المقالات
25 يوليو 2022
التعبير
شفتاك يا عروس تقطران شهداً...
" أعطيتنى موهبة النطق........ "(القديس غريغوريوس – القداس)
موهبة النطق موهبة حظى بها الإنسان وحده من بين جميع خلائق الله ومخلوقاته، حيث لا تستطيع الأحياء الأخرى التعبير والتفاهم بالكلمات، بل بالحركات والإيماءات الغريزية المحدودة .. وأقصى ما بلغته هو التقليد أو ترديد بعض كلمات أو عبارات - مثل الببغاء - وبالطبع دون أن يدرك هذا الطائر معنى ما يردده وأما الإنسان يقال عنه " حيوان ناطق " وهو وصف قاسٍ، ولكن القصد منه أنه رغم اشتراكه مع الكائنات الأخرى فى الكثير من الصفات، إلا أنه يتميز عليها بالقدرة على التفكير والتعبير والتقرير.. وهناك مئات اللغات ومنها تتفرع آلاف اللهجات. ومن الناس من هو شاعر ومنهم من هو أديب ومنهم المتكلم.. أما الأخير فهو الذى يحسن الكلام وتنميقه حتى يصبح ذلك مهنته، وأما الشاعر فهو الذى يجعل الكلمات ترقص وتغنى وتطرب.. مثله في ذلك مثل الموسيقي الذى يجعل نغماته تشنف الآذان. وأما الأديب فهو الذى يحّول المشاهد والمشاعر إلى كلمات تقرأها، فتشاهد وتشعر وتتفاعل وأنت جالس فى مكان القراءة !!.. وكلا الاثنين (الأديب والشاعر) يرسمان بالكلمات لوحات يتراوح جمالها فى قيمته بحسب إبداع كل منهما، وأتذكر أن أحد الشعراء كتب قصيدة وقدمها إلى مطرب ليغنيها ولكن الأخير اعترض على كلمة فيها وطلب استبدالها، أمّا الشاعر فرفض بشدة واحتج فى ذلك بقوله أن القصيدة مثل اللوحة كيف يطلب مني المتفرج أو المشترى أن اُغير أنفها أو عينيها مثلاً !!..
وعندنا أيضاً شخصاً يدعى الدبلوماسى ويوصف بأنه يتكلم كثيراً ولا يقول شيئاً !!، ويقصد بذلك حسن الكلام وتنميقه، دون أن يصرح بشىء أو يعد بشيء، ويقابل النوع الدبلوماسى.. النوع الناقد، وهو على نوعين ناقد للبنيان وهذا يتوخى الموضوعية والتأدّب فى التعبير، ونوع يفتقر إلى اللياقة والكياسة، مثل الشاعر الذى اعتاد أن يهجو الوالى أو الأمير ونظراً لخطورة الكلمة المكتوبة وأهميتها وتأثيرها، فإنه يجب توخى الحذر والدقة فى الإختيار، ومثلها الكلمة المنطوقة أيضاً وهو ما يسمى اصطلاحاً بالمقال والُمقال .. فكلاهما لا يمكن استعادته، وجدير بالذكر هنا أن ما يفكر به الشخص قابل للتغير إذ يمكن تغيير الفكر، فإذا قاله يمكن مراجعته بالنقاش، فإذا كتبه يمكن الرد عليه، فإذا نوقش وأصر على رأيه فهذا هو إيمانه وهذه مبادئه وعقيدته.. وهذا كان يحدد الشخص الهرطوقى من ذاك الذى إنزلق ببساطة فى رأى خاطىء والكلمة قد تجرح وقد تزعج.. وقد تشفى.. وقد تحوّل مسار حياة.. وأتذكر أن أنطيوخس أبيفانيوس هاجم مصر فى القرن الثانى قبل الميلاد وكانت روما حليفاً لمصر آنئذ فأرسلت إليه مندوبها "مميوس"، والذى طلب إليه أن يغادر مصر أو يدخل فى حرب مع روما، ولما طلب مهلة ليقرر، قام المندوب برسم دائرة بعصاته حول أنطيوخس وهو واقف وأمره بأن يعلن قراره قبل الخروج من الدائرة.. كان القرار نعم أو لا وكلاهما كلمة يتوقف عليها مصير شعب وحياة عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الناس إلى جوار نتائج أخرى كثيرة مترتبة على القرار.. كما خلد الكثيرين بسبب كلمة أو عبارة نطق بها أحدهم إبان حياته.. وقد لا نذكر لهم سوى تلك الكلمة، مثلما ’ينسب شخص إلى قصيدة.. فيقال " شاعر قصيدة كذا .. "هناك أشخاص تحب أن تسمعهم وهم يتكلمون، سواء أكانوا يرتجلون أو يقرأون.. أو يتحدثون، وكما قيل عن البعض أن خطهم مثل سلاسل الذهب يمكن أن يقال عن بعض المتكلمين أن حديثهم مثل عناقيد الياقوت والأحجار الكريمة.. تود ألا ينتهى حديثه، حقاً يقول السيد المسيح عن الكنيسة ممتدحاًَ تعاليمها " شفتاك ياعروس تقطران شهداً". أتذكر أيضاً فى هذا السياق أن شيخ الأزهر السابق كان فى زيارة لإنجلترا، وهناك استمع إلى خطاب لمارجريت تاتشر رئيسة الوزراء السابقة، يقول أنه ’أعجب كثيراً بطريقتها فى الكلام ولغتها الواضحة ونطقها الذى جعل الكلام مترجماً، وأصر من ثمّ على الحصول على تسجيل لهذه الكلمة وأرسل من خلال زوجته ليحصل عليها وجاءته نسخة فى خلال ساعات عندنا مشكلة فى القراءات الكنسية، فالقارىء أحياناً يقرأ إلى الداخل ! وأخر تتزحلق كلماته من على أذنيك دون أن تستقر فيهما، وثالث لا يفصل بين عبارة وأخرى وربما بين كلمة وأخرى وكأنّ الحروف متصلة لمسافة سطر أو سطرين كاملين، وآخر يخلط بين " الكاف والقاف " و " التاء والطاء " و " الدال والضاد " و " السين والصاد والثاء " فلا تعرف إن كان يقصد (الإحتكار أم الإحتقار) أو (الضَرر أم الُدرر) أو (القلب أم الكلب) .. الخ. ويستحسن المستمع والحال هكذا أن يكتب له المتكلم ما يريد لكى يدرك قصده. وفى هذا الإطار هناك فى الوسط الكنسى مئات التعليقات الطريفة وغير الطريفة على قراءات البعض فى القطماروس، إذ تتحول بعض الكلمات إلى إهانات وشتائم والأرقام إلى كلمات والعكس، أو إلى ما لا معنى له.. وهكذا.. والبعض تضيع منه علامات الترقيم، وآخر لا يعرف أين ينهى الجملة.. ومتى يلتقط أنفاسه، ناهيك عن قواعد النحو والصرف الذى يفتقر إليه الأكثرين الذين أولهم أنا قرأت عن أحد الولاة الذين أصدروا حكماً بالإعدام بحق شخص ما، وقبل تنفيذ الحكم توسط البعض عنه لدى الوالى والذى قبل وساطتهم واستكتب كاتبه أمراً بالإعفاء عن المتهم، فأملاه قائلاً: (إعدام لا. براءة) وما أن وصل المكتوب إلى الجلاد حتى نفذ حكم الموت فى المتهم فى الحال، والسبب ببساطة أن الكاتب كتب (إعدام. لا براءة) ولم يتوخى الدقة فحرك النقطة عن موضعها قليلاً، فجاء الأمر بتأكيد الحكم وعدم البراءة بدلاً من إلغاء الحكم ومنح البراءة.. وهكذا تسببت نقطة صغيرة فى غير موضعها فى أن يفقد شخص ما حياته !!.كذلك أرسل أحد الولاة إلى حاكم مدينة يطلب منه أن يحصى الرجال لديه (من سن 16 إلى 40 ) فإذا بالحاكم يقوم بإخصاء المطلوبين لأن المكتوب الذى وصله أُستبدل فيه حرف الحاء بحرف الخاء ، لقد كان غرض الوالى هو عمل تعبئة عامة استعداداً للحرب، بينما أساء الحاكم الفهم مثلما افتقر كاتب الوالى إلى الدقة فى الكتابة بعد أن قرأت هاتين القصتين أدركت لماذا تكتب الأم أحياناً ورقة لصغيرها وتطويها وتضعها فى قبضته الصغيرة ليوصلها إلى جهة ما وذلك لضمان النتائج"كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند ابي الانوار"(يعقوب 1 : 17)
نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
24 يوليو 2022
التقليد هو تسليم الكنيسه من المسيح
إنجيل اليوم هو عن عمل ربنا يسوع المسيح وكيف بارك الخمس خبزات والسمكتين، والتي بهم أشبع كل الجموع.وتختار الكنيسة هذا الفصل اليوم، لتعلمنا بتفصيل مهم في هذة المعجزة، وهو إن ربنا يسوع المسيح لم يعطي بنفسه هذة البركة، ولكنه هو الذي اعطي للتلاميذ والرسل أن يُعطوا للآخرين، وهذا ما تؤكده القراءات، فيقول في البولس "إن كان أحد يُعلم تعليماً آخر ولا يقبل كلمات يسوع المسيح، والتعليم الذي للتقوي، فقد تصلف" التعليم التي يعلمها بولس الرسول هي تعاليم السيد المسيح نفسه، ولس لأحد الحق تحت أي مسمي وبأي صورة وتحت أي رتبة أن يٌعلم تعليماً خاصاً، هذا ليس لأن الكنيسة لا تمنح حرية التفكير، ولكن لأن الإيمان مسلم هي كنيسة واحدة، لها تعليم محدد، وإيمان محدد، وتقليد واحد.
تصلف: بمعني أنه صار يتكلم بما لا يُدرك.
ويقول في الكاثوليكون: "لاتكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي".وفي الإبركسيس: يتكلم عن عمل الكنيسة وسط اليهود، وأنهم قدموا المسيح للعالم كله، وكرز بولس الرسول في العالم المتحضر، وقدم التعليم الذي استلمه من المسيح..هذا ما ندافع عنه "التقليد المسلم" يقول بولس الرسول: "ما تسلمته مني بشهود كثيرين، أودعه أنت أناس أمناء، ليكونوا أكفاء أن يسلموا أخرين".
هذة هي الكنيسة:
ما سمعته مني: عصر الرسل.
بشهود كثيرين: الأباء المعاصرين لعصر الرسل.
أودعه أنت: تلاميذ الرسل (الآباء الرسوليين).
أناس أمناء يكونوا أكفاء: الجيل الذي بعد الآباء الرسوليين، وأغلبهم كانوا أباء مدافعين أو شهداء.
أن يسلموا أخرين: جيل المجامع هذة الآية تلخص فكرة التقليد وكيف وصل إلينا، التعليم من المسيح نفسه الذي قال " اذهبوا تلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بإسم الآب والإبن والروح القدس، وعلموها أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" قد حمل الآباء الرسل تعليماً واحداً قدموه لكل الكنائس، وأوصوا أن يحفظ الجميع هذا التعليم يقول المؤرخ روفينوس "يروي لنا أجدادنا أن الروح القدس بعد صعود السيد المسيح، ولما استقر علي كل واحد منهم بهيئة ألسنة نار، تلقوا أمراً من السيد المسيح بأن يتفرقوا ويذهبوا إلي جميع الأمم، ليبشروا بكلمة الله، وقبل أن يغادروا وضعوا معاً قاعدة للبشارة، التي ينبغي أن يعلنوها حتي إذ ما تفرقوا لا يكون عليهم خطر، أن يعلموا تعليماً مختلفاً للذين يجذبونهم إلي الإيمان المسيحي" كل ما هو مسلم له توثيق في الكتاب المقدس، أما ما تعلمناه ليس فقط ما هو مكتوب، لأن التقليد الكنسي يشمل أيضاً ما صار معاشاً وغير مكتوب، لذلك أسمه "التقليد"، مثل تقليد عيلة، ليس له وثيقة مكتوبة، ولكنه مُعاش. فالقداسات في كل كنائس العالم من أيام بولس الرسول، ولمارمرقس ليتورجيا، ولماريعقوب ليتورجيا، لأن القداس تقليد شفوي.
وكان العالم كله يعتمد بثلاثة تغطيسات، ونرفض من يُعمد بالرش، فقد استلمناه تقليد.
في القرن الأول خرج الأباء الرسل يحملوا تقليد إيماني، وتقليد كنسي حياتي، استلمنا قداس، واستلمنا الكتب المقدسة أع3:1 "كان يظهر لهم أربعين يوماُ يتكلم عن الأمور المختصه بملكوت الله".1كو 23:11 "لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب في الليلة التي اسلم فيها، أخذ خبزاً وكسر وشكر وقال لهم: خذوا كلوا هذا هو جسدي، كذلك الكأس الذي للعهد الجديد بدمي"
في قصة بولس الرسول ظهر له السيد المسيح وقال له: صعب عليك أن ترفس مناخس، فقال له: ماذا أفعل يارب؟، فقال له: أذهب إلي دمشق إلي حنانيا وهناك يقال لك ما ينبغي أن تفعله".
لأبد أن يستلم تعليم ..وهذة هي الكنيسة تسلمت من الرب: أننا نؤمن أن الكنيسة تحمل كل ما هو إيماني وحياة استلمناه من المسيح نفسه.يقول جيروم "إن قانون إيماننا وحياتنا نقله لنا الرسل"
وقد نقله الأباء الرسل بالأربع أناجيل والرسائل وسفر الرؤيا، ونقلوه أيضاً بالكرازة بكنيسة أسسوها، وسلموا ما تسلموه حياتياً شفهي أو مكتوب يقول بولس الرسول لتلميذه تيطس "من أجل هذا تركتك في كيريت لكي تقيم قسوساً" يقول مارأغناطيوس "المسيحيون حاملي الإله، حاملي المسيح، حاملي الهيكل، لا يُري المسيحي فردياً بل في إتحاد مع جمهور، وفي ممارسة أسرار الكنيسة" لا يمكن أبداً لأي مسيحي أن يكون له علاقة شخصية بالمسيح دون أسرار كنسية يو 12:16 يقول: "لي أمور كثيرة لأقول لكم، ولكن لا يستطيعوا أن تحتملوا الآن، أما متي جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلي جميع الحق"يعطي الآباء الرسل إرشاد للحياة المسيحية "لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتيه" لا يوجد عمل لأي أقنوم دون الأقانيم الأخري، ما يتكلم به الروح القدس هو ما صنعه المسيح خلاصياً، وهو ما دبره الآب لخلاصنا أيضاً.اعطي السيد المسيح كل النعم للكنيسة، التي يحملها الآباء الرسل، لذلك في معجزة الخمس خبزات والسمكتين، اخذ التلاميذ من يده، واعطوا الجموع.كانت الكنيسة تحفظ تعاليم المسيح بصورة محددة وقوية جداً.يو 25:21 "أشياء كثيرة صنعها يسوع، لو كتبت واحدة واحدة، لا أظن أن العالم نفسه يسع الكتب، أما ما كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو إبن الله".بقية المسيحية هي كنيسة، هي العمل الذي استلمناه.أع 27:15 "أرسلنا يهوذا وسيلا يخبرانكم بنفس الأمور شفاهاً"1يو 3:1 "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به".
1كو 34:11 "أما الأمور الباقية عندما أجي أرتبها"عاشت الكنيسة وستعيش بهذا الإيمان المسلم مرة للقديسين.1تس5:2 "اثبتوا إذاً أيها الأخوة وتمسكوا بالتعليم الذي تعلمتوه سواء بكلام أو برسلاتنا" حينما نتكلم عن التقليد الكنسي، فإننا نتكلم عن تقليد محدد.2تيمو 6:3 "أوصيكم أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم المسلم منا".يقول القديس أكليمندس:
"لقد حافظ هؤلاء الأشخاص علي التقليد المسلم مباشرة من الرسل القديسين بطرس ويعقوب ويوحنا، كما كان الإبن يتسلم من أبيه".يقول القديس أغسطينوس:" كل التقليد الذي في الكنائس مستلم من الرسل".ويقول ذهبي الفم "الرسل لم يكتبوا كل شئ في رسائلهم، ولكن علموا أمور أخري غير مكتوبة"إن ضاع الكتاب المقدس المكتوب، يمكننا أن نجمعه من أقوال الآباء في القرن الثاني.
يقول القديس باسيلوس الكبير "إذا حاولنا أن نحذف التقليد غير المكتوب، نجعل الإنجيل بدون مُسمي".يقول القديس إيرينؤس:"الكنيسة مبعثرة في كل أرجاء المسكونة، ولكن لها إيمان واحد، سُلم من الرسل، ثم إلي تلاميذ الرسل، وعل الرغم من أختلاف البشر واللغات والأماكن، إلا أن جوهر التقليد واحد في كل مكان".إيرينؤس وهيبوليتوس هم من سجلوا التقليد الكنسي، فقد استلمت الكنيسة أناجيل ورسائل، وأسرار وطقوس، وصورة مسيحية، هذا هو التقليد المسلم.لإلهنا كل مجد وكرامة إلي الأبد أمين.
القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة أبي سرجة مصر القديمة
المزيد
23 يوليو 2022
عمل الخير
علينا أن نعمل الخير في محبة وتواضع وأنكار للذات ولا نكل أو نمل أو نتضجر بل نقتدى بمخلصنا الصالح الذى كان يجول يصنع خير وكما يوصينا الكتاب { لا نفشل في عمل الخير لاننا سنحصد في وقته ان كنا لا نكل} (غل 6 : 9). وثقوا أن عمل الخير لا يضيع أجره ابدا لا على الأرض ولا في السماء. بل حتى كأس الماء الذى نقدمه لنروي عطشان له أجر صالح {ومن سقى احد هؤلاء الصغار كاس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق اقول لكم انه لا يضيع اجره}(مت 10 : 42).روى دوستويفسكى قصة إمرأة ماتت وذهبت إلى الجحيم . وفى تسأول طلبت من الله إن يعطيها سببا لماذا هى هناك ؟ وإذ سمع بطرس صرخات تظلمها تكلم إليها قائلا لها : إعطنى سببا واحدا لماذا ينبغى أن تكونى فى السماء . توقفت, راجعت, فكرت مليا, ثم قالت : يوما ما أعطيت جزرة لمتسول .تحقق بطرس من السجل ورأى أنها فعلت ذلك حقا, كانت جزرة قديمة, لكن مع ذلك فهى جادت بها. فأخبرها بطرس أن تنتظر ريثما يساعدها لتصعد, ثم أخذ سلكا طويل وربط إلى طرفه جزرة ودالها لها إلى الجحيم لتتمسك بها, فتعلقت بها وبدأ هو يسحبها .ورآها اخرون تختفى تدريجيا من وسطهم, فتمسكوا بكاحليها عساهم ينتقلون أيضا, وإذ استمر المزيد منهم بالتعلق, بدأ السلك بالهبوط فصرخت: " اتركونى, هذه جزرتى وليست جزرتكم" وحالما قالت ذلك انكسرت الجزرة . يا احبائى كلنا نحتاج لعمل الخير فى محبة لله والغير وبدون انانية مادام فى أمكاننا أن نعمله ونجذب الأخرين معنا لنجد داله امام الله ونجد نصيب مع القديسين. {فاذا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لاهل الايمان} (غل 6 : 10).
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المزيد
22 يوليو 2022
بلد الحـب
" أرني ( يا الله ) بلد الحب لأتكلم عنه كما يستطيع ضعفي . أفرخ فـي يـارب نعمتـك برحمتـك لأتكلم عنها . ألهب قلوب محبيك فيخرجون في طلبها " . ( الشيخ الروحاني )
إذا إن كـان أحـد في المسيح فهـو خليقـة جـديـدة : الأشياء العتيقـة قـد مضـت ، هـوذا الكـل قـد صـار جـديـداً . ولـكـن الكـل مـن اللـه الـذي صـالحنا لنفسه بيسوع المسيح ، وأعطانا خـدمـة المصالحة ، أي إن اللـه كـان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسـب لهـم خطاياهم ، وواضعاً فينـا كلمـة المصالحة . إذا نسعى كسفراء عن المسيح ، كأن الله يعظ بنا . نطلب عن المسيح : تصالحوا مع الله لأنه جعـل الـذي لـم يـعـرف خطيـة ، خطيـة لأجلنـا ، لنصير نحـن بـر اللـه فيه " ( ٢ كوه : ١٧ - ٢١ ) . في بداية رحلتك معي عزيزي القارئ خلال هذا الكتاب ، أود أن نتعـرف سوياً على مجموعـة مـن المبادئ الروحية الهامـة ... ولتعتبرهـا يـا صـديقي إرشادات الطريق في مسيرتك الروحية هيا سوياً لنخطو خطوتنا الأولى .
أولا : ما هي الحياة الروحية بلد الحب :
الحياة الروحية هي الإطار الـذي يجمع ثلاثـة محـاور هامـة : النعمـة وعملها ، الإنسان بتوازنه ، وأخيراً الكنيسة وأسـرارهـا .
1- النعمة وعملها:-
عمل النعمة ، هو عمل دائم ومستمر ولا ينقطع ، ويظهـر عمـل النعمـة كلما كانت حياة الإنسان مملوءة ثمـراً ... وهناك قاعـدة روحيـة هامـة أود أن أوضحها لك ، وهي أن الله لا يريد من الإنسان سوى إرادته لتعمل نعمته فيه . وعمل النعمة بدوره يقود الإنسان لاختبار هام في الحياة الروحية وهـو معية المسيح . معي تأمل يا عزيزي ترتيلـة داود النبي : " إذا سرت في وادي ظل المـوت لا أخاف شرا ، لأنك أنت معي " ( مز ٢٣ : ٤ ) ، فعبارة " أنـت معـي " تعكـس شـعوراً داخلياً وإحساساً حقيقياً بوجود الله وعمل نعمته ... بل أن هذا الشعور هو قمة عمل النعمة .
2- الإنسان بتوازنه :-
خلق الله للإنسان عقلاً وروحاً وجعله : عاقلاً ... عاملاً ... عابـداً ... ولكـن تـذكر يا صديقي أن التوازن هو الركيزة الأساسية لنجـاح هـذه المنظومة . أتسألني كيف يكون هذا التوازن ؟ ... أجيبك أن التوازن في حياة الإنسان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشبع الروحي ، فالعقل يتغذى بأعمال القراءة والمعرفة ، والروح تسمو بالعمل الروحي والشبع الشخصي بالمسيح . ولكي يتحقق هذا الشبع الروحي لا بد أن تكون للحياة الروحيـة قـوانين تنظمها ، فالحياة الروحية شيء محدد ، ولها شكل ونمو ومراحل وتدرج . بقي لنا المحور الثالث والأخير ، ألا وهو :
3- الكنيسة بأسرارها :-
وهذه الأسرار توضع في ثلاث مجموعات رئيسية : أسرار لا تمارس إلا مرة واحدة : سـر المعمودية والميرون . أسـرار دائمة التكرار : سر الاعتراف والتناول ومسحة المرضى . أسـرار قد تمارس وقد لا تمارس : سر الزيجة والكهنوت . لك أن تعتبر أن الأسـرار الكنسية هي بمثابة حلقـة الربط بين عمـل النعمة والتوازن الإنساني ... والتي بدورها تقود إلى العمق في الحياة الروحية .
أتسألني الآن : كيف أنمو في حياتي الروحية ؟
أود أن تعـي جيـداً أن النمـو الروحـي لـه عـدة قـوانين تنظمه وتضـمن تدرجه . إن إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجه الإنسان المسيحي ، هـي عـدم الاستمرار قد تبدأ نظاماً روحيـاً بحماس شديد ، ولكـن بعـد فتـرة قصيـرة يتسلل الفتور إلى قلبك !! لكن القانون الروحي الذي يضمن الاستمرار هو : " قليل دائـم خير من كثير متقطع " . فالقليـل الـدائـم هـو الـذي يجعـل حياتنا مستمرة ، فالمسيح لا يطلب منا الكم Quantity بل يطلب الكيف Quality نعم ... إن المسيح يريد منك الاستمرارية حتى ولو كانت آيـة واحـدة أو مزمور ، فالاستمرار هو الذي يعطي انطباعاً أنـك شخص ذو قلـب مستعد لسكنى المسيح فيه . أتذكر المرأة التي أعطت الفلسين ؟ قال عنها السيد المسيح ، انظروا كيف أعطت ؟ . بمعنى أنه نظر إلى الكيف وليس الكم فعلى الأقل في كـل يـوم ، اهـتم أن يكون هناك فقرة أو آية في الإنجيـل تقوم بقراءتها مع وقفة صلاة ، وليكن هذا أقل شيء ... لكـن كـن دائـم التطلع أيضاً نحو النمو والتدرج في حياتك الروحية . هذا عن الاستمرارية والتدرج ، أما عن الاعتدال يقول الآباء الذين اختبــروا الحياة الروحية : " الطريق الوسطى خلصت كثيرين " ، وإذا أردنا أن نعرف كلمـة " الاعتدال " يمكننا القـول : أنـه عـدم التطرف يميناً أو شـمالاً ، أو عـدم المبالغة ، أو هو التوازن . أيتبادر إلى ذهنك كيف أحقق الاعتدال في حياتي الروحية ؟ أُجيبك : يا عزيزي أن للحياة الروحية ثلاثة أعمدة رئيسية وهي : " أب روحي ... قانون روحي ... وسط روحي . فمن الخطأ أن يظن الإنسان أنه يستطيع أن يقـود نفسه بنفسه ، مهـما كانـت مكانتـه أو قامتـه الروحيـة كبيرة ، فالكنيسـة قائمـة عـلى الخضـوع . الأب البطريرك يخضع لمجمع الأساقفة ، والمجمع بدوره يخضع للأب البطريرك ، وهناك آباء كهنة وشمامسة والجميع تحت خضوع ، فليحـذر كـل مـن يظـن في نفسه ، أنه أصبح مدركاً لكل شيء ، ويدرك كل الأمور . الخضوع يا صديقي هو صمام الأمان في الحياة الروحية .. إنـه الضـمان الوحيد ، أن يحيا الإنسان تلميذاً في مدرسة التواضع . بقي لنا أن نتأمل سوياً في الحياة الروحية والتطبيق العملي . هناك ثلاثة تطبيقات ، تضعنا في دائرة الحياة الروحية عملياً .
قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨
عن كتاب خطوات
المزيد
21 يوليو 2022
شخصيات الكتاب المقدس عزرا
عزرا
" عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر فى شريعة موسى "" عز 7: 6 "
مقدمة
ربما كان عزرا، صاحب المنبر الخشبى، هو أول واعظ فى كل التاريخ، بالمعنى المألوف المعروف الذى نراه الآن فى التفسير والتعليم والوعظ بين الناس!!... وقد سبقه - ولا شك - الكثرون من القادة والأنبياء والملوك الذين تحدثوا بكلمة اللّه إلى الناس بكل حماس وقوة وحمية، فى الحض والزجر والوعظ،... غير أن عزرا يكان يكون الأول من نوعه، الذى صنع منبراً خشبياً، وجمع الناس حوله ليعظهم ويشرح لهم كلمة اللّه، على النحو المألوف الآن عند جميع الوعاظ فى كل مكان،... وحق للبعض أن يدعوه لذلك أبا الوعاظ وأمراء المنابر فى كل التاريخ!!... ومن المهم أن تعلم أن عزرا الكاهن كان أول « كاتب » فى شريعة موسى، بالمعنى الذى عرف به نظام « الكتبة » المشهور فيما بعد!!... أى أن الرجل الذي لا ينسخ الشريعة فحسب، بل يعلمها ويشرحها للناس،... كانت كلمة « الكاتب » قبل عزرا، تقصر على الناسخ الذى ينسخ الكلمة، كباروخ الذى كتب لإرميا،... لكن عزرا الكاتب أعطى الكلمة مفهوماً أعمق وأقوى... فهو الناسخ والشارح الذى يتعمق فى فهمها والوعظ بها للناس، وقصته جديرة بأن تروى للمؤمنين عامة، وللواعظ على وجه الخصوص. ولعلناً نلاحظه بعد ذلك فيما يلى:
عزرا من هو!!؟
عندما سقطت بابل العظيمة أمام جحافل الفرس عام 538 ق.م. واعتلى كورش الفارسى عرش الإمبراطورية العظيمة، كان من أول أعماله أن سمح للمسبيين من اليهود الذين سباهم نبوخذ ناصر أن يرجعوا إلى بلادهم كما سبقت الإشارة فى دراسة شخصية زربابل، وقد تمكنوا بعد متاعب كثيرة من بناء الهيكل وتدشينه، وإقامة العبادة فيه حوالى عام 516 ق.م.، وأعقب ذلك فترة تبدلت فيها الأحوال، واختلط الراجعون من السبى بالوثنيين وتزاوجوا معهم، وضعفت عزيمتهم وروحهم المعنوية والدينية، وباتوا فى أمس حاجة إلى مصلح وهاد وواعظ، وقد تحقق لهم ذلك فى شخص عزرا الكاهن الكاتب، الذى أعطاه ارتحشستا الملك عام 458 ق.م. الأمر بالذهاب إلى أورشليم، هو ومن يريد أن يذهب معه من الباقين من السبى فى بابل، وأعطاهم الملك أموالا وقرابين وذبائح تقدم لبيت اللّه. وقد وصل عزرا ومعه حوالى 1700 رجل إلى أورشليم بعد خمسة شهور، وهناك قام بإصلاحه العظيم، وانقضى على ذهابه ثلاثة عشر عاماً، لاندرى هل عاد بعدها إلى بابل أم بقى فى أورشليم؟، وكل الذى نعلم أنه ظهر بعد هذه الفترة إلى جانب نحميا الوالى، وظهر ليكون معلم الأمة وواعظها، والأمير الأول من أمراء المنابر فى التاريخ.ولعله من المناسب أن نذكر أن هذا الرجل كان من سبط لاوى، وقد دون فى سفره نسبه حتى هرون الرأس. وكان حلقياً الكاهن، جده القريب، هو الذى اكتشف سفر الشريعة: فى بيت الرب، ولعل أحداً قص على عزرا الذى ولد فى السبى، ماذا فعل يوشيا يوم قرىء السفر أمامه، وكيف مزق ثيابه، واتضع أمام الرب، وقام باصلاحه العظيم،... وعلى أية حال، فإن عزرا اكتشف هو بنفسه هذا السفر عندما قيل عنه: « هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها » " عز 7: 10 "... ومن المحقق أن عزرا عاش فى بابل وأرشليم، متعظاً بكلمة اللّه، عميق التأمل فيها، يحفظها ويعمل بها قبل أن يطلب من الآخرين العمل بها!!..
وإذا كان من الواضح أن الرجل فوق منبره الخشبى، هو أول الوعاظ وأبوهم بالمعنى المفهوم حديثاِ، فقد حمل دون شك فى أعماقه خصائص الواعظ الناجح، وهذا الواعظ - كما يتعلم الطلاب فى كليات اللاهوت فى علم الوعظ - لا يمكن فصله عن العظة... لأن العظة عند فيلبس بروكس: « أن يقوم إنسان بتوصيل الحق إلى إنسان آخر »... والوعظ بهذا المعنى يشتمل على أمرين: الحق والشخصية، والفرق بين عظة وعظة، أو واعظ وواعظ - هو الفرق فى توافر هذين العنصرين أو غيابهما، أو نقص أحدهما أو اهتزازه أمام السامعين،... ويقول الدكتور جارفى مؤيداً هذا الاتجاه: « إن الوعظ ليس مجرد توصيل معلومات أو معارف، ذلك لأن الوعظ يستغرق شخصية الواعظ كلها، ومن ثم فهو يخاطب شخصية المستمع كلها باعتباره موضوعاً أدبياً أو دينياً، وطالما أن الحق الذى ينادى به ويدعو إليه الوعظ هو أمر يتعلق باللّه والحرية والخلود، كذلك فإن غايته وغرضه هو حفز الإيمان والدعوة إلى النهوض بالواجب وإبقاء جذوة الأمل والرجاء متقدة لا تخبو »... ومن المستحيل الوصول إلى ذلك دون التطلع إلى وجه الواعظ، ومحاولة النظر والتأكد، من أنه يعنى ما يقول، أن أقواله تنبع من وجدانه العميق... ويتفق المختصون بعلم الوعظ على أن من أهم سمات الواعظ أموراً أربعة توفرت بالتمام فى عزرا الواعظ، والكاتب الماهر فى شريعة السماء!!.. ولعل أولها: التقوى!!..
كان عزرا عميق الشركة مع اللّه، وتستطيع أن تبين ذلك، من أنه عاش فى بابل ينهل من الكلمة الإلهية، ويحرص على دراستها وتطبيقها فى حياته. والواعظ الناجح هو المستفيد الأول من العظة،... وقد كانت تقواه بارزة فى أكثر من إتجاه، فهو من أعمق الناس إحساساً بالخطية، ويكفى أن تراه وقد اكتشف فى أورشليم اختلاط الشعب وتزاوجهم مع غيرهم من الشعوب، وقد هاله هذا وأفزعه إلى أبعد الحدود: « فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابى وردائى ونتفت شعر رأسى وذقنى وجلست متحيراً، فاجتمع إلى كل من ارتعد من كلام إله إسرائيل من أجل خيانة المسبيين، وأنا جلست متحيراً إلى تقدمة المساء. وعند تقدمة المساء قمت من تذللى وفى ثيابى وردائى الممزقة جثوت على ركبتى وبسطت يدى إلى الرب إلهى. وقلت: اللهم إنى أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهى وجهى نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء. منذ أيام آبائنا نحن فى إثم عظيم إلى هذا اليوم، ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأرض للسيف والسبى والنهب وخزى الوجوه كهذا اليوم. والآن كلحيظة كانت رأفة من لدن الرب ليبقى لنا نجاه ويعطينا وتدا فى مكان قدسه لينير إلهنا أعيننا ويعطينا حياة قليلة فى عبوديتنا » " عز 9: 3 - 8 " وإذا كان اليهود اللذين حوله لا يرون هذه الرؤية أو يحسون هذا الإحساس، فإن مرجع الأمر هو أنه أعمق حساً وأكثر إدراكاً للذنب والخطية،... ومع أنه هو شخصياً كان بعيداً عن هذا الإثم، إلا أنه كان عميق التقوى، يحس أن خطايا شعبه هى خطاياه، وآثامهم هى آثامه،... وبعدهم عن اللّه، كأنما يشارك فيه على النحو المفزع القاسى البعيد!!... وكان الرجل، إلى جانب هذا، تقياً فى يقينه بإلهه واعتماده عليه،... كانت كلمته المفضلة أو التى هى شعار حياته، يد اللّه الصالحة علينا، " عز 7: 9، 8: 18 " وقد تكررت مرات فى اختباراته الشخصية وعندما سمح له الملك بالذهاب إلى أورشليم على رأس القافلة التى أشرنا إليها، وزوده بالتبرعات السخية، رأى فى ذلك يد اللّه معه، وقد حمل معه تقدمات تقدر بعملتنا الحالية بحوالى مليون ونصف مليون جنيه، ومثل هذه الثروة تغرى اللصوص، وقطاع الطرق، فى رحلة تستغرق خمسة أشهر، وقد أبى عزرا أن يستعين بقوة حارسة أو يطلب من الملك جيشاً وفرساناً لنجدتهم، لأنه كان قد سبق فأخبر الملك: « إن يد إلهنا على كل طالبيه للخير. وصولته وغضبه على كل من يتركه » " عز 8: 22 " فصاموا وصلوا وساروا فى طريقهم مشمولين بالحراسة والرعاية الإلهية حتى وصلوا إلى أورشليم!!... إن التقوى فى الواعظ هى إحدىِ خصائص النفس الروحية، وهى الحماس الأخلاقى البعيد الجذور الذي ينعكس على الاختبار الدائم فى علاقة الواعظ باللّه، وهى علاقة شركة وصداقة ورفقة طيبه يصبح الإنسان بمقتضاها خليلاً للّه، وهى - فى لغة أخرى - تكريس مهيب للّه،.. وهى ليست جامدة ساكنه، بل هى نشطة متحركة تمضى قدماً، متألقة مزدهية بالحق ومجد وفضائل النعمة المسيحية وبركاتها... وهى ليست شيئاً ينتمى إلى عالم آخر، بمعنى العزوف المتكبر والأنطواء المترفع عن حاجيات الناس ومصالحهم، بل هى تختلط بهم وتعاشرهم وتعاملهم، تندمج فى الحياة مزودة بل مسلحة بالفضائل المسيحية، وهى ليست ضعيفة خائرة، بل هى بطلة قوية، وبطولتها متركزة فى إنتصار الروح الرائع على الجسد، وهى الحقيقة الروحية التى لا تتقبل أى تهادن أو تهاون مع الزيف أو الكذب أو الخداع أو التظاهر أو النفاق، وهى فى الواقعية الروحية تعترف بوجود أعداء الحياة فى جوانبها الخلقية والروحية، ومن ثم تتحداهم، وليس من المبالغة فى شئ أن نذكر أن هذه السمة من سمات الروح هى المطلب الأول فى حياة الواعظ، والضمان لتأثيره وأثره إذ أنها تلهب الواعظ نفسه بالغيرة المتقدة بالحماس النارى، وهى التى تبقى الشعلة حية متوهجة وسط كل اللامبالاة الجليدية، التى ما أكثر ما يجد الواعظ نفسها وهو بجابهها.. إن هذه التقوى هى التى تظفر للواعظ بتقدير موعوظيه وعطفهم ونواياهم الطيبة، بل إن أكثر الناس شراً بينهم، سوف لا يتمالكون أنفسهم من أن يشعروا أن ذلك الحماس الصادق من جانبه، أمر خليق باحترامهم، وجدير بكل أنحناء وتقدير.. ولقد وعد اللّه مثل هذا الواعظ الصادق والأمين بأن يبارك جهوده وأتعابه!!..
ولا حاجة إلى القول إن التقوى بهذا المعنى كانت عميقة الجذور فى حياة عزرا، ولذا كان تأثيره عميقاً وبعيداً كما سنرى فى حياة الشعب والناس!!.. وإلى جانب التقوى كانت المواهب الطبيعية التى زوده بها - للّه، وهى الصفة الثانية فى حياة الواعظ،... والمواهب اللازمة لكل واعظ تبدأ أولا بقدرته على التفكير السليم الواضح، ثم تمتد بعد ذلك إلى العاطفة المتدفقة والفيض الزاحر من المشاعر والأحاسيس التى تتملكه، وهو إلى جانب هذا يحتاج إلى الخيال القوى المجنح الذى يرتفع ويعلو إلى العرش الإلهى، ويتجاوز الحدود المادية والمنظورة بين الناس، وبالإضافة إلى هذا كله لابد أن يتزود بالقدرة على التعبير، وامتلاك ناصية المنطق الفعال،... وأنت لا يمكن أن تقرأ عن عزرا دون أن تحس أنه يمتلكها جميعاً..
الصفة الثالثة فى الواعظ هى المعرفة، والمقصود بالمعرفة هو القدرة على الإحاطة بالكثير من المعلومات والحقائق،... وواضح أن عزرا كان على حظ كبير من الحنكة والدراية والإلمام، فقد كان كما يقول « ألكسندر هوايت » من ذلك النوع الذى تملك (جون كلفن) عندما حكم جنيف، « وجون نوكس » عندما سيطر على أدنبره،... وكان من المستحيل أن يجعله أرتحشستا على رأس العائدين ويزوده بالسلطان الكامل، ما لم يكن واثقاً فى مقدرة الرجل ودرايته وحنكته!!...
والأمر الأخير الذى يؤكد أستاذة علم الوعظ ضرورة وجوده فى الواعظ هو المهارة،... وكان عزرا الكاتب الماهر، واحداً من أقدر الناس وأقواهم على المنبر، له تلك الأصالة التى ترتفع به فوق التقليد والمحاكاة وما أشبه، التى تعجز عن إطلاق الحق الإلهى دون تردد أو إبهام أو زيف!!
فإذا كانت هذه هى المقاييس الوعظية الفنية، فإن عزرا الكاهن الماهر فى شريعة اللّه، كان من أقدر الوعاظ وأظهرهم، ويحق القول إنه أبوهم التاريخى القديم فى المنبر الذى أقامه، وبحسب مالدينا من معلومات لم يسبقه كاتب آخر أو واعظ مفسر لكلمة اللّه من فوق المنبر الذى درج هويتفيليد أن يدعوه عرشه العظيم!!...
عزرا وكتاب الشريعة
ولعل عزرا يعطينا هنا الدرس العظيم فى مفهوم العظة، وبعدها، وعمقها فإذا أخذنا بالتقسيم الفنِى للفظ، من حيث ارتباطها بالآية، لوجدنا ما يطلق عليه فى علم الوعظ، العظة الموضوعية، والعظة الآيية، والعظة التفسيرية،.. أما العظة الموضوعية فهى العظة التى تستخلص موضوعاً معيناً من الآية، تركز الحديث عليه، وتأخذ الأقسام فى استقلال عن الآية نفسها، وقد يعطى هذا الاستقلال اتساعاً ليس من السهل أن نجده فى الوعظ الآيى أو التفسيرى إذ يمكن للواعظ أن يعظ عن موضوع معين دون أن يكون محصوراً فى الآية وحدها، بل يمكن أن تمتد جولته فى الكتاب لينتقى من أرجائه الزهور ليجمعها فى باقة جميلة خلابة، دون أن يتقيد بركن معين أو مجموعة معينة من الزهور!!.. ولا نعتقد أن هذا النوع من الوعظ كان الأسلوب الذي لجأ عزرا إليه فى تفسير وشرح كلمة اللّه!!... أغلب الظن أن عزرا كان يتقن الوعظ الآيى أو التفسيرى. والعظة الآيية هى التى تكون الآية لحمتها وسداها، وتأخذ الموضوع الذى تطرقه من تحليلها للآية وشرحها لها، كما أن أقسامها ترجع دائماً إلى كلمات الآية أو أجزائها المختلفة، فهى فى الواقع نوع من التوسع، لما يمكن أن يستنبط من الآية أو ينطبق عليها، ولا شبهة فى أن هذا النوع من الوعظ يغوص فى البحث الكتابى أكثر من الوعظ الموضوعى، وإذا كان هذا الأخير عريضاً إلا أنه أقل عمقاً » والواعظ الماهر فى الوعظ الآىى أشبه بالغواص الذى ينزل إلى الأعماق البعيدة فى البحر بحثاً عن الدرر والجواهر حتى يعثر عليها ويخرجها لتبهر بجمالها الأنظار، والجماهير التى ألفته، والكنائس التى تعودت عليه تكون أقوى وأعمق فى البنيان المسيحى، والعظة التفسيرية هى بنفسها العظة الآيية، مع هذا الفارق، أنها لا تتقيد بآية واحدة، بل قد تكون قطعة كتابية كاملة، يغوص الواعظ فى أعماقها باحثاً عن دور الحق الإلهى فيها!!... وتاريخ الوعظ اليهودى - ابتداء من هذا الرجل العظيم وحتى العصور الحديثة - يميل إلى الوعظ الآيى أو التفسيرى دون الوعظ الموضوعى فهو يعتمد على قوة الكلمة الإلهية، وسلطانها، وفاعليتها فى النفس البشرية!!...
وعظ عزرا الشعب من فوق منبر خشبى مرتفع، ومما لا شك فيه أن المنبر كان مرتفعاً ليستطيع الشعب أن يرى الواعظ ويستمع إليه، ولكن الارتفاع له معنى أعمق من ذلك، فالمنبر ينبغى دائماً أن يكون مرفعاً عن المقعد، لأنه يحمل صوت اللّه وسلطانه، ويفهم الجميع بأن الواجب الأول للمستمع أن يكون خاضعاً مطيعاً لكلمة اللّه وأمره، أما الواعظ نفسه فقد كان - كما أشرنا - أميراً من أمراء المنبر وواعظاً نموذجياً مجيداً. إذ وعظ بحياته وسيرته قبل أن يعظ بلسانه وكلامه، إذ كان رجلا غيوراً تقياً مصلياً، وعندما بدأ وعظه، بدأ بداءة الشخص المتمكن من تأملاته ودراسته وإرشاد الروح القدس له، وما أجمل مادة موضوعه! إذ لم تكن هذه المادة فلسفة وعلماً، منطقاً وخطابة وبلاغة، لقد كانت قبل كل شئ وبعد كل شئ، كلمة اللّه التى قرأها ببيان وفسر معناها للسامعين، وهل فعل أمراء المنبر فى كل التاريخ غير ما فعل عزرا قديماً، ففم الذهب، وأوغسطينوس وكلفن ومتى هنرى وتوماس جدوين - كما يقول الكسندر هوايت - لم يفعلوا أكثر مما فعل هذا الأمير الأول، والواعظ المتمكن، والمفسر للكلمة الإلهية الحية الفعالة!!..
ولا يستطيع الإنسان منا وهو يستعرض هذا التاريخ، إلا أن يتذكر كلمات ف. ب. ما ير عندما قال: « إن دراسة عزرا للكتاب تذكرنى بما حدث فى إنجلترا فى حكم الملكة أليصابات، حيث وضعت نسخة من الكتاب المقدس فى كاتدرائية القديس بولس، بعد أن أجيز للجمهور قراءته، ووقف جون بورتر بصوته الرائع يقرأ الكتاب للنفوس التى كانت متعطشة لسماع الكلمة الإلهية »... وهل يمكن نسيان الحب العميق الذي تمكن من مارى جونز الفتاة الفقيرة والتى كافحت، فى الأوقات التى كانت فيها نسخ الكتاب قليلة وباهظة الثمن حتى حصلت على نسخة منه، وعاشت حياتها وهى تدرسه دراسة عميقة حتى حفظت الكثير منه عن ظهر قلب، وعندما ماتت وضعوا هذه النسخة إلى جانب رأسها،... وصنعوا لها تمثالا عظيماً. بعد أن كانت السبب فى إنشاء دار الكتاب المقدس التى تنشره فى العالم، فى إنجلترا وغير إنجلترا!!..
عزرا والإصلاح العظيم الذى قام به
كان أثر الكتاب بالغا وعميقاً فى حياة الشعب، وعندما التفوا حول منبر عزرا يفسر لهم كلمة اللّه، يقول نحميا فى الأصحاح الثامن من سفره: « اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التى أمام الباب وقالوا لعزرا ».. " نخ 8: 1 " كانت رغبتهم قوية إلى الدرجة أنهم استمروا من الصباح إلى نصف النهار يستمعون « دون ضجر أو ملل، وقد بدا احترامهم للكلمة فى وقوفهم عندما فتح عزرا السفر، وفى سجودهم للرب عند صلاته. وقد تأثروا إلى درجة الدموع إذ بكوا حين سمعوا كلام الشريعة، ثم ذهبوا يعملوا بما سمعوا وفى الحقيقة إن القياس الصحيح لتأثير الكلمة الإلهية، ليس فى مجرد ما يسكب الإنسان من دموع، قد تكون وقتية، مهما كانت غزارتها، وكثرتها،... بل فيما تترك من أثر فى حياة الإنسان وسلوكه،... عندما وعظ بولس فى أفسس « كان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا أثمانها فوجدوها خمسين ألفاً من الفضة ».. " أع 19: 18، 19 " أو ما يقرب من عشرة آلاف جنيه بعملتنا الحالية،... لقد كانت الكلمة الإلهية أقوى وأفعل من كل سحر شيطانى،... وعندما وعظ سافونا رولا فى فلورسنا أثر وعظه فى الكثيرين من الرجال والنساء والفنانين والموسيقيين، فأحضروا من الصور والزينات والتحف كل ما وجدوه غير لائق بالحياة المسيحية الصحيحة، وجعلوها أكواماً فى ميدان القديس مرقس وأحرقوها،... وقد سبقت الإشارة فى بعض الدراسات إلى الأثر البعيد العميق الذى أحدثه يوحنا ويسلى فى القرن الثامن عشر فى إنجلترا، عندما هوت الحياة الأدبية والروحية إلى الحضيص، ونادى الرجل بإنجيل المسيح وهو ينتقل من مكان إلى مكان ما بين الشوارع والأزقة، والمدن والقرى، والمصانع والمناجم، يعظ يومياً ما بين عظتين وخمس عظات، وكان اللّه معه، ففعل مالا تفعله قوات العالم مجتمعة معاً،... وقد كانت كلمة اللّه حية وفعالة عندما نادى بها عزرا، وليس أدل على هذا من انفصال الكثيرين من القادة والشعب عن الزوجات الوثنيات اللواتى تزوجوا منهن،... والحرص على تقديس يوم السبت والامتناع عن التعامل والبيع والشراء مما كان سارياً فى ذلك الوقت، والأخذ بالحياة المقدسة، والحرص على التدقيق فى مراعاة الفرائض، والطاعة للشريعة الإلهية!!... وقد فعلوا هذا كله بالدخول فى العهد المقدس مع اللّه!!.
لقد أدرك الجميع ما قاله دكتور تشارلس رينولدز براون: « إن النجاة أو الدفاع عن مدينة أورشليم لا يتحقق بمجرد بناء سورها فالقرميد والملاط والقلاع والشرفات، قد تحقق دفاعاً جزئياً..، غير أن أعدى أعداء أية مدينة ليس خارجها، بل داخلها، إذ أن أقوى دفاع فى حياة المدينة، ليس ما هو مادى، بل ما هو أدبى وروحى، فإن لم يحرس الرب المدينة بالمبادئ العظيمة والمثل النبيلة المستقرة فى عقول وقلوب مواطنيها، فباطلا يتعب الحارس الذي يحرس أسوارها »... « ومن ثم فإن الانتباه الأعظم ينبغى أن يتحول من أسوار المدينة إلى قلوب الناس الذين يسكنون فيها، إذ يلزم أن تتحول الأفكار إلى السبل الروحية التى يستطيع بها خادم اللّه إنهاض الحياة الروحية وتقويتها فى نفوس الناس، وهو يفتح الكتاب أما مهم معلماً إياهم شريعة اللّه السماوية بفهم وبيان » ومن المهم أن تختم هنا بما ذكره نحميا فى الأصحاح الثامن من جواب الشعب على الكلمة الإلهية إذ ردد بعمق وسجود: آمين آمين!!... والكلمة « آمين » من أكثر الكلمات شيوعاً وترديداً على لسان المؤمنين دون أن يدركوا على الأغلب عمقها وكنهها والكلمة فى أصلها العبرانى تعنى « ليكن هكذا »!!... فعندما نرددها فى صلاة أو ترنيمة أو بركة، نحن نقصد أن نقول فى الختام.. ليكن هكذا يارب، فإذا ردد المؤمنون معاً « آمين »، فإنها تبدو، كما كان المسيحيون القدامى يعتقدون، كالرعد الهارى أو موج البحر الذي يصفق على الصخور!!... وقد كان هناك تقليد عند الربيين اليهود أطلقوا عليه: « آمين اليتيم »... ويقولون إن هذه الآمين، هى التى يقولها الناس بدون وعى أو فهم أو تأمل،... وأن من يقولها يموت ويصبح أولاده يتامى!!... وعلى العكس من ذلك، إذا نطقها إنسان بكل هيبة ووقار وحرص وإيمان، فإن أبواب الفردوس ستفتح أمامه!!... ولا شبهة فى أن المجتمعين حول عزرا، هدر صوتهم كالرعد القاصف وهم يقطعون العهد مع اللّه فى صيحة قوية « آمين آمين ».. وعبر بهم الرجل برزخ الضياع والتقهقر والتعاسة والردة، إلى الحياة المباركة االتى خرجت من سبى أقسى من السبى البابلى، سبى الخطية والإثم والشر!!.. ليتك أيها الخاطئ، فرداً كنت أو بيتاً أو شباً أو كنيسة، تفعل هذا لتفلت من السبى القاسى الرهيب آمين آمين!!..
المزيد
20 يوليو 2022
ما هو الخير؟
كلنا نؤمن بالخير، ونريد أن نعمل الخير.ولكننا نختلف فيما بيننا في معنى الخير وفي طريقته.
وما يظنه أحدنا خيرًا، قد يراه غيره شرًا!!
فما هو الخير إذًا؟ وما هي مقاييسه؟
لكي نحكم على أي عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيرًا في وسيلته.. وخيرًا في هدفه، وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتيجته.وسنحاول أن نتناول هذه النقاط واحدة فواحدة، ونحللها. وسؤالنا الأول هو: ما معنى أن يكون العمل خيرًا في ذاته!
وفى الواقع أن كثيرين -بنيه طيبة- قد يعملون أعمالًا يظنونها خيرًا. وهى على عكس ذلك ربما تكون شرًا خالصًا..
مثال ذلك الأب الذي يدلل ابنه تدليلًا زائدًا يتلفه، وهو يظن ذلك خيرًا!! ومثال ذلك أيضًا الأب الذي يقسو على ابنه قسوة تجعله يطلب الحنان من مصدر آخر ربما يقوده إلى الانحراف. وقد يظن ذلك الأب أن قسوته نوع من الحزم والتربية الصالحة. ومن أمثلة الذين يظنون عملهم خيرًا وهو شر في ذاته، أولئك الذين عناهم السيد المسيح بقوله لتلاميذه: "تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله".إن الناس يختلفون فيما بينهم في معنى الخير. ويختلفون في حكمهم على الأعمال. ويتناقشون حول ذلك ويتصارعون. وقد يعمل أحدهم عملًا، فيعجب به الناس ويمتدحونه، ويسرفون في مدحه، بينما يتضايق البعض من نفس هذا العمل الذي يمدحه زملاؤهم. ويتناظر الفريقان، وكل منهما يؤيد وجهة نظره بأدلة وبراهين، ويتولى الفريق الآخر الرد عليها بأدلة عكسية. ويبقى الحق حائرًا بين هؤلاء وهؤلاء.من أجل هذا كان على الإنسان أن يتمهل ويتروى، ولا يتعجل في حكمه على الأمور.بل على العكس أيضًا أن يعمل عملًا، ويحاول أن يتأكد أولًا من خيرية تصرفه. ومن أجل هذا أيضا أوجد الله المشيرين وذوى الخبرة والفهم كإدلاء في طريق الحياة. وهكذا قال الكتاب المقدس "الذين بلا مرشد يسقطون مثل أوراق الشجر". وأوجد الله المربين والحكماء. وجعل هذا أيضًا في مسؤولية الوالدين والمعلمين والقادة وآباء الاعتراف، وكل من يؤتمنون على أعمال التوعية والإرشاد.ولكن يشترط في المرشد الذي يدل الناس على طريق الخير، أن يكون هو نفسه حكيمًا، وصافيًا في روحه..وينبغي أن يكون هذا المرشد عميقًا في فهمه، لئلا يضل غيره من حيث لا يدرى ولا يقصد. ولهذا السبب لا يصح أن يسرع أحد بإقامة نفسه على هداية غيره، فقد قال يعقوب الرسول: "لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا".. حقًا ما أصعب السقطة التي تأتى نتيجة أن يتبوأ أي إنسان مسئولية الإرشاد فيضيع غيره.. ولهذا قال السيد المسيح: "أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة".لذلك كان كثير من الآباء المتواضعين بقلوبهم يهربون من مراكز القيادة الروحية، شاعرين أنهم ليسوا أهلًا لها، وخائفين من نتائجها. وعارفين أن الشخص الذي يقود غيره في طريق ما، أو ينصح غيره نصيحة معينه، إنما يتحمل أمام الله مسئولية نتائج توجيهاته ونصائحه، ويعطى حسابًا عن نفس هذا الشخص الذي سمع نصيحته. وقد قيل في ذلك إن نفسًا تؤخذ عوضًا عن نفس.فعلى الإنسان حينما يسترشد أن يدقق في اختيار مرشديه، ولا يسمع لكل قول، ولا يجرى وراء كل نصيحة مهما كان قائلها. وأن يتبع الحق وليس الناس. وكما قال بطرس الرسول: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس". إذن الخير مرتبط بالحق، ومرتبط بكلام الله إن أحسن الناس فهمه، وإن أحسنوا تفسيره، وإن ساروا وراء روحه لا حرفه.إن كلام الله هو الحق الخالص، والخير الخالص، ولكن تفسير الناس لكلام الله قد يكون شيئًا آخر.إن كلام الله يحتاج إلى ضمير حي يفهمه، وإلى قلب نقى يدركه. وما أخطر أن نحد كلام الله بفهمنا الخاص!! وما أخطر أن نغتر بفهمنا الخاص، ونظن أنه الحق ولا حق غيره، وأنه الفهم السليم ولا فهم غيره..!
إن الذي يريد أن يعرف الخير، عليه أن يتواضع..يتواضع فيسأل غيره، ويقرأ ويبحث ويتأمل، محاولًا أن يصل وأن يفهم.. وحينما يسأل، عليه أن يسأل الروحيين المتواضعين الذين يكشف لهم الله أسراره. وعليه أن يسأل الحكماء الفاهمين ذوى المعرفة الحقيقية والإدراك العميق. وكما قال الشاعر:
فخذوا العلم على أربابه واطلبوا الحكمة عند الحكماء
لو كنا جميعًا نعرف الخير، ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف.. علينا إذن -في تواضع القلب- أن نصلى كما صلى داود النبي من قبل: "علمني يا رب طرقك، فهمني سبلك".إن الصلاة بلا شك هي وسيلة أساسية لمعرفة الحق والخير، فيها وبها يكشف الله للناس الطريق السليم الصحيح.
وهنا نسأل سؤالًا هامًا:
هل الضمير هو الحكم في معرفة الخير؟ وهل نتبعه بلا نقاش؟
أجيب وأقول: يجب على الإنسان أن يطيع ضميره، ولكن يجب أيضا أن يكون ضميره صالحًا. فهناك ضمائر تحتاج إلى هداية. إن الأخ الذي قتل أخته دفاعًا عن الشرف، أو الأخ الذي قتل أخته لأنها أرادت الزواج بعد زوجها الأول.. ألم يكن كل منهما مستريح الضمير في قتله لأخته ؟! ألم يسر كل منهما على هدى من ضميره، وكان ضميره مريضًا؟!
إن الضمير يستنير بالمعرفة: بالوعظ والتعليم، بالاسترشاد، بالنصح، بالقراءة.. فلنداوم على كل هذا، لكي يكون لنا ضمير صالح أمام الله لأننا كثيرًا ما نعمل عملًا بضمير مستريح، واثقين أنه خير..!!
ثم يتضح لنا بعد حين أنه كان عملًا خاطئًا!
فنندم على هذا العمل، الذي كان يريحنا ويفرحنا من قبل.وأمثال هذا العمل قد يسمى في الروحيات أحيانًا" خطيئة جهل" إن الإنسان الصالح ينمو يومًا بعد يوم في معرفته الروحية. وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر، فيعرف ما لم يكن يعرفه، ويدرك أعماقًا من الخير لم يكن يدركها قبلًا. وربما بعض فضائله السابقة تتضح له كأنها لا شيء، بل قد يستصغر نفسه حينما كان يتيه بها في يوم ما..!
من هنا كان القديسون متواضعين.. لأنهم كل يوم يكشفون ضآلة الفضائل التي جاهدوا من أجلها زمنًا طويلًا..!
وذلك بسبب نمو ضميرهم وشدة استنارته في معرفة الخير والخير يرتبط بنسيانه إذ ننسى الخير الذي نفعله، من فرط انشغالنا بالسعي وراء خير آخر أعظم منه، نرى أننا لا نعمله نحن، وإنما يعمله الله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا، ولولا أنه من تواضعه ومحبته شاء أن يتم هذا الخير على أيدينا، على غير استحقاق منا لذلك ولكن ما هو الخير؟ وكيف يكون خيرًا في ذاته؟ وفي وسيلته؟ وفي هدفه؟ وفي نتيجته؟
أري أنني قد طفت معك حول إطار هذه الصورة.. التي ليتنا نستطيع أن نتأملها في مقال آخر إن أحبت نعمة الله وعشنا..
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
من كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
19 يوليو 2022
سلوكيات شبابيه
هناك تباين كبير بين الشباب في نوعياتهم وسلوكياتهم ، وهذه بعض الملاحظات في ذلك:
1- الشباب والإستهتار:-
كالنوع الذي لا يكف عن المزاح والضحك ، حتي داخل الإجتماع ، مفسدا الجو الروحي للإجتماع
... ولا يستجيب إلي نصيحة أو توبيخ ... وربما ليس في نيته - ولو حاليا – أن يتوب! وقد قالها
واحد من الشباب للخادم "أنا لن أحضر إجتماع الشباب ، لأنني لو حضرت فسوف أتوب ، وأنا لا
أريد أن أتوب"!!
وهذه النوعية من الشباب ، تحتاج إلي زلزال روح الله ، فمن يعطيه هذا إلا روح الله القدوس ...
ربما بكلمة ... ربما بصرخة حب ... ربما بتجربة إلهية توقظه ... ربما بتوقيف الكاهن له حينما
يأتي إلي التناول سائلا إياه عن الإعتراف محذرا إياه أن القدسات للقديسين ... هناك مداخل
وأساليب كثيرة يستخدمها الله من أجل إيقاظ هذا الشاب المستهتر ، ليبدأ التفكير في خلاصه
وأبديته.إن المواجهة الحانية لهذا النوع من الشباب ، هامة للغاية ، عملا بتعليمات الرب لحزقيال "إن لم تتكلم لتحذر (الشرير) من طريقه ، فذلك الشرير يموت بذنبه ، أما دمه فمن يدك أطلبه" (خر 8:33)
2- الشباب والوسوسة:-
هذا النوع له نفسية مرهفة ، يجعله يضطرب أمام أبسط شئ ، وأصغر خطأ ، ويكاد يصل إرتباك
ويأس ومدمر ، إذا ما إرتكب خطيئة ما ... وربما – مثلا – حينما يتناول ثم يخطئ يتصور أن هذا
تجديف علي روح الله ، أو أنها خطيئة إلي الله مباشرة ، ليس لها غفران ولا توبة إنها نفسية
رهيفة ،لا تتحمل أن تعطيها حرية زائدة أو مطلقة ، فهذه تربكها بالأكثر ،بل علينا أن نجعله
يتعرف علي جوهر التدين،ومحبة المسيح ،وإتساع صدره ، فيسلك بثقة ،دون إنفلات أو
إستهتار.
3- الشباب والناموسية :-
ذلك النوع الفريس في أسلوبه ، يسلك بالحرف ، ويرتبك إذا ما قصر في قانونه الروحي ، حتي
غي حالة العذر ، ويتعب ضميره أنه لم يصلي كل المزامير مثلا ، بينما بينما هناك ظرف خاص
أجبره علي ذلك .وهنا نتذكر ذلك الراهب الذي جاء إلي القديس أنطونيوس ، يشكو تعبا الضمير لأنه يصلي 200صلاة فقط في اليوم . فأجابه القديس أنطونيوس أنه يصلي 150 صلاة فقط وضميره مستريح. ثم أردف القديس قائلا : لابد أنك تقدر أن تصلي أكثر ، ولا تفعل!!
المهم ... هو الإتصال الصادق بالرب ، في حرية الروح ، لا في عبودية الحرف ... وهذا بلا شك
يحتاج إلي توجيه مستمر ، وإرشاد سليم ، لا ينحرف يمينا نحو الإهمال ، ولا يسارا نحو
الفريسية ... بل يكون معتدلا يدفعه نحو حلاوة العشرة مع اله أكثر من البطولة في أداء
الممارسات الدينية.
4- الشباب والروتينية:-
الذي يكتفي بتنفيذ شكليات الدين ، دون الدخول إلي جوهره ... ربما يحضر القداس مبكرا ،
ويخدم كشماس ، لكن في روتين وجفاف ، وليس بمشاعر صادقة وحارة أمام الله . ليس هناك
إتصال حقيقي بالرب ... حتي الأجبية يصليها في روتينية جافة ، وكذلك الخدمة ، دون بذل جهد
حيوي في حرارة الروح ، وتعب الكرازة الفعال.وهذا النوع من الشباب يحتاج أن يدخل –بنعمة الله- إلي حيوية ممارسة وسائط النعمة ،الصلاة الحية ، القراءة المشبعة لكلمة الله ، الكتب الروحية ، الحضور المستفيد من الإجتماعات الروحية ... وتحريك القلب بالمطانيات وقرع الصدر قبل الصلاة ، أو بالشبع ببعض الآيات ، أو بترنيمة أو بلحن أو بجزء من القداس ، أو بالغوص العميق في فحص النفس ، أو التأمل في محبة الله وعطاياه ، أو الذهاب إلي الأديرة في خلوات روحية ... أو الإعتراف الأمين بخطايا معينة تمنع فيض السلام الإلهي ... أو بالصلاة من أجل أخرين في ضيقة أو إحتياج ... لكي يخرج الإنسان من الروتينية إلي الحيوية ، فيمارس وسائط النعمة بروح الإبن لا بروح العبد أو
الأجير .
5- الشباب والطموح:-
إن الطموح الذي يتجه نحو أهداف أرضية مادية وبقوة الإنسان الذاتية ، هذا يختلف عن منهج
"إستثمار الوزنات " حيث يكون الهدف هو تمجيد الله والوسيلة هي عمل الله فينا. لذلك فمن
المهم أن يقنع الشباب بضرورة إعتماد هذا التمييز بين الأمرين ، فلا يتحرك نحو أهداف أرضية
بقوته الذاتية ولمجده الشخصي ، بل عليه أن يستثمر ما أعطاه له الرب من مواهب ووزنات ،
بقوة الله ، ولمجد الله ... وبالطبع سيكون هناك نجاحات أرضية ومادية وعلمية وإحتماعية ،
ولكنها كلها ستكون لمجد الله وليس لتضخيم الذات ... وحتي الحياة الروحية والخدمة ينطبق
عليها نفس التمييز ... فهناك فرق بين جهاد روحي وكرازة وخدمة وأعمال محبة وصلاوات وأصوام
لمجد الذات ، وبإقتدار بشري محض ، يهدف إلي الإحساس بالبطولة اوالتميز او التفوق ، ويسعي
إلي حب المديح والمجد الباطل ... ويبين أن يقوم الإنسان بكل هذه الجهود الروحية والكرازية ،
بقوة الله ، ولمجد الله . الخيط رفيع ، ولكنه هام وخطير ... ومن هنا تكون فضيلة الإفراز والتمييز
–كقول القديس أنطونيوس- هي أهم وأخطر الفضائل.ولهذا أوصانا الأباء ، أن نجتذب الشباب إلي أسفل حينما نراههم صاعدين إلي أعلي ، دون أساسات روحية من الإتضاع والإرشاد والتمييز ، خوفا من سقوطهم الرهيب ، في الصلف والكبرياء ، والإحساس بالتميز.كذلك يحرص الأباء الروحيون ، علي إرشاد أبنائهم كيف يقرأون بستان الرهبان ، حتي لا يطمحوا إلي تدريب وممارسات روحية عالية ، قبل الوقت ، ودون أساسات سليمة ، مما قد يعرضهم إلي أمراض روحية خطيرة ، ليس أقلها الكبرياء ، وربما صغر النفس ، بل إلي أمراض نفسية وجسدية أو نفس جسدية!
6- الشباب والتقمص:-
ذلك حين يقلد الإنسان شخصا أخر ، وهو معجب به ، فيحاكيه في كل شئ ظاهري ، الحركة
وأسلوب الكلام ، سواء بطريقة شعورية أو لا شعورية . وبالطبع الغيرة في أمور حسنة وبدوافع
مقدسة ، ولمجد الله تختلف عن "التقمص" الذي لا يعدو أن يكون "حيلةدفاعية لا شعورية" من
أجل الإختفاء وراء شخصية أخر لإكتساب رضا الناس وللهروب من الإحساس بالفشل أو عدم
القدرة علي الأداء الجيد. وبالطبع فالعلاج هنا يكمن في إقتناع الشباب بأنه لا جدوي من التقليد والمحاكاة والتقمص ،فالرب الذي أعطي الأخر قادر أن يعطيني ، وما يناسبه من عطايا لا يناسبني أحيانا كثيرة.ينبغي أن يعرف الشاب أن الرب قادر أن يخلق منه أيقونة حلوة ، متميزة ، فريدة ، فإمكانيات روح الله الهائلة ، غير المحدودة قادرة أن تخلق من كل إنسان شيئا مختلفا ... المهم أن أخضع نفسي لعمل الله ، بدافع مقدس هو تمجيد الله ، والله قادر أن يعمل فيّ كما يعمل في غيري
، ليخلق منا جميعا أعضاء مقدسة في جسده الطاهر ، الكنيسة ، تختلف تماما في تكوينها
ووظيفتها ، ولكنها تتكامل معا في وحدة وحب ووئام. وهنا نتذكر كلمات الرسول "فإن الجسد أيضا ليس عضوا واحدا ، بل أعضاء كثيرة. إن قالت الرجل لتي لست يدا ، لست من الجسد ، ألم تكن لذلك من الجسد؟ وإن قالت الأذن ، لأني لست عينا لست من الجسد ، ألم تكن لذلك من الجسد؟ لو كان كل الجسد عينا ، أين السمع؟ لو كان الكل سمعا ، أين الشم؟ وأما الأن فقد وضع الله الأعضاء ، لكل واحد منها في الجسد كما أراد . ولكن لو كان جميعها عضوا واحدا ، فأين الجسد؟ فالآن ... أعضاء كثيرة ، ولكن جسد واحد؟" ( 1كو 14:12- 20) الفنان يختلف كثيرا عن التاجر ، فالتاجر يطبع من الصورة ألف نسخة ، ليكتسب منها ، ولكن الفنان يجتهد –ربما لشهور- ليخلق صورة جميلة ، ولا يسعي إلي بيعها عموما ، بل يكفيه أن يراها أمامه في كل حين ، في غلاوة طفل عزيز لديه! هكذا روح الله ، الفنان العظيم ، قادرا أن يخلق من لك نفس صورة جميلة ، وعضوا حيا ، وأيقونة فريدة ، فلماذا أتقمص شخصية أخري، وألغي عمل روح الله فيّ؟!
إذن فليقتنع كل شاب أن يكون نفسه ولنخاطبه دائما Be yourself وهذا لا يعني تضخيم
الذات ، ولكن إعطاء فرصة للتفرد الإنساني ، والعطايا الشخصية التي استودعها الله في كل
نفس ، لكي تسهم في بنيان الجسد الواحد ، لمجد الله ، معطي الكل.
7- الشباب والرياء:-
حين يظهر الإنسان م لا يبطن ... فيأخذ الشكل الخارجي للروحيات ، دون العمق الداخلي ...
ويأخذ صورة التقوي، وينكر قوتها . والمطلوب طبعا هو الإهتمام بالداخل والخارج معا، فلا يهمل
أي من الحياتين ، يجتهد أن يقدم صورة مسيحية جيدة ، نابعة من أعماق مسيحية جيدة.
يحتاج إذن هذا النوع من الشباب ، إلي التوجيه نحو الداخل ، نحو الجوهر والحقيقة ، نحو الرب
الساكن فينا ، ليعرف أن الله يريد هذا البعد السري والعميق في حياتنا ، تماما كما يريد الصورة
الأمينة الشاهدة له ، وهو الذي قال "ليكن تقدمك ظاهرا أمام جميع الناس" ( 1 تي 15:4) قال أيضا "أبعد عن العمق" (لو 4:5) هل نتذكر هنا القول المأثور المعروف "كل إناء ينضح بما فيه" أم نتذكر –بالأولي- كلمات الرب يسوع للفريسيين "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون ، لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة ، وهما من الداخل مملوءان إختطافا ودعارة! أيها الفريسي الأعمي ، نق أولا داخل الكأس والصحفة ، لكي يكون خارجهما أيضا نقيا" (مت 25:23-26)
8- الشباب والخنوع:-
كثيرا ما يسقط الشباب في خطايا معينة ويستمر سقوطهم فيها ، حتي رغم الجهاد ، وهكذا
يدخل في إحساس بصغر النفس أمام الخطيئة ، ويسلك بخنوع تام ، ويأس مرير ، فاقدا روح
الرجاء ولعل هذا النوع من الشباب ، يحتاج أن نذكره بقول الرسول "أن الله لم يعطنا روح الفشل ، بل روح القوة والمحبة والنصح" ( 2 تي 7:1).ليهتف بعد ذلك قائلا "أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني" ( في 13:4) ويرنم علي الدوام قائلا "في هذه جميعها ، يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا"(رو 37:8) وعليه ان يخاطب الخطيئة قائلا "لا تشمتي بي يا عدوتي لأني إن سقطت أقوم ، وإن جلستفي الظلمة ، فالرب نور لي" (مي 8:7) ألم يقل لنا نبي الروح يوئيل "ليقل الضعيف بطل أنا" (يوئيل 10:3) ولذلك يقول الرسول بولس "حينما أنا ضعيف ،فحينئذ أنا قوي" ( 2كو10:12) ذلك بعد أن صرخ للرب ثلاث مرات ، أن تفارقه شوكة الجسد ( وهي غالبا قروح ذات رائحة صعبة) ، إذ قال الرب له "تكفيك نعمتي ،لأن قوتي في الضعف تكمل" ( 2كو12:9) لهذا هتف قائلا "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي (أي الضعف البشري طبعا وليس الخطيئة) ، لكي تحل عليّ قوة المسيح" ( 2كو9:12) كثيرا ما يحتاج الشباب إلي روح الرجاء ، حتي لا يظل خاضعا للخطيئة ، خاضعا تحت نيرها ، غير واثق من إمكانية النصرة في الرب يسوع.وهنا ملاحظة أخري هامة ، إذ كثيرا ما يصير الجهاد السلبي للإنتصار علي خطيئة معينة ، غير مصحوب بجهاد إيجابي وهو الشبع الروحي ... وبدون شبع لا ينجح جهاد "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا" (يو5:15) لهذا يجب إقناع الشباب ، بأن الشبع الروحي هو الطريق السليم إلي النصرة ، بل بالحري إلي الإتحاد بالرب ... فالهدف ليس فقط أن تنتصر علي الخطايا ، بل أن نتحد بالمسيح "والنفس الشبعانة تدوس العسل" (أم 7:27).
9- الشباب وحب الظهور:-
في أعماق الشباب نداء نحو تحقيق الذات ، ولا شك أن هذا الإحتياح النفسي إحتياج مشروع ،
لو أنه كان بالمسيح ولمجد المسيح ، أما الخطأ فهو أن يسعي الشباب إلي حب الظهور ،
وإستجداء المديح ، وتضخيم الأنا ، وعبودية الذات ... فالذات هنا ستكون بديلا عن المسيح ،
بعكس منهج يوحنا المعمدان ، الذي كان عنده السيد المسيح بديلا للذات "ينبغي أن هذا يزيد ، وأني أنا أنقص" ( يو30:3)، بعكس منهج الرسول بولس الذي قال "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" ( غل 20:2). هذا النوع من الشباب الذي يسمي selfcentric أو Egocentric أي المترمكز حول ذاته ، كثيرا ما يسقط في "المهرجانية " و "الإستعراض" أو سرق مجهود إخوته ، والبحث عن المديح والمكافأة ... إنما يعمل لحساب الذات ، وليس لحساب المسيح ، ويحتاج إلي مواجهة حانية من مسئول الخدمة أو المجموعة ، كما يحتاج إلي توجيه روحي نحو المسيح يسوع وخلاص النفس ، لأنه "ماذا ينتفع الإنسان ، لو ربح العالم كله وخسر نفسه" ( مر 36:8) . إن العالم بكل أمجاده والكرة الأرضية بكل ما فيها ، إذا وضعت داخل قلب الإنسان المثلث ، ستتبقي زوايا المثلث فارغة ، ولن يشبع قلب الإنسان المثلث إلا الله المثلث الأقانيم.
الشاب الأناني يكون علي الدوام مرفوضا من الكل : في الأسرة ، الكنيسة ، المجتمع ... لكن
الأخطر من ذلك ، أنه يعرض نفسه للهلاك الأبدي! بينما يكون الإنسان المتضع ، محبوبا من الكل
، إذ يبرز دور إخوته في كل عمل ، ويختفي هو وراء رب المجد ، معطيا كل المجد لله ، الذي
أعطاه كل ما لديه من عطايا أو وزنات "أنت الذي أخذت ، لماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟! أي شئ
لك لم تأخذه" ( 1كو7:4).
10- الشباب والسخط:-
دائما غير راضين عن أي شئ ومهما كان العمل ناجحا ومفرحا ، تجده يفتش عن سلبيات قليلة
، ويركز عليها ، ويشيع جوا من التذمر والرفض والمرارة ، بدلا من أن يشيع جوا من التشجيع
والنقد البناء.ومعروف نفسيا أن هذا الشاب يعاني من سلبيات داخلية تجعله "إكتئابيا" بمعني أن يجنح إلي الحزن والكأبة بدلا من روح الفرح والإنطلاق والإيجابية.وواضح أن الرب يسوع ، كان نموذجا رائعا في البحث عن الإيجابيات في بحر السلبيات! فها هو يشجع زكا ، ويمتدح السامرية ، ويشيد بتوبة المرأة الخاطئة!
بعضنا يري النصف الفارغ من الكأس ، ويركز عليه ، ويتناسي أن هناك نصف أخر مليئ. وقديما
قال لنا الأباء "ليس عطية بلا زيادة ، إلا التي بلا شكر".يحتاج شبابنا إلي "النظرة الإيجابية" و "النقد البناء" الذي يري الإيجابيات أولا ثم يتحدث في السلبيات ليصلحها. وهذا مهم ، ليس في حياتنا العائلية والكنسية والمجتمعية فحسب، بل أنه مهم حتي في حياتنا الخاصة والشخصية ... لأن روح الرجاء والتوجيه الإيجابي ، أفضل من روح السخط واليأس . وليكن شعارنا دائما "أنسي ما وراء ، أمتد لما هو قدام" (في 13:3).
نيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
المزيد
18 يوليو 2022
البر الذاتي
بعض الناس أبرار في أعين أنفسهم، والبعض الآخر أبرار في أعين الآخرين، والبعض الثالث أبرار قدام الله.
البار في عيني نفسه: هو شخص لا يشعر بخطيئته وبالتالي لا يقدم توبة عنها، هو حساس لخطايا الآخرين بينما يتضايق إذا ما واجهه الآخرين بأخطائه فيدافع ويرد لهم الاتهامات، أو يعجب بنفسه ويتمركز حول ذاته، مثل الفريسي الذي بعد أن استعرض أنشطته الروحية الخارجية دان العشار المسكين الذي لام نفسه فقط وطلب المغفرة من الله فهو خاطئ ! (لوقا 18: 13).
أمّا البار في أعين الآخرين: فهو الذي يسعى جاهدا لكي ينال الكرامة من الآخرين، وقد يدفعه ذلك إلى السلوك برياء، واقتراف الكثير من الخطايا إذا كان في ذلك إرضاء للناس، كما يجعله ُيخفي خطاياه عن الناس حتى لا يحتقرونه. مثل هذا وذاك يهمس الله في أذنه قائلاً أنا عارف أعمالك .. (رؤيا 2 : 2).
وأمّا البار قدّام الله: فهو الذي يأتي بالملامة على نفسه ويرى جميع الناس أبراراً إلاّ هو، إن هذا الفكر النقي جعل "خيّاطاً" في مدينة الإسكندرية ُمساوياً في درجته للأنبا أنطونيوس أب الرهبان. ليس المهم أن يمدحك الناس، أو تمتدح ذاتك – إذا لم تجد من يمدحك- وإنما أن يزكيك الله "لانه ليس من مدح نفسه هو المزكّى بل من يمدحه الرب" (2كو10 : 18).فقد يخطئ إنسانا فلا يلحظ الناس خطيئته، وبالتالي ينجو من تبكيتهم أو احتقارهم، وقد لا يعاقبه الله أيضا في حينها بسبب طول أناته. ولكن عليه أن يحاسب نفسه في مخدعه، أي لا يمررها لنفسه (حتى إن كان الله قد تغاضى عنها أو لم يلحظها الناس). لقد كانت أعظم شهادة كتابية عن زكريا وأليصابات هي "وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم (لو1 : 6).
نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
17 يوليو 2022
مسيحنا يعين الضعفاء
نري اليوم مشهد رائع جدا وتخلده لنا كلمات ربنا يسوع المسيح، كان التلاميذ يظنون بالحسابات البشريه أن الاعظم هو الأقوي، أو من يحمل سلطة، أو من يملك أموالا، أو من له إمكانية أن يكون فوق الجميع، لكن حينما سأل التلاميذ السيد المسيح: "من هو الأعظم في ملكوت السموات؟" وكانوا يظنون ان مقاييس الملكوت حسب رؤيتهم البشرية، ولكنه علي خلاف كل الذي سمعوه قبلا، أقام طفلا وقال لهم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، لن تدخلوا ملكوت السموات.لا يستطيع أحد أن يدخل الملكوت، الا من يحمل روح الطفولة، والبراءة والبساطة، والمحبة المنطلقة دون حسابات، وروح الطفولة التي بلا شر ولا تعرف التمييز.الأعظم له حسابات وصورة، فكلما اقترب الإنسان من المسيح، كلما كان عظيما، ولكن السيد المسيح قال جميلة في غاية الأهمية: " من يقبل صبيا بإسمي، فقد قبلني، ومن اعثر أحد هؤلاء الصغار، فخير له أن يعلق في عنقه حجر وطرح في البحر".
لم يجبهم عن الأعظم، ولكن وضح لهم طريقا للعظمة - قبول الصبي لا يعني قبول الطفل في حالته، ولكن قبول الطفولة - الطفل ليس له إمكانية الأعتماد علي نفسه، ولا يمكنه ان يعتني بذاته، ويحتاج دائما لمن هو كبير.ويقصد السيد المسيح بالكبير هو من يعتني بالأخر، العظيم هو من يفتح حضنه ويأخذ الجميع في أحضانه.من يقبل طفلا: الطفل قد يتوه في الطريق، وهو لا يدري من يقوده، ومن يحميه، ومن يعطيه الامان.من يقبل طفلا: هو من يعطي الآمان للآخرين، من يحب دون أن ينتظر من الطفل أن يبادله حبا، ولكنه يحب بأبوه، يحب لأنه كبير... هذا هو العظيم.وبالعكس الذي يعثر الاخرين، ولا يحمل في قلبه رحمة، ومن يقسو علي من هو ضعيفا " فخير له لو وضع في عنقه حجر رحي وطرح في البحر".لأن العثرة هنا تعني عثرة كيان.فالإنسان الذي لا يستطيع أن يقف علي قدمه لأنه ضعيف، ويأتي من يسقطه قاصدا ... هذا يعني عثرة كيان.الإنسان الذي يحتاج إلي حب، ولكنه لا يجد إلا كراهية... عثرة كيان.الإنسان الذي يحتاج لمن يقف معه في محنته، ولا يجد... عثرة كيان.الذي يأتي طالبا رحمة، ويجد بدلا منها قساوة... عثرة كيان.أننا نؤمن بمسيح يرثي للضعفاء، ولا يحكم علي الإنسان بصورته الخارجيه.فالمرأة التي امسكت في ذات الفعل، وآتوا بها إليه، طالبين ان يأمر برجمها بقساوة، قال لهم " من منكم بلا خطية فليرمها بأول حجر".هي خاطئة، ولكنه يعلم أن الضعف ليس شرا، فالضعيف يحتاج إلي من يحتضنه ويقف بجانبه، وليس من يسقطه أكثر، ويدخله في دائرة الإدانة أكثر.حينما سقط أدم وحواء، وكان الحكم العادل هو موتا تموت، أما هو فقد وضع لهم ناموسا آخر وهو: " نسل المرأة يسحق نسل الحية"، أنه سيأتي ويخلص.بينما كان الحكم أن يتعري أدم وحواء من النعمة المعطاه لهم، أما الرحمه فقد ألبسهما أقمصة من جلد.كان الشعب السائر في البرية قاسي القلب، ولم يكن يحمل إيمانا ويستحق الموت، أما هو فقد اعتني بحتي الذين قد تذمروا عليه مرارا كثيرة، ولم يقدموا إيمانا، بل كانوا قساة القلوب والرقبة، اعطاهم منا، وطلبوا لحما اعطاهم سلوي، طلبوا مياة، فأنفجرت من الصخرة مياة كثيرة، وكان أمامهم كعمود نار ليلا، لئلا يخافوا من ظلام البراري، وبالنهار كسحابة لئلا تحرقهم الشمس، هؤلاء تذمروا عليه، ولم يقدموا له حبا، ولا ايمانا.ولكنه يعتني ويسند ويحمي، حتي وإن أخطأنا فهو يغفر، وإن كنا مستعبدين هو ينجي.ونظير هذا يجب ان نفعل هكذا ببعضنا البعض، أما الذين ليس في قلوبهم رحمة، ويشعروا بسلطة، ولأجل ذواتهم يجب أن ينحني لهم الاخرون، ويشعر الاخر بتصاغر أمامهم، فهؤلاء لهم حسابا عسيرا جدت.ذات مرة ذهب أبو مقار الكبير ليبيع عمل يديه، وكان عمره قد تجاوز الثمانين عاما، حمل السلال علي كتفيه، لم يحب ان يعمل أحد التلاميذ بدلا منه، ولا كان يحب ان يخدمه أحد، هذا هو القديس أبو مقار الذي كانت الملائكه تصاحبه، ويأتي له الشاروبيم والسيرافيم.وهو يحمل السلال جلس علي حجر ونظر إلي الله وقال له: أنت تعلم أنه لم يعد في قوة، فوجد سحابة حملته.هو لا يحتمل أن يرانا تعابي، ولا يحتمل أن يري دموعنا.
في أحد مزامير المصاعد المزمور ١٢١ يقول:
رفعت عيني إلي الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الصانع السماء والأرض. لا يدع رجلك تزل، لا ينعس ولا ينام حارس إسرائيل. الرب يحفظك من كل شر. الرب يحفظ دخولك وخروجك من الآن وإلي الأبد.وانت ترفع عينك في الصلاة لا تعمل حسابا أنك خاطيء، ولك تاريخ في الخطية، لان خالقك يعلم تماما، أنك تحمل ضعفا... أما هو فيحمل حبا.يعرف أنك تحمل طبيعة قابله للكسر، أما هو فيحمل يدا تخلق وتعيد مرة أخري ما كسر تماما.لإلهنا كل مجد وكرامة إلي الأبد أمين.
القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة أبي سرجة مصر القديمة
المزيد