المقالات

27 أبريل 2021

الساعة الحادية عشرة ليوم ثلاثاء البصخة

على مثل الوزنات «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ».ويبدأ المَثَل في مشروع رحلة بعيدة لإنسان سيد، وبناء عليه دعا العبيد لتسليمهم أمواله، هنا ترتفع العلاقة التي تربط السيد بعبيده إلى أقصى مستوى من التبعية والأمانة التي تصل إلى حد تسليمهم أمواله ليقوموا بعمله، باعتبارهم حائزين على كل إمكانياته، وعلى ثقته أيضاً. والإحساس هنا يكاد يُنْبِئ بأنه جعلهم كأبناء كونه يحمِّلهم مسئولية إدارة أمواله في غيابه، وكأنهم يمثِّلونه شخصياً.«فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ».نحن الذين اختارهم الله في المسيح يسوع لملكوته الأبدي قبل إنشاء العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة. اختارنا وكل واحد منا خلقه بإمكانية وطاقة معيَّنة في المواهب وفي القدرة على استخدام المواهب، وبالتالي بإمكانية للخدمة تتناسب مع الطاقة والمواهب. في حين أعطانا فداءً واحداً وخلاصاً واحداً ودعوة مقدَّسة واحدة متساوية في كل شيء للخلاص.وهكذا بمقتضى حكمة الله الفائقة ومعرفته الكاملة المطلقة التي لا يغيب عنها شيء من أمور الخليقة كلها، ودرايته الكاملة المطلقة بدقائق إمكانياتنا وذكائنا وضعفنا، أعطى كل واحد منَّا وزنات تتكافأ تماماً مع طاقتنا ومقدرتنا ومواهبنا للخدمة، نخدم خلاصنا وخلاص الآخرين لحساب ملكوته الأبدي. فلم يُعطِ لأحد من الوزنات أو من الخدمات ما يفوق طاقته، إلاَّ إذا أقحم إنسان نفسه في خدمة أو عمل يفوق طاقته وإمكانياته، فهذا يُسأل عن عجزه ويُلام في تقصيره ولا يُلام الله بسببه في شيء. ويلاحظ السامع، أن السيد المسافر هذا لم يأخذ صكوكاً ولا كتب شروطاً ولا حذَّر ولا أنذر ولا أوعى وأوصى، بل بكل ثقة أعطى ماله لعبده الأول على أن يتاجر فيه بقدر ما حباه الله من مواهب. والأمانة المطلقة فُرضت هنا باعتبارها العلاقة الأُولى التي تربط السيد بعبيده.وهكذا أعطى العبد الثاني ما يتوافق مع طاقاته وإمكانياته، وكذلك الثالث، ولم يلاحظ قط أن أياً من الثلاثة استكثر الوزنات أو استقلها، مما يوحي أن التوزيع كان عادلاً بمقتضى طاقاتهم حقـًّا. «وسافر للوقت»: وكأن اجتماعه بخدمه كان طارئاً لتسليم هذه الوزنات، على أن عودته ستكون للسؤال عن النتائج بقدر الأهمية التي نعرفها نحن عن موهبة الفداء والخلاص التي منحها للجميع بقدر واحد، وكيف أنه سيأتي ليحاسبنا على الدم الذي سفكه من أجلنا، ونعمة الخلاص الذي أكمله بقيامته من أجلنا.«فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهَكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ».لم يدَّخر جهداً، بل في الحال قام العبد الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها وربح خمس وزنات أُخر، فكان عند حسن ظن سيده وأثبت جدارته، كما أثبت أن سيده كان حكيماً دقيقاً عالماً بإمكانياته وطاقته تماماً. كذلك العبد الثاني تاجر وربح وزنتين وأضاف إلى برهان الأول برهانه الخاص أنه كان جديراً بالوزنتين، وأن سيده كان حكيماً ومدركاً طاقته تماماً.حدَّد كمية الوزنات. أي أن الطاقة هي من عمل النعمة، وعلى أساس عمل النعمة يمنح الله الوزنات. وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتم المحاسبة والعقاب. لأن الذي لم يربح يُعاقب لأنه عطَّل عمل النعمة فأوقف عمل الوزنات. أمَّا الربح فقد زكَّى عمل النعمة. وهكذا ترتد النعمة عليه بالطوبى والبركة والمكافأة.«وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ».إخفاء الوزنة أو الفضة في الأرض يقابلها تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المميزات الروحية التي أعطاها الله للمؤمن. وهذا يتم عند الذين إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة أو صار لهم استهتار وازدراء بصاحب الموهبة، وبالتالي عدم اهتمام بمجيئه والحساب الذي سيحاسب به كل إنسان عن ما وهبه إيَّاه. وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السهر ورفض العمل وفقدان الإحساس أو الأمانة بالمسيح.«وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا». هنا تحديد الزمان الذي غابه السيد بأنه طويل يوضِّح تأخُّر المجيء الثاني، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنون أنه سيأتي سريعاً. وأمَّا الحساب فهو ضرورة قصوى كمبدأ إيماني ثابت أن الإيمان بالمسيح هو عمل وحساب على العمل، وإلاَّ انقلب الإيمان المسيحي إلى فوضى. ومرَّة أخرى نفهم الإيمان المسيحي أنه قائم على عطايا ومواهب وامتيازات تحمل قيمة فائقة داخلها لا يكشفها ويستمتع بها إلاَّ الذي يعمل ويجتهد ويتاجر بها. وفي نفس الوقت فإن هذه المواهب والامتيازات الإيمانية سيُطلَب ربحها في حياة كل مؤمن في حساب الدينونة العتيدة. ومثل هذه الوزنات هنا سواء في الخمس أو الاثنتين أو الواحدة هي مجرَّد عيار للمواهب توزن في مقابلها الأعمال. ويتحتَّم أن تكون هذه المواهب قد قدَّمت ما يساويها من أعمال وإلاَّ يُحسب الإنسان أنه اختلس أموال السيد.«فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».أمَّا كونه حسناً أو جيداً فلأنه أثبت أن ما قدَّمه من “عمل” يساوي “طاقته” تماماً، فهنا يكون وزن الشخصية روحياً قد نجح. وأمَّا أنه صالح فلأنه أثبت أمانته للسيد نفسه تماماً، فحَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصياً وُجِدَ أميناً فيه لشخص السيد، فهو صالح. وأمَّا أنه أمين فلأنه قدَّم خمس وزنات مقابل خمس وزنات استلمها، فهو أمين في مال سيِّده. «كنت أميناً في القليل»: القليل هنا هو كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن ليتاجر بها. ويفرح ويفرِّح الآخرين، مهما كانت قوتها وقدرتها وعظمتها. لأنها هي بوضعها الحالي صورة لعطايا الله في السماء التي لا يمكن أن توصف أو يدركها عقل. وواضح من هذا الكلام أن المسيح إنما يهب لنا هذه المواهب والعطايا لنتاجر بها لحساب الملكوت، فهي الطريقة الوحيدة التي يدرِّبنا بها لكي نرتقي إلى ما هو أعلى وأعظم وأمجد - وما الدينونة الأخيرة أو الوقوف أمام المسيح إلاَّ لكي نسمع منه هذا الصوت الذي سوف يملأ أسماع السمائيين: نِعمَّا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك.«ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا.قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».وبهذا الإجراء يظهر تماماً منهج الرب يسوع المسيح في توزيع المواهب، والحكم النهائي على أداء الأعمال والمهام التي سلَّمها لمختاريه. إذ وضح أن التوزيع للمواهب والعطايا الروحية يتبع نظاماً دقيقاً للغاية مربوطاً بالطاقة التي يحوزها الإنسان، والقدرات الشخصية في مجملها الروحية والنفسية والجسدية. فكل مَنْ هو قادر على احتمال المسئوليات يُعطى من المواهب والنعمة ما يساوي قدرته تماماً. وهكذا تأتي محاكمته أيضاً عادلة للغاية ودقيقة للغاية، حيث تكون محاسبته على الأمانة والجهد والاهتمام الذي أدَّاه في مسئوليته، ولا يدخل فيه الكثرة أو القلة في المواهب. فصاحب الخمس وزنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تماماً وبالحرف الواحد.«ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ».العبد هنا بدأ يدين السيد على سلوكه وأخلاقه ويلصق به بناءً على ذلك تهمةً أنه السبب في كونه مضى وأخفى الوزنة في الأرض، فلا هو انتفع بها ولا نفَّع أحداً.واضح لنا جداً أن غياب المحبة في قلب هذا العبد هي التي فصلت قلبه وذهنه عن سيِّده، كذلك عدم الأمانة وعدم الثقة جعلت الخوف يطغي على الطاعة ويضحِّي برضا السيد. ووصفه للسيد بالقسوة هو مجرَّد تبرير لسلوكه غير الأمين وشعوره غير المحب ولا الخاضع لأوامر السيد. فهو اتهام جزافي ليس عنده ما يبرِّره إلاَّ عجزه عن أن يكون خاضعاً وأميناً ونشيطاً.ونحن يستحيل أن نبرِّر هذا العبد في قوله عن السيد أنه قاسٍ مهما كانت الأسباب التي يتذرَّع بها، لأن سيده علم أولاً أن لديه الطاقة والإمكانية والقدرة على تحمُّل مسئولية إدارة وزنة واحدة، ثم هو أُعطي بالفعل وزنة تساوي طاقته وإمكانياته تماماً. فهو محاصر بين دراية السيد بإمكانياته وطاقته وبين عطية الوزنة التي تساوي طاقته وإمكانياته. هذا فيما يخصّه تماماً، فكونه يخرج بعذر جديد ليس له علاقة بالمسئولية التي ألقاها السيد عليه، وهي مسئولية فيها تكريم ووعد جيد بالمجازاة. هذا شيء يذهلنا إذ بدل أن يدين نفسه ويطلب الرحمة والمعذرة، انطلق يبرِّر نفسه وسلوكه بأن يأتي باللوم على السيد أنه رجل قاسٍ. هذا أضاف إلى قضيته التي تنحصر في التهاون والكسل وعدم الأمانة والاستهانة بأوامر السيد عنصراً خطيراً في الحكم، إذ تعدَّى على شرف السيد كقاضٍ، وذمَّه علناً بأنه قاسٍ، وكأنها محاولة منه لرد القاضي عن أن يكون صالحاً للحكم والقضاء، وهذا يُحسب للعبد شناعة.ومهلاً عزيزي السامع، فلا تتحامل كثيراً على هذا العبد الشرير الكسلان فهو أنا وأنت!! لأن قضية العبد الذي خبَّأ وزنته في التراب، وعاد فاستذنب الله ليتبرَّر هو، هي قضية كل خاطئ يرفض الاعتراف بخطيته أو التوبة عمَّا يصنع، لأنه يقتنع أن الحياة بلا خطية مطلب إلهي غير عادل، فإن كان الله لم يزرع في الجسم الطهارة والتقوى فكيف يطالب أن يحصد ما لم يزرعه؟ وإنها قسوة من الله أن يطالبنا أن نرتفع فوق طبيعتنا التي صنعها لنا. بهذا نكون قد وضعنا أنفسنا موضع العبد الشرير الكسلان الذي لم يتاجر بموهبة النعمة من أجل الطهارة بل طمرها في الجسد (التراب) وعاد يبرِّر نفسه أمام الديَّان.«فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً».أمَّا كونه شريراً فلأنه عصى أمر سيده عصياناً مبيَّتاً، وهي نفس خطية آدم التي جلبت الخراب على بني جنسنا. فأمر الله يُطاع حتى الموت ولا عذر إطلاقاً لعصيان أمر الله. لأن ذلك معناه القطع من الحياة والحكم بالموت. أمَّا كونه كسلاناً ومتوانياً، فواضح لأنه لم يحاول ولو محاولة أن يعمل بالموهبة التي استأمنه عليها سيده، وقد أعطاها له بحكمة ودقة وعدل بما يساوي طاقته وإمكانياته. فسيِّده يعلم أن لا عذر له على الإطلاق. «فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».الذي لا يعمل لا يأكل، أما الذي تاجر وربح وأثبت جدارة فهذا عنده الإمكانية للمزيد، فهو الذي يأخذ الموهبة التي بقيت عاطلة وليس مَنْ يعمل بها. أمَّا الذي ثبت أن ليس عنده الرغبة والإرادة على العمل فالذي أخذه يؤخذ منه. هذا هو “عدل العمل” أو قانون المواهب: “الشجرة التي لا تصنع ثمراً جيِّداً تُقطع وتُلقى في النار. ”واضح لدينا الآن أن عين المسيح مسلَّطة على العمل والجهاد والنشاط والربح فيما يخص المواهب التي سكبها على التلاميذ والكنيسة. فغياب المسيح هو فترة العمل والجهاد العظمى لتكميل الخدمة والبلوغ بالفداء والخلاص إلى أقصى طاقة البشرية في الخدَّام الذين سيسكب المسيح عليهم مواهبه باستمرار، وبقدر طاقتهم وإمكانياتهم في الخدمة. والذي يُبدي نشاطاً أكثر سينال مواهب أكثر، والذي يتراخى ويهمل تُسحب منه المواهب. والمسيح يركِّز على أن فترة انتظار مجيء الرب هي فترة العمل بالمواهب. فالسهر ينبغي أن يكون سهراً عمَّالاً ومنتجاً. على أنه قد تبيَّن لنا أن المكافأة على أمانة الخدمة والعمل بالمواهب ستكون مزيداً من العمل والمواهب فوق، مع فرح لا يُنطق به. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
26 أبريل 2021

اثنين البصخة إن كنا نتألم معه فسوف نتمجد معه

نريد هذه السنة أن ندخل في المفهوم الروحي والعملي لأسبوع الآلام بالنسبة لحياتنا. طبعاً تعرفون أن أسبوع الآلام هو الاسم الشائع والسائد لهذا الأسبوع. ولكن الاسم المحبوب والطقسي هو أسبوع الفصح، أو أسبوع البصخة، حيث أنهما كلمة واحدة بنطق مختلف. وأصل التسمية هو حمل الفصح، الخروف الذي بدمه مُسح أعتاب بيوت شعب إسرائيل، فكان الملاك المُهلك يعبر عليهم ولا يمسهم سوء. وهذا بالطبع كان رمزاً قوياً للحمل الوديع، للمسيح المصلوب، الذي بدم نفسه مُست أعتاب شفاهنا وحياتنا وعبرنا من الموت إلى الحياة.هو في الحقيقة أسبوع فصح، ويتخذ اسمه من اليوم الأخير، الجمعة الكبيرة، حيث قمة آلامه، يوم ذبح الحمل على الصليب، ولكن لو جمعنا الكلمتين يمكن نسمي أسبوعنا هذا بـ: أسبوع الآلام الفصحية، حيث عبر الرب بنا وبالخطاة وبجسد الخطية، من الموت إلى الحياة والقيامة؛ من العقوبة والغضب الإلهي، إلى التبرير والخلاص الأبدي. اسمعه وهو مُنكسر القلب يتكلم عمَّا سيحدث له: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الأمم فيُهزأُ به ويُقتل». نحن نقولها الآن كأنه كلامٌ عاديٌ، إطلاقاً، ليس الأمر هكذا. المسيح كان يجلس مع تلاميذه في جلسة محبة ودية، وفجأة يتغير مجرى الكلام ويقول لهم هذه الأمور الصعبة، الأمر الذي أذهلهم واستنكروه ورفضوه وانزعجوا من أجله بشدة.نحن للأسف من كثرة ما قرأنا وتحدثنا عن هذا الأسبوع، وحوَّلناه إلى مناسبة طقسية، أُصبنا بداء الاعتياد ولم يعد يؤثر فينا. نريد هذه السنة أن نجوز هذا الأسبوع بحق مع الرب، ليس كاعتياد وطقوس وألحان، ولكن أن نسير على إثر خطواته، نجوزه بعهد أن نتألم كما هو تألم، نتألم معه بحب.في الحقيقة يا أحبائي، من المستحيل أن يجوز أحد آلام المسيح إلا بالحب، وينبض نبضة الحب الإلهي.هناك نوعان من الآلام: آلام طبيعية وآلام جبرية. الآلام الطبيعية مثل أصوامنا أو خدماتنا وعملنا الجسدي، كل هذه لا قيمة لها، ما لم تسندها النعمة، وما لم نعتبرها شركة في آلام المسيح. أما الآلام الجبرية فهي آلام ندخلها بغير هوانا، أو بمعنى أدق تُفرض علينا فرضاً، وهي من المستحيل أن نغلبها ما لو تسندنا نعمته ونعتبرها شركة في آلامه. علينا أن نجوز هذا الأسبوع على أساس القيامة الفعلية، فإذا كان الرب قد تألم؛ فهو أيضاً قام، هذا يعطينا قوة سرية روحية لا نهائية. أقول هذا بالأخص للذين هم يشتكون من آلام جسدية ومن ضعف النفس ومن محاربات الشيطان. أما أنا أقول لهؤلاء: اصبروا، تقووا، الرب معكم، لا تخافوا، الرب معين، الرب ناصر لن يتخلى أبداً. فإذا كنا قد عرفنا أن الرب بعد كل ألاماته المُرة، وبعد الأحزان الشديدة التي ذاقها، وبعد انكسار قلبه ونفسه، وغُصة الموت التي جازها..ففي ضوء القيامة ستكون كل آلامنا أيضاً لذيذة، وليست صعبة أو مصيبة أو مُفاجئة.لذلك تعالوا اليوم نمشي على إثر خطواته، فخطوات المسيح هي هي خطواتك، والذي احتمله هو كله عنك، فإن لم تشترك معه في هذا الاحتمال عينه؛ فلن تأخذ أجره أو ثمرته والتي هي قيامته.هل من الممكن أن هذه السنة نعمل عهداً جديداً مع بعضنا البعض، نأخذ هذا الأسبوع كعهد شركة حقيقية مع الرب؟ فإن كان هو قد تألم من أجلي؛ كيف لا أجوز أنا أيضاً بنفس هذه المشاعر؟ وأنا أعلم تماماً وبيقين وثقة روحية أن الرب صادق والروح أمين، وإنه كما أن الآلام التي جازاها المسيح حوَّلها إلى نُصرة؛ هكذا ستتحول لي أنا أيضاً إلى قيامة وغلبة؛ إن أنا جُزتها صدقاً وإخلاصاً وأمانة. الروح ينتظر مقدار أمانتا للمسيح. ولكن علينا أن نقول: إن الأمر ليس مجرد آلام مُجردة، فإن لم يتحرك القلب بالحب؛ فلن تكون آلاماً فصحية، ستكون مجرد آلام، وهنا، ما أكثر ما قضينا من أسابيع آلام، ولكنها كانت كلها آلاماً بلا ثمر ولا قيمة لها!! ولكن الذي نريده هذه السنة أن تكون آلامنا فصحية، تتحرك فينا وتنتهي بالعبور. نريد أن نفصح (=نعبر) في كل ساعة وفي كل يوم إلى أن نبلغ غاية فصحنا. لا نريدها آلاماً عقيمة، ولكن نريدها آلاماً تحملنا وتحمل هذا الجسد الخاطئ الميت، من حياة إلى حياة أو بالحري من موت إلى حياة، من إيمان ضعيف إلى إيمان قوي، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح.أتمنى أن يكون لنا في هذه السنة ثمار تُفرِّح الرب وتُفرِّح السماء بنا.هناك كثيرون من أولاده الذين جازوا معه آلام، وعبروا ودخلوا معه في نُصرة أبدية، وعاشوا في ملء حرية أولاد الله وفي ملء قوة النعمة والنصرة على الجسد والعالم، وفي ملء القوة ضد الخطية.يا أحبائي، علامة سُكنى الروح القدس أن تكون هناك فينا قوة ضد الخطية. كل العلامات الأخرى تخطئ، ولكن أن ينتصر الإنسان على الخطية؛ فهذا يسكنه الروح بالتأكيد.لا أريد أن أقترح عليكم اقتراحات كيف تقضون وتسلكون وتصومون وتسهرون خلال هذا الأسبوع، دعوا الروح يُحرككم ويتكلم داخلكم. فقط قدِّموا باقات حب وكلمات عهد ووعد لحياة ليست للعالم، ولا يكون للجسد فيها نصيب، حياة مربوطة بقلب المسيح وتتحرك بحركته، حياة مُنقادة بالروح القدس، كما يُقاد الطفل الصغير في يد أبيه وهو لا يعلم إلى أين يمضي.حياة فيها حب إلهي، ولكن نجوز مع الرب آلامه بحزن حقيقي من أجل الخطايا التي بسببها تألم ومات.ولكن اعلم، إنه ليس فضلاً مني أو منك إنك تتألم خلال هذا الأسبوع، أو أن نفسك تذبل فيك، إنه هو ذبلت نفسه من أجلك قبلاً، سُفك دمه نقطة نقطة حتى أَسلم الروح بسبب خطيتك. فهذه ليست مكرمة منك، ولكنها ضريبة، ضريبة أسبوع الآلام.تعال إلى الرب وقُل له[ أنا عليَّ ضريبة لابد أن أدفعها لك هذه السنة، سأقدمها إليك مُجبراً، ولكن بملء حبي، وبملء فرحتي.أسبوع الآلام هذا كله بسببي أنا وليس بسبب الآخرين، فاعطنى أن أجوزه معك.أعطنى حزناً ليس أقل من حزنك، هبني انكساراً في قلبي كوجعك وانكسار قلبك، امنحني أنيناً كأنينك أعبر معك به هذا الأسبوع وكل المصادمات خطة بخطوة. شهِّر بي، يا رب، افضحني، اكشف خطايا علناً؛ لئلا أُفتضح بعد هذا في السماء.أعطني اتساع قلب واتساع فكر واتساع رؤية حتى أرى ماضيَّ كله فيك، وحتى عندما أتألم لا أكون أكذب على نفسي أو أكذب عليك ولا أكون أتصور أو افتعل.أعطنى يا رب إحساسك بخطايا الناس وكيف هي مررتك.اجعلني أذوق ألمك وبكائك وأنت تبكي على شعبك وأولادك الذين لم يعرفوا زمان افتقادهم.أعطني دموعاً أذرفها معك، لا تجعلني أعيش محصوراً في خطيتي فقط وبعيداً عن صليبك الكبير. لا تحرمني من لمسة صغيرة أرى فيها آلام العالم التي أنت ذقتها].أنا أقول لك: إن الآلام التي تجوزها لو كنت صادقاً، سوف تتحول إلى لذة وفرحة وتوبة بلا ندامة. إنك تستطيع بسهولة أن تفرق آلام المسيح عن هذه التي بحسب العالم. حزن العالم وآلامه يُنشئ توتراً وعدم راحة. هذا الحزن مرفوض. نحن عندما ندخل آلاماً حقيقية مع الرب وفيها نحزن حزن الموت إلا أننا في نهايتها تُبصر عيون قلوبنا القيامة عياناً بياناً، وتهتز قلوبنا فرحاً، وترنم ونقول: آلامك، يا ربي، أنشأت فيَّ فرحاً، آلامك أنشأت في داخلي بهجة قيامة ونوراً، لا أستطيع أن أعبر به. تصرخ وتقول: ما هذا المجد يا ربي، أإلى هذه الدرجة تكون آلامك مُفرحة ومُعزية؟ إذن لماذا نحن محرومين منها؟! ذلك لأننا ارتضينا بالمظاهر، أتقنا الطقس، راجعنا الألحان، ظبَّطنا الهزات، وتكون النتيجة أننا ندخل ونخرج ونحن غرباء عن آلامك.لا نريد هذا، نريد في هذا الأسبوع في كل لحظة، أن يتحرك قلبنا، كما تتحرك أوتار قيثارة بكل آلام الرب معاً، فيخرج من أعماقنا نشيد أعظم آلاف المرات من كل الألحان.من يدخل إلى هذا الأسبوع مدخلاً حقيقياً سوف يحمل البشرية كلها في قلبه، سوف يحمل سقطات الساقطين، سوف يحمل خطية الخطاة في قلبه الصغير هذا، سوف يتسع ويتعجب كيف أن الرب استأمنه على هذه الأسرار والكرامة العليا.هذا هو أسبوع الآلام، ما أمجدها آلاماً وما أعظمه فصحاً.أتمنى لكم جميعاً أن يكون هذا الأسبوع أسبوعاً خالداً في حياتكم لتعيشوا في حقيقة الإنجيل لا تفارقوه ولا يفارقكم لحظة، وتذوقوا في قلوبكم وأرواحكم عمل الروح القدس في القلب، وكيف يعبر الإنسان من مصر إلى كنعان، يعبر ويتجدد من جسد عتيق لإنسان جديد مُنقاد بالروح القدس ليس له مشيئة بعد، وقد نسى زمان الخطية وأوهامها الكاذبة وتصادق مع القادر المقتدر الذي قام باقتدار وانفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات.ولإلهنا المجد دائماً أبدياً أمين المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
25 أبريل 2021

أحد الشعانين الأحد السابع من الصوم الكبير دخول السيد المسيح إلى أورشليم هو طريق للقيامة

كان الهدف من تجسد السيد المسيح وفدائه هو أن تكون لنا حياة أبدية وهذا ما تم بقيامة السيد المسيح من الأموات لنقوم نحن فيه.والطريق لذلك يتم عبر موت الإنسان العتيق الذي فينا وقيامة إنسان جديد في المسيح وهذا يبدأ بالمعمودية، ونكمل بحياة التوبة التي هي قيامة أولى. وهذه لو تمت تكون لنا قيامة ثانية في مجيء السيد المسيح الثاني.ولنرى الخط العام للأناجيل الأربعة وكيف شرحت هذا، ولنعلم أن الإنجيليين ليسوا مؤرخين لكنهم يقدمون بشارة الخلاص، والطريق للخلاص، كلٌ بطريقته. ونرى أن الطريق للقيامة كان الصلب "مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ " (غل20:2) ونرى أن المسيح أتى ليطهرنا (تطهير الهيكل = تطهير القلب).والطريق لسكنى حياة المسيح فيّ هو التشبه بالمسيح في تواضعه. فالله يسكن عند المنسحق والمتواضع القلب (إش15:57). وهذا معنى نزول زكا عن الشجرة ليدخل المسيح بيته. والتواضع عكس طلب أم إبنى زبدي. وطلب أم زبدي سبق تفتيح أعين العميان. ومن انفتحت عيناه لن يطلب عظمة أرضية، بل يقبل مُلك المسيح على قلبه بفرح. دخول المسيح أورشليم كملك هو دخول المسيح كملك لقلبي ليملك عليه، وهذا معنى "من يحبني يحفظ وصاياي" (يو21:14، 23) ملحوظة: أناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر الجحش الذي دخل المسيح أورشليم راكبًا إياه، بينما إنجيل متى يذكر أتان وجحش. وأناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر فتح أعين أعمى، ولكن متى يذكر فتح أعين أعميين. والسبب أن مرقس ولوقا ويوحنا يكتبون للأمم (رمزهم جحش لم يركبه أحد من قبل. والأمم لم يملك الله عليهم من قبل). ولكن متى يكتب لليهود (الذين رمزهم الحمار وهذا قد ركبه الناس رمزًا لملك الله عليهم منذ زمن) والمسيح أتى للكل يهود وأمم، وكلاهما كان أعمى فتح المسيح بصرهم. قراءات الكنيسة لها نفس منهج الإنجيل (قطمارس الصوم الكبير) 1- أحد الرفاع: الصوم والصلاة والصدقة: هذا طريق السماء (فالقيامة هي هدف هذا الأسبوع: فالصوم صلب عن العالم، والصلاة هي صلة مع الله والصدقة هي فعل الخير للمحتاج، فالمحتاج هو أخ للرب، وبها نتقابل مع الرب فنحيا في السماء. 2- الأحد الأول: الكنز: من يفعل ما سبق لن يخسر بل يصنع له كنزًا في السماء. 3- الأحد الثاني: التجربة: لابد وأن نتعرض للتجارب، ولكنها طريق للامتلاء من الروح والنمو (لو14:4) 4- الأحد الثالث: الابن الضال: هو دعوة لكل إنسان مهما كانت حالته ليأتي بالتوبة والله مستعد لقبوله. 5- الأحد الرابع: السامرية: المسيح أتى ببشارة الخلاص لكل العالم، لليهود والسامريين والأمم. ومن يقبل يجد الماء الحي والشفاء. 6- الأحد الخامس: المخلع: يسأله الرب هل تريد أن تبرأ؟ فالتوبة هي عمل مشترك بين الله وبيني، الله يدعو وأنا حر،إن كنت أستجيب أو لا أستجيب "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" (إر18:31). ونلاحظ في قراءات الأسبوع أنها تشير لما يحصل عليه التائب من شبع فالمسيح خبز الحياة، وأن يحيا في النور، وهذا لن يحصل على كل هذا، بل يحيا في جوع وفي ظلمة، ولاحظ قول السيد المسيح للفريسيين في قراءات يوم السبت من هذا الأسبوع "كم مرة أردت ولكنكم لم تريدوا ها بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت37:23) ومازال المسيح يسأل أنا أريد فهل تريد أن تبرأ. 7- الأحد السادس: المولود أعمى: المسيح يفتح عينيه بغسله في الماء إشارة للمعمودية التي تعطي استنارة، فيعرف المسيح ويؤمن به، وهذا هو "أحد التناصير" ولاحظ أن الأسابيع الماضية كان موضوعها هو التوبة، فمن يقدم توبة تنفتح عيناه ويعرف المسيح. ويقبله ملكًا على قلبه. 8- الأحد السابع: أحد الشعانين: المسيح يدخل لقلبي كملك يملك عليه، وأطيعه في محبة فيطهر قلبي كما طهر الهيكل. ومن لا يقبل يُدان (شجرة التين). أحد القيامة: من قبل المسيح ملكًا وتطهر قلبه وصارت له قيامة أولى، ستكون له قيامة ثانية بجسد ممجد. المركبة الكاروبيمية الجالس فوق الشاروبيم اليوم ظهر في أورشليم راكبا على جحش بمجد عظيم وحوله طقوس ني أنجيلوسلنرى مصادر هذا اللحن الشعانيني: 1. ركب على كروب وطار (مز18: 10). 2.هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على.. جحش.. (زك9: 9). ركب على كروب = الجالس فوق الشاروبيم = المسيح يجد راحته فيهم لأنهم يعرفونه.وهذا معنى أنهم مملوئين أعينًا.. (حز 10: 12) + (رؤ 4: 6). ولذلك يسبحونه قائلين "قدوس قدوس قدوس" (رؤ4: 8).وطار = نرى في الإصحاح الأول من نبوة حزقيال منظر المركبة الكاروبيمية التي يركبها الله ويطير بها للسماء، وقطعًا فالله لا يحتاج لمركبة من الملائكة لتحمله إلى السماء، فهو ساكن في الأعالي بل لا يحده مكان، ولكن هذا التصوير يشير إلى أن من يرتاح الله فيه، فالله هو الذي يحمله إلى أعلى السموات.واليوم عيد دخول المسيح إلى أورشليم، وأورشليم تشير لقلبي أنا، فكيف يدخل المسيح إلى قلوبنا؟ أن يرتاح المسيح فينا كما يرتاح في الشاروبيم = بأن نعرفه.. كيف؟ هذا عن طريق الأربعة الأناجيل ولذلك فرموزها هي وجوه الكاروبيم (رؤ4: 7). الإنسان= متى أكثر من تكلم عن المسيح ابن الإنسان. الأسد = مرقس قدم المسيح كملك قوى. الثور = لوقا قدم المسيح ذبيحة ليقبل الله الجميع. النسر = يوحنا قدم المسيح ابن الله السماوي. لكن بدون عمل المسيح فلا قبول لنا.. ومرة ثانية نتقابل مع وجوه الكاروبيم. الإنسان = التجسد الثور= ذبيحة الصليب الأسد = القيامة النسر= الصعود. دخول المسيح أورشليم في موكب عظيم مت1:21-11 + مر1:11-11 + لو29:19-48 + يو12:12-19هذا اليوم كان في خطة الله هو يوم إعلان ملكه ونوع ملكه. فدخل المسيح أورشليم في موكب ملك كمنتصر غالب في الحرب، لكن بتواضع ومحبة وما حدث من استقبال الناس له لم يكن بترتيب بشري إنما هو بترتيب إلهي. وكملك دخل بيت أبيه أي الهيكل ليطهره.أما بيت عنيا وبيت فاجي فهما من ضواحي أورشليم وهما تحسبان أنهما من أورشليم. فهناك طريق واحد منهما إلى أورشليم. وبيت عنيا توجد على السفح الشرقي، شمال جبل الزيتون، وبيت فاجي على السفح الشرقي، جنوب جبل الزيتون،أمّا السفح الغربي لجبل الزيتون فيقع عليه بستان جثسيماني.ونلاحظ أن قمة جبل الزيتون تحجب رؤيا أورشليم عمن هو في بيت عنيا. وقد أتى المسيح إلى بيت عنيا لوليمة سمعان الأبرص عشية يوم الأحد.ودخل المسيح فصحنا إلى أورشليم عشية يوم 10نيسان، وهو اليوم الذي يحفظ فيه خروف الفصح حتى يقدم يوم 14 نيسان. فالمسيح دخل أورشليم في نفس اليوم الذي يختارون فيه خروف الفصح. كانت أورشليم تكتظ بالحجاج (أع8:2-11) ويقدرهم يوسيفوس بحوالي 2,700,000 حاج.ونلاحظ أن الأناجيل الأربعة اهتمت بهذا الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح فمثلًا إنجيل متى اشتمل على الإصحاحات 21-28 ليروي فيها ما حدث في هذا الأسبوع، أسبوع آلام السيد والذي قدّم فيه السيد نفسه ليكون فصحنا ويعبر بنا من الظلمة إلى ملكوته الأبدي. الآيات (مت1:21-3):- "1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلًا لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا»." جاءوا إلى بيت فاجي= ومرقس يقول بيت فاجي وبيت عنيا.. فحدود بيت عنيا وبيت فاجي مشتركة ولهم طريق واحد مشترك إلى أورشليم. بيت عنيا تعني بيت الألم والعناء. أمّا بيت فاجي فتعني بيت التين (ربما لكثرة أشجار التين فيها). ولكن التينة تشير للكنيسة التي يجتمع أفرادها في محبة، وهي في العالم في عناء (الحدود مشتركة) لكن المسيح في وسطها. يفرح بالحب الذي فيها ويشترك في ألامها ويرفعها عنها ويعزيها وهي على الأرض. أتانًا مربوطة وجحشًا معها= أمّا باقي الإنجيليين (مرقس ولوقا ويوحنا) فقد ذكروا الجحش فقط وقالوا لم يجلس عليه أحد قط. وقال معظم الآباء أن الأتان المربوطة تشير لليهود الذين كانوا مؤدبين بالناموس مرتبطين به، خضعوا لله منذ زمان. لكنهم في تمردهم وعصيانهم مثل الحمار الذي انحط في سلوكه ومعرفته الروحية، يحمل أحمالًا ثقيلة من نتائج خطاياه الثقيلة، والحمار حيوان دنس بحسب الشريعة. وهو من أكثر حيوانات الحمل غباءً، هكذا كان البشر قبل المسيح. أمّا الجحش فيمثل الأمم الشعب الجديد الذي لم يكن قد استخدم للركوب من قبل، ولم يروَّض لا بالناموس ولا عَرِف الله، عاشوا متمردين أغبياء في وثنيتهم، لم يستخدمه الله قبل ذلك ولذلك فهم بلا مران سابق وبلا خبرات روحية. (مز12:49). أتان= أنثى الحمار. جحش= حمار صغير.ومتى وحده لأنه كتب لليهود أشار للأتان والجحش، أمّا باقي الإنجيليين فلأنهم كتبوا للأمم أشاروا فقط للجحش. ربما ركب المسيح على الأتان فترة من الوقت، وعلى الجحش فترة أخرى ليريح الجحش. لكن الإنجيليين الثلاثة يشيروا لبدء دخول الإيمان للأمم.ونلاحظ أن المسيح لم يدخل أورشليم ولا مرّة، ولا أي مدينة أخرى في موكب مهيب بهذه الصورة سوى هذه المرة لإعلان سروره بالصليب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهو قبل هذا الموكب فهو حسبه موكبه كملك يملك بالصليب. ويوحنا وحده الذي أشار لهتاف الجماهير بقولهم ملك إسرائيل. ونلاحظ أن المسيح لم يدخل كالقادة العسكريين على حصان فهو مملكته ليست من هذا العالم، ويرفض مظاهر العظمة العالمية والتفاخر العالمي. ويطلب فقط مكانًا في القلوب، يحمل عنها خطاياها التي تئن من ثقلها (كالحمار) فترد لهُ جميله بأن تسكنه في قلبه (مز22:73، 32) فيحولها لمركبة سماوية (مز10:18) إن قال لكما أحد شيئًا= غالبًا كان صاحب الحمار من تلاميذ المسيح الذين آمنوا به سرًا. الآيات (مت4:21-5):- "4فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: 5«قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ»." إبنة صهيون= أي سكان أورشليم (أش11:62+ زك9:9) والإقتباس تمامًا من السبعينية. يأتيك وديعًا= حتى لا يهابوه بل يحبوه لذلك دخل راكبًا أتان ولم يركب حصان في موكب مهيب كقائد عسكري. ولكنه الآن يركب حصان، فرس أبيض الذي هو أنا وأنت ليحارب إبليس ويغلب. ومن الذي يغلب إلاّ الذي دخل المسيح قلبه وملك عليه، فدخول المسيح أورشليم يشير لدخوله قلوبنا. الآيات (مت6:21-8):- "6فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، 7وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. 8وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. " فرش الثياب هي عادة شرقية دليل احترام الملوك عند دخولهم للمدن علامة الخضوع وتسليم القلب. ونحن فلنطرح أغلى ما لدينا تحت قدميه. فما حدث يعني أنهم يقبلونه ملكًا عليهم، أو يملكونه عليهم. واستخدامهم لأغصان الأشجار (غالبًا شجر الزيتون) مع سعف النخيل يشير للنصرة (نصرة على الخطية) مع السلام. فالنخل يشير بسعفه للنصرة والغلبة (رؤ9:7). والأغصان تشير للسلام (حمامة نوح عادت بغصن زيتون) وهذا ما كان اليهود يفعلونه وهم يحتفلون بعيد المظال، عيد الأفراح الحقيقية وهذا يدل على فرح الشعب بالمسيح الذي يدخل أورشليم. وكل من يملك المسيح على قلبه يغلب ويفرح. وفرش الأرض بالخضرة هو رمز للخير الذي يتوقعونه حين يملك المسيح. آية (مت9:21):- "9وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ:«أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». " استعمل البشيرون عبارات مختلفة ولكن هذا يعني أن البعض كان يقول هذا والبعض الآخر كان يقول تلك. وكل إنجيلي انتقى مما قيل ما يتناسب مع إنجيله. أمّا تسابيحهم فتركزت في كلمة أوصنا نطق أرامي معناه خلصنا فهي مأخوذة من هوشعنا بمعنى الخلاص أي يا رب خلص (هو من يهوه)، فالفرح كان بالمسيح المخلص وغالبًا هم فهموا الخلاص أن المسيح سيملك عليهم أرضيًا ويخلصهم من الرومان. وهذه التسبحة (أوصنا..) مأخوذة من مزمور (118).الجموع الذين تقدموا والذين تبعوا= طبعًا هذه تشير لأن بعض الجموع تقدموا الموكب وبعض الجموع ساروا وراء الموكب. ولكنها تشير لمن آمن بالله وعاشوا قبل مجيء المسيح من القديسين، ولمن آمن بالمسيح بعد مجيئه. فالكل استفاد بالخلاص الذي قدّمه المسيح. الكل في موكب النصرة. لذلك فالمسيح نزل إلى الجحيم من قبل الصليب ليفتحه ويخرج القديسين الذين كانوا فيه ويأخذهم إلى الفردوس. فالمسيح هو مخلص كل العالم. أوصنا لابن داود= إشارة لناسوت المسيح وتجسده. أوصنا في الأعالي= فهو الذي أتى من السماء وسيذهب للسماء.. (يو13:3). ولاحظ أن متى الذي يتكلم عن المسيح ابن داود يشير لهذا بقوله أوصنا لابن داود فهو تجسد ليرفعنا فيه للأعالي= أوصنا في الأعالي. الآيات (مت10:21-11):- "10وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً:«مَنْ هذَا؟» 11فَقَالَتِ الْجُمُوعُ:«هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»."سكان المدينة لم يعرفوه. ولكن من سمع عنه وعمل معه معجزات قد عرفوه. وهؤلاء كان أغلبيتهم من الجليليين الذين هم في وسط الجموع. وكل من دخل المسيح قلبه يرتج قلبه فيطرد من داخله كل خطايا تمنعه من الفرح بالمسيح المخلص ويبدأ في التعرف عليه. لقد خطط المسيح دخوله أورشليم في هذا الموكب المهيب ليعلن أنه ملك ولكن على القلوب وكجزء من تدبير صلبه يوم الفصح (الجمعة). فهو بهذا أثار اليهود ضده فهو دخل كملك ظافر، المسيا الآتي لخلاص شعبه (فهو ملك بصليبه). أما إنجيل معلمنا يوحنا فقد سرد دخول مخلصنا بمشهد أخر. الآيات (يو12:12-13):- "12وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!». " وفي الغد= أي يوم الأحد. إذًا الوليمة كانت يوم السبت. الذين حضروا حفل العشاء أذاعوا النبأ السار أن يسوع الذي يريدونه كملك سيأتي إلى أورشليم. والجمع الذي احتشد كان أغلبهم من الجليليين ومن الذين سمعوا بمعجزة إقامة لعازر فتحمسوا للقائه. وأمام هذا الاستقبال الحافل تأكدت مخاوف الفريسيين ورؤساء الكهنة ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين. وسعف النخيل هو رمز للنصرة والبهجة (لا40:23+ رؤ9:7). وهم رأوا أن يسوع هو المسيح المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء وأنه سيأتي من نسل داود ليعيد لهم الملك (صف15:3-17+ لو32:1-33) فهم كانوا يحلمون باستعادة كرسي داود بل وأن يحكموا العالم كله. ونرى من (1مك51:13+ 2مك4:14) أنهم كانوا يستقبلون الملوك بسعف النخيل. ووجدت عملات مسكوكة من أيام سمعان المكابي عليها سعف النخيل. والنخيل شجرة محبوبة لأنها ترتفع شامخة نحو السماء فارشة أغصانها مثل التاج كأذرع تتوسل دائمًا. خضراء على الدوام تزهر وتثمر لمئات السنين (مز12:92-13+ نش6:7-8) وفيه نرى النفس المحبوبة للمسيح تشبه بنخلة. ويوحنا اختار قول الناس أوصنا مبارك الآتي باسم الرب= فالمسيح أتى بقوة إلهية لخلاص الإنسان وتجديده، هو ابن الله الذي أتى ليخلقنا خلقة جديدة. الآيات (يو12:14-15):- "14وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15«لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ»." لا تخافي= فدخول المسيح لأورشليم كان للسلام ولم يأتي ليحارب الرومان وتسيل الدماء في أورشليم لكن ليملأ القلوب سلامًا. بل ليصنع سلامًا بين السماء والأرض. وكان دخوله وديعًا هادئًا وليس كالملوك الأرضيين يصنعون حربًا ويطلبون جزية. والجحش يستعمله الفقراء وفي هذا درس لليهود.المتكبرين الذين يحلمون بملك أرضي. وفي تواضع المسيح هذا إشارة لأن أحلام اليهود في مملكة عالمية هي أوهام خاطئة. ودرس لكل من يحلم بمجد أرضي أنه يجري وراء باطل. آية (يو12:16):- "16وَهذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تَلاَمِيذُهُ أَوَّلًا، وَلكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ، حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هذِهِ لَهُ. "لم يفهمها تلاميذه أولًا= كثيرًا ما لا نفهم أعمال المسيح أولًا ولكننا من المؤكد سنفهم فيما بعد. وأنهم صنعوا هذه له= أي أنهم اشتركوا في تكريم المسيح كملك، واشتركوا في تنفيذ النبوات، فهذه عائدة على النبوات. لم يكن التلاميذ فاهمين ولا الشعب ولا الفريسيين وكم من أمور تجري في حياتنا ونحن لا نفهمها. علينا أن لا نطالب بالفهم فسيأتي يوم ونفهم. لكن علينا بالإيمان. آية (يو12:19):- "19فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». "هذه نبوة من فم الأعداء بإيمان العالم وذهابه وراؤه، ونرى غيظهم من ضياع سلطانهم. لا تنفعون شيئًا= هذه مثل "راحت عليكم". فالناس تركتهم وهذا هو ما أغاظهم.فلندخل مع المسيح ملكنا في موكب نصرته، ونتألم معه لكي نتمجد معه أيضًا.ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
24 أبريل 2021

إنجيل عشية الأحد السابع من الصوم الكبير(يو 12 : 1 – 8)

ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا، حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرثا تخدم، وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع. ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه، وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي، المزمع أن يسلمه. "لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعط للفقراء؟" قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه. فقال يسوع: "اتركوا! إنها ليوم تكفيني قد حفظته، لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين". أحد الشعانين : سكب الطيب يأتي هذا الفصل في عشية اليوم أقام الرب فيه لعازر من الموت بعد موته بأربعة أيام، وقد تحول الحزن إلى فرح والموت إلى قيامة، فكيف لا يُقدم شكر للرب على صنيعه. فأخذت مريم أخت لعازر رطل ناردين خالص كثير الثمن وسكبته على المسيح فامتلأ البيت من رائحة الطيب. كان الرب متكئًا في بيت أحبائه وكان لعازر الذي أقامه متكئًا مع الرب أو على صدر الرب. وكأن الرب كان كمثل داود الذي انتزع الغنمة من فم الأسد والدب. فقد انتهى الموت من الإجهاز على لعازر وقد شبع جسمه تحللاً وعفنًا. وهوت نفسه إلى سجن الأرواح في قبضة حفظه سجن الجحيم. ولكن "صوت الرب يزلزل القفار و يطف ئ لهيب النار، صوت الرب بقوة صوت الرب بعظيم الجلال". نادى لعازر فأطاع وخرج الميت ملفوف اليدين والرجلين ووجهه ملفوف بمنديل. قيل إن الرب صرخ بصوت عظيم ونادى لعازر باسمه ومعلوم أن الرب "وديع ومتواضع القلب... لا يصيح ولا يخاصم ولا يسمع أحد في الشوارع صوته". ولكنه صرخ في مواجهة الموت العدو الأخير. وكما انتهر الحمى، وانتهر الريح والبحر فكانت تطيعه، وحتى الشياطين حين سمعت صوته ارتعدت وصرخت قائلة: "ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا"!!. هكذا صرخ المسيح قدام قبر لعازر، وصرخ مرة أخرى حين أسلم الروح على الصليب، صرخ بصوت عظيم وأمال الرأس وأسلم الروح. فهو في لحظات الموت صرخ بصوت عظيم!! يا للجلال."قدوس الحي الذي لا يموت". من أين الصوت العظيم والصراخ لأحد يسلم الروح!! ولكنه الإله الحي الذي لا يموت. فإن كنا نرى الرب ينادي لعازر من كوره الموت فهذا استلزم هذا الصوت العظيم الذي حطم قوة الجحيم. صوت الرب هو كلمة الحياة الفعالة التي هي أمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والجسد والروح معًا. متى قبلها إنسان بكل القبول فإنها قادرة أن تقيمه ليس من موت الجسد بل ومن موت الخطايا وعفن قبور الشهوات. "هاأنذا أخرجكم من قبوركم يا شعبي" إن كان أحد يسمع كلمة المسيح فإنه يحيا. "تأتي ساعة حين يسمع فيها كل من في القبور صوته والذين يسمعون يحيون". ليس لعازر فقط هو الذي أقامه المسيح من الأموات ولكن نحن إذ كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا... أحيانا مع المسيح أقامنا معه... وأقامنا فهو قيامتنا. "في آدم يموت الجميع... وفي المسيح سيحيا الجميع". كما لبسنا صورة الترابي (المائت)... سنلبس صورة السماوي (الحي). • لذلك كانت مناسبة الوليمة في بيت لعازر، كالوليمة التي عملها الأب للابن الراجع "ينبغي لنا أن نفرح لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش". هي فرح المسيح و السمائيين بخاطئ واحد يتوب... لأن الخاطئ في عرف الروح ميت... لذلك يكون فرح في الكنيسة وفي السماء بخاطئ واحد يتوب وحين يتكئ المقام من الأموات في حضن المسيح "الحياة" يكون الأمر نصرة للحياة على الموت ويتمجد المسيح الذي يصنع هذا المعروف مع الموتى. • جاءت مريم أخت لعازر، تلميذة قدمي يسوع ومحبَّة للكلمة هادئة وديعة، اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها. وهي أقدر من يعرف كيف يشكر واهب الحياة وقاهر الموت. نحن لا نملك أن نرد جميل الرب وصنيعه معنا "ماذا أرد للرب من أجل كثرة حسناته". لا نملك سوى الشكر وقد اضطلعت مريم العابدة بهذا الأمر، فقدمت شكرها مع طيبها، وكسرت القارورة من غير تحفظ ولم تبال بشيء ولو انتقدها الآخرون. فقد كانت عيناها مركزة على الرب وليس سواه. • امتلأت الكنيسة (البيت) من رائحة الطيب، فرائحة الطيب تنتشر بدون كلام... بتلقائية سريعة هادئة. كان الكلام في الصباح "قد انتن"... أما الآن فرائحة الطيب. مع المسيح تتبدل السلبيات إلى إيجابيات، الحزن إلى فرح والموت إلى حياة، ورائحة الموت إلى رائحة المسيح الحياة. • قد يظن البعض أن في هذا إتلاف، ويقول العقلاء وهم دائمًا ينظرون وينتقدون... "لماذا هذا الإتلاف" ولكن هيهات لطيب يسكب على جسد المسيح ويُقال عنه أنه إتلاف. • إن هذا الطيب أخذ قيمته ورائحته كونه سُكب على جسد الحبيب. وحين قال الرب إن الفقراء معكم كل حين، فقد أفرد هذا العمل الذي عملته المرأة وخصه بكونه مقدم له شخصيًا. • توجد أعمال تسكب سكيبًا على قدمي المسيح وهي ما تقدمه النفس للحبيب شخصيًا خلوًا من الناس... أعمال العبادة الخاصة والشبع من السجود و الأصوام و الأسهار والدموع وكل أعمال النسك للذين صاروا أصحاب سر مع المسيح كعريس نفوسهم... وهي تختلف عن أعمال الخدمة وافتقاد المرضى والمتضايقين ورد الضالين وكل أنواع الخدم، وإن تكن مقدمة للمسيح ولكن في أشخاص المخدومين. وهذا هو الفرق بين حياة العبادة والتأمل وبين حياة الخدمة والسعي وهو الفرق بين مريم و مرثا في كل جيل. • لماذا تزعجون المرأة؟ "عملاً حسنًا صنعت بي"، هذا هو جواب المسيح فاحص القلوب. لقد استحسن عملها، وقبل شكرها وسجودها ومدح حبها ومشاعر طيب قلبها. فإن كان العمل مقدمًا شخصيًا للرب فلا نبالي بكلام كائن من كان... يكفينا مدح المسيح لعملنا. وقد سجل الرب للمرأة تخليد عملها أنه تلازم مع الكرازة بالإنجيل في كل زمان وفي كل العالم. • ومن تدبير كنيستنا الحبيبة أنها تقرأ هذا الفصل من الإنجيل في تجنيز النساء الكبار... وكأن كل سيدة عاشت في المسيح في محبة وقداسة سيرة ربت الأولاد لحساب يسوع وغسل أرجل القديسين واهتمت بكل عمل صالح... فإنها تكون بطريقة ما قد عطرت الكنيسة بسيرتها العطرة في المسيح فاستحققت ذات النصيب والمدح من فم المسيح. فهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة في الكنيسة متعاهدة على تقوى الحياة والعبادة وثبات الإيمان والتعقل. • أما بالنسبة لأحد الشعانين فها هو ملك أورشليم الداخل إليها وديعًا متواضع القلب، منتصرًا لا على جيش ولا على أعداء– بل على العدو الأخير الذي هو الموت وها هو لعازر يقف كوسيلة إيضاح وشهادة حق "وكانوا يشهدون أنه دعا لعازر من القبر". فهو ملك خرج غالبًا ولكي يغلب... يغلب الموت ويعطي الحياة الأبدية في شخصه.ولم تكن مسحة الطيب سوى مذكّر للمسحة العلوية التي أخذها من الآب بالروح القدس لحسابنا. فهو مسيح الله ممسوح من الآب بمسحة أفضل من أصحابه أي أن مسحته تختلف جذريًا عن الذين اعتبروا مسحاءً سواء كانوا كهنة أو ملوكًا أو أنبياء. فهو قبل المسحة لا لكي يصير ويرتقي كباقي المسحاء الذين ارتقوا إلى مكانتهم بالمسحة. بل هو كما كُتب عنه أنه أحب البر "إذ هو الرب برنا"، "لذلك مسحك الله أفضل من أصحابك". فهو مسح لأنه في حال إخلائه لذاته وجد الآب مسرته فيه إذ عظم الشريعة وأكرم الناموس وأحب البر لذلك صار رأسًا للخليقة الجديدة الخاضعة للآب بعد أيام العصيان والعداوة... لذلك قبل المسحة لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه ونصير به شركاء الطبيعة الإلهية. • أما دخول المسيح إلى أورشليم وبكاؤه عليها إذ صارت هي وكهنتها ورؤساءها في حال العمى "أخفى عن عينيك" وفي حال عدم الإدراك الروحي كسكارى "لو كنت تعلمين ما هو سلامك" لذلك رفضت ملك السلام ورفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم فحرموا من النعمة وصارت مدينتهم خرابًا. • أما الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطان أولاد الله... فهم يتبعون هنا يسبحون قائلين أوصنا ويفرشون ثيابهم في الطريق ويمسكون سعف النخل وهذا بعينه سيترجم في السماء في ملكوت المسيح لتابعيه، وفي أيديهم سعف النصرة على الجسد والعالم والشيطان وعوض الأقمصة التي فرشوها في طريق مخلصهم فإنهم سيلبسون ثيابًا بيضاء وفي أفواههم تسبحة الخلاص عينها. مبارك ومقدس من له نصيب في المسيح هنا فإنه يصير شريكه في مجد ملكوته هناك. أوصنا لابن داود... أوصنا في الأعالي.مبارك الآتي باسم الرب. المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
23 أبريل 2021

جمعة ختام الصوم الجمعة السابعة من الصوم الكبير دينونة المخلص

ارتباط فصول القراءات: دينونة المخلص تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "دينونة المخلص" أي دينونته العادلة لجميع الشعوب يوم الدين على جهادهم في هذه الحياة، فالنبوة الأولى تتكلم عن حسن ختام جهاد المؤمنين كما انتهت نهاية سعيدة حياة يعقوب إسرائيل أولًا وابنه يوسف ثانيًا؛ والثانية عن ثوابه لهم كما يبين الحكيم في سفر الأمثال ثواب الأبرار وعقاب الأشرار؛ والثالثة عن دوام اسمهم وذريتهم كما قال الرب على لسان إشعياء إن المؤمنين به من جميع الأمم يدوم اسمهم وذريتهم، والرابعة عن بركته لآخرتهم كما بارك آخرة أيوب بعد انتهاء تجربته.ويتكلم إنجيل باكر عن اختيار المخلص للمستعدين عند مجيئه الثاني كما ذكر ذلك له المجد في حديثه لتلاميذه، وإنجيل القداس عن دينونته لرافضي الخلاص المقدم لهم كما تنبأ عن خراب أورشليم التي رفضت هذا الخلاص.وتحثهم رسالة البولس على ضرورة إتمام الخدمة الروحية كما أوصى بولس تلميذه تيموثاوس بذلك، والكاثوليكون على وجوب صبرهم على ضيقاتها حتى تؤتى ثمارها كما أوصى بذلك يعقوب الرسول، ويتحدث الإبركسيس عن ضرورة إفتقاد الأمم أيضا بهذه الخدمة كما أشار إلى ذلك بطرس الرسول في خطابه عن مسألة الختان. من النبوات تك 49: 33– 50: 1 يعقوب يبارك أولاده بنهاية حياة يعقوب على الأرض ينتهي عصر الآباء البطاركة العظام (إبراهيم وإسحق ويعقوب)، لينطلق إسرائيل لا كأفراد بل كشعب وخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله بالإيمان وتعد العالم لمجيء المسيا المخلص. لذا ختم هذا العصر بتقديم البركة لكل سبط تحمل في طياتها نبوة عن مجيء المخلص. (1) يعقوب يدعو أولاده " ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام " (ع 1).بعد حياة مليئة بالجهاد خلالها اغتصب يعقوب البركة والباكورية، واستحق رغم ضعفاته المتكررة أن ينال الوعد بمجيء المسيا المخلص من نسله، هذا الذي به تتبارك كل الأمم، قضى في مصر 17 عامًا في صمت وسكون.. والآن إذ هو عابر من هذه الأرض تطلع إلى أولاده كأسباط منهم يخرج شعب الله الذي يتمتع بأرض الموعد، ويأتي المسيا المخلص فانفتح لسانه ينطق بما يراه خلال روح النبوة أو خلال الظلال، كأنه بموسى الذي ارتفع على جبل نبو يتطلع من بعيد إلى أرض الموعد، فيفرح قلبه من أجل الشعب الذي ينعم بتحقيق الوعد الذي حرم هو منه.يمكننا في إيجاز القول بأن يعقوب رأى بروح النبوة في أولاده صورة حية للكنيسة المجاهدة في المسيح يسوع. (2) رأوبين: يبارك يعقوب بكره حسب الجسد وفي نفس الوقت يعاتبه: "رأوبين أنت بكرى قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز، فائرا كالماء لا تنفصل، لأنك صعدت على مضطجع أبيك، حينئذ دنسته. على فراشي صعد" (ع 3، 4).في الأيام الأخيرة يهاجم الناس مضطجع الآب، أي الكنيسة العروس، بقصد إفسادها، الأمر الذي يحدث هذه الأيام من خلال البدع والهرطقات. (3) شمعون ولاوي: "شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما، في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجمعهما لا تتحد كرامتي، لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا وفي رضاهما عرقبا ثورًا، ملعون غضبهما فإنه شديد، وسخطهما فإنه قاس " (ع 5 – 7).من شمعون جاء الكتبة، ومن لاوي الكهنة، وبإرادتهما تمم الكتبة والكهنة الشر بقتلهم المسيح بفكر واحد.. حقا إنهما أخوان، لكن في اتحادهما لم يكرما الله بل قتلا المخلص الذي جاء كإنسان وعرقباه وهو المتقدم كذبيحة (كثور) ليفديهما. (4) يهوذا: حقا إن يهوذا لم ينل نصيب إثنين كيوسف، لكن يهوذا نال نصيب الأسد في البركة إذ رأى يعقوب السيد المسيح الملك والكاهن يأتي من نسله، إذ يقول" يهوذا إياك يحمد إخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك " (ع 6).من هو يهوذا هذا الذي يحمده إخوته ويسبحونه إلا السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا، الذي وضع بالصليب يده على قفا إبليس عدوه فحطمه، محررا البشرية من سلطانه حتى يسجدوا له بالروح والحق يكمل يعقوب حديثه مع يهوذا: " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب " (ع 10). إنه امتياز يقدمه يعقوب لابنه الذي يحمل نسله قضيب الملك ومن نسله (بين رجليه) يكون الحكم الذي يشرع حتى يأتي المسيا واهب السلام (شيلون) فيضم الشعوب إلى مملكته الروحية." رابطا بالكرمة جحشه، وبالجفنة إبن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه " (ع 11)إن هذا اللباس من اليهود والأمم غسله السيد المسيح بدمه الطاهر [الأتان والجحش يشيران إلى الأمة اليهودية والأمم] " مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن " (ع 12).عيناه لامعتان كما بكلمة الحق إذ ترقبان ما يؤمن به، وأسنانه بيضاء كاللبن معبرا عن قوة كلماته المنيرة، لذا دعاها بيضاء وقارنها باللبن الذي يقوت الجسد والنفس. (5) زبولون: " زبولون عند ساحل البحر يسكن، وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون " (ع 13).سكن زبولون غرب نهر الأردن وغرب بحر الجليل، بذكره زبولون محددًا سكناه بحدود البحر إنما يوضح التحام إسرائيل بالأمم ليصير الشعبان قطيعًا واحدًا تحت يد الراعي الأعظم الواحد، الصالح بطبعه، المسيح. لذلك ففي مباركته يقول موسى: (6) يساكر: " يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر، فرأى المحل أنه حسن والأرض أنها نزهة، فأحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدا " (ع 14، 15).شبه يساكر بحمار جسيم أو ضخم وقوى، فقد اشتغل هذا السبط بالفلاحة وكان دأبهم الصبر، وكانت الأرض خصبة فاكتفى السبط بالزراعة ولم يمل إلى الانشغال بالسياسة إلا نادرًا وقد تعرض لدفع الجزية أو الضرائب. (7) دان: " دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل، يكون دان حية على الطريق، افعوانًا على السبيل، يلسع عقبى الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء، لخلاصك انتظرت الرب! " (ع 16 – 18).لما كانت النبوة تحمل مرارة لذلك بدأها بعتاب معلنا أن دان " كأحد أسباط إسرائيل " إذ حسب سبطا مع أنه أول ابن ليعقوب من جارية (تك 30: 1 – 6)، وقد عرفت ذريته بالدهاء والمكر، شبهه موسى بشبل أسد يثب من باشان (تث 33: 22).ذكر القديس إيرنياؤس أن ضد المسيح يخرج من سبط دان، وقبل كثير من الآباء هذا الفكر. وقد دلل القديس هيبوليتس على ذلك من قول إرميا النبي: "من دان سمعت حمحمة خيله، عند صوت صهيل جياده ارتجفت كل الأرض فأتوا وأكلوا الأرض وملأها المدينة والساكنين فيها، لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا ترقى فتلدغكم يقول الرب" (إر 8: 16). متطلعا أن ما وصفه إرميا هنا ينطبق على عصر الارتداد حين يخرج ضد المسيح من سبط دان بجيشه يحارب الكنيسة في كل الأرض ويلدغ المؤمنين بسموم تجاديفه. (8) جاد: " جاد يزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخرة " (ع 19)كان نصيب سبط جاد شرق الأردن كطلبه وقد اشترط موسى النبي على بنى جاد وبنى رأوبين أن يعبروا مع إخوتهم ويحاربوا وعند التقسيم يأخذون شرقي الأردن (عدد 32). اختيارهم لشرقي الأردن جعلهم معرضين للقتال، فكانت أرضهم ساحة قتال بين آرام، وإسرائيل (2 مل 10: 33). كما تعرضوا لغزو العمونيين والأموريين لكن بنى جاد كانوا يلحقون بهم ويقاتلونهم ويستردون غنائمهم. وكان جبابرة سبط جاد مرافقين لداود في صقلغ، قيل عنهم: " جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا أتراس ورماح وجوههم كوجوه الأسود وهم كالظبي على الجبال في السرعة.. صغيرهم لمئة والكبير لألف " (1 أي 112: 8 – 14). (9) أشير: " أشير خبزه سمين وهو يعطى لذات ملوك " (ع 20).تنبأ يعقوب عن أشير بكثرة الخيرات، كما تنبأ موسى عنه أنه يغمس في الزيت قدمه (تث 33: 24).. وقد تحققت النبوتان إذ تمتع سبط أشير بأرض خصبة غنية بأشجار الزيتون التي يستخرج منها الزيت. (10) نفتالي: " نفتالي أيلة (أنثى الإيل) مسيبة تعطى أقوالًا حسنة " (ع 21).يشبه في محبته للحرية بأنثى الأيل المنطلقة في برية مفتوحة، لكن هذه الحرية ليست فرصة للانحلال والشر وإنما التزم السبط بعلاقات طيبة مع بقية الأسباط مقدما "أقوالًا حسنة".باركهم موسى النبي قبل موته: " يا نفتالي أشبع رضى وامتلئ بركة من الرب واملك الغرب والجنوب " (تث 33: 23).. (11) يوسف: نال يوسف "رجل الأحلام" الابن البكر لراحيل مدحًا أكثر من كل إخوته، فقد كان أمينًا في علاقته مع الله ومحبًا للجميع كابن أو كأخ أو كعبد أو كأجير أو كسجين أو كقائد في القصر.. لذا دعاه أبوه "غصن شجرة مثمرة" وقد كرر العبارة مرتين إشارة إلى أن الثمرة هي ثمرة الحب، لأن رقم 2 كما يقول القديس أغسطينوس يشير إلى الحب، إذ يجعل الاثنين واحدًا.. كان يوسف غصنًا يثمر حبًا سماويًا مرتفعًا إلى فوق لا يعوقه حائط الظروف المحيطة أو الأحداث، إذ يقول: "يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على ماء، أغصان قد ارتفعت فوق حائط، فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه " (ع 22 – 34). (12) بنيامين: " بنيامين ذئب يفترس، في الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسم نهبا " (ع 27)تشير النبوة هنا إلى شجاعة سبط بنيامين وقوته في الحروب، كان شاول الملك من سبط بنيامين، كان ذئبا أراد أن يفترس داود الملك.. (13) الوصية الوداعية: سبق فأوصى يعقوب ابنه يوسف أن يدفنه مع أبيه وأمه وجده وجدته في كنعان في مغارة المكفيلة التي اشتراها إبراهيم من بنى حث، وها هو يكرر الوصية لأولاده الاثني عشر.. لقد عاش غريبا كآبائه ينتظر تحقيق وعود الله في نسله.. وأخيرا مات على رجاء، إذ أسلم الروح وانضم إلى قومه. إشعياء – الإصحاح السادس والستون أورشليم الجديدة اختتم هذا السفر الإنجيلي بالكشف عن أورشليم الجديدة التي أقيمت بالسيد المسيح بعدما هدم الحرف القاتل الذي ارتبط بالشكليات المفسدة لحياتنا الداخلية وعلاقتنا مع الله. (1) فساد العبادة الشكلية: كثيرًا ما اتكل اليهود على وجود الهيكل في أورشليم كمصدر أمان لهم، مهما كانت حياتهم أو علاقتهم بالرب، لهذا يوبخهم الرب قائلًا: "السموات كرسي والأرض موطئ قدمي، أين البيت الذي تبنون لي؟ وأين مكان راحتي؟" (إش 66: 1).إن كان الله في محبته للإنسان سمح أن يبنى له بيتا، إنما من قبيل تنازل الله ليعلن حلوله في وسطنا. الله لا تهمه الحجارة والمباني الضخمة إنما يسكن في "المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامه" (راجع إش 66: 2).الكنيسة هي الدخول في الصخرة كما فعل موسى النبي لكي يرى مجد الله، هذه الصخرة هي المسيح. نثبت فيه بروح الاتضاع مع الانسحاق فننعم بالسكنى الإلهية، لهذا قيل"وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2).هكذا بالاتضاع وانسحاق القلب وخشية كلماته يتطلع إلينا الرب، ويسكن فينا، ويحولنا إلى سمواته المقدسة. أما من ينشغل بالشكليات في العبادة بروح الرياء والكبرياء، فإن الله لا يجد فيه راحة وتصير عبادته مكرهة أمامه. يشتم الله الذبائح رائحة قتل ونجاسة وعبادة أوثان، إذ يقول: " من يذبح ثورا فهو قاتل إنسان. من يذبح شاة فهو ناحر كلب، من يصعد تقدمة يصعد دم خنزير. من أحرق لبانا فهو مبارك وثنا " (إش 66: 3).وكما يقول الحكيم: "ذبيحة الأشرار مكرهة الرب وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 15: 8).أما ثمرة الانشغال في الشكليات بلا روح فهو الدخول في متاعب بلا تعزية، وعوض أن يطمئنهم الرب قائلًا لكل واحد منهم "لا تخف لأني معك، دعوتك باسمك أنت لي" (إش 43: 1)، يقول لهم "هم اختاروا طرقهم وبمكرهاتهم سرت أنفسهم، فأنا أيضا أختار مصائبهم، ومخاوفهم أجلبها عليهم، من أجل أنى دعوت فلم يكن مجيب، تكلمت فلم يسمعوا بل عملوا القبيح في عيني واختاروا ما لم أسر به" (إش 66: 3، 4). (2) التمييز بين الشكليين والجادين في العبادة " اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي: ليتمجد الرب، فيظهر لفرحكم، وأما هم فيخزون " (إش 66: 5).هذا ما حدث عندما أبغض اليهود تلاميذ الرب ورسله وطردوهم تحت ستار الغيرة على مجد الله والناموس الموسوي، لكن فرح التلاميذ وخزي المضطهدون. أشار السيد المسيح إلى ذلك بقوله: " سيخرجونكم من المجامع بل تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله " (يو 16: 2).أما ثمر الضيق الذي حل على رجال كنيسة العهد الجديد من إخوتهم فهو خراب الهيكل على يدي تيطس، إذ قيل هنا: " صوت ضجيج من المدينة، صوت من الهيكل، صوت الرب مجازيا أعداءه " (إش 66: 6). (3) أورشليم الجديدة: يختم النبي حديثه بالكشف عن أورشليم الجديدة: أ – تفيض فرحا وبهجة على محبيها النائحين عليها بسبب ما تعانيه من ضيقات (إش 66: 10).من الخارج آلام ومتاعب، ومن الداخل فيض فرح حتى على الغير. ب – تفيض شبعا للجميع، تهب الأطفال تعزيات كما من لبن ثدييها، بينما تهب الكبار من عصير ولذة درة مجدها. جـ - فيض سلام كنهر، ومجد عظيم كسيل جارف: " لأنه هكذا قال الرب: هأنذا أدير عليها سلاما كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضعون، وعلى الأيدي تحملون، وعلى الركبتين تدللون " (إش 66: 12). د – مصدر تعزية إلهية: " كإنسان تعزية أمه هكذا أعزيكم أنا وفي أورشليم تعزون" (إش 66: 13). الله أب يهب الكنسية أمومة ليس فقط نحو المؤمنين أبنائها وإنما نحو كل بشر، تحمل قلبًا متسعًا كعريسها لتفيض حبًا على الجميع." فترون وتفرح قلوبكم وتزهو عظامكم كالعشب وتعرف يد الرب عند عبيده ويحنق على أعدائه " (إش 66: 14).هذه هي تعزيتنا في الرب خلال كنيسته: يهبنا فرح القلب السماوي واتساعه بالحب وينمى إيماننا (العظام بكونها مركز الجسم). هـ - مصدر للطهارة: " الذين يقدسون ويطهرون أنفسهم في الجنات وراء واحد في الوسط آكلين لحم الخنزير والرجس والجرذ يفنون معا يقول الرب " (إش 66: 17).. البولس من (2 تيموثاوس 3: 1 – 4: 5) مقاومة روح الضلال لا تقف رسالة الراعي عند الجهاد في حياته الخاصة ليحيا مقدسًا للرب، وإنما يليق به مقاومة البدع والهرطقات وكل ضلال سواء من جهة التعليم أو عدم السلوك بحكمة سماوية. الهرطقات والشر إذ تحدث عن المباحثات الغبية والمفسدة بدأ يتحدث عن الضلال خاصة من جهة السلوك، فغالبًا ما ترتبط الهرطقات والبدع بالحياة الشريرة، إذ هي في جوهرنا تقوم على حب الأنا والمجد الباطل وحب الانشقاق، فيتلاحم الفكر المنحرف عن الحق بالسلوك الشرير."ولكن اعلم هذا: أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة. لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم" [1، 2].يقصد بالأزمنة الأخيرة بعد مجيء الابن الكلمة المتجسد، فإن كان في ملء الزمان تقدم الله بإعلان الحب بتحقيق خلاصنا خلال صليب ابنه، فإن الشيطان بدوره يثير العاملين لحسابه لمقاومة الحق. إنها أزمنة النعمة بالنسبة للمؤمنين، وأزمنة صعبة بالنسبة للمخدوعين بحيل إبليس وأضاليله.على أي الأحوال في كل عصر يعلن الله محبته، وفي نفس الوقت يثير إبليس أتباعه للتضليل، وقد قدم الرسول بولس مثالًا بعصر موسى النبي، إذ يقول: "وكما قاوم يَنِّيس وَيَمْبِرِيس موسى، كذلك هؤلاء أيضًا يقاومون الحق، أناس فاسدة أذهانهم، ومن جهة الإيمان مرفوضون" [8]. إذن فالعيب ليس في الزمان، وإنما في قلب الإنسان الشرير. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تُلِم الأيام والأزمنة بل الناس عبر الأزمنة، فقد اعتدنا الحديث عن أزمنة صالحة وأزمنة شريرة، وذلك خلال الأحداث التي تحدث لنا بواسطة الناس.]أما جذر الشر وأساسه فهو الأنا أي محبة الإنسان لذاته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فيتقوقع حولها ويقيمها إلهًا له، يود أن الكل يخدمها عوضًا عن أن يخدم الآخرين، فيضر نفسه وهو لا يدري. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يهتم بأمور الآخرين إنما يهتم بشئونه الخاصة.. ومن يستهين بأمور إخوته يهمل ما يخصه هو. فإن كنا أعضاء الواحد للآخر، فإن نفع أخينا لا يعود عليه وحده، إنما يعود على الجسد كله، والضرر الذي يصيب أخانا لا يقف عنده وحده، إنما يصيب بقية الجسد بالآلام. هكذا في الكنيسة إن كنت تستخف بقريبك إنما تضر نفسك.] وأيضًا يعلق على كلمات الرسول: "لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم" [2]، قائلًا: [إنه يضع الجذر أو الأساس الذي تنبع عنه الشرور.. فمن يحب نفسه (الأنا)، ويقال عنه إنه غير محب لنفسه، أما من يحب أخاه فهو محب لنفسه بالمعنى الحقيقي.]هكذا يضع الرسول بولس محبة الذات أو الأنا أو الكبرياء كأساس للشر والهرطقة،خلال محبة الذات أو الكبرياء يضيق قلب الإنسان جدًا، فلا يطلب إلاَّ ما لذاته من محبة مال أو شهوات، فينسحب القلب من خطية إلى أخرى، تسلمه هذه إلى تلك ليصير ألعوبة الخطايا والنجاسات، يفقد إرادته الحُرّة وقدسيته ليعيش في مذلة وضعف."لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم، محبين للمال، متعظمين، مستكبرين، مجدفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حنو، بلا رضى، ثالبين، عديمي النزاهة، شرسين، غير محبين للصلاح، خائنين، مقتحمين، متصلفين، محبين للذات دون محبة الله، لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها، فاعرض عن هؤلاء" [2-٥].لاحظ القديس يوحنا ذهبي الفم في تعليقه على العبارات السابقة أن كل خطية تنتج الخطية التالية لها، إذ يقول: [تصدر محبة المال عن محبة الإنسان لذاته.. وعن محبة المال تنبع محبة العظمة، وعن حب العظمة الكبرياء، وعن الكبرياء التجديف، وعن التجديف التحدي وعدم الطاعة.. فمن يتكبر على الناس يتكبر على الله بسهولة. هكذا تتولد الخطايا وترتفع من أسفل إلى أعلى، فمن يكون تقيًا في تعامله مع الناس يكون هكذا بالأكثر مع الله. ومن يكون وديعًا مع العبيد زملائه يكون بالأكثر وديعًا مع سيده. إذ يحتقر العبد زميله ينتهي به الأمر إلى احتقار الله نفسه. إذن ليتنا لا نحتقر بعضنا البعض، لأن هذه خبرة شريرة تُعلِّمنا إحتقار الله.] هكذا لاحظ القديس أن الخطايا بدأت موجهة ضد الناس وانتهت موجهة ضد الله نفسه.في اختصار نذكر أهم الشرور التي أوردها الرسول هنا: أ. حب الذات: رأينا أنها أساس كل الشرور وجذورها، حيث تغلق النفس أو القلب عن محبة الله والناس. ب. محبة المال أو الطمع: الإنسان المحب لذاته يطلب كل شيء لحسابها فيكون طماعًا يحب المال والكرامة على حساب إخوته، بل وعلى حساب نفسه ج. حب العظمة والكبرياء: كما أن محبة الذات تُوَلِّد عطشًا لا ينتهي نحو المال والغنى لا يمكن للعالم أن يرويه، هكذا ذات العلة قد تُوَلِّد عطشًا لا للمال بل إلى حب الكرامة الباطلة والمجد الزمني، الأمور التي تفقد الإنسان سلامه الداخلي. د. التجديف: عطش الإنسان إلى الأرضيات سواء على مستوى المال والغنى أو على مستوى حب الكرامة الزمنيّة يحرف البصيرة الداخلية عن الله نفسه، فتحتقر النفس إلهها ولا تقدر أن تتلامس مع أعماله الخلاصيّة وعطاياه المجانيّة فتجدف عليه. ه. عدم طاعة الوالدين: الإنسان الذي يستخف بالله يستخف بوالديه، ففي تجديفه يود أن يتحرر من الأبوة الإلهيّة، بكونها سلطة تحرمه الحريّة، وفي عصيانه للوالدين يحمل ذات الفكر تجاه الوالديّة الطبيعيّة الدمويّة. و. عدم الشكر أو الجحود: رأيناه وضعًا طبيعيًا في حياة الإنسان محب المال، علامة شعوره بالفراغ الداخلي، الذي لا يستطيع العالم أن يملأه مهما قدم له. على العكس فإن السمائيّين إذ هم في حالة شبع روحي تتسم حياتهم بالشكر الدائم خلال تسابيحهم غير المنقطعة. ز. الدنس: إن كان الفراغ الداخلي يخلق طبيعة جاحدة لا تقدر أن تشكر، فإن هذا الفراغ بعينه يلهب الإنسان نحو الأمور الدنسة لكي يلتهي فيها، حاسبًا أنه يجد شبعه وسروره الجسدي في التصرفات الدنسة. ط. عدم الحنو: يُقصد به عدم وجود ود طبيعي، فالإنسان السالك في الدنس يطلب ما يشبع لذَّاته الخاصة، وإن أظهر حنوًا، فليس عن حنو داخلي لراحة الآخرين، وإنما لإشباع ملذاته الخاصة. والمثل الواضح في ذلك أمنون الذي مرض جدًا بسبب محبته الدنسة لأخته ثامار، ولما أخذ منها ما اشتهاه طردها. وأيضًا امرأة فوطيفار أحبت يوسف العفيف جسديًا، ولما تحدث معها بلطف رافضًا الشر سلمته للسجن وعرضت حياته للخطر. ظ. عدم الرضا: يُقصد به نقض العهد الذي ارتبط به. ع. الثلب: يُقصد به اتهام الآخرين زورًا. فلا يقف الأمر عند نقض العهد الذي ارتبط به بإرادته وإنما يتهم غيره زورًا. غ. عدم النزاهة أو عدم العفة: بمعنى عدم قدرة الإنسان على ضبط نفسه من جهة لسانه وشهواته وكل شيء آخر. يريد أن يعيش في الملذات بلا ضابط. ف. شراسة: طبيعة الخطية تفقد الإنسان إنسانيته ليحيا شرسًا، يقاوم الآخرين بلا سبب حقيقي. ق. غير محبين للصلاح: أي يحتقرون الأمور الصالحة ويستهينون بها كأمورٍ تافهة. ك. الخيانة: يقصد بها خيانة الإنسان للعهد الإلهي، ومن جانب آخر خيانته للعهد الطبيعي كأن يسلم الأب ابنه، أو الابن أباه (مت ١٠: ٢١) أو خيانة الصداقة. ل. الاقتحام: يتدخلون بالشر فيما لا يعنيهم. م. التصلف: أو الكبرياء بدون تروٍ. ن. محبة اللذات: دون محبة الله، لأن محبة الإنسان لإشباع شهواته تقف حائلًا عن محبته لله. أخيرًا يختم الرسول حديثه عن الأشرار بقوله: "لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها" [5]، وهذا هو أخطر أنواع الشر أن يحمل الإنسان المظهر البَرَّاق المُخادع أما الداخل فمملوء فسادًا. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن هذا الرياء يمثل لصًا خطيرًا يسلب المتدينين كل ما لديهم. فالخطايا السابقة واضحة يسهل على مرتكبيها أن يتوبوا عنها ويعترفوا بها، أما خطية الرياء، فغالبًا ما يصعب على مرتكبيها إدراكها. إذ لا يخدع الآخرين فحسب وإنما يخدع أيضًا نفسه، فيرى في نفسه أنه أفضل من الآخرين، ولا يقبل التعليم أو النصح."لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة، يجمعون لهم معلمين مُستَحِكَّة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات" [4: 3-4].كأنه يقول يلزم الكرازة بروح القوة في كل حين، في وقت مناسب وغير مناسب، في حزمٍ لكن مع طول أناة ولطف.. لماذا؟ لأنه يأتي وقت فيه تتصلف القلوب وتصير العنق متشامخة وعنيدة، فلا يحتمل الناس الاستماع للتعليم الصحيح. وكأن الرسول ينصحه أن يسرع بالعمل الروحي، لأن كل تأخير في الكرازة إنما يعني دخول الناس إلى حالة أكثر تصلفًا. كأن الزمن ليس في صالحنا إن أهملنا الخدمة! فالقلب المستعد الآن لقبول الكلمة قد يرفضها غدًا ما لم نخدمه اليوم! اليوم قد يقبل الناس المعلمين الحقيقيّين، لكن إن أهمل المعلمون في رعايتهم يسقط الناس في شهوات كثيرة، وعندئذ يطلبون لأنفسهم معلمين حسب أهوائهم. يطلبون ويجدون جماهير من المعلمين المنحرفين عن الحق، مملوءين فسادًا، تستريح لهم قلوبهم.لم يقصد الرسول بهذا تحطيم تلميذه بروح اليأس، وإنما تشجيعه على السرعة في العمل الروحي وتقديم كلمة الحق حتى لا تهلك هذه النفوس، لهذا يكمل قائلًا: "وأما أنت فَاصْحُ في كل شيء، احتمل المشقات، اعمل عمل المبشر، تمم خدمتك" [٥].سأله أن يكون صاحيًا متيقظًا حتى لا تدخل الذئاب بين الحملان فتفترسهم. حقًا في السهر على الرعاية يتحمل الراعي الكثير من المشقات، لكن تهون هذه كلها من أجل خلاص الخراف العاقلة. هذا هو عمل المبشر أن يحمل الصليب مع مخلصه المصلوب لأجل الدخول بكل نفس إلى رعية السيد المسيح ربنا. بهذا يتمم خدمته ويكمل رسالته. إنجيل القداس من لوقا 13: 31 – 35 إعلانه عن موته إذ تحدَّث السيد المسيح عن "الباب الضيق" مظهرًا أن الأمم يأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب يتكئون في ملكوت الله [29] خلال هذا الباب، بينما يُطرح أبناء الملكوت خارجًا لأنهم يرفضون هذا الباب، بهذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين [30]. بدأ الإنجيلي لوقا يكشف لنا كيف عاش مسيحنا في هذا "الضيق"، بل جاء ليدخل من الباب الضيق، محتملًا الموت من أجلنا لكي يحملنا معه إلى قيامته." في ذلك اليوم تقدَّم بعض الفرِّيسيِّين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب، ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل.بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم" [31-33].يرى كثير من الآباء أن الفرِّيسيِّين هنا يمثلون ذئابًا جاءت في زي حملان، تتظاهر بالحب نحو السيد المسيح بينما كان الدافع لتصرفاتهم هو حسدهم، لأنه يجتذب الجماهير من حولهم، فيفقدهم كرامتهم ومكاسبهم. فأرادوا طرده من المقاطعة الخاضعة لحكم أنتيباس هيرودس بنصحهم إيَّاه أن يخرج لئلاَّ يقتله هيرودس.إذن لماذا اقتربوا منه، قائلين: أخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك" [31]. ما هي غايتهم في ذلك؟ يخبرنا الإنجيلي هذا بقوله: "في تلك الساعة تقدَّموا إليه.." ماذا يعنى بتلك الساعة التي فيها تقدَّم الفريِّسيُّون وقالوا هذا ليسوع؟ حين كان منشغلًا بتعليم جموع اليهود حيث سأله واحد إن كان كثيرون يخلصون. فقد عبر السيِّد علي السؤال ليجيب بما يليق به أن يخبرهم، وهو الطريق الذي يجب أن يسير فيه البشر ليصيروا ورثة ملكوت السماوات. إذ قال: "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق.." واخبرهم أنهم إذ يرفضون ذلك فسيرون إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وهم مطرحون خارجًا [28]، كما أضاف: "هوذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين" [30] متحدَّثا عن دعوة الوثنيين للإيمان. هذه العلامات حركت الغضب في ذهن الفرِّيسيِّين. لقد رأوا الجموع تتوب وتتقبل الإيمان به بشغف ولم يعودوا يحتاجون إلا إلى أمور قليلة ليدركوا مجده وسّر تجسده العظيم المستحق للعبادة. بهذا إذ أوشك الفريِّسيُّون أن يفقدوا وظيفتهم كقادة للشعب، بل فقدوا فعلا سلطانهم عليهم، وخسروا ما كانوا يربحونه إذ كانوا شغوفين بمحبَّة الثروة والطمع والترف، تظاهروا بحبه، واقتربوا إليه، قائلين: "اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك.." لقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يخدعوا ذاك القائل: "من هذا الذي يخفي ذهنه عني؟ ويغلق على كلماته في قلبه ويظن أنه يخفيها عني؟" (أي 38: 2 الترجمة السبعينية).]ظن الفرِّيسيُّون أنهم قادرون علي خداع السيِّد، لكنه أجابهم كفاحصٍ للقلوب والكلى، وعالم بكل الأسرار والمستقبل، بهدوء في حكمة عجيبة، إجابة شاملة وقويَّة لبنيان سامعيها، إذ أظهر في إجابته الآتي: أولًا: أظهر شجاعته بإرسالهم لهيرودس ملقبًا إيَّاه بالثعلب.. فمن ناحيَّة أراد أن يعلن لهم أنه لن ينسحب عن خدمة الجماهير مهما بلغت المخاطر، إنما لينسحبوا هم أن أرادوا وينشغلوا بما هو ليس لخلاص إخوتهم؛ ومن ناحيَّة أخرى يدعو هيرودس ثعلبًا، إذ يعرف وحشية قلبه وحبه لسفك الدماء البريئة بمكر وخداع. ثانيًا: أظهر أيضًا رسالته أنه ليس منافسًا لهيرودس في مملكته الأرضية، لكنه ملك سماوي يعمل لبنيان النفوس، فيطرد الشياطين ويشفي، مقدَّما نفسه برضاه للموت [32-33].. لقد جاء لكي يحطم عمل الشيطان ويشفي البشريَّة من جراحاتها المميتة، فيقيم كنيسته كمملكة روحيَّة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [لتفهم هذه الأمور التي نطق بها بمعنى سّرى، مشيرًا إلى جسده الذي هو الكنيسة. فإن الشياطين تُطرد عندما يترك الأمم الخزعبلات ويؤمنوا به، ويتحقَّق الشفاء كاملًا بواسطة وصاياه، بعدما يجحد الشيطان والعالم في القيامة وتصير الكنيسة كاملة في ملء الحياة الملائكيَّة بخلود الجسد أيضًا.] ثالثًا: أظهر معرفته للمستقبل بقوله: "اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" [32]، وهو تعبير عبري رمزي يعني أن أيامه علي الأرض باتت قليلة ومعدودة (هو 6: 2). وبقوله "اُكمل" كشف عن آلامه كسرّ مجد، إذ بها يكمل عمله الخلاصي من أجل شعبه. رابعًا: كشف عن رسالته أنه قد جاء لكي يُبذل من خاصته (أورشليم)، إذ قال: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم" [33]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [لقد ظن الفرِّيسيُّون أن سلطان هيرودس يرعبه فتذله المخاوف، لكنه هو رب القوات الذي يوّلد فينا الشجاعة الروحيَّة بكلماته: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مت 10: 28). إنه لم يعطِ اهتمامًا للعنف البشري، بل يقول: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه" [33]. بقوله "ينبغي" لا يعني الإلزام قسرًا، وإنما التزام به بكمال حريته، فبدون خطر يذهب أينما شاء ويتنقل في اليهوديَّة دون أن يقاومه أحد أو يخطط ضده حتى يتقبل الألم بإرادته خلال الصليب الثمين.. بإرادته قبل الألم لكي يموت جسده يبطل الموت ويقوم. وإذ قام من الأموات يقيم معه الطبيعة البشريَّة كلها، ويجددها واهبًا لها الحياة التي بلا فساد.] خامسًا: أظهر رعايته الفائقة لشعبه، لكنها ليست إلزامية إذ يقدس حريتنا. لنا أن نقبلها ونتجاوب معها، ولنا أن نرفضها، إذ يقول:"يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا، والحق أقول لكم أنكم لا تروني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب" [34-35]. + إنه ليس فقط لا يتجاوزنا، وإنما لا يريد أن يتركنا ما لم نرد نحن ذلك لقد أظهر أننا نحن الذين نبدأ بهجره، فصرنا علَّة هلاكنا، أما الله فلا يريد أن يتركنا ولا حتى أن يعاقبنا، وإن عاقبنا إنما يفعل ذلك كمن هو مُلزم، إذ يقول: لا أشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا (حز 18: 32 الترجمة السبعينية).إلهنا القدوس يجعلنا أهلًا أن نستعد بقلوبنا للدخول معه أورشليم السمائية صارخين:مبارك الآتي باسم الرب ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
22 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس أمصيا

" فأرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل قائلاً: قد فتن عليك عاموس فى وسط بيت إسرائيل " (عا 7: 10) مقدمة تعد قصة أمصيا من أقدم القصص الكتابية التى تتحدث عما يطلق عليه " سلطان " الخادم أو " حقه " فى ممارسة الخدمة، وقد جاءت صورة أمصيا، من سوء حظه، جنباً إلى جنب مع صورة عاموس... وحسب الظاهر كان أمصيا الكاهن المعترف به رسمياً من الدولة، فقد صدر به مرسوم من الملك يربعام الثانى ملك إسرائيل، فهو الكاهن " الشرعى " حسب قوانين البلاد!! ولم يكن عاموس سوى رجل يلبس ثياب الرعاة الخشنة، ويحيا أبسط حياة، بلا ثياب رسمية أو مظاهر فخمة يمكن أن تعطيه الحق فى الخدمة الدينية،... بل لعله أكثر من ذلك أخطأ - بحسب مفهوم أمصيا - إذ وهو من المملكة الجنوبية اقتحم الخدمة فى المملكة الشمالية، وهذا لم يكن جائزا قانونياً!! والسؤال الذى تطرحه قضية أمصيا هو سؤال " الشرعية " فى الخدمة، ومن هو صاحب الحق فيها، أهو أمصيا الكاهن الرسمى بأمر الدولة ونفوذها وسلطانها، أم هو المقتحم الدخيل الآتى إليها من أرض يهوذا من الجنوب؟ من اللازم أن ندرس لهذا كله قصة أمصيا، إذ أنها القصة التى تكررت وماتزال تتكرر فى كل مراحل التاريخ حول " الشرعية " فى المفهوم البشرى، و"الشرعية" فى مفهوم اللّه والحق الكتابى!!.. ومن ثم يحسن أن نرى القصة من الجوانب التالية: أمصيا الكاهن بمرسوم ملكى تطرح قصة أمصيا - كما أشرنا آنفا - قصة الشرعية فى الخدمة، من حيث الخادم والخدمة ذاتها، ومع أننا لا نعلم بالضبط متى عين أمصيا كاهناً فى بيت إيل، إلا أنه من المرجح أن خدمته فى بيت إيل فى أيام يربعام الثانى حفيد ياهو بن نمشى كانت فى حوالى عام 722 ق. م عندما سقطت السامرة، وأخذ أمصيا مع المسبيين إلى السبى ليحرث هناك!!.. على أى حال لقد كان أمصيا آخر السلسلة العجيبة من الكهنة الذين بدأ يربعام الأول عام 932 ق.م فى تعيينهم، ليكونوا كهنة مرتفعات، وقد استمر هذا النظام حتى سقوط السامرة، أى أن هذا النظام استمر قرابة مائتين وعشرة أعوام، هى عمر المملكة الشمالية، فهل تكتسب الشرعية فى الخدمة الدينية، بمجرد مرور السنين أو القرون على ذلك؟. وهل يحسب الكاهن كاهناً، لمجرد أنه ينتمى إلى تقليد قديم ربما نسى الناس أصله وفصله؟؟،.. من الواضح من قصة أمصيا أنه كان ختاماً لمجموعة من الكهنة استمرت أكثر من قرنين من الزمان، ولا يمكنه أن يكتسب الشرعية لمرور هذا الزمن الطويل حتى ولو تلاحقت عليه آلاف السنين، إذ أن اللّه لم يعترف قط بهؤلاء الكهنة، ولم يقبلهم أو يرض عنهم، لأن الشرعية دعوة إلهية، لا تكتسب بالتقادم على وجه الإطلاق!!.. إن من أكبر الخطايا التى سقطت فيها الكنيسة فى أوقات الظلام والفساد، هو هذا الإدعاء، بأن الخادم هو خادم شرعتى لمجرد أنه تسلم الخدمة، ممن هو أقدم، وأن هذا السلطان متوارث بصرف النظر عن المسلم أو المتسلم، وسيتاح لنا عندما ندرس قصة عاموس فى شخصيتته الخاصة به، أن نتحدث عن هذا باسهاب، لندرك أن عاموس الذى لم يكن يستند إلى شرعية الوراثة المزعومة، كان هو الخادم الصحيح، وأن أمصيا (ولو أن وراءه أكثر من مائتى عام من الشرعية المعترف بها من الدولة) لم يكن إلا كاهناً كاذباً هو والذين قبله من أولهم إلى أخرهم!! كما أن الشرعية المزعومة يثبت فسادها من وجه آخر، من الأسلوب الذى كانت تلجأ إليه وتستخدمه فى الوصول إلى كرسى الكهنوت، فهى تستخدم كل الوسائل أو الوسائط البشرية، ولا تعف عن استخدام الأساليب الدنيوية لما للكرسى من امتيازات أرضية ومادية كبيرة، ومن هنا نشأ ما يعرف بالسيمونية " على مذهب سيمون الساحر: " ولما رأى سيمون أنه بوضع أيدى الرسل يعطى الروح القدس قدم لهما دراهم قائلاً: "أعطيانى أنا أيضاً هذا السلطان حتى أى من وضعت عليه يدى يقبل الروح القدس، فقال له بطرس لتكن فضتك معك للهلاك لأنك ظننت أن تقتنى موهبة اللّه بدارهم. ليس لك نصيب ولا قرعة فى هذا الأمر لأن قلبك ليس مستقيماً أمام اللّه، فتب عن شرك وأطلب إلى اللّه عسى أن يغفر لك فكر قلبك " " أع 8: 18 - 22 " وما أكثر ما لعبت الدراهم دورها الرهيب فى هذا الشأن، وقد تحول بيت اللّه إلى مغارة لصوص ويزداد الأمر سوءاً عندما تختلط السياسة بالدين، فلا تكتفى السياسة بادخال المال إلى الساحة من أوسع الأبواب، بل تدخل الأوضاع الأخرى التى هى أشد رهبة ونكراً، ويحرص الساسة على أن يجعلوا على كرسى موسى الصدوقيين، وليس الفريسيين، وكان الصدوقيون ممن لا يؤمنون بالقيامة واليوم الأخير، وهم لذلك أصلح الناس عند الرومان للقيادة الدينية، وكان منهم حنان وقيافا والعدد الكبير من أعضاء السنهدريم، وهم الواجهة التى تفسد الدين باسم الدين، وليس هناك من هو أقدر على تضليل الجماهير مثل رجل الدين الذى يخدم السياسة باسم الدين، وهو العدو الأول للحق الإلهى، ولو ظهر مندثراً فى ثياب كهنوتية، ويجلس على الكرسى الذى قال عنه السيد المسيح: " على كرسى موسى جلس الكتبة والفريسيون: فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعلموا لأنهم يقولون ولا يفعلون ". " مت 23: 2 و3 ".وكانت الشرعية المزعومة كاذبة من حيث الخدمة نفسها، لقد تعاقب على المملكة الشمالية تسعة عشر ملكاً كانوا كلهم أشراراً، وقد بدأ يربعام بن نباط هذا الشر بتحويل المجرى الدينى للخدمة، إلى الوثنية البشعة، لقد خشى أن تحن الأسباط إلى الوحدة مع يهوذا عندما يصعدون كل عام لتقديم الذبائح فى أورشليم فعمل عجلى ذهب، أحدهما فى بيت إيل، والآخر فى دان، ليبعد بالإسرائيليين عن أورشليم وذكراها، وكان يقصد بالعجلين أن يتصور اللّه فيهما، لأن العجول فى البلاد الزراعية ترمز إلى الخير والبركة، وكان الذهب يلمع فى عينيه كلما دخل إلى البيت أو خرج منه، ومن المؤلم حقاً أن ذلك المكان الذى رأى فيه يعقوب سلم السماء، تحول إلى هذه الصورة البشعة من الوثنية ومهما قيل عن الشريعة، فإنها برهانها الأعظم هو فى حياة الخادم وأسلوب خدمته!!.. لقد ابتلعت عصا موسى عصى العرافين، وكانت برهاناً على الفرق البين بين الحق والكذب، وقال بولس للكورنثيين: " إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فى الذى ليس ضعيفاً لكم بل قوى فيكم " " 2 كو 13: 3 ".كانت الخدمة عند أمصيا نوعاً من أكل العيش " وقد أفصح عن ذلك عندما تحدث إلى عاموس قائلاً: " وكل هناك خبزاً، وهناك تنبأ ". " عا 7: 12 " وما أكثر الذين يحيون ليأكلوا خبزاً، ويشربوا خمراً، ويأخذوا مركزاً، فالخدمة عندهم لا تزيد عن المغنم الذى إليه يسعون ويتجهون. إن امتحان الشرعية يظهر فى وضعه الصحيح من اليد النظيفة: " من يصعد إلى جبل الرب، ومن يقوم فى موضع قدسه؟ الطاهر اليدين والنقى القلب الذى لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذباً " " مز 24: 3 و4 " وعندما تساءل قوم من الكورنثيين عن شرعية الرسول بولس، ومركزه من الخدمة أجاب: " أهم خدام المسيح أقوال مختل العقل. فأنا أفضل. فى الأتعاب أكثر فى الضربات. أوفر فى السجون أكثر فى الميتات مراراً كثيرة. من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلده إلا واحدة. ثلاث مرات ضربت بالعصى. مرة رجمت. ثلاث مرات انكسرت بى السفينة. ليلاً ونهاراً قضيت فى العمق. بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول. بأخطار لصوص. بأخطار من جنس. بأخطار من الأمم. بأخطار فى المدينة. بأخطار فى البرية. بأخطار فى البحر. بأخطار من أخوة كذبة. فى تعب وكد. فى أسهار مراراً كثيرة. فى جوع وعطش. فى أصوام مراراً كثيرة. فى برد وعرى. عدا ما هو دون ذلك. التراكم على كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس " " 2 كو 11: 23 - 28 " وهل هناك برهان على صحة الخدمة أو حقيقتها أقوى من هذا البرهان؟!!. كان الشئ الأخير فى الشرعية عند أمصيا متصلا بالمكان أو دائرة النفوذ، وهو لذلك لا يقبل أن يقتحم عليه عاموس مكانه،.. لقد أخذ هو بيت إيل بمقتضى المرسوم الملكى ليكون مركز نفوذه وسلطانه، وهو على استعداد أن يصارع أى إنسان آخر يدنو من كرميه أو يعمل بين رعيته،.. ومن المؤسف أنه ما تزال إلى اليوم هذه الصورة على وضعها البشع، فى كثير من الأماكن، وبين المذاهب المسيحية المختلفة.. فعندما يكرز خادم من خدام اللّه بالكلمة يسأل: من أى مذهب هو، وما سلطانه وحقه فى الكلام بين أبناء المذاهب الأخرى؟؟، وتصبح الأذن صماء بالنسبة لرسالته، لأنه يتكلم وهو ابن مذهب معين إلى آخرين ينتمون إلى مذهب مخالف لمذهبه!!.. ومن المؤسف أيضاً أن أبناء المذهب الواحد يتصارعون على الأعضاء، وكيف يتحدث راع من كنيسة أخرى إليهم أو يزورهم أو ينادى لهم برسالة الإنجيل أو يبشرهم بكلمة الخلاص؟، وبدلا من أن يشكر على هدايتهم ومعونتهم، يقال له ما قاله أمصيا لعاموس: " أن اذهب... إلى أرض يهوذا... وهناك تنبأ!!.. أمصيا الكاهن والادعاء الكاذب كان على أمصيا أن يسعى بكل جهده لإخراج عاموس من إرض إسرائيل وهو لا يعنيه، فى شئ ما يقول عاموس خارج هذه الدائرة، أن الحق والباطل عنده يتساويان خارج دائرة نفوذه وسلطانه،.. وفى الحقيقة إن الحق والباطل عنده يتساويان إذا ضمنت له لقمة العيش والبقاء فى المركز!!.. وكم من أناس يدعون الغيرة على بيت اللّه ومجد اللّه، والقضية الدينية عندهم لاتزيد عن هذين الأمرين: المال، والمركز..!!، أعطهم الإثنين وهم على استعداد أن يعبدوا عجل الذهب، لأنهم أصلا عبيد الذهب أينما ذهبوا يسعون وراء المال كيفما مال بهم واتجه!!.. أما إذا دخل أحد بينهم وبين الإثنين أو بينهم وبين واحد منهما فهنا الطامة الكبرى، والمصيبة التى لا تحتمل، وهنا يحل الكذب والاتهام والافتراء والنميمة وكل الصور التى تشوه الآخرين أو تنال من سمعتهم أو رزقهم أو مركزهم أو حياتهم أيضاً، ويصبح القضاء عليهم واجباً مقدساً، يسهرون من أجله، ويكافحون سبيله دون أدنى تراخ أو تراجع أو يأس أو سكون،... وقد سلك أمصيا فى ذلك أكثر من سبيل، فهو يشى إلى الملك، ولا يتكلم بالرواية الصحيحة، بل يشوها تشويها، فإذا كان عاموس يبين أن الخطية ستنتهى بالأمة إلى الخراب، وتذهب بالشعب إلى السبى، فهو يصور هذه الأقوال فى صورة فتنة يتعمدها عاموس، وهى ليست أقوالا من الرب، بل هى كلمات الثورة والفتنة التى يسببها الرجل الآتى من أرضى يهوذا،... ويبدو أن يربعام لم يهتم كثيراً بأقوال أمصيا، وإذاً فلابد من مواجهة عاموس نفسه، والعمل على تخويفه ليهرب إلى أرض يهوذا،... وهو يلوح له إلى جانب التهديد من طرف خفى - بأن أرض يهوذا أكثر مكسباً من أرض إسرائيل، فلماذا لا يذهب إلى هناك ويأكل خبزاً؟!!... كان أمصيا فى هذا كله ابناً للشيطان ورسولا منه، والشيطان فى العادة يحاول دائماً أن يسكت الحق الإلهى بالوعيد أو بالوعد، بالتهديد أو الإغراء، وسجلاته فى كل العصور خير شاهد علي ذلك!! وقف أحد الرهبان فى كنيسة من الكنائس الألمانية غداة حرمان مارتن لوثر، وكان قد ذهب إلى هذه الكنيسة ليعلن قرار الحرمان، وقف يقول: " أيها الآباء والأخوة والأبناء: إن الكنيسة عانت طويلا من سم حية نشأت بين أحضانها، هذه الحية هى " مارتن لوثر، والسم هو تعاليمه التى ينشرها!! ولا حاجة بى إلى أن أخبركم عن قصة ضلاله، فهو، أولاً، فى كبرياء قلبه يحتج على المحبة العظمى فى قلب أبينا البابا المقدس، الذى جعل من الميسور بيع صكوك غفران الخطايا عند أبوابنا، وهو فى هذا يؤذى الكنيسة إذ يعظ ضد الصكوك المقدسة، والغفرانات، ويمنع خلاص النفوس، قد كتب حججاً كاذبة وسمرها على باب الكنيسة فى وتنبرج، وانتشرت من هناك فى كل المانيا. وكثيرون يموتون فى خطاياهم ويذهبون إلى الجحيم بسبب هذه الحجج، وقد كانت الكنيسة مترفقة به إذ وعدته بالعفو إذا تراجع، وأعطته الفرصة ليظهر فى أوجسبرج أمام قداسة الكاردنيال كاجيتان الذى تعامل معه بلطف دون جدوى، وبعد هروبه الجبان من أوجسبرج، كان له الشرف أن يتقابل مع دكتور أيك العظيم الذى تغلب عليه تماماً، ومع ذلك فهو ما يزال ينشر أكاذيبه فى كل مكان وقد أضحى الآن أكثر غطرسة، وقسوة... إذ لم يكتف بمهاجمة الغفرانات، بل بدأ يهاجم البابا نفسه، وقد كتب كتباً عديدة ممتلئة بالباطل والأضاليل، ويزرع الشوك فى عقول الكثيرين من أبناء الكنيسة المؤمنين، وأبعد آلافاً عن الأم الحقيقية الوحيدة الكنيسة، ولهذا فإن البابا عزم على أن يضع حداً لهذا الهرطوقى الكبير وأبى الأكاذيب " أغلب الظن أن أمصيا وعظ فى بيت إيل بمثل هذه العظة للشعب المضلل المنكوب!!.. أمصيا الكاهن والعقاب الرهيب تنبأ عاموس على أمصيا، وقد اتسمت نبوته بالوضوح القاطع، وهنا يفترق الصدق الإلهى عن همهمات وإدعاءات الرؤى الوثنية، أو - كما قال أحدهم - إن العرافين فى العادة لا يقطعون برأى، بل يضعون نبواتهم فى كلمات غامضة تحتل أكثر من معنى ليكون الأمر عند التفسير أقرب إلى ما قد يجئ به التنفيذ، وهم على استعداد أن يدعوا أن هذا هو ما كانوا يقصدونه من البدء، إذ تصادف أن اقتربت الحقيقة إلى ما يزعمون، لكن نبوة النبى الصادق تتحدى الأنبياء الكذبة حتى ولو كانوا أربعمائة نبى يتحدثون بلسان واحد وعلى رأسهم صدقيا بن كنعنة الذى عمل لنفسه قرنى حديد وقال لآخاب: " هكذا قال الرب بهذه تنطح الأراميين حتى يفنوا، وتنبأ جميع الأنبياء هكذا قائلين اصعد إلى راموت جلعاد وافلح فيدفعها الرب ليد الملك " " 1 مل 22: 11 و12 " أما ميخا بن يمله نبى اللّه الصادق فإنه لا يتردد فى أن يصف الأربعمائة من الأنبياء بأنهم كاذبون مضللون، وأن الشيطان قد وضع فى أفواههم جميع أقوالا كاذبة، وأن مصيره سينتهى فى المعركة، وإذ يصفعه صدقيا بن كنعنه على فكه قائلا: " من أين عبر روح الرب منى ليكلمك؟ فقال ميخا: إنك سترى فى ذلك اليوم الذى تدخل فيه من مخدع إلى مخدع لتختبئ " 1 مل 22: 24 و25 " وإذ يسجنه آخاب طالباً أن يضعوه فى السجن، وأن يطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى يعود بسلام: " فقال ميخا: إن رجعت بسلام فلم يتكلم الرب بى.وقال اسمعوا أيها الشعب أجمعون" " 1 مل 22: 28 " كان ميخا واضح الرؤيا، شديد الثقة، دون اهتزاز أو تذبذب أو تتردد، والأمر بعينه كما يذكره ذلك الأرامى فى شهادته أمام الملك عن أليشع " ولكن أليشع النبى الذى فى إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالأمور التى تكلم بها فى مخدع مضجعك " " 2 مل 6: 12 ".. بل لعل الأمر يبلغ قمته، عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه، وأغلب الظن أنه نسيه، ومع ذلك فهو يطلب من حكماء بابل أن يبينوا له الحلم وتعبيره " وأجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك. لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوس أو سامر أو كلدانى. والأمر الذى يطلبه الملك عسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر " " دا 2: 10 و11 " وإذ يسمع دانيال، ويتجه بالصلاة إلى اللّه، وهو زملاؤه الثلاثة فتية، يكشف له السر فيدخل إلى نبوخذ نصر مسرعاً ليقول: " السر الذى طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبينوه للملك. لكن يوجد إله فى السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذ نصر ما يكون فى الأيام الأخيرة " " دا 2: 27 و28 ".. ويذهل نبوخذ نصر من هذه المعرفة العجيبة إلى درجة أن يخر ساجداً على وجهه إلى الأرض أمام دانيال،... وعلى هذا المنوال كانت رؤيا عاموس واضحة أمام عينيه وهو يتنبأ عن أمصيا كاهن بيت إيل، ولم يتردد فى ذكرها للرجل بكل أمانة وشجاعة، رغم ما تمتلئ به من عنف وشدة وقسوة،.. لم يحاول عاموس أن يصقل كلامه أو يخفف من واقعه على أذنى الرجل، بل كانت كلماته كالمطارق القاسية التى تهوى على رأسه دون أدنى شفقة أو رحمة، وقد كانت النبوة فى الحقيقة مفزعة ومخيفة!!.. إذ كانت. 1- الفضيحة القاسية: وأى فضيحة أقسى وأشد من القول: " امرأتك تزنى فى المدينة " " عا 7: 17 " والكلمة يمكن أن تفسر من اتجاهين، إما أن الرجل يلصق به العار لخيانة زوجته له،.. فلقد خان هو اللّه وزنى عنه، أو أصبح رئيس الزناة بعبادته الوثنية وتكريس حياته لخدمة عجل الذهب،.. والبعد عن اللّه فى لغة الكتاب هو زنى: " لأنه هو ذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزنى عنك " " مز 73: 27 " والذهاب وراء كل إله غريب، مهما يكن لونه أو شأنه هو الفسق أمام اللّه، بدون أدنى حرج أو حياء أو خجل، ومن المؤلم أن اللّه أقام نبينا، وجعل قصته تجسيداً لهذه الحقيقة عندما: " قال الرب لهوشع إذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت ديلايم فحبلت وولدت له ابناً " " هو 1: 2 و3 "... وقد تحولت أمة إسرائيل كلها إلى أمة زانية بهذا المعنى، عندما انصرفت عن اللّه، وتحولت إلى الهوى والشهوة وراء الآلهة الغريبة، فكان لابد أن يكون الجزاء من جنس العمل،.. ومن المحتمل أن زوجة أمصيا انصرفت عنه وفسدت دون تورع، كانصرافه عن الحق الإلهى، وسيره وراء التيه والفساد والبطلان،.. أو أن الأمر يمكن أن يؤخذ من اتجاه آخر، إذ تغتصب زوجته فى المدينة من ورائه أو على مرأى عينيه، عندما يدخل الغزاة ويتم السبى،.. وما أقسى ما يحدث، فى مثل هذه الظروف والأحوال، من أوقات الحروب، كعقاب مخيف مفزع من اللّه! ألم يقل إشعياء: " وتحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتفضح نساؤهم " " إش 13: 16 " وقال زكريا الشئ نفسه: " فتؤخذ المدينة وتنهب البيوت وتفضح النساء "... (زك 14: 2) وسواء أكانت الصورة بالمعنى الأول أو الثانى، فإنها أشبه الكل بعقدة " أوديب " العقدة التى حلت بالشاب اليونانى الذى قيل إنه قتل أباه، وتزوج أمه، وهو لا يعلم، وعندما أدرك ذلك فقأ عينيه، وخرج هارباً فى الأرض كقايين، تروعه عذابات الضمير، دون أن يستريح أو يهدأ أو يلوى على شئ!!.. إن الخروج على اللّه هو الفضيحة بعينها، ولا بد أن تكشف هذه الفضيحة فى هذه الصورة أو تلك، وما عمل فى الخفاء سيرى الناس عقابه علانية وتحت ضوء الشمس فى كل مكان!!.. 2- ضياع الأرض.. " وأرضك تقسم بالحبل " " عا 7: 17 " ونحن نعلم أن الأرض كانت مقدسة، وهى ملك لصاحبها بالوكالة، لأنها أساساً للّه، وكانت إذا بيعت أو اشتريت، فإن ذلك إلى يوم اليوبيل الخمسينى لتعود مرة أخرى إلى صاحبها، لكن الأشوريين لا يعرفون شيئاً عن هذا اليوبيل، وكما اغتصبت الزوجة، تغتصب الأرض أيضاً اغتصاباً،.. لقد عاش أمصيا للأرض دون أن يرفع عينيه إلى السماء، وبحث عن الذهب، وعبده، ومال وراءه،.. وها هى الأرض أيضاً تؤخذ بما فيها وما عليها، والحرام لا يذهب وحده كما يقولون، بل يأخذ الحلال والمقدس معه،.. وإذا كان الناس يقولون إن الجريمة لا تفيد، فإنه الأصح أن يقال دائماً، إن الخطية لا يمكن أن يكسب الإنسان من ورائها أدنى خير أو مكسب،.. لقد جند أمصيا نفسه ليجمع الثروة والمال من وراء خدمة عجل الذهب تعبد له، وأقيم كاهناً لخدمته، وها قد ذهب المال والعجل وكل شئ، وحل محلها الفقر والضياع والعدم والهلك!!.. 3- الموت البشع: " وبنوك وبناتك يسقطون بالسيف " " عا 7: 17 " وأى منظر أشد هولا أو رعباً، من منظر الأولاد والبنات، وهم يقتلون على مرأى عينيه،.. أليس هؤلاء الأولاد أو البنات هم الذين من أجلهم سعى لاقتناء الثروة، وجمع الكنوز، وتكديس المال، وكان أقصى ما يحلم به أن يوفر لهم الحياة الهانئة والعيش الرغد؟، وها هو المال يذهب، وفى إثره يقتل أحب الناس إليه فى الأرض!!.. 4- النهاية التعسة: " وأنت تحرث فى أرض نجسة " " عا 7: 17 " ولم يبق للرجل بعد هذا كله سوى جسده، ونفسه،.. وهما أيضاً معاً سوف يعذبان، إذ سيؤخذ إلى السبى، ويبقى هناك على أتعس الذكريات وأشرها فكراً، وسيموت محاطاً بالدنس من كل جانب، لأن الدنس ملأ نفسه من الداخل، وهل لنا أن نتصور أمصيا وقد قبض عليه وسار سير المسبيين فى الأرض، وجر كما يجر الحيوان بالسلاسل والأغلال، وسار فى الفيافى والقفار، حتى انتهى إلى الأرض القريبة، وعاش ميتاً، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهوى وثوى فى الأرض النجسة الغريبة كأتعس ما تكون نهاية القصة والمأساة لأى إنسان أحسن ظنه بالأيام والليالى، ولم يدر أن الزمن قلب، ومفاجآت الحياة للأشرار دونها كل مفاجأة.. 5- سبى الأمة كلها: " وإسرائيل يسبى سبياً عن أرضه " " عا 7: 17 " ومن العجيب أن يقال هذا الكلام فى أيام يربعام الثانى ملك إسرائيل، إذ كانت البلاد، فى ألمع أيامها الذهبية، من الوجهة السياسية والاجتماعية، وكان الناس ينامون على أسرة من العاج، كما نرى فى نبوات عاموس، وكانوا يسترخون على نغم الموسيقى الراقصة أو الحالمة " انظر عا 6: 1- 7 " ولكن عاموس - شأنه شأن الأنبياء الصادقين - لم يخدع بالمظهر البراق أو الصورة الخلابة، إذ رأى الدنس والخطية والخراب والموت خلف الكل،.. وعندما جاءت هذه النهاية كانت مرعبة مرهبة فظيعة، إذ لم يسقط الأسباط العشرة تحت جحافل الأشوريين فقط، بل قضى على كيانهم السياسى والاجتماعى والقومى والدينى إلى الأبد. وإلى اليوم، لا يكاد يعرف أحد مصير هذه الأسباط. لقد كان عقابهم كخطيتهم قاسياً مفزعاً مروعاً رهيباً!! أجل: لأن أجرة الخطية هى موت، وأما هبة اللّه فهى حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا " " رو 6: 23 "..
المزيد
21 أبريل 2021

كل حق يقابله واجب

كثيرون يتحدثون عن حقوقهم ويطالبون بها، أو يطالبون بما يظنونه حقوقًا، وقد لا يكون كذلك. فما أسهل أن يدعي شخص حقا له، بغير حق! وقليلون هم الذين ينشغلون بالواجبات التي ترتبط بتلك الحقوق. لأن كل حق يقابله واجب أو تقابله عدة واجبات.. فكل حق لنا عند الناس، تقابله واجبات علينا من نحوهم. الحق والنعمة: في علاقتنا مع البشر قد نطالب بحقوق. أما مع الله فلا نطلب حقوقا. كل ما نطلبه هو عطايا أو نِعَم. وكل ما نحصل عليه هو نعمة من عنده.. فنحن نتمتع بالوجود. ولكنه لم يكن لنا حق الوجود. إنما نلنا هذا الوجود كنعمة من عند الله، ونحن نخاطب الله في الصلاة، وليس لنا من حق التحدث إليه، إنما وهبنا الله الصلاة كنعمة. كذلك من جهة الحياة: أين الحق وأين النعمة؟ من جهة الله، قد وهبنا نعمة الحياة. ومن جهة الناس، لنا عليهم كما لنا علي أنفسنا حق المحافظة علي هذه الحياة.أما عن الرعاية، فهي من جهة الله نعمة نطلبها، أن يرعانا.. وأما من جهة الناس، فهي حقوق نتبادلها: نحن نرعى غيرنا ممن هم في حدود واجباتنا. ويرعانا غيرنا ممن هم مكلفون بذلك.. الحياة: مادام الله قد وهبنا نعمة الحياة، فقد أصبح من حقنا علي المجتمع أن نحيا.. ولكن هذا الحق تقابله واجبات عدة فواجبنا أن نستخدم حياتنا في الخيروأن نحافظ علي هذه الحياة، لتكون نافعة لنا ولغيرنا. كما من واجبنا المحافظة علي حياة غيرنا. وإن أفقدنا أحدا حياته، لا نكون مستحقين لنعمة الحياة. فتؤخذ حياتنا منا، نفس تكون عوضا عن نفس. وبهذا يحكم المجتمع وينفذ حياتنا وديعة أودعنا الله إياها. ومن واجبنا أن نستثمرها، ولا تكون عبئا علي المجتمع، بل مصدر نفع له. وحياتنا جزء من حياة المجتمع، له فيها نصيب، ومن واجبنا أن نمنحه هذا النصيب، فلا نعيش لأنفسنا فقط، إنما نعيش للغير علي قدر ما نستطيع.. وأحيانا نري من واجبنا أن نبذل حياتنا، لأجل الغير في حب.. وهنا يكون الاستشهاد، وتكون التضحية والذين سجل التاريخ أسماءهم، هم الذين عاشوا حياتهم لأجل غيرهم، فأدوا واجبهم نحو أوطانهم ونحو شعوبهم. الوجود: لقد وهبنا الله نعمة الوجود. وهذه النعمة تقابلها واجبات.. ومن العجب أن إنسانًا قد يظن انه موجود، بينما لا يشعر العالم بوجوده، لأنه لم يقم بواجب أو بعمل يشعر العالم به..! فهل من حق الإنسان في الوجود، أن يكون فراغا لا يمتلئ المجتمع بشيء منه؟! أم واجبه في الوجود، أن يكون له وجود فعال، وفعال في الخير هناك أشخاص امتدت فاعليتهم حتى بعد وفاتهم.. ظلوا موجودين فيما تركوه من أثر باق يظن البعض انه يظل موجودا في أولاده، في أسمائهم وفي عملهم.. ولكن ماذا عن شخصه؟ هذا ما لم يفكر فيه! إن الوجود ليس مجرد أنفاس تتردد، بل هو حياة تبقي وتستمر فاعليتها. ما أعجب مذهب 'الوجوديين'، الذين يرون أن وجودهم هو شعورهم بالوجود في اللذة، حتى لو كانت حياتهم فارغة! بل أنهم أكثر من هذا، يهاجمون الله تبارك اسمه بحجة انه يحرمهم من ملاذهم الخاطئة، بوصاياه الإلهية السامية! لذلك يقول الواحد منهم: 'من الخير أن الله لا يوجد، لكي أوجد أنا!!'. حق العمل: كل إنسان يطالب بحقه في أن يعمل، ويذكر في ذلك أن للبطالة خطرها علي المجتمع وعلي الفرد. وهذه حقيقة. غير أننا نسأل هل العمل هو منحة يقدمها لك المجتمع، أي فرصة للعمل؟ أم العمل هو طاقة كامنة فيك قادرة علي العمل؟ وهل طاقاتك هذه يلزمها دافع خارجي؟ أم هي طاقات خلاقة creative حيثما توجد أنت، ينبثق منك عمل؟ هل بذاتك تعمل، أم أنت أداة يأخذها غيرك ويعمل بها، ويوظفها حسبما يريد، فتصبح أنت موظفًا، ويكون من حقك أجر علي عملك، مرتب لك؟ لقد أعطانا الله أمثلة، في الكواكب التي تعمل من ذاتها، وفي أجهزة جسم الإنسان، وفي عوامل كثيرة من طبيعة الكون... حقًا، ما أجمل أن يكون العمل غريزة، وأن يكون طبعًا ومعروف أن الذي يحب العمل، ويؤدي عمله بلذة، لابد أن ينجح فيه، ولا يشعر بتعب مهما عمل، بعكس الذي يعمل وهو متبرم ومتضايق...علي أن هناك أشخاصا يمكنهم أن يبتكروا أعمالا لهم ولغيرهم أيضًا. أولئك لهم عقول مفكرة، تستطيع أن توجد الأيدي العاملة. وهناك من لهم مواهب ومقدرات، يطلبهم الآخرون للعمل، دون أن يطلبوا هم عملا أخيرا، إن كان من حقك أن تعمل، فواجبك الأمانة في العمل، والإنتاج والإتقان، وحسن التعامل، وتأدية واجبك بدون تراخ، وتنمية مقدراتك.. حقوق اجتماعية: من حق الإنسان الناضج أن يتزوج، وأن تكون له أسرة ومن واجبه حسن المعاشرة، حتى لا يؤول الزواج إلي طلاق.. ومن حق الأبناء في الأسرة أن ينالوا الرعاية الكاملة من الآباء والأمهات. ومن واجبهم إكرام الوالدين، وطاعتهما في داخل محبة الله.من حق الوالدين أن يكون لهما أبناء. ومن واجبهما مراعاة تنظيم الأسرة، فلا ينجبان بأسلوب يؤدي إلي التضخم السكاني، وما يتبعه من مشاكل اقتصادية.من حق الإنسان أن يتمتع بالحب: يحب، ويحب.ومن واجبه أن يكون نزيهًا طاهرًا في محبته لغيره، وبخاصة مع الجنس الآخر. فلا يتحول حبه إلي مجرد شهوة جسدية تؤول إلي نجاسة! ومن واجب الإنسان أن يبعد عن الأنانية في محبته. بل يحب الآخرين ويبذل من أجلهم، ويحتمل. ويجعل محبته مشاعا للكل بلا تحيز.من حق الإنسان أن يكون له سكن يأوي إليه ومن واجبه أن يحرص علي حسن الجوار، فلا يؤذي جاره ولا يضايقه. كما يجب عليه الحرص علي جمال ونظافة البيئة التي يعيش فيها.من حق الإنسان أن يمتلك، وأن يقتني، وأن يربح.ومن واجبه أن يكون ذلك في حدود المعقول، وفي نطاق الربح الحلال، بعيدًا عن الجشع والاحتكار. فله أن يملك المال، ولكن لا يسمح للمال أن يملكه، ويصبح هدفه في الحياة! كما من واجبه أيضًا أن يستخدم ماله في الخير، وأن يعطي منه للمحتاجين والمعوزين. ويحتفظ في حياته بموازنة سليمة بين الأخذ والعطاء، بل يعطي أكثر مما يأخذ.من حق الإنسان أن يتمتع بالراحة ومن واجبه انه لا يبني راحته علي تعب الآخرين، وألا تتحول راحته إلي لون من الكسل أو التراخي. كما لا يطلب الراحة علي حساب عمله والإخلاص لواجباته. وتكون الراحة في الوقت المناسب وبالقدر المناسب. حقوق سياسية أول حق سياسي للإنسان هو حق المواطنة. وواجبه هو الولاء لهذا الوطن، واحترام الدولة ومؤسساتها وقوانينها.ومن حقوقه السياسية حق الانتخاب في حدود النظام العام. ومن واجبه الذهاب إلي مكان الانتخاب، والإدلاء بصوته حسب ضميره. ومن حقوقه المساواة، في نطاق المؤهلات والكفاءة والمقدرة. من حقه أيضا الدفاع عن النفس، ومن واجبه أن يكون صادقًا وعادلًا في دفاعه عن نفسه. ولا يظلم غيره ويلقي عليه التبعة دون وجه حقومن حق الإنسان الحرية في حدود القانون. ومن واجبه أن يستخدم حريته، بحيث لا يعتدي علي حريات الآخرين وحقوقهم ومن حقه إبداء رأيه ونشره، واستخدام حرية الصحافة. ولكن هذا كله يقابله واجب الحفاظ علي سمعة الآخرين وعدم التشهير بهم. وأن يحتفظ بأدب الحوار. له أن يتكلم، وواجبه أن يتكلم حسنًا أخيرا، ما أطول موضوع الحقوق والواجبات، وكل ما ذكرناه هو مجرد مثال. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
20 أبريل 2021

مفهوم الصوم

مفهوم الصوم الصحيح: يختلف الكثيرين في فهم الصوم.. فالبعض يركز على الممارسات الجسدية من ناحية الامتناع عن الطعام (الانقطاع). والبعض يركز على الامتناع عن بعض الأطعمة (الصوم النباتي). والبعض الآخر يركز على الممارسات الروحية فقط. ولكن أفضلهم مَنْ يدمج كل هذه مع بعضها، ويفهم ويعي مفهوم الصوم بفهمه الصحيح.. فهيا بنا ندخل إلى العمق، لنرى ما هو مفهوم الصوم الصحيح. الصوم هو العودة إلى حياة الفردوس الأولى فعندما خلق الله آدم وحواء ووضعهما في الفردوس، كان طعامهما من الأطعمة النباتية، قائلًا لهم: "مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلًا، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّر فلا تأكُلْ مِنها، لأنَّكَ يومَ تأكُلُ مِنها موتًا تموتُ" (تك2: 16-17).. ولم يوصهم أن يذبحوا حيوانات ويأكلوا لحومها.وعاش آدم وحواء حسب هذه الوصية حتى أخطأوا، ووقعوا في معصية الله ومخالفة وصيته، وطُردوا من الجنة، وعاشوا هم ونسلهم على نفس هذه الأطعمة حتى فساد الأرض كلها، وإتيان الله بالطوفان على العالم في عهد نوح. بعد فناء البشرية الأولى الفاسدة وخروج نوح من الفلك، بدأ الله بالسماح له بأكل اللحوم.. "ولتَكُنْ خَشيَتُكُمْ ورَهبَتُكُمْ علَى كُل حَيَواناتِ الأرضِ وكُل طُيورِ السماءِ، مع كُل ما يَدِبُّ علَى الأرضِ، وكُل أسماكِ البحرِ. قد دُفِعَتْ إلَى أيديكُمْ. كُلُّ دابَّةٍ حَيَّةٍ تكونُ لكُمْ طَعامًا. كالعُشبِ الأخضَرِ دَفَعتُ إلَيكُمُ الجميعَ. غَيرَ أنَّ لَحمًا بحَياتِهِ، دَمِهِ، لا تأكُلوهُ" (تك9: 2-4) الإنسان الأول كان مخلوقًا نباتيًا، وحتى الحيوانات التي يطلق عليها الآن حيوانات مفترسة كانت تأكل العشب الأخضر والنباتات.. بدليل أنها عندما دخلت الفلك مع نوح كانت تأكل من نفس الأكل الذي كان يأكله نوح وبنوه.. "وأنتَ، فخُذْ لنَفسِكَ مِنْ كُل طَعامٍ يؤكلُ واجمَعهُ عِندَكَ، فيكونَ لكَ ولها طَعامًا" (تك6: 21) فبممارسة الصوم نكون قد رجعنا إلى صورتنا الأولى التي خُلقنا عليها، وهي الصورة النباتية.. نأكل نفس الأكل الذي كنا نأكله في الفردوس.. وبتهيئتنا لأجسادنا في فترات الصوم وأكلنا أكلًا نباتيًا نقترب من الفردوس الذي طردنا منه بسبب الأكل ومخالفة وصية الله. تعالوا بنا نرى ما يقوله مار اسحق لنا عن هذه النقطة: "إن أول قضية وُضعت على طبيعتنا في البدء كانت ضد تذوق الطعام.. ومن هذه النقطة سقط أول جنسنا، لذلك فإن أولئك الذين يجاهدون من أجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت أول ضربة. مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة.. فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله". مفهوم الكنيسة عن الصوم: الصوم هو حرمان عن بعض الأطعمة، يتدرج حتى يصبح زهدًا اختياريًا. وهذا ما تعلمه لنا الكنيسة.. وهو أن في بداية ممارسة أي "ممارسة روحية" تبدأ بما نُسميه (التغصب). ففي بداية ممارستنا للصوم يجب أن نحرم الجسد مما يتلذذ به، أو يرغب فيه، أو ما يفضله عن غيره.. ثم بعد ذلك يتدرج هذا الحرمان مع كل واحد منا إلى أن يصبح الإنسان ممتنعًا عن هذه الأطعمة رغبة ومحبة في الصوم، وأيضًا لأنه يصبح زاهدًا فيها بكامل إرادته. الصوم ليس إضعافًا للجسد.. بل قمعًا وإذلالًا لإنعاش الروح. فنحن نصوم ليس لكي نضعف الجسد ونهينه، أو نصل به إلى حالة لا يقوى على ممارسة الحياة، ويصبح الإنسان طريح الفراش بسبب ضعفه الجسدي بكثرة الصوم والإفراط فيه بدون إفراز وحكمة.. ولكن الصوم المصحوب بإرشاد أب الاعتراف يعتبر قمعًا لثورات الجسد، كما يقوم رجال الأمن بقمع أي ثورات ضد النظام أو السلام أو الأمن أو غيره.. هكذا الصوم يقمع تمرد الجسد على الروح.. فإذا لم نقمع هذه الثورة يتغلب الجسد على الروح وتضعف الروح،وهذا ما يجعلنا نضع الصوم من أهم الممارسات التي تنعش وتقوي الروح. الصوم ليس فرضًا موضوعًا علينا.. لكننا نمارسه لشعورنا باحتياج إليه، من أجل شقاوتنا وجسدنا المشاغب. تعلمنا كنيستنا الأرثوذكسية أن لا يوجد أي فرض في ممارسة روحية.. فالصلاة نمارسها عن محبة لإلهنا الخالق الذي يسمع لنا ويرعانا، ويهيئ كل شيء لخلاصنا.. فـ"نَحنُ نُحِبُّهُ لأنَّهُ هو أحَبَّنا أوَّلًا" (1يو4: 19). الميطانيات metanoia نعملها لكي تهيئ ذهننا للتوبة (ميطانيا = تغيير الحالة metanoia)، ونمارسها عن حب ورغبة في تقديم الجسد لله ساجدًا خاشعًا طالبًا رحمة الله لنا. كذلك الصوم نمارسه في حب الله.. رغبة منا أن نرجع إلى طبيعتنا الأولى التي خلقنا عليها في الفردوس، وأيضًا لكي يخضع الجسد للروح، وتنشط وتقوى الروح على الجسد، وذلك حسب قانوننا الروحي. فنحن نشعر باحتياجنا لهذا الصوم، لذلك نصوم حبًا في الصوم وليس لأنه فرض.. فنحن في المسيحية لا يوجد عندنا فروضًا موضوعة علينا يجب أن نمارسها حتى عن عدم اقتناع لكي نعبِّر عن عبادتنا. نحن نصوم لأننا نحتاج إلى الصوم، لكي نلجم الجسد الجامح، لكي ينقذنا الله من جسد الخطية.. "لأني لستُ أفعَلُ الصّالِحَ الذي أُريدُهُ، بل الشَّرَّ الذي لستُ أُريدُهُ فإيّاهُ أفعَلُ. فإنْ كُنتُ ما لستُ أُريدُهُ إيّاهُ أفعَلُ، فلستُ بَعدُ أفعَلُهُ أنا، بل الخَطيَّةُ السّاكِنَةُ فيَّ. إذًا أجِدُ النّاموسَ لي حينَما أُريدُ أنْ أفعَلَ الحُسنَى أنَّ الشَّرَّ حاضِرٌ عِندي. فإني أُسَرُّ بناموسِ اللهِ بحَسَبِ الإنسانِ الباطِنِ. ولكني أرَى ناموسًا آخَرَ في أعضائي يُحارِبُ ناموسَ ذِهني، ويَسبيني إلَى ناموسِ الخَطيَّةِ الكائنِ في أعضائي. ويحي أنا الإنسانُ الشَّقيُّ! مَنْ يُنقِذُني مِنْ جَسَدِ هذا الموتِ؟" (رو7: 19-24). الصوم لم يرتب للتكفير عن الذنوب والخطايا، لكن لإعداد النفس لاقتبال الله.. إذ لا يوجد عمل ما يكفر عن الخطايا.. سوى دم السيد المسيح المسفوك على عود الصليب. فإيماننا المسيحي يعلمنا أنه لا توجد ممارسات تستطيع أن تكفر عن الخطية.. فالشيء الوحيد الذي يكفر عن خطايانا هو دم السيد المسيح.. ففكرة الكفارة تتم بالدم وليست بالممارسات. لذلك فالصوم دوره الأساسي هو ضبط شهوات الجسد، وفيه أيضًا يتم ضبط الفكر والحواس.. وحينما يضعف الجسد من الصوم، ويتذلل أمام الله تقوى الروح وتنشط.. وهذا هو الهدف المرجو من الصوم. والقديس باسيليوس الكبير يقول: "لقد نُفينا من الفردوس الأرضي لأننا لم نصم. فيجب أن نصوم لنرجع إلى الفردوس السمائي، لأن الصوم يرد إلينا الخسائر المسببة عن عدم صوم آدم، ويصالحنا مع الله". ونحن نصوم لأن كثرة المأكولات تحرك الشهوات.. وهذا ما نلاحظه على مَنْ يأكلون كثيرًا وتقوى أجسادهم بطريقة غير مألوفة، نجد عندهم استعدادًا كبيرًا جدًا للغضب، فهو لا يمتلك نفسه ولا أعصابه، كذلك أيضًا للقتل معتمدًا على قواه الجسدية.. بل الأكثر من ذلك عندما يقوى الجسد أكثر من اللازم يصبح الإنسان له ميول جسدية ورغبة في ممارسة خطية الزنا.هذه الخطايا يقع فيها البعض الشرهين في تناول الأطعمة بحاجة وبدون حاجة.. لذلك نقول إن القصد من الصوم هو إذلال الجسد وإخضاعه فضلًا عن الحد من تغذيته.فالقديس يوحنا كسيان يقول: "حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام فذلك يولد بذور الفسق، والعقل حينما يُخنق بثقل الطعام لا يقدر على توجيه الأفكار والسيطرة عليها. فليس السكر من الخمر هو الذي يذهب العقل، لكن الإسراف في كل أنواع المآكل يضعفه، ويجعله مترددًا، ويسلبه كل قوته في التأمل النقي. فإن كانت زيادة الخبز وحده أدت إلى مثل هذا السقوط السريع في الخطية عن طريق رذيلة الشبع.. فماذا نقول عن أولئك الذين لهم أجسام قوية ويأكلون اللحم ويشربون الخمر بإفراط، غير مكتفين بما تتطلبه أجسادهم.. بل ما تمليه عليهم رغبة العقل الملحة". لذلك نجد جميع الآباء القديسين حذروا من كثرة المأكولات والنهم فيها.. ومن امتلاء المعدة.. هذه العادة الغير مرغوبة قد تسيطر على البعض فيتعود الإنسان أن يأكل فوق ما يحتاج.. فيصبح الأكل عنده غاية. يذكر عن بعض الشعوب اليونانية في إحدى العصور أنه سيطر عليهم حب الأكل والتلذذ به طوال الوقت.. فيذكر عنهم أنهم يأكلون كثيرًا طالما جالسين أمام الطعام، ثم يقومون ويذهبوا إلى W.C لكي يتقيئوا لكي يعودوا للأكل مرة أخرى.. فأصبح الأكل عندهم ليس لسد حاجات الجسد، ولكنه شهوة سيطرت على الإنسان.. فيظل الإنسان يأكل بدون ضابط مثل الحيوانات.توجد علاقة طردية بين كثرة الأكل وأفكار الدنس والإدانة ... كلما أكثر الإنسان من تناول الطعام والشراب كثرت هذه الأفكار، وتوالت عليه حروب الشيطان.. وخاصة حروب الفكر.. ويقع الإنسان فريسة سهلة للشيطان، وذلك بسبب امتلاء البطن من الأطعمة لذلك مع كثرة الأطعمة وامتلاء البطن يظلم العقل ويصبح كالسماء المليئة بالسحب والغيوم.. فالإسراف في الأكل والشرب يأتي بالضرر الروحي والجسدي على الإنسان.. ويصبح الإنسان في حالة استرخاء وخمول مما يجعله ضحية للشيطان وأيضًا للأمراض الجسدية.إلهنا الصالح الذي قدّس الصوم بصومه أربعين يومًا قادرًا أن يقدس صومنا، ويجعله صومًا روحانيًا نسعى فيه لبناء الروح، ولضبط شهوات الجسد والفكر والحواس لكي تتقدس حواسنا وأرواحنا وتتنقى أفكارنا.ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
19 أبريل 2021

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السابع من الصوم المقدس

المزمـور: «12أَحْمَدُكَ يَـا رَبُّ إِلهِي مِـنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْـرِ. 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ الْسُفْلَى» (مز 86: 13،12). الإنجيل: «31إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا.32اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.33أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. 34وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. 36وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَـدْ أَرْسَلَنِي. 37وَالآبُ نَفْسَهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِـهِ. 39فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الِّتِي تَشْهَدُ لِي.40وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. 41مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ 45لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟» (يو 5: 31-47). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: إنجيل قدَّاس اليوم يحتاج منَّا إلى شرح. وإن كنتُ أودُّ أن يكون الكلام لأنفسنا؛ ولكن لأن الكلام يظهر كما لو أنَّ فيه نوعاً من التعارُض، لذلك أصبح لِزاماً عليَّ أن أشرحه أولاً. في الأصحاح الخامس (يو 5: 31)، نجد أن الرب يسوع يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا»؛ بينما في الأصحاح الثامن (يو 8: 14)، يقول: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». هنا نجد تعارُضاً ظاهرياً بين الآيتين، لابد أن نحلَّه أولاً. سنشرح الوضع المذكور في إنجيل يوحنا - الأصحاح الثامن. فالمسيح يُقرِّر في شهادته لنفسه أن‍ها حـقٌّ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، أن‍ها شهادة شخصية مُفردة، وذلك في ردِّه على الكَتَبَة والفرِّيسيين الذين كانوا يقولون له: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، في أعقاب قوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ». وكان كلامهم على أساس الناموس الذي يُقرُّ أنه لا تؤخذ شهادة شخصية من شخصٍ بعينه، بل كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَيْن أو ثلاثة. ففي هذه الواقعة يقول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». على أيِّ أساس؟ على أساس مـا ذَكَره الرب لاحقاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِـنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ». هـذه هي الحجَّة التي ذَكَرها المسيح: ”إنني أشهد لنفسي، وشهادتي حقٌّ؛ وأشهد شهادة شخصية، وهي حقٌّ؛ لأني أعلم من أين أتيتُ وإلى أين أذهب!“.هنا يُوضِّح المسيح أنه جاء من عند الله، وإلى الله سيذهب! إذن، فهو من الله. وإذن، هو من الحقِّ، وإلى الحقِّ يذهب. إذن، هو حقٌّ، وهو يشهد للحقِّ! فالحقُّ لا يطلب شهادة من أحدٍ، تماماً مثل النور، الذي يشهد لنفسه. فهل إذا كان النور مُشرقاً، يحتاج لِمَن يشهد أنَّ هذا نورٌ؟! هكذا المسيح، لأنه يشهد للحقِّ، فهو لا يحتاج إلى شهادة إنسانٍ قط! لماذا؟ لأنه هو نفسه جوهر الحق، فأصبح لا يحتاج إطلاقاً أن يشهد له آخر. وفي نفس الأصحاح الثامن، يقول المسيح: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 18). هنا الرب لا يقصد أن هذه شهادة اثنين، ولكن لكي يسدَّ ثغرة الناموس، التي فتحها الكَتَبَة والفرِّيسيون بقولهم: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، قـال لهم: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ». فهي شهادة اثنين بالنسبة لهم؛ أما بالنسبة له، فهو يشهد للحقِّ الذي فيه، والحق الذي في الآب. وبالتالي فهو غير محتاج أن يشهد له شخصٌ آخر. أمَّا في الأصحاح الخامس من إنجيل قدَّاس هذا الصباح، فإنَّ الرب يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا». هنا ينطلق المسيح من مبدأ آخر غير الناموس الذي يُقرُّ أنَّ كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَين أو ثلاثة، هذا المبدأ الهام يُوضِّحه بقوله: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ». فعلى أيِّ أساس يقول المسيح: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ»! بالرغم من معرفتنا جيداً أنه يُطالبنا أن نُمجِّده؟ ذلك على أساس أنه لا يشهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس؛ لأنه إذا شهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس، تكون شهادته حينئذ ليست حقّاً. لماذا؟ لأنه في هذه الحالة يطلب مجد نفسه؛ والذي يطلب مجد نفسه، لا يطلب بالطبع مجد الله! فالمسيح يقول ما معناه: ”إن كنتُ أشهد لنفسي لأتقبَّل مجداً أو كرامةً من الناس، تكون شهادتي ليست حقّاً“. فهو يَعتَبِر أنَّ شهادة يوحنا المعمدان، وشهادة كل الأنبياء، وشهادة موسى نفسه وكل التوراة؛ هي للإعلان عنه، أو لاستعلان مجده فقط. ولكنها جميعها غير قادرة أن تُضيف إليه مجداً. فهو في غير حاجة إلى كلام النبوَّات لتشهد له، لأنه هو بعينه الحق. النبوَّات جاءت لكي يعرف الناس أنَّ المسيح هو الحق، وليس لكي يُزيدوه حقّاً أو مجداً! ولذلك بعد أن قال لهم المسيح: «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ»، أردف قائلاً: «وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فالمسيح في مطلع هذا الأصحاح، يقول: «اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ»، هذا الكلام هو عن ”الآب“. والشهادة إذا كانت حقّاً، فتكون من الآب؛ أمَّا إذا كانت الشهادة للحقِّ، فتكون من يوحنا المعمدان! «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ». لماذا وجَّه المسيح النظر إلى يوحنا المعمدان؟ لقد وجَّه المسيح نَظَرَهم، بل ونَظَرنا نحن أيضاً، إلى يوحنا المعمدان، ذلك لكي يُظهِر أن شهادة يوحنا المعمدان، وكذلك كل الشهادات السابقة عليه، حتى موسى النبي؛ هي شهادات لأجلنا نحن، وليست له هو. ولذلك قال: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فكل ما قاله المسيح، وكل ما عمله، وكل ما شهد به للحقِّ؛ هو من أجلنا نحن، وليس من أجل أن يتمجَّد هو! إذن، أصبح قول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، هي في نظرنا وفي نظر السامعين له، لمجد الله الآب. وبالتالي فتكون شهادته لنفسه حقّاً، لأن‍ها لمجد الآب.أمَّـا إذا كـانت شهادة المسيح لمجد نفسه، فتكون هـذه الشهادة ليست حقّاً. ذلك لأن الفرِّيسيين ات‍هموه أنـه يشهد لنفسه، أي يطلب مجد نفسه، يسعى لمجده الذاتي. وفي الحقيقة هم تكلَّموا ب‍هذا الكلام، لأن‍هم مُلوَّثون بالبر الذاتي، وب‍هذه الأفكار. ولذلك فإنَّ المسيح أَظهر ما في نيَّتهم، وكَشَفَ إيمان‍هم وأعمالهم، وبالتالي أنـذرهم قائـلاً: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟» (يو 5: 44). مُحاصرة المسيح للفرِّيسيين: في الحقيقة، إنَّ مَن يقرأ هـذا الأصحاح (الخامس)، إذا لم يتمعَّن في هذه الآية التي ذُكِرَت آنفاً، سوف لا يفهم الأصحاح كله. فـالرب يسوع حاصر الفرٍِّيسيين من خلال هذه الآية، وكَشَفَ ما في داخلهم: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِـنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟». فوراء هـذه الكلمات معاني مخفية، إذ أنَّ العبادة والإيمان انقلبا عند الفرِّيسيين إلى فرصةٍ لتمجيد ذوات‍هم. فعبادت‍هم ليست عبادةً حقيقية، فهي ليست للحقِّ، ولا من أجل الحقِّ؛ ولكنها عبادة تبتدئ بأنفسهم، وتنتهي إلى أنفسهم! لقد توزَّعت عليهم درجات التكريم والتمجيد من الناس، بل وطالبوا الناس ب‍ها. وبالتالي اهتموا جدّاً بالكرامات الذاتية، والأمجاد الذاتية؛ في الوقت الذي نَسَوْا فيه مجد الله وكرامته! ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». وهذا معناه - بحسب قـول المسيح - إن‍هم تغاضوا عـن مجد الله: «وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ». فَهُم أولاً نَسَوْا مجد الله، ثم بعد ذلك أهملوه، ثم أخيراً أحسُّوا أن‍هم في غير حاجة إليه! وبالتالي لم تبقَ العبادة - بالنسبة لهم - أساسها تمجيد الله، أو السعي لتمجيده، بالتسبيح أو بالصلاة أو بالسجود أو بالترتيل أو بكلِّ أنواع العبادة! فالعبادة كلها التي كان ينبغي أن تَصُبَّ في اتِّجاهٍ واحد، وهو مجد الله؛ أصبحت بكل ما فيها من كلام وتحية وصلاة وتسبيح لأجل مجد ذوات‍هم. وذلك لكي تُظهِر الشخص منهم أنه يعرف أن يُسبِّح بإتقان، ويعرف أن يتكلَّم جيِّداً، ويعرف أن يعظ بتدقيق؛ هذا كله من أجل مجد الشخص الذاتي، وليس مجد الله، ولذلك انتهت العبادة الحقيقية! استحالة أن يتوافق الإيمان الحقيقي مع طلب الإنسان مجده الذاتي: ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا...؟». فيستحيل الإيمان الحقيقي طالما أنَّ الإنسان يطلب مجد نفسه. وبالتالي يستحيل أن يسمح له الله أن يُمجِّده، مهما حاول! هذه نقطة خطيرة يُثيرها المسيح. فهذا الأصحاح من إنجيل القديس يوحنا يُركِّز على هذه النقطة بشدَّة، لأن‍ها في الحقيقة أكبر لوثة لوَّثت العبادة والإيمان، أن يطلب الإنسان تزكية لنفسه، أن يسعى لمجد ذاته. كل هذا مِمَّن يطلبه الإنسان؟ يطلبه من إنسانٍ مثله!! إذا قرأنا في إنجيل القديس متى، نجد ما هو أصعب وأكثر مِمَّا قيل في إنجيل القديس يوحنا، إذ يقول المسيح عـن الكَتَبَة والفرِّيسيين: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِـمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِـمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (مـت 23: 5-7). متطلبات الشهادة للمسيح: ولكن لا يتبادر إلى ذهن أحد، أنَّ المسيح لا يُريد شهادة من إنسان! فهو بالرغم من أنه غير محتاج إلى شهادة من أحدٍ، إلاَّ أننا نحن المحتاجين أن نشهد له. أن نشهد للمسيح بالقول والفكر والعمل، في كل موقف مـن مواقف الحياة: إن أكلنا لابد أن يكون ذلك لتمجيد الله، وإن شربنا كذلك، وإن نمنا، وإن عملنا أي عمل، لابد أن يكون كل ذلك لمجد الله! لماذا؟ لأنه، في الحقيقة، إذا مجَّدنا المسيح أو شهدنا له؛ فنحن نشهد للحقِّ. معنى هذا أنَّ الحق انكشف لنا، أنه استُعلِنَ لأعيننا. فنحن أبناء الإيمان، أولاد الشهداء. فالشهادة للمسيح ينبغي أن تكون عـن وعيٍ تام، ذلك أننا نشهد للحقِّ. فالحق لابد أن يكون مُستَعلَناً لنا تماماً، حتى تكون الشهادة له ذات فاعلية في قلوب الناس وعقولهم.فالإنسان الذي يشهد للمسيح، وهـو لا يُدرك شيئاً كثيراً عنه، فيكون إنساناً بسيطاً وساذجاً! ولكن الشهادة للمسيح عن وعيٍ وإدراك، تحتاج تلمذة لفتراتٍ طويلة قدَّام الإنجيل، وتحتاج لصلواتٍ متواترة، تحتاج لسؤال مَن لهم خبرة في الحياة الروحية... إلخ؛ حتى يستوعب الإنسانُ الحقَّ. أمَّا إذا شهدنا بكلماتٍ لا نعرف معناها ولا عُمقها؛ فهنا نكون كمَن لا يشهد إطلاقاً، إذ تكون شهادة بلا قيمة، وبالتالي لا تُقبَل شهادتنا! المسيح يطلب الذين يشهدون له، وهـو يطلب الساجدين له، وكذلك «الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو 4: 23). المسيح يطلب أننا نُمجِّده ليلَ ن‍هار؛ لأننا إذا مجَّدناه نكون قد وصلنا إلى مفهوم مجد الله، الذي هو يفوق كل أمجاد الدنيا! مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ ولكن، مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أي مجدٍ آخر! يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أمجاد العالم! هذا هو الذي يُمجِّد المسيح. هنا المسيح يطلب الذين يشهدون له، كما قال: «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27،26)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).فالكرازة بالإنجيل هي شهادةٌ، والشهادة تمجيدٌ لاسم المسيح. فالشهادة والتمجيد صنوان عزيزان لا يفترقان أبداً. فكل مَن يشهد يُمجِّد الله، وكل مَن يُمجِّد الله يشهد له. المسيح بعدما صعد إلى أعلى السموات، أرسـل موعـد الآب لكي يشهـد له. لماذا؟ لأن الكرازة بالمسيح ما زالت سارية في العالم، بالروح القدس وبنا نحن! إذا توقَّفت الشهادة، انتهت الكرازة بالمسيح في الأرض كلها، ولذلك قال الرب: «وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18: 8)، أي يجد الشهادة له! ولذلك أين نحن مـن الشهادة للمسيح؟ فالروح القدس لا يمكن أن يقف عاطلاً عن الشهادة للمسيح! والآن، سأسرد الشهادات التي قالها المسيح من أجل خلاصنا: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ» (يو 5: 34)، «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27). فعلى أيِّ أساس نشهد؟ على أساس الشهادة التي شهد ب‍ها المسيح عن نفسه، لأنه هو الحق. وما هو منهج الشهادة؟ نحن لا نشهد من عندياتنا، ولا نخترع شهادةً مُعيَّنة؛ فالرب يسوع هو الذي وضعها كلها! شهادة الرب يسوع عن نفسه: + «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُـوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13). معنى هذا أنَّ السماء انفتحت لنا! + «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 51). معنى هذا أننا نقتني الحياة! + «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51). إذن، فقد انفتحت السماء بعد قرونٍ طويلة! + «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو 6: 54). نحن نأكل جسد الرب ونشرب دمه كل يوم، ولذلك فلنا حياة كل يوم. فنحن لا ننتظر الحياة الأبدية، ولكننا نعيشها منذ الآن! + «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57). نأكلك يا ربنا يسوع المسيح؛ إذن، فنحن الآن أحياء بك وفيك للآب! + «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو 7: 37). من الآن لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه عطشان بالروح أبداً، فالينبوع مفتوحٌ: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 38). تشرب أنت، وتروي الناس العطاشَى! + «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).المسيح كما قـال للسامريـة: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»؛ يطلب منَّا أيضاً أن يشرب، يشرب من صلاتنا، من دموعنا، من قَرْع صدورنا، من سجودنا. فالمسيح ليس عطشاناً للماء الذي تحمله السامرية، ولكنه عطشانٌ لها، لخلاصها؛ فهو عندما رواها من مائه الحي، ارتوى هو! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ... طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34،32). + «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14).مـاء المسيح يروي. إذا دَخَلْتَ في أعماق الكلمة، تروي عطشك لسنين قادمة. الكلمة الواحدة إذا انفَتَحَتْ لك، تعيش ب‍ها طوال العمر! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ» (يو 4: 32).عرِّفنا، يا ربُّ، ما هذا الطعام؟ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). هذا هو الطعام الحقيقي، أن نصنع مشيئة الله. هذا هو غذاؤنا الذي سيرفعنا إلى أعلى! + «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).لقد عرفنا، يا ربُّ، أنه ليست لنا ظلمة! كل مَن يقول إنه يعيش في الظلمة، فهو لا يقول الحق. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه مظلومٌ، لأن معنى أنه مظلومٌ، أي أنه يعيش في الظلمة. نور العالم غير منطفئ أبداً، ولا يمكن أن ينطفئ! + «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46).آمِن بالرب يسوع المسيح، فتنفتح لك العين العالمة بكـلِّ شيء، العين التي ترى وتعرف وتفهم حتى أعماق الله! + «لأَنَّـهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الاِبْـنُ أَيْضاً يُحْيِي مَـنْ يَشَاءُ» (يو 5: 21).نحن موتاك، يا ابن الله، وقد حيينا بك، ونحيا كل يوم! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْـنِ اللهِ» (يو 5: 25).الآن، يـا ربُّ، يا ليته يكون. أيها الأموات، أتسمعون صوت ابـن الله؟ «وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ». هذا وعدٌ، والله لا يحنث بوعده! + «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).مُتنا، يا ربُّ، وحيينا فيك، وكل يوم نموت ونحيا! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يو 5: 24).نعم، قـد انتقلنا، يا ابن الله. فـلا دينونة الآن علينا. نحن قد عبرنا الدينونة، لأننا آمنَّا بك، يا ابن الله. قد سمعنا كلامك، ودخل قلوبنا، فلن يَقْوَى علينا الموت! + «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12: 32).أيها القطب الجاذب، نحن فيك، يا ربُّ، ناظرين إلى فوق، وعيوننا لا ترتخي إلى الأرض! + «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).نعم، يا ربُّ، نحن نسير في طريقك، فلنا فيك حياة. ولا يمكن أبداً أننا نَزِلُّ، لا يميناً ولا يساراً، لأنك أنت هو ”الطريق“. نحن لا نسير على الطريق، أنت الطريق، ونحن نسير بك وفيك! + «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 14: 6).رأيناك، يا ابن الله، في قلوبنا. رأيناك في كلِّ كلمة. رأيناك في إنجيل كل يوم، ورأينا الآب فيك! + «قَالَ يَسُوعُ: ”الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً“» (يو 13: 32،31).المجد الذي لك، يا ابن الله، محفوظٌ لك. ونحن أيضاً مجَّدنا ونصيبنا السماوي محفوظٌ لنا فيك! + «أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو 8: 23).ونحن أيضاً، يا ربُّ، لم نَعُد ولم نَصِر من هذا العالم! + «فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: ”أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ“» (يو 18: 37).نحن نشهد بشهادتك، يا ابن الله، أنك أنت أتيتَ وشهدتَ واعترفتَ الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي! + «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27؛ يو 13: 3).نشكر الله، لقـد انكشفت لنا أعماق الله. انكشفت لنا كـل أسـرار الله الآب في المسيح يسوع. لم نَعُد معوزين شيئاً مـن معرفة كل الأمور التي عند الآب، فقد أخبرنا ب‍ها الرب يسوع. قد صارت لنا السموات منذ الآن كصفحةٍ مقروءة، ككتابٍ مفتوح، نقرأه كل يوم! + «فَـإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُـلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (مت 16: 27).أعمالنا، يا ربُّ، وراؤنا، وأنت أمامنا. قد مَحَوْتَ كل خطايانا كغيمة صيف. نحن أمامك وأمام الآب بلا لوم في المحبة وقدِّيسون! + «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت 25: 31-34).كل الذين باركوا الآب، سيجلسون عن يمينه، وسيُقال لهم: «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ»! نُباركك، يا ابن الله، ونبارك أباك الصالح، كل يوم وكل لحظة! + «دُفِعَ إِلَيَّ كُـلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ...» (مت 28: 19،18).يقـول المسيح: ”بسلطاني، بالكلمة التي سأنطقها في أفـواهكم، بـالروح الذي سأسكبه على ألسنتكم؛ سوف تذهبون وتكرزون“! «هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي» (لو 24: 49). يا أحبَّائي، انظروا، هـذه هي شهادات المسيح عن نفسه. انظروا كيف أن‍ها كلها تنطق بمجده، مع أنه لا يطلب من ورائها مجداً لنفسه!وفي كل هذه الشهادات التي شهدها المسيح، يَصدُق قوله: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». ففي كل آية من هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً، تكمن زاوية من زوايا خلاصنا.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل