المقالات

20 أبريل 2021

مفهوم الصوم

مفهوم الصوم الصحيح: يختلف الكثيرين في فهم الصوم.. فالبعض يركز على الممارسات الجسدية من ناحية الامتناع عن الطعام (الانقطاع). والبعض يركز على الامتناع عن بعض الأطعمة (الصوم النباتي). والبعض الآخر يركز على الممارسات الروحية فقط. ولكن أفضلهم مَنْ يدمج كل هذه مع بعضها، ويفهم ويعي مفهوم الصوم بفهمه الصحيح.. فهيا بنا ندخل إلى العمق، لنرى ما هو مفهوم الصوم الصحيح. الصوم هو العودة إلى حياة الفردوس الأولى فعندما خلق الله آدم وحواء ووضعهما في الفردوس، كان طعامهما من الأطعمة النباتية، قائلًا لهم: "مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلًا، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّر فلا تأكُلْ مِنها، لأنَّكَ يومَ تأكُلُ مِنها موتًا تموتُ" (تك2: 16-17).. ولم يوصهم أن يذبحوا حيوانات ويأكلوا لحومها.وعاش آدم وحواء حسب هذه الوصية حتى أخطأوا، ووقعوا في معصية الله ومخالفة وصيته، وطُردوا من الجنة، وعاشوا هم ونسلهم على نفس هذه الأطعمة حتى فساد الأرض كلها، وإتيان الله بالطوفان على العالم في عهد نوح. بعد فناء البشرية الأولى الفاسدة وخروج نوح من الفلك، بدأ الله بالسماح له بأكل اللحوم.. "ولتَكُنْ خَشيَتُكُمْ ورَهبَتُكُمْ علَى كُل حَيَواناتِ الأرضِ وكُل طُيورِ السماءِ، مع كُل ما يَدِبُّ علَى الأرضِ، وكُل أسماكِ البحرِ. قد دُفِعَتْ إلَى أيديكُمْ. كُلُّ دابَّةٍ حَيَّةٍ تكونُ لكُمْ طَعامًا. كالعُشبِ الأخضَرِ دَفَعتُ إلَيكُمُ الجميعَ. غَيرَ أنَّ لَحمًا بحَياتِهِ، دَمِهِ، لا تأكُلوهُ" (تك9: 2-4) الإنسان الأول كان مخلوقًا نباتيًا، وحتى الحيوانات التي يطلق عليها الآن حيوانات مفترسة كانت تأكل العشب الأخضر والنباتات.. بدليل أنها عندما دخلت الفلك مع نوح كانت تأكل من نفس الأكل الذي كان يأكله نوح وبنوه.. "وأنتَ، فخُذْ لنَفسِكَ مِنْ كُل طَعامٍ يؤكلُ واجمَعهُ عِندَكَ، فيكونَ لكَ ولها طَعامًا" (تك6: 21) فبممارسة الصوم نكون قد رجعنا إلى صورتنا الأولى التي خُلقنا عليها، وهي الصورة النباتية.. نأكل نفس الأكل الذي كنا نأكله في الفردوس.. وبتهيئتنا لأجسادنا في فترات الصوم وأكلنا أكلًا نباتيًا نقترب من الفردوس الذي طردنا منه بسبب الأكل ومخالفة وصية الله. تعالوا بنا نرى ما يقوله مار اسحق لنا عن هذه النقطة: "إن أول قضية وُضعت على طبيعتنا في البدء كانت ضد تذوق الطعام.. ومن هذه النقطة سقط أول جنسنا، لذلك فإن أولئك الذين يجاهدون من أجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت أول ضربة. مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة.. فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله". مفهوم الكنيسة عن الصوم: الصوم هو حرمان عن بعض الأطعمة، يتدرج حتى يصبح زهدًا اختياريًا. وهذا ما تعلمه لنا الكنيسة.. وهو أن في بداية ممارسة أي "ممارسة روحية" تبدأ بما نُسميه (التغصب). ففي بداية ممارستنا للصوم يجب أن نحرم الجسد مما يتلذذ به، أو يرغب فيه، أو ما يفضله عن غيره.. ثم بعد ذلك يتدرج هذا الحرمان مع كل واحد منا إلى أن يصبح الإنسان ممتنعًا عن هذه الأطعمة رغبة ومحبة في الصوم، وأيضًا لأنه يصبح زاهدًا فيها بكامل إرادته. الصوم ليس إضعافًا للجسد.. بل قمعًا وإذلالًا لإنعاش الروح. فنحن نصوم ليس لكي نضعف الجسد ونهينه، أو نصل به إلى حالة لا يقوى على ممارسة الحياة، ويصبح الإنسان طريح الفراش بسبب ضعفه الجسدي بكثرة الصوم والإفراط فيه بدون إفراز وحكمة.. ولكن الصوم المصحوب بإرشاد أب الاعتراف يعتبر قمعًا لثورات الجسد، كما يقوم رجال الأمن بقمع أي ثورات ضد النظام أو السلام أو الأمن أو غيره.. هكذا الصوم يقمع تمرد الجسد على الروح.. فإذا لم نقمع هذه الثورة يتغلب الجسد على الروح وتضعف الروح،وهذا ما يجعلنا نضع الصوم من أهم الممارسات التي تنعش وتقوي الروح. الصوم ليس فرضًا موضوعًا علينا.. لكننا نمارسه لشعورنا باحتياج إليه، من أجل شقاوتنا وجسدنا المشاغب. تعلمنا كنيستنا الأرثوذكسية أن لا يوجد أي فرض في ممارسة روحية.. فالصلاة نمارسها عن محبة لإلهنا الخالق الذي يسمع لنا ويرعانا، ويهيئ كل شيء لخلاصنا.. فـ"نَحنُ نُحِبُّهُ لأنَّهُ هو أحَبَّنا أوَّلًا" (1يو4: 19). الميطانيات metanoia نعملها لكي تهيئ ذهننا للتوبة (ميطانيا = تغيير الحالة metanoia)، ونمارسها عن حب ورغبة في تقديم الجسد لله ساجدًا خاشعًا طالبًا رحمة الله لنا. كذلك الصوم نمارسه في حب الله.. رغبة منا أن نرجع إلى طبيعتنا الأولى التي خلقنا عليها في الفردوس، وأيضًا لكي يخضع الجسد للروح، وتنشط وتقوى الروح على الجسد، وذلك حسب قانوننا الروحي. فنحن نشعر باحتياجنا لهذا الصوم، لذلك نصوم حبًا في الصوم وليس لأنه فرض.. فنحن في المسيحية لا يوجد عندنا فروضًا موضوعة علينا يجب أن نمارسها حتى عن عدم اقتناع لكي نعبِّر عن عبادتنا. نحن نصوم لأننا نحتاج إلى الصوم، لكي نلجم الجسد الجامح، لكي ينقذنا الله من جسد الخطية.. "لأني لستُ أفعَلُ الصّالِحَ الذي أُريدُهُ، بل الشَّرَّ الذي لستُ أُريدُهُ فإيّاهُ أفعَلُ. فإنْ كُنتُ ما لستُ أُريدُهُ إيّاهُ أفعَلُ، فلستُ بَعدُ أفعَلُهُ أنا، بل الخَطيَّةُ السّاكِنَةُ فيَّ. إذًا أجِدُ النّاموسَ لي حينَما أُريدُ أنْ أفعَلَ الحُسنَى أنَّ الشَّرَّ حاضِرٌ عِندي. فإني أُسَرُّ بناموسِ اللهِ بحَسَبِ الإنسانِ الباطِنِ. ولكني أرَى ناموسًا آخَرَ في أعضائي يُحارِبُ ناموسَ ذِهني، ويَسبيني إلَى ناموسِ الخَطيَّةِ الكائنِ في أعضائي. ويحي أنا الإنسانُ الشَّقيُّ! مَنْ يُنقِذُني مِنْ جَسَدِ هذا الموتِ؟" (رو7: 19-24). الصوم لم يرتب للتكفير عن الذنوب والخطايا، لكن لإعداد النفس لاقتبال الله.. إذ لا يوجد عمل ما يكفر عن الخطايا.. سوى دم السيد المسيح المسفوك على عود الصليب. فإيماننا المسيحي يعلمنا أنه لا توجد ممارسات تستطيع أن تكفر عن الخطية.. فالشيء الوحيد الذي يكفر عن خطايانا هو دم السيد المسيح.. ففكرة الكفارة تتم بالدم وليست بالممارسات. لذلك فالصوم دوره الأساسي هو ضبط شهوات الجسد، وفيه أيضًا يتم ضبط الفكر والحواس.. وحينما يضعف الجسد من الصوم، ويتذلل أمام الله تقوى الروح وتنشط.. وهذا هو الهدف المرجو من الصوم. والقديس باسيليوس الكبير يقول: "لقد نُفينا من الفردوس الأرضي لأننا لم نصم. فيجب أن نصوم لنرجع إلى الفردوس السمائي، لأن الصوم يرد إلينا الخسائر المسببة عن عدم صوم آدم، ويصالحنا مع الله". ونحن نصوم لأن كثرة المأكولات تحرك الشهوات.. وهذا ما نلاحظه على مَنْ يأكلون كثيرًا وتقوى أجسادهم بطريقة غير مألوفة، نجد عندهم استعدادًا كبيرًا جدًا للغضب، فهو لا يمتلك نفسه ولا أعصابه، كذلك أيضًا للقتل معتمدًا على قواه الجسدية.. بل الأكثر من ذلك عندما يقوى الجسد أكثر من اللازم يصبح الإنسان له ميول جسدية ورغبة في ممارسة خطية الزنا.هذه الخطايا يقع فيها البعض الشرهين في تناول الأطعمة بحاجة وبدون حاجة.. لذلك نقول إن القصد من الصوم هو إذلال الجسد وإخضاعه فضلًا عن الحد من تغذيته.فالقديس يوحنا كسيان يقول: "حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام فذلك يولد بذور الفسق، والعقل حينما يُخنق بثقل الطعام لا يقدر على توجيه الأفكار والسيطرة عليها. فليس السكر من الخمر هو الذي يذهب العقل، لكن الإسراف في كل أنواع المآكل يضعفه، ويجعله مترددًا، ويسلبه كل قوته في التأمل النقي. فإن كانت زيادة الخبز وحده أدت إلى مثل هذا السقوط السريع في الخطية عن طريق رذيلة الشبع.. فماذا نقول عن أولئك الذين لهم أجسام قوية ويأكلون اللحم ويشربون الخمر بإفراط، غير مكتفين بما تتطلبه أجسادهم.. بل ما تمليه عليهم رغبة العقل الملحة". لذلك نجد جميع الآباء القديسين حذروا من كثرة المأكولات والنهم فيها.. ومن امتلاء المعدة.. هذه العادة الغير مرغوبة قد تسيطر على البعض فيتعود الإنسان أن يأكل فوق ما يحتاج.. فيصبح الأكل عنده غاية. يذكر عن بعض الشعوب اليونانية في إحدى العصور أنه سيطر عليهم حب الأكل والتلذذ به طوال الوقت.. فيذكر عنهم أنهم يأكلون كثيرًا طالما جالسين أمام الطعام، ثم يقومون ويذهبوا إلى W.C لكي يتقيئوا لكي يعودوا للأكل مرة أخرى.. فأصبح الأكل عندهم ليس لسد حاجات الجسد، ولكنه شهوة سيطرت على الإنسان.. فيظل الإنسان يأكل بدون ضابط مثل الحيوانات.توجد علاقة طردية بين كثرة الأكل وأفكار الدنس والإدانة ... كلما أكثر الإنسان من تناول الطعام والشراب كثرت هذه الأفكار، وتوالت عليه حروب الشيطان.. وخاصة حروب الفكر.. ويقع الإنسان فريسة سهلة للشيطان، وذلك بسبب امتلاء البطن من الأطعمة لذلك مع كثرة الأطعمة وامتلاء البطن يظلم العقل ويصبح كالسماء المليئة بالسحب والغيوم.. فالإسراف في الأكل والشرب يأتي بالضرر الروحي والجسدي على الإنسان.. ويصبح الإنسان في حالة استرخاء وخمول مما يجعله ضحية للشيطان وأيضًا للأمراض الجسدية.إلهنا الصالح الذي قدّس الصوم بصومه أربعين يومًا قادرًا أن يقدس صومنا، ويجعله صومًا روحانيًا نسعى فيه لبناء الروح، ولضبط شهوات الجسد والفكر والحواس لكي تتقدس حواسنا وأرواحنا وتتنقى أفكارنا.ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
19 أبريل 2021

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السابع من الصوم المقدس

المزمـور: «12أَحْمَدُكَ يَـا رَبُّ إِلهِي مِـنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْـرِ. 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ الْسُفْلَى» (مز 86: 13،12). الإنجيل: «31إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا.32اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.33أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. 34وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. 36وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَـدْ أَرْسَلَنِي. 37وَالآبُ نَفْسَهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِـهِ. 39فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الِّتِي تَشْهَدُ لِي.40وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. 41مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ 45لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟» (يو 5: 31-47). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: إنجيل قدَّاس اليوم يحتاج منَّا إلى شرح. وإن كنتُ أودُّ أن يكون الكلام لأنفسنا؛ ولكن لأن الكلام يظهر كما لو أنَّ فيه نوعاً من التعارُض، لذلك أصبح لِزاماً عليَّ أن أشرحه أولاً. في الأصحاح الخامس (يو 5: 31)، نجد أن الرب يسوع يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا»؛ بينما في الأصحاح الثامن (يو 8: 14)، يقول: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». هنا نجد تعارُضاً ظاهرياً بين الآيتين، لابد أن نحلَّه أولاً. سنشرح الوضع المذكور في إنجيل يوحنا - الأصحاح الثامن. فالمسيح يُقرِّر في شهادته لنفسه أن‍ها حـقٌّ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، أن‍ها شهادة شخصية مُفردة، وذلك في ردِّه على الكَتَبَة والفرِّيسيين الذين كانوا يقولون له: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، في أعقاب قوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ». وكان كلامهم على أساس الناموس الذي يُقرُّ أنه لا تؤخذ شهادة شخصية من شخصٍ بعينه، بل كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَيْن أو ثلاثة. ففي هذه الواقعة يقول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». على أيِّ أساس؟ على أساس مـا ذَكَره الرب لاحقاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِـنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ». هـذه هي الحجَّة التي ذَكَرها المسيح: ”إنني أشهد لنفسي، وشهادتي حقٌّ؛ وأشهد شهادة شخصية، وهي حقٌّ؛ لأني أعلم من أين أتيتُ وإلى أين أذهب!“.هنا يُوضِّح المسيح أنه جاء من عند الله، وإلى الله سيذهب! إذن، فهو من الله. وإذن، هو من الحقِّ، وإلى الحقِّ يذهب. إذن، هو حقٌّ، وهو يشهد للحقِّ! فالحقُّ لا يطلب شهادة من أحدٍ، تماماً مثل النور، الذي يشهد لنفسه. فهل إذا كان النور مُشرقاً، يحتاج لِمَن يشهد أنَّ هذا نورٌ؟! هكذا المسيح، لأنه يشهد للحقِّ، فهو لا يحتاج إلى شهادة إنسانٍ قط! لماذا؟ لأنه هو نفسه جوهر الحق، فأصبح لا يحتاج إطلاقاً أن يشهد له آخر. وفي نفس الأصحاح الثامن، يقول المسيح: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 18). هنا الرب لا يقصد أن هذه شهادة اثنين، ولكن لكي يسدَّ ثغرة الناموس، التي فتحها الكَتَبَة والفرِّيسيون بقولهم: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، قـال لهم: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ». فهي شهادة اثنين بالنسبة لهم؛ أما بالنسبة له، فهو يشهد للحقِّ الذي فيه، والحق الذي في الآب. وبالتالي فهو غير محتاج أن يشهد له شخصٌ آخر. أمَّا في الأصحاح الخامس من إنجيل قدَّاس هذا الصباح، فإنَّ الرب يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا». هنا ينطلق المسيح من مبدأ آخر غير الناموس الذي يُقرُّ أنَّ كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَين أو ثلاثة، هذا المبدأ الهام يُوضِّحه بقوله: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ». فعلى أيِّ أساس يقول المسيح: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ»! بالرغم من معرفتنا جيداً أنه يُطالبنا أن نُمجِّده؟ ذلك على أساس أنه لا يشهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس؛ لأنه إذا شهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس، تكون شهادته حينئذ ليست حقّاً. لماذا؟ لأنه في هذه الحالة يطلب مجد نفسه؛ والذي يطلب مجد نفسه، لا يطلب بالطبع مجد الله! فالمسيح يقول ما معناه: ”إن كنتُ أشهد لنفسي لأتقبَّل مجداً أو كرامةً من الناس، تكون شهادتي ليست حقّاً“. فهو يَعتَبِر أنَّ شهادة يوحنا المعمدان، وشهادة كل الأنبياء، وشهادة موسى نفسه وكل التوراة؛ هي للإعلان عنه، أو لاستعلان مجده فقط. ولكنها جميعها غير قادرة أن تُضيف إليه مجداً. فهو في غير حاجة إلى كلام النبوَّات لتشهد له، لأنه هو بعينه الحق. النبوَّات جاءت لكي يعرف الناس أنَّ المسيح هو الحق، وليس لكي يُزيدوه حقّاً أو مجداً! ولذلك بعد أن قال لهم المسيح: «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ»، أردف قائلاً: «وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فالمسيح في مطلع هذا الأصحاح، يقول: «اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ»، هذا الكلام هو عن ”الآب“. والشهادة إذا كانت حقّاً، فتكون من الآب؛ أمَّا إذا كانت الشهادة للحقِّ، فتكون من يوحنا المعمدان! «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ». لماذا وجَّه المسيح النظر إلى يوحنا المعمدان؟ لقد وجَّه المسيح نَظَرَهم، بل ونَظَرنا نحن أيضاً، إلى يوحنا المعمدان، ذلك لكي يُظهِر أن شهادة يوحنا المعمدان، وكذلك كل الشهادات السابقة عليه، حتى موسى النبي؛ هي شهادات لأجلنا نحن، وليست له هو. ولذلك قال: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فكل ما قاله المسيح، وكل ما عمله، وكل ما شهد به للحقِّ؛ هو من أجلنا نحن، وليس من أجل أن يتمجَّد هو! إذن، أصبح قول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، هي في نظرنا وفي نظر السامعين له، لمجد الله الآب. وبالتالي فتكون شهادته لنفسه حقّاً، لأن‍ها لمجد الآب.أمَّـا إذا كـانت شهادة المسيح لمجد نفسه، فتكون هـذه الشهادة ليست حقّاً. ذلك لأن الفرِّيسيين ات‍هموه أنـه يشهد لنفسه، أي يطلب مجد نفسه، يسعى لمجده الذاتي. وفي الحقيقة هم تكلَّموا ب‍هذا الكلام، لأن‍هم مُلوَّثون بالبر الذاتي، وب‍هذه الأفكار. ولذلك فإنَّ المسيح أَظهر ما في نيَّتهم، وكَشَفَ إيمان‍هم وأعمالهم، وبالتالي أنـذرهم قائـلاً: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟» (يو 5: 44). مُحاصرة المسيح للفرِّيسيين: في الحقيقة، إنَّ مَن يقرأ هـذا الأصحاح (الخامس)، إذا لم يتمعَّن في هذه الآية التي ذُكِرَت آنفاً، سوف لا يفهم الأصحاح كله. فـالرب يسوع حاصر الفرٍِّيسيين من خلال هذه الآية، وكَشَفَ ما في داخلهم: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِـنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟». فوراء هـذه الكلمات معاني مخفية، إذ أنَّ العبادة والإيمان انقلبا عند الفرِّيسيين إلى فرصةٍ لتمجيد ذوات‍هم. فعبادت‍هم ليست عبادةً حقيقية، فهي ليست للحقِّ، ولا من أجل الحقِّ؛ ولكنها عبادة تبتدئ بأنفسهم، وتنتهي إلى أنفسهم! لقد توزَّعت عليهم درجات التكريم والتمجيد من الناس، بل وطالبوا الناس ب‍ها. وبالتالي اهتموا جدّاً بالكرامات الذاتية، والأمجاد الذاتية؛ في الوقت الذي نَسَوْا فيه مجد الله وكرامته! ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». وهذا معناه - بحسب قـول المسيح - إن‍هم تغاضوا عـن مجد الله: «وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ». فَهُم أولاً نَسَوْا مجد الله، ثم بعد ذلك أهملوه، ثم أخيراً أحسُّوا أن‍هم في غير حاجة إليه! وبالتالي لم تبقَ العبادة - بالنسبة لهم - أساسها تمجيد الله، أو السعي لتمجيده، بالتسبيح أو بالصلاة أو بالسجود أو بالترتيل أو بكلِّ أنواع العبادة! فالعبادة كلها التي كان ينبغي أن تَصُبَّ في اتِّجاهٍ واحد، وهو مجد الله؛ أصبحت بكل ما فيها من كلام وتحية وصلاة وتسبيح لأجل مجد ذوات‍هم. وذلك لكي تُظهِر الشخص منهم أنه يعرف أن يُسبِّح بإتقان، ويعرف أن يتكلَّم جيِّداً، ويعرف أن يعظ بتدقيق؛ هذا كله من أجل مجد الشخص الذاتي، وليس مجد الله، ولذلك انتهت العبادة الحقيقية! استحالة أن يتوافق الإيمان الحقيقي مع طلب الإنسان مجده الذاتي: ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا...؟». فيستحيل الإيمان الحقيقي طالما أنَّ الإنسان يطلب مجد نفسه. وبالتالي يستحيل أن يسمح له الله أن يُمجِّده، مهما حاول! هذه نقطة خطيرة يُثيرها المسيح. فهذا الأصحاح من إنجيل القديس يوحنا يُركِّز على هذه النقطة بشدَّة، لأن‍ها في الحقيقة أكبر لوثة لوَّثت العبادة والإيمان، أن يطلب الإنسان تزكية لنفسه، أن يسعى لمجد ذاته. كل هذا مِمَّن يطلبه الإنسان؟ يطلبه من إنسانٍ مثله!! إذا قرأنا في إنجيل القديس متى، نجد ما هو أصعب وأكثر مِمَّا قيل في إنجيل القديس يوحنا، إذ يقول المسيح عـن الكَتَبَة والفرِّيسيين: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِـمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِـمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (مـت 23: 5-7). متطلبات الشهادة للمسيح: ولكن لا يتبادر إلى ذهن أحد، أنَّ المسيح لا يُريد شهادة من إنسان! فهو بالرغم من أنه غير محتاج إلى شهادة من أحدٍ، إلاَّ أننا نحن المحتاجين أن نشهد له. أن نشهد للمسيح بالقول والفكر والعمل، في كل موقف مـن مواقف الحياة: إن أكلنا لابد أن يكون ذلك لتمجيد الله، وإن شربنا كذلك، وإن نمنا، وإن عملنا أي عمل، لابد أن يكون كل ذلك لمجد الله! لماذا؟ لأنه، في الحقيقة، إذا مجَّدنا المسيح أو شهدنا له؛ فنحن نشهد للحقِّ. معنى هذا أنَّ الحق انكشف لنا، أنه استُعلِنَ لأعيننا. فنحن أبناء الإيمان، أولاد الشهداء. فالشهادة للمسيح ينبغي أن تكون عـن وعيٍ تام، ذلك أننا نشهد للحقِّ. فالحق لابد أن يكون مُستَعلَناً لنا تماماً، حتى تكون الشهادة له ذات فاعلية في قلوب الناس وعقولهم.فالإنسان الذي يشهد للمسيح، وهـو لا يُدرك شيئاً كثيراً عنه، فيكون إنساناً بسيطاً وساذجاً! ولكن الشهادة للمسيح عن وعيٍ وإدراك، تحتاج تلمذة لفتراتٍ طويلة قدَّام الإنجيل، وتحتاج لصلواتٍ متواترة، تحتاج لسؤال مَن لهم خبرة في الحياة الروحية... إلخ؛ حتى يستوعب الإنسانُ الحقَّ. أمَّا إذا شهدنا بكلماتٍ لا نعرف معناها ولا عُمقها؛ فهنا نكون كمَن لا يشهد إطلاقاً، إذ تكون شهادة بلا قيمة، وبالتالي لا تُقبَل شهادتنا! المسيح يطلب الذين يشهدون له، وهـو يطلب الساجدين له، وكذلك «الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو 4: 23). المسيح يطلب أننا نُمجِّده ليلَ ن‍هار؛ لأننا إذا مجَّدناه نكون قد وصلنا إلى مفهوم مجد الله، الذي هو يفوق كل أمجاد الدنيا! مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ ولكن، مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أي مجدٍ آخر! يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أمجاد العالم! هذا هو الذي يُمجِّد المسيح. هنا المسيح يطلب الذين يشهدون له، كما قال: «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27،26)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).فالكرازة بالإنجيل هي شهادةٌ، والشهادة تمجيدٌ لاسم المسيح. فالشهادة والتمجيد صنوان عزيزان لا يفترقان أبداً. فكل مَن يشهد يُمجِّد الله، وكل مَن يُمجِّد الله يشهد له. المسيح بعدما صعد إلى أعلى السموات، أرسـل موعـد الآب لكي يشهـد له. لماذا؟ لأن الكرازة بالمسيح ما زالت سارية في العالم، بالروح القدس وبنا نحن! إذا توقَّفت الشهادة، انتهت الكرازة بالمسيح في الأرض كلها، ولذلك قال الرب: «وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18: 8)، أي يجد الشهادة له! ولذلك أين نحن مـن الشهادة للمسيح؟ فالروح القدس لا يمكن أن يقف عاطلاً عن الشهادة للمسيح! والآن، سأسرد الشهادات التي قالها المسيح من أجل خلاصنا: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ» (يو 5: 34)، «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27). فعلى أيِّ أساس نشهد؟ على أساس الشهادة التي شهد ب‍ها المسيح عن نفسه، لأنه هو الحق. وما هو منهج الشهادة؟ نحن لا نشهد من عندياتنا، ولا نخترع شهادةً مُعيَّنة؛ فالرب يسوع هو الذي وضعها كلها! شهادة الرب يسوع عن نفسه: + «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُـوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13). معنى هذا أنَّ السماء انفتحت لنا! + «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 51). معنى هذا أننا نقتني الحياة! + «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51). إذن، فقد انفتحت السماء بعد قرونٍ طويلة! + «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو 6: 54). نحن نأكل جسد الرب ونشرب دمه كل يوم، ولذلك فلنا حياة كل يوم. فنحن لا ننتظر الحياة الأبدية، ولكننا نعيشها منذ الآن! + «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57). نأكلك يا ربنا يسوع المسيح؛ إذن، فنحن الآن أحياء بك وفيك للآب! + «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو 7: 37). من الآن لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه عطشان بالروح أبداً، فالينبوع مفتوحٌ: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 38). تشرب أنت، وتروي الناس العطاشَى! + «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).المسيح كما قـال للسامريـة: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»؛ يطلب منَّا أيضاً أن يشرب، يشرب من صلاتنا، من دموعنا، من قَرْع صدورنا، من سجودنا. فالمسيح ليس عطشاناً للماء الذي تحمله السامرية، ولكنه عطشانٌ لها، لخلاصها؛ فهو عندما رواها من مائه الحي، ارتوى هو! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ... طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34،32). + «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14).مـاء المسيح يروي. إذا دَخَلْتَ في أعماق الكلمة، تروي عطشك لسنين قادمة. الكلمة الواحدة إذا انفَتَحَتْ لك، تعيش ب‍ها طوال العمر! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ» (يو 4: 32).عرِّفنا، يا ربُّ، ما هذا الطعام؟ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). هذا هو الطعام الحقيقي، أن نصنع مشيئة الله. هذا هو غذاؤنا الذي سيرفعنا إلى أعلى! + «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).لقد عرفنا، يا ربُّ، أنه ليست لنا ظلمة! كل مَن يقول إنه يعيش في الظلمة، فهو لا يقول الحق. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه مظلومٌ، لأن معنى أنه مظلومٌ، أي أنه يعيش في الظلمة. نور العالم غير منطفئ أبداً، ولا يمكن أن ينطفئ! + «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46).آمِن بالرب يسوع المسيح، فتنفتح لك العين العالمة بكـلِّ شيء، العين التي ترى وتعرف وتفهم حتى أعماق الله! + «لأَنَّـهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الاِبْـنُ أَيْضاً يُحْيِي مَـنْ يَشَاءُ» (يو 5: 21).نحن موتاك، يا ابن الله، وقد حيينا بك، ونحيا كل يوم! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْـنِ اللهِ» (يو 5: 25).الآن، يـا ربُّ، يا ليته يكون. أيها الأموات، أتسمعون صوت ابـن الله؟ «وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ». هذا وعدٌ، والله لا يحنث بوعده! + «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).مُتنا، يا ربُّ، وحيينا فيك، وكل يوم نموت ونحيا! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يو 5: 24).نعم، قـد انتقلنا، يا ابن الله. فـلا دينونة الآن علينا. نحن قد عبرنا الدينونة، لأننا آمنَّا بك، يا ابن الله. قد سمعنا كلامك، ودخل قلوبنا، فلن يَقْوَى علينا الموت! + «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12: 32).أيها القطب الجاذب، نحن فيك، يا ربُّ، ناظرين إلى فوق، وعيوننا لا ترتخي إلى الأرض! + «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).نعم، يا ربُّ، نحن نسير في طريقك، فلنا فيك حياة. ولا يمكن أبداً أننا نَزِلُّ، لا يميناً ولا يساراً، لأنك أنت هو ”الطريق“. نحن لا نسير على الطريق، أنت الطريق، ونحن نسير بك وفيك! + «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 14: 6).رأيناك، يا ابن الله، في قلوبنا. رأيناك في كلِّ كلمة. رأيناك في إنجيل كل يوم، ورأينا الآب فيك! + «قَالَ يَسُوعُ: ”الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً“» (يو 13: 32،31).المجد الذي لك، يا ابن الله، محفوظٌ لك. ونحن أيضاً مجَّدنا ونصيبنا السماوي محفوظٌ لنا فيك! + «أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو 8: 23).ونحن أيضاً، يا ربُّ، لم نَعُد ولم نَصِر من هذا العالم! + «فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: ”أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ“» (يو 18: 37).نحن نشهد بشهادتك، يا ابن الله، أنك أنت أتيتَ وشهدتَ واعترفتَ الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي! + «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27؛ يو 13: 3).نشكر الله، لقـد انكشفت لنا أعماق الله. انكشفت لنا كـل أسـرار الله الآب في المسيح يسوع. لم نَعُد معوزين شيئاً مـن معرفة كل الأمور التي عند الآب، فقد أخبرنا ب‍ها الرب يسوع. قد صارت لنا السموات منذ الآن كصفحةٍ مقروءة، ككتابٍ مفتوح، نقرأه كل يوم! + «فَـإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُـلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (مت 16: 27).أعمالنا، يا ربُّ، وراؤنا، وأنت أمامنا. قد مَحَوْتَ كل خطايانا كغيمة صيف. نحن أمامك وأمام الآب بلا لوم في المحبة وقدِّيسون! + «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت 25: 31-34).كل الذين باركوا الآب، سيجلسون عن يمينه، وسيُقال لهم: «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ»! نُباركك، يا ابن الله، ونبارك أباك الصالح، كل يوم وكل لحظة! + «دُفِعَ إِلَيَّ كُـلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ...» (مت 28: 19،18).يقـول المسيح: ”بسلطاني، بالكلمة التي سأنطقها في أفـواهكم، بـالروح الذي سأسكبه على ألسنتكم؛ سوف تذهبون وتكرزون“! «هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي» (لو 24: 49). يا أحبَّائي، انظروا، هـذه هي شهادات المسيح عن نفسه. انظروا كيف أن‍ها كلها تنطق بمجده، مع أنه لا يطلب من ورائها مجداً لنفسه!وفي كل هذه الشهادات التي شهدها المسيح، يَصدُق قوله: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». ففي كل آية من هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً، تكمن زاوية من زوايا خلاصنا.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 أبريل 2021

أحد المولود أعمى الأحد السادس من الصوم الكبير إنارة المعمودية

ارتباط قراءات الفصول: إنارة المعمودية تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "إنارة المعمودية" أي استنارة بصيرة الذين ينالون سر المعمودية، ففي إنجيل العشية يحثهم المخلص على الدخول من الباب الضيق أي على احتمال ضيقات الحياة المقدسة كما أوصى بذلك الرجل الذي سأله قائلا "أقليل هم الذين يخلصون"، وفي إنجيل باكر يحذرهم من الرياء كما حذر تلاميذه والجموع من التشبه برياء الكتبة والفريسيين، ويعدهم في إنجيل القداس بإنارة بصيرتهم المرموز إليها برد البصر للمولود أعمى، وفي إنجيل المساء يتحنن عليهم كما تحنن على أعمى بيت صيدا ورد إليه البصر.ويوصيهم الرسول في البولس بوجوب التجدد روحيًا على أثر نيل المعمودية كما أوصى بخلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد ؛ ويعدهم يوحنا في الكاثوليكون باستجابة الله لصلواتهم التي يرفعونها عن أنفسهم وعن غيرهم، أما الإبركسيس فيتحدث عن تعزية الله لهم في الضيقات كما أكد بولس لرفاقه في السفينة التي تعرضت لخطر العاصفة أن شعرة واحدة من رءوسهم لا تسقط مزمور العشية: بلسان المعتمدين الذين تعهدوا لدى معموديتهم أن يسيروا بالاستقامة، وهم الذين يوصيهم المخلص في فصل الإنجيل أن يدخلوا من الباب الضيق، بلسانهم يعترف هذا المزمور إلى الله بتجاربه التي حلت بهم لامتحان نقائهم، وهي المقصودة بعبارة " الباب الضيق "، ثم يتضرع إليه أن يثبتهم في حقه إذا تعرضوا لمثلها فيقول "جربت قلبي وتعهدتني ليلًا. ومحصتني بالنار فلم تجد في ظلمًا. ثبت خطواتي في سبلك. فلم تزل قدماي". إنجيل العشية: (لو 13: 22 – 35) يتكلم هذا الفصل عن حث المخلص للمعتمدين على الدخول من الباب الضيق أي على احتمال ضيقات الحياة المقدسة لكي يخلصوا، ودليل ذلك رده على الرجل الذي سأله قائلًا أقليل هم الذين يخلصون بقوله له"اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق". إنجيل باكر: (مت 23: 1 – 39) يتكلم هذا الفصل عن تحذير المخلص للمعتمدين من الرياء ودليل ذلك قوله لهم عن الكتبة والفريسيين " فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون". مزمور القداس: (مز40: 1) بلسان الرجل المولود أعمى الوارد ذكره في فصل الإنجيل، والذي هو كناية عن غير المؤمن الذي لم يتقدم بعد إلى المعمودية، وقال عن نفسه في المزمور "فنيت روحي"، بلسانه يتضرع هذا المزمور إلى الله ألا يحجب وجهه عنه أي أن ينير بصيرته، وهذا كناية عن طلب استنارة المعمودية، وأن يستمع إلى طلبته فيقول " استجب لي يا رب عاجلًا فقد فنيت روحي. لا تحجب وجهك عنى. يا رب استمع صلاتي. أنصت بحقك إلى طلبتي". إنجيل القداس: (يو 9: 1-41) يتكلم هذا الفصل عن إنارة المخلص لبصائر المعتمدين، ودليل ذلك قوله للمولود أعمى الذي آمن به بعد أن استرد بصره على يديه " لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ". البولس:(كو3: 5-17) تجدد المعتمدين: في هذا الفصل يناشد الرسول المعتمدين أن يميتوا أعضائهم التي على الأرض حيث قد خلعوا الإنسان العتيق مع أعماله ولبسوا الجديد الذي يتجدد للمعرفة. ويوصيهم قائلًا "فألبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا.. وعلى جميع هذه ألبسوا المحبة..وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به". الكاثوليكون:(1يو5: 13-21) استجابة الله لصلواتهم: وهنا يبين الرسول لهم أنه بمقتضى الثقة التي لنا عند الله "إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا"، وأن صلواتنا عن أنفسنا وعن الغير تستجاب وذلك بقوله "إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت ". الأبركسيس: (أع27: 27-37) تعزيتهم في الضيق: أما هذا الفصل فيصف الخطر الذي تعرض له بولس ورفاقه وهم في السفينة حين ثارت عليها العاصفة مدة أربع عشرة ليلة، ثم يذكر أن بولس طلب إليهم وقد مضت عليهم هذه المدة صائمين أن يتناولوا طعامًا، وأنه قال "لأن هذا يكون مفيدًا لنجاتكم لأنه لا تسقط شعرة من رأس واحد منكم"، وقد ابتهج الجميع بهذه التعزية وأكلوا. إنجيل القداس [يوحنا 9: 1 – 41] وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته فسأله تلاميذه قائلين يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه ينبغي أن اعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار يأتي ليل حين لا يستطيع احد أن يعمل ما دمت في العالم فانا نور العالم قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل فمضى واغتسل واتى بصيرًا فالجيران والذين كانوا يرونه قبلًا انه كان أعمى قالوا أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي آخرون قالوا هذا هو وآخرون انه يشبهه وأما هو فقال إني أنا هو فقالوا له كيف انفتحت عيناك أجاب ذاك وقال إنسان يقال له يسوع صنع طينًا وطلى عيني وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل فمضيت واغتسلت فأبصرت فقالوا له أين ذاك قال لا أعلم فأتوا إلى الفريسيين بالذي كان قبلًا أعمى وكان سبت حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه فسأله الفريسيون أيضًا كيف أبصر فقال لهم وضع طينًا على عيني واغتسلت فأنا أبصر فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت آخرون قالوا كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات وكان بينهم انشقاق قالوا أيضًا للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث انه فتح عينيك فقال إنه نبي فلم يصدق اليهود عنه انه كان أعمى فأبصر حتى دعوا أبوي الذي أبصر فسألوهما قائلين أهذا ابنكما الذي تقولان انه ولد أعمى فكيف يبصر الآن أجابهم أبواه وقالا نعلم أن هذا ابننا وانه ولد أعمى وأما كيف يبصر الآن فلا نعلم أو من فتح عينيه فلا نعلم هو كامل السن أسالوه فهو يتكلم عن نفسه قال أبواه هذا لأنهما كانا يخافان من اليهود لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا أنه أن اعترف احد بأنه المسيح يخرج من المجمع لذلك قال أبواه انه كامل السن اسألوه فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له أعط مجدا لله نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ فأجاب ذاك وقال أخاطئ هو لست اعلم إنما أعلم شيئًا واحدًا أني كنت أعمى والآن أُبصر فقالوا له أيضًا ماذا صنع بك كيف فتح عينيك أجابهم قد قلت لكم ولم تسمعوا لماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا ألعلكم انتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك وأما نحن فإننا تلاميذ موسى نحن نعلم أن موسى كلمه الله وأما هذا فما نعلم من أين هو أجاب الرجل وقال لهم أن في هذا عجبًا أنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة ولكن أن كان احد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا أجابوا وقالوا له في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا فأخرجوه خارجًا فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا فوجده وقال له أتؤمن بابن الله أجاب ذاك وقال من هو يا سيد لأؤمن به فقال له يسوع قد رايته والذي يتكلم معك هو هو فقال أومن يا سيد وسجد له فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له ألعلنا نحن أيضًا عميان قال لهم يسوع لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية ولكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية إن شفاء المولود أعمى يعلن عن شخص السيد أنه جاء يفتح البصيرة الداخلية، لكي يتعرف المؤمنون على أسرار الله. وفي نفس الوقت يفضح عمى القيادات المرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها! ومع أهمية هذه الآية الفريدة من جهة خلق عيني مولود أعمى إلاَّ أن الإنجيلي لم يذكر لنا اسم الأعمى، ولا أورد تفاصيل كثيرة عنها إنما قدم الحوارات المتبادلة بخصوص هذه الآية، خاصة أحاديث السيد المسيح مع التلاميذ ومع الأعمى نفسه كما مع الفريسيين. فإن ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس إبراز ما في الآية من عملٍ معجزي فائق، وإنما في تمتع البشرية بعمل المسيح الإلهي في حياتهم وأفكارهم.لقد استخدم التراب في خلقة العينين ليؤكد أنه الخالق المخلص، أما طلبته من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه المعمودية لننعم باستنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد. لقد طرد اليهود المتمتع بالاستنارة ليجد له موضعًا لدى السيد المسيح، مسيح المطرودين والمرذولين.إن كان البعض من الشعب قد أدرك عماه وأيضًا كثير من الأمم فإن هذين الفريقين أفضل من الفريسيين الذين مع عماهم ادعوا أنهم مبصرون. بإدعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، أما العشار والزانية فإذ اعترفا بعماهما انفتح أمامهما باب الرجاء ليتمتعا ببصيرة فائقة وينعما بالحياة الأبدية في المسيح يسوع.خلال هذا العمل أمكن للبصيرة أن تتدرج في معرفة شخص ربنا يسوع: + إنسان يُدعى يسوع [11]. + إنه نبي [17]. + إنسان من عند اللَّه [33]. + ابن الإنسان السماوي [35]. + مستحق للسجود والعبادة بكونه الرب [38]. وفي هذا الفصل من الإنجيل نجد النقاط التالية: * شفاء الأعمى "وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته". [1]إن كان السيد المسيح قد اجتاز في وسط القيادات اليهودية واختفى منهم لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (8: 59)، نراه يجتاز بجوار أعمى مسكين يستعطي، فيتطلع إليه لا كما يتطلع الآخرون إليه، إنما بروح الحب والترفق. إنها صورة حية للسيد المسيح الذي رفضه اليهود المعتزين بالهيكل، ليسير كما في الشوارع يطلب الأمم. إنهم عاجزون عن رؤيته لأنهم بلا نبوات ولا شريعة إلهية ولا رموز؛ إنهم أشبه بالمولود أعمى، مكانه الطريق، فقير يستعطي في حالة بؤس. وكما يقول أيوب البار: "لِمَ يعطي لشقي نور، وحياة لمُريّ النفس" (أي ٣: ٢٠).لم يذكر الإنجيلي أين كان مجتازًا ولا إلى أين يذهب، لكنه إذ كان مجتازًا كحامل للآلام رأى هذا المولود أعمى. وكان فقيرًا يستعطى، في مكانٍ معين، حيث يقدم له بعض المحسنين عطاءً لكي يعيش. كان معروفًا في المدينة أنه مولود أعمى، ولم يسأله الشخص ولا من هم حوله، ولا حتى تلاميذ السيد من أجل تفتيح عينيه، ربما لأنه لم يتوقع أحد حدوث ذلك.تطلع إليه ربنا يسوع لكي يجده الأعمى المسكين، وكما جاء في إشعياء: "أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبونني. قلت هأنذا لأمة لم تُسمى باسمي" (إش ٦٥: ١). بادر بالحب، فأحبنا قبل أن نعرفه، وكما يقول الرسول: "عُرفتم من الله" (غلا 4: 9). يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟" [2]خرج السيد المسيح من الهيكل (يو 8: 59)، وكان في رفقته تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.وهنا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلًا قال له: "ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه.. لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة.لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن تلتحف بالجسد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: "وتزاحم الولدان في بطنها" (تك ٢٥: ٢٢).وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: "من يتطلع إلى عقب امرأة سيولد له أطفال معوقين". وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها الأبناء مدى الحياة.هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم. "أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه". [3]عوض إدانة المولود أعمى أو والديه وجَّه السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطته الخفية، فقد سمح بالعمى لكن يهب هذا المولود أعمى البصيرة الروحية، ولكي يشهد للحق الإلهي أمام القيادات اليهودية العنيفة ويمجد الله.لم يقل السيد المسيح أن هذا الأعمى لم يخطئ، ولا أيضًا أبواه لم يخطئا، فكل البشرية تسقط في الخطية. لكن ما يعاني منه هذا الأعمى ليس بسبب خطية معينة ارتكبها هو أو والداه. ما يليق بالتلاميذ كما بالمؤمنين أن ينشغلوا بأعمال الله وخطته نحو كل إنسان ليتمتع بالبصيرة الداخلية، ويتعرف على أسرار الله، وينال شركة المجد الأبدي.يد الله عاملة على الدوام وسط الضيقات كما في الأفراح، تحت كل الظروف الله يريد خلاصنا. فالمؤمنون لم ينالوا وعدًا بألا تحل بهم ضيقات أو آلام كغيرهم من سائر البشر، إنما بالعكس يتعرضون لضيقات أكثر. لكن ما يعزيهم هو إدراكهم لخطة الله في كل شيء، وتمتعهم بالنعمة الإلهية التي لهم فيها كل الكفاية. هذا ما وعدنا به الله كما قيل لبولس الرسول: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل".لا يعرف المؤمن الشكوى وسط التجارب لأن عيناه مسمرتان على أبوة الله الحانية، وقلبه منفتح على إدراك خطة الله نحوه. لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن كانت خطاياهم ظاهرة. لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه. يقول المرتل: "لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون".ويقول إشعياء النبي: "نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا" (إش ٥٣: ٤-٥). "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". [4]كانت لحظات حاسمة حين تطلع رب المجد يسوع إلى المولود أعمى. إنها ليست لحظات لشفاء عيني المولود أعمى فحسب، وإنما للكشف عن شخص السيد المسيح أنه نور العالم واهب البصيرة الداخلية، ومع هذا لم يستطع أحد أن يكتشف ما وراء هذا العمى. لم يكن ممكنًا حتى تلك اللحظات لتلاميذ السيد المسيح أن يقرأوا ويفهموا كتاب العناية الإلهية، لكنه جاء الوقت فيما بعد لإدراك هذا السرّ الإلهي، وللتعرف علي العمل الإلهي الفائق.إنه لم يتقدم للعمل لإبراز قدرته على صنع عجائب، وإنما ليمارس أعمال أبيه الذي أرسله. لم يقل أمارس الأعمال التي أمرني بها أبي، وإنما يمارس ذات أعمال أبيه. ويلاحظ هنا الآتي: أولًا: جاء إلى العالم لمهمة عمل، يحقق إرادة أبيه في طاعة كاملة كابن الإنسان، وهي ذات إرادة الابن. لهذا فمن يطيع، إنما يشارك مسيحنا طبيعة الطاعة. ثانيًا: يمارس ذات عمل الآب، وهذا ما يؤكده السيد المسيح في إنجيل يوحنا في وحدة العمل الإلهي، كما سنرى في عبارات قادمة واضحة. ثالثًا: بروح الحب للبشرية والطاعة والوحدة مع الآب يجد مسرة في تحقيق هذا العمل، بل والتزام محبة، إذ يقول: "ينبغي أن أعمل". رابعًا: يعمل مادام نهار قبل أن يتحرك اليهود بالحقد والكراهية لقتل السيد المسيح. فترة خدمته هي فرص للعمل الظاهر حتى وإن كان الوقت سبتًا. هذه دعوة لنا للتحرك بالعمل، وانتهاز كل ساعات عمرنا لئلا ينتهي نهار عمرنا ولا نحقق رسالتنا. لقد وهبنا الله النهار للعمل (مز ١٠٤: ٢٢-٢٣)، لذا يليق بنا ألا نلهو في نهار عمرنا ولا نفسده، بل نجاهد في طاعة لله أبينا حتى متى حل المساء صار لراحتنا. خامسًا: يدعونا نحن أيضًا أن نعمل به ومعه، وكما يقول الرسول: "العاملان مع الله" (1 كو 3: 9). ففي العمل معه راحة وكرامة ومجد، نشترك معه في العمل مادمنا في الحياة قبل أن يحل الليل. هكذا إذ يوجه السيد المسيح حديثه إلى غير المؤمنين يحسب حياتهم هنا نهارًا إن قورنت بحياتهم في العالم المقبل. الآن وقت يمكن لهم أن يتمتعوا بنور شمس البرٍّ في أعماقهم بالإيمان الحي والتوبة الصادقة؛ أما في العالم العتيد فتحيط بهم الظلمة، حيث لا مجال للرجوع إلى المخلص وتقديم توبة. أما الرسول بولس فيوجه حديثه إلى المؤمنين حاسبًا حياتهم الماضية ليلًا حيث كانوا يسلكون في أعمال الظلمة، وقد حان وقت الرحيل إلى العالم المقبل حيث يتمتعون بنور المسيح الأبدي، الذي أمامه تحسب الحياة هنا أشبه بليلٍ دامس. "مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]يعمل السيد المسيح مادام الوقت نهار، أي مادام يمكننا أن نتمتع بأعماله الخلاصية، لأنه إذ ينتهي النهار ويحل ليل القبر لا يمكن الانتفاع بعد بأعماله، حيث لا مجال لتوبتنا ورجوعنا إليه. في نهار حياتنا يشرق علينا بكونه "نور العالم"، شمس البرّ الذي ينير نفوسنا وأذهاننا وكل أعماقنا.سبق فأعلن أن عمله هو إشراق نوره على الجالسين في الظلمة (يو 8: 12)، فهو شمس البرّ واهب الاستنارة والشفاء خلال أشعة حبه أو تحت جناحيه. كرأس للكنيسة يحول مؤمنيه إلى "نورٍ للعالًم" ليس لهم إلاَّ أن يحترقوا بنار الحب الإلهي من أجل الآخرين. "قال هذا وتفل على الأرض، وصنع من التفل طينًا، وطلى بالطين عيني الأعمى". [6]طريقة شفاء المولود أعمى فريدة، فمن المعروف أن الطين يفسد العين السليمة، فكيف يصنع من التفل طينًا ليطلي به عيني المولود أعمى؟ ولماذا لم ينتظر ليشفيه خفية حتى لا تهيج القيادات الدينية؟ وأيضًا لم ينتظر حتى يعبر السبت ليشفيه؟ أولًا: يؤكد السيد المسيح أنه يتمم عمله بحسب فكره الإلهي وليس حسب رغبتنا ووسائلنا البشرية. ثانيًا: ما يشغله هو وهب الأعمى بصرًا لعينيه، وبصيرة لقلبه، دون اهتمام بمقاومة القيادات اليهودية له. ثالثًا: لم ينتظر حتى يعبر السبت، لأن السبت هو يوم الراحة، فتستريح نفس المسيح بالعمل الإلهي واهب الاستنارة والراحة للغير. رابعًا: يقدم نفسه مثلًا ألا نؤجل عمل الخير إلى الغد، بل ننتهز كل فرصة لنسرع إلى عمل الخير لئلا لا توجد هذه الفرصة في الغد. خامسًا: صنع من التفل طينًا وطلى عينيه بيديه، ليؤكد أن سرّ القوة في المسيح نفسه، وفي عمل يديه. كل ما يصدر عن المسيح فيه قوة وحياة واستنارة، فإن يده قديرة. "وقال له: اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل، فمضى واغتسل وأتى بصيرًا". [7] سلوام: تدعى أيضًا شيلوه Siloo, Siloe, Shilooh، وهي عبارة عن ينبوع كان تحت حصون أورشليم نحو الشرق، ما بين المدينة وجدول مياه قدرون. يرى البعض أن سلوام هي بنفسها عين روجل الواردة في (يش 15: 7؛ 18: 6؛ 2 صم 17: 17؛ 1 مل 1: 9). كانت مياه هذا الينبوع تجمع في مخزن عظيم لاستخدام المدينة، وكان يصدر عنه مجرى ماء يغذي بركة بيت صيدا.كانت هذه البركة تستمد المياه من ينبوع صادر عن جبل صهيون، فكانت مياه الهيكل "نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز ٤٦: ٤). إنها مياه حية شافية (حز 47: 9)."الذي تفسيره مرسل"، إذ الاسم مشتق من العبرية Shalach وتعني "أرسل"، إما لأنهم كانوا يتطلعون إلى هذا الينبوع كعطية مرسلة من قبل الله لأجل استخدام مياهه في المدينة، أو لأن مياهها كانت تُرسل خلال قنوات أو أنابيب إلى جهات متباينة. يرى البعض أن الاسم يشير إلى نبوة يعقوب ليهوذا عن مجيء السيد المسيح من نسله: "حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الأمم" (تك 49: 10)، فهي رمز للسيد المسيح المُرسل من قبل الآب لإنارة النفوس وشفائها.كان السيد المسيح يُدعى المُرسل، إذ هو رسول العهد (ملاخي ٣: ١)، ويكرر السيد في إنجيل يوحنا أن الآب قد أرسله. هكذا إذ يدعو الأعمى أن يذهب إلى بركة سلوام أو المرسل، إنما يدعو كل نفس تحتاج إلى الاستنارة أن تذهب إليه، إذ هو المُرسل الذي يطهر الإنسان من الخطية، ويشرق بنوره عليه، فيتمتع بالمعرفة السماوية، ولا تعود للظلمة موضع فيه. تمتع المولود أعمى بالبصر الذي لم يتمتع به قبلًا، وكأنه قد نال ميلادًا جديدًا يختلف عن مولده السابق. بركة سلوام كانت تشير إلى مياه المعمودية التي تهب مع التطهير وغفران الخطايا استنارة داخلية.كانت المياه تشير إلى العصر المسياني أو مملكة بيت داود: "لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت.." (إش 8: 6).عاد الأعمى بصيرًا، يرى ما لا يُرى، مسبحًا بكل كيانه ذاك الذي وهبه الاستنارة. وكما قيل بإشعياء النبي: "صوت مراقبيك يرفعون صوتهم، يترنمون معًا لأنهم يبصرون عينًا لعين عند رجوع الرب إلى صهيون" (إش 82: 8). + غسل عينيه في تلك البركة التي تفسيرها "مرسل". إنه اعتمد في المسيح. لذلك إذ عمده بطريقة ما فيها استنارة، وعندما مسحه (بالطين) ربما جعله موعوظًا.يرى القديس أغسطينوس في صنع الطين بالتفل إشارة إلى أن الكلمة صار جسدًا.بعد هذا دارت حوارات عده نقتصر هنا بذكرها فقط لعدم الإطالة علي القارئ: أ. حوار بين الجيران والأعمى ب. حوار بين الفريسيين والأعمى ج. حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى د. حوار ثان بين الفريسيين والأعمى ه. حوار بين المسيح والأعمى "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا، فوجده وقال له: أتؤمن بابن الله؟" [35]واضح أن السيد المسيح كان كمن يبحث عنه ليجده. وجده حين طرده الفريسيون، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله. وربما خشي والداه من إيوائه لئلا يكون مصيرهم كمصيره. وجده إله المطرودين والمرذولين وأب الأيتام وقاضي الأرامل، والمهتم بمن ليس لهم من يسأل عنه.قوله: "أتؤمن بابن الله؟" يعادل القول: "أتؤمن بالمسيا"، لأن هاتين السمتين لا تنفصلان (يو 1: 34، 49؛10: 36؛ مت 16: 16؛ مر 1: 1).يرى هنا القديس يوحنا ذهبي الفم أن السيد المسيح وقد رأى في الأعمى حبه للحق وشجاعته وهبه الشوق إليه قبل أن يعلن ذاته له. هكذا كل من يطلب الحق في جدية ولا يخشى الباطل يجتذبه الحق إليه بالحب ثم يعلن ذاته له فيقول. + الذين يعانون من الأمور المرعبة والشتائم بسبب الحق والاعتراف بالمسيح هؤلاء يكرمون على وجه الخصوص لقد أخرجه اليهود خارج الهيكل، ورب الهيكل وجده.لقد عُزل من الصحبة المهلكة، والتقى بينبوع الخلاص.أهانه الذين أهانوا المسيح، فكرمه رب الملائكة.هكذا هي مكافآت الحق.ونحن أيضًا إن تركنا ممتلكاتنا في هذا العالم نجد ثقة في العالم العتيد.إن صرنا هنا في ضيق نجد راحة في السماء، وإن شُتمنا من أجل الله نُكرم هنا وهناك. "أجاب ذاك وقال: من هو يا سيد لأومن به". [36]واضح أنه لم يره من قبل، وإن كان قد سبق فسمع صوته عندما أمره بالذهاب إلى بركة سلوام ليغتسل. لقد اكتشف أنه هو الذي شفاه فآمن به.لم نسمع عن حوارٍ تم بين السيد المسيح والأعمى قبل شفائه، كما حدث مع مفلوج بيت حسدا. يبرر البعض ذلك بأن الأعمى لم يكن بعد قد رأى المسيح، وربما بسبب فقره الشديد وانشغاله بالاستعطاء لم يتحدث معه أحد عن السيد المسيح وأعماله الفائقة. لهذا لم يقل له السيد: "أتريد أن تبرأ؟" كما قال للمفلوج. حينما حُرم الأعمى من الصداقات البشرية وعانى من الشعور بالنقص كما بالشعور بالعزلة، جاءه السيد المسيح يشبع احتياجاته، ويملأ أعماقه بالحب الإلهي. "فقال له يسوع: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو". [37]لا يحتاج أن يذهب الإنسان بعيدًا ليلتقي معه، فإنه قريب جدًا. وكما يقول الرسول بولس: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء، أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية، أي ليصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول: الكلمة قريبة منك" (رو ١٠: ٦-7).فتح السيد المسيح عينيه لكي ينظر إليه الأعمى ويراه. إن كان تفتيح العينين قد أبهجا هذا الأعمى، فإن رؤيته لابن الله أعظم جدًا من تمتعه بالعينين الجسديتين. رؤيته لابن الله أبهجت قلبه أكثر من كل أنوار العالم. وها نحن بالإيمان نتمتع بالبصيرة الداخلية، فننعم برؤية السيد المسيح، وندرك سرّه كابن الله الوحيد الجنس. حقًا يستطيع أن يترنم مع المرتل قائلًا: "بنورك يا رب نعاين النور". "فقال أومن يا سيد وسجد له". [38]بقوله "أؤمن" عني "أؤمن أنك المسيا"، مقدمًا دليلًا على صدق إيمانه، أنه سقط وسجد أمامه. لم يره من قبل، ووجد مقاومة شديدة ضده من السلطات الدينية، لكنه إذ اختبر بنفسه تفتيح عينيه آمن بلاهوته وسجد له، ممجدًا إياه كمخلصٍ له. لقد انفتحت بصيرته الداخلية، وتعرف على أسرارٍ إلهية لم يكن ممكنًا لأعضاء مجمع السنهدرين أن يدركوها ويؤمنوا بها.آمن الأعمى واعترف بالسيد المسيح، ولم يكن محتاجًا إلى حوارٍ، إذ تمتع بعمله الإلهي العجيب وبالبصيرة الروحية. ًآمن بقلبه واعترف بلسانه أمام الرب والناس، حتى أمام المقاومين. هكذا صارت القصبة المرضوضة شجرة مغروسة على مجاري الروح مملوءة ثمرًا."سجد له"، إذ لم يقدم له تكريمًا كما لإنسان ليعبر عن شكره له، لكنه قدم له سجودًا لائقًا بالعبادة لله. هكذا عبَّر عن إيمانه بالشهادة العلنية دون خوف، والعبادة لله بروح التواضع. لم يروِ لنا الإنجيلي يوحنا لنا شيئًا عن هذا الأعمى بعد هذا السجود، إنما ما هو واضح من قول السيد أنه صار مبصرًا، يتبع النور ويحيا فيه.سجد الأعمى أمام السيد المسيح، غالبًا في حضرة الفريسيين؛ عندئذ قدم السيد المسيح أمامهم تعليقًا عما تثمره خدمته الإلهية في هذا العالم. ويظن البعض أن هذا الحديث جاء في لقاء آخر مع الفريسيين ليس بعد سجود الأعمى مباشرة.جاء إلى العالم كمخلصٍ وليس كديانٍ، لكن إذ يرفض الأشرار غير المؤمنين عمله يسقطون تحت الدينونة. خدمته الإلهية أقامت من البشرية فريقين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النور، وآخر يظن أنه مبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، وتصير أعمال المسيح دينونة عليهم. هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا هو الخط الواضح في أكثر أحاديث السيد المسيح في هذا السفر. صارت أعمال المسيح الخلاصية أو إنجيله حياة لحياة، ويحمل رائحة موت لموت. أشرق على الأمم نور عظيم يهبها حياة وأطلقها من الأسر (إش ٦١: ١)، وأصيب إسرائيل في كبريائه بالعمى فألقي بنفسه في دائرة الموت.فليعطنا الرب بصيرة روحيه لنراه بعيون قلبنا ونمشي ورائه مقتفيين أثار رجليه لندخل معه ونتمتع بملكوته الأبدي ونكون معه كل حين، ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
17 أبريل 2021

إنجيل عشية الأحد السادس من الصوم الكبير(لو 13: 22– 35)

واجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم، فقال له واحد: "يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟" فقال لهم "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب، وابتدأتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب قائلين: يا رب، يارب! افتح لنا. يجيب، ويقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم!حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا، وعلّمت في شوارعنا!فيقول: أقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم، تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم! هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله، وأنتم مطروحون خارجًا. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله. "و هوذا آخرون يكونون أولين، وأولين يكونون آخرين". في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له: "اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك". فقال لهم: "امضوا وقولوا لهذا الثعلب "ها أنا أخرج شياطين، وأشفي اليوم وغدًا، وفي اليوم الثالث أكمل. بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم! يا أورشليم، يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا! هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا! والحق أقول لكم: إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب!". عشية أحد التناصير يتكلم إنجيل العشية عن الباب الضيق المؤدي للملكوت، فعندما سأله واحد قائلاً: "يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟" رد الرب على السائل قائلاً للجميع: "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق". وقال الرب: "إن كثيرين سيأتون بعدما يكون رب البيت قد أغلق الباب فلا يقدرون أن يدخلوا ولكنهم سيطرحون خارجًا حيث البكاء ورعدة الأسنان". ولكي يُفهم هذا الفصل من الإنجيل في ضوء المعمودية وأحد التناصير، نقول أن المعمودية هي باب الملكوت وهي المدخل لكل النعم والتنعم. بدون المعمودية لا دخول إلى داخل بل تظل النفس مطروحة خارجًا معذبة حيث البكاء لا ينفع وصرير الأسنان لا ينقطع. قال الرب لنيقوديموس: "الحق أقول لك إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لن يرى ملكوت الله". وباب المعمودية باب ضيق للجسد، فالروح يشتهي ضد الجسد. وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بحسب استحقاق معموديتهم يجدون الباب الضيق ملازمًا للحياة فيدخلون بشجاعة وبلا حساب لأتعاب الجسد. باب الجسد واسع للجسدانيين فهم يعيشون في طريق رحب بلا تضييق وبلا ضوابط وبلا قانون... كحيوانات طبيعية نهايتها الصيد والهلاك. أما الذين اختاروا الباب الضيق والطريق الكربة فهم يعلمون حقًا أن النهاية حياة أبدية... فمرحبًا بالأتعاب و الجهادات إن كانت النهاية حياة أبدية. الذين يدخلون من الباب الضيق، هم داخل الملكوت والملكوت يصير داخلهم أما البرانيين فهم خارجًا. ما هو داخل لا يمكن وصفه للذين هم خارجًا... أمور لا يسوغ لإنسان أن يتحدث عنها ولا يعرفها إلا الذي يأخذ. حينما يقول الرب لمختاريه: "ادخل إلى فرح سيدك"، يعلم من ذلك أن هذا الفرح يدخل إليه ولا يتمتع به إلا الذين في داخل. إذن لا يُدرك ملكوت الله بالكلام بل بالدخول إليه!!. نحن معمدون، وصار لنا بالمسيح الذي هو باب الخراف نعمة الدخول إلى الآب "أنا هو باب الخراف... إن دخل بي أحد". في المعمودية لبسنا المسيح أي دخلنا بالمسيح وفي المسيح. هذا الدخول ليس هو إيمانًا نظريًا يدرك بالعقل ولكنه حركة دخول من خارج إلى الداخل. من صلوات المعمودية المقدسة نقول على المعمد "الداخل من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة ومن طريق الضلالة إلى معرفة الحق". فالمعمودية دخول من خارج حيث الظلمة إلى الداخل حيث النور لا يُدني منه. المعمودية باب مؤدٍ إلى طريق كربه موصلة إلى الملكوت. فالمعمودية ليست حجابًا ولا عاصمة من الخطايا. هي مدخل لكي نخرج إلى جدة الحياة ونسعى في الطريق الكربة حتى نكمل جهادنا فننال إكليلنا من يد المسيح "من يغلب... يأخذ". صارت معمودية شعب بني إسرائيل في القديم كمدخل لطريق الأربعين سنة، انتقلوا من العبودية القياسية إلى الحرية ومن السخرية في الطين (الجسد) إلى السير في نور وجه الله حيث الطعام النازل من السماء والماء النابع من الصخرة. لم تكن المعمودية نهاية بل بداية... بداية حرب مع عماليق من دور فدور، وبداية المسيرة مع الله واختبار عجائبه، وبداية مشوار الرحلة إلى كنعان. لذلك عندما نتأمل المعمودية كباب نقول: "ها قد دخلنا منذ طفولتنا كمدعوين للسير إلى الملكوت فهل نحن مجتهدون لإكمال المسيرة حتى الجهالة؟". المعمودية كباب هي البداية بالروح. فهل بعدما بدأنا بالروح هل نحن مازلنا نكمل بالروح؟. باب المعمودية في بداية مشوار الحياة يقابله بداية الملكوت حينما يدخل العريس العذارى الحكيمات من ذات الباب ويغلق الباب إلى الأبد حيث العريس السماوي غير الزمني. هذا الباب لما بلغت إليه العذارى الجاهلات وبدأن يقرعن الباب قائلات: "ربنا افتح لنا، فأجاب وقال الحق أقول لكن إني ما أعرفكن..." اسهروا إذن!!. فمن دخلن من الباب دخولاً روحيًا حقيقيًا وسعين بحسب قانون الملكوت عابدات بالجهد النهار والليل، وخازنات زيت الروح ليوم المجيء بالكد والتعب ومالئات الآنية مع المصابيح بوقود النور في الأعمال الحسنة وفي ملء الروح القدس وأعمال المحبة والرحمة... عندما تواجهن مع باب الملكوت وهن مستعدات دخلن إلى العرس بلا مانع. أما الجاهلات فرغم دخولهن من باب المعمودية كمدعوات إلا أن الظلمة غشيتهن ومصابيحهن انطفأت لعدم الزيت، فالروح القدس نضب كأنه غير موجود. ولم يبق سوى الجسد و الجسديات والشكل ومظهر العذارى. ولكن عوض الحكمة الروحية، فقد وصفن بالجاهلات غير المستعدات. ففي جهلهن نسين دعوتهن ونسين السعي للملكوت، وخزين زيت الروح ونسين لقاء العريس الذي خرجن لأجله... ويا للحسرة!. لذلك ننبه الذهن مرة أخرى لقول الرب: "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق". فالأمر مرهون بإرادتنا وجهادنا... "كثيرون يدعون ولكن قليلين ينتخبون". الجهاد موضوع أمامنا كباب ضيق ندخله كل يوم وفي كل مناسبة. الباب الواسع مع كل إغراءاته معروض أيضًا بكثرة ووفرة في كل الميادين وكل المناسبات... اجتهد أن تختار الباب الضيق ولا تخس من الدخول فيه. الصلاة باب ضيق إذا ضيق إذا ما قورنت بأنواع التسالي والمسامرة والهرج والمزاح وأنواع المسرات العالمية. لأن وقت الصلاة لا نصيب لمسرات الجسد فيه. لذلك يعتبر باب ضيق يغصب الإنسان نفسه إليه كل حين حتى يخضع الجسد ويتعود عليه. العطاء يعتبر بابًا ضيقًا إذا ما قورن بالأخذ. فالطبيعة تحب الأخذ وتكره العطاء. فمن يدرب نفسه كل يوم للدخول إلى هذا الباب ناظرًا للملكوت يغصب نفسه على العطاء والعطاء حتى يلقى وجه المسيح فيجازيه علانية في ملكوته. وهكذا إنكار الذات باب ضيق إذا ما قورن بالكبرياء وتمجيد الذات. الاتضاع باب ضيق، القداسة والعفة باب ضيق. وعلى العموم جميع وصايا المسيح معتبرة هكذا وهي الطريق المؤدي إلى الملكوت، وطوبى للذين يسيرون فيه فإنهم أخيرًا يوضع لهم إكليل البر. ويدخلون مع رب البيت ويدخلون مع العريس حيث يغلق الباب ولا خروج إلى خارج إلى الأبد. المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
16 أبريل 2021

الجمعة السادسة من الصوم الكبير: قيامة المعمودية

ارتباط قراءات الفصول: قيامة المعمودية تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قيامة المعمودية" أي إقامتها للمعتمد من موت الخطية، على مثال تغطيس الطفل في جرن المعمودية وانتشاله منه، لأن المعمودية رمز لسر موت المسيح وسر قيامته، بدليل قول بولس الرسول "فدفنا معه بالمعمودية للموت" (رو 6: 3)، وبهذه المعمودية يولد المعتمد ولادة جديدة إذ تمحى عنه الخطية الجدية فضلًا عن خطاياه السابقة، ولهذا قال السيد "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله". فالنبوة الأولى تتكلم عن إقامة الله للمعتمدين كما افتدى إسحق بالكبش، لأن ذبحه كان رمزًا لموت المخلص، إذ قد ذبح بالنية وعاد حيًا كما مات المسيح وقام. وبما أن المعمودية مثال لسر موت المسيح وسر قيامته، فكأن ذبح إسحق هنا كناية عن المعمودية التي فيها يدفن الطفل وينتشل مطهرًا من الخطية. وتتكلم النبوة الثانية عن خلاصه لهم وهو الخلاص المترتب على المعمودية كقول إشعياء إن إسرائيل خلص بالرب خلاصًا أبديًا؛ والثالثة عن تحذيره لهم بعد المعمودية من الخطية كما حذر الحكيم في أمثاله من المرأة الجاهلة التي تغرى عابري الطريق وقوله إن من كان غرا مال إليها ؛ والرابعة عن حثهم على تعظيم أعماله كما يوصى أيوب بضرورة تعظيم هذه الأعمال ؛ والخامسة عن مخافتهم له كما أوصى بذلك أليهو بعد أن حدث أيوب عن قوة الله التي لا تدرك ؛ والسادسة عن نجاته لهم كما نجا طوبيا من الموت.ويتكلم إنجيل باكر عن تبرير المخلص للمعتمدين كما قال إن من يؤمن به لا يدان، وإنجيل القداس عن حثهم على المعمودية كما قرر أن من لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.ويحذرهم الرسول في البولس من السقوط ثانية في الخطية بعد المعمودية إذ يخاطبهم قائلًا "من ظن أنه قائم فليحذر أن يسقط"، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بعدم محبة العالم إذ يقول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، أما الإبركسيس فيتكلم عن حلول الروح القدس عليهم بعد المعمودية كما وضع بطرس ويوحنا الأيادي على أهل السامرة الذين آمنوا فنالوا الروح القدس. من النبوات: (تكوين 22: 1 – 18) تكوين – الأصحاح الثاني والعشرون ذبح إسحق إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ في سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذي رفعه فوق الأحداث، فكانت العطايا تزيده شكرًا لله دون تعلق بها، والضيقات تزكيه أمام الكل.. لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة. الآن إذ فرح مع امرأته سارة من أجل إسحق ابن الموعد اللذين قبلاه في شيخوختهما عطية إلهية فائقة، فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب. وبقدر ما قست التجربة جدًا تمجد إبراهيم وإسحق ابنه، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصي خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا. (1) امتحان الله لإبراهيم إن كانت الكنيسة تعتز بيوم " الخميس الكبير " أو " خميس العهد " الذي فيه تذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمة إبراهيم إسحق ابنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب، حيث يقدم الآب ابنه فدية عن خلاص العالم، لهذا جاءت "قسمة قداس خميس العهد" منصبة على ذبح إسحق، وستبقى الأجيال كلها ترى في هذا العمل الإيماني مثلا حيًا وفائقا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح.يقول الكتاب: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم، فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك " (ع 1، 2).سمح الله لإبراهيم بالتجربة لكي يزكيه أمام الكل ويعلن إيمانه القوى الخفي، فيكون مثلًا حيًا للآخرين.بالروح عرف الرسول بولس عاطفة إبراهيم وأفكاره،معلنًا إياها بقوله: " بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات " (عب 11: 17). لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق، وهذه هي أول مرة يظهر فيها الإيمان بالقيامة، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق – هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات.إن كان إبراهيم انطلق بابنه نحو المذبح، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات، رمزا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات.لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرَّمت الذبائح البشرية ؟ بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبًا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذي يملأ قلوبهم، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأي ثمن، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه، وفي نفس الوقت إذ قدم الله كبشًا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية، ليس عن جفاف في محبة المؤمنين لله، وإنما في تقدير الله للإنسان، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه! الله لا يطيق الذبائح البشرية، إذ هو محب للبشر، يشتهى حياتهم لا هلاكهم، مقدمًا ابنه الوحيد فدية عنهم، هذا الذي وإن صار إنسانًا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه. (2) إسحق في الطريق: " فبكر إبراهيم صباحًا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه ومعه إسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله " (ع 3).إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهي مع ما بدأ كمتناقض لمواعيده السابقة في طاعة قام لينفذ الأمر، انطلق للعمل "باكرًا" في الصباح دون تراخ من جانبه، وبغير جدال أو شك في مواعيد الله. " وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد " (ع 4).إن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب في القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته في فجر الأحد (اليوم الثالث) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد.كانت عيناه قبلًا منخفضتين نسبيًا ومتذللتين؛ ربما حاربه العدو بسارة التي تركها الآن في الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع ابنه ليذبحه.. أو ربما أراد الشيطان أن يشككه في مواعيد الله له..، وربما حاربه بمحبته لابنه وشفقته عليه..، لكن على أي الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير في الطريق ثلاثة أيام، وكأنه ببني إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام (خر 5: 3)، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح. هكذا في اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد، ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذي فيه يرى إسحق ابنه قائمًا من الموت معه وبه أيضًا! امتلأت نفس إبراهيم تعزية لمعاينة سر المصلوب القائم من الأموات، فتهلل في داخله إذ رأى يوم الرب (يو 8: 56). تحول أتون التجربة إلى ندى سماوي بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء. (3) إقامة المذبح وتقديم الذبيحة: بلغ إبراهيم الموضع الذي رسمه الله، والمذبح قد بنى، والحطب الذي حمله إسحق قد رتب، وربط إسحق بيدي أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب، ومد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه.. كانت الأمور تسير في جو من الهدوء الداخلى، إبراهيم يؤمن بالله الذي لن يتخلى عن مواعيده، وإسحق في طاعة يمتثل للذبح ولم تبق إلا لحظات ليذبح الابن ويقدم محرقة.قُبلت تقدمة إبراهيم وإن لم تتحقق بطريقة حرفية، الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة. وحسب إسحق ابنًا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان.وفي اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم "إبراهيم إبراهيم".. لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى " (ع 11، 12).رأى إبراهيم كبشا موثقا بقرنيه في الغابة، وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي علق على خشبة الصليب وسمر بذراعيه المفتوحتين لأجل خلاص العالم. (4) تجديد الوعد الإلهي: خلال الذبيحة تمتع إبراهيم برؤية الرب كما تمتع بتجديد الوعد بطريقة فاقت المرات السابقة، الوعد هنا أبرز أبوته الروحية، إذ يقول: إذ كان يليق به أن يكون أبا للذين هم من الإيمان (غل 3: 9) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته الوعد الأول حيث كان (الصوت الإلهي) في الأرض: "ثم أخرجه إلى خارج -خارج الخيمة- وقال له: أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك" (تك 15: 1).أما في تجديد العهد فيظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء (22: 11)، الأول جاء من الأرض والثاني من السماء، ألا يبدو في هذا وجود رمز لحديث الرسول:"الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)؟ لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق في نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح الذي لم يستطيعوا قبلًا معاينة سر ذبيحته.. فينطلقوا في آخر العصور إلى مياه المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه. البولس من 1 كو 10: 1 – 13 فاني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن أباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم إجتازوا في البحر وجميعهم إعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفروهذه الأمور حدثت مثالًا لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شرورًا كما إشتهى اولئك فلا تكونوا عبدة اوثان كما كان اناس منهم كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون الفًا ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا اناس منهم فأهلكتهم الحيات ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم فأهلكهم المهلك فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا وكتبت لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أواخر الدهور اذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط لم تصبكم تجربة إلا بشرية ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا ان تحتملوا. في الأصحاح السابق عالج مشكلة الرسول مشكلة ما ذبح للأوثان على أساس تنازلات الحب، مقدمًا نفسه مثالًا حيًا للتنازلات من أجل الإنجيل. وفي هذا الأصحاح يجيب الرسول بولس علي ثلاثة أسئلة خاصة بنفس الموضوع: أولًا: ما هو موقف المؤمن من الولائم في هيكل وثني؟ ثانيًا: ما موقفه من اللحوم في السوق العام؟ ثالثًا: ما موقفه من الدعوة إلى وليمة في بيت صديقٍ وثنيٍ؟ موقفه من الولائم في هيكل أوثان لم يجب الرسول بولس علي هذا السؤال الخاص بموقف المؤمن من الدعوة الموجهة إليه للاشتراك في وليمة مُقامة داخل هيكل وثن بالقبول أو الرفض، لكنه قدم مبادئ هامة خلالها يستطيع المؤمن أن يأخذ قراره من داخله وليس كأمرٍ يصدر إليه. هذه المبادئ هي: * القداسة هي مسرة اللَّه اللَّه في حبه للبشرية يبسط يديه ليهبهم عطايا بلا حصر، لكن مسرته أن يرانا علي صورته ومثاله مقدسين في الحق كما هو قدوس والحق ذاته. فالعطايا الإلهية ليست مقياسًا لرضاه عنا، إنما تقديسنا هو موضوع مسرته بنا."فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا،أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة،وجميعهم اجتازوا في البحر" [1].الآن يقدم لهم كنيسة العهد القديم كمثال كيف تمتعت بهباتٍ إلهيةٍ كثيرةٍ، لكن هذه العطايا لم تبررهم، فإن ما يسر اللَّه هو قداسة الكنيسة. وكأن غنى عطايا اللَّه لنا وكثرة المواهب التي يمنحنا إياها لا تبررنا إن أهملنا خلاصنا. هكذا يود الرسول أن يؤكد لهم أنه عوض المشاحنات خاصة إن كانت في أمر أكلٍ أو شربٍ يليق بهم أن يهتموا بالخلاص على مستوى الجماعة كما على مستوى الأشخاص بتنقية حياتهم بروح اللَّه الساكن فيهم.يربط الرسول بين كنيستي العهد القديم والعهد الجديد، حاسبًا رجال الإيمان في العهد القديم آباء رجال العهد الجديد.يكرر الرسول كلمة "جميعهم" خمس مرات في الآيات 1-4، ليؤكد عدم محاباة اللَّه، فهو يقدم عطاياه للجميع بسخاء، ومع هذا لم يُسر إلا بمن يتجاوب مع حبه بالقداسة. العطايا مقدمة للجميع لكن المكافأة لمن يتقدس للرب. كان غالبية شعب كنيسة كورنثوس من الأمم إلا أن جميعهم لا يجهلوا معاملات اللَّه مع الشعب القديم، كيف اختارهم وخرج بهم من مصر، وقدم لهم سحابة تظللَّهم علامة رعايته الفائقة لهم كمن تحت جناحيه، واجتاز بهم البحر لكي يفصلهم عن فرعون وجنوده الوثنيين، ومع هذا كله لم يُسر اللَّه بأكثرهم لأنهم لم يتجاوبوا عمليًا مع الدعوة التي دعوا إليها. فكيف يمكن لرجال العهد الجديد أن يتجاسروا ويدخلوا بكامل حريتهم إلى هياكل الأوثان ليشتركوا في موائدها ويظنون أن اللَّه يُسر بهم.بمعني آخر يقول لهم بأن اللَّه أخرج الشعب وعزلهم بالبحر عن الجو الوثني فهل تندفعون بإرادتكم إلى جو مفسد؟! تمتع الشعب القديم بالخروج من مصر والتحرر من عبودية إبليس، وواضح من الكتاب المقدس أن هذه السحابة العجيبة التي قدمها اللَّه لشعبه في البرية حققت ثلاث وظائف: + كانت سحابة في شكل عمود يقودهم ويوجههم في البرية نهارَا. + كان عمودًا من النور يضيء المحلة بالليل. + كانت السحابة مظلة تقيهم من حرارة الشمس (مز 105: 39). "وجميعهم شربوا شرابًا واحدُا روحيًا،لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم،والصخرة كانت المسيح" [4].يبدو أن البعض كانوا يعتمدون علي تناولهم من جسد الرب في سرّ الإفخارستيا كتأكيد لخلاصهم مع تهاونهم في سلوكهم مثل الشركة في ولائم هياكل الأوثان. لذا قدم لهم الشعب القديم هؤلاء الذين أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، الذي هو المن، رمز جسد المسيح (يو 6: 31) الخبز النازل من السماء الذي يعطي حياة للعالم [33]، وهو خبز الحياة [48]، ومع هذا إذ لم يتقدسوا للرب هلكوا.هل كانت الصخرة بالفعل تتبعهم؟ أم أن الحديث هنا رمزي؟ كان قدامى اليهود يعتقدون بأن ينبوع المياه كان يسير معهم طوال رحلتهم، يصعد معهم علي الجبال وينزل معهم في الوديان. وهم يعتمدون في هذا علي النشيد: "اصعدي أيتها البئر! أجيبوا لها. بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب، بصولجان، بعصيهم. ومن البرية إلى متانة.. إلخ." (عد 21: 17 -20)دُعي شرابًا روحيًا مع أنه ماء عادي يروي الأجساد لكنه قدم بطريقة فائقة للطبيعة فاض الينبوع مياهًا تروي حوالي 2 مليون شخصًا. قيل عن المياه التي فاضت إنها جدول مياه، ومجري مياه، وسيل، ونهر (عد 34: 5، يش 15: 4، 47، 1 مل 8:65، 2 مل 24:7) ينزل من الجبل هذا يدل علي أن جدول المياه كان متسعًا جدًا.جبل حوريب مرتفع عن البلد الملاصقة له، وكأن المياه كانت تندفع منحدرة علي الجبل، لا تتجمع في حوض مياه، بل تتدفق نحو البحر في غير سكون. كأن المياه قد أوجدت نهرًا جاريًا يسير معهم في رحلتهم. إن قيل انه لا يوجد الآن ينبوع مياه يقيم نهرًا في تلك المنطقة، فالإجابة علي ذلك أن هذه العطية كانت هبة مقدمة للشعب علامة اهتمام اللَّه به، كما كان يقدم لهم منًا من السماء يكفي مليونين شخصًا ليأكلوا ويشربوا كل هذه السنوات. "وهذه الأمور حدثت مثالًا لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورا كما اشتهي أولئك" [6].كان الكورنثوسيون يشبهون إسرائيل القديم إذ نالوا عطايا إلهية كثيرة، وقابلوا ذلك بالتذمر والشر عوض الشكر والقداسة، فصاروا تحت خطر الهلاك الذي حل بإسرائيل في البرية. "فلا تكونوا عبدة أوثان كما كان أناس منهم، كما هو مكتوب:جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" [7].اعتبر القديس بولس مشاركتهم في الولائم الوثنية بالهيكل ممارسة فعلية لعبادة الأوثان."قاموا للعب": كان اليهود بوجه عام يفهمون اللعب هنا بمعني ممارسات دنسة تصحب العبادة الوثنية، كالرقص الخليع تكريمًا للآلهة. "ولا نزنِ كما زنى أناس منهم، فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفًا" [8].في سفر العدد (25: 9) عدد الذين هلكوا 24 ألفًا، فلماذا يذكر هنا 23 ألفا؟ لأن اللَّه طلب من موسى تعليق الرؤساء مقابل الشمس هؤلاء يبلغ عددهم حوالي الألف شخصًا بجانب الـ23 ألفا الذين هلكوا بالوباء. "ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا أناس منهم،فأهلكتهم الحيات" [9].يشير هنا إلى "المسيح" في العهد الجديد، هذا الذي كان يدعي "يهوه" في العهد القديم، فقد جربه اليهود بجحدهم لعنايته الإلهية وتذمرهم عليه. "ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم، أهلكهم المهلك" [10]. تذمر عليه اليهود بسبب المن، وظنوا أن الوعود الإلهية التي قُدمت لهم في مصر لم تتحقق، فأهلكتهم الحيات، وأصابهم الوباء. كما تذمر إسرائيل علي اللَّه وعلي نبيه موسى، هكذا شعب كورنثوس تذمروا علي اللَّه ورسوله بولس. وتذمر الإسرائيليون عند موت قورح وجماعته (عد 16: 41، 49)، وحُسبت شكواهم ضد موسى وهرون أنها ضد اللَّه نفسه (خر 16:8). وقد اقتبس الرسول بولس ذلك حاسبا أهل كورنثوس متذمرين علي المسيح لأنهم تذمروا علي رسوله. إنجيل القداس.. من يوحنا 3: 1 – 13 كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود هذا جاء إلى يسوع ليلًا وقال له يا معلم نعلم انك قد أتيت من الله معلمًا لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الأيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه أجاب يسوع وقال له الحق الحق اقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر ان يرى ملكوت الله قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان ان يولد وهو شيخ العله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد أجاب يسوع الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تاتي ولا الى أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا الحق الحق اقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما راينا ولستم تقبلون شهادتنا إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون ان قلت لكم السماويات وليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء نيقوديموس والميلاد الجديد ليس من أصحاح في العهد الجديد يبدو في صعوبة هذا الأصحاح، ومع هذا فقد جذب كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. فعنده تقف نفس غير المؤمن الجادة في طلب خلاصها لتجد نفسها محتاجة مع نيقوديموس أن تدخل في حوار سري مع السيد المسيح، وإذ تتعرف على الإمكانيات الجديدة الموهوبة لها. تنحني أمامه تطلب الإتحاد معه لتتمتع بروحه القدوس بالميلاد الثاني الجديد خلال العماد. في نفس خط تأكيد الحياة المسيحانية الجديدة: خمر جديدة وهيكل جديد، كان لابد من الكشف عن الولادة الجديدة. يبقي هذا اللقاء الفريد بين شخصية فريسية ممتازة وبين شخص السيد المسيح ينبوع روحي حي يفيض على كل نفس جادة في خلاصها. فقد كان نيقوديموس كفريسي، رجل عالم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ورجل أخلاقي يؤمن كغيره من الفريسيين أنه في قدرة الإنسان إن أراد أن يفعل برّ الناموس، يعتمد على جهاده الذاتي وإرادته البشرية، يتمسك بحرفية الناموس، ويحسب نفسه حافظًا لها. يري في المسيح معلمًا يهوديًا مهتمًا بالناموس، ولعله كان أحد الكثيرين الذين ذكرهم الإنجيلي: "ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع" (يو 2: 24)، آمن أنه أتى من الله (يو 3: 2). ولعله كان يرجو في يسوع أن يكون مصلحًا أخلاقيًا، يقوم على أساس حفظ الناموس حرفيًا، وأن يصلح من شأن الأمة اليهودية. لم تكن عقلية نيقوديموس وخبرته تؤهلانه لقبول الحياة الجديدة في المسيح يسوع، خلال الميلاد الجديد، والتمتع بناموس روحي جديد. كان محتاجًا أن يرفع السيد المسيح فكره وقلبه وكل أحاسيسه وطاقاته نحو السماء ليدرك حاجته إلى الميلاد الجديد خلال ذاك "الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء"، فهو وحده يصعد إلى السماء ليحمل مؤمنيه معه كأبناء لله يتمتعون بالبنوة للآب فيه.لقاء نيقوديموس مع السيد المسيح ليلًا يسحب القلب نحو شخص السيد المسيح للتعرف على اهتمام السيد المسيح بكل نفسٍ بشريةٍ، ولطفه مع صراحته في الحديث معها. رأينا الكلمة الحال في وسطنا ليقيمنا أبناء لله، (ص1)، الآن يعلن كيفية الميلاد الجديد في حديثه مع نيقوديموس رئيس اليهود. اشتاق نيقوديموس أن يرى الملكوت، فأكد له السيد الحاجة إلى المعمودية بالماء والروح. ليعيش المؤمن دومًا كابن لله يسلك بالروح. في هذا الإصحاح يرفعنا من الأرضيات إلى الانشغال بالسماويات خلال إتحادنا بالسماوي الذي نزل إلينا وصعد ليصعدنا معه، إذ هو قائم في السماء (13).يربط العماد بالصليب حيث يعلن الآب حبه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع العالم بالحياة الأبدية (16). وإذ يشير إلى الميلاد الجديد يسحبنا من الخوف من الدينونة إلى التمتع بالنور الإلهي (21). إذ رأى يوحنا المعمدان ما حدث في عماد السيد المسيح وما حمله هذا من تمتع المؤمنين به بالبنوة، كمل فرحهُ. لقد سمع صوت العريس يخطب عروسه لتحيا معه في الأمجاد السماوية (29). حوار حول الميلاد الجديد "كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود". (1)نيقوديموس: اسم يوناني معناه "المنتصر على الشعب". كان رئيسًا لليهود، أي عضوًا في مجمع السنهدرين، المجلس الأعلى للأمة اليهودية.الدعوة الإلهية موجهة إلى كل البشرية بكل فئاتها، لكن قليلين من أصحاب المراكز الدينية والزمنية ومن لهم مراكز قيادة أن يستجيبوا للدعوة. وجد قلة قليلة جدًا من بين الفريسيين، أقل من إصبع اليد الواحدة، ممن تجاوبوا مع هذه الدعوة، من بينهم نيقوديموس. جاء إلى السيد المسيح ربنا وحده أو معه أحد تلاميذه أو أكثر. لم يستخف السيد بالنفس الواحدة، فإنه احتمل موت الصليب من أجل كل نفس.حقًا لقد حمل الفريسيون روحًا مضادة ومقاومة للحق الإلهي، لكن وُجد بين هؤلاء المتعلمين الدارسين من يشتهي اللقاء مع السيد، وقد وجدوا بابه مفتوحًا. نعمة الله تعمل في الأميين كما في الدارسين، وفي العامة كما في القيادات، وفي البسطاء كما بين المقاومين. لقد جاء نيقوديموس إلى السيد، وبقي في مركزه بين المقاومين، ووضع قلبه أن يعمل حينما تُتاح له الفرصة قدر المستطاع. وقد حان الوقت حين لم يستطع التلاميذ أن يعملوا ليعمل هو، فأخذ تصريحًا من بيلاطس كي يدفن جسد السيد المسيح في قبره الخاص الجديد. "هذا جاء إلى يسوع ليلًا، وقال له: يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلمًا، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن اللَّه معه". (2)كلما أشار الإنجيلي يوحنا إلى شخص نيقوديموس يربطه بزيارته للسيد المسيح ليلًا، وقد كرر ذلك ثلاث مرات في هذا السفر (3: 2؛ 7:50؛19: 39). لماذا جاء إلى يسوع ليلًا؟ ‌أ. شعر أنه لا يكفيه أن يسمع أحاديثه العامة، ولا أن يتمتع برؤية معجزاته العلنية، بل هو محتاج إلى جلسة هادئة مع السيد المسيح فيما يخص خلاص نفسه. محتاج إلى حوار شخصي معه (ملا ٢: ٧). إن كان الابن الوحيد الجنس كثيرًا ما كان ينسحب من الجماهير بل ومن التلاميذ الأخصاء ليقضي الليل كله في حديث ممتع مع الآب، ألا يحتاج كل إنسانٍ منا أن يترك كل شيء ويجلس، خاصة بالليل، مع مسيحه ليدخل معه في حوارٍ شخصي، ويتمتع بالحياة الجديدة والشركة معه؟ ‌ب. لعله من باب الحكمة اختار المساء، لأن السيد المسيح كان مشغولًا طوال النهار بالخدمة العامة، فانتظر نيقوديموس حتى المساء ليلتقي مع السيد في وقت راحته، في حديث ودي. ‌ج. لعله إذ دهش برؤية بعض المعجزات انتهز أول فرصة للقاءه الشخصي معه. بينما الكل نيام أراد أن يقضي سهرة روحية مع السيد المسيح، ولعله خشي ألا يجد مثل هذه الفرصة في المستقبل. كان نهازًا للفرص! إنه تمثل بداود النبي الذي كثيرًا ما كان ينتهز فرصة الليل للتأمل (مز ٣٦: ٦؛ ١١٩: ١٤٨). ‌د. لعل أيضًا الدافع لمجيئه ليلًا أنه خشي أن يبلغ الخبر إلى رؤساء الكهنة فيثوروا بالأكثر ضد السيد المسيح، أو يسيئون هم والرؤساء والفريسيون إلى نيقوديموس نفسه. ربما كان ينقصه نور الإيمان، لقد انجذب إلى شخص يسوع، لكنه لم يكن بعد قد عرفه عن قرب، ولا تعرّف على حقيقته أنه نور العالم. لقد كان قائدًا يهوديًا (1)، ومعلم إسرائيل (10)، يحتاج إلى الميلاد الجديد ليتمتع بمفاهيم جديدة للمملكة السماوية المسيحانية. في ضعف إيمانه جاء ليلًا، وقد وجد باب قلب سيده مفتوحًا، ولم يجرح مشاعره بكلمة عتاب واحدة. على أي الأحوال كان إيمانه أشبه بحبة الخردل الحية التي نمت وظهرت كشجرة عظيمة عندما مات السيد المسيح، فتقدم بشجاعة ليطلب جسد السيد. "أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من فوق (جديد)، لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه". (3)اعتبر نيقوديموس صنع الآيات دليلًا على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: "لا تخف لأني معك" (تك 26: 24). ويشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك" (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي. جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية: ‌أ. الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله "ملكوت الله" (٣). لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما جاءت في الترجمات القبطية والسريانية واللاتينية، وكما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى "ميلاد جديد"، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟ ‌ب. أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية (٣). إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري. ‌ج. تتحقق بالعماد من الماء والروح (٥). ‌د. ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرف سرها (٨). كان تكرار كلمة "الحق" في الكتابات اليهودية يُحسب معادلًا لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة "من فوق"، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.بقوله "يرى" يؤكد السيد المسيح أنه يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ألا يعتز بهذا الميلاد دون أن يرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة. بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، لا تقوم على تصليح كيان الإنسان، بل هدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: "الحق الحق أقول لكم"."قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟" (4)جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة. "أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه". (5)عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي ٣: ٥؛ ١ كو ٦: ١١؛ حز ٣٦: ٥٢). هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
15 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس إمرأة لوط

«ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح» مقدمة لست أظن أن هناك نصبًا تذكاريًا أعجب أو أغرب أو أصدق أو أقدم من جثمان امرأة انتصب في الطريق وتجمد على هيئة عمود ملح، وكانت المرأة كما نعلم امرأة لوط منذ قرابة أربعة آلاف عام ما بين سدوم وعمورة وصوغر على مشارف البحر الميت في فلسطين!! والنصب التذكارية تهز في العادة وجدان الإنسان، وتثير فيه أعمق المشاعر، وأصدق الأحاسيس وأقوى الانفعالات، وهل يمكن أن يقف الإنسان مثلاً من نصب الثلاثمائة اسبرطي الذين سقطوا في معركة ترمبولي ويقرأ المكتوب: أيها المسافرون أذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعًا لقوانينها المقدسة، دون أن يحيي بإعجاب الجنود الأبطال الذين وقفوا في وجه الغزاة على هذا النحو المثير الرهيب! وهل يمكن أن نرى مئات أو آلاف النصب الموزعة هنا وهناك في أرجاء الأرض على مر التاريخ، وهيو تحكي ما لا ينتهي من قصص المغامرات والبطولات والمآسي والأمجاد بين بني البشر دون أن تتعلم وتتحكم وتتعظ! على أنه وإن كانت بعض صور المسخ أو الغفلة أو التزييف أو ما أشبه تلحق بالكثير من هذه النصب فتكون أشبه بما تخيله الكاتب الساخر المعروف برنارد شو، عندما صور انجلترا، وقد اختارت جثة واحد من المشوهين تمامًا في الحرب ودفنته في تكريم لائق في قبر الجندي المجهول وشادت له النصب الخاص بذلك، ولدهشة الانجليز وجدوه يتكلم اللغة الألمانية، اذا كان واحداً من الجنود الألمان الذين سقطوا قتلى بين الإنجليز،... إلا أننا في قصة اليوم سنسمع الشهادة الحقة، من يسوع المسيح نفسه عندما قال: اذكروا امرأة لوط!!... ومن الغريب أن الانسان لا يحتاج للذهاب إلى البحر الميت ليرى هذا النصب التذكاري العجيب، اذا أنه ينتصب في العادة في كل مكان وزمان، في صورة أي إنسان تأتيه الظروف الطيبة في باديء الأمر، فيتعلق بها، ويسير معها ولكنه لا يلبث أن يتحول عنها منجذبًا وراء باطل هنا أو غرور هناك، وقد أحب المسيح الشاب الغني الذي سار أول الأمر على أروع ما يكون المثال، إلا أنه ودعه آخر الأمر بالنظرة الباكية الحزينة لأنه كان ذا أموال كثيرة وقفت كالعثرة الكأداء في مجده الأبدي!!...، وعاشت امرأة لوط لتكون الصورة عينها، لمن بدأ حسنًا ولم تقطع الشوط كله، فصارت عبرة، تروي، وستروي حتى تنتهي الأرض وما عليها، عندما يأتي المسيح في مجيئة الثاني العظيم العتيد!!.. وها نحن نتابع قصتها فيما يلي: المرأة والبداءات الحسنة لا يذكر الكتاب المقدس شيئًا عن حياة هذه المرأة قبل أن تتزوج لوطا، لكن الرأي الراجح أنها لم تكن من أهل سدوم وعمورة، وأنها جاءت مع لوط من أور الكلدانيين لأن لوطا قضى في سدوم وعمورة ما يقرب من عشرين عامًا، وهذه المدة لا يمكن أن تكون كافية ليتزوج فيها وينجب، ويصاهر، ويبقى معه في بيته أصغر ابنتين غير متزوجتين، وتصلحان للحياة الزوجية، اذن فهذه المرأة جاءت مع إبراهيم وسارة ولوط، فهي أحد أعضاء القافلة العظيمة المقدسة التي خرجت من أور الكلدانيين، تنشد غاية من أعظم الغايات التي وضعت أمام الإنسان في الأرض، ولم يكن خروج إبراهيم من أور الكلدانيين بدافع الظن أو الوهم أو الخيال، بل على العكس كان مدفوعًا برؤيا حقيقية مجيدة أو كما يقول استفانوس: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فيما بين النهرين».. وما من شك بأن هذه الرؤيا، لم تسيطر على إبراهيم وحده، بل استولت على الذين كانوا معه، ومن بينهم امرأة لوط، فالمرأة بهذا المعنى، كانت تنتسب إلى عائلة، لا شبهة في أنه لم يكن هناك على ظهر الأرض في ذلك الوقت من هو أسمى منها وأعظم وأقدس، فاذا تصورناها نهرا مثل هذا المنبع الصافي الرقراق، كان لنا أن نتصور المجرى يندفع في جلال وفخامة وعظمة، قل أن يكون لها نظير ومثيل، ومن المتصور جدًا أن المرأة استمعت مع لوط زوجها إلى الكثير من التعاليم من أبينا إبراهيم، بل ومن المتصور أيضًا أنها أخذت الكثير من مباديء سارة في تقديم المحرقات وعواطفها، هذا إلى جانب شركتها، كواحدة من العائلة في تقديم المحرقات والذبائح التي كان يقدمها ابراهيم على المذبح أمام الله، كانت المرأة أذن ذات بداءات واضحة في الرؤيا والإيمان والتعليم والعبادة والخدمة والحق. المرأة والتجارب الزاحفة على أنه إلى جانب هذه كلها، كانت هناك سلسلة من التجارب تزحف على قلب المرأة، وتأخذ سبيلها إلى هناك، لتسكن وتبقى وتتأصل وتتزعزع، ولعل أول هذه التجارب، تجربة الحسد، اذ ترى إبراهيم ينمو في كل شيء، ويتضاءل لوط إلى جانبه، ولا يكاد يظهر أو يبين فثروة إبراهيم، ومركزه، ومجده، وعظمته لا تكاد في تصورها، تعطي لابن أخيه شيئًا من هذا القبيل، ومهما أخذ لوط فانه يقع على الدوام في الظل، أو الظلام، مما لا تستطيع تقبله أو تصوره على الإطلاق، وويل للإنسان اذا بدأ قصته بالحسد، اذ تختل فيه كل الموازين ويخشى أنه لا يستطيع أن يحكم على شيء واحد حكماً صادقًا سليمًا، فاذا قيل لها إن إبراهيم، هو الأب، وهو الأصل، وهو الذي جاء بلوط، ولم يأت لوط به، وانه صاحب الفضل على لوط في كل شيء! فانها ترفض هذا المنطق، ولا تعترف بأصل أو فضل، بل لعلها ترى العكس، على اعتبار أن إبراهيم شيخ مسن، وأن لوط هو الأصغر، وأن أمامه الحياة والدنيا والمستقبل، وهو الأجدر بأن يأخذ كل شيء دون منازع، والحسد اذا بدأ في النفس، لا يبقي هناك وحده بل يجر وراءه كثيرًا من الرذائل والمفاسد! وقد جر إلى نفس هذه المرأة وزوجها رذيلة الطمع التي أوجدت المخاصمة بين رعاة مواشي إبراهيم ورعاة مواشي لوط، ولم تكن عين لوط وحدها هي التي رأت كل دائرة الأردن أن جميعها سقي كجنة الرب كأرض مصر، بل لعل لوطا أطل على الأرض، من خلال عيني زوجته أو على الأقل وجد منها كل تشجيع ومساعدة لنقل خيامهما إلى سدوم، بهدف الوصول إلى الثروة التي ان لم تكن أعظم من ثروة إبراهيم، فلا يمكن أن تكون أقل بحال من الأحوال، وقد صدق الكتاب عندما ربط بين الطمع وعبادة الأوثان في قول الرسول بولس: «الطمع الذي هو عبادة الأوثان» وقد كان من الصعب أو المستحيل على هذه المرأة أن تعبد الله، عبادة قوية صادقة خالصة، وتعبد في الوقت نفسه المال، أو تخدم السيدين معًا، وهي في الواقع واحدة من ذلك الصف الطويل في ركب البشرية الذي تم فيه القول: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!»... ويوم أكثرت قطعانها السارحة في أرض سدوم، قلت رؤياها لله، أو كانت هذه القطعان بمثابة الغيمة الكبيرة في سماء الشركة بينها وبين الله، والطامعون في العادة لا يقفون عند حد ولا يقبلون أن يكون المال هو الشيء الوحيد، فقد كانت المرأة تطمع في شيء آخر، المجد والشهرة والمركز العالمي، وهي لهذا لا تقبل أن تقف على أبواب سدوم، بل لابد أن تدخل داخل أسوارها، وهي لا تقف في الطرف من سدوم، بل لابد أن يكون بيتها في أفضل مكان هناك، وقد تم للمرأة ما طلبت اذ ظلت وراء زوجها تدفعه خطوة فخطوة، حتى أصبح يجلس في باب سدوم، وهذا لا يمكن أن يفعله أحد الا اذا كان عمدة سدوم أو حاكمها كما يعتقد الكثيرون من الشراح، تفسيرًا للقول الذي ذكره أهلها عنه: «جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكمًا» كانت المرأة تطرب غاية الطرب، لمن يناديها بزوجة العمدة أو زوجة الحاكم في سدوم، وعلى استعداد أن تدفع الثمن الذي يدفعه الباحثون عن الشهرة والمجد العالمي، ألا ويل للإنسان من هذه الضربة القاسية التي يدفعها من حق وحياة وكرامة وسلام على قرعات كاذبة من الطبل الأجوف بين الناس، ويوم فعل الحسد والطمع والبحث عن الثروة والشهرة عمله في قلب امرأة لوط، لم تعد تفكر في مبدأ، أو تهتز لخطأ، أو تفزع لرذيلة، فلا بأس على بناتها أن يتزوجن أشر الناس ولا بأس على زوجها أن يغلب من سيرة الأردياء، ويعذب نفسه كل يوم بأعمالهم الآثمة، ولا بأس عليها أن تأكل وتشرب وتعيش في مثل هذا المجتمع، ولا يمكن أن ترجع قط إلى خيام إبراهيم على مقربة منها، وما لها وهذه الخيام البدوية، وهي تعيش حياة أكثر رفاهية، وكيف تقبل الخيمة، وقد ألفت البيت المريح، وكيف تسكن إلى حياة البادية، وقد عرفت أبهاء القصور وعظمتها،... أليس هذا ما يفعله ملايين الناس، الذين يقيسون الحياة بمقاييس مادية بحتة، ويذهبون إلى سدوم، مادام يمكن أن يملكوا بيتًا عصريًا وسيارة ورصيدًا في بنك، ويأخذوا بكل وسائل الترف والترفية، التي تخطر على بال إنسان، أما الأخلاق أو المباديء أو المثل، فلا شأن لهم بها، اذ كانت لا تملك أن تعطيهم لقمة دسمة، وفراشًا ناعمًا، وحياة وثيرة، وعيشًا هنيئًا كما يحلمون، ويحلم إنسان العالم على الدوام على هذه الأرض!!. وهل رأيت بعد هذا كله كيف زحف الحسد، والطمع، وحب الشهرة، والمركز، وحياة الترف إلى قلب هذه المرأة، التي لم تدخل إلى سدوم لتسكن فيها فحسب، بل دخلت سدوم بأكملها في قلبها، وأصبحت هي وسدوم شيئًا واحداً في الطبيعة والمصير!! المرأة والخسارة الفادحة وما أكثر ما توالت على المرأة وزوجها وبيتها من خسائر فادحة في مدينة سدوم، ولعل أولى هذه الخسائر كانت الراحة المفقودة، لقد أخذت كل شيء، ولكنها مع ذلك لم تأخذ الراحة، ألم يقل الرسول بطرس عن لوط: «مغلوبًا من سيرة الأردياء، في الدعارة اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة».. أو في لغة أخرى أن لوطا لم يعرف الراحة قط في يوم من الأيام في المدينة الشريرة التي انتقل إليها، وهو يظن أنه سيسعد ويستريح، وكيف يمكن أن يسعد من يستبدل أحلى الترانيم بأشر الأغاني، ولغة البركة بأقسى اللعنات، وصلاة الحمد بأنين التذمر!... أن سدوم وعمورة ومدن الدائرة، لم تكن تعرف في يوم من الأيام إلا الصراخ والآنين والألم والتعاسة والشقاء، في قلب ما تتصور أنه الضحك والترنم والبهجة، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، ولذا لا عجب أن يقول الله لإبراهيم «إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا....» إن سلم الراحة على الدوام له ثلاث درجات متصاعدة، الدرجة الأولى، درجة الماديات، حيث يأخذ الإنسان حظه المادي في الأرض، وأعلى منها الدرجة الأدبية، حيث يرتفع الإنسان فوق المادة إلى عالم الأدبيات والمعنويات من كرامة وعزة واعتبار وفضيلة وشرف وما أشبه، والدرجة الأعلى والأسمى، الدرجة الروحية، حيث يسير في شركة أسمى وأعلى من كل ما تقدم الأرض، وحيث يأخذ أجنحة النسور، ليعلو على كل أجواء الدنيا الخانقة القاتلة، ويوم يفقد الإنسان ما هو أعلى من درجات، لن تسعفه الدرجة الدنيا بالراحة، مهما أخذ فيها واتسع وملك! كما أن امرأة لوط خسرت شيئاً آخر، إذ خسرت عظة الملائكة، ويبدو أن الله أرسل لها هذه العظة، بعد إن فقدت عظات زوجها كل أثر في حياتها، اذ يبدو أنها كانت تنظر إلى كلماته ونصائحه، كما نظر أصهاره إلى ما قال، وكان كمازح في أعينهم، وشاء الله أن يرسل لها ملاكين يعظانها، عن الخراب الوشيك الرهيب الذي سيقع على المدينة، ولكن تأثير العظة كان وقتيًا وإلى لحظات، فما أسرع ما فقدت الرسالة تأثيرها، وما فعله الملاكان عند بابها بضرب السدوميين بالعمى، وهي مثل كثيرين الذين يمكن أن يقال لهم عند ما تخلو حياتهم من زيت النعمة: لو أننا نتكلم بألسنة الناس والملائكة، فما أنتم بسامعين أو منصتين لأن حياتكم منزعة بالماديات، وآذانكم مشغولة، عن سماع رسالة الحياة، بضجيج هذا العالم وصراخه!! وجاء في أثر هذا ايضًا، خسارة أولادها الذين بقوا في سدوم، وبناتها وأصهارها، والعار الذي لحق بالخارجتين من المدينة أيضًا، وهي خسارة أقسى وأشر، من كل خسارة مادية، وقد يستطيع الإنسان أن يعوض في المدى البعيد أو القريب كل خسارة مادية، ولكنه يعجز أبدًا عن تعويض خسارة الأرواح الضائعة في الحياة الحاضرة أو العتيدة أيضًا، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه، أو ماذا يعطي فداء عن نفسه! على أنه من المثير حقًا، أن المرأة فقدت إلى جانب هذا كله ما سعت وشقت وتعبت في الحصول عليه، إذ فقدت الثروة بأكملها، والشهرة بأكملها، والنفوذ بأكملها، لقد تحول كل شيء أطلالا وأنقاضًا، سعى إليها اليوم والغربان وبنات وآوي، ومن المؤكد أنها لم تجد شيئًا الا الدمار والخراب، وآخر الكل فقدت المرأة نفسها، وسواء كان هذا بسبب الشك الذي ربما تسرب إليها، آذ قطعت شوطًا طويلاً بعيداً عن المدينة، دون أن يحدث هذا الانقلاب الذي حدث عن شروق الشمس في الصباح، أو لأنها أمتلأت بالحزن والحنان والأسى، على ما تركته هناك في المدينة من أحياء وأموال، أو لأنها لم تستطع أن تدرك للحياة معنى بعد أن فقدت كل شيء، سواء كان الشك أو الحنان أو اليأس، أو جميعها مجتمعة معًا، فان المرأة لم تنتفع على الإطلاق بما سارته من شوط طال أو قصر في طريق الخلاص، وتساوت مع أهل سدوم، رغم البداءات الحسنة في سيرها، من أور الكلدانيين، وفي صحبة إبراهيم وفي خروجها مع زوجها، وبنتيها والملاكين، فيما يشبه الركض على الطريق! وكل هذا لأنها نسيت ما ينبغي أن يعلمه الكل من أن الشوط ينتهي بصوغر، وأن المتخلف الذي يتراجع في الدقائق الأخيرة عن الوصول إلى صوغر، ستلحقه الكارثة والضياع والخراب، ولا فرق بين الاثنين، ما دام كلاهما لم يخرج بعد من دائرة الأرض التي دمرتها الخطية وقلبها الله! هل لنا بعد ذلك كله، أن نذكر أن المرأة، وقد أفزعت ولاشك زوجها وبنتيها، وهي تتحول فيما يشبه الصاعقة أمام عيونهم، إلى عمود ملح، يرنو بعينين فقدتا النور والضياء، إلِى مدينة سدوم، هل لنا أن نذكر، بأنها قد جعلت بهذا المعنى عبرة لجميع الأجيال، كما أضحت سدوم وعمورة سواء بسواء، وأنها ستبقى هكذا حتى يأتي المسيح حسب قوله الصادق الأمين المبارك «هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط...»!.
المزيد
14 أبريل 2021

الحرية أهميتها، أنواعها، ضوابطها

لقد خلق الله الإنسان حرًا. وبالحرية ميزه عن مخلوقات أخري كثيرة. وقد تغني الناس بالحرية. فقال أحد أدباء الغرب: 'لو انك فقدت كل شيء، ما عدا الحرية، فأنت لا تزال غنيًا'. وتجاه الحرية، يقف ذلك السؤال الشهير:'هل الإنسان مسير أم مخير؟' وواضح أن الإنسان مخير في كل ما يفعله. ولكي لا ينحرف بحريته فيخطئ، زوده الله بالعقل الذي ينير أمامه الطريق، وأيضًا بالضمير لكي يميز بين الخير والشر. كما زوده كذلك بالوصية الإلهية لكي يلتزم بها في كل تصرفات حياته.والدليل علي حرية الإنسان، إن الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه، وان لم يكن حرا، فكيف يلتزم بوصايا الله؟! وما لزوم أمور عديدة ينهاه الله عنها، إن لم تكن له حرية إرادة؟ وإلا انطبق عليه قول الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء كذلك فإن ارتكاب الخطيئة دليل علي أن الإنسان مخير.. لأن الله لا يسير أحدا في طريق خاطئ.. إنما المخطئ يرتكب الخطأ عن طريق اختياره له وأيضًا أن لم تكن هناك حرية، فلا حساب إذن ولا دينونة في الآخرة ولا ثواب ولا عقاب. الإنسان إذن مخير لا مسير.. فهل هو مخير في كل شيء؟ طبعا لم يكن أي شخص مخيرًا من جهة البلد الذي ولد فيه، ولا من جهة الجنس الذي ينتمي إليه. ولم يكن مخيرًا في نوع شكله وملامحه، وفي فصيلة دمه، وفي كثير من المواهب التي أعطيت له، أو التي حرم منها.. لم يكن مخيرا في نشأته، ولا في اختيار أسرته، ولا فيما ورثه عن تلك الأسرة من دم ومن عقل، وأمور اجتماعية ولكنه علي الرغم من كل هذا هو مخير في تصرفاته، ومخير في أن يصلح بقدر الإمكان من مستوي نشأته، كما في تغيير مستواه في أمور عديدة. هنا ونسأل: هل الإنسان حر في أحلامه؟ وللإجابة علي هذا السؤال، نقول أن هناك أنواعًا من الأحلام فقد توجد أحلام عبارة عن إعلان من الله، مثل الأحلام التي فسرها يوسف الصديق لفرعون. وهناك أحلام أخرى عبارة عن حروب من الشياطين. وهذان النوعان لا إرادة للإنسان فيهما ولا حرية، وبالتالي لا مسئولية. غير أن هناك أحلامًا ناتجة عما يخزنه كل شخص في عقله الباطن من شهوات أو رغبات أو أفكار أو مخاوف.. وما تجمعه الحواس من نظر وسمع.. وهذه قد تظهر له بصورة أحلام. ويبدو أنه لا حرية للإنسان فيها. ولكنها ناتجة عن حرية سابقة، فيما خزنه لنفسه.. وهي لا تدخل في نطاق الأمور الإرادية، إنما في شبه الإرادية أو نصف الإرادية. وعليه مسئولية تجاهها، علي الأقل من جهة الأسباب التي أوصلتها إليه.ولهذا، فإن كان الإنسان أمينا علي نفسه وروحياته أثناء الصحو، ستكون أحلامه أمينة له أثناء نومه. ضوابط الحرية وحدودها: إن الإنسان فيما هو مخير فيما يفعل، لكنه ليس مخيرا بطريقة مطلقة، إنما تحد من حريته أمور مهمة تنطبق علي الكل.فله أن يستخدم حريته، بحيث لا يعتدي علي حريات الآخرين وحقوقهم، فلا تستخدم الحرية في إهانة الغير، ولا في السب والقذف، ولا أن تبني راحته علي تعب الآخرين. وليس هو حرًا في استخدام العنف ضد غيره.وهو أيضا حر في حدود الالتزام بالنظام العام، والالتزام بالآداب العامة، وبقوانين البلد الذي يعيش. مثال ذلك فإنه في أكثر البلاد تمسكًا بالحرية، لا يستطيع أحد أن يكسر قواعد المرور وإشاراته، ويقول: أنا حر أفعل ما أشاء! هو أيضا حر في حدود وصايا الله، فلا يعصاها ويسلك حسب هواه. وهكذا فإن المؤمنين بالحرية، ينادون بالحرية المنضبطة، وليس بالحرية المطلقة.ولهذا، فإن الذي يتجاوز حدود حريته، ولا يلتزم بالوضع السليم، فإن القانون يلزمه بذلك، والعقوبة تردعه.. بل أن حرية الإنسان ينبغي ضبطها منذ الصغر. وهنا يبرز لزوم التربية والتعليم. ويقوم واجب الأسرة في ضبط حرية الطفل، بحكمة، حتى لا ينحرف. ثم واجب المدرسة أيضا في تعليم الطلبة قواعد الحرية وحدودها وضوابطها. كذلك ليس الإنسان حرًا في إيذاء نفسه: فلا يقع الإنسان في إدمان الخمر أو المخدرات أو التدخين، ويتلف صحته وإرادته، ويضيع ماله فيما يضره. ويقول أنا حر!.. كلا، ليس هو حرا فيما يجلب له الأذى. فصحته وديعة في يديه، لا يملكها وحده، بل يملكها أيضا المجتمع الذي رباه ورعاه، والذي هو مكلف بخدمته وأداء واجبه نحوه.. كذلك ليس الإنسان حرًا في أن يقتل نفسه، أي ينتحر بطريقة ما. فحياته ليست ملكا له وحده. كما انه ليس حرا في كسر وصية الله القائلة 'لا تقتل'. والتي تنطبق أيضا عليه من جهة نفسه كما من جهة غيره. أنواع الحرية: في نطاق الحرية المنضبطة، توجد أنواع من الحرية، منها الحرية الشخصية، حرية الإرادة، وحرية الفكر، وحرية إبداء الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية العقيدة، والحرية السياسية. فالإنسان من حقه أن يفكر بحرية كما يشاء. ولكن بضوابط: فليس من حريته أن يسرح في أفكار ظالمة، أو في أفكار نجسة، وان كانت قوانين الدولة لا تردعه من جهة هذا الفكر، فإن الضمير يوبخه، ويأمره أن يضبط فكره حتى لا يدنس نفسه.. ثم هل في حريته أن يعتنق فكرا هداما؟! وان اختار بحريته هذا الفكر، فليس من حقه أن ينشره. وإلا فإنه يؤذي المجتمع الذي يعيش فيه. وهنا من حق الدولة أن تضبط الأفكار الهدامة التي تبلبل أذهان الناس وتقود تصرفاتهم في اتجاه ضار.الإنسان له حرية العقيدة، من جهة الدين والتدين، وما يتبع ذلك من حرية العبادة.وقد تمادي البعض في هذه الحرية، حتى وصلوا في بعض البلاد إلي الإلحاد. كما وصلوا إلى كثير من الانحرافات العقيدية وإلي تشويش أذهان الآخرين، ونشر الشكوك في الثوابت من الأمور الإيمانية. وتجرأ بعضهم في بلاد الغرب إلي مطالبتهم بعدم تدريس الدين، لأنه لا يوافق معتقداتهم. كذلك وصل بهم الأمر إلي الشذوذ الجنسي والمطالبة باعتماد قانون من الدولة. وبعض الدول سمحت لهم بهذا كما في كندا. كما ضغطوا علي بعض الهيئات الدينية لاعتماد الشذوذ. وطالبوا لأنفسهم بحقوق كشواذ أما عن الحرية السياسية فللإنسان الحق في اختيار النهج السياسي الذي يوافقه، والحزب السياسي الذي يستريح لمبادئه.كما أن له حق الانتخاب وحق الترشيح في حدود القانون. ولكن الحرية السياسية ينبغي أن تكون منضبطة أيضًا. فلا ينضم أحد إلي نهج سياسي مدمر، ولا ينضم إلي حزب متمرد علي النظام، يثير الشقاق ويدعو إلي التخريب وإلي محاولة قلب نظام الحكم.وفي نطاق الحرية السياسية، تدخل حرية الصحافة وحرية النشر والمفروض في هذه الحرية أن تكون منضبطة أيضًا، بحيث لا تكون أداة تشهير بالناس، وسب البعض وقذفهم بحجة حرية الرأي. ولا يجوز للصحافة أن تخرج من الناحية الموضوعية إلي النواحي الشخصية، التي تمس أعراض الناس وسمعتهم وأمورهم الشخصية إن الحرية سلاح ذو حدين، فهي نافعة ولازمة أن سارت في طريق سليم. وإلا إذا انحرفت فإنها تضر الإنسان ومن حوله. الحرية الحقيقية: ختاما ما هي الحرية الحقيقية؟ ذلك لأن هناك بعض الناس يسمون أنفسهم أي متحررين، وهم يسيرون حسب هواهم في طريق خاطئ، يتحررون فيه من القيم والثوابت..! أما الحرية الحقيقية، فهي أن يتحرر الإنسان من كل فكر خاطئ، ومن كل طبع رديء، ومن كل شهوة منحرفة، ومن كل خطيئة مثل هذا الإنسان إذا منح الحرية فإنه سيسلك فيها بأسلوب سليم نافع له ولغيره لذلك علي طالب الحرية، أن يتحرر أولا من الداخل.. وبهذا يمكنه أن يستخدم الحرية للخير. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 أبريل 2021

قوة الإرادة

تقوية الإرادة من الفوائد المهمة التي يساعدنا الصوم على اقتناءها، والتي تُسْتَفَاد من الصوم.. والصوم من أهم التدريبات التي نأخذها في حياتنا لِتَقوية الإرادة.. فبعض الأشخاص تكون نِيَّتهم حسنة ويريدون أن يفعلوا أفعالًا جيدة، ولكن لضعف إرادتهم لا يستطيعون اتخاذ القرار. وقد يكونون أشخاصًا مُعتدلين وذو وقار وهيبة، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار لصالِحهم أو لصالِح الآخرين.. فهذا عيب في الشخصية، وهو ضعف الإرادة. ولذلك عَلَّمتنا الكنيسة أن الصوم تدريب روحي لِتَقوية الإرادة، فالأمس كنا نأكل ونشرب كل ما نشتهي ولا نمنع أنفسنا عن شيء، ولكن بحلول الصوم واندماجنا فيه نستطيع أن نقول للفم: "سوف لا تَذُق هذا الطعام فترة من الزمن". وأُخاطِب حاسة الشَّم التي تَشِم وتَشْتَهي المأكولات المُحَبَّبة قائِلًا: "سوف لا أعطيكي ما تشتهينه". وسوف أَتَحَكَّم في نظري الذي يَتَلَهَّف على رؤية المأكولات والمشروبات الشهية وأقول لعيناي: "سوف لا أعطيكي ما تَشْتَهينَهُ". فدائِمًا الشهوة تَلِد خطية: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (رسالة يعقوب 1: 15).وهنا تبدأ إرادة الإنسان أن تَتَقَوَّى رويدًا رويدًا حتى يصل الإنسان إلى أن يصبح صاحِب قرار قوي دون تَرَدُّد، يستطيع أن يُفَكِّر ويَتَغَلَّب على الصِّعاب ويتخطَّى كل المعوقات، بِحُسن تفكيره واتخاذه القرار المُناسِب في الوقت المناسب. ولا نَحِد الكلام هنا عن ملاذ الجسد من مأكولات ومشروبات، فالمُحارَبات كثيرة، ولا تُحصى فتعالى بنا ننظر أيها الحبيب عن تجارب السيد المسيح المُعْلَنة على الجبل، وكيف تَصَدَّى لها بكل قوة، لِيُعَلِّمنا كيف نَقِف أمام حِيَل إبليس ومُحارَباتهُ المُتَعَدِّدة فِعندما يجوع الجسد يكون الفِكر مُنْشَغِل بكيف آكُل، ومتى، ونوعية الطعام، وغير ذلك من الأفكار الكثيرة.. فَمَع جوع الجسد يكون مُتَلَهِّفًا للغِذاء، وقد يَصِل الإنسان إلى عدم التمييز بين الأكل الضار أو المُفيد، فهو مُهْتَم بِسَدّ الجوع بشبع أيًّا كان هذا الأكل. وهنا تَبْرُز إرادة الإنسان: هل هي قوية أم ضعيفة؟ هل يُحْسِن الاختيار، أم يأكُل ما يَضُرّهُ أكثر من الجوع.. "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا" (إنجيل متى 4: 2) حسب طبيعته الناسوتية، ولكنه كان قوي الإرادة أمام حَرْب الشيطان عندما خاطَبهُ حسب طبيعتهُ اللاهوتية: "فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا»" (إنجيل متى 4: 3)، فكان رد السيد المسيح عليه بكل قوة لِيُعَلِّمنا أن ليس غِذاء الجسد هو الذي يُحيي الإنسان، ولكن كلمة الله الحية هي التي تُحيي الروح والجسد أيضًا: ".. لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (سفر التثنية 8: 3؛ إنجيل متى 4: 4؛ إنجيل لوقا 4: 4)،وهكذا انتصر على شهوة الجسد.وهكذا في التجربة الثانية التي وُجِّهَت إلى شهوة العيون والامتلاك والعَظَمة عندما أخذه ".. وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»" (إنجيل متى 4: 5-7). نجِدهُ بقوة إرادته انتصر على شهوة العيون.وفي التجربة الثالثة أخذه لِيُريه مجد العالَم: ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (إنجيل متى 4: 8-10). وهكذا انتصر السيد المسيح مُمَثِّلًا للبشرية كلها على تَعَظُّم المعيشة ومجد العالَم الفاني.إذًا، فلنأخُذ هذه التجارب وكيفية النُّصرة عليها مَثَلًا حيًّا لنا في حياتنا لنستطيع أن نُقَوِّي إرادتنا الضعيفة، ونقف أمام خَديعة الشيطان المُسْتَمِرًّة، ونقلع عن الخطية المُسَيطِرة علينا بقوة السيد المسيح الذي صام عنَّا ليعطينا مِثالًا لكي نَتبع خطواته. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
12 أبريل 2021

إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السادس من الصوم المقدس المزمـور: «1خَاصِـمْ يَـا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَـاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. 2أَمْسِـكْ مِجَنًّا وَتُـرْساً وَانْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي» (مز 35: 2،1). الإنجيل: «1وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عِنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2فَأْجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: ”أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ. 4أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ“» (لو 13: 1-5). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: لقد أعطى الرب يسوع، في إنجيل قدَّاس هذا الصباح، مَثَلَيْن للكوارث التي يُفَاجأ ب‍ها الناس: أولاً: الكوارث الاجتماعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: صِدَامٌ دموي بين الجليليين وجنود الرومان داخل الهيكل، حتى اختلط دم الذبائح بدم مُقدِّميها.ويتبعها كل الكوارث التي يتسبَّب فيها الإنسان نتيجة سوء تفاهُم أو تعدٍّ على حقوق، أو ابتزاز ونَهْب، أو كراهية فئوية أو جنسية أو عِرْقيَّة أو دينية أو استعمارية؛ وهي التي يقع تحتها المظاهرات وما ينشأ عنها، والحروب وما ينشأ عنها، والاضطهادات وما ينشأ عنها. ثانياً: الكوارث الطبيعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: سقوط بُرْج على الناس الذين فيه وموت‍هم.ويتبعها كل الكوارث التي تنشأ من الطبيعة، ولا دَخْل للإنسان فيها، كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفيضانات وكـل مـا ينشأ عنها، من اختفاء قارات ومُدن وبيوت وأبراج، وحرائق؛ وكذلك الأوبئة والأمراض والجفاف وتعدِّي الحيوانات. وجهة نظر المسيح فيها عموماً: لم يشأ المسيح أن يدخل في تفاصيل هذه الكوارث، ولكنه أعطى قانونه في أسباب‍ها وكيفية تلافيها: 1. فهو أولاً يرتفع بأسباب‍ها الظاهرة المحدودة، فلا ينسب سببها إلى خطيةٍ ما من جانب المنكوبين، وكأن‍هم أكثر خطية من الذين نَجَوْا أو الذين لم يلحقهم الأذى: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِـنْ كُـلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 2). كذلك الذين قتلهم البُرْج الساقط: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 4). 2. إنذار: الكوارث موجَّهة كإنذارٍ للذين نَجَوْا، وللباقين أيضاً. هذا واضحٌ من قول المسيح: «بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». أي إنَّ الكارثة عظة تُوجِّهنا للتوبة. هذا في أحكام الله وقوانينه التي تتحكَّم في مصائر الناس. إذن، فعليك إذا تواجَهْتَ مع كارثةٍ، فلا تبحث عن سببها ونتائجها؛ بل أول ما يجب أن يخطُر ببالك أن‍ها إنذارٌ، وهذه عظةٌ لك. فإنْ لم تَتُبْ، فسوف ت‍هلك كذلك. 3. ردُّ فعل: ولكن هناك في هذه العظة والإنذار ما يفيد تماماً أنَّ هذه الكارثة هي نتيجة خطية، وبقوله: ”إنَّ الذين ماتوا لم يكونوا أكثر خطيةً من الباقين“، يُوضِّح أنَّ سبب الكارثة هو خطية الذين ماتوا وخطية الذين نَجَوْا على السواء؛ بمعنى أنَّ الكارثة هي ردُّ فعل لخطية الجماعة كلها.إذن، الكارثة الصغرى التي حدثت هي إنذارٌ لكارثة أكبر قادمة. هذا قانونٌ إلهي سارٍ منذ البدء: فمعروفٌ أنَّ الطوفان كان ردَّ فعل مُباشر لازدياد خطايا البشر بصورةٍ تعدَّت حدودها المسموحة من الله، كأنَّ الله عنده حدودٌ لمستوى الخطية وكثرت‍ها؛ هذا بصورةٍ عامة. كذلك، وبصورةٍ محدودة، خاصة من حيث نوع الخطية. فإنَّ هذا حدث أيضاً في مدينة سدوم وعمورة، إذ تسبَّبت خطية مُضاجعة الذكور وحدها بحَرْق المدينة بأَسْرها. وهي التي نسمع عنها في هذه الأيام، والتي نتج عنها مرض ”الإيدز“. هنا وَضْع سوابق مُطبَّقة، فهي قوانين إلهية مُطبَّقة عن سوابق واضحة جداً ومُسجَّلة من حيث الكَمِّ ومن حيث النوع. 4. هلاكٌ مُعَدٌّ مربوطٌ بالتوبة أو عدمها: ولكن قول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو 13: 3)، إن‍ها نبـوءة واضحة، أنَّ هناك هلاكاً قادماً بسبب الخطية، ولكن مجيء هذا الهلاك القادم مشروطٌ: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا». أي إنَّ الهلاك ال‍مُعدَّ يمكن للتوبة أن ترفعه وتتجاوزه، كما حدث لأهل نينوى، فتوبتهم رَفَعَت عنهم الهلاك ال‍مُعدَّ لهم!! 5. هلاكٌ للجميع: ولكن في قوله: «جميعكم»، يُوضِّح المسيح أنَّ الهلاك القادم خطيرٌ بل ومُريعٌ؛ فهو سيشمل ”الجميع“. وهذا ما تمَّ بالفعل بعد كلام المسيح هذا بأربعين سنة تماماً، عندما اكتسح الرومان أورشليم وهدموها على مَنْ فيها، بأسوارها وأبراجها، حرقوا هيكلها، وذبحوا كل الكهنة الذين تجمَّعوا وان‍همكوا في تقديم الذبائح، واختلط دم الذبائح بدم مُقدِّمي الذبائح، وعلى نفس المذبح، وأُخلِيَت البلاد من جميع سُكَّان‍ها!! فتمَّت النبوَّة بالحرف الواحد.هنا الذي يضمن شدَّة تنفيذ القانون، هـو الرحمة مع القُدرة. فقُدرة الله لان‍هائية في السَّحْق وفي الرحمة معاً. والاثنان واقفان مقابل بعضهما البعض، والواحدة منهما قادرة على تعطيل الأخرى. 6. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أنَّ الكارثتين المذكورتين في هذا الإنجيل، واللتين جعلهما المسيح إنذاراً لِمَا هو آتٍ، قد تَمَّتا بالفعل على المستوى الجماعي؛ إذ ت‍هدَّمت الأسوار بأبراجها على مَن فيها، وذُبِحَ الكهنة مع ذبائحهم.وهكذا اتَّضح، وعلى المستوى التاريخي، أنَّ إنذار المسيح تمَّ بالفعل وعلى نفس مستوى النموذج الذي استخدمه المسيح. 7. التوبة تُغيِّر قضاء الله: ثم إذا بدأنا نحسب قَصْد المسيح من تعليمه وتقديمه لهذا القانون، يتَّضح لنا أنه لم يكن إنذاراً ت‍هديديـاً؛ بل كـان بمثابة رجاءٍ وحثٍّ على التوبة. المسيح يرى الحاضر، ويرى القادم، ويرى وسيلة الخلاص من القضاء الذي سيتحتَّم وقوعه. فهنا تظهر التوبة أمامنا بجلاءٍ، كقوةٍ عُظمى قادرة أن تُغيِّر قضاء الله وقانونه المحتوم.لذلك إذا عُدنـا مرَّة أخرى لقول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ»، نراه يكشف، بصِـدْقٍ، كيف أعطى للإنسـان حـقَّ ”الفيتـو“ (أي ”توقيف“) الأحكام والقوانين الحتمية.فالتوبة هي، في حقيقتها، التجاءٌ إلى الله نفسه صاحب القضاء والحُكْم والقانون، وهو نفسه الذي في يده سُلطان رَفْع الخطية التي تستوجب القضاء والحُكْم، وعلى أساسها يستمدُّ القانون سلطانه.والعجيب في شأن الله، كقاضٍ عادلٍ، أنـه أَلزم نفسه تجاه الإنسان. فإذا تاب إليه الإنسان حقّاً، فإنه يستحقُّ ويستوجب العفو المطلق.هنا ترتفع قيمة التوبـة في عينَي أيِّ إنسانٍ، لكي تبلغ إلى قامة الله في قُدرتـه على تنفيذ الحُكْم، وفي نفس الوقت قُدرتـه على رَفْع الحُكْم؛ حيث استمرار الخطية تجعله يُنفِّذ الحُكْم، والتوبة تجعله يلغي الحُكْم. 8. عشرة في كلِّ مدينة: ولكن أغرب ما في كلِّ أحكام الله وقوانينه وقضائه، أنه لا يُلْزِم نفسه ولا يُلْزِم الإنسان بأن يتوجَّب توبـة جميع الخطاة، بل إنه لكي يعفو عن مدينةٍ بأَسْرها صَدَر ضدها الحُكْم بالحرق والإبادة، يكفي أن يتوب عنها عشرة أشخاص أتقياء فقط. هذا أعلنه الله في حديثه مع إبراهيم أبي الآبـاء، وبحوارٍ صادق معه، إذ استطاع إبراهيم أن يكشف - في قانون أحكام الله - كيف أنـه يكتفي بعشرة فقط في مدينةٍ كبيرة يتوبون ويصلُّون عن المدينة كلها، لكي يصدر الحُكْم بالعفو الجماعي (تك 18: 32). 9. مطلوبٌ فدائيون عن كلِّ العالم: من هذا نفهم أنَّ خلاص مدينة وخلاص أُمَّة وخلاص العالم، مُتوقِّفٌ على جماعاتٍ فدائية تُكرِّس حيات‍ها الخاصة للصلاة والتقوى والتوبة عن نفسها وعن الآخرين. فإن أنتم تنبهتُم، تعرفون ما هي مسئوليتكم.روح القانون الإلهي العام الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله إنَّ رَبْط المسيح الهلاكَ الناتج من الكوارث الاجتماعية والكوارث الطبيعية على السواء بتوبة الإنسان، يكشف بوضوح روح القانون الإلهي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله، والذي يقوم على اتِّجاهَيْن: 1 - إن ازدياد مُعدَّل الخطية هو حدُّ القانون السلبي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والعالم. 2 - وإنَّ الشقَّ الطبيعي في العالم، بكلِّ حركاته وثوراته، مربوطٌ بالشقِّ الروحي للإنسان. والقديس بولس الرسول يُؤمِّن على ذلك بقوله: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رو 8: 23،22).فالطبيعة كلها تحت أصابع الله، ونحن بخضوعنا تحت أصابع الله، نحفظ الطبيعة مـن الهلاك. فالشقُّ الطبيعي في العالم، الذي ينذهل العالم من جبروته، والفناء الذي قد يحصل للعالم من جراء خطية الإنسان؛ كلاهما مُرتبطٌ بشدَّةٍ بالشقِّ الروحي للإنسان. أربعة مبادئ أساسية: والآن يمكن أن نستخلص المبادئ الآتية من إنجيل قدَّاس هذا اليوم: 1. إنَّ وراء كل كارثة، خطية تسبَّبت فيها. 2. وإنَّ كل خطية يتبعها كارثة كنتيجة حتمية. 3. وإنَّ كل كارثة هي، بحدِّ ذات‍ها، إنذارٌ للتوبة. 4. وإنَّ التوبة تُوقِفُ حدوث الكارثة. ذلك بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الشعب أو المدينة أو العالم، وبحسب نسبة معلومة لدى الله وحده.كما يمكننا أن نفهم، بالوعي المسيحي، ما يجري الآن حولنا: أ - فإنَّ ما يُعانيه الإنسان المسيحي، فوق أنه يدخل حتماً في قانون: «... أَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (أع 14: 22)، و«فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يو 16: 33)؛ إلاَّ أنه بالنسبة لإنجيل اليوم، فإنه يَستعلِن لنا سرّاً آخر من أسرار مواجهة العنف، وما يتأتَّى بسببه من كوارث، على ضوء ما واجهه المسيح من آلامٍ وصَلْبٍ وموتٍ. فكما حَمَل المسيح خطايا العالم في جسده، وتحمَّل آلام الإنسان عامةً واحتملها في نفسه، بل كما وهو في أَوْج محنة الآلام والصَّلْب، فقد طلب من الآب السماوي أن يغفر خطايا أعدائه وصالبيه ليرفع غضب الله عنهم. ب - هكذا أصبح منهجنا المسيحي يُحتِّم علينا أن نَعتَبِر أنَّ الآلام والأوجاع التي يُعانيها المسيحيون الأتقياء، هي على مستوى الفديـة، يَفْدون ب‍ها بـلادهم؛ وإذ يتحمَّلون‍ها بشُكرٍ، يرفعون ب‍ها غضب الله عن مُضطهدي‍هم.إذن، فالمنهج المسيحي مؤسَّسٌ على حقيقتين: الأولى: حتمية احتمال الألم. الثانية: حتمية الصَّفْح عن ال‍مُسيئين، ليس هذا فحسب؛ بل والإحسان إليهم، وطلب رَفْع غضب الله عنهم. ألَم يَقُل المسيح: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (مت 5: 13)! فالملح يذوب ليُعطي مذاقاً لحياةٍ الآخرين والعالم. ألَم يَقُل أيضاً: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ» (مت 5: 14)! والنور يحترق ليُضيء على الآخرين وفي العالم. + «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44). صـلاة: + ”«يَـا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ» (لو 23: 34). لا تجعل صليـبي وحياتي سبباً لدينـونتهم، أبداً يا رب. أنا مصلوبٌ من أجلهم. اغفر لهم“. هذا هـو الشقُّ الثاني الذي يحكمنا كمسيحيين في هـذا البلد. إنَّ الذين يتألَّمون من كلِّ اضطهادٍ وضيـق، حتى إلى سَفْك الـدم؛ إنمـا يحملون، لا ذنبهم، ولكـن ذنـب الذيـن يضطهدون‍هم، ويطلبون مـن الله لهم الغفـران والرحمـة، حتى لا يغضب الله عليهم. نحـن فدائيون، نفدي الذين يضطهدوننا، ونفدي مدينتنا وبلادنا، لئلا يشملها العقاب! ما أصعب الصليب! ما أمَرَّ الصليب! ولكن، مـا أعظم الصليب! إذ ليس في كـلِّ مـا يُعْرَض على الإنسان مـن كرامـةٍ ومجدٍ ما يُساوي حَمْل الصليب؛ لا على الصدور، بل على الأكتاف حتى السقوط تحته!! ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل