المقالات

12 فبراير 2021

«مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ»

ما أجمل قول الرسول بولس الذي قاله عن فم المسيح.. لم يُذكَر هذا القول في الأناجيل الأربعة، ولكنّه سمعه منه شخصيًّا مصدر العطاء هو المسيح ذاته.. الذي بذل ذاته وأعطانا جسده ودمه. هذا هو قمة السخاء وبالفعل «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ.» (يو15: 13). وحين يملك المسيح على القلب يفيض القلب عطاءًا وسخاءًا وفرحًا. أمّا الشُّحّ والبُخل فهي علامات للأنانية وحُبّ الذات. قرأتُ اليوم خبر انتقال إنسان في بلغاريا إلى الفردوس عن عمر يناهز 103 سنة. كان في بداية حياته يمتلك مزرعة، باعها وتَصَدَّق بها، وعاش فقيرًا مُعدَمًا باقي حياته.. سَكَن في كوخ صغير، وصار يتسوّل كلّ يوم في شوارع صوفيا (عاصمة بلغاريا) وهو يصلِّي الصلاة الدائمة. وكان الناس يُشفقون عليه، بسبب منظره المسكين وسِنّه المتقدمة. والغريب في أمره أنّه لم يكُن يقتني شيئًا، ولا يتسوّل لنفسه.. بل كان كلّ ما يحصُل عليه في يومه يُقدّمه خدمةً للأيتام في الملاجئ، وللمحتاجين على اختلاف حالاتهم.. تعجّبتُ جدًّا. إلى هذه الدرجة.. لعشرات السنين يفعل هذا؟ ما الدافع؟ وما هو السرّ وراء ذلك؟ بكلّ تأكيد إنّه ذاق نعمةً وغِبطةً لم يذُقها أحد.. لقد اختبر النعمة أن يعطي ويفرح، ولمّا باع ما كان له لم يكتفِ، بل ظلّ فِعل الخير والاحسان يدفعه دفعًا بلا توقُّف وبلا كَلل. وقبلَ على نفسه أن يصير فقيرًا بل شحّاذًا، من أجل خدمة أخوة الربّ الأصاغر. بل يَحكي تاريخ الكنيسة قِصّة القديس بطرس الذي كان بخيلاً جدًّا، فلمّا افتقدَتْه النعمة تبدَّل حاله إلى أكثر الناس عطاءًا. فلمّا باع كلّ ما له، باع نفسه عبدًا، وتَصَدّق بثمن حرّيته للمحتاجين. إنّها نعمة لا يعرفها إلاّ المختبِرين.. هي بعيدة عن كلّ المظاهر والاعلانات والافتخار الباطل.. هي نعمة باطنيّة حرصَ عليها كلّ مَن اختبرها. هم أحبّوا المسيح حبًّا طاغيًا.. أحبّوه في الفقراء والضعفاء والمرضى وكلّ ذي حاجة. رأوه عريانًا وجائعًا وعطشانًا ومحبوسًا ومريضًا فأتوا إليه وخدموه. الأمر ليس مقصورًا على الأغنياء الذين يتصدّقون مِن فائض ما عندهم، فهناك فقراء جدًّا، بل ومُعدَمين، ولكنّهم يحبّون العطاء.وقصّة الأرملة الفقيرة التي مدحها المسيح في الإنجيل، وقبلَ عطيّة الفلسين من يدها، وشهد عنها أنّها أعطَتْ أكثر من جميع الذين قدّموا. هذه القصة قد صارت نموذجًا وأيقونة للعطاء المقبول لدى المسيح. وقد جعلَتْها الكنيسة في أوشية القرابين فنقول هكذا للرب «وكما قبلتَ إليك قرابين هابيل الصديق وذبيحة أبينا ابراهيم وفلسي الأرملة، هكذا نذور عبيدك اقبلها إليك». فكأن فلسيّ الأرملة قد توازَتْ مع ذبيحة أبينا ابراهيم وقرابين هابيل.. ياللعجب!! لذلك أَعطِ روح الله الحالّ فيك أن يستخدمك للعطاء. لقد قال الرسول عن المؤمنين «فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ» (2كو8: 2، 3). لقد صار العطاء تلقائيًّا عندما حلت نعمة الله عليهم، كما كان في البداية أيضًا، فكلّ الذين آمنوا وقبلوا روح الله تخلُّوا تلقائيًّا عما كان لهم بكلّ الفرح والسرور، دون أن يسألهم أحد أن يفعلوا ذلك السرّ أنّهم أعطوا أنفسهم للرب.. فعمل بهم وفيهم ثمر السخاء والبذل بكلّ الفرح، ليس عن اضطرار، أو بسبب الإحراج، أو حُبّ الظهور. لقد تبعوا قول الرب القائل «لتكن صَدَقَتُكَ (رحمتُك) فِي الْخَفَاءِ» (مت6: 4) كذلك الأمر يحتاج إلى تدريب.. فالطبيعة البشريّة تحبّ الأخذ دون العطاء، وتفرح بالامتلاك والاكتناز. أمّا النعمة فعلى العكس، فالنعمة سخيّة باذِلة مُضَحِّية لا تطلب ما لنفسها. فعلينا إذن أن ننحاز للنعمة، لكي نَغلب الطبيعة، ونُسرَّ بحركات النعمة التي تقودنا لعمل الخير، وتفتح لنا المجالات وتشجّعنا وتُحبِّب لنا البذل والعطاء. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
28 أغسطس 2019

الكنيسة والاستعداد للمجيء الثاني

تهتم الكنيسة المقدسة جدًا بالاستعداد للمجيء الثاني للسيد المسيح. لذلك نردد في ختام قانون الإيمان المسيحيالعبارة التالية: (وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي آمين) وذلك تحقيقًا للوصية الرسولية "منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب" (2بط 3: 12). وكذلك للتعليم الرسولي "وتنتظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" (1تس1: 10). وقول معلمنا بولس الرسول "السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح. الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" (فى3: 20، 21). وكذلك قوله: "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (1تس5: 23). كذلك رتبت الكنيسة في القداس الإلهي أن يصلى الكاهن عند تقديس القرابين قائلًا: (فيما نحن أيضًا نصنع ذكرى آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات وجلوسه عن يمينك أيها الآب وظهوره الثاني الآتي من السماوات المخوف المملوء مجدًا نقرب لك قرابينك من الذي لك على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال) وقد يتساءل البعض: كيف نصنع ذكرى ظهوره الثاني الآتي من السماوات المخوف المملوء مجدًا؟ وهل يمكن أن نصنع ذكرى شيء لم يحدث إلى الآن؟!إن حضور السيد المسيح على المذبح في سر القربان المقدس يحمل معه كل معاني التجسد والصلب والقيامة والمجيء الثاني. إن جسده الكائن على المذبح هو نفسه الذي ولد من العذراء والذي صلب من أجلنا وقام وصعد إلىالسماوات وهو نفسه الذي سيأتي في ظهوره الثاني. ومن يتناول منه فإنه ينال عربون الحياة الأبدية (يُعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه). ولذلك فنحن كما نعيش ذكرى الصليب والقيامة فإننا نعيش ذكرى المجيء الثاني ونستعد بكل قلوبنا لهذا المجيء الآتي من السماوات المخوف المملوء مجدًاإننا حينما نصنع تذكار موت المسيح فإننا نصنع أيضًا تذكار مجيئه الثاني. ونردد كل يوم في تسبحة نصف الليل السابقة للقداس (عند ظهورك الثاني المخوف؛ لا نسمع برعدة إنني لست أعرفكم) لذلك يقول معلمنا بولس الرسول:"لأنني تسلّمت من الرب ما سلمتكم أيضًا إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزًا، وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكرى. كذلك الكأس أيضًا بعد ما تعشوا قائلًا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكرى. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء" (1كو11: 23-26)أي أننا نصنع تذكار موت الرب على الصليب إلى أن يجيء. فالتذكار هو لموته وقيامته والانتظار هو لمجيئه الثاني. وقد ربط الرسول بولس بهذه العبارة بين الإخبار بموت الرب وانتظار مجيئه إن حضور السيد المسيح على المذبح يذكرنا بموته ويذكرنا أيضًا بمجيئه الثاني،كما أننا حينما نستعد للتناول بالتوبة والاعتراف فإننا نستعد للحياة الأبدية. أي أنالاستعداد للتناول من جسد الرب ودمه هو استعداد لمجيء المسيح وعربون للحياة الأبدية وتذوق لها. ألسنا نشترك في جسد الرب المقام من الأموات؟! كيفية الاستعداد إننى أتعجّب ممن يتكلمون عن الاستعداد لمجيء الرب بعيدًا عن أسرار الكنيسة المقدسة كيف ينال الإنسان قوة الاتحاد بالمسيح والثبات فيه بدون التناول من جسده الحقيقي ودمه الحقيقي وكيف ينال الإنسان قوة الاتحاد بالمسيح في مجيئه الثاني دون أن يقترب من المائدة متذكرًا إنها عربون للميراث الأبدي ومائدة المسيح الأبدية كثيرون يتكلمون عن الخلاص ولا خلاص إلا بدم المسيح. وأين نجد هذا الدم إلا في الكأس كما قال هو بنفسه "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى" (لو22: 20، 1كو11: 25). لقد جعل السيد المسيح الكأس الحاوية لدمه هي العهد الجديد وليس الدم بدون الكأس. لأن الكأس هو الوسيلة التي تجعل دمه -الذي للعهد الجديد والذي سفك علىالصليب- حاضرًا ومتاحًا وفاعلًا في حياتنا من خلال سر الافخارستيا إننا كلما نحضر القداس الإلهي نستعد لمجيء الرب لأنه بالفعل يحضر وسطنا سرائريًا. نيافة الحبر الجليل المتنيح الانبا بيشوى مطران دمياط ورئيس دير الشهيدة دميانة عن كتاب المسيح مشتهي الأجيال منظور أرثوذكسي
المزيد
09 ديسمبر 2019

ضرورة التجسد الإلهيّ

بمناسبة صوم الميلاد، الذي نحتفل فيه بتجسد الكلمة في أحشاء العذراء القديسة مريم، يتساءل البعض: ألم تكن هناك وسيلة أخرى للخلاص؟ غاية التجسد الإلهيّ هو فداء الإنسان. فالله محب البشر دبّر خلاص الإنسان، والخلاص بدون موت أمرٌ ضد طبيعة الله:- الله له السلطان المطلق والقوة المطلقة، فلماذا لم يخلص الإنسان بقوته، بدون التجسد؟!!إن الله يليق به العدل والحق، آدم عندما أخطأ، وخالف الوصية، فعل ذلك بمحض إرادته الحره، فوجود الوصية: «وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا» (تك2: 16، 17). ووجود عقاب «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوت»، دليل على الحرية، فحرية الإرادة التي منحها الله للإنسان، تجعل طبيعته قابلة للقداسة، وقابلة أيضًا للخطأ. يقول القديس مقاريوس الكبير: [إنك سيد نفسك، فإذا اخترت أن تهلك فطبيعتك تقبل التغير. وإذا اخترت أن تجدف أو أن تخلط سمومًا لكي تقتل إنسانًا ما، فلن يمنعك أو يعوقك أحد. فإذا أراد الإنسان، يمكنه أن يخضع لله ويسير في طريق البر ويضبط شهواته. فإن عقلنا هذا هو قوة متوازنة وقد أُعطيت له القدرة أن يخضع حركات وشهوات الخطية المخجلة] (عظات القديس مقاريوس15: 23). فكيف لله العادل أن يعاقب الإنسان على أمرٍ كان مجبرًا عليه؟!! فإذا رد اللهُ الإنسانَ، وخلصه بسلطانه وقوته، دون موت، يكون بذلك قد خرج من العدل. - ألم تكن توبة الإنسان كافية للخلاص؟! خطيئة آدم أحدثت فسادًا في الجنس البشريّ، يقول معلمنا القديس بولس الرسول: «وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا» (أف2: 3)، فخطيئة آدم لم تكن خاصة به كشخص، فالبشرية كانت في صلب آدم حينما أخطأ، لذلك «بإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو5: 12). يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [لا تَقْدِر التوبة أن تُغَيِّر طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعه من أعمال الخطيئة. فلو كان تَعِدِّي الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أما الآن بعد أن حدث التَعَدِّي، فقد تورّط البشر في ذلك الفساد الذى كان هو طبيعتهم ونُزِعَتْ منهم نعمة مُمَاثَلَة صورة الله. فما هى الخطوة التى يحتاجها الأمر بعد ذلك؟ أو مَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة ويَرُدّه إلى حالته الأولى إلاَّ كلمة الله الذي خَلَقَ في البدء ـ كل شئ من العدم؟] (تجسد الكلمة7: 3، 4). لماذا تجسد الكلمة، ولم يترك الإنسان يموت؟ معنى أن الله يترك الإنسان يموت، وفقًا لنتيجة فعله ووجود عقاب هو عدل إلهيّ، ولكن صفات الله لا تتجزّأ، فالله عادل ورحيم في آنٍ واحد. وأيضًا إذا مات الإنسان فكأن الشيطان قد انتصر على الله، الذى خلق خليقة ولم يستطع أن يحميها. فحكم الموت يعني موت الإنسان موتًا أبديًا، وليس فقط موت الجسد. يقول القديس أثناسيوس الرسوليّ: [طالما طال الفساد الخليقة العاقلة، وكانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الذى كان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيترك الفساد يسيطر على البشر، والموت يسود عليهم؟ وما المنفعة إذًا من خلقتهم منذ البدء؟ لأنه كان أفضل بالحري ألاَّ يُخلقوا بالمرة من أن يُخلقوا وبعد ذلك يُهملوا ويفنوا. فلو أن الله قد أهمل ولم يبالِ بهلاك صنعته، لأظهر إهماله هذا ضعفه وليس صلاحه ... كان يجب إذًا أن لا يُترك البشر لينقادوا للفساد، لأن هذا يُعتبر عملًا غير لائق ويتعارض مع صلاح الله] (تجسد الكلمة6: 7، 8، 10). وان لم يمت الانسان يكون الله رحيمًا بغير عدل...اذ قد تساوى عنده وضع الإنسان وهو مخطئ .. كما ان الله سيكون حينئذ غير صادق لأنه قال للإنسان "موتا تموت"، وحاشا لله ان يكون غير عادل أو غير صادق... فما الحل اذًا والإنسان قد داس الوصية وأصبح مستوجبًا للموت؟ لذلك لكي تتحقق صفتا العدل والرحمة في الله، تجسد وأعدّ فداء الإنسان. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
17 مايو 2021

بين القيامة والإفخارستيا

«فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْرًا مَوْضُوعًا وَسَمَكًا مَوْضُوعًا عَلَيْهِ وَخُبْزًا» (يو21: 9)حين ظهر الرب لتلاميذه بعد القيامة، دخل إلى العلية والأبواب مُغلَّقة، إذ كان التلاميذ مجتمعين، تحت تهديد رهيب من اليهود، وعدم مساندة للقانون من الرومان... فذهب التلاميذ إلى البحر ليصطادوا سمكًا.. هذه كانت مهنة الكثيرين منهم، كما كانت أرخص طريقة للأكل!! وإذ بالسيد المسيح يظهر لهم هكذا:«وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَامًا (أي طعامًا)؟... فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا:1- جَمْرًا مَوْضُوعًا 2- وَسَمَكًا مَوْضُوعًا عَلَيْهِ 3- وَخُبْزًا، "ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ» (يو21: 4-13).ظهورات الرب لتلاميذه بعد القيامة، كانت:1- كثيرة. 2- في أماكن متعددة. 3- وشخصيات متعددة. 4- وبكلمات وتعبيرات متنوعة.ومن بين هذه الظهورات ظهور "الخبز والسمك والجمر".. وهذه لها معانيها:أ- الخبــز: لأن الرب يسوع هو «خُبْزُ الْحَيَاةِ» (يو6: 35)، «الْخُبْزُ الْحَيٌّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ» (يو6: 51).. ونحن نسمي الخبز في بلادنا "العيـش" = "الحيـاة" = إمكانية المعيشة، والاستمرار في الوجود.والرب يسوع يعطينا مع إمكانية الاستمرار في الحياة الأرضية، الخبز الحيّ الذي يجعلنا نحيا معه في الحياة الأبدية. «مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَد» (يو58:6). إذن، فهو خبز الخلود!! وهو الذي قال: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو54:6).ب- ســر الإفخارستيا: هو استمرار "عيني" لنفس الجسد والدم اللذيْن قدمهما الرب لتلاميذه في العشاء الرباني.. فبعد أن أكل الفصح مع تلاميذه (بحسب العهد القديم)، أسس سر الإفخارستيا، ونقلنا إلى العهد الجديد «هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ» (مر24:14).يُعطى عنا خلاصًا وغفرانًا وحياة أبدية: إنها العطايا الثلاثة الذي نأخذها من سر التناول المقدس، فالخلاص يكون بالتناول المنتظم، يثبت الرب فينا، ونثبت فيه، فيستمر فينا فعل الخلاص الذي أخذناه في المعمودية، حين متنا وقمنا معه «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (كو12:2):- بطبيعة جديدة وإنسان جديد.- وعضوية في جسد السيد المسيح (الكنيسة) فهي جسده، وهو رأسها وعريسها!!إن من يتناول من الجسد والدم الأقدسيْن يصير عضوًا في جسد المسيح، متواصلًا بالرأس (السيد المسيح) والجسد (القديسين في السماء + المؤمنين على الأرض)، ويشهد للرب في العالم (مع أنه ليس من العالم ولكنه مدعو للشهادة للمسيح في العالم)... نيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
المزيد
17 أكتوبر 2020

المقالة الثالثة عشرة في الانتباه

أصغي إلى ذاتك أيتها الشبيبة المؤثرة النسك لئلا تعبر أيامك في التنزه، لا تقبلي الأفكار الخبيثة لئلا تضعف قوتك في حرب العدو، ليكن كل وقت في ذهنك السيد الحلو ليكلل سعي نسككِ.حاضري جرياً أيتها الحداثة في جهاد نسككِ، قد حان اليوم وأقترب الوقت الذي فيه العاملون يكللون والمتوانون يندمون، أقتني الفضيلة ما دام لك زمان ؛ أقتني ورعاً في ناظركِ وصدقاً في مسامعكِ وكلمات حياة في لسانكِ.تعهدي المرضى في قدميكِ ؛ وفي قلبكِ صورة ربكِ، في أعضائكِ تقويمات العفة ليفضل تكريمكِ بحضرة الملائكة والناس. خشبة لا نفس لها تكرم إذا كان فيها صورة ملك مائت، فكم أحرى تكرم النفس الحاوية فيها اللـه في هذا الدهر والمستأنف.أصغِ إلى ذاتك أيها الحبيب ؛ إن الشهوة مائتة فأما جسمك فهو حي ؛ وتأمل إذاً بمبالغة وأحذر ألا تمنح جسدك حياة المائت ؛ فإن أعطيته حياة يقتلك، فإن المائت إذا أحييته قتل من منحه الحياة.فأعرف بمبالغة ما هي الشهوة، فالشهوة خلواً من الجسم مائتة ؛ فإذا اقترنت الشهوة بالجسم تعيش الشهوة ؛ ويدرس الذهن في حلاوتِها، ويوجد الجسد الحي مائتاً بإماتتها إياه.فمن أجل هذا أحفظ ذاتك بتحرز من هذا المائت في توقد نار شهوته، أحضر إلى ذهنك النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت ففي الحال يخمد التهاب الأعضاء، لئلا تسترخي فتغلب وتندم وتستدرك كل النار، نار الندامة وتعتاد أن تخطئ وتندم.أقتنِ صرامة منذ الابتداء مقابل كل شهوة ؛ ولا تنغلب لها ؛ ولا تعتاد على الهزيمة في الحرب ؛ لأن العادة طبيعة ثانية ؛ واعتياد الاسترخاء لا يقتني قط صرامة وشهامة لأنه كل حين يبني وينقض، كل وقت يخطئ ويندم.أيها الحبيب إذا اعتدت أن تتراخى إذا قوتلت فستكون تسطير كتابة ندامتك ثابتة إلى أبد الدهر.من قد أعتاد أن ينغلب لبعض الشهوات فضميره يصير له كل وقت موبخاً ؛ ويكون كل وقت حزيناً كئيباً، فيرى قدام الناظرين وجهه بورع وعافية ؛ وهو من داخل مقطب من أجل توبيخ ضميره إياه ؛ لأن الشهوة اعتادت أن تمنح الذين يعملونَها حزناً موجعاً.فتحرز بكل نفسك ؛ وأحذر حاوياً في ذاتك المسيح كل وقت، لأن المسيح هو للنفس ختن لا يموت، لا تترك ختنك المحق لئلا يتركك ؛ وإذا تركك تحب الغريب العدو الغاش الذي يغش ؛ يحب وقتاً يسيراً ويترك لأنه هو زانية نجسة ؛ فإذا أفنى الإنسان قوته فيها يمقتها.من لا يبكي لأن العدو إذا افنى قوتنا وزماننا في نجاساته وشهواته الدنسة ؛ يبتعد حينئذ عنا لأنه يمقتنا ولا يحبنا قط ؛ لكن يحبنا اللـه الآب والابن والروح القدس الذي له التمجيد إلى أبد الدهور.آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
10 مايو 2019

كيف أحتفظ بروحياتى فى فترة الخماسين المقدسة ؟

يمكنك أن تزيد قراءاتك الروحية, و تأملاتك سواء فى الكتاب المقدس , أو فى سير القديسين. وثق أن هذه القراءات والتأملات يمكن أن تلهب روحك كذلك تفيدك جدآ التراتيل والتسابيح والألحان , وبخاصة ألحان القيامة وما فيها من ذكريات الفرح بالرب فى هذه الفترة , وبالعزاء العميق الذى قدمه لتلاميذه وللبشرية كلها, وبخاصة الفرح بالوجود فى حضرة الرب يفيدك أيضآ التناول من الأسرار المقدسة, وحضور القداسات , وما يصحب ذلك من مشاعر التوبة ومحاسبة النفس لا تنس أيضآ أن عدم الصوم ليس معناه التسيب فى الطعام, فنحن لا ننتقل من الضد الضد تمامآ. إنما يمكن أنك لا تكون صائمآ , ومع هذا تحتفظ بضبط النفس. وكل هذا يبعدك عن الفتور ومن المفيد لك جدآ فى فترة الخماسين, أن تزيد صلواتك ومزاميرك . وتتدرب على الصلاة بعمق وروحانية, مع تدريب على الصلوات القصيرة المتكررة والصلوات القلبية وثق أن التأثير الروحى لهذا سيكون عميقآ جدآ, ولا يمكن أن تحارب بالفتور مع تداريب الصلاة تذكر أننا فى الأبدية سنتغذى بالفرح الإلهى , وبحب الله . وسوف لا يخطر على بالنا موضوع الصوم والمطانيات . ونحيا فى حياة روحية عميقة , مصدرها الفرح والتأمل والحب والوجود مع الله
المزيد
09 مارس 2021

عِبَادَةُ الصَّوْمِ الكَبِيرِ الليتُورْچِيَّة

وضعت (أمّنا) الكنيسة عبادة خاصة للصوم الكبير؛ كي تغذي نفوسنا بالطعام الإلهي (الكلمة)؛ فتثبت قلوبنا بالنعمة لا بالأطعمة التي لم ينتفع بها الذين يستعملونها... نحفظ صومنا فصحيًا كما يليق، ونستقبل الآلام المقدسة؛ ونعيِّد للقيامة المجيدة، عندما يتحول الزمن العالمي إلى زمن ليتورچي كنسي؛ زمن خلاص مقدس؛ بعبادة نسكية مُفعمة بالعمق اللاهوتي؛ وبها نصطبغ بالتوبة كمعمودية ثانية... ننمو كموعوظين ومؤمنين؛ حتى لا يفوتنا القطار المتجه بنا إلى البصخة وفرح القيامة. وهكذا ترتب الكنيسة كل شيء في وقته وأوانه؛ لكي نميز الأوقات، مثلما كانت الأبواق قديمًا رموزًا تدعو تارة إلى الأعياد؛ وتارة أخرى للصوم؛ وثالثة إلى الحرب. والآن تبوِّق الكنيسة بوق الصوم الأربعيني؛ حتى نتمكن أن نأتي إلى ما وعِينا من أجله؛ حسب قصدها في أن تجعل هذا الزمن "وقت الإصلاح" (عب ١٠:٩) فنعيِّد لا بخميرة الشر والخبث العتيقة؛ بل بفطير الإخلاص والحق. وتصير عبادة الكنيسة في زمن الصوم مدرسة لاهوت تكوينية لحياتنا وفكرنا، تتخلل كياننا بعمق كمَعين لا ينضُب للمعرفة والحياة، حتى ينمو ما للإيمان بما للعبادة، وتُكتشف العقائد إلهيًا خلال خدمة العبادة الكنسية الخلاقة التي تحتضن ملء الكنيسة، وتتيح الفرصة لاختبار "فعل الصوم" في ضوء جديد يجدد لقاءنا مع المسيح الحي الذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة. في مسيرة نحو الفصح تنتهي في جمعة ختام الصوم الذي فيه نختتم زمن الصوم الكبير كموسم ليتورچي، يتميز بطابعه النسكي المِستيكي والتعليمي لننتقل إلى ذكرى آلام الرب المقدسة وفصح العبور للقيامة. إنها رحلة روحية غايتها الأخيرة؛ التهيئة للكشف الحقيقي؛ ومعايشة التدبير؛ كعبور دائم إلى فصح الملكوت الأبدي (سرٌ عظيم يفوق عقول البشر هو سعي مخلصنا محب البشر... صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة... وكان مع الوحوش لمّا صام في البرية لكي نصنع مثله) إنه عبورنا نحن؛ وصومنا نحن؛ وفصحنا إلى الحياة الجديدة؛ من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا... نتذوقه ونعيشه عبر طقوس الكنيسة وعبادتها الصومية في دسم وشبع روحي؛ وبرؤية صحيحة لملكوت الله وبره، وللكنز السماوي، ولنوال الصحة الروحية لرؤوسنا المريضة وقلوبنا السقيمة، بروح الإحراق والقضاء والتنقية وقمع الجسد بطهارة وبر، والنصرة على التجارب بكل كلمة تخرج من فم الله، وبسلاح الإنجيل وثمار التوبة والعودة إلى الأحضان الأبوية والرجعة إلى البيت الأبدي، والارتواء من ينبوع الماء الحي مع كل ابن ضال وكل سامرية وكل مُخلع وكل مولود أعمى... فما كل هؤلاء إلا أنا!!! وهذه ليست قصصًا وأمثالاً وحكايا؛ لكنها لقاؤنا نحن وتجاوبنا وقبولنا الآن وهنا، فتبيضّ خطايانا كالثلج؛ ويصير فينا لكل مجد غطاء... غنانا ومجدنا من الداخل لا يُسرق بل يحفظ لنا أجرنا... ننادي مسيحنا الصائم عنا ونسبح مراحمه إلى أبد الآباد ومن جيل إلى جيل نخبر بحقه؛ ونناجيه قائلين له: (أنا أعرف أنك صالح ورؤوف ورحيم؛ اذكرني برحمتك... نطلب إليه أن لا يبكتنا بجهالاتنا؛ لأنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا... نطلب إليه أن لا ينظر إلينا بغضب وأن لا يحرق عدم معرفتنا مثل سدوم ولا يهلكنا مثل عمورة ولا يحاكمنا من أجل ضعفنا وخطايانا... وأن يحل ويغفر لنا زلاتنا؛ كصالح ومحب للبشر يرحمنا). لقد رتبت الكنيسة قطماروسًا خاصًا لخدمة الصوم؛ كي تجعل له نبوات وقراءات وتزين عبادة الصوم بجمال فن التوبة وحُسن العبادة العقلية؛ فاختارت القراءات ووضعت الطلبات والميطانيات والذكصولوجيات والمردات والطروحات والقِسَم التي تحمل طابع (الحزن المضيء البهي) فتُحدث تحولاً سريًا في أعماقنا؛ به ندخل لجهادنا الروحي ولتقديس الحواس؛ حتى نتحرر من العالم الساقط؛ عالم آدم القديم؛ المعتمد على الأطعمة والمادة؛ فنوقن أنه لا خلاص ولا كنيسة من دون صوم ومن دون نسك. نذهب باكين نلقي بذارنا لنرجع فرحين حاملين أغمارنا... مشتاقين بالصوم والصلاة؛ لالتماس رضى وجه الله، فتطيب لنا العِشرة ونتابع المسيرة الفردوسية مع المسيح الصائم ومن خلفه؛ حتى نتماهىَ مع كامل حياة الكنيسة كجسد المسيح؛ ونخاطب مسيحنا (رأسنا) باعتباره رئيس الكهنة إلى الآباد (لحن ميغالو) وبأنه رب الجيوش العلوية؛ متطلعين إليه وعيوننا نحوه وحده (تعالوا انظروا مخلصنا؛ علمنا المسلك لكي نسلك مثله... أبطل قوة العدو وحِيله وحججه؛ وافتُضح المجرِّب أمامه). فالمسيح هو قائدنا في مسيرة الصوم وهو محور عبادتنا وأيقونتها الفريدة، بحيث يتضاعف البعد الكتابي في الأيام الصيامية كأيقونة كلامية للمسيح والكنيسة... فنتلو النبوءات والقراءات المختارة في مطابقة لتدبير الله الخلاصي حسب الدورة الليتورچية وحبكة الطقس. ندخل إلى الحدث في توالي آحاد الصوم؛ حيث تجربة الرب كواقع تدبيري حدث من أجلنا؛ وكقوة في حياتنا نرفض بها الكذبة الكونية التي روّجها الشيطان؛ بأننا نحيا بالخبز وحده، لكننا بالصوم والعبادة نتحدى الكذاب وأبو الكذاب عمليًا؛ ونغلبه باعتماد المسيح لشركة ذبيحة صومنا... نغلبه بالسلاح والسيف الإلهي الذي هو البرهان الوجودي على أننا بنعمة العبادة نصير روحانيين لا جسدانيين فيما بعد، حياتنا في الله ومنه ولأجله... وحتى جوعنا هو جوع بالأكثر إلى البر... ولا صوم من غير تجارب، ولا نصرة من غير جهاد ومعونة... الله هو نصيبنا؛ نصيب الابن الضال والسامرية والمُخلع والمولود أعمى، وملكوته هو مطلبنا، وكنزنا عنده (أناجيل آحاد الصوم). لذلك نسأله أن يقبل صومنا وأن يذكرنا برحمته؛ لأن آثامنا علت على رؤوسنا وثقُلت علينا؛ فليسمع تنهدنا ويطرحها عنا. ومثلما تضع العبادة الصومية المسيح مخلصنا باعتباره النموذج والمثال الأصلي (تعالوا انظروا مخلصنا)، كذلك تضع العبادة أيقونة صوتية لنماذج تضم العشار والزانية واللص اليمين، عندما نتوسل إلى الله ليجعلنا مثلهم وفي محلّتهم ويضمنا إلى زُمرة صحبتهم... يتراءف علينا ويغفر خطايانا ويخلصنا وينقذنا وينجينا؛ لأننا (كأعضاء) و(كجماعة) قد أخطأنا (أخطأتُ أخطأتُ؛ لا تحسب علينا خطايانا... فلتدركنا رحمتك وتخلصنا من الشدائد المضادة لنفوسنا) وبإقرار واعتراف جماعي نقول (أنا أيضًا الخاطئ يا يسوع إلهي وملكي الحقيقي تحنن عليّ واجعلني كواحد من هؤلاء). وكأننا في موكب كنسي كبير يجمع العشار والزانية واللص اليمين مع كل الصوامين التائبين؛ ويتقدم هذا الموكب مسيحُنا القدوس شخصيًا؛ حاملاً الجميع في معيته. وفي هذا الحاضر المكرس ليتورچيًا نتذوق شركتنا مع الثالوث القدوس ومع السمائيين ومع جماعة المؤمنين الذين اختبروا الصوم كدواء أول؛ يضمد الجرح الأول؛ لأن السقوط كان بالعصيان والأكل، أمّا القيام فهو بالطاعة والصوم... الوصية الأولى أن لا نأكل؛ ولما لم تُطَع؛ سقط آدم الأول فخاب وزلّ، لكن آدم الثاني السماوي قد وفىَ الدين بالصوم ليُنهضنا من سقطتنا؛ وليُبرئ جرح آدم الأرضي. قام المسيح بفعل الصوم الذي رفضه آدم فسقط (أكل فمات) لذلك عدونا المحتال يفتح باب الخطية على الدهور بالأكل، لكن صومنا سلاحنا؛ يُسقطه مثل البرق، وقاضينا العادل رؤوف ورحيم؛ وصام معنا كي يرحمنا كعظيم رحمته؛ وهو لن ينظر إلينا بغضب. نحني ركبنا في عبادة الصوم للمسيح إلهنا الذي عنده كنوز التحنن؛ حتى لا يتركنا في الجهالات والأفكار الردية؛ وحتى نُرضيه أمامه وندخل معه في ديالوج خشوعي؛ كصديق يتكلم مع صديقه، سائلينه أن لا يطرحنا على شماله؛ وأن لا يقول لنا أنه لا يعرفنا... ونعترف له بأننا خطاة كي يعطينا توبة؛ قبل أن يسد الموت فمنا في أبواب الجحيم، وكي يعطينا جوابًا عن كل ما فعلناه... وبذلك تكون عبادتنا صومية جماعية محسوسة؛ في علاقة متبادلة نتخطى البعد الزماني والمكاني، ونذهب إلى جبل التجربة ونصلي ليتورچيًا؛ كدليل لاقتفاء آثار تلك المسيرة؛ ونغرف من ينبوع الكتاب المقدس؛ في لقاء ورجاء ننادي مسيحنا وجهًا لوجه، باعتبار أن كنوز التحنن عنده، ونلحّ عليه وننطق بكرامة الصوم والصلاة، وبالنغم الصومي الذي لهذا الزمن الطقسي ننادي المسيح الحاضر معنا في برية غربتنا، ونطلب إليه (أيها الطويل الأناة) مع رفع صعيدة البخور بتوسل وركوع؛ نخرج خارج انفسنا وخارج محيطنا الاجتماعي والفكري والعائلي؛ من أجل شركة خلاصية مسكونية، نصلي من أجل المسافرين والمرضى والمتضايقين والمسبيين والموعوظين والذين في كل شدة، ومن أجل كل المخلوقات. طالبين رحمة المخلص؛ لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران. كذلك في منهج العبادة تقوم الكنيسة بعمل إعادة تفعيل الوظيفة النوسية في القلب (وضع القلب في العقل)؛ لشفاء الوجود البشري من خلال موقفنا الكلي نحو الله، ومن خلال قيمة الرمز في العبادة؛ فنتعطر بالمر واللبان؛ ونتزين بأزرة التاجر؛ ونتذرب على عبادة الروح والحق في الخفاء حتى لا تكون عبادتنا مزيفة؛ مكروهة ومغشوشة، لأن عبادة الكبرياء والرياء والشفاة هي زغلاً. متكلين على الله كنزنا بلا سند ولا ركن... نتحاجج معه ونتعلم فعل الخير، وتتنقى حياتنا من الشوك والحسك ونُثمر عنبًا صالحًا في ميعاد طلب الثمر، ولا نُجاري العالم؛ ولا يكون ثمرنا كثمره. وفي إبداع جمالي وليتورچي تصبح العبادة غنية بكلماتها وأنغامها وطقسها؛ وعملها الكلي الذي يسلب العقول؛ ويجعلها عبادة تجسد وتشرح مضمون إيمان الكنيسة ولاهوتها المرنَّم؛ الذي نقوله بصوت ولسان العشارين والخطاة، فيكون الصوم للنفس ثباتًا / يخلص من الضربات / صومًا عن الزلات والأرضيات / نسلكه في الخفيات بالجهادات كل أيام غربتنا العابرات؛ فتهرب منا الظلمات / صومًا عن السيئات والحسرات والشهوات والآفات والسقطات والمهلكات والعقوبات / صومًا ننال به الخيرات والكرامات ونتغذى فيه بالقداسات مبشرين بالأبديات؛ ونحيا الروحيات والصياميات بعَبرات وحُسن رجعات / صومًا يفتح لنا باب الهبات والصالحات ووافر البركات ونصعد به لأعلى الدرجات كالعذارى الحكيمات / نُثمر به ثمرات ونربح بالوزنات ونرث ملكوت السموات. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
17 فبراير 2020

بين القوة والعنف

كثرت أحداث العنف في هذه الأيام في مجتمعنا المصري الهادئ بطبعه، والمُعبَّق بالمحبة كطبيعته. ويظن البعض أو القِلّة التي تستخدم العنف والقتل، أنه لون من القوة. بينما العنف ضعف، فالقوة تساعد لكن العنف يُسيء للآخرين، ويدل على تعصب ديني أو أفكار خاطئة أو خضوع لأعصاب ملتهبة تُترجَم إلى شتائم أو سباب بعبارات لا تليق، وكلها خطايا لا تليق تَنُمّ عن رغبة في الانتقام أو التسيُّد على المجتمع، ورغبة في التخلُّص من الآخر بدلًا من الوحدة معه كنسيج قوي يحمل فضائل المحبة والاحتمال والاتضاع والوداعة ونبذ العنف، كمجتمع قوي يؤمن بالله القوي، وليس مجتمعًا يتخذ أسلوب العنف الذي هو الضعف، بل والشر في صور عديدة بغيضة يُقَسَّم المجتمع، وينتج عن هذا عواقب وخيمة وشريرة.. لذلك ينصح معلمنا بولس الرسول في مواجهة الصعوبات: «بل في كُلِّ شَيءٍ نُظهِرُ أنفُسَنا كخُدّامِ اللهِ، في صَبرٍ كثيرٍ: في شَدائدَ، في ضَروراتٍ، في ضيقاتٍ، في ضَرَباتٍ، في سُجونٍ، في اضطِراباتٍ، في أتعابٍ، في أسهارٍ، في أصوامٍ، في طَهارَةٍ، في عِلمٍ، في أناةٍ، في لُطفٍ، في الرّوحِ القُدُسِ، في مَحَبَّةٍ بلا رياءٍ» (2كو6: 4-6).+ مصادر العنف: الرغبة في التسلّط، والتباهي بالجريمة، وإرهاب الناس الآمنين وترويعهم كمظهر من مظاهر الرفض، وصنع القلاقل والتوتر المؤذي للأمن وللحياة وللسلام، والذي يُصًدّر الموت ويهدّد الحياة الآمنة المستقرة. ونحن كمصريين نرفض هذا بشدة، والتاريخ يُظهر حقيقة هامة وهي أن مَنْ يستخدم العنف ينتهي مثل الوثنيين وغيرهم، بينما مَنْ يتحمل الإساءة وينشر السلام والوئام في المجتمع يقوى وينتشر ويجذب الجميع ويغفر للآخرين زلّاتهم ويقدم القدوة للفضيلة التي تفوق القانون الوضعي وتسمو عنه.فالقوة تتفوق على العنف وتغلبه، وتحول الموت المدمّر إلى سلام بإبادة صانعي العنف ومُصَدّري الموت للأبرياء. فقوة التعاليم الدينية السمحة، وقوة القانون، وقوة الوحدة المجتمعية، تتحد ضد العنف، وتخلص المجتمع من هؤلاء العنفاء الأشرار. لذلك فإن الشهيد أسطفانوس وهو يُحاكَم أمام المجمع كان حكيمًا قويًا، ولم يستطيعوا أن يقاوموا قوته، فيقول سفر الأعمال: «ولَمْ يَقدِروا أنْ يُقاوِموا الحِكمَةَ والرّوحَ الّذي كانَ يتَكلَّمُ بهِ» (أع6: 10).وفي هذا نستنجد بقوة الله وعمله المعجزي، وقوة الدولة بجيشها وشرطتها ورجال القانون فيها، وقوة القانون نفسه الذي يحكم على مَنْ يؤذي غيره ويخلص المجتمع منه ومن أمثاله. وسبيلنا في هذا بنشر روح الحب والوحدة، ونبذ الكراهية، وتقديم الأمثولة الصالحة في الحوار المجتمعي الهادئ، والتأثير الروحي القوي بالصبر وطول الأناة، والقناعة الداخلية بأن الحياة أقوى من الموت، والبعد عن الرغبة في الانتقام الشخصي الذي يحول المجتمع إلى غابة يأكل فيها القوى الضعيف، والبعد أيضًا عن التكتلات الشريرة التي تؤدّي إلى إشعال الغضب بين الأطراف فتشتعل البلاد بطريقة تهدم السلام والهدوء والتنمية والبناء.+ الفكر المستنير: يؤمن بأن نعمة الله تكفي لتحوِّل الضعف إلى قوة أكثر من أي سلاح حاد، فالله يكره إزهاق الروح، ويرفض القتل والعنف، ونعمته تقوّي الضعيف لينتصر على العنيف، وأقصد أن نعمة الله عملت في النبي موسى فانتصر على فرعون صاحب القوة الغاشمة، وفتح الله للشعب بقيادة النبي موسى البحر ليعبروا في سلامٍ وأمان بينما غرق فرعون وكل قوته في البحر الأحمر، وهذا هو مصير العنفاء القتلة، مثلما حدث مع جليات الذي أراد قتل الناس فأعطى الله داود النبي قوة ليقتله بوسائل بسيطة من يد الله وفوق قدرة داود. وببركة الشهداء ضحايا العنف ينتصر المجتمع على العنف ومَنْ يتبعه، بوحدة الجميع ضده، ندعو الله مخلصين أن يحرّر مجتمعنا من العنف لتبقى القوة من الله أقوى بكثير جدًا من العنف. نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
04 فبراير 2020

التوبة طريق القداسة

عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به، ولعل أبرز هذه العوامل "النزعة الفردية فى الخلاص" التى يتبناها المنهج البروتستانتى أو كذلك "النسكيات المتطرفة" التى كانيتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى، ولعل أهم الموضوعات التى أصابها الغموض والانحراف موضوع "توبتنا"، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط:- 1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات. 2- أن الرجوع للخطية بعد الاعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة. 3- أن ارتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة.. وهذه القداسة تحتاج مجهوداً عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ. 4- بما أننى - عملياً - لا أستطيع ألا أخطئ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة.. لذلك فـإما. أن: صديقى الشاب.. لعلك توافقنى فى هذا الزعم.. ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا (القداس).. لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل، ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى إذ أن القداس - فى الحقيقة - يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى أبائى أصيل.. لأول وهلة سنلحظ أن: أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى فيها دون قوتها. والأخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل انحرافاته. ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع، أما أنا "فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت". أن: 1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة: يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول "أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح فى قديسيه. الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا. أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق لهذه الخدمة المقدسة التى لك، وليس لى وجه أن اقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وأرسل لى قوة من العلاء.. الخ". تأمل كيف تنضح هذه الصلاة بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا.. ومن الذى يقدمها؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله.. ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول: ".. لا تدخلنا فى تجربة، ولا يتسلط علينا كل إثم، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها، والمجرب أبطله، واطرده عنا، وانتهر أيضاً حركاته المغروسة فينا، وأقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية، ونجنا بقوتك المقدسة.. الخ" أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلغلة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى، وكأن القداس قد وضع فقط للتائبين، ما يعنينى هنا أن: 1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا. 2- أن يبدأ القداس وينتهى، معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة، منذ أن أدرك ذاتى وحتى الانتقال إلى السماء. 3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة - فى ضمير الكنيسة - هى عمل متكرر يومياً، فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق، والآخر للمتقدمين القديسين (الذين لا يخطئون) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس والفشل.. غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى.. أما فى هذا الدهر فإننا فى زمان التوبة والنمو لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها إننا ضعفاء ساقطون لأنه "ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران" مرد إنجيل الصوم الكبير. ليست الكنيسة مكاناً للقديسين فقط، ولكنها مستشفى للتائبين أيضاً. إننا ندخلها خطاة فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والاعتراف والحل.. لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية (خاصة القداس) يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب (وهى دعوة للتوبة والاعتراف السرى أما المسيح فى حضور الكنيسة كلها) يرد الشعب : أمامك يا رب أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة. يقول الشماس : ننصت بخوف الله (مشيراً إلى قرار خطير سيصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمع بمخافة). يقول الكاهن : السلام للكل (أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلاماً للكنيسة كلها). يرد الشعب : ولروحك أيضاً. ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى كالأسلة رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه.. والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل. لاحظ أن: توبة + اعتراف + تحليل = غفران وهذا يدفع الشماس لأن يصرخ (خلصت حقاً ومع روحك أيضاً) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران.. فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنغم الفرح قائلاً آمين كيرياليصون كيرياليصون كيرياليصون وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً: القدسات للقديسين (أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن) فتصرخ الكنيسة بانكسار ووداعة: واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس (معترفة بذلك أن واحداً قدوس هو الله وأن كل قداسة فينا هى مجرد انعكاسات لقداسته فى وجوهنا).. وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية.. ونخرج من الكنيسة مبررين بدم المسيح.. ولكن غير معصومين من الخطأ.. لذلك فنحن مدعوون للعودة للكنيسة مراراً وتكراراً.. ندخل خطاة ونخرج متبررين.. وبتكرار التوبة والعودة للمسيح تضمحل الخطية من أعضائنا ويزداد الاشتياق للمسيح وطهارته.. ولكننا سنظل خطاة وسيظل المسيح (الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا) مهما ترقينا فى الفضيلة والحب والالتصاق بالمسيح فنحن "تراب ورماد".لكن بينما أنا خاطئ متعثر فى خطواتى، وميولى الرديئة تدفعنى للسقوط، أجد الكنيسة تدعونى قديساً. القداسات للقديسين، لأن "أحباء الله مدعوين قديسين" (رؤ 1:7) فكيف يكون ذلك؟ الإجابة هى الركيزة الثانية فى مفاهيم التوبة بالفكر الأرثوذكسى: 2- التوبة هى عمل كل الكنيسة بكل أعضائها: فلا يوجد فى الكنيسة فئتان: خطاة مبتدئون، وقديسون كاملون، بل الكل خطاة قديسون لأن التوبة تجعل الزانى بتولاً، والخاطئ قديساً لا تتخيل - صديقى الشاب - أنك وحدك تخطئ.. أبداً.. كلنا نخطئ وكلنا نحتاج التوبة.. اسمع الأب الكاهن يصلى فى القداس قائلاً: أذكر يا رب ضعفى أنا المسكين، وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك؟ ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس. حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذبة ومن كل ملاقات الهراطقة الوثنيين أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ للمضاد.. الخ لو كان الحال أن الحياة الروحية مفصولة إلى مرحلتين: التوبة والقداسة لكان من البديهى أن يكون الكاهن قد أنتهى من مرحلة التوبة؟ ولا حاجة له أن يصلى مثل هذه الصلوات المفعمة بالانكسار والتذلل وليتركها للخطاة المبتدئين. ولكن فكر الكنيسة هو أن التوبة والقداسة صنوان يسيران معاً، فأنا خاطئ لأننى إنسان ضعيف، وأنا قديس لأن المسيح يقدسنى بنعمته "أن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطاينا ويطهرنا من كل إثم" (1يو 1: 8، 9) نحن خطاة (هذا طبع) والمسيح يطهرنا (لأنه أمين وعادل) فلا تظن صديقى أن القداسة بعيدة المنال أو أنك غريب عن القديسين، بل أنت وأنا والأب الكاهن وكل الكنيسة تائبون.. ورجوعنا للخطية لا يلغى انتمائنا للمسيح وبنوتنا له، فالأحرى أن ننتبه سريعاً ونقوم من سقطاتنا بدون يأس.. متمثلين بذلك الراهب الحاذق الذى قال للشيطان "ألست أنت تضرب مرذبة" العبرة بالنهاية "والذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص"والأكثر من هذا أنك تسمع الأب الكاهن يطلب عن خطاياه وعن جهالات الشعب "أعط يا رب أن تكون ذبيحتنا مقبولة أمامك عن خطاياى وجهالات شعبك" حاسب خطايا الشعب أنها جهالات خطيته وعندما يتقدم الكاهن ليغسل يديه قبل تقدمة الحمل، وقبل البدء فى القداس لا يكون هدفه فقط نظافة اليدين، وإنما نظافة القلب من الخطية والشهوات، لأنه يصحب الغسيل بالصلاة "تنضح على بزوفاك فأطهر، تغسلنى فأبيض أكثر من الثلج..."لقد جاء المسيح لأجل الخطاة ليدعوهم للتوبة.. والأبرار (فى أعين ذواتهم ليس لهم نصيب فى عمل المسيح وعندما أدركت الكنيسة هذه الحقيقة سلمتنا - أولادها - سر التوبة مدى الحياة لنكون دائماً فى مجال عمل رب المجد.. فإذا كنت خاطئاً فلا تيأس بل أعرف أنك من صميم عمل المسيح لأنه قال: "لم أت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.. لأنه.. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" وإذا اعترضت بأن توبتك ضعيفة وأنك تميل إلى الخطية والسقوط فأعلم أن: 3- الغفران يعتمد على قوة السر وأمانة الله: لذلك قيل عن سر التناول "السر العظيم الذى للخلاص" (صلاة الاستعداد)، "السر العظيم الذى للتقوى" (الرشومات) ويخاطب الكاهن الله قائلاً: "اللهم معطى النعمة، مرسل الخلاص، الذى يفعل كل شئ فى كل أحد".. فثق صديقى، أن الله "رحمته قد ثبتت علينا" (مرد اسباتير)، وأن الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات "الجسد والدم" ورائحة البخور "الصلوات" (مرد الأبركسيس).. وكل الكنيسة تصرخ بهذا المرد الرائع "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا" ولا نستطيع أن ننسى الإعلان المقدس عن الجسد والدم أنه "يعطى عنا خلاص وغفراناً للخطايا"وهناك حركة طقسية غاية فى الإبداع تطمئنك أن خطاياك قد ألقيت على دم المسيح.. فالكاهن يغطى يديه بلفافتين الأولى على يده اليسرى تمثل الخطايا والضعفات، والثانية على يده اليمنى تمثل بر المسيح (لأنه أخذها من فوق الحمل) وقبلما يرشم الكاهن الشعب بكلمة أجيوس (قدوس) يبدل اللفائف ويضع ما كانت بيده اليسرى على الكأس ويمسك ما كانت على الكأس بيده اليمنى ليرشم بها الشعب، معلناً بذلك أن خطايانا جميعاً قد ألقيت على الدم المقدس وأننا ننال البر بدم المسيح (اللفافة التى على الكأس) راشماً إيانا بكلمة قدوس ليقدسنا حقيقة أن توبتنا ضعيفة ومريضة ولكن لنا رجاء فى الله "الذى يحى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رؤ 4: 3) وتصرخ مع "أبو الولد" بدموع "أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى" (مز 9: 24) فلو كانت توبتى عدما، فأومن أنك ستعمل فيها عجباً وتخلصنى بنعمتك لأننى عاجز بجهدى ولكننى لن أيأس من رحمتك لذلك فإن التوبة الأرثوذكسية فيها: 4- ينتفى الإحساس بالإنجاز والبر الذاتى: لأنه ليس بمقدرتى ومهارتى، ولا بإرادتى بل بالكنيسة وبالكاهن وبالسر.. لذلك يتكرر طوال القداس المرد الشهير "كيريليصون - يا رب أرحم" عالمين أننا مهما تقدسنا أو تبررنا فنحن بحاجة شديدة لراحة الرب.. ودائماً تسمع التعبير "نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين.."، "نحن الأذلاء غير المستحقين.."، "ضعفى أنا المسكين" بينما نشكر الله فى انكسار أنه جعلنا أهلا الآن أن نقف فى هذا الموضع المقدس..، ولأنه "جعلنا مستحقين" وبروح العشار التائب نصرخ "نسألك يا سيدنا لا تردنا إلى خلف.. لأننا لا نتكل على برنا بل على رحمتك، هذه التى بها أحييت جنسنا.. "صك الحجاب".. وتستطيع أن تستشف هذه الروح المنسحقة طوال صلوات القداس لأن الكنيسة المقدسة قد أدركت بروح الله أن "القلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" أن التوبة الأرثوذكسية هى عملنا الوحيد المتكرر طوال الحياة واللازم لكل أعضاء الكنيسة، وهى ستجلب لنا غفران خطايانا بدم المسيح ونعمته المجانية اعتماداً على أمانته وحبه لذلك فالتائب المسيحى لا ينتفخ ولا يتفاخر، بل يظل طوال عمره محتاجاً لراحة الله وغفرانه. ربى يسوع الغالى القدوس لن أيأس بعد اليوم، ولن استهتر أيضاً.. لن أتوانى عن القيام عقب السقوط، وكذلك لن أتوانى عن دعوتك لحمايتى من السقوط إكراماً لجسدك واحتراماً لكنيستك.. واثقاً أنه بكثرة غفرانك ستضمحل الخطية من أعضائى، وسأثر فى الفضيلة حتماً وسيجئ اليوم بنعمتك الذى فيه يزداد لهيب حبك فى قلبى أعلى من لهيب الشهوة فى جسدى.. "نفس تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح" (مز130: 6). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل