسكم، والكلام للشباب كما للشابات. د- العمل: لا تجعلوا أحاديث العمل تأخذ كل وقتكما. ه- المشاركة بين الخطيبين حتى لو في شيء بسيط تجعل كلًّا منهما يخرج عن أنانيته. و- المكالمات تكون وقورة، تبادلا فيها الحب والكلمات الطيبة. ز- الصور: ما أسهل التقاط الصور الآن، انتبهوا أن تكون صوركم حسنة، وأنصحكم نصيحة مخلصة: لا تنشروا صوركم وأنتم مخطوبان على النت. ما الفائدة من نشرها؟ كما أن هناك من يتلاعبون بصوركم. ح- كونوا حريصين في المجاملات، ولتكن المجاملة عاقلة وبمشاركة الخطيبين. ط- ضعا حدود جيدة ومحترمة بينكما ي- في الزيارات هنزور ليكن قلبكما منفتحًا تجاه أسرة الآخر، واعملا ما يسر أحدكما الآخر. ك- الصداقة تقوّي كل علاقة، وكلا الخطيبين يجب أن يكونا أصدقاء. الصداقة هي قمة العلاقات الإنسانية غير الرسمية (البشر عندهم نوعين من العلاقات: علاقة غير رسمية، وعلاقة رسمية تُكتب في ورق). الصداقة والزواج متماثلان، الفرق أن الصدافة ليس بها البعد الجنسي. لو كنتم أصدقاء وبقيتم أصدقاء طول عمركما، يسكون زواجكما ناجحًا. في فترة الخطوبة اسعيا لتقوية الصداقة بينكما.ربنا يحفظكم وتبنوا بيوتًا مقدسة، ولإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
24 نوفمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس تتناي والي عبر النهر

تتناي والي عبر النهر (عزرا 5: 3) اسم فارسي يعني "هِبة" أو "عطية" أحد ولاة الفرس في جنوب نهر الفرات عارض في إعادة بناء الهيكل (عز 5: 3 و6 و6: 6 و13). وهو الوالي الفارسي على مناطق يهوذا الواقعة عبر النهر على تخوم السامرة، وذلك في عصر الملك داريوس هستاسبس، في الوقت الذي كان فيه زربابل والشيوخ الذين معه يقومون ببناء هيكل الله في أورشليم (عز 5: 3و 6: 6 و13). وكان تتناي يعطف على اليهود، فعندما بلغته أنباء إيقاف العمل في بناء بيت الله في أورشليم، ذهب هو وشتربوزناي ورفقاؤهما لفحص الأمر، وكتبوا رسالة متزنة إلى داريوس الملك، أدت إلى صدور أمره إلى تتناى وشتربوزناي ورفقائهما الآفرسكيين في عبر النهر، أن يتركوا اليهود يبنون الله، وأن يعطوهم من مال الملك من جزية عبر النهر، النفقة عاجلا حتى لا يبطل العمل، بل وأن يعطوهم " ما يحتاجون إليه من ثيران وكباش وخراف محرقة لإله السماء، وحنطة وملح وخمر وزيت حسب قول الكهنة الذين في أورشليم " وعمل تتناي ومن معه على تنفيذ أمر الملك عاجلا حتى تمكن زربابل ومن معه من استكمال بناء بيت الله وتدشينه (عز 5:6 6: 17) تعالوا نتعرف أكتر على تتناي ونشوف هنتعلم ايه؟ 1- تتناي العطوف تتناي برغم انه غير يهودي لكنه تعاطف من أجل العمل العظيم وهو بناء بيت لله ومدينة الله أورشليم فتعاطف مع اليهود واستطاع أن يستميل الملك باصدار أمر بالبناء 2- تتناي شعاع النور في عصر عزرا ونحميا نلاحظ أن كل المقاومة كانت من الداخل إن كان طوبيا العموني و جشم العربي وسنبلط ونوعدية النبية في زمن نحميا أو رحوم صاحب القضاء وشمشاي الكاتب في زمن عزرا لكن نشوف أن تتناي الوالي الأممي هو شعاع نور ليد الله في الأحداث 3- تتناي وعدم التعقيد ممكن تستخرج قرار جمهوري أو ملكي لكن ممكن يوقف القرار ده موظف عادي بأي حجة لو كان تتناي مش عايز ينفذ أمر الملك كان ممكن يعمل إعادة عرض ويماطل في التنفيذ لكنه سهل كل الأمور بل وأعطى حتى الطعام للعاملين تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- لين قلبك بالعطف على المستضعفين لأنك لو عطفت على الضعيف يعطيك الله نعمة فوق نعمة 2- تذكر دائما في وسط التجارب والأحزان وان اتقفلت في وشك كل الأبواب، الله يفتح لك باب حتى لو من العالم لكي يريك يده في الأحداث 3- لا تكن سبب في شقاء أحد بالتعقيد المستمر في كل الأمور نحن نصلي ونقول سهل لنا طريق التقوى فلا تكن سبب عثرة في رجوع الناس عن الطريق
المزيد
23 نوفمبر 2022

المحبة هي قمة الفضائل

المحبة هي الفضيلة الأولى بل هي جماع الفضائل كلها. وعندما سئل السيد المسيح عن الوصية العظمى في الناموس، قال إنها المحبة" تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك وتحب قريبك كنفسك" " وبهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء"وقد جاء السيد المسيح إلى العالم لكي ينشر المحبة، المحبة الباذلة المعطية، محبة الله للناس، ومحبة الناس لله، ومحبة الناس بعضهم لبعض. وهكذا قال لرسله القديسين "بهذا يعلم الجميع أنكم تلاميذي، إن كان فيكم حب بعضكم نحو بعض" وبهذا علمنا أن نحب الله، ونحب الخير.. ونطيع الله من أجل محبتنا له، ومحبتنا لوصاياه تربطنا بالله علاقة الحب، لا علاقة الخوف. إن الخوف يربى عبيدًا، أما الحب فيربى الأبناء، وقد نبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة ولكنها يجب أن تسمو وتتطور حتى تصل إلى درجة الحب، وعندئذ يزول الخوف وفى إحدى المرات قال القديس العظيم الأنبا انطونيوس لتلاميذه (يا أولادي، أنا لا أخاف الله). فلما تعجبوا قائلين (هذا الكلام صعب يا أبانا)، حينئذ أجابهم القديس بقوله (ذلك لأنني أحبه، والحب يطرح الخوف إلى خارج) والإنسان الذي يصل إلى محبة الله، لا تقوى عليه الخطية. يحاربه الشياطين من الخارج، وتتحطم كل سهامهم على صخرة محبته وقد قال الكتاب "المحبة لا تسقط أبدًا" وقال سليمان الحكيم في سفر النشيد "المحبة قوية كالموت مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" ولذلك قال القديس أوغسطينوس (أحبب، وأفعل بعد ذلك ما تشاء)وقد بلغ من أهمية المحبة أنها سارت اسمًا لله فقد قيل في الكتاب المقدس "الله محبه، من يثبت في الله، والله فيه"إن المحبة هي قمة الفضائل جميعًا. هي أفضل من العلم، وأفضل جميع المواهب الروحية، وأفضل من الإيمان ومن الرجاء ولهذا قال بولس الرسول إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن، وإن كانت لي نبوءة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وليست لي محبة، فلست شيئًا". "العلم ينفخ، والمحبة تبنى". إن الدين ليس ممارسات ولا شكليات ولا فروضًا، ولكنه حب وعلى قدر ما في قلب الإنسان من حب لله وحب للناس وحب للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير إن الله لا تهمه أعمال الخير التي يفعلها الناس، إنما يهمه ما يوجد في تلك الأعمال من حب للخير ومن حب لله فهناك أشخاص يفعلون الخير ظاهرًا وليس من قلوبهم، وهناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم القانون، أو خوفًا من الانتقام، أو خوفًا من العار، أو خجلًا من الناس وهناك أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من الناس في صورة مديح أو إعجاب كل هؤلاء لا ينالون أجرًا إلا إن كان الحب هو دافعهم إلى الخير لذلك ينبغي أن نخطط بكل فضيلة بالحب، ونعالج كل أمر بالحب، يكون الحب دافعنا، ويكون الحب وسيلتنا، ويكون الحب غايتنا ونضع أمامنا قول الكتاب "لتصر كل أموركم في محبة". تدخل الحب في كل الفضائل: كما ينبغي أن يدخل الاتضاع في كل فضيلة لكي يحفظها من الزهو والخيلاء والمجد الباطل، كذلك ينبغي أن يدخل الحب في كل فضيلة لكي يعطيها عمقًا ومعنى وحرارة روحية ولنضرب لذلك بضعة أمثلة.. الصلاة مثلًا، هل هي مجرد حديث مع الله؟ إنها أكبر من ذلك، إنها اشتياق القلب لله، وهى تعبير عن الحب الداخلي لذلك قال داود النبي في مزاميره "يا الله أنت إلهي، عطشت نفسي إليك التحقت نفسي وراءك كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي""وجدت كلامك كالشهد فأكلته" والذهاب إلى بيت الله، أهو نوع من العبادة، أم هو أيضًا حب؟ نسأل في هذا داود النبي، فيقول في مزاميره "مساكنك محبوبة، أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب". "فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب" "واحدة طلبت من الرب، وإياها التمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي..".ليست الصلاة فقط هي علاقة حب، ولا الذهاب إلى بيت الله فحسب، وإنما العبادة كلها.. إن العبادة ليست هي حركة الشفتين بل القلب، إنها حركة القلب نحو الله. إنها استبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل التعلق بشهوة الله كذلك خدمة الله، والسعي لخلاص أنفس الناس كلها أعمال حب الخادم هو الإنسان الذي يحب الناس، ويهتم بمصيرهم الأبدي، ويسعى إلى خلاص نفوسهم. إنه كالشمعة التي تذوب لكي تضئ للآخرين، يقول مع بولس الرسول "وددت لو أكون أنا نفسي مرفوضًا، من أجل أخوتي وأنسبائي حسب الجسد" "من يفتر وأنا لا ألتهب؟!" لذلك كل إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلم الحب أولًا، قبل أن يخدم الناس فالناس يحتاجون إلى قلب واسع، يحس إحساسهم، ويشعر بهم ويتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويحتمل ضعفاتهم، ولا يحتقر سقطاتهم، بل أيضًا يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم وصدودهم وعدم اكتراثهم. وبالحب نستطيع أن نربح الناس والإنسان الذي يعيش بالحب، عليه أن يحب الكل. إن القلب الضيق هو الذي يحب محبته فقط، أما القلب الواسع فيحب الجميع حتى أعداءه ولهذا قال السيد المسيح له المجد "أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" وأعطانا مثلًا وقدوة من الله نفسه الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" لذلك علينا أن نحب الكل، ولا نضيق بأحد ونأخذ درسًا حتى من الطبيعة نتعلم من النهر الذي يعطى ماءه للكل، يشرب منه القديس، كما يشرب منه الخاطئ انظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكل من يعبر بها، يتمتع برائحتها البار والفاسق، حتى الذي يقطفها، ويفركها بين يديه، تظل تمنحه عطرها حتى آخر لحظة من حياتها ليتنا نعيش معًا بالحب، وأقصد به الحب العملي، كما قال الكتاب "لا نحب باللسان ولا بالكلام، بل بالعمل والحق" لأن كثيرين قد يتحدثون عن الحب، وأعمالهم تكذبهم، هؤلاء الذين وبخهم الله بقوله "هذا الشعب يعبدني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا" وأهم ما في الحب هو البذل، وأعظم ما في البذل هو بذل الذات لذلك قال السيد المسيح "ليس حب أعظم من هذا، أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه" فلنحب الناس جميعًا، لأن القلب الخالي من الحب، هو خال من عمل الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله وإن لم نستطع أن نحب إيجابيًا فعلى الأقل لا نكره أحدًا فالقلب الذي توجد فيه الكراهية والحقد هو مسكن للشيطان إن لم نستطع أن نحب الناس، فعلى الأقل لا نكرههم، وإن لم نستطع أن ننفع الناس، فعلى الأقل لا نؤذيهم فليعطنا الله محب البشر، الذي أحب الكل في عمق، أن نحب بعضنا بعضًا، بالمحبة التي يسكبها الله في قلوبنا، له المجد الدائم إلى الأبد آمين. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
22 نوفمبر 2022

النفس بين الملامة الباطلة والرجاء الحي

يلوم الإنسان نفسه أحيانا ويقسو في ذلك حتى تصغر، وقد يكون هذا بإملاء من الشيطان ليوقعه في اليأس. وفي المقابل قد يشفق على ذاته ويدللها ويلتمس لها الأعذار ويغرقها في رجاء كاذب فينتج عن ذلك أن تمتنع عن التوبة !! أمّا اقتران الملامة بالرجاء فهو مزيج إلهي. الشيطان يسهل لنا الخطية ونحن أمامها، ويسوق لنا أمثلة لقديسين سقطوا ثم تابوا مثل داود وشاول الطرسوسي وموسى الأسود. فإذا سقطنا يعرض أمامنا أمثلة لخطاة هلكوا أمثال عخان وعزيا وحنانيا وسفيرة. يقول أحد القديسين: "جيد ألاّ تسقط فإذا سقطت فجيد ألاّ تؤجل التوبة فإذا تبت فجيد ألاّ تسقط أيضاً فإذا لم تسقط فاشكر الله على نعمته". إن الميطانية وهي تعبير عن التوبة، وتمثل حركة الحياة الروحية، عبارة عن نصفين أولهما من أعلى إلى أسفل (نحني ركبنا) والثاني من أسفل إلى أعلى نقف ثم نحني ركبنا. وهي تعني أننا باخطية انحدرنا إلى أسفل وبالرجاء قمنا من جديد، واستعدنا مكانتنا. تذكر قول الكتاب " لا تشمتي ني يا غدوتي إذا سقطت أقوم إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي" (ميخا 7 : 8)، ويقول أحد القديسين " لا توجد خطية تغلب محبة الله". نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
21 نوفمبر 2022

«إِذَا أَرْضَتِ الرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ، جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضًا يُسَالِمُونَهُ» (أم16: 7) (2)

4- طلب رؤساء الكهنة من أمير الكتيبة أن يُنزل إليهم بولس لمحاكمته في الهيكل، فأنزله تحت حراسة مشدّدة، وبينما بولس يدافع عن نفسه أمام المجمع صار صياح عظيم ومنازعة شديدة... فخاف الأمير أن يقتلوا بولس فأمر العسكر أن ينزلوا ويختطفوه من وسطهم ويأتوا به إلى المعسكر وهكذا أنقذه للمرة الثانية من أيديهم. 5- اتفق أربعون رجلًا من اليهود المتعصبين لقتل بولس، وصاموا قائلين إنهم لا يأكلون ولا يشربون حتى يقتلوا بولس، واتفقوا مع رؤساء الكهنة على هذه المؤامرة الدنيئة، وطلبوا من رؤساء الكهنة أن يستسمحوا أمير الكتيبة بإنزال بولس إليهم كأنهم مزمعون أن يحاكموه وفي الطريق يقتلونه.سمع ابن أخت بولس بهذه المؤامرة فذهب إلى خاله في المعسكر وأخبره، فاستدعى بولس أحد الضباط وكلفه أن يوصل الشاب للأمير ليخبره بالأمر، ولما سمع الأمير بالمؤامرة قام بترحيل بولس من أورشاليم إلى قيصرية تحت حراسة مشددة. وهكذا أنقذه من أيدي اليهود للمرة الثالثة، وهو رجل وثني لا يعرف بولس، ولكن الله الذي يدبر لأولاده من يحميهم حتى لو كان من أعدائهم. 6- لما تولّى فستوس الولاية نزل إلى أورشاليم فعرض عليه اليهود أن يستحضر بولس إلى أورشاليم للمحاكمة وهم صانعون كمينًا ليقتلوه في الطريق، ولكنه رفض هذا العرض وأمرهم أن يذهبوا إلى قيصرية العاصمة حيث بولس ويحاكموه هناك. وهكذا أنقذ بولس من مؤامراتهم للمرة الرابعة. 7- لما رفع بولس دعواه إلى قيصر، رتّبوا له السفر إلى روما مع أسرى آخرين، وسلموهم إلى قائد مائة من كتيبة أوغسطس قيصر (وهي كتيبة الحرس الإمبراطوري)، واسم القائد يوليوس وهو رجل روماني وثني ولكنه طيب ومحب، فعامل يوليوس بولس بالرفق طول الرحلة الشاقة، وأذن له أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل منهم على عناية (أع27: 3).تعرضت السفينة إلى رياح وزوابع شديدة، وتعرضت للغرق عدة مرات، والله ينقذ الركاب من أجل صلوات بولس. ولما قربوا من جزيرة مالطة تكسرت السفينة في الخليج المُسمّى حتى الآن خليج مار بولس. رأى العسكر أن يقتلوا الأسرى لئلا يسبح أحد منهم فيهرب (أع27: 42)، فيُقتل العسكري حارسه بدلًا عنه، ولكن قائد المائة إذ كان يريد أن يخلّص بولس منعهم من هذا الرأي (أع27: 43). وهكذا أنقذ بولس من القتل للمرة الخامسة. نيافة الحبر الجليل الأنبا متاؤس أسقف دير السريان العامر
المزيد
20 نوفمبر 2022

نسمع ونعمل

مثل الزارع الذى كثيرا نسمعه فى الكنيسه ونقراءه فى الكتاب المقدس هو يعبر عن حالنا دائما لانه يتكلم عن نوعيات متنوعه بتستقبل كلمه الله ,البذره واحده لكن المشكله فى التربه ,الانجيل الذى فى بيتك هو نفسه الذى عند غيرك ببيته هو الانجيل الذى قراءه الانبا انطونيوس هو الانجيل الذى قراءه القديسين ,الكلمه وحده لكن المهم التربه تكون مهيئه ,كل واحد فينا لديه كتاب مقدس وكلمه الله متاحه ,نشكر الله ان البذره ليست نادره وليس الحصول عليها بصعوبه,فهى موجوده ومتوفره بشكل قوى,ولكن تسقط على انواع من الترب,فى ارض مجرد طريق اى ياخذ الامور بشكل عابر فكلمه ربنا تلمسك من الخارج ولا تتدخل فى ارض محجره بمعنى تدخل كلمه ربنا داخلها لكن لا توجد فرصه لان لايوجد اصل لها فتجف فى ارض افضل لكن مليئه بالشوك,والشوك هو هموم العالم تقبل كلمه ربنا لكن مع الوقت نجدها اتخنقت بالشغل والاولاد والبيت والمسئوليات وضعف الاشتياقات , وفى الارض الجيده هذا الامر يمثلنا فى حياتنا وكل يوم, وعلى كل واحد فينا ان يهيئ تربته لاستفبال كلمه ربنا,ممكن واحد يقرا الانجيل لمجرد القراءه وهذا جيد ,وفى اخر يبذل مجهود فى القراءه ,وفى الذى يقراء ويقضى وقت طويل مع الكلمه اى ان الكلمه ثمر وتفغل داخله الاباء القديسين يعملونا ان نردد كثيرا كلمه ربنا داخلنا وكئننا نعطيها فرصه لتعمل وتنمو ,فلا يوجد شئ يقدر يضبط غرائزنا وطبعنا وانساننا العتيق مثل كلمه ربنا التى قال عنها انها محييه,ادخل كلمه الانجيل داخلك تجد انها حولت الموت الذى داخلك لحياه هى فاعله ,مثل البذره الصغيرفى داخلها حياه,يجب ان تثق ان كلمه ربنا حيه ,فما علاج الموت الذى بداخلنا ,الحياه فى الوصيه لذلك منا من ينظر للانجيل ويشعر انه مقصر معاه,اجعل انجيلك فى بيتك مفتوح ,خصص وقت للانجيل ,خصص وقت لترديد ايات من الانجيل , خصص وقت لانك تحول الذى تقراءه الى تداريب عمليه بحياتك لينطبق عليك الكلمه التى تقول " ان لا نكون سامعين فاخادعين انفسنا فسامعين عاملين",نسمع وتعمل ,خذ الايه وصلى بها ورددها داخلك ,لا تترك الايه الا بعد ان تترك تاثير فى حياتك نحن نرى ان المسيح هو الكلمه " فى البدء كان الكلمه" ,والانجيل هو الكلمه يعنى المسيح هو الانجيل, الذى يريد ان يرى المسيح يري الانجيل, والذى يريد ان يعرف الانجيل يعرف المسيح, ومن هنا يصير بينك وبين المسيح والكلمه علاقه قويه,هذا مانراه فى الكنيسه فلا يوجد قداس بدون قراءه الكلمه فالجزء الاول من القداس يسمى "قداس الكلمه"وهو القراءات ثم"قداس الذبيحه" والاثنين يوصلو لبعض ,وتجد نفس الهتافات مثل " مبارك الاتى باسم الرب" تجدها عند قراءه الانجيل وعند التناول ,ومثل "الليلويا" عند الانجيل وعند التناول عند الانجيل نفرح وعند التناول نفرح ,الاتنين يوصلو لبعض لذلك حاول ان تستخدمهم كسلاح لعلاجك الكلمه والافخارستيا اقوى سلاحين ,فى العهد القديم عندما يريدو ان يستعيدو عافيتهم الروحيه وعلاقتهم بربنا كانو يستعينو بحاجتين الفسح والشريعه ,الشريعه هو الكلمه والفسح هو الافخارستيا , تريد ان حياتك تكون صح ابنيها على هذين العمودين اقراء واتناول كتير وسترى عجبنا بلاش تستقبل الكلمه بشكل سطحى او بقساوه قلب وتتضع حوائط لاستقبال الكلمه مثل الارض الجريه ,اما الارض التى بلا شوك تستقبل الكلمه لكن المشغوليات والعوائق الكثيره ,وهذه من اصعب ما يوجهنا فى حياتنا وعصرنا الشوك الكثير الذى لم يعطى فرصه لنمو الشجره ولنمو البذره ,وفى الاخر الارض الجيده . حول الامر الى صلاه اطلب من الرب غير ارضى الى ارض جيده ,انزع الاشواك ,ابدل الارض الحجريه ,اجعلنى اقبل كلمتك بشكر وفرح ,لذلك الكلمه الى تخبئها داخلك هى التى تثمر "خبئت كلامك فى قلبى كى لا اخطئ اليك " ,خبئ كلمه ربنا داخلك وشاهد ماذا تفعل بك , هتحول الاراده الضعيفه , هتديك روح قداسه, هى الفاعله ,ثق فيها عمرك ما هتشوف كلمه وتجدها حيه ,او كتاب له الالاف السنين كلمه فاعله ولازالت جديده ,عمرك تقرا كتاب يكون عمر زمن كتابته 1600 سنه ومع ذلك تجده نسيج واحد ,هو كلمه من عند الله ,فعندما تهمل فى الانجيل يبقى بتهمل فى خلاصك ,فكيف ننجو نحن اذااهملناه ربنا يعطينا قلوب واذان مفتوحه ومهيئه لاستعداد الكلام ويعطينا اراده روحيه لنسمع ونعمل.يكمل نقائصنا ويسند كل ضعف فينا بنعمتهِ ولإِلهنا المجد دائماً أبدياً آمين . القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك الاسكندرية
المزيد
19 نوفمبر 2022

إنجيل عشية الأحد الثاني من شهر هاتور

تتضمن الحث على طلب السعادة الباقية والاعـراض عن الشهوات الفانية مرتبة على فصل زنابق الحقل . ( لو ۱۲ : ۲۷-۳۱ ) إذا كان زهر الحقل الذي هو ليس ضروري الوجودفي قوام حياة البشـر لأنه لم يخلق للمأكل ولا للمشارب ولا للملابس ولا لغير ذلك . بل ليحرق بالنـار كما قال الكتاب يهتم به الله هكذا لأنه من مخلوقاته . فكيف يهمل الاهتمام بمصـالح عبيده الطائعين ؟ وما بالنا نحن نجهد نفوسنا ونتعب أجسامنا ونخاصم عبيـد ربنـا . ونستعمل الربا والظلم والإيمان الكاذبة في معاملاتنا . لنحصل الأمور المحتاج إليـها ولا نطلبها بأمانة من ربنا لنعطاها بأيسر الطلب ومن أفضل الجهات . وكيف أبـدل المؤمنون الاجتهاد هكذا في تحصيل الأمور الزائلة وشيكا . حتى بلغ الحال ببعضـهم في المتاجر إلى التغرب عن الأهل والوطن والتهاون بالاولاد والعيال " ويركبـون البحار المخيفة والطرقات الهائلة . ويستصغرون ما ينالونه مـن مـلاقـاة الخـاطفين والغاصبين والقتلة والوقوع في المهالك . مع العلم أن نهاية المطلوب وغايتـه هـو تحصيل الحاجات الضرورية الزائلة سريعاً . وكيف لا نفعل ذلك نحـن فـى طلـب الباقيات ؟ وكيف لا ننظر إلى ذواتنا ونفكر بعقولنا ونعلم أننا في عالمنا هذا غربـاء عن أوطاننا . وأننا في كل ساعة مسافرون . وكيف يجوز للغريب العـاقل أن يجمـع قناياه إلى بلاد غريبة سينقل منها بالضرورة عرياناً ذليلاً ؟ وكيف يحسن عنـده أن يترك أمواله وقناياه للأباعد ويسير إلى بلدته فقيراً محتاجاً إلى اليسير ؟ وكيـف لا يخجل إذا نظر إلى المعارف والاخوان مقبلين من بلاد غربتهم بالاموال والمتـاجر والخيرات الجميلة الوصف وهو يقبل عاريا ذليلا . وكيف لا يهلك ندما إذا ما أقبـل عليهم الملك والحجاب والجنود وخدام المملكة ولاقوهم بـــــــالوجوه المنـيرة وقبلـوا هداياهم وشكروا أتعابهم . وكللوهم بأكاليل الظفر . وخولوهم التصرف بسعادة الابـد . وهو يطرد خارجاً مع الشياطين . وإذا كان أحدنا عندما يصنع وليمة لبعض الخـلان يجتهد أن لا يوجد عاجزاً ولا ناقصاً . فينفق الامـوال ويكـثر الالـوان وأصنـاف المشروبات والنقول والازهار . ويصف الاواني المختارة . ويستعير بعض ما يحتـاج غليه ليشكر على حسن صنيعه الزائل سريعاً . ولكي لا يوجد مقصراً عن عمل مثـل هذه الولائم . فكيف لا تفكر أنت في الحضور مع المتكئين في وليمـة ابـن المـلـك السماوى ؟ حيث يجتمع الاقارب والاباعد الامم . وعساكر الملائكة البشـر . وينظرون جميعهم إلى شرف المتجملين . وعظم شقاوة العارين . لاجل هذا قد نبه سيدنا له المجد أفهامنا على اهتمامنا بالاشياء التي لا يحتاج إليها . لنتعلم من ذلك اهتمامه بنا واشفاقه علينا ونظره فيما يعود لصالحنا . فضـرب لنا الامثال : تارة بزهر الحقل . وتارة بطير السماء . وأمثال هذه الحقيرات . ثم دفـع عقولنا إلى طلب السعادة الباقية . وأمرنا أن نطلبها دائماً بالاجتهاد وبغير ملل . ليكون حصولها لنا بطريقة الاستحقاق . وبعد الانعطاف عليها بضمائرنا . يضرب لنا على ذلك مثل الامرأة المترددة على قاضي الظلم لو١:١٨-٨ . والطالب من صديقه الخبزات لو٥:١١-١٣ . والابن الشاطر المضيع لأموال أبيه لو ١١:١٥-٣٢. وغير ذلك حتى لا نقطع آمالنا من امكانيـة ، نوال المراحم الإلهية بواسطة اللجاجة . ؟ لانه تعالى يلذ لـه أن نطلـب منـه دائمـاً ونتضرع اليه في كل حين . كما يفعل الأب الشفوق مع أعز أولاده . فإنه كثيراً مـا يكون في يده دينار ويريد أن يعطيه إياه سريعاً . ثم يمنعه عنه وقتاً يسيراً ليســتتحلى منه الفاظ الطلب ويستلذها . ثم يمنحه أمثال المطلوب أضعافاً . أما الولد العاصي فإنـه يفعل مع أبيه ما يفعله العبيد العصاة بسيدهم . وذلك لانه إذا جذبه اليه يعرض عنـه . وإذا طلب بمحبة ينعطف مبتعداً . وإذا اظهر له الثمرات الشهية فلا ينظـر لجهتـها . و اذا توعده بالعقاب الشديد فلا يبالي .فسبيلنا إذن أن نطلب دائما خيرات ربنا . ونجتـهـد فـى عودتنـا إلـى الله بالتوبة والاعمال الصالحة حتى نفـوز بملكـوت ربنـا يسـوع المسـيح . الـذي له المجد إلى الابد آمين . القديس يوحنا ذهبى الفم عن كتاب العظات الذهبية
المزيد
18 نوفمبر 2022

مفهوم الاتحاد الزيجي الاتحاد العاطفي

يسكب الله العاطفة في الإنسان، ولذا فهي شيء مقدس يضعه الله في الإنسان أثناء رحلته، فالطفل تتلاقى عيناه مع عيني أمه وهي تحتضنه، ترضعه، تنام بجواره، فتتكون عاطفة عند الطفل تجاه أمه. وهكذا بالنسبة للأب الذي يداعبه ويحضر له ما يحبه، فتنمو عاطفته تجاه أبيه، شاعرًا أن أباه وأمه هما كل الحياة، ثم يكبر فيلتحق بالحضانة ثم المدرسة، ويبدأ في الانفصال عنهما قليلًا قليلًا، حتى إذا ما بلغ سن المراهقة بدأ ميله تجاه الجنس الآخر، وهي نعمة من الله وضعها في قلب الإنسان. هذه العاطفة يسمّونها في علم الاجتماع "الجنسية الغيرية العامة"، بمعنى أنها لا تكون موجّهة تجاه شخص محدّد، إنما تجاه الجنس الآخر عمومًا، والولد والبنت المنتبهان يحفظان هذه العاطفة القوية في قلوبهم فتكون أثمن ما يمكن أن يقدّماه لشريك المستقبل. وكلّما نضجت الفتاة أو الشاب، تبدأ العاطفة العامة أن تضيق وأن تتخصّص حتى تتركّز في شخص واحد يرى فيه الشاب أن هذه هي الفتاة المناسبة له، والفتاة نفس الأمر، وهو ما يُسمى بمرحلة "النضج العاطفي". يحدث القبول والإعجاب، ثم مع الصلوات ومع المشورة، وأخذ الوقت الكافي لمعرفة الطرف الآخر يتم الارتباط. لكن إن حدث أن الشاب أهدر عاطفته قبل الارتباط، لا يجد ما يقدمه للفتاة التي سيرتبط بها يومًا من الأيام، فيكون كمثل شاب يركب الترام وتراه كل محطتين أو ثلاث يقوم بتمزيق ورقة مالية، مئة جنيه مثلًا، ليلقيها في الهواء من شباك الترام! فترى أنه شخص مجنون لا يقدّر قيمة المال، هذا المثال البسيط للشاب أو الفتاة اللذين يقيمان علاقات بلا معنى، وهذا يفسّر سبب الشجار والانفصال بين الزوجين بعد ما كان يبدو بينهما من مشاعر الحب، لأن هناك ما يُسمى بإناء المشاعر، فحينما يمتلئ القلب بالمشاعر يصبح لديه خزين ثمين يقدمه لشريكه، والقلب الممتلئ بتلك العاطفة النقية هو أثمن من كل الهدايا المادية من ذهب وغيره. بولس الرسول يوصي تلميذه تيموثاوس، الذي كان شابًا، قائلًا: «احفظ نفسك طاهرة» (1تي5: 22)، ونفس الكلام ينطبق على الشاب والشابة اللذين يتجهان للرهبنة أو التكريس، يمتلئ إناء المشاعر وتصبح هذه العاطفة موجّهة لله.كلمة الحب مكوّنة من حرفين، فلنقل أن الـ"ح" حياة، والـ"ب" بقاء- أي أن الحب هو بقاء الحياة، فبدون حب لا توجد حياة. والكتاب المقدس ذكر كلمة حب أكثر من ٢٥٠ مرة. وأكثر سفر نسميه سفر الناضجين الذين نضجوا روحيًا، هو سفر نشيد الأنشاد الذي يتكلم عن المحبة، وجعل حبه الأوحد هو حب المسيح للنفس البشرية. توجد خمس احتياجات لدى أي إنسان: احتياجات بيولوجية أي جسدية، نفسية، عقلية، اجتماعية، وروحية. الاحتياجات الجسدية مثل الطعام والشراب والملبس والمسكن... النفسية: كالحاجة إلى التشجيع، الأمان، الحرية، الحب والاحتواء سواء من الأهل أو من الأصدقاء. احتياجات عقلية: من خلال القراءة، السفر، الاطلاع... احتياجات اجتماعية: كل إنسان يحتاج مجتمع ينتمي إليه: وطن، مدرسة، جامعة، نقابة.. وأخيرًا احتياجات روحية: الإنسان محتاج إلى الله. في كتب الدراسات النفسية يقولون إنه احتياج للمطلق، للخلود. لكن تُرى ما هو أهم هذه الاحتياجات؟ بعد دراسات كثيرة، قالوا إن أهم هذه الاحتياجات هو الحاجة إلى الحب، هو المفتاح. لمّا رأى الله الإنسان غارقًا في خطاياه، نزل ليتمم الفداء لكل البشر، ويقول: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16)، لأنه يعرف أن مفتاح قلب الإنسان هو الحب. «هكذا أحب الله العالم»: كل البشر في كل مكان في كل العصور. لذلك أيها الشاب والشابة، عندما تبدآن بناء أسرة مقدسة يجب أن تكون العاطفة عندكما كاملة، ناضجة، نقية، طاهرة. في الإكليل يصلي الكاهن: "املأ قلبيهما بالمحبة الروحانية"، فهناك أنواع من الحب، أشهرها ثلاثة: حب الشهوة، الذي يبدأ وينتهي سريعًا جدًا. الحب الثاني حب (الفيلو)، وهو حب اجتماعي، ويندرج تحته حب العمل أو المكان أو الوطن. النوع الثالث حب روحاني، وهو المقصود في طلبة الإكليل، المحبة التي على مستوى حب المسيح للكنيسة «أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها مطهِّرًا إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس بها ولا غضن»، غضن معناها (الكرمشة) أي لتظل كنيسة المسيح صبية، كذلك يبقى الزوجان شبابًا حتى وإن تقدم بهم العمر وكبر أولادهما، لكن تظل نظرتهما إلى بعضهما نظرة شبابية، وحبهما لبعضهما قويًا ويزداد قوة يومًا بعد يوم.الحب هو فن إسعاد الآخر، وهو ليس بكلام سرعان ما يتبخر في الهواء، هذا هو أرخص أنواع الحب، لكن بالعمل والتفنُّن في إسعاد الآخر، وإسعاد الوالدين لأبنائهما، وهذه هي قيمة الأسرة. أهم ملامح فن إسعاد الآخر ألّا يكون هناك أنانية، لذلك أنصحك ألّا تتزوج إن كنت أنانيًا، ولا حتى أن تتقدم للتكريس أو الخدمة، لكن انتبه لنفسك. فالحب الحقيقي هو في إسعاد الآخر، أمّا حب الإيروس، وحب الفيلو، والحب الذي نشاهده على شاشات التلفزيون، هو حب تجاري. احفظ مشاعرك نقية طالما انتويت أن تؤسس بيتًا مسيحيًا مقدسًا قائمًا على أن «اثنين خير من واحد» (جا4: 9)، وأن «الخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا» (جا4: 12)، لأن الرابطة الزيجية هي رابطة ثلاثية؛ هي وهو والمسيح، الثلاثة مع بعضهم، بحيث يكون المسيح هو مركز الحياة. في الزواج المسيحي يدرك الشريك أنه يستلم شريكه من يد المسيح نفسه، لذلك تكون قيمته غالية جدًا، ومكانته أعلى من الجميع بالنسبة لشريكه.في سفر النشيد يقول العريس للعروس: «أريني وجهكِ، أسمعِيني صوتكِ» (نش2: 14)، هكذا مع زوجتك، تحب أن تراها وتسمع صوتها فتتبادلان العاطفة بينكما. يقولون إن الوجه المحبوب مرغوب.احذروا إذًا ممن يشوّهون قيمة الأسرة، فالأسرة المسيحية تقوم على أساس: «النفس الشبعانة تدوس العسل» (أم27: 7)، فالنفس الشبعانة بالحب تدوس أي إغراء. ابدأوا في البناء العاطفي، والاتحاد بعاطفة نقية حقيقية. ولنلاحظ أربعة أشياء هي أغلى هدايا يُعبَّر بها عن الحب: الهدية الأولى هي الوقت: أغلى هدية تقدمها لأحد أن تجلس لتتكلم معه، وهو احتياج حقيقي، حتى أن الله لمّا خلق آدم قال: ليس حسنًا أن يكون آدم وحده، بل أخلق له معينًا نظيره لكي يتكلم معه، لأنه كان يسكن مع الحيوانات فلا يتبادل حديثًا مع أحد، فمن عظامه خلق حواء، لها نفس رجاحة عقل آدم ليتكلما. لذلك احترسوا مما يسرق الوقت لأنه يسرق عمرك! فبدلًا من أن تجلس مع خطيبتك أو زوجتك أو أولادك كل يوم لتتكلموا في كل الأمور، يصبح الحديث في التليفون أو الانشغال به حاجزًا يفقد الشخص تركيزه مع أسرته وأولاده. الهدية الثانية هي كلام التشجيع: كلام المشاركة، الكلام المفرح، وتجنُّب الكلام الجارح الذي يؤذي أكثر من الرصاص. الهدية الثالثة شكل من التعبير عن الحب هو الهدايا: ليس بقيمتها أو شكلها، إنما بما يحبه الشخص. فالهدايا البسيطة الجميلة ليست بغلو ثمنها وإنما بقدر ما تحمله من مشاعر رقيقة. وأخيرًا، الهدية الرابعة هي المفاجآت اللطيفة: حتى ولو كانت صغيرة، قد تكون رحلة، نزهة... المفاجآت تنعش الحياة، والكلام هنا للطرفين بالتساوي. الخلاصة: عن طريق الاتحاد العاطفي تُبنى الثقة، والثقة تحتاج إلى الأمانة والوضوح والتقدير والحنان، الاشتياق للآخر والانشغال بالآخر. ليحفظكم الرب ويبارك حياتكم، ولتكن كل أسرة فيكم أسرة مقدسة. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد. آمين. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
17 نوفمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يوسف

يوسف " أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعباً غفيراً "تك 50: 20 مقدمة لست أعتقد أن هناك قصة خيالية أروع أو أجمل من القصة التي كتبها "أ. هيل" في كتابه "عيد الميلاد في قصر... وقد كتب هذه القصة تحت عنوان "الأيدي المرفوعة"، وهي عن الليلة الأولى في حياة يوسف، بعد أن باعه إخوته وأخذته قافلة الاسماعيليين لتذهب به إلى مصر، وإذ حطت القافلة رحالها في الليلة الأولى، ونام الجميع، واستولى عليهم سبات عميق، استيقظ يوسف في منتصف الليل ليجد الكل نياماً، ويجد فرصة واسعة في الهروب، فتسلل، وهم أن يصل إلى باب الخروج، وكاد أن يفلت، لولا أن كلباً أصفر ضخماً أخذ ينبح نباحاً عالياً،.. وفزع يوسف ورفع عينيه إلى السماء، يطلب معونة الله في إسكات الكلب،.. وقد تحرك أحد الملائكة، وأراد أن ينزل ليقتل الكلب، ويطلق سراح الشاب النقي المظلوم، لولا أن أمراً إلهياً منعه، واستيقظ الحارس ليضرب يوسف، ويقيده، ويمنعه من الهروب، وإذ عجب الملاك من المنع الإلهي،.. صور له الله ما كان يمكن، لو تمكن يوسف من الهرب وعاد إلى أبيه، حيث يستقبله بترنم وفرح،.. غير أن المجاعة لا تلبث أن تحل، وليس هناك يوسف الذي يتأهب لمواجهتها، وإذا بمصر وفلسطين تجوعان، ويموت خلق كثير، ويضعف الباقون ويتعرضون لهجمات الحثيين الوحشية، وإذا بالحضارة تدمر، ومصر تنتهي، وتتحول روما واليونان إلى البربرية الكاملة، ويهلك العالم كله، ولا نسمع عن إسرائيل ويهوذا والملوك والأنبياء، وبالتالي لا يأتي المسيح مخلص العالم!!. وما من شك بأن القصة غارقة في الخيال، ولكنها تؤكد الحقيقة الدائمة الصادقة: إن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده، وترينا أن الظروف التي يجتازها الإنسان بحلوها ومرها، وسجنها ومجدها، ليست إلا السبيل المؤهل لإتمام رسالته في الأرض،.. وهذا ما ذكره يوسف في قوله لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعباً غفيراً"ولعل هذا يساعدنا على متابعة قصة يوسف على النحو التالي المتتابع: يوسف من هو؟!! إن أول ما يلفت النظر في يوسف هو ذلك الجمال والحلاوة التي انطبعت عليه، إذ كان جميلاً جداً،.. ويعتقد أنه ورث الكثير من حلاوة أمه وجمالها، بل يظن أن يعقوب -وهو يضمه إلى حضنه- كان يفتقد في صورته الجمال الذي ذهب في زوجته راحيل، الجمال الذي عاد إليه في صورة مذهلة مرة أخرى في وجه يوسف،.. على أنه من الغريب أن قصة يوسف تكشف عن جمال أحلى، وأروع، وأجمل، وأبهج، وهذا الجمال لا يلفتنا إلى الشبه الكبير بين يوسف وأمه راحيل، بل إلى الشبه المتقارب بين يوسف والمسيح، فما أكثر ما تقترب القصتان وتتشابهان، اقتراب الرمز من المرموز إليه،.. وقد عدد بعضهم ما يقرب من أربعة وعشرين شبهاً بين الاثنين،.. فإذا كان يوسف هو الابن المحبوب الوحيد المتميز بين إخوته، فإن المسيح: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب".. وإذا كان يوسف أسمى وأشرف من إخوته، وأكثرهم تعلقاً بأبيه، فإن المسيح هو الابن الوحيد الكامل الذي لا يداني أو يباري من إخوته جميعاً، وهو الألصق بأبيه، والذي دائماً يصنع مشيئته بمسرة كاملة،.. وهل ننسى أن يوسف حسده إخوته، وباعوه وأسلموه للضيق والتعب، والتشريد والعبودية؟ وهل ننسى أن ذات الشيء حدث بالنسبة للمسيح إذ علم بيلاطس أنهم –أي إخوته وشعبه- أسلموه حسداً؟.. وهل ننسى القميص الملون المغموس بالدم،.. والقميص الذي اقترع عليه الجنود يوم الصليب؟.. ومن الغريب أن المسيح ويوسف جاء كلاهما إلى مصر،.. كما أن يوسف بيع بعشرين من الفضة.. وبيع المسيح بثلاثين،.. وقد غفر كلاهما للإخوة ما فعلوا،.. وقدم يوسف للعالم الخبز المادي،.. وكان المسيح هو خبز الحياة،.. هذه وغيرها من الصور تعطي لقصة يوسف الحلاوة التي قل أن نجدها في غيرها من السير أو القصص التي نقرؤها في داخل الكتاب أو خارجه!!.. يوسف التقي النقي كان يوسف نقياً لأنه كان تقياً، وما من شك بأن التربية الدينية كان لها أعمق الأثر في ذلك، كان يوسف في السابعة من عمره، عندما ترك أبوه فدان أرام، على الأغلب،.. ولم يستطع التأثير الوثني الشرير في بيئة خاله أن يفعل ما فعله في نفس الصغير، فكان موقفه من هذا القبيل أفضل من إخوته الآخرين، بل كان التصاقه بأبيه واقترابه إليه فرصة عظيمة لكي تستمع أذنه ما فعل الله مع آبائه إبراهيم واسحق ويعقوب،.. ورسخ في ذهن الصغير أن الحياة مع الله هي الطريق الصحيح الوحيد الرائع إلى القوة والنجاح، مهما التوت السبل، وتنكبت الطرق، وتغيرت الظروف ومن الملاحظ أن النقاوة عندما لم تكن مجرد سمو أدبي أو ترفع ذهني، بل كانت بالأحرى إحساساً عميقاً برؤية الله، والتمسك به، لقد ضربت جذورها في أعماق الشركة مع الله، فلم تبال بالأجواء أو الظروف المتغيرة، ولم تبال أكثر بألام ومتاعب الأنقياء الأتقياء، بل كانت تجسيداً لقول أبيه: "يوسف غصن شجرة مثمرة غصن شجرة مثمرة على عين أغصان قد ارتفعت فوق حائط فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه من يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر إسرائيل" أو قول المزمور الأول: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح".. أو ما ردده إرميا: مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله فإنه يكون كشجرة مغروسة على مياه وعلى نهر تمد أصوله ولا ترى إذا جاء الحر ويكون ورقها أخضر وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكف عن الإثمار".. لقد وقع هذا الشاب بين نوعين من التجارب، هما من أقسى ما يتعرض لهما الشباب في كل جيل وعصر، وهما الرهبة والرغبة، أو الوعيد والوعد، أو الاضطهاد والإغراء،.. فإذا لم يفلح النوع الأول، فلعل الثاني يمكن أن يسقطه إلى الأرض والحضيض، وأي شيء أقسى على النفس الحساسة من الجو المتبدل فجأة من حضن الآب إلى الغربة، ومن الحرية إلى الاستعباد، فالظلم فالسجن، لقد نشبت السهام في قلب الفتى متطايرة إليه من إخوته والأجانب معاً،.. ولما لم تفلح تبدل الأمر بفحيح الأفعى، وإغراء الدنس والفجور والإثم، ولكن الشاب الغارق في الألم والمخضب رأسه بالدم، رفع هذا الرأس النبيل في مقاومة أقسى تجربة، وهو يصيح: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله"؟ ووقف الشاب القديم مما يقرب من ثلاثة آلاف عام قائداً من أعظم قواد الشباب في معركة التقوى والنقاوة، لأنه تطلع إلى الله، فانتصر على التجربة!!.. يوسف الحالم المرتفع الرؤى ولن نستطيع أن نفهم هذا الشاب ما لم نتتبع أحلامه ورؤاه، الأحلام التي ترسبت في عقله الباطن لتحكم عقله الواعي، والتي سيطرت على مشاعره الخفية لتحكم تصرفاته الظاهرة،.. لقد ولد يوسف ليكون مرتفعاً، وولد ليكون سداً، وهو يمد الطرف في رؤى الشباب ليحلق بين النجوم تنحني أمامه الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدة له، وتنتصب حزمته لتسجد أمامها حزم إخوته،.. وقد عاشت هذه الرؤى إلى آخر عمره تدغدغ حسه، وتنشر جوه بالعطر العبق الذي يملأ رئتيه، وعاشت لترفعه فوق الصغائر والكبائر، وتحيط به في الظلمة والنور، في السجن وعلى العرش معاً، وإذا كان الوحي يقول: بدون رؤية يجمح الشعب، فإن أحلام هذا الشاب كانت من أقوى العواصم التي حفظته من الضعة والإسفاف والتردي والجموح!!.. كان يوسف النقي يحسن الرؤية لأنه يعاين الله: "وطوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله".. وكان يوسف في هذه النقاوة قد أعطى الشفافية التي ترقى به فوق عالم الدنس، فهو أشبه الكل بالنسر المحلق يضرب بجناحيه القويين في السماء العالية في الشركة مع الله!!.. وعاش يوسف برؤاه أعلى من تراب الأرض، وغبار الفساد، وحقد التشفي، وسقوط البؤس أو اليأس الذي يلم بملايين الناس العائشة على الأرض المتطلخة بطينها ووحلها وحمأتها!!.. وعاش يوسف في أحلك الليالي يتطلع خلف القضبان إلى كوكب الصبح الذي لابد أن ينبلج مهما طال الليل أو امتد به القتام!!.. ولم يفسر يوسف أحلامه الخاصة به، بل فسرها لرئيس السقايين ورئيس الخبازين، وفسرها لفرعون نفسه، لأن يوسف في هذه الرؤى جميعاً لم يشك قط في مصدرها الإلهي من عند الله!!.. أيها الشاب: هل لك رؤى يوسف وأحلامه؟!!.. يوسف الواضح الصريح ثمة خلة أخرى تمكنت من يوسف في صدر شبابه، وهي أنه الإنسان الصريح المجبول على الصراحة، لا يستطيع أن يتصور -وهو مع إخوته- مدى الحطة التي وصلوا إليه، وهو أن عجز عن إصلاحهم، لأنهم ربما يستصغرونه ويستضعفونه، فلا أقل من أن يعطي أباه الصورة الصحيحة عنهم، ومع أن هذا أورثه حقدهم وضغينتهم، إلا أنه كان لابد أن يكشف شرهم أمام أبيه،.. كما أن رؤياه التي أبصرها في الليل، كانت في الصباح أمامهم.. لقد التزم يوسف جانب الصدق، وإن كان أسلوبه مع الأيام تغير، إذ أدرك أن هناك أشياء يعرفها الإنسان، ولكنه من الحكمة ألا يقولها إلا في الحين الذي تصبح فيه الضرورة ماسة لذكرها، ولعل حديثه مع رئيس السقايين عندما قال له: "لأني سرقت من أرض العبرانيين، وهنا لم أفعل شيئاً حتى وضعوني في السجن، كان يكشف عن الصدق، ولكن بالصورة التي بلغت النضوج والحكمة في عرض الرواية في حدود الصدق المفيد، دون انزلاق عاطفي أو زلة لسان دفع الكثير بسببها دون أن يعلم أو يفطن!!. يوسف المخلص الغيور كانت صفة الإخلاص واحدة من أعظم صفات يوسف وأثبتها، وكان في إخلاصه غيوراً ممتلئاً من الغيرة،.. كان مخلصاً لأبيه الذي أحبه، فإذا كلفه أبوه بمهمة ما، فهو غيور في طاعة أبيه وتنفيذ رغبته، فإذا طلب إليه أن يذهب إلى شكيم ليسأل عن سلامة إخوته، لا يكتفي بالذهاب إلى هناك، فإذا لم يجدهم يرجع ليخبر أباه بذلك، بل هو يمعن في البحث عنهم حتى لو تاه أو ضل الطريق، وإذ يسمع أنهم في دوثان يذهب إليهم وراء الطاعة لأبيه المحبوب،.. وهو مخلص لإخوته، ونجد هذا الإخلاص الأخوي في التعبير القائل لمن وجده ضالاً في الحقل: "أنا طالب إخوتي" وهو مخلص لفوطيفار يخدمه بأعمق ما يمكن أن يكون من الولاء في الخدمة، وهو يحرص على أن يكون النموذج المثالي لخدمة إنسان لآخر في الأرض،.. وهو مخلص لفرعون وهو يرسم السياسة في خدمة الشعب الجائع، وفي نفس الوقت في إعطاء فرعون أكبر ما يمكن أن يعطي من ثمن للطعام الذي سيقدمه للناس،.. وهو قبل وبعد كل شيء، مخلص غيور لله، يرتبط هذا الإخلاص بعظامه التي يريدها أن تنقل مع شعب الله، عندما يفتقدهم الله في يوم من الأيام!!.. يوسف المؤمن الصبور خرج من بيته في السابعة عشرة من عمره، وظل ثلاث عشرة سنة، كان من المستحيل أن يحتملها دون أن يكون له مصباح الإيمان الذي يمسك به في أحلك الليالي،.. لقد عرف المرصد الذي يقف عليه، قبل أن يأتي حبقوق بقرون طويلة، وكان يسمع صوت الإيمان يقول إلى قلبه وكيانه: "إن توانت فانتظرها لأنها تأتي أتياناً ولا تتأخر".. وقد رأى الرؤيا كوعد من الله، لابد أن يتحقق مهما طال الليل أو امتد به الظلام.. وهو يثق في الرؤيا، ولا يفشل في انتظارها،.. وعندما يعرض رئيس السقايين ورئيس الخبازين حلميهما عليه، لا نسمع منه أدنى تشكيك في حقيقة الأحلام، بل على العكس يرى الله صانع ومفسر الأحلام،.. وعندما يحلم الملك ويتكرر حلمه، يؤكد له أن تكرار الحلم معناه أن الله مسرع لتنفيذه، ولقد بلغ به اليقين في ذلك، اقتراحه على الملك أن يواجه الحلم بالترتيب العملي اللازم لتنفيذه،.. على مرصد الإيمان وربوته يقف يوسف ليرى الشمس خلف الظلام والغيوم، وليؤكد أن دورة الأرض تعقب الليل بالنهار، وتعقب الظلام بالنور، وقد كان هو بالحقيقة مثلاً للإيمان القوي العميق الصبور!!.. يوسف الصفوح الغافر كانت جراح هذا الشاب عميقة بالغة الغور والعمق،.. لقد جرح من إخوته الذين عند الترفق تحولوا من قتله إلى بيعه عبداً بلا رجاء أو حرية أو أمل،.. لقد باعه إخوته، وجرح الأخ أعمق وأقسى الجراح على وجه الإطلاق.. ما هذه الجروح التي في يديك؟ ويأتي الجواب المرير: هي التي جرحت بها في بيت أحبائي، ولقد لف قيصر وجهه تحت طعنة الغدر، وهو يقول: “حتى أنت يا بروتس؟!!.. ولقد جرح يوسف من الغريب،.. جرح من الرجل الذ ي خدمه بكل إخلاص وأمانة، ومع أننا لا نعلم ماذا فعل معه بعد ذلك،.. إلا أننا نعلم أن إخوته عندما تصوروا أنه سيرد عليهم بعد وفاة أبيه الصاع صاعين بكى لمجرد تصورهم هذا،.. إن سر الغفران عند يوسف، يرجع إلى تجاوزه الإنسان البشري والتوقف عند قصد الله، وهو يعلم أن اليد البشرية مهما طالبت فهي قاصرة ما لم يأت السماح من الله!!.. على أي حال أن قصته تكشف عن الإنسان الذي غفر وصفح عما فعلوا فيه.. والعفو كما يقال من شيم الكرام القادرين!!.. يوسف في مدرسة الآلام كان يوسف واحداً من أقدم التلاميذ الذين دخلوا مدرسة الألم العظيمة في الحياة، وكان واحداً من الذين تخرجوا منها بامتياز إن صح أن نستخدم هنا النهج العلمي في تقدير الدرجات!!.. وقد قضى يوسف في مدرسة الألم ثلاثة عشر عاماً متواصلة، ومع أن مدارس الألم تختلف باختلاف الآلام وأنواعها في الأرض، وباختلاف الهدف أو الغاية من هذه الآلام، فإذا صح أن تعطي هذه المدارس أسماء مختلفة،.. فيمكن أن نذكر منها "مدرسة العقوبة" التي يأخذ فيها المرء الجزاء والقصاص لما يرتكب من آثام وفجور. وهناك "مدرسة التأديب" وهي نوع من المدارس لا يقصد بها العقوبة في حد ذاتها، بل يقصد منها الإصلاح والتقويم، وهناك "مدرسة الامتحان" وهي التي تكشف لصاحبها والآخرين عن قدراته، وما يكمن في أعماقه من قوة أو ضعف،.. وهناك مدرسة أخيرة يمكن أن نطلق عليها "مدرسة التدريب"، وربما كانت هذه المدرسة الأخيرة هي مدرسة يوسف طوال الثلاث عشرة سنة حتى وقف أمام فرعون في الثلاثين من عمره!!.. وقد رأى يوسف في مدرسة الألم ثلاث حقائق عظيمة أساسية: الحقيقة الأولى: الألم الموزون،.. فالألم الذي يسمح به الله ليس مجرد ضربات عشوائية تنهال على المتألم الباكي، بل هو في الحقيقة ألم محدد موزون،.. وإذا صح أن الإنسان وهو يستخدم أفران الطهي أو الصناعات المختلفة، يحدد درجة الحرارة التي لا يجوز أن تقل أو ترتفع عن الحد المطلوب، فإن الله أكثر دقة واهتماماً بدرجة الألم التي يتوقف عندها الميزان، لأنه لا يسمح بأن نجرب فوق ما نطيق إذ أنه مع التجربة يعطي المنفذ!!.. وقد وزن الله الألم تماماً في قصة يوسف، ومع أنه كان ألماً قاسياً محرقاً، أفصح عنه المرنم: "بيع يوسف عبداً. آذوا بالقيد رجليه. في الحديد دخلت نفسه"... إلا أن الله وازن الألم من الدقيقة الأولى بحضوره ومعونته ومساندته وتشجيعه.. ولقد رأى الشاب كيف أعطاه نعمة في بيت فوطيفار، وكيف أعطاه نعمة في عيني رئيس بيت السجن، وكيف ساعده وأعانه وأنجحه على الصورة الواضحة التي لم يحس بها هو فحسب، بل أحس بها كل من تعامل معه وتقابل!!.. لقد ذهب الله مع الغربة والنفي، والتشريد والسجن وأحس الغلام القديم أن هناك شيئاً عجيباً من التوازن في المدرسة التي دخلها، فإذا أهمله الإنسان فإن الله لا يمكن أن يهمل ويترك،.. وأن السلام العميق الذي يواجه النفس المنكوبة، هو التوازن الخفي الحقيقي الذي يصنعه الله حتى لا ترجح كفة الألم بما فيها من ثقل الضغط أو القسوة أو التعب أو المعاناة أو اليأس أو القنوط،.. وكانت الحقيقة الثانية أن المدرسة كانت مدرسة التدريب العميقة الواضحة فيما وصل إليه الشاب من نضوج وإدراك، وتخطيط وتنفيذ،.. وأين الشاب الذي لا يستطيع أن يخبي ما في صدره فيسرع بالكشف عنه دون ترو أو مبالاة، حتى ولو وضع الأساس العميق للعداوة بينه وبين إخوته بهذا الكلام؟.. أيناه من الشاب الحريص داخل السجن الذي وهو يعرض رواية ظلمة على رئيس السقاة لا يتهم قريباً أو غريباً، وكل ما يقوله "لأني سرقت من أرض العبرانيين وهنا لم أفعل شيئاً حتى دفعوني في السجن".. وهو أعقل من أن يحدث الغريب عن عورة إخوته، وأفطن من أن يخوض في اتهام من هو في مركز ليس من صالحه أن يثصير ثائرته وغضبه مرة ثانية.. أو في لغة أخرى: لقد تعلم كيف يضبط لسانه على نحو يدعو إلى الإعجاب،.. وأكثر من ذلك فإن الشاب بمجيئه إلى مصر كان وجهاً لوجه أمام أعظم حضارة عرفها التاريخ في ذلك الوقت،.. لقد كانت مصر في أيامه أم الدنيا ورائدتها في العلم والفن، والاختراع والصناعة، والتجارة والترف، والحضارة وعبادة الأوثان،.. وكانت بالنسبة للشاب الآتي من الصحراء مركز انبهار وتجربة، وكان عليه أن يواجه الصراع النفسي العميق بين ما يأخذ منها وما يرفض، بين ما يقبل عليه ويمتنع، وإذا دققنا النظر في الرواية الكتابية نجد أن الشاب تعلم الكثير بين بيت فوطيفار والسجن، فتعلم كيف يعمل ويشتري، ويبيع ويربح، ويكنز ويجمع، وإذ لم يكن له من سبيل في الدخول إلى قصر فرعون وهو سجين، جاءه من القصر إلى السجن رئيس السقاة ورئيس الخبازين، وعرف منهما نوع الحياة التي تعيشها الطبقة العالية في مصر،.. وفي كل الأحوال نزل الشاب المترفه الحر بقميصه الملون إلى قاع البئر، بئر الآلام والمتاعب، والخدمة، والاستعباد، وعرف كيف تتلون الحياة وتتبدل، ويتحول الحر عبداً، والعبد حراً، وكيف تدور الساقية علواً وانخفاضاً، وهي تنزح ما في البئر إلى حيث يشاء الله في إرادته العالية العجيبة، في حياة من تعصرهم الآلام وتدربهم الأحزان والتجارب!!.. وهذا يأتي بنا إلى الحقيقة الثالثة من الألم وهي الألم المنتج، أو العصارة التي يطرحها هذا الألم للخير والمنفعة،.. والقاريء لقصة يوسف من واجبه ألا يقرأ قصة شاب دفعته الصدفة إلى شكيم فدوثان، فبيت فوطيفار فالسجن، فقصر فرعون.. بل عليه أن يقرأ القصة كجزء من خط العناية في شاب أرسل أولاً، وفي أمة تتبعه ثانياً، وقد كانت هذه العناية عجيبة ودقيقة بالنسبة للشاب، وهو في التصور تتخبطه الأحداث، أو تتلقفه الحوادث، ولكنها في الخط الإلهي العميق المرسوم، كانت قصة الشاب المرسل من الله، وبيته الذي سيسكن في أرض جاسان، وهي الأرض الواقعة في الجزء الشرقي من الدلتا أو مكان محافظة الشرقية اليوم، ويبدو أنها لم تكن أرضاً مأهولة السكان. وإن كانت في الوقت ذاته مراعي خضراء عظيمة للماشية وكانت الحكمة الإلهية أن يأتي هذا البيت ليكونوا على مقربة من أعظم مدينة في ذلك التاريخ، وليتكونوا هناك -لا كمجموعة من الأفراد- بل كأمة تأخذ بنظم الحياة وأوضاعها وأساليبها، على يد أعظم أمة في الأرض في ذلك الحين، وفي الوقت عينه كان لابد أن ينفصلوا عن تأثيراتها الوثنية المفسدة، وكانت جاسان أفضل بقعة من هذا القبيل، حيث يرعون الماشية بعيداً عن المصريين، وفي عزلة منهم، لأن هؤلاء كانوا يعتبرون رعاية المواشي دنساً ورجساً، وثم كانوا يأبون الاختلاط بها وبرعاتها، وكانت جاسان أقرب نقطة للانطلاق بعيداً عن مصر عندما يحين الوقت لخروجهم منها!!.. يوسف المرتفع ذكرنا أن يوسف شديد الشبه بذلك الذي سيأتي بعده بألفي عام على وجه التقريب، وإذا كان يوسف قد حمل صليبه وسار في مصر ثلاثة عشر عاماً، فإن الصليب على الدوام يلحقه التاج، وكما قيل عن سيده وقد أخذ صليبه إلى الجلجثة: "الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه. وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم" هكذا نرى يوسف بين الصباح والمساء يشق طريقه من السجن إلى أعلى منصب يتلو منصب فرعون في مصر.. ولعل يوسف في هذا الارتفاع يكشف عن صور إلهية متعددة لعل أهمها: يوسف وصدق الله إن نهر الصدق الإلهي كاسح وعارم، فإذا رأيت هذا النهر يتدفق في جلال، ثم جئت إلى النقطة التي لم تعد تراه فيها فليس معنى هذا أن النهر انتهى، بل أن النهر تحول بكل قوته، إلى نهر جوفي يسير بعيداً عن العين البشرية، أو قدرة أبصارها لكنه سيسير في الخفاء مندفعاً، لأن قوة الله العظيمة تدفعه إلى الأمام، لقد سار النهر في الخفاء عبر بيت فوطيفار، وعبر السجن وعبر السنين المظلمة القاسية، واندفع إلى النور ذات صباح، متدفقاً كالنيل العظيم فوق أرض النيل سواء بسواء،.. إنك عندما تقرأ القصة، ستقول إن واحداً من ملوك مصر القدامى، لعله كان واحداً من الهكسوس) رأى من الصواب ذات يوم إخراج يوسف من سجنه ليقود أمة، وينظم أمر شعب بين عشية وضحاها، إنك لو قلت هذا القول، أو مثله لن تصل إلى كبد الحقيقة أو تدرك أعماق الأمور،.. إذ أن الملك الذي أخرج يوسف من السجن، لم يكن الملك المصري، بل كان أعظم من ذلك بما لا يقاس إذ هو ملك الملوك ورب الأرباب. والقصة الكتابية خير شاهد على هذه الحقيقة، ويكفي أن تراها آتية على لسان الملك ذاته إذ قال: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك".. أجل إنه الله، وسيصدق الله حتى ولو كذب جميع الناس، أو كما قال بلعام بن بعور: ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل. أو يتكلم ولا يفي".. أو كما ردد الرسول بولس: "حاشا. بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت"... عندما أصبحت الطريق ورطة أمام يعقوب، وخاف أن يصيبه الضرر في الطريق، تعلق بالصدق الإلهي وهو يناجي ربه: "وأنت قد قلت إني أحسن إليك وأجعل نسلك كرمل البحر الذي لا يعد للكثرة".. وعندما أوشكت شمس يشوع على الغروب هتف في قومه: "وها أنا ذاهب في طريق الأرض كلها وتعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب عنكم، الكل صار لكم لم تسقط منه كلمة واحدة".. إن ثبات الكلمة الإلهية في روعتها وعظمتها ودقتها تأتي في سياق تصريح السيد العظيم القائل: "فإني للحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل!!..".. لقد ارتفع يوسف لأنه كان واثقاً كل الثقة من صدق الله!!.. يوسف وعدالة الله عندما بدأت القصة، بدا الأمر كما لو أن شريعة الغاب هي التي تحكم كل شيء فالحكم للقوة، يأتي الصبي الصغير، فيجرده إخوته من القميص الجميل الملون، وقد تكاثروا عليه، وهم يسخرون من أحلامه بالقول هوذا صاحب الأحلام،.. وقد أوشكوا في لحظة أن يزهقوا روحه، قبل أن يزهقوا روح التيس من المعزى لغمس القيمص في الدم، ثم هم يأخذون أخاهم في خط عكسي لأحلامه، كان يحلم بالشمس والقمر والكواكب الساجدة له،.. إذاً فليحلم حلمه في طين البئر التي ألقوه فيها،.. فإذا رأوا قافلة آتية فلتكن السخرية من السيادة بتحويله عبداً، لا خلاص له من العبودية إلى الأبد، وليبيع بأزهد ثمن، فليس الأمر أمر إثراء بل واقعة تخلص، وإذا بيوسف العظيم لا يساوي ما يقرب من جنيهين بعملتنا الحالية،.. وغاب يوسف عن الأنظار، غيبة كانت في تصورهم لا عودة فيها أو أوبة منها، وليذهب، ولتذهب أحلامه إلى غير لقاء أو رجعة،.. فإذا تمرد يوسف على الشر، فليحكم الشيطان قبضته الظالمة عليه داخل سجن هيهات أن تتحطم قضبانه أو يخرج هو إلى أن تنتهي الحياة، في أرض ظالمة يدوس فيها الظلم أعناق الأبرياء بدون حنان أو شفقة أو عدالة أو رحمة!!.. هل ذهبت عدالة الله أو ضاعت في الأرض، إن تجربة الثلاثة العشر عاماً كثيراً ما ترسل غيومها القاسية في سماء العدالة وقوة شمسها، وكثيراً ما يصل الناس إلى النقطة التي وقف عند آساف في مزموره القديم: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك فلما قصدت معرفة هذا إذا هو تعب في عيني حتى دخلت إلى مقادس العلي وانتبهت إلى آخرتهم".. لكن يوسف كان يؤمن أن الله هناك، وكانت هناك دائماً الكأس المروية، التي تلطف من حدة التجربة، والتي تبل شفتيه بمائها القراح، وكلما زاد الظمأ، والتهب السعير،.. لقد أدرك بأنه غير متروك، وأنه غير منسي، ربما ينساه البشر كما نسيه رئيس السقاة، لكن الله هيهات أن يهمله أو يتركه، أو ينساه، وفي أعماق ليله الطويل، كانت عدالة الله تعد المخرج. وتمهيد السبيل، ولكن في الموعد الحكيم المحدد الدقيق المرتب من الله،.. وإذا كان الظلم قد أخذه خفية وغدراً، فإن عدل سيخرج مثل النور بره، وحقه مثل الظهيرة،.. وسيرى رئيس السقاة هذا العدل، وسيراه فوطيفار، وستراه زوجة فوطيفار، وسيراه إخوة يوسف، وسيراه أبوهم، وستراه مصر والدنيا بأكملها، وسيراه التاريخ، لأن الرب عادل ويحب العدل، وطوبى لجميع المتكلين عليه".. إن العربة التي ركبها يوسف -وقد رد اعتباره، وارتفع فيها مجده- ما تزال إلى اليوم في مصر وفي كل أرجاء التاريخ، العربة التي يركبها المظلومون الأبرياء الذين ظن الناس أنهم قضوا عليهم إلى الأبد!!.. هل رأيت هذه العربة تجري في شوارع التاريخ!!.. إنها دائماً عربة عدل الله الذي قال إبراهيم وهو يتحدث معه جل جلاله: أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟!! كان ارتفاع يوسف لا يتحدث فقط عن صدق الله، بل عن عدله أيضاً!!.. يوسف وخدمة الله كان يوسف من أقدم الناس الذين أدركوا أن الارتفاع ليس نزهة أو ترفاً في حد ذاته، عندما ركب يوسف العربة، ولبس خاتم الملك، وطاف في أرض مصر، وركع أمامه الناس، لم يكن هذا نوعاً من النزهة أو الاستعلاء على غيره من بني البشر،.. لقد كانت عظمة يوسف ملتصقة بالخدمة، بل أن اسمه الذي أطلق عليه في مصر "صفنات فعنيع" أو "حاكم الحي مكان الحياة"، أو "حاكم الواحد الحي" أو "خبز الحياة": على الأصح، كان يؤكد ارتباط الاسم بنوع الخدمة التي سيقوم بها يوسف في مصر،.. كان هو الإنسان المرسل من الله لإبقاء الناس على حياتهم، بما يقدم لهم من طعام وخبز،.. كان رمزاً للخادم الأعظم الذي جاء بعد ذلك بقرون طويلة ليقول: "أنا هو خبز الحياة من يقبل إلى فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش".. كان يوسف وكيلاً أميناً طوال ثمانين عاماً قضاها في مصر،.. هل رأيت الحياة بهذا المعنى؟ وهل قرأت قصة ذلك الشاعر الذي سار ذات يوم وهو يضرب بقدميه المتعبتين في حر النهار، حتى أبصر من على بعد خميلة ظليلة، فسعى إليها ووجد مقعداً كتب فوقه: اجلس هنا واسترح فوق المقعد، وإذ هو أن يستريح، وجد سلة بها تفاح، وفوقها عبارة “خذ تفاحة من السلة وكلها”!!.. وعندما أخذ التفاحة رأى ورقة وقد كتب عليها: “على قيد خطوات من هنا غدير ماء، اذهب إليه واشرب!!”.. وتعجب الشاعر ورام أن يدرك قصة المكان، فرأى من على بعد كوخاً يقف على بابه رجل عجوز، وإذ استفسر منه الشاعر قال الرجل: “هذا المكان مكاني، وقد كتبت هذه الورقات، ربما يأتي متعب في الطريق، فيجد مكاناً يستريح فيه،.. وربما يكون في حاجة إلى طعام، وعندنا تفاح فائض، فلماذا لا يأخذ واحدة من التفاح؟ وقد يكون ظامئاً ويحتاج إلى من يهديه إلى الغدير". واستمع الشاعر، وخرج من عند الرجل، وكتب قصيدة يتمنى فيها أن يقف على الطريق في الحياة ليعين متعباً ليستريح، أو جائعاً ليشبع، أو عطشاناً ليرتوي!!.. لم يأخذ يوسف الحياة راحة له أو لبيته، بل لقد جعله الله راحة لكل جائع ومتعب ومنكوب في الطريق البشري المليء بالآلام والمتاعب والمأسي والدموع!!.. يوسف وعفو الله لا أعلم ماذا فعل يوسف مع فوطيفار أو امرأة فوطيفار، لقد شاء الله أن يترك هذا الجانب من القصة في زاوية من الظلال لا تجلب الانتباه، لقد كان ارتفاع يوسف في حد ذاته، عقوبة دونها كل عقوبة للرجل أو زوجته على حد سواء.. وقد يكون العفو هنا أقتل من القتل نفسه!!.. على أننا نعلم أن يوسف لم يكتف بالعفو عن إخوته، بل اهتم بإعالتهم،.. وذلك لأنه رأى يداً أعلى من أيديهم في القصة، وهو لا يقف عند اليد البشرية، إذ يرى يد الله: "أنتم قصدتم.. أما الله فقصد".. لقد ارتفع يوسف عن كل حقد ومرارة، وضغينة وانتقام.. لأنه رأى يد الله وقصده في الأمر،.. وليس هناك من شيء يدفع إلى العفو أو يرفع إلى التسامح قدر الارتفاع إلى القصد الإلهي الأعلى، عندما تطوي الآلام جميعاً في فيض إحسانه وجوده ورحمته وتعويضه وحبه الظاهر علانية أمام جميع الناس!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل