المقالات

07 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس صفنيا

صفنيا " اطلبوا البر. اطلبوا التواضع لعلكم تسترون فى يوم سخط الرب "" صف 2: 3 " مقدمة فى تقليد قديم، أن المسيح وهو خارج من مدينة أورشليم، سقط بصليبه أمام أحد البيوت هناك،... وخرج من البيت صاحبه ليصيح بكل قسوة فى وجه السيد: قم أعبر من هذا المكان!!.. ونظر إليه السيد متألما محزوناً وقال ّ: وأنت أيضاً ستعبر،... هذا هو اليهودى التائه فى كل العصور كما يصوره التقليد القديم، والذى لا يمكن أن يعرف الراحة أو يجدها ما لم يعد إلى السيد الذى رفضه وصلبه!!.. وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح،. فإن المؤكد أن مغزاها صحيح وسيبقى صحيحاً حتى يعود اليهودى مرة أخرى إلى يسوع المسيح!!.. إن النداء المشترك لجميع الأنبياء فى العهد القديم لليهود وغير اليهود، هو أن الخطية قاتلة ورهيبة ومدمرة، وأنه لا يمكن أن يفلت من عقابها مخلوق على ظهر هذه الأرض،.. وأن السبيل الوحيد لخلاص الإنسان منها هو الإيمان برحمة اللّه وحنانه وحبه، والعودة إليه بالتوبة الصادقة الكاملة،... وإذا كان بعض الأنبياء، قد ركزوا نبواتهم على الأمم الخاطئة فإن البعض الآخر كان أكثر تركيزاً على خطية اليهود وإثمهم وشرهم،.. وقد تناول صفنيا الاثنين. ولكن اهتمامه الأكبر كان بخطية يهوذا وأورشليم وأنه لا أمل أو رجاء للخلاص من يوم الغضب، يوم العقاب إلا بالتوبة والعودة إلى اللّه،... وقد مد الرجل بصرنا إلى اليوم الأخير، يوم الدينونة الأبدى الذى سيفرق تفرقة نهائية بين الأشرار والأبرار،... ولعلنا بعد ذلك نستطيع متابعة الرجل فيما يلى: صفنيا ومن هو لا يكاد يعرف الشراح ودارسو الكتاب شيئاً عن صفنيا النبى، خارج ما جاء فى سفره ونبوته، ومع ذلك فالعبارات التى ذكرت عنه، كافية لأن تكشف لنا شخصية عظيمة، لعلها كانت من أبرز وأعظم الشخصيات المعروفة فى عصرها، فنسبه يرجع فى الجيل الرابع إلى حزقيا الذى يرجح أغلب المفسرين أنه ملك يهوذا العظيم، ولذا فمن المعتقد أنه كان واحداً ممن جرى فيهم الدم الملكى، والاسم، صفنيا معناه: « الرب يخبئ » أو « الرب يحرس » ويشير إلى الشخص الذى يخبئه الرب ويحرسه فى يوم الخطر والدمار، وحيث أنه تنبأ فى أيام يوشيا الملك فمن المحتمل أن نبوته كانت بين عامى 639 - 608 ق. م، ومع أن أحداً لا يعلم على وجه التحقيق هل كانت نبوته قبل إصلاح يوشيا أم بعده، غير أنه معظم المفسرين المحدثين أمثال ديلتش وروبنسون وكيركبترك، يعتقدون أنه تنبأ قبل الإصلاح ومن المحتمل أن ذلك كان عام 625 ق. م. وعندما بدأ صفنيا نبوته كانت الأمة الأشورية قد أخذت فى التراجع والتقهقر، بعد أن بلغت قمة مجدها، أمام الكلدانيين الذين قاموا بغزواتهم الواسعة فى غرب آسيا، وابتدأ نجمهم يعلو ويرتفع ويسود بسرعة خاطفة وقوة مذهلة!!.. وأسلوب صفنيا يتميز بالصراحة والعنف والقوة والوضوح، ولئن كانت رسالته قد وجهت أولا إلى يهوذا وأورشليم، فإنها قد امتدت بعد ذلك إلى الأمم المجاورة، وأوغلت مع الزمن حتى بلغت يوم الرب الذى كان خراب أورشليم بمثابة رمز وظل ونبوة له... والبعض يقول إنه ربما لا يوجد فى الكتاب ما يعدل نبوته حزناً وألماً، وعلى أى حال فإن الرجل قد صور شناعة الخطية وعقاب اللّه لها، وكان أكثر الأنبياء والرسل فى الحديث عن يوم الرب، ويوم الرب إذا كان يشير مبدئياً إلى العقاب الذى ألم بأورشليم والممالك التى حولها، فإنه يرمز أساساً إلى اليوم الأبدى المخوف بين يدين اللّه المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة، وحين يظهر الأرض من كل النجاسات والمفاسد، ويقيم العصر المجيد الذى تنزل فيه أورشليم السماوية من عند اللّه كعروس مزينة لرجلها!!.. وحين يحكم اللّه حكمه الأبدى فى المجد العتيد!!.. صفنيا وخطية يهوذا وأورشليم والممالك التى حولهما كان أساس الخطية - كما يفهمها صفنيا - الارتداد عن اللّه: « والمرتدين من وراء الرب » "صف 1: 6 " ومن الملاحظ أن هذا الارتداد جمع بين عبادة البعل، وعبادة اللّه، بين « الكماريم »، وهم الكهنة الذين يلبسون ثياباً سوداء فى خدمة البعل، وكهنة إسرائيل،... ولا مانع عند العابدين من عبادة النجوم والكواكب من فوق السطوح، وعبادة اللّه: والحلف باسم ملكوم،... والحلف باسم اللّه،... هذه الصورة تتحول فى كل العصور إلى ذلك الخلط الذى لا يبعد اللّه تماماً، محاولا أن يرضى النزعة الدينية التى لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها إذ الأبدية فى قلبه، ولكن لا مانع من تحويل مجراها إلى الوثنية والخرافة والحماقة التى تتباعد عن اللّه وحقه وقصده ورغبته ومجده، ومن هنا نجد صفنيا يصف يهوذا وأورشليم بالأمة « التى لم تتقرب إلى إلهها » " صف 2: 2 "... ولعل ماكتبه اسبرجن هنا يعد من الروائع، إذ قال: « كثير من الصلوات لا تعتبر صلوات!!. يوجد كلام كثير عن الحق، وكلام كثير لما ينبغى أن نفعله، ولكن ليس هناك سؤال عن اللّه، وليس هناك ذهاب إلى المخدع، وبسط الأمور أمامه، وانتظار رحمته،... ليس هناك فكر عن اللّه لأن العقل ليس قريباً منه، والرغبات تتجه نحو آلاف الطرق المختلفة، لكنها لا تأتى إلى اللّه... ينبغى أن نفكر فيه، ينبغى أن نبحث عنه، ينبغى أن نأتى إليه، كما تأتى الفراخ الصغيرة، عندما يكون صقر فى الجو، وتسمع نداء أمها فتأتى لتحتمى تحت جناحيها، ينبغى أن نجرى إليه بالصلاة حتى يمكن أن نتحقق أنه « بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى ترس ومجن حقه » " مز 91: 4 " إن مأساة أورشليم أن عقيدتها فى اللّه وصلت إلى الحد الذى كان فيه الناس يقولون بقلوبهم - وإن كانوا لا يذكرون ذلك بألسنتهم -: « إن الرب لا يحسن ولا يسئ » " صف 1: 12 " أو كأنما هو لا يهتم بالتفريق بين الخير والشر، والحق والباطل،... وأنه لا يتدخل ولا يبالى بما يحدث على الأرض، ومن المؤسف أن هذه هى الخطية التى نبصرها اليوم، فى أناس قد يكونون مسيحيين إسماً، وبينهم وبين نفوسهم، أن اللّه لا سلطان له ولا عمل بين البشر!!.. كانت مدينة أورشليم، وهى على هذه الحال، تظن أنها أفضل من غيرها، ولكن صفنيا يصفها بالقول: « ويل للمتمردة النجسة المدينة الجائرة »... " صف 3: 1 " أو فى لغة أخرى، هى المدينة الغارقة فى إثمها وشرها وشهواتها، الجامدة على دروبها أى الشبيهة بالخمر العكرة التى رسب عكارها، فلم تنتقل من إناء إلى إناء لتتنقى!!.. وليس هذا فحسب، بل أكثر من ذلك، أن القادة والرؤساء فى وسطها أشبه بالأسود الزائرة فى قسوتهم،... ولعل أقسى ما تصاب به أمة أن يكون رؤساؤها قسوة القلوب، غلاظ المشاعر،... أما القضاة، فقد كانت شراهتهم لا توصف، إذ كانوا أشبه بذئاب المساء التى تنقض على الفريسة لتأكلها لحماً وعظماً،... ولا تبقى منها شيئاً إلى الصباح،... ولنتصور عالماً يكون قضاته على هذا الوصف، فهل ينصح بعد ذلك، إلا ظلماً وفساداً وشراً وإثماً... أما الأنبياء فهم متفاخرون، أهل غدوات، والكلمة « متفاخرون » تعنى أنهم يتكلمون من أنفسهم، بدون رسالة من الله،... وبذلك يغدرون بالشعب، وما أشر أن ينطق النبى عن الهوى والخداع، إذ يعيش المجموع بذلك فى عالم من الأضاليل والأباطيل، أما الكهنة فهم منجسون إذهم نجسون بأعمالهم وتصرفاتهم، كما أنهم خالفوا الشريعة فى نظمها وفرائضها ووصاياها... وهل يرى اللّه هذا ويسكت وهو الإله العادل الذى لا يفعل ظلماً، ووشيكاً سيظهر حقه وعدله كالنور؟!!.. على أن اللّه، وقد صب سخطه على خطايا يهوذا وأورشليم، لا يمكن أن يترك خطايا الممالك والبلاد التى حولهما، … إن الخطية خطية فى نظر اللّه، سواء يرتكبها اليهودى أو الأممى، فإذا كان اللّه قد ابتدأ ببيته، « فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟... " 1 بط 4: 18 ".. وهو هنا يندد بخطايا الفلسطينين فى مدنهم الرئيسية، غزة، وأشقلون، وأشدود، وعقرون، وساحل البحر، ويتحول إلى كبرياء الموآبين وبنى عمون، والكوشيين، وأشور - لأن اللّه لا يمكن أن يسكت على الشر أو يتهاون مع الإثم!!.. صفنيا والتوبة الصحيحة عندما قامت الحرب العالمية الأولى، فتح اللورد غراى " وكان وزير خارجية إنجلترا فى ذلك الوقت " النافذة، وصاح: « على الدنيا السلام »، وأخذ يسأل نفسه: ترى هل نهضت بريطانيا متأخرة أم ضاعت الفرصة؟! وربما سأل تشرشل نفسه هذا السؤال، وهو يتحدث فى الحرب العالمية الثانية عن العرق والدم والدموع!!... ولعل هذا السؤال كان فى ذهن يوشيا الملك وصفنيا النبى، وهما يواجهان خطية الأمة ووثنيتها وشرها وفسادها الذى وصل - كما يقولون - إلى النخاع، وكان السؤال: هل ثمة من رجاء؟!!.. لقد سارع يوشيا بالإصلاح، على النحو الذى استطاعه، وكان بطلا دون شك،... ولكن يبدو أنه جاء متأخراً، وربما كان عابس الوجه والحياة، وهو يقوم بالجهد فى اللحظات الأخيرة،... ولعل صفنيا كان يراقبه فى جهده الكبير، ولكن أغلب الظن أنه كان أكثر تشاؤماً،... فإذا كان الإثنان ينتسبان إلى الملك حزقيا،... فإنها المأساة القاسية، إن واحداً آخر من السبط الملكى، يرى أمته تتجه نحو الخراب بجنون دون أن يتمكن أحد من وقف الكارثة،... إن إصلاح الشعوب، لا ينبغى أن يتناول المظهر، ويهمل الحقيقة، ولا ينبغى أن يتعلل بالشكل، دون الجوهر، أو بالصور المادية دون الروح،... ولعل ما قاله صموئيل شوميكر، وهو يصف أمريكا فى كتابه: « كيف تصبح مسيحياً »، يوضح هذه الحقيقة إذ يقول: « يخيل إلى مرات كثيرة أن الحياة ضاعت من نفس أمريكا، فالحرية التى كانت يوماً غايتنا وشهوتنا، أضحت اليوم ملكنا وفسادنا،... ولابد أن يحدث شئ ثورى فى نفس الأمة، كما حدث فى البلاد التى اكتسحتها الشيوعية،... فإذا كانت هذه البلاد قد فرضت عليها الثورة من الخارج، فإننا ينبغى أن نصنع ثورتنا من الداخل،... ومن واجبنا أن نتبصر الشر الذى يجرى فى العالم، والروح الشريرة فى الشيوعية التى ترغب فى استعباد العالم،... ما هى وماذا تعنى!!؟ غير أننا لا ينبغى أن نقصر النظر على ذلك، بل علينا أن نعرف ماذا أصاب أمريكا من فساد واستباحة ومادية، ولا دينية تنخر فى عظام الأمة،... فالفساد من الداخل، والشيوعية من الخارج يمكن أن يدمرانا، ما لم نردعهما، إنهما يحملان معول التدمير، إنهما يعمياننا عن الحق، ويخدران شبابنا... وخط دفاعنا الأول عن أمريكا لا يمكن أن يكون بعيداً عن أخلاق وإيمان شعبنا »... وهذا يتفق مع ما قاله أمريكى آخر: « إن ما تحتاج إليه الشعوب هو ضمير جديد، ليس ذاك الذى يحاول أن يجد عذراً أو تبريراً لما تفعل، بل الذى يقرر المبادئ التى يلزم أن تنهجها قبل أن تفعل شيئاً،... فأغلب الشعوب - القديمة كيهوذا والحديثة كأمريكا - تعتقد أن ما تفعله دائماً هو الصحيح، وأن ما يفعله أعداؤها دائماً هو الخطأ، وهذا لا يمكن أن يكون الواقع والحق!!... وقد صلى أحد الأمريكيين قائلا: « أبانا السماوى، نحن نصلى أن تنقذنا من نفوسنا. فإن العالم الذى صنعته لنا لنعيش فيه بسلام، قد حولناه إلى معسكر مسلح، إذ نعيش فى خوف دائم من حرب قادمة... ونحن نخاف: « من سهم يطير فى النهار ومن وبأ يسلك فى الدجى ومن هلاك يفسد فى الظهيرة »... ردنا عن طريق أنانيتنا فقد كسرنا وصاياك وأنكرنا حقك، وتركنا مذابحك لنخدم الآلهة الكاذبة من المال والشهوة والقوة،... سامحنا، وساعدنا!!.. فالظلام يتجمع من حولنا ونحن حائرون فى مشورتنا، وإذ فقدنا الإيمان بك، فقدنا الإيمان بأنفسنا،... هبنا الحكمة جميعاً من كل لون أو جنس أو عقيدة، لنستعمل ثروتنا وقوتنا لمساعدة إخوتنا بدلا من تدميرهم، وساعدنا لنتمم مشيئتك كما فى السماء، ولنكون أهلا لوعدك بالسلام على الأرض، واملأنا بإيمان جديد، وقوة جديدة، وشجاعة جديدة لنكسب معركة السلام.. اللهم أسرع إلينا لإنقاذنا قبل أن يحل الظلام!! ».. لم تكن التوبة الصحيحة أيام صفنيا قائمة، ولأجل ذلك لم يتحدث عن عودة من السبى كغيره من الأنبياء، بل تحدث فقط عن بقية انتزع اللّه كبرياءها وتعديها،فأضحت شعباً مسكيناً بائساً يتوكل على الرب: « بقية إسرائيل لا يفعلون إثماً ولا يتكلمون بالكذب ولا يوجد فى أفواههم لسان غش » " صف 3: 13 " ومثل هؤلاء لن يتركهم اللّه، بل بالحرى يفيض عليهم بالبركات والإحسان، فلن يعودوا إلى الاضطراب والقلق والخوف، فاللّه سيكون لهم وفى وسطهم معطياً إياهم بركات التوبة، بركة الترنم والهتاف، بركة القوة فلا ترتخى أيديهم ولا تخور عزائمهم، بركة التعالى والسمو، فلن يكون بينهم متعثر ضعيف مكسور ذليل!!... إن الذين يتوكلون على اللّه لا يمكن أن يصب عليهم حكماً أو قضاء، أو يرسل عليهم من يضايقهم أو يتعبهم، كلا فقد نزع الرب، الأقضية عليك، أزال عدوك ».. " صف 3: 15 " أما الذين ذهبوا إلى السبى، وتاقت نفوسهم إلى بيت اللّه وهيكله، وكانوا محزونين، بل يحسون العار الذى جاء عليهم بسبب الخطية، فهؤلا يقول عنهم: « اجمع المحزونين على الموسم. كانوا منك. حاملين عليها العار » " صف 3: 18 " ويدعوهم إلى الفرح والبهجة والترنم!!.. لأن الرب عاد إليهم ويسكن فى وسطهم!!.. صفنيا ويوم الرب على أن الصورة الأخرى التى رسمها صفنيا عن يوم الرب، كانت صورة رهيبة مرعبة، أخذت شكلها الأول فى غزو الكلدانيين والذى كان مخيفاً إلى أبعد الحدود، وقد وقف هذا الغزو على أبواب أورشليم ويهوذا، على أبشع ما يمكن أن يتصوره الإنسان: « نزعاً أنزع الكل عن وجه الأرض يقول الرب. أنزع الإنسان والحيوان. أنزع طيور السماء وسمك البحر والمعاثر مع الأشرار، وأقطع الإنسان عن وجه الأرض يقول الرب. وأمد يدى على يهوذا وعلى كل سكان أورشليم ».. " صف 1: 2 - 4 "« قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جداً. صوت يوم الرب. يصرخ حينئذ الجبار مراً. ذلك اليوم يوم سخط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضباب، يوم بوق وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرف الرفيعة، وأضايق الناس فيمشون كالعمى لأنهم أخطأوا إلى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلة، لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم فى يوم غضب الرب، بل بنار غيرته تؤكل الأرض كلها. لأنه يصنع فناء باغتاً لكل سكان الأرض!!.. » " صف 1: 14 - 18 " « لذلك فانتظرونى يقول الرب إلى يوم أقدم إلى السلب لأن حكمى هو بجمع لأمم وحشر الممالك لأصب عليهم سخطى كل حمو غضبى، لأنه بنار غيرتى تؤكل كل الأرض »... " صف 3: 8 ". ولعل من اللازم أن نشير هنا إلى أن ما تحدث به صفينا كان هو بعينه الذى تحدث عنه الرب يسوع المسيح فى الأصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى، والذى كانت فيه أورشليم وخرابها الرهيب القريب، رمزاً لذلك الخراب النهائى الشامل الذى سيلحق الأشرار فى اليوم الأخير،... وذكره الرسول بطرس فى قوله: « يعلم الرب أن ينفذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين » " 2 بط 2: 9 "... وجاء فى رسالة يوحنا الأولى: « بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة فى يوم الدين لأنه كما هو فى هذا العالم هكذا نحن أيضاً " 1 يو 4: 17 " »... وفى سفر الرؤيا: « لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف » " رؤ 6: 17 ".. ولئن كان هذا اليوم يوم نجاة وسرور للمؤمنين، فما أرهبه وما أقساه على الأشرار! كما سبقت الإشارة فى وصفه، أو كما ذكر الرسول بولس فى رسالته إلى أهل تسالونيكى: « وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته فى نار لهيب معطيا نقمة للذين لا يعرفون اللّه والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدى من وجه الرب ومن مجد قوته. متى جاء ليتمجد فى قديسيه ويتعجب منه فى جميع المؤمنين» " 2 تس 1: 7 - 10 ".. إن يوم الرب بالحقيقة إذا كان للأشرار قديماً أو حديثاً أو فى النهاية عقاباً وعذاباً وضياعاً، فهو للمؤمنين أغنية ومجد وسلام، أو كما قال المرنم فى المزمور الثامن والتسعين: « اهتفى للرب يا كل الأرض اهتفوا ورنموا وغنوا، رنموا للرب بعود. بعود وصوت نشيد. بالأبواق وصوت الصور اهتفوا قدام الملك الرب. ليعج البحر وملؤه المسكونة والساكنون فيها. الأنهار لتصفق بالأيادى، الجبال لترنم معاً، أمام الرب، لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة.
المزيد
06 يوليو 2022

مقاييس الخدمة ونجاحها ج2

4- كثرة المخدومين كما تتميز عظمة قائد في جيش، بأنه قائد مائة أو قائد ألف. وهكذا كلما زاد عدد المخدومين، يعتبرون هذا دليلًا على نجاحها ونموها. وقد يكون الأمر كذلك فعلًا، ولكنه ليس مقياسًا ثابتًا بصفة مطلقة فليس نجاح الخدمة في كثرة عدد المخدومين، وإنما في الذين غيرت الخدمة حياتهم، وأوصلتهم إلى الله السيد المسيح كان يعظ آلاف كما في الخدمة الروحية التي سبقت معجزة الخمس خبزات والسمكتين. وكانت له خدمة أخرى مركزة في الإثنى عشر، وكانوا أهم من تلك الآلاف بكثير، بل هم الذين جذبوا إلى الإيمان مدنًا وأقطارًا فيما بعد. وجميل قول الكتاب في نجاح خدمة هؤلاء "وكان الرب في كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون (أع2: 47). إذن ليس نجاح الخدمة في عدد الذين يسمعون، إنما في عدد الذين يقبلون الكلمة بفرح، وتثمر فيهم، وتقودهم إلى التوبة، وإلى حياة القداسة والكمال.ومن هنا كنا ننادي بفصول مدارس الأحد المحدودة العدد، التي يستطيع فيها المدرس أن يهتم بكل تلميذ، ويخدمه خدمة حقيقية ناجحة، ويفتقده ويرعاه.وبنفس الوضع عملنا على تقسيم الإيبارشيات إلى مناطق محدودة يستطيع الأسقف أن يرعاها ويزورها، ويهتم بكل مدينة فيها وكل قرية، ولا تضيع تلك المدن والقرى وسط المسئوليات الضخمة التي كان يكلف فيها المطران برعاية بضع محافظات!! وقد أرانا الرب بأمثلة عديدة أهمها العناية بالفرد الواحد في الخدمة، كما فعل زكا (لو19) وأيضًا مع نيقوديموس (يو3) ومع المولود أعمى (يو9) وغيرهم البعض يضع مقياسًا آخر لنجاح الخدمة هو: 5- كثرة الإنتاج. كالقيام بعدد كبير من الخدمات، أو إنشاء عدد كبير من فروع الخدمة، أو من الأنشطة وقد يتوه في كل ذلك، ولا يحسن الإشراف على كل تلك الأنشطة، أو يضطر إلى تعيين عدد من الخدام بغير إعداد. وتفقد الخدمة روحياتها بكثرة اتساعها وقلة عمقها.. إذن ما هي المقاييس السليمة لتقييم الخدمة؟ وما هي عناصر القوة في الخدمة؟ 6- عناصر القوة في الخدمة أهمية الخدمة هي ما فيها من قوة ومن عمق، وما فيها من حب وبذل. ما فيها من تأثير، ومن تغيير للناس. وليس الأمر مسألة ضخامة المسئوليات، أو شهرة المكان، أو كثرة المخدومين، أو طول مدة الخدمة، وسائر هذه الأمور الجانبية وسنحاول هنا أن نتناول بالتفصيل بعض نواحي القوة في الخدمة، فنذكر منها: أ‌- الكلمة المؤثرة ظهرت هذه في خدمة السيد المسيح له المجد انظروا دعوة متى الإنجيلي مثلًا: يقول الكتاب "وفيما هو مجتاز رأى لاوي بن حلفى جالسًا عند مكان الجباية، فقال له اتبعني. فقام وتبعه" (مر2: 14) (مت9: 9).. إنها مجرد كلمة قالها لإنسان جالسًا في موضع مسئولية مالية. قالها الرب له، فترك مسئوليته، وقام وتبعه، دون أن يسأل إلى أين؟ ونفس قوة الكلمة وتأثيرها في الدعوة.. ظهرت في دعوة الرسل الأربعة الصيادين.يسجل ذلك القديس مرقس الإنجيلي فيقول"وفيما هو يمشي عند بحر الجليل، أبصر سمعان وأندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر – فإنهما كانا صيادين – فقال لهما يسوع هلمَّ ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس. فللوقت تركا شباكهما وتبعاه. ثم اجتاز من هناك قليلًا، فرأى يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه، وهما في السفينة يصلحان الشباك، فدعاهما للوقت، فتركا أباهما زبدي في السفينة مع الأجراء، وذهبا وراءه" (مر1: 16 – 20).بتأثير قوة الدعوة، تركوا كل شيء، وللوقت.. أي بدون تردد، وبدون إبطاء، وبدون جدال، تركوا السفينة والشباك والأب، ومصدر الرزق. بل قال بطرس للرب ملخصًا كل ذلك".. تركنا كل شيء وتبعناك" (مت19: 27).. ذلك لأن كلمة الدعوة كانت لها قوتها، فحدثت الاستجابة لها بسرعة، لأنها اخترقت القلب والفكر والإرادة.وكما كانت قوة الكلمة في الدعوة، كانت للسيد أيضًا قوته في الوعظ والتعليم لما أكمل عظته على الجبل، قيل عنه "بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يكلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت7: 28، 29). وقيلت نفس العبارة عن تعليمه في كفر ناحوم "فبهتوا من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مر1: 22) وكانت له قوة الكلمة في إقناعه من يحاورهم إنه المنطق العجيب والدليل القوي الذي شرح به للكتبة والفريسيين جواز فعل الخير في السبوت (مت12: 1- 12). وكذلك في موضوع القيامة، قيل إنه "أبكم الصدوقيين" (مت22: 34). وبعد ردوده القوية على الناموسيين والفريسيين، قيل "فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله البتة" (مت22: 46) والكلمة كان لها تأثيرها أيضًا في عاطفيتها وحبهامثل قوله لزكا العشار "أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك" (لو19: 5).. كلمة في عمق محبتها وتواضعها قادت ذلك الرجل الخاطئ إلى التوبة، فقال "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين. وإن كنت قد وشيت بأحد، أرد أربعة أضعاف".. وهكذا بكلمة من الرب لها قوتها، حدث خلاص لذلك البيت.إن قوة الكلمة المؤثرة نراها أيضًا في خدمة آبائنا الرسل. عظة واحدة ألقاها بطرس الرسول في يوم الخمسين، كانت نتيجتها أن اليهود نُخسوا في قلوبهم، وانضم إلى الإيمان ثلاثة آلاف نفس، واعتمدوا جميعهم (أع2: 37- 41). وقبلوا ذلك بفرح.وقوة الكلمة تظهر في خدمة بولس الرسول أيضًا. حتى أنه وهو أسير يُحاكم أمام فيلكس الوالي، "بينما يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة، ارتعب فيلكس الوالي" (أع24: 25). وفي محاكمته أمام أغريباس الملك، قال له ذلك الملك "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" (أع26:28). ب‌- قوة البذل البعض قد يستريح للخدمة السهلة التي لا تعب فيها ولا صعوبة. ولكن قوة الخدمة تظهر في صعوبتها واحتمال هذه الصعوبة، بكل بذل وفرح.مثال ذلك خدمة القديس بولس الرسول "تعب وكدّ، في أسهار مرارًا كثيرة، في جوع وعطش.. في برد وعُري.. بأسفار مرارًا كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر.." (2كو11: 26، 27) "في صبر كثير، في شدائد في ضرورات في ضيقات، في ضربات في سجون، في اضطرابات في أتعاب، في أسهار في أصوام" (2كو6: 4، 5) ومع ذلك يقول: "كحزانى ونحن دائما فرحون" (2كو6: 10) الخدمة الروحية تعب من أجل الرب وملكوته، وهي جهاد وتعب من أجل خلاص النفس. وقيل عنها"كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (1كو3: 8). وهكذا كانت خدمة الآباء الرسل. بدأت وسط اضطهادات الرومان، ودسائس اليهود، ومعارضة وشكوك الفلاسفة الوثنيين، وعذابات الاستشهاد، وفي أماكن جديدة، لا مؤمنون فيها ولا كنائس ولا أية إمكانيات.. وبلا كيس ولا مزود.وكمثال لذلك: خدمة القديس مار مرقس الرسول دخل الإسكندرية، فقيرًا بحذاء ممزق، حيث لا مسيحيون هناك، ولا كنائس، بل توجد ديانات عديدة: منها آلهة الرومان بقيادة جوبتر Jupiter، وآلهة اليونان بقيادة زيوس Zeus، والعبادات الفرعونية بقيادة آمون ورع، وكذلك اليهودية في اثنين من أحياء الإسكندرية. ومكتبة الإسكندرية الحافلة بمئات الآلاف من كتب الوثنيين.. وعدم وجود أية إمكانيات على الإطلاق. ولكن مار مرقس صبر وجاهد، حتى حوّل الجميع إلى مسيحيين ماذا نقول أيضًا عن الذين بشروا في بلاد أهلها من أكلة لحوم البشر؟! إن الخدمة التي يبذل فيها الإنسان ويتعب، هي الخدمة الحقيقية ومقياس التعب والبذل، هو مقياس أساسي في الخدمة مثال ذلك خادم يتعب ويحتمل من أجل تهذيب تلميذ مشاكس في فصل، أو أم تتعب في تربية ابن عنيد، أو كاهن يتعب في خدمة أو في رعاية الحالات الصعبة، أو في المشاكل العائلية المعقدة مقياس آخر للخدمة هو عنصر العمق.. ت - عنصر العمق أعمال عظيمة قام بها أنبياء ورسل في خدمة. ولكن لا يوجد واحد منها يوازي طاعة أبينا إبراهيم في ذهابه لتقديم ابنه الوحيد محرقة للرب.. (تك22) هنا عمق معين يعطي لعمله وزنًا خاصًا وقيمة ليست لأي عمل آخر. هنا إيمان وبذل، ومحبة نحو الله أكثر من محبته للابن الوحيد ابن المواعيد. وكثيرون قدموا عطايا مالية لبيت الله. ولكن فاقت كل هؤلاء الأرملة التي ألقت الفلسين في الصندوق. وعمق عطائها أنه كان من أعوازها (لو21: 4) وما أكثر الذين حاربوا حروب الرب بقوة وانتصروا. ولكن فاق كل هؤلاء تقدم الصبي داود بحصاة في مقلاعه ليحارب بها جليات الجبار الذي أخاف الجيش كله.. لقد كان في تقدمه للمحاربة إيمان عميق بأن الحرب للرب، والله هو الذي سيدفع ذلك الجبار إلى يديه (1صم 16).إنك قد تلقي مائة درس في مدارس الأحد. ولكن كلها لا تكون عند الله مثل مرة واحدة كنت فيها مريضًا ومرهقًا، ومع ذلك لم تستسلم لهذا العذر، وذهبت إلى الخدمة مفضلًا الخدمة على نفسك أو أنك ذهبت لتخدم في أيام امتحان، وأنت محتاج إلى كل دقيقة من وقتك.. هنا للخدمة عمق خاص. إن الله لا يقيس الخدمة بكثرتها، وإنما بعمقها ونوعيتها. هناك مقياس آخر لعمق الخدمة هو: الخدمة في الخفاء. ت‌- الخدمة في الخفاء الخدمة المُخفاة تكون أعمق من الخدمة الظاهرة. الخدمة الظاهرة قد ينال منها الخادم شهرة أو مديحًا. وهكذا لا تكون كلها للمخدومين أو لله كما هو الحال في الخدمة المخفاة. ومع ذلك فالخدمة الخفية قد تكون أقوىإن الناس يعجبون بالبناء الشاهق الجميل في منظره وفي هندسته. ولا يتحدثون إطلاقًا عن الأساس القوى المخفي تحت الأرض، الذي يحمل هذا البناء كله، ويعمل عمله في خفاء والناس يعجبون بلمبات الإنارة التي تبهرهم بضوئها. ولا يفكر أحد في المولد الكهربائي الذي يغذي هذه اللمبات بالنور، والذي لولاه ما كانت تضئ. ويقينًا هو العنصر الأقوى والأساسي. وبنفس الأسلوب قد يعجب الناس بالسيارة الفخمة في منظرها الخارجي، أما الموتور القوي الذي يحركها فلا يفكر فيه أحد، لكنه يعمل عمله في خفاء وهكذا في الخدمة، قد يعجب الناس بنجاحها وبمجهود الخادم فيها. ولا أحد يفكر في الصلوات التي رُفعت من أجلها، وكانت السبب في نجاحها.. هذه الصلوات هي الخدمة الخفية القوية. كلنا نذكر سفر لعازر الدمشقي للحصول على زوجة مؤمنة لإسحق ابن سيده إبراهيم، وكيف نجح في مهمته، وعاد معه برفقة. ولكن من يذكر صلوات إبراهيم التي رفعت من أجل لعازر الدمشقي، وكانت السبب في نجاحه. ولذلك قال ذلك العبد الأمين لأهل رفقة "لا تعوقوني والرب قد أنجح طريقي" (تك24: 56). وكيف أنجح الرب طريقه؟ يرسل ملاكه معك وينجح طريقك" (تك24: 40) حقًا إن الصلاة هي خدمة مخفاة وهكذا قال القديس بولس الرسول لأهل أفسس "مصلين بكل صلاة وطلبة.. لأجل جميع القديسين ولأجلي، لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي" (أف6: 18، 19).كلام الواعظ هو الخدمة الظاهرة. أما أمثال صلاة أهل أفسس فهي خدمة مخفاة. يضاف إليها في أيامنا، خدمة الافتقاد التي تأتي بسامعين يسمعون العظة.. وكذلك خدمة كل الذين يرتبون للاجتماع وينظمونه الاجتماعات العامة خدمة ظاهرة. ولكن تقبل الاعترافات وقيادة الخطاة إلى التوبة هي خدمة مخفاة وقد يوجد في إحدى الكنائس كاهنان: أحدهما يعظ ويحضر الكثيرون لسماعه، وخدمته ظاهرة للكل. بينما زميله الآخر ليست له اجتماعات للوعظ. ولكنه يقضي الساعات الطويلة يستمع إلى الاعترافات، ويقود المعترفين إلى التوبة، ويرشدهم، ويصلي لأجلهم. وخدمته هذه عميقة الأثر جدًا.. وهكذا كان القمص ميخائيل إبراهيم.وربما من أمثلة الخدمة المخفاة: العمل الفردي. ج‌- العمل الفردي إن خدمة المجموعات الكبيرة لها صفة العمومية. وقد تحدث تأثيرًا عامًا، لا تتلوه متابعة.. أما الخدمة الفردية، ففيها التخصص، وفيها المتابعة. وهذا أعمق. انتقل الآن إلى خدمة أخرى هي:- ح‌- الخدمة الصامتة وأعني بها خدمة القدوة. وهي خدمة عملية.وليس فيه الحديث عن الفضيلة والقداسة، وإنما تقديم النموذج أو المثال العملي لها، بدون شرح أو كلام. وهي خدمة أكثر عمقًا، حتى إن كان صاحبها لا يُحسب بين الخدام. إنه ليس واعظًا، ولكنه هو نفسه العظة، يتعلم الناس من حياته لا من كلماته. وإن تكلم يتعلمون منه أسلوب الكلام الروحي.يذكرني هذا النوع من الخدمة بأحد الآباء الذي لم يطلب من القديس الأنبا أنطونيوس كلمة منفعة، وإنما قال له "يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبي..".ولعله من هذا النوع تنبثق خدمة أخرى هي:- خ‌- خدمة البركة كما قال الرب لأبينا إبرآم حينما دعاه "أباركك وتكون بركة" (تك12: 2) وهكذا نجد أن يوسف الصديق كان بركة في أرض مصر، وكان بركة من قبل في بيت فوطيفار. وكان إيليا النبي بركة في بيت أرملة صرفة صيدا. وكان أليشع النبي بركة في بيت الشونمية.. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي الجزء الأول
المزيد
05 يوليو 2022

صلوات بولس الرسول من أجل الكنيسة والآخرين

إن كان ما تقدم يعبر عن إيمان بولس بالصلاة قوتها وفاعليتـها بصفة عامة من أجل إيمانه بالصلاة . فإنه وجد نفسه أيضاً مسوقـاً للصلاة من أجل الآخرين كما يقول يعقوب الرسول صلوا بعضكـم لأجل بعض لكي تشفوا طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلـها " ( يـع ٥ : ١٦ ) . فمعلمنا بولس الرسول في إيمانه بفاعلية الصلاة ومحبته للناس نجده يقول في فاتحة رسالته إلى أهل روميـة الله الـذي أعبـده بروحي في إنجيل إبنه شاهداً كيف بلا انقطاع أذكركـم متضرعـاً دائماً بصلواتی عسى الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن أتـى إليكم " ( رو ۱ : ۹ ، ۱۰ ) . وفي رسالته لأهل أفسس يقول " لذلـك أنـا أيضاً إذ قد سمعت بإيمانكم بالرب يسوع ومحبتكــم نـحـو جميـع القديسين لا أزال شاكراً لأجلكم ذاكراً إياكم فـى صلواتـي ( أف ١ :١٥-١٦) ويكتب إلى أهل كولوسي مما يدل على أن هذا منهج سار فيـه هذا الرسول يسلم عليكم أبفراس الذي هو منكم عبد للمسيح مجاهداً كل حين لأجلكم بالصلوات لكي تثبتوا كاملين وممتلئيـن فـي كـل مشيئة الله ( كو ٤ : ١٢ ) . ونحن ككنيسة أرثوذكسية نؤمن بشــفاعة القديسين وأن الله إله أحياء " الرب إله ابراهيم وإله اسـحق ، وإلـه يعقوب وليس هو إله أموات بل إنه أحياء لأن الجميع عنده أحيـاء ( لو ۲۰ : ۳۷ ، ۳۸ ) . لهذا فنحن نقول الذكصولوجيات ونقيم التمـاجيد ونتبارك بأجساد القديسين وبجسد معلمنا بولس الرسول هذا . فـهى لیست عظام أموات . الله ليس إله أموات بل إله أحياء . وفي موضع آخر من رسالته لأهل تســـــــالونيكي نجـد بولـس الرسول يكتب لأولاده " نشكر الله كل حين من جهة جميعكم ذاكريـن إياكم في صلواتنا " ( اتس ۱ : ۲ ) . وفي رسالته لفليمون " اشكر إلـهى كل حين ذاكراً إياك في صلواتي " ( فل 4 ) . وفيما يتكلم عن المجئ الثاني المملـوء مجـداً يكتـب لأهـل تسالونيكي " الأمر الذي لأجله نصلي أيضاً كل حين من جـهتكم أن يؤهلكم إلهنا للدعوة ويكمل كل مسرة الصلاح وعمل الإيمان بقـوة لكي يتمجد إسم ربنا يسوع المسيح فيكم وأنتم فيه ( تـس ۱ : ۱۱ ، ۱۲ ) ويكتب لأهل فيلبي " اشكر إلهى عند كل ذكرى إياكم دائماً فـي كل أدعيتي مقدماً الطلبة لأجل جميعكم بفرح " ( فی ۱ : 3 ، 4 ) . لـهذا فلا عجب إن سمعناه يقول " من يضعف وأنا لا أضعف مـن يعـثر وأنا لا ألتهب ( ٢ كو ۱۱ : ۲۹ ) كانت الدنيا كلها فـي داخـل قلبـه وكانت بصيرته ممتدة إلى كل العالم . هذا هو رجل الصلاة. فاعلية صلوات الآخرين وإظهار إحتياجه لها إذا كان معلمنا بولس الرسول يقول للمؤمنين إنه يذكرهم دائماً فإننا نجده في إتضاعه يطلب منهم الصلاة لأجله فيكتب إلى أهـل کولوسی " مصلين في ذلك لأجلنا نحن أيضاً ليفتح الـرب لنـا بـابـاً للكلام لنتكلم بسر المسيح الذي من أجله أنا موثق أيضاً . كي أظهره كما يجب أن أتكلم " ( كو 4 : 3 ، 4 ) ويكتب لأهل أفسس " مصلين بكـل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبـة وطلبة لأجل جميع القديسين ولأجلى لكي يعطى لي كلام عند إفتتاح فمي لأعلم جهارا بسر الإنجيل " ( أف 6 : ۱۸ ، ۱۹ ) فالله يفتـح الفـم لأنه هو الذي يضع الكلام . ويكتب إلى أهل رومية " فأطلب إليكـم أيها الأخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي في الصلوات من أجلى إلى الله لكي أنقذ من الذين هم غير مؤمنين فـي .اليهودية ، ولكي تكون خدمتي لأجل أورشليم مقبولة عند القديســين ( روه ۱ : ۳۰ ، ۳۱ ) والكنيسة تعلمنا أن الشعب يصلى لأجل جميع الخدام من أجـل الأب البطريرك والأساقفة والقمامصة والقسوس ، والشمامسة وكـل الخدام ، وكل الذين في البتولية . وطهارة كل شعبك المؤمـن إذكـر يارب أن ترحمنا كلنا معاً .. ويكتب معلمنا بولس الرسول إلى أهـل كورنثوس " وأنتم أيضاً مساعدون بالصلاة لأجلنا لكي يؤدى شــكر لأجلنا من أشخاص كثيرين على ما وهب لنـا بواسـطة كثيرين ( ۲ کو ۱ : ۱۱ ) . وأنا أشعر بروح هذا القديس العظيم يرشدنا فنحن لابد أن نشـعر أننا أعضاء بعضنا لبعض ، لابـد أن نشـعر بإحتياجـات بعـض ، مساعدون بالصلاة ويكتب معلمنا بولس للعبرانيين صلـوا لأجلنـا لكي أرد إليكم بأكثر سرعة " ( عـب ۱۳ : ۱۸ ، ۱۹ ) هـذا الرسـول العظيم الذي صعد إلى السماء الثالثة ورأى أموراً لا ينطق بـها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها ، يطلب إلى المؤمنين قائلاً صلوا لأجلنـا لأجل أن أرد إليكم سريعاً ، صلوا لأجلنا لكي يعطى لى حكمة عنـد إفتتاح فمي أيها الأخوة ماذا يمكن أن نقول عن الصلاة كزاويـة أو كوجـه من الأوجة الروحية المتعددة لذلك الرسول العظيم نختم قولنا برفع قلوبنا إلى الله ونقول لمعلمنا بولس الرسـول صلى لأجلنا واذكرنا أمام المسيح ، اذكر الكنيسة لكي يتحنن الـرب علينا ويخلصنا من شداندنا ويصنع معنا رحمة كعظيم رحمته لإلهنا كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد آمين . نيافة مثلث الرحمات الانبا يؤانس اسقف الغربية عن كتاب القديس بولس الرسول الخادم الغيور
المزيد
04 يوليو 2022

معطلات التوبة يحياة الخادم

1- الظن الخاطئ بأن التوبة والاعتراف تناسب المبتدئين : الحقيقة أننا كلنا معرضون للزلل كل يوم . « لا تستكبر بل خف » ( رو ۱۱ : ۲۰ ).فنحن في عالم وضع كله في الشرير ، ومحاربات إبليس كل يوم موجهة بشراسة ضد أولاد الله وخصوصاً الخدام . بل وينبغى ألا يغيب عن ذهننا أن فخاخ إبليس المنصوبة أمام الخادم هي أكثر خطورة مما يتعرض له الشاب العادي . ولعل خطة الشيطان في هذا تقوم على فكرة : « أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية » ( مت ٢٦ : ٣١ ) ، ( مر ١٤ : ٢٧ ) ومشكلة البعض هي الانحدار التدريجي الذي يبدأ أولا بالتهاون في محاسبة النفس على الهفوات والعثرات فيتعثرون من سقطة إلى سقطة ويستمرون في السقوط دون الانتباه إلى الضعف الذي وصلوا إليه ، بمعنى أن العدو الخطير هنا هو فقدان الحساسية الروحية والضميرية تجاه الخطية والتخلص منها . فلننتبه يا أحبائي لأننا لسنا في زماننا أقوى من شمشون في سقطته أو داود في شهوته أو بطرس في كبوته ـ جميعنا محتاجون أن نتوب ونطلب الرحمة . ٢ـ الإنشغال بالمظاهر على حساب الهيكل الداخلي : * آفة العصر هي المظهر والشكلية ، وخصوصاً أن هذا المجال بحر واسع مترامي الأطراف من يغوص فيه ويترك نفسه داخله قد يتعرض للضياع . إن الاهتمام بجوهر وثمرها الروحي مع حياة الخادم التقية هو الهدف الأول وبعد ذلك تأتى النتائج والشكليات والترتيبات . * وكثيراً ما تتجه جهود الخادم إلى الفرح المستعجل بثمار الخدمة السريعة والحصول على مكاسب متطورة مبهرة للعيون ، ربما استجلاباً لمديح الناس ، أو اكتساباً لرضا المسئولين ، أو جذب انتماء المخدومين لشخص الخادم ، وهذه كلها مفاهيم معطلة للتوبة لأنه من السهل أن تكون المظاهر مريحة لضميرك لكنها غير مرضية لقلب الله . فتسكت على نفسك وتسترخي في محاسبة قلبك وتتويبه ؛ بينما لو نظرت إلى نواحي القصور والضعف في جهاداتك الروحية ونموك في الفضائل ستشعر باحتياجك الشديد لعبارة : « توبني يارب فأتوب » ( إر 31 : ١٨ ) لأننا « كلنا في الموازين إلى فوق » ( مز ٦٢ : ٩ ). ٣- التعلل بضيق الوقت : * ترى ـ وبكل صراحة وأمانة ـ هل هذا عذر مقبول ؟ ! هل لا يجد الخادم فرصة لمحاسبة النفس ورفع قلبه إلى الله بمزامير التوبة والانسحاق بينما يجد كل الوقت لما هو بخلاف ذلك ؟ هل من اللائق أن نكون أسخياء في عطائنا وبذلنا لأنشطة الخدمة بينما نكون غير أمناء في تخصيص أوقات كافية للعبادة والصلوات والبناء الروحي الداخلي ؟ هل لا يوجد وقت للخادم أن يجلس إلى أب اعترافه ويتوب بينما يوجد لديه أوقات كثيرة لأى لقاءات أخرى حتى ولو كانت مفيدة ونافعة داخل مجتمع الخدمة ؟ * إن الله سخي في العطاء كريم في التوزيع ، وبقدر أمانتنا معه سنلمس غزارة الثمر الذي يأتى من شجرة مغروسة على الدوام على مجاري المياه تعطى ثمرها في حينه وورقها لا ينتثر ( مز ۱ ) . أرى أن هناك أولويات في توزيع الوقت : * الاهتمام بنصيبى أولاً في عشرة الرب والالتصاق به . * ثم تقديم عمري كله بعد ذلك لحساب ملكوت الله من خلال الخدمة والنشاط لا الروحي . 4. عدم الاختلاء بالنفس : * التوبة تحتاج إلى هدوء وتصفية النفس الخادمة من كثرة الكلام والضجيج والجدل والمناقشات التي ربما من خلالها لا يكتشف الإنسان سر خلاص نفسه ومتعته بالرب ، لذلك نحتاج لفترات خلوة تبنينا وتنقينا من الزغل والشوائب . إمكانيات الخلوة والهدوء مع النفس متاحة سواء على مستوى المخدع الخاص أو أماكن كنسية أو فترات هادئة في مكان خلوى في رحاب أجساد القديسين وديارهم المقدسة ، هناك ننظر في مرآة صافية ونرى حقيقة أنفسنا على صفحة المياه الشفافة كالبللور . نظم وقتك يا خادم ولا تضيع وسط الزحام ، وليكن لخلاص نفسك نصيب أساسي في وقتك عالماً أن مقدمة الوسائط اللازمة لخلاص نفسك التوبة والاعتراف . ٥-. فقدان الإحساس بالخشوع والتقديس : * عبادتنا الليتورجية في كنيستنا تتميز بتكرار الممارسات والصلوات التعبدية وخدمة الأسرار . بل وهناك التقليد الأرثوذكسي الثابت والطقوس والترتيبات التي تسلمناها الآباء ونعيشها في الكنيسة بمداومة . هذا المناخ ينبغى أن نستثمره إيجابياً بأن تكون مهيئين له بالتوبة والخشوع فنكون في كل مرة في جهاد حار لنصل إلى التقديس والتخشع الداخلي فلا نفقد إحساسنا بهيبة بيت الله والعبادة الكنسية . * وكتطبيق على ذلك ؛ وفي سر التوبة والاعتراف بالذات ينبغي أن ننتبه إلى قدسية جلسة الاعتراف وصدق مشاعرنا في التوبة ، وتوقير الكهنوت والأبوة والثقة في غفران المسيح الممنوح لنا من خلال الكنيسة ؛ يساعدنا على ذلك صلوات ومزامير مسبقة وقراءات في كتابات الآباء وميامرهم عن التوبة ، مع سعى الخادم بجهاده المستمر للقداسة والكمال والطموح الروحي للوصول للحياة الأفضل . وإن كنا قد عرضنا الآن لأهم معطلات التوبة في حياتنا كخدام نعود فنذكرك بالجانب الإيجابي وهو فاعلية وثمار توبة الخادم ؛ لعلنا من خلال الأمرين معاً نتشجع لحياة التوبة الدائمة كأولى ركائز الأساس الروحي للخادم . ورغم تكرار جلسات الاعتراف بين الخدام وآبائهم الروحيين لكننا نحتاج لمواجهة صريحة في كشف أنفسنا وفحص ذواتنا ولسان حالنا : « أختبرني يا الله واعرف قلبی امتحـنى واعرف أفكاري . وأنظـر إن كان في طريق باطل واهدني طريقا أبديا » ( مز ۱۳۹ : ٢٣-٢٤ ) . القمص بيشوى وديع كاهن كاتدارئية كنيسة الشهيد مارجرجس وشهداء طنطا الأطهار عن كتاب الخادم الأرثوذكسى كنيسة وحياة
المزيد
03 يوليو 2022

المحبة قانون المسيحية...

إنجيل اليوم هو الكلمات الذهبية، التي غير بها ربنا يسوع المسيح وجه الإنسان، الذي كان يحيا وهو يظن أن ما يريده الله هو "عين بعين، وسن بسن"، ولكن هذا هو قضاء بشر، وعدل أرض، أما ما يريده الرب حقيقة، فقد رسم أيقونة في غاية الإبداع والروعة، هي أيقونة الحب والخير، تخيلوا هذا المجتمع الذي يريده ربنا يسوع المسيح، يسوده الحب قانوناً، أعلي من قانون العدل، يكون الحب والرحمة هما الصورة التي تحكم المجتمع، حتي الأعداء لا نكرههم، المحبة التي تسود المجتمع تجعل لا أحد يدين أحد، بل تجعل هذا الحب الذي يحتوي الخاطئ، لا تبحث العيون عن الأخطاء، ولا تفحص الداخل، ولا تنظر إلي أخطاء الآخرين، مجتمع شعاره "ما تريدوا أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضاً بهم". كلما نريد أن تحكمنا العلاقات بيننا وبين الآخر، ننظر إلي نفوسنا، ماذا نريد من الآخر؟ وماذا يمكننا أن نفعل له؟ لا ننظر إل الخاطئ أنه مرفوض ومرذول، بل أنه يحتاج إلي حب أكثر. "من سخرك ميلاً أذهب معه أثنين"القضية هنا ليست في الميل أو الأثنين، بل في الذي يريد أن يُسخر، الذي يشعر بأن له سلطان أن يقهر، نقول له: سلطانك قد يجعلني أسير ميل واحد، أما محبتي التي في الداخل، تجعلني أسير أثنين، فلم أطيع السخرة، بل أطيع الحب. "احبوا بعضكم بعضاً كما احببتكم"كما احببتكم هذة، لا يمكننا أن ننظر إلي أمور ليست فيها الصليب، أنه أحبنا بالصليب، "ونحن خطاه بعد مات المسيح لأجلنا"، يقول السيد المسيح:"أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به""بهذا أوصيتكم بأن تحبوا بعضكم بعضاً"تخيلوا هذا المجتمع، إذا كنا لا نستطيع أن نصنع مجتمع في الخارج بهذة الصورة، فلنحب بعضناً بعضاً داخل الكنيسة، وداخل بيوتنا، إن كان هذا أيضاً صعباً!! يكون المسيح قد تغرب في كنيسته وفي بيوتنا.جاء ذات مرة إلي الأنبا أنطونيوس مجموعة تطلب الرهبنة، تركوا كل شئ، في عصر كانت البرية القاحلة، ليس هناك أي نوع من الرفاهية، القلالي هي مغاير، الأكل خبزة كل الأيام، البرية مليئة بالوحوش والثعالب، فحينما يترك الإنسان حياته ويذهب إلي البرية، يطلب المسيح، نراه وقد وضع قدمية علي طريق القداسة، ولكن الأنبا أنطونيوس كان يُدرك تماماً أن أي جهاد يخلو من الحب ليس له معني، فسألهم: لو ضربك أحدهم علي خدك هل ستحول له الآخر؟ فأجابوه: صعب. فسألهم: إذا أخطأ إليك أحد، هل ستسامحه وتقدم له حب؟ فأجابوه: صعب فسألهم: هل تغفروا له. فأجابوه: صعب. فنظر الأنبا أنطونيوس لتلميذة، وقال له: جهز لهم مائدة وأصرفهم.حتي وإن صنعوا كل الجهادات، وقدموا كل الأصوام، ولكن بدون محبة، لم يصل هذا إلي عمق الوجود في المسيح.المحبة هي التي تجعلنا نشعر بأن المسيح قائم في قلوبنا وكنيستنا وبيوتنا.حينما علمنا أن نصلي قال: "أغفرلنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا"وكأنه لا يمكن أبداً أن يضئ وجهه علينا، ويغفر خطيئتنا، وهو يرانا نمسك خطايا بعض، ولا نحب بعض. يقول في مت23:18: "هكذا أبوكم السماوي يفعل بكم، إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته" كل من يسقط يشعر أن أحضان الكنيسة تأخذه، وتغطي خطيئته، والبيت يحبه ولا يلفظه. المشكلة الكبيرة هي الذاتية علي كل المستويات، نحن نريد أن الآخرون يعاملوننا بصورة ليس بالضرورة نحن نصنعها، لا نريد أحد أن يديننا، ولكننا ندين، لا نريد أحد أن يقترب منا، ولكن يمكننا أن نجرح ونطعن في الخلف. "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً، لأن كل الناموس في كلمة واحدة يكمل تحب قريبك كنفسك" غلا 13:5 1يو 18:3 "لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق" كثيرون احترفوا الكلمات الرنانة بالحب، كثيرون قالوا كلمات ملؤها الحب الكبير، وكانت أفعالهم هي الشر الكبير. 1يو7:4 "من يحب قد ولد من الله ويعرف الله" الخطورة الشديدة في القياس: "من لا يحب لم يعرف الله، لأن الله المحبة". لا يعرف الله مهما كانت درجته وصورته ونسكياته . 1كو13 "المحبة تتأني وترفق" محبة بدون قساوة. يقول ذهبي الفم: "الزمن الذي نحن فيه ليس زمن الدينونة بل الرحمة، ليس فيه أن نطلب الحساب، بل نظير الحب لا نرفع الدعاوي بل نتنازل عنها، ليس وقت الأنتقام بل وقت الرحمة". "المحبة تفرح بالحق، المحبة تحتمل كل شئ، تصدق كل شئ، ترجو كل شئ".ذات مرة تفاجأ أخيين رهبان، بكاهن وثني يطرق بابهم ويطلب منهم أن يعرف المسيح، فسألوه: ماذا حدث؟ فحكي لهم: أنا كاهن وثني، ولي شيطان يخدمني، ويصنع لي كل ما أطلبه، ولكني طلبته بالأمس وأصريت وصنعت كل ما استطيع، لأعرف لماذا لم يأتيني ليلاً؟ وعند الفجر أتي ذليلاً، وسألته لماذا لم تأتي وقد كنت طول الليل أطلبك؟ فقال الشيطان: لقد كنت أعذب بأمر الرب، بسبب أخيين رهبان، فقد طلب الأكبر من أخيه أن يسرج القنديل، فلم يستجب الأخ الأصغر سريعاً، فأغتاظ الأخ الأكبر، وصفع أخية الأصغر وكسر المصباح، أما الأخ الأصغر فصنع لأخية الأكبر ميطانية، وقال له: أخطيت لأني لم أسمع كلامك. وقد كنت أنا الشيطان، الذي أهاج الأخ الأكبر ليصنع ذلك، فرأي الرب عمل الأخ الأصغر، فأمر أن أعذب طول الليل.وقال لهم الكاهن الوثني: حينما عرفت هذا أتيت لكي أعرف المسيح. المحبة تحرق الشيطان. الذي يحمل مسيحاً حقيقياً، هو الذي يذهب لأخيه ويأخذه في أحضانه، هو الذي يغطي ضعفاته وليس الذي يفضح. المحبة تصبر علي كل شئ. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تقبح. حتي إن استطعنا أن نقدم خبزنا كما في أش 58 أن تكسر خبزك للجائع. يقول الأنبا بيمن المتوحد: "من يحب يضحي من أجل قريبه، فإن سمع كلاماً جارحاً، وكان في إستطاعته أن يبادله بالمثل ولم يفعل، أو أن ظلم وتحمل ولم يبادل ظلماً بظلم، فهذا الإنسان يضحي من أجل قريبه" المحبة لا تظن السوء، هذا المجتمع الذي يحمل سمات المسيح لا يقبح ولا يتفاخر ولا يظن السوء. المحبة تغير جوهر الأشياء، القبلة التي وضعها يهوذا علي خد سيده، كان شكلها محبة ولكن داخلها خيانة، أما المحبة الحقيقية فهي أن نحتمل الآلام بعض. يقول أحد الآباء: "لن يفيدنا أفتخارنا بأصوامنا، ولا قرائتنا في الكتاب المقدس، إن لم نصل إلي محبة الله ومحبة القريب".يقول الفيلسوف باسكال:"كل الأجساد مجتمعة، كل الأرواح مجتمعة، كل ما في العالم لا يوازي بادرة محبة".إن كنا نريد أن نكون مسيحيون فلنحب، والذي لا يحب ليس مسيحياً فقط، ولكنه لا يعرف الله كاملاً.لإلهنا كل مجد وكرامة إلي الأبد أمين. القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة أبي سرجة مصر القديمة
المزيد
02 يوليو 2022

الخادم والمسؤلية

كثرت الشكوى في هذا الجيل من ضعف روح المسؤلية لدى الخدام في الوقـت الـذي زادت فيـه إحتياجات الخدمـة وتحدياتها ... لذا تقتضى الخدمـة وجود خدام ملتهبين يشعرون بالغيرة والإخلاص والأمانة تجاه المخدومين واحتياجاتهم ... ولأن العالم تعددت وسائل إغراءاته وتنوعت بشكل مذهل .. وغير العدو من خطط حروبه وأسلحته .. فلـزم على كل خادم أن يتحلى بروح المسؤلية مثل التي يلتزم بها كل جندی محارب في حرب شرسة ... يجب أن يعرف الخادم أن الخدمة هي عمل إلهى .. وهي خدمة خلاص نفوس ثمينة في عيني الله تحمل صورته ومجده وروحه قد إشتراها بدمه الغالي الذكي الكريم وفاديها سر أن يعطيها الملكوت ... وطالما أدرك الخادم أن الخدمة هي عمل الله فكيف يخدم برخاوة ؟ كيف يتأخر عن إنقاذ من مات المسيح من أجل أن ينقذه ... ؟ ومن هنا نرى أن دافع الخدمة هو الذي يلد الخدمة ... فالذي تدفعه المحبـة ستجد خدمته مملؤة محبة ... والذي تدفعـه الذات تجد خدمته مملوءة بأعمـال الذات والـذي تدفعه المظهرية ستجد خدمتـه مملؤة بالمظهرية ... الخادم المسؤل تجده كثير التضحيات وله إستعداد أن ينفق وينفق ... فهو يقدم الخدمة وإحتياجاتهـا عن أموره الشخصيـة .. وله حماس في العمل ويسعى دائماً للأفضل .. ويبث روح الغيرة والجدية والمسؤلية في كل من حولـه ... ويعمل بأقـل الإمكانيات ... ويبحث عن بدائل للعوائق ..وكثيراً مـا رأينا خداماً تحـدوا عوائق كانت كفيلة لتراجعهـم وتوقف خدمتهـم .. أنظر كيف واجـه معلمنا بولس الرسول الأخطـار والعوائق والمحاربات والاتعاب والضربات .. تجده يقف صامدا ويقول : ولكنني لست أحتسب لشيء ، ولا نفسي ثمينة عنـدي ، حتى أتمم يفرح سعيـي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع(أع٢٤:٢٠) وعلـى العكس نجد الخادم الغير مسـؤل كثير النقد قليل العمل كثير الإعتذارات ... لايبـالي بالإحتياجات ولا يتفاعل مع الأزمات ... بسهولة تجده غير موجود .. أو موجود وغير موجود ... وقد يؤثر على غيره ويحوله إلى غير مسؤل ... أو غير موجود .. ورغم ذلك لا يحتمـل من يوجهه أو يلومه على أي تقصير .. ليتنـا نتحلى بروح نحميـا الذي بكى وصام وصلى وقـام ورجع ليبنى أسوار أورشليم المحترقة المنهدمة ... ليتنا نتحلى بروح المسؤلية فيما أخذنا من وزنات ومواهب ومسؤليات ونعلم أن المكافأة عظيمة ... لأن الوعد لنا أن اللذين ردوا كثيرين يضيؤن كالكواكب في ملكوت أبيهم ... وأن هناك من عينيه تخترق أستار الظلام تراقـب وتلاحظ كل عمل وكل نيـة وكل قلب ... ولنبذل أكثر ونتعب ونعمل أكثر مادام نهاراً ... ولنتخلص من الرخاوة ونعلم من أي روح نحن.. القمص انطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك عن كتاب الخادم ولكن ... الجزء الاول
المزيد
01 يوليو 2022

القيم التي تنبع من غسل الأرجل ج١

يتحدث الكتاب المقدس في الأصحاح الثالث عشر من إنجيل معلمنا يوحنا ، عن عمل قام به المسيح لفت نظر الجماهير ، وأصبح أيضا عملا متميزا عبر الأجيال كلها وهو " غسل الأرجل " . كون المسيح له المجد يغسل الأرجل لتلاميذه ، هذا درس عملي يقدمه المعلم ، والمعلم الناجح يقدم وسيلة إيضاح عندما يشرح درس ، لأن الإنسان بطبيعته روح مرتبط بجسد ، فالإنسان يتأثر بالمحسوسات أكثر من التعليم النظري ، التعليم النظري قابل لأن ينسي ، وقابل أيضا بأن يشرد عنه الذهن فلا يلتفت الإنسان إليه ، أو يمر عليه مروراً سطحياً أو عابرا . إنما النموذج العملي والممارسات العملية ووسائل الإيضاح الحسية ، تطبع في الإنسان أثراً أعمق وأقوى مما يطرحه التعليم النظرى القابل لأن ينسى . القيمة الأولي إراحة الآخر : فسيدنا له المجد كونه يضع ماء في مطهرة أو في مغسل أو في حوض أو ما نسميه اللقان في خميس العهد ويأخذ وضع الخادم ، في العهد الذي ظهر فيه سيدنا في فلسطين لم يكـن هناك طرق مواصلات متوفرة مثل زماننا الحاضر ، ولم يكن هناك سيارات ، وكان الإنسان يمشى على رجليه ، ومع قطع المسافات الطويلة كان الإنسان يشعر بالإعياء ، فكان أول شيء يصنعوه له عندما يدخل بيت ، أن يغسل رجليه ، سواء كان في بيته فالشخص بنفسه أو خادمه يغسل له رجليه . وأيضا إذا دخل بيت آخر كضيف ، لهذا كان من أولى واجبات الضيافة أن الضيف تغسل رجليه ، فكان يكلف الخادم أن يأتى بحوض ويضع فيه ماء ثم يغسل رجلي هذا الإنسان ، غسل الأرجل مع التعب تعطيه راحة ، فتعد هذه خدمة للإنسان المتعب والمرهق من قطع المسافات وهم وأيضا عندما كنا نذهب إلى الأديرة في الثلاثينيات ، كنا نلاحظ أن الآباء الرهبان أول شيء عندما نصل لأننا كان نسير على أرجلنا ، كانوا يحضروا حوض به ماء دافيء وأحياناً يضعوا فيها شيء من الملح البسيط ، فأول شيء يصنعوه عند استقبالنا هو غسل الأرجل ونحن كنا شباب صغير فكنا نتمنع أو نستكلف ، وهم آباء كبار كيف يغسلوا أرجلنا ؟ فكانوا يقولوا لنا لا تحرمونا من هذه البركة ، لماذا ؟ لأنه يشعر أنه يعمل العمل الذي عمله السيد المسيح ، فيشعر أنه يتمم واجب ويعمل فضيلة ، وتسمعوا في الكنيسة عن الأنبا بيشوى ومذكور عنه حتى في القداس أنه غسل قدمی مخلصنا الصالح ، فسيدنا له المجد من محبته للأنبا بيشوى ظهر له شكل إنسان كأنه ضيف من مكان بعيد ، فقام الأنبا بيشوى بغسل قدميه وهو لا يعلم أنه هو المسيح ، فسيدنا له المجد تلطف به وظهر له بكامل حقيقته ، فذهل الأنبا بيشوى أن سيدنا له المجد بذاته نزل إلى قلايته أو إلى غرفته وشرفه بهذا الشرف ، ولاشك أنه نال بركة كبيرة جدا لأنه غسل قدمي المسيح نفسه ، فهذه تعتبر بإستمرار فضيلة ، وكان في بداية المسيحية إختيار المرأة الشماسة يقوم كما جاء في رسالة بولس الرسول إلى تلميذه تيموثيئوس ، على أنها قد غسلت أرجل القديسين . كأول مؤهلاتها لكي تنال درجة الشماسية . فهنا بالنسبة للكل رجال ونساء هذه فضيلة ، فسيدنا له المجد كونه هو نفسه يأخذ هذا الوضع وينحنى كخادم ، وقال أنا بينكم كالذي يخدم وكلمة " يخدم " في اليوناني " دياكون " وهي المصطلح الكنسي لكلمة " الشماس " فالمسيح مارس مهمة الشماس كما مارس أيضا مهمة القارىء ، عندما قرأ الفصول المقدسة التي يقرأها الأناغنوستيس ، ومارس جميع درجات الكهنوت بما فيها الأسقفية ولذلك يقول الكتاب : " لأنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها " ( 1 . بط ٢ : ٢٥ ) ، المهم أنه عندما غسل المسيح الأرجل ، بطرس الرسول استعظم هذا الأمر وقال له " لن تغسل رجلي ، فقال له " أنت لا تفهم الآن ولكنك ستفهم فيما بعد، لماذا أنا عملت ذلك ، هناك هدف وراء هذا العمل ، يوجد درس أنا أعطيه وسيلة إيضاح ، " إن كنت لا أغسلك فليس لك معى نصيب " ، هدده ، وأصر المسيح على أن يغسل.رجليه ، فقال له : " ياسيد ليس رجلي فقط بل يدي ورأسي " لأنه يهمنى أن يكون لي نصيب معك . وبعد أن غسل الأرجل جلس ، لاحظوا في عملية غسل الأرجل كونه أخذ مئزرة وائتزر بها وأخذ وضع الخادم ، لأنه في هذا الوقت كان الناس يلبسوا ملابس طويلة فيحتاج أن يرفع ملابسه ، لأن عملية الغسل تحتاج منه أن ينحنى فلا تبتل ملابسه ، رجال الكهنوت يلبسوا ما يسمى بالحياصة أو المنطقة ، وقد ظهر بها السيد المسيح في سفر الرؤيا للقديس يوحنا الحبيب ، عندما رأه في الرؤيا العظيمة ، يصفه في الأصحاح الأول من سفر الرؤيا أنه كان يلبس ملابس بيضاء إلى القدمين ومتمنطقا بمنطقة عند صدره ، ولهذا السبب يلبس الأسقف مثل هذه الملابس لأنه يمثل سيده ، وهذه المنطقة دليل أو علامة أنه خادم ، وفي بعض الكنائس الأخرى يعطوا الكهنة رغم أنه ليس أسقفاً لقب مونسنيير وتعنى سيدنا ، ولذلك يلبس حزام أحمرلكي يشير به إلى أنه خادم . وقال لهم السيد المسيح : أنتم تدعوني معلماً وسيداً وحسنا تقولون لأني أنا كذلك ، أي هذا ليس نفاق ولا ادعاء ، فأنا المعلم وأنا السيد ، ولكن إن كنت أنا المعلم والسيد قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض ، لم يطلب منهم أن يخدموه أو أنه يقوموا بغسل رجليه ، إنما طلب منهم أن يصنعوا ذلك بعضهم نحو بعض . ما الحكمة في هذا ؟ !! عملية غسل الأرجل في ذاتها خدمة ، أذكر رجل الآن في العالم الآخر ، كان يذكر من بين فضائل زوجته ، يقول : حتى لو دخلت الساعة ١٢ بالليل تدفىء الماء وتغسل رجلي ، لم ينس لها هذا الفضل ، لأن هذه فعلا خدمة مريحة ، فعندما نريح إنسان تعبان تعد خدمة . نيافة مثلث الرحمات الأنبا غريغوريوس أسقف عـام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى عن كتاب الخدمة والخدام المفاهيم والمجالات والمؤهلات والمعوقات وللحديث بقية
المزيد
30 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمعي

شمعي "لأن الرب قال له سب داود" 2صم 16: 10 مقدمة كثيراً ما يسأل المؤمن هذا السؤال: ما هي الحكمة في أن يرسل الله من ينغص حياتك، ويقلق راحتك، ويقلب أمنك، ويهدد سلامك؟!!.. وأنت تصرخ مرات بلا عدد أن يرفع الله عنك هذا الضيق أو الشوكة التي تقض مضجعك، وإذا بالمنغص يزداد إمعاناً في شره وظلمه واستبداده وطغيانه، وإذا هو رسول حكمة علوية لا يدرك كنهها إلا من تدرب على معاملات الرب، التي قد تبدو غريبة أو عجيبة لمن هو أقل فهماً وإدراكاً وتأملاً،… ظهر هذا المنغص في طريق داود، ظهر ظالماً قاسياً متشفياً، ولم يره أبيشاي سوى كلب ميت يسب الملك،… ولكن داود كان له رأي آخر، إذ أن شمعي لم يكن عنده مجرد كلب يقطع رأسه أو لسانه، بل هو رسول من الله جاء إليه في اللحظة الدقيقة ليتمم أمراً إلهياً، على الملك أن يقبله بكل خضوع وتسليم واتضاع،… إن شخصية شمعي تعطينا صورة واضحة لا نقف فيها عند الأسباب الثانوية الظاهرة، بل نتغور معها إلى أسباب أعمق خفية إلهية، ولذا يمكن أن نراه من جوانب متعددة على الصورة التالية. شمعي المتعصب الأعمى والتعصب الأعمى هو مفتاح قصة شمعي بن جيرا، لقد كان شمعي من عشيرة بيت شاول بنياميني، لا يمكن أن ينسى أنه ينتسب إلى الأسرة المالكة التي ضاع كرسي الملك منها، وأن داود حل محل شاول، وأن سبط يهوذا أخذ مكان الرئاسة من سبط بنيامين،.. والتعصب الأعمى مهما كان لونه وصورته، هو شر وباء يمكن أن يصيب فرداً أو جماعة، وأنواعه متعددة لا حصر لها،... ولكنها دائماً تخلف الهلاك والدمار وراءها،... فهناك التعصب القومي الذي يكاد يكون خلف أغلب الحروب بين الناس، والذي جعل أبا هنيبال القرطجني يطلب أن يقسم ابنه على المذبح أن يكره روما إلى الأبد،... والذي صنع العداء التقليدي بين اليهود والسامريين، والذي أنشأ أسطورة "ألمانيا فوق الجميع" وقاد العالم في القرن العشرين إلى الحربين العالميتين الأخيريتين بما تركتا من آثار رهيبة مدمرة،... وجعلت استيفن ديكاتور الضابط في البحرية الأمريكية أن يضع شعاراً أمريكياً بشعاً قائلاً: "أنا مع بلدي في الحق أو الباطل على حد سواء"... ولم يستطع أمريكي مسيحي أن يقبل هذا الشعار، فصححه: "أنا مع بلدي في الحق، غير أني أصححه عندما ينساق وراء الباطل"... سخر وينفرد هيلتباي من حماقة التعصب الأحمق، في قصة كتبها تحت عنوان: "صوت الله"... وفيها يتخيل ما يحلم به الناس، من أن جميع الأصوات محفوظة، وقد اخترع أحدهم آلة تستطيع بأن تأتي بهذه الأصوات من الماضي، وقد راق له أن يحضر أمام جمع يتكلم الإنجليزية، صوت المسيح،.. وعندما تكلم السيد حصلت همهمة وتذمر وغضب، لأن الصوت لم يتكلم بالإنجليزية، بل تكلم بالأرامية، كما كان المسيح يتحدث إلى معاصريه في تجسده على الأرض!!... وهناك التعصب العقائدي الذي عذب جاليليو الذي نادى بنظرية دوران الأرض حول الشمس، وأنها كروية، وذات مرة أرغموه أن يركع ويقول أن الأرض مسطحة، وركع وقام ليقول: ولكنها كروية،.. وسجن روجر بيكون لمدة عشر سنوات، وهو يقوم بأبحاثه في الطبيعة والكيمياء، وإذ عرض ما اكتشفه حكم عليه بالسجن بالزعم أنه يتعامل مع الشيطان،... وفي المجال الديني البحت كم ذهب العديد من الشهداء، ضحايا الحماقة والخرافة والجهل، وكم عانى لوثر في القرن السادس عشر، والميثودست في القرن الثامن عشر، ورجال جيش الخلاص في القرن التاسع عشر،.. وهل قرأت قصة ذلك الشاب الزنجي الذي طلب أن ينضم إلى كنيسة من كنائس البيض، أحرج الراعي، إذ أن حياة الزنجي لا تمنعه قط من الانضمام،... ولكن الراعي يعلم أنه سيثير ثائرة البيض إذا سمح له بهذا الانضمام،... وإذا أراد مخرجاً من حريته... قال له: لنصل ونتقابل بعد ذلك،.. وبعد شهور التقى به في الشارع وسأله: لماذا لم يأت إليه مرة أخرى؟.. وأجاب الشاب: لقد صليت وأعطاني المسيح الجواب... وقال الراعي: وماذا قال لك؟!! أجاب! قال لي لا تفزع لأني أنا واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشر سنوات وأقرع ولم يفتح لي أحد الباب!!.. وهل نعود لنذكر الحروب الرهيبة التي قامت بين الأديان المختلفة، والاضطهادات الدينية البشعة في كل جيل وعصر، وليس فقط بين الأديان المختلفة، بل بين المذاهب المتعددة في الدين الواحد، وكلها لم تخرج إلا من التعصب الأحمق البغيض.. وربما إلى اليوم لم يعرف العالم كثيرين لهم الخيال الخصب الذي كان ليوحنا بنيان في سياحة المسيحي، والحرب المقدسة... وفي الحرب المقدسة يصور بنيان نفس الإنسان أشبه بالقلعة الحصينة ذات الأبواب الخمسة التي أطلق عليها، باب الأذن، وباب العين، وباب الفم، وباب الأنف، وباب اللمس، ويقصد الحواس الخمس في الإنسان، وعندما يأتي عمانوئيل ليفتح القلعة، يجد عدو الخير قد حصن باب الأذن مثلاً بالمتعصب الأعمى ومعه ستون من الجبابرة الذين لا يبالون بأحد على الإطلاق".. كان شمعي بن جيرا واحداً من هؤلاء المتعصبين التاريخيين بكل ما في كلمة التعصب من معنى... شمعي الوضيع الخسيس ربما ليست هناك فرصة يمكن أن تتعرف فيها على معدن الإنسان وطبيعته وصفاته، كما تراه في وقت المحن والآلام سواء بالنسبة له، أو بالنسبة لغيره من الناس،.. وقد كشف شمعي بن جيرا عن معدنه الخسيس الوضيع، عندما خرج داود في محنته القاسية هارباً من أورشليم أثر ثورة إبشالوم ابنه عليه،.. ولقد كان شمعي "قاسياً" في منتهى القسوة، إذ لاقى داود في أضعف لحظة من لحظات حياته، وإذا كان من المباديء الأساسية في المبارزة أو المصارعة أو الملاكمة التوقف عن المناضلة مع خسم ساقط إلى الأرض، أو سقط سلامه من يده،.. كما لا يعد شهماً أو رجلاً ذاك الذي يفرح أو يشمت ببلية آخر،.. فإن شمعي بني جيرا كان من ذلك النوع القاسي الذي فقد كل مرؤة أو شهامة، تجاه رجل منكوب في محنة من أقسى المحن التي مرت به في حياته!!... وكان شمعي إلى جانب هذا "جباناً" انتهز فرصة مرور داود أمام بحوريم وهي مدينة من مدن سبط بنيامين، وكان حريصاً أن تكون المسافة بعيدة بينه وبين أية محاولة لمطاردته، ليهرب إذا حاول من أحد من رجال داود القضاء عليه، ومن هناك ابتدأ يسب داود ويرمي عليه التراب والأحجار، وذلك منتهى الجبن والضعة،.عندما هرب نابليون من جزيرة ألبا كتبت الصحف الفرنسية عنه "الوحش يهرب من ألبا"، وإذ اقترب من فرنسا كتبت "نابليون يهرب إلى فرنسا".. وإذ دخل فرنسا كتبت "الامبراطور يدخل البلاد".. على أنه كان كاذباً، إذ كان "كاذباً مفترياً" نسب إلى داود ما هو براء منه، بعلم الجميع، لم يكن داود بالنسبة لبيت شاول رجل الدماء "قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول".. بل بالأحرى الرجل الذي وقع شاول في يده مرتين، ولكنه رفض أن يمسه، ولم يكن داود أكثر من ذلك "رجل بليعال" الرجل الذي تحول عن الرب، وابتعد عنه، وعبد آلهة أخرى،.. كان وصفه بهذه الأوصاف غاية الظلم، وعكس الحقيقة على وجه كامل،... ولكن الإنسان المتعصب ليس هناك حدود لافترائه وكذبه،.. ولا حاجة إلى القول أنه إلى جانب هذا كله كان "غادراً" يطعن الملك الشرعي للبلاد في ظهره، يرحب بالثورة ويتمنى نجاحها، بل يؤكد هذا النجاح بدافع الرغبة الدفينة في قلبه للغدر والخيانة،... وهو في عرف أية قوانين شرعية خائن لمليكه، تحكمه قواعد الخيانة العظمى!!.. شمعي العصا الإلهية المستخدمة على أن شمعي -مع هذا كله- يبدو في نظر داود شيئاً مختلفاً تماماً عن مجرد نظرة أبيشاي أو غيره من السائرين معه من الناس أو الجنود، لم يزد شمعي في نظر أبيشاي عن أكثر من مجرد كلب حقير ينبح، ويلزم إسكاته، أما في نظر داود فكان عصا الله المستخدمة لتأديبه، وهو لهذا يتصرف مع شمعي تصرفاً آخر، فهو "الصامت" الذي لا يشكو بل يقول بالحري: "دعوه يسب" ومع أنه كان يملك أن يتكلم، ومع أن الذين حوله كانوا يملكون ما هو أكثر من الكلام، لكنه مضى في طريقه كأصم، ووضع رأسه ووجهه في التراب، ولعل هذا أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان، عندما يلتقي بالأحمق الذي لا يحمل أن نرد عليه حتى لا نتساوى معه في الحماقة،... ولعلنا في الصمت نمتد إلى آفاق أبعد، وراء ذاك الذي كان أفضل وأعظم من داود: "ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه".. "وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء"... وهنا يحق القول إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!!... وهو "المعترف بالخطأ" وليس بما يزعمه شمعي، فهو بريء من هذا كله، ولكن الضمير في تلك اللحظة كان له حسابه العميق معه،.. إن الذي يظهر أمامه في الطريق، ليس شمعي بن جيرا، بل آخر اسمه، أوريا الحثي ودم أوريا يصرخ في وجهه، ومع أنه يعلم علم اليقين بأن الله غفر خطيته، إلا أن لطمة الضمير كانت تصفعه في تلك اللحظة على وجهه، وهنا لابد من السؤال: ألم يتب إلى الله؟؟ وألم يصرخ مزموره العظيم بهذه التوبة التي قبلها الله، ورفع عنه إثمه وخطيئته؟؟ فهل كان غفران الله كاملاً وشاملاً، أم أن الغفران الإلهي مجزأ ومحدود؟؟.. لا شبهة في أن غفران الله كامل وشامل، ولكن هذا الغفران الكامل لم يمنع الرسول بولس أن يقول بعد سنوات طويلة من غفران الله: "أنا الذي كنت مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت إذ فعلت بجهل في عدم إيمان" وقد تعقبته ذكريات الخطية لا لتقلق مضطجعه، بل لكي تعلمه الاتضاع، وإدراك شر الخطية وبشاعتها، فهي حاجز واق يكشف له الضعف البشري يوم تتخلى النعمة الإلهية عن أي إنسان على ظهر هذه الأرض"!!.. وها نحن نرى هنا داود في كل خضوع وتسليم واحترام لمشيئة الله وقضائه وإرادته، وهو يضع "التفسير الصحيح" لتصرفات شمعي،.. وهنا يختلف داود مع أبيشاي -وقد سبق له الاختلاف- في مفهوم العناية عندما عبرا إلى شاول النائم والذي سقط تحت يد داود، وأراد أبيشاي أن يأذن له داود بالقضاء عليه بضربة واحدة، معتقداً بأن الرب قد أوقعه في يده، ولكن داود رفض هذا التفسير، ورأى في الأمر -بالعكس- امتحاناً من الله، لأنه لا يستطيع أن يقتل مسيح الرب ويتبرأ،.. وهنا لا يرى أبيشاي أيضاً إلا الصورة البشرية، كلب ينبح، ومع أن الكلب الذي ينبح يعتبر كلباً حياً، إلا أن أبيشاي يراه أقل من ذلك، إذ هو كلب ميت،.. أما داود فإنه يرى صورة أخرى تختلف كل الاختلاف، إذ يراه عصا الله المؤدبة، ولتكن هذه العصا ما تكون، لكن داود يرى يد الله خلفها، وهنا نحن نقف أمام حقيقة من أضخم الحقائق الكتابية، ألا وهي الأسباب الثانوية والأسباب الأصيلة، أو الأسباب الظاهرة، والأسباب الخفية،... وإذا كانوا يقولون إن في المحيطات والبحار يوجد تياران: التيار الظاهري الذي يدفع الأمواج ويرفعها إلى أعلى أو أسفل، والتيار الخفي العميق الذي يدفع المياه، وهو التيار الصحيح الحقيقي الذي يحرك المياه ويسيرها..كان إبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا الأسباب الثانوية، الظاهرة، لكن السبب الحقيقي هو ما قاله الرب على لسان ناثان: "لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس"... لقد عفا الله عن داود كشخص، ولكنه يعاقبه ويؤدبه كقائد جلب عثرة كبيرة أمام الشعب، وجعل أعداء الرب يسخرون،.. وإذا لم يعاقب الله العثرة، فسيستهين الجميع بالخطية ويشربون الإثم كالماء،.. إذا أصيب الإنسان بمرض الجدري، وشفى منه، ستنتهي آلامه وأخطاره، لكن آثاره ستبقى في الجلد، وسيغفر الله لكل إنسان جاء إليه تائباً، لكن الجسم الذي حطمته الخطية، لا يمكن أن يعود -بعد أن أوغل الإنسان فيها- سليماً كالذي عاش حياته عفا نقياً من بدء الحياة!!.. ومن اللازم أن نعلم أن الله يستخدم جميع الوسائل والناس، ويسيطر على الخير والشر، وعلى الأخيار والأشرار لإتمام مقاصده، ومن القديم قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً وأما الله فقصد به خيراً"... وقال شمشمون في أحجيته المعروفة: "من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة".. وقال بولس: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده".. كان يهوذا الاسخريوطي -وهو يتمم أبشع جريمة في التاريخ- كان يتمم هذا وهو لا يقصد مشورة الله المحتومة التي لابد أن تكون!!.. قال أحدهم ربما لم يكن في ركب داود في ذلك اليوم من استطاع أن يفهم عمق التفسير لكلمات داود سوى ناثان النبي،.. ومن أعظم الأمور عند المؤمنين قدرتهم في التعمق والوصول إلى الأسباب الحقيقية لمعاملات الله معهم في الحياة، بل أن التغور إلى الأسباب الحقيقية سيرفع عن المرء الكثير من الثقل والمرارة، وسيفتح أمامه طريق الرجاء والأمل والانتصار على المحنة والمعاناة،.. أن تتحول من شمعي إلى الله، وأن يختفي الإنسان مهما كان نصيبه أو مسئوليته، وأن نرى الله، ولا شخص غير الله، سنجد السبيل إلى ما هو أفضل وأسمى وأعظم أو كما قال داود في مرة أخرى: "قد ضاق بي الأمر جداً فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان"... لقد اعتنق داود فلسفة طيبة تجاه تصرف شمعي، لقد هون الأمر على نفسه بصورتين: الصورة الأولى إذ قارن بين عمل شمعي وعمل إبشالوم، فإذا كان إبشالوم قد أجاز لنفسه وهو ابن داود أن يثور على أبيه، فكم بالحري هذا البنياميني البعيد، وكانت الصورة الثانية أبعد وأعمق إذ هي صورة الله، الذي سمح لشمعي أن يفعل هذا، ولا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها، بهذا المعنى البعيد والعميق، إن النظر إلى الإنسان مرات كثيرة انتهى بالناظر إلى طريق مسدود، لكن النظر إلى الله دائماً يتفجر بالرجاء والأمل، كان داود دائماً يعلم أن الله لا يحتقر البتة القلب المنكسر والروح المنسحقة، ولأجل ذلك غطى رأسه ومشى حافياً ذليلاً في ذلك اليوم واستسلم باليقين لمراحم الله الصادقة والكثيرة، وهو يدرك تماماً أن الله لا يسمع سب الرجل الكاذب المفتري المسيء وهو شديد الأمل أن الله لا يرضى بالافتراء والتجني والكذب،.. هل نعي هذا الدرس من داود، أو بالأفضل والأعظم من ابن داود الذي قال فيه الرسول بطرس: "لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم لأنه أي مجد هو إن كنت تلطمون مخطئين فتبصرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله لأنكم لهذا دعيتم فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً مثالاً لكي تتبعوا خطواته الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتِم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل"؟!.. شمعي المنافق قضى على الثورة في مهدها، وأدرك شمعي أنه قامر وراهن على الفرس الخاسر، وأسرع لمواجة الموقف فجمع ألفاً من البنياميين ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك، وسقط على وجهه أمام داود واعترف بإثمه وافتراءه، وطلب العفو والصفح والغفران، وهنا يظهر مرة أخرى أبيشاي طالباً القضاء عليه،.. ولكن الملك كان في تلك اللحظة مأخوذاً، مشدود النفس، لا يرغب في توسيع الجراح أو مدها، أو إراقة دماء أخرى بعد مصرع ابنه، فرفض أن يرى نقطة أخرى من دم تراق في يوم النصر، وحلف للرجل ألا يقتله، خاصة وهو لا يأتي بمفرده، بل يأتي بأسلوب ماكر بألف رجل بنياميني معه،.. ومع أن انبطاحه أمام الملك، واعترافه الكامل بإثمه، وطلبه العفو يمكن أن تكون هذه أركان توبة صحيحة لو أنه كان في الداخل، كالخارج قد تاب حقاً، ولم تأت التوبة نتيجة خوفه من الملك وليس حباً فيه، أو رغبة في الولاء له،.. إن توبة شمعي في تصورنا أشبه بتوبة عيسو التي لم تأت إلا لإحساس الندم على الخسارة التي ألمت به لفقدان البركة: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. ومع أن داود وعده، وحافظ على وعده معه طيلة حياته، وعفا عنه بقسم أمام الرب.إلا أن السؤال مع ذلك يبقى: ولماذا لم ينس داود مع عفوه هذا عمل الرجل، وذكره لابنه سليمان وهو في ضجعة الموت، طالباً منه أن يتصرف معه بالحكمة، وبالكيفية التي تجعله يحدر شيبته بالدم إلى الهاوية؟؟.. أهو الضعف البشري الذي فرق بين داود في العهد القديم وابن داود في العهد الجديد؟؟ وأن المسيح ارتفع بنا إلى صفح غير المحدود والشامل والكامل، إذا قورن بصفح العهد القديم المحدود والجزئي والناقص؟!!.. أم هي التفرقة التي يدعو إليها بين الإساءة الشخصية إلى داود، والإساءة إليه كمسيح الرب،.. وأنه إذا كان يملك العفو عن الإساءة الشخصية التي توجه إليه كشخص، فإنه لا يملك العفو عن الإساءة التي وجهت إليه كمسيح الرب،.. وهو يطلب أن يتعامل معه بالحكمة التي لا تجعله ينسى أنه كيوآب ثار على الملك الشرعي الممسوح من الله، وعقابه حسب الناموس الموت؟!!.. أم أن الوصية كانت منصرفة أساساً إلى خطورة الرجلين على سليمان كملك، وأنهما أشبه بالحية التي لا يؤمن جانبها، مهما كان مظهرها أملس ناعماً، وما أسرع ما تلدغ متى واتتها الفرصة، وعلى سليمان أن يتعامل معها بكل حكمة وفطنة كما يتعامل من الأفعوان الخطر؟!!.. قد يكون الجواب في واحد من هذه، أو فيها جميعاً معاً،.. لكننا نعلم -على أي حال- أن الرجل كان مرائياً منافقاً يبطن غير ما يظهر، وهو على استعداد الطاعة فقط في الظاهر دون الخفاء، وقد أطاع كارهاً ما أمره به الملك سليمان في البقاء في أورشليم دون الخروج منها، حتى اضطر إلى الخروج بحثاً عن عبدين هاربين، ولم يدر أنه هو كان عبداً هارباً من وعده، والرياء أو النفاق لابد له من عقاب طال الزمن أو قصر!!.. وانتهت قصة شمعي بقتله، وحصد الرجل ما زرع، وكان لابد أن يكون الحصاد من نفس الزرع لأنهم لا يمكن أن يجتنوا التين أو العنب من الشوك أو الحسك!!... ولعل القصة بعد هذا كله ترينا أن الخطأ -مهما كان يسيراً أو جسيماً- لا يمكن علاجه بالنفاق والرياء، بل على العكس سيتحقق الخلاص بالاتضاع والتسليم والصدق والصراحة،.. لقد كانت خطية داود أشنع بما لا يقاس من خطية شمعي، وقد قبل داود من الله ما فعل به شمعي بكل صبر وتسليم وكأنما يقول: "صمت لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت" ورفع الرب عن كاهله المحنة القاسية: "لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". وعلى العكس فليس أقبح أمام الله من الرياء، وحق للسيد المسيح أن يصف نهاية العبد الرديء الشرير الذي يضرب رفقاءه بالقول: "يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين" وهكذا كان نصيب شمعي بن جيرا كواحد من أظهر المرائين وأخسهم وأوضعهم في كل التاريخ!!..
المزيد
29 يونيو 2022

مقاييس الخدمة ونجاحها ج1

إن مقاييس الله غير مقاييس الناس. الله هو فاحص القلوب والكلى، والعارف بحقائق الأمر. هو الذي يستطيع أن يقيّم خدمة كل أحد. ويعرف مدى فاعلية الخدمة أو روتينيتها. حقيقة الخدمة أو مظهرها.. ولاشك أننا في الأبدية سنجد أمورًا عجيبة ما كنا نتخيلها إطلاقًا.ربما نرى في الأبدية خدامًا ما كنا نسمع عنهم!! وربما بعض الخدام الظاهرين الآن، لا نراهم هناك!! حقًا إن مقاييسنا في تقييم الخدمة غير مقاييس الله.. وهنا نريد أن نفحص ما هي مقاييس الناس في نجاح الخدمة، وما حكم الله عليها. وندرس ما هي المقاييس الخاطئة، وما هي المقاييس السليمة. 1- مقدار المسئولية يقيس الناس الخدمة بحجم المسئوليات الملقاة على الخادم، بينما الله له مقياس مختلف.خذوا مثلًا إسطفانوس أول الشمامسة.إنه مجرد شماس، لم ينل رتبة أعلى من ذلك. فهل نقيس خدمته برتبته؟! كلا، بلا شك. فإن الكنيسة المقدسة تضع اسمه في مجمع القديسين قبل جميع البطاركة. وتقاس خدمتها بعمقها. وكيف أنه كان مملوءًا من الروح القدس والحكمة والإيمان (أع6: 3، 5). "وإذ كان مملوءًا إيمانًا وقوة، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب" (أع6: 8).ووقف أمام ثلاثة مجامع وأمام الذين من كيليكيا وآسيا، يحاورونه "ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع6: 10). لهذا رأينا أنه بعد وضع اليد عليه كشماس "كانت كلمة الله تنموا، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم، وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان" (أع6: 7). هكذا كانت خدمة هذا الشماس وفاعليتها، حتى أن اليهود لم يحتملوا خدمته، فقبضوا عليه ورجموه. وفي رجمه رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله" (أع7: 56). "ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك" (أع6:5). إن الإنسان في خدمته أمام الله، يوزن مجردًا من صفاته الخارجية ووظائفه. فيوزن في عمق عمله، وفي عمق قلبه، وفي قيمة خدمته.خذوا مثالًا آخر: القديس مارأفرام السرياني وما قام به من جهد كبير في الخدمة وفي مقاومة الأريوسية وفي دفاعه عن الإيمان، حتى قبل أن يرسم إغنسطسًا (أي قارئًا) من يد القديس باسيليوس الكبير. هذه الرتبة التي يحصل عليها الآن عشرات الآلاف من خدام مدارس الأحد، والتي كان يرى نفسه غير مستحق لها.ولكن الأغنسطس مارأفرام كان له وزنه الجبار في الكنيسة الجامعة، حتى أسموه "قيثارة الروح القدس" وأسموه الملفان أو "المعلم"، في أشعاره وكتاباته الروحية ذات التأثير أو العمق العجيب أترانا نقيس خدمته برتبة أغنسطس؟! أم بأثره البارز في خدمة الإيمان وفي التعليم، ليس في جيله فقط، وإنما في أجيال عديدة وحتى الآن.خذوا مثالًا آخر: الشماس أثناسيوس في مجمع نيقية المسكوني المقدس.في ذلك الوقت كان مجرد شماس، في أول مجمع مسكوني يضم 318 من الآباء الكبار، بطاركة وأساقفة، يمثلون كنائس العالم كله. ولكن عمله حينذاك لم يكن يقاس برتبته كشماس، وإنما بوقوفه ضد أريوس الهرطوقي، والرد على كل أدلته، في قوة وفي فهم عميق للكتاب والمعنى السليم لنصوصه ودلالاتها اللاهوتية.. حتى أنه -وهو شماس- قام بصياغة قانون الإيمان المسيحي في مجمع نيقية، القانون الذي تؤمن به كل كنائس العالم.. هنا الخدمة لم تكن تقاس بالرتبة، وإنما بأثرها وفاعليتها.مثال آخر هو القديس سمعان الخراز ماذا كانت رتبته؟! لا كاهن، ولا شماس، ولا حتى أغنسطس.. إنما عامل بسيط ربما لا قيمة له في المجمع، ولا وظيفة له في الكنيسة ولكن قيمة خدمته كانت في عمق عمله، وعمق صلواته، وفي إنقاذه الكنيسة كلها بمعجزة نقل الجبل المقطم أيام البابا إبرام بن زرعة وفي حضوره. هنا نوعية الخدمة، وليس علو الرتبة خذوا أيضًا مثال القديس الأنبا رويس.لم يكن أسقفًا ولا قسًا ولا شماسًا، ولم تكن له أية وظيفة رسمية في الكنيسة، ولا أية خدمة معينة. ومع ذلك دعته الكنيسة من آبائها. وكانت له خدمات تظهر يد الله فيها بكل وضوح. كذلك يمكن أن نذكر: إبراهيم الجوهري.كان علمانيًا، وله وظيفة علمانية في الدولة، أي أنه لم يكن مكرسًا للرب. ومع ذلك كانت له محبته العميقة للكنيسة، وخدماته التي لا يمكن أن تنسى التي قام بها من أجل عمارة الأديرة والكنائس، وفي العناية بالفقراء بأسلوب يضعه في مرتبة الخدام، بل أنه يفوق الكثيرين منهم مثال خارج الكنيسة القبطية هو ميشيل أنجلو. كان فنانًا. لكن خدماته في محيط الأيقونات الكنيسة، سجلت له اسمه في التاريخ وبخاصة في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان. وهنا لا نسأل عن درجته الكنسية أو عن رتبته، إنما عن عمق خدمته. والناس يعرفون ميشيل أنجلو، وربما الملايين لا تعرف اسم البابا الذي عاش أنجلو في أيامه. وإن عرفوا اسمه يقولون إنه البابا المعاصر لميشيل أنجلو..! نقطة أخرى نذكرها في مقاييس البشر الخاطئة بالنسبة إلى الخدمة، وهي شرف وعظمة المكان. 2- عظمة المكان قد ينسبون أهمية الخادم إلى أهمية وعظمة المكان الذي يخدم فيه، كأنما خدمته تستمد قدر عظمتها من المكان، وليس من الشخص، ولا من عمق ونوعية الخدمة. والواقع غير ذلك.ومن أمثلة ذلك القديس غريغوريوس النيازينزي. ينتسب إلى بلدة نيازينزا التي صار أسقفًا لها، وربما لا يعرف أحد تحديد مكانها بالضبط، غير أنها كانت إحدى مدن قيصارية كبادوكية التي تتبع للقديس باسيليوس الكبيرغير أن القديس غريغوريوس لم يستمد عظمته وشهرته من عظمة المدينة التي يخدمها، وإنما من شخصيته اللاهوتية ومحاضراته العميقة التي ألقاها عن الثالوث القدوس، حتى أن الكنيسة منحته لقب "الناطق بالإلهيات". إيبارشيته لم تمنحه الشهرة، إنما هو الذي منح الشهرة لبلدة نيازينزا المجهولة بالنسبة إلى الكثيرين.مثله أيضًا القديس أغريغوريوس أسقف نيصص.وهو أخو القديس باسيليوس الكبير. وقد رسمه أخوه على نيصص، التي لا يعرف الكثيرون مكانها. ولكنها ضمن إيبارشية قيصارية كبادوكية. هي بلدة غير مشهورة، الذي سجل اسمها في التاريخ هو أسقفها القديس غريغوريوس، الذي كتب كثيرًا ضد الأريوسيين وله تأملات كثيرة، وكتاب عن التطويبات.لا يقل أحد إذن أن خدمتي فقدت قيمتها لأنها في بلدة صغيرة أو في قرية!! ولو إنني خدمت في مدينة كبيرة، لكان لي شأن آخر!! إن السيد المسيح ولد في قرية صغيرة هي بيت لحم "الصغرى في يهوذا" (مت2: 6) وانتسب إلى مدينة الناصرة، التي كان يعجب البعض هل يخرج منها شيء صالح!! (يو1: 46). ولكنه مع ذلك أعطي الناصرة شهرة في التاريخ. وكان يدعى "يسوع الناصري" (مت26: 71). وفي نفس الوقت أيضًا منح شهرة لقرية بيت لحم، فصارت مزارًا مقدسًاخدّام آخرون يقيسون (عظمتهم) في الخدمة بطول مدة هذه الخدمة. ويعتبرون هذا نوط تقدير للخدمة! 3- طول مدة الخدمة البعض يقيس قوة الخادم بطول مدة خدمته. ومن هنا جاء تعبير (الخدام القدامى). وفي الحقيقة ليس هذا مقياسًا سليمًا. فقد يوجد خدّام لهم مدة أقصر من غيرهم، ولكنها أكثر إنتاجًا وأعظم أثرًا.يوحنا المعمدان: خدم سنة أو سنتين بالأكثر. ولكنه استطاع خلال تلك الفترة القصيرة أن يهيئ الطريق أمام الرب، ويعدّ له شعبًا مستعدًا ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته (لو1: 17).والسيد المسيح نفسه كانت خدمة تجسده قصيرة! حوالي ثلاث سنوات وثلث، قال عنها للآب: العمل الذي أعطيته قد أكملته (يو17:4). وقال عنها أيضًا "أنا مجدتك على الأرض".. أتم الفداء، والتعليم، وقدم القدوة، وصحح الأخطاء، وأعاد الصورة الإلهية للناس.البابا كيرلس الرابع، مدة حبريته أقل من 8 سنوات. ومع ذلك منحته الكنيسة عن هذه الفترة لقب (أبو الإصلاح) من أجل عمق الخدمة التي قدمها.ويعوزنا الوقت إن تكلمنا عن بعض الآباء الكهنة القس منسى يوحنا كاهن ملوي مثلًا تنيح وعمره 30 سنة. واستطاع في تلك الفترة أن يقدم آلاف من العظات، وكتاب يسوع المصلوب، وطريق السماء، وتاريخ الكنيسة الذي ألفه وهو شماس. وكان له تأثير روحي واسع النطاق على الرغم من قصر مدة خدمته.والقس أنطونيوس باقي خادم كوينز: وهو أول كاهن أرسلته إلى أمريكا سنة 1972. لم يخدم في أمريكا سوى خمسة أشهر. ولكن خدمته توجت بعبارة قالها له الشعب هناك: لقد عرفنا الرب يوم عرفناك.. الخدمة إذن لا تقاس بطول مدتها، وإنما بعمقها وقد يأتي إنسان إلى كنيسة كضيف ويلقي عظة. وتكون هذه هي كل خدمته في الكنيسة. وتمر سنوات طويلة، والناس لا ينسون تلك العظة وتأثيرها. بينما يخدم غيره في نفس الكنيسة سنوات طويلة يلقون خلالها عظات عديدة، ولكن ليس بنفس التأثير.إن يومًا واحدًا يخدمه بولس الرسول، لهو أعظم وأعمق من سنوات طويلة يخدمها آخرون. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي الجزء الأول وللحديث بقية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل