المقالات

06 يوليو 2021

آباؤنا الرسل شهود وشهداء

دُعِي آباؤنا الرسل الأطهار شهداءً من عدّة جهات، فقد شاهدوا السيد المسيح، نظروه وسمعوه ولمسوه، وأكلوا وشربوا معه «الّذي كانَ مِنَ البَدءِ، الّذي سمِعناهُ، الّذي رأيناهُ بعُيونِنا، الّذي شاهَدناهُ، ولَمَسَتهُ أيدينا، مِنْ جِهَةِ كلِمَةِ الحياةِ» (يوحَنا الأولَى 1:1).. إذًا فقد عايشوه وتتلمذوا على يديه.ودُعُوا شهداء أيضًا لأنهم شهدوا له، حين كرزوا باسمه «لكنكُمْ ستَنالونَ قوَّةً مَتَى حَلَّ الرّوحُ القُدُسُ علَيكُمْ، وتَكونونَ لي شُهودًا في أورُشَليمَ وفي كُلِّ اليَهوديَّةِ والسّامِرَةِ وإلَى أقصَى الأرضِ» (أعمالُ الرُّسُلِ 1: 8).. وقد أطاع الرسل: «وبقوَّةٍ عظيمَةٍ كانَ الرُّسُلُ يؤَدّونَ الشَّهادَةَ بقيامَةِ الرَّبِّ يَسوعَ، ونِعمَةٌ عظيمَةٌ كانتْ علَى جميعِهِمْ» (أعمالُ الرُّسُلِ 4: 33).ثم دُعُوا شهداء لأنهم شاهدوه أثناء محاكماتهم وتعذيبهم: «فقالَ (استفانوس): ها أنا أنظُرُ السماواتِ مَفتوحَةً، وابنَ الإنسانِ قائمًا عن يَمينِ اللهِ» (أعمالُ الرُّسُلِ 7: 56).. وهكذا أكثر الرسل شاهدوه على هذا النحو، ممّا سهل عليهم الاستخفاف بالموت واحتمال الآلام.وأخيرًا شهدوا له بدمائهم، حين قبلوا أن يموتوا لأجل اسمه، وصارت دماؤهم من ثَمّ بذار الإيمان. وكان المؤمنون في احتياج شديد إلى برهنة الرسل على محبتهم للمسيح بموتهم عنه بفرح، ومن هنا فقد كان، وما يزال، الاستشهاد أقوى وسيلة للكرازة بالمسيح في كل عصر. نشعر بفخر شديد تجاه آبائنا الرسل القديسين والذين نشروا الإيمان المسيحي في العالم وسفكوا دماءهم شهادة للمسيح. نيافه الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها
المزيد
05 يوليو 2021

الجهاد الروحي

يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي:- أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة:- فالتوبة هي:- التحرر من عبودية الخطية والشيطان. ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله. يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة. تغيير شامل لحياة الإنسان. ثانيًا السعي نحو نقاوة القلب والفكر:- التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26).مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16) ثالثًا احترزوا (مت6: 1-18):- (1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ:- الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء العطاء الخفي. الأضرار العطاء الظاهر أخذنا أجرة من الناس "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4) التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء كيف لماذا فائدتها حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك. (2) الصلاة في الخفاء:- "ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8) الصلاة في الخفاء غلق باب الحواس الاهتمام بالصلاة المستمرة وخاصة صلاة القلب عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين. (3) الصوم في الخفاء:- "ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق). رابعًا لا تكنزوا (مت6: 19-21):- عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز) وهذا هو التحذير الثاني الجهاد ضد القنية وحب المال"مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10)، و"لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24) أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟ المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها التحذير من المال يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود). خامسًا سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ:- نقاوة الحواس العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر"فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23)العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه(عفيف، شهواني، ماكر، غضوب) حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...) فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ "لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33) لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
04 يوليو 2021

الخادم والاحترام والوقار

رغم كل ما رأينا في معاملة ربنا يسوع المسيح مع تلاميذه الأطهار من بساطة وتقارب، إلّا انه كان يحفظ له مكانة وكرامة فائقة في قلوبهم وعقولهم.. وكذلك مع كل من تعامل معهم، رغم اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وثقافاتهم، ووجدناه ينال أقصى درجات الاحترام والتقدير، حتى الكتبة والفريسيون كانوا يخاطبونه "يا معلم" أو "يا سيد"...وهكذا نتعلم من مثلنا الأعلى في الخدمة، ربنا يسوع، كيف أن حب المخدومين ومشاركتهم حياتهم والاقتراب منهم لا يلغي الاحترام اللائق في المعاملات... ومن المعروف أن الاحترام لا يُطلَب لأنه لو طُلِب فقد معناه... بل ينبع من الداخل. وهنا نودّ أن نركز على ضرورة التأكيد على احترام وتوقير الخادم، لأنه قد يتباسط ويتساهل إلى الدرجة التي يتخيل أنه قد اقترب إلى درجة كبيرة من المخدومين، ولكنه بذلك دون أن يدري يبني حاجزًا كبيرًا بينه وبين المخدومين، رغم أنه يعتقد أنه قد أزال الحواجز... يوجد خط فاصل بين أن يتباسط الخادم مع المخدومين، وأن يفقد هيبته واحترامه بينهم، لأنه حينئذ يكون قد فقد تأثيره ومصداقيته... ولنحذر أن نفقد هدف الخدمة، وتتحول العلاقة إلى مجرد شلّة اجتماعية لذيذة ومرغوبة، إذ تشجع على اللهو والمرح والأكل والفسح... وقد يحدث هذا ويُسكّن الخادم ضميره ويقنع نفسه أنه يخدم!تعرض ربنا يسوع المسيح لألوان من السخرية والازدراء، ولكن لو دقّقنا في دوافعها لوجدناها تحمل تعجبًا من شخصيته الفريدة، وتخفي احترامًا زائدًا كما ذكر معلمنا متى البشير: «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا:«مِنْ أَيْنَ لِهذَاهذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟» (مت١٣: ٥٤)؟وجدوه فائقًا لإدراكهم وتحيّروا في شخصه..وفي (مت9: 8) «فلما رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هذَا».+ كذلك ركّز معلمنا بولس الرسول في معاملاته بالخدمة على القدوة الحسنة والاعتناء بأمور حسنة قدام جميع الناس (رو12: 13)، «بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات» (2كو6: 4)، «لسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة» (2كو6: 3).وهذه نصيحة معلمنا بولس الرسول لنا، أن تكون خدمتنا في كل تقوى ووقار (1تي2).أحبائي.. علاقة الخادم والمخدوم إذا فقدت الوقار والاحترام، ستفقد معها أمورًا كثيرة مثل: التزام الحضور، وطريقة الحديث، والطاعة، وحسن الاستماع، والتجاوب مع ما يُقدّم، والتفاعل والاشتراك الإيجابي. ومع إدراكنا أن رسالتنا عظيمة وهي: ربح نفوس للملكوت، واجتذاب البعض من قبضة العدو، وانتشال البعض من محبة العالم والأشياء التي في العالم. يجب أن يكون الخادم صادقًا فيما يُقدَّم، وتسبقه سيرته وأعماله قبل أقواله، ومُصدَّقة عليها. ولا ننسى أننا نتعامل مع جيل فقد الكثير من الاحترام للرموز، وتشوّهت أمامه الكثير من المعاني، إلّا أننا نثق أن الله هو العامل فينا، وهو الذي يكمّل النقائص ويسند الضعف، لذلك علينا أن ندقّق ونراجع أنفسنا: هل نحن نخدم في وقار خدام المسيح؟ القس أنطونيوس فهمى - كنيسة القديسين مارجرجس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
03 يوليو 2021

بناتنا على مثال أعمدة في الكنيسة

ربِّي ابنة مقدسة وسط عالم غير مقدَّس "لتكن بناتنا جميلات مزيَّنات على مثال أعمدة الهيكل." (مز 143: 12و13 - الترجمة السبعينية) "ولا تكن زينتكن خارجية من ضفر الشعر، والتحلِّي بالذهب، ولبس الثياب؛ بل بما في باطن القلب، من زينة نفس وديعة مطمئنة لا تفسد، وثمنها عند الله عظيم." (1بط 3: 3و4 - الترجمة الجديدة)إن الوسط الذي تواجهه ابنتكِ هو وسط مُناقِض للقيم الروحية الإلهية. وكم من البنات يتغذَّيْن على هذا الوسط بمنتهى البساطة والسذاجة، فيفقدن فضائلهن على المدى القريب والبعيد. ولكنكِ كأُم (أو كخادمة الفتيات والشابات في الكنيسة) يمكنكِ أن تساعدي ابنتكِ لتُقاوِم الوسط بما يحمله من ثقافة الأنانية والخطية والعشوائية في الحياة، لكي تحيا الحياة المقدسة التي يشاء الله لها أن تعيشها، فتكون ابنتكِ عموداً في الكنيسة وشجرة مثمرة لله وللأسرة والمجتمع كله، يفرح بها الجميع، ويُمجِّدون الله بسببها.وهذه بعض الإرشادات التي بها يمكن أن تربِّي ابنتكِ وتنشئيها لتكون قديسة وسط عالم غير مُقدَّس: 1. معركة التربية تستدعي منكِ اليقظة والتأهُّب:- إن التربية الروحية هي معركة وليست نزهة. فأولاً لا تستسلمي للواقع، وتتركي ابنتكِ تتغذَّى على الثقافة الخاطئة المدمِّرة السائدة وسط عامة الناس والمسيطرة على حياتهم وأفكارهم. اعزمي على أن تستثمري أكثر جهد ووقت ممكنَيْن لتُدرِّبي ابنتكِ على مقاومة هذه الحياة الخاطئة، وذلك أولاً بتقديم الحقائق الإلهية التي أعلنها لنا الله في شخص ربنا يسوع المسيح. 2. استثمري ما وضعه الله فيكِ من طاقة الأمومة:- اعرفي ما فيكِ من طاقة قوية كأُم يمكنكِ بها أن تؤثـِّري في ابنتكِ. قدِّمي لها أولاً نمط حياة الإيمان العامل بالمحبة، وناقشي معها بانتظام أساسيات الحياة المقدسة كما وردت في الكتاب المقدس وحياة القديسة العذراء مريم وسِيَر القديسات والشهيدات (نفترض طبعاً أنكِ قارئة ودارسة للكتاب المقدس ومتشبعة بحياة النعمة التي كانت في نساء الكتاب المقدس وقديسات الكنيسة). وتشبَّهي بأُم القديس تيموثاوس وجدَّته كما ذكر وذكَّر القديس بولس تلميذه تيموثاوس فضائلهما: "إذ أتذكَّر الإيمان العديم الرياء ... الذي سكن أولاً في جدَّتك لوئيس وأُمك أفنيكي." (2تي 1: 5) 3. ربِّي ابنتكِ على حياة الشركة داخل البيت أولاً:- من العيوب المدمِّرة في مجتمعنا عموماً شيوع الروح الفردية والأنانية. فالأُم تريد أن تُعطي ابنتها كل ما تطلبه مهما كانت ظروف الأهل الاقتصادية، ومهما كان ما تطلبه الابنة غير ضروري ولا غير موافق لتربيتها. وقد تحتج الأُم بأن ذلك يُعبِّر عن محبتها لابنتها إذا لبَّت كل طلباتها خوفاً من شماتة أو استهزاء زميلاتها أو جيرانها إلى آخر هذه الأسباب التي لا علاقة لها بحياة التقوى وعيشة الكفاف وسيرة القداسة التي يجب أن نربِّي أولادنا وبناتنا عليها. هذه روح فردية أنانية تطلب ما لنفسها، وحتى الأُم قد تفتخر بابنتها أمام الآخرين فيما تلبسه أو تقتنيه أو تتزيَّن به.لابد أن تربِّي ابنتكِ على حياة الشركة حتى تحس معكِ بظروف الأسرة الاقتصادية. ولكن حتى إن كانت الظروف مواتية ومُيسَّرة، فحذار من الإغداق وتلبية كل طلبات الابنة إن كانت غير لازمة، أو إذا كان فيها ضرر محتمل لحياتها وسلامة تربيتها. وليكن ذلك بتفاهم واقتناع متبادَل بينك وبين ابنتكِ، وليس قسراً وفرضاً. إن تربية ابنتكِ على حياة الشركة ستثمر في حياتها هي أيضاً بعد أن تصير زوجةً وأُماً. 4. التحقُّق من التأثيرات الخارجية:- تحقَّقي من التأثيرات الخارجية على ابنتكِ. اعرفي صديقات وأصدقاء ابنتكِ: مَن هم، وأية قِيَم ومبادئ وأنماط حياة يعتنقونها. ساعدي ابنتك على التخلُّص من التأثيرات السلبية التي تتعرَّض لها، ثم على بناء مجموعة من خيرة الصديقات والأصدقاء. واعلمي أن الصداقات غير المتوافقة مع حياة الكفاف والعفاف والقداسة كفيلة - بعد حين - أن تُحوِّل حياتكِ وحياة ابنتكِ إلى جحيم ربما لن يمكنكِ النجاة منه.وفي مجال المؤثـِّرات الخارجية: ذلك الصديق العدو الذي يقبع داخل البيت - أعني التليفزيون ومثيله الكمبيوتر - فاجعلي لهذين الجهازين حدوداً لأنواع المشاهدات من برامج وأفلام وعروض وموسيقى تسمحين لها بمشاهدتها. ونفس الأمر يسري على المجلات والكتب ومواقع الإنترنت التي تقع في متناول ابنتكِ. وتناقشي مع ابنتكِ فيما تشاهده وتقرأه من وسائل الإعلام والمعلومات المختلفة، سواء من جهة محتوياتها أو المبادئ التي تُروِّج لها، وتكلَّمي معها بمحبة وتفاهُم عن مدى توافقها مع أساسيات وأخلاقيات إيمانها وسلوكها وحياتها المسيحية. اجعلي ابنتكِ صريحة معكِ دون أن تخشى مصارحتكِ بكل هذا دون خوف منكِ. 5. الشجاعة في مواجهة الانجراف والانسياق:- ساعدي ابنتكِ على أن تكون شُجاعة في مواجهة الانجراف والانسياق وراء التطبُّع مع أخلاقيات الوسط الذي تعيش فيه دون تروٍّ، بل بانتقاءٍ واختيارٍ مبنيَّيْن على الإيمان والحياة المسيحيَّيْن. علِّمي ابنتكِ كيف تكون في العالم، ولكن دون أن تكون من العالم، كما أوصى المسيح تلاميذه (يو 15: 19). علِّميها كيف تتغيَّر دائماً بتجديد ذهنها لتعرف أكثر فأكثر ما هي مشيئة الله الصالحة (رو 12: 2). علِّميها واشرحي لها لماذا وضع الله الأساسيات الأخلاقية للتمييز بين الخير والشر حتى تُميِّز أفكار العالم الفاسدة التي تعتبر الخطية والرذائل مجرد أنماط للسلوك الفردي الحر والسائدة الآن في أوساط الشباب (وهو ما يُعبَّر عنه بالنظرة النسبية للسلوك relativism). وهنا لابد من أن تكون حياتكِ أنتِ وسلوككِ أنتِ صورة دقيقة مُطابقة لكلمة الله ووصايا الإنجيل وفضائل القديسات والقديسين. وإذا حدث أن كان لكِ تصرُّف أو سلوك غير مُطابق لإيمانك، فلا تخجلي أو تتأخَّري في التراجُع عنه أمام ابنتكِ مع الاعتذار عنه باعتباره سلوكاً خاطئاً لا تريدين أن ابنتكِ تقتدي به. واطلبي من الله أن يُساعدك لتعيشي وتسلكي أنتِ أيضاً بحسب إنجيل المسيح: "فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح." (في 1: 27) 6. لتعلَم ابنتكِ قيمة نفسها وكفاءتها في المسيح:- علِّمي ابنتكِ كيف تُحدِّد القيمة الحقيقية لنفسها. اشرحي لها أن مقاييس العالم لتحديد قيمة النفس لا تصلح للمؤمن المسيحي. إن قيمة نفس ابنتكِ - وليتها تؤمن بذلك - هي مستمدة من النعمة الفائقة للطبيعة التي أغدقها المسيح على الإنسان بتجسُّده وأَخْذه طبيعتنا البشرية لنفسه، ثم بإنعامه على الإنسان بالتبنِّي لأبيه الصالح، وإلباسه الفضائل الإلهية، وباتخاذ المسيح للبشر إخوة له، وباقترانه بالنفس البشرية لتكون عروساً له. هذا المجد العظيم والنعمة الجزيلة نالها الإنسان عن فضلٍ من الله ونعمة مجانية منه.فإذا عرفتْ ابنتكِ هذا، وأن الروح القدس الذي نالته وسكن فيها يوم معموديتها ومَسْحها بالمسحة المقدسة، وتتأجَّج ناره المقدسة في كل مرة تتناول فيها من جسد الرب ودمه الأقدسين؛ فإنها لا شكَّ سوف تحرص على هذه النعمة وتحفظها من أي دنس خارجي، وسوف تتحقَّق أن هذا الجمال الإلهي الذي أنعم به الله عليها هو مُخَبَّأ داخل نفسها ويُستعلَن جهاراً في حياتها وسلوكها ووجهها وحركاتها وسكناتها. لذلك لابد أن تعرف أن جمالها وقيمتها الحقيقيَّيْن لا ينبعان من مظاهر خارجية مصطنعة يضعها الناس على أجسامهم (لأن الله ينظر إلى القلب الداخلي أكثر من المظهر الخارجي)، وقيمتها تنطق لا من خلال ما تفعله (لأن الله يهتم لا بما تعمله، بل بما هي عليه بسبب نعمته التي أعطاها للإنسان في المسيح)، ولا بما يقوله الناس عنها أو يفكِّرون فيه بشأنها (لأن ما يهمها ويهم الله هو ما يقوله الله ويراه ويُفكِّر فيه عنها، وما يشهد به ضميرها المسيحي). أخبري ابنتكِ، بأن مقاييس الله هي الصحيحة والصائبة دائماً: إن قيمتها تكمن في مقامها ومكانتها التي وضعها الله فيها بواسطة المسيح. 7. بدِّدي الخرافات الشائعة حول الجنس:- بدِّدي وادحضي الخرافات الشائعة عن الأمور الجنسية عن طريق تعريفها بالحقائق. واعلمي أنتِ، أنكِ يجب أن تكوني المصدر الرئيسي للمعرفة الجنسية لابنتكِ. واجتهدي أن تُزوِّديها بأصدق كمٍّ من المعلومات الدقيقة حول هذا الموضوع. بدِّدي من ذهنها الأكاذيب حول الاستهتار بأية علاقة غير شرعية قبل الزواج تحت أية دعاوى كاذبة بأن "الجميع يفعلونها"، أو "ما المانع من فعلها مع مَن أُحبه وسأتزوَّجه"، وغير ذلك مما بدأ يشيع في أوساط الشباب. وحتى إذا امتنعت الفضيحة بالوسائل الطبية، فلن يمتنع الضرر النفسي والأذى الجسدي، والذي قد يُبعد الشباب الطاهر عنها. اكشفي لها عن سموِّ حياة الطهارة والعفة وضرورتها لسلامة حياتها الزوجية والعائلية في المستقبل؛ وأن جسدها الساكن فيه روح الله ليس مُباحاً مُستباحاً، فهو وديعة من الله لها ولِمَن سيكون زوجها في المستقبل الذي قد يُحجم عن الاقتران بها بسبب أية إشاعات عن عدم طهارتها.وعلِّمي ابنتكِ أن العفة والطهارة ليستا قاصرتَيْن على الفعل الجنسي؛ بل على كل الملامسات الجنسية الأخرى. اجعليها تُقدِّم نذراً شخصياً لله أن تحفظ عفتها لسرِّ الزيجة، وأن تكون صديقاتها وأصدقاؤها لهم نفس النذر. وعلِّميها أن الله وضع الغريزة في أجسادنا كشيء حسن وجميل من أجل حياة الشركة التي ستعيشها مع زوجها وأطفالهما. أما إذا أُسيء استعمال هذه الغريزة أو استُعملت في غير موضعها ووقتها، فسوف يكون لها نتائج جسدية وعاطفية وروحية مُدمِّرة على حياتها فيما بعد. 8 . الحشمة في اللبس والتزيُّن يحمل تمجيداً لله:- شجِّعي ابنتكِ على اللبس المحتشم. اشرحي لابنتكِ لماذا يكون لباس الحشمة وسيلة هامة في تمجيد الله عـن طريق الجسد الذي وهبه الله لكِ وشرَّفكِ وقدَّسكِ بحلول روحه القدوس فيكِ. بينما يكون اللباس المتبرِّج والزينة المصطنعة الصارخة بمثابة إهانة لله من خلال كشف هذا الجسد، لأن هذا اللبس غير المحتشم يكون بمثابة رسالة صامتة ودعوة خفية للشهوانيين لكي يُفكِّروا بالشهوة تجاهها. ولتعلم ابنتكِ أن اختيار الملابس المحتشمة هو أحد الأركان الهامة لاحترامها كشخصٍ مخلوق على صورة الله في الجمال والقداسة الحقيقيَّيْن. صلِّي لله كثيراً أن يُعطي لابنتكِ الثقة في النفس التي تحتاجها لتتفادى محاولة جذب الانتباه بالطريقة الخاطئة، أي باللبس غير المحتشم لعرض جسدها وكسب استحسان الآخرين. 9. بدِّدي الأحلام الزائفة عن الزواج:- ساعدي ابنتكِ لكي تميِّز بين الحقائق والخيال حول الحياة الزوجية. ساعديها لكي تحذر من الوقوع في أكاذيب الحياة اليومية الشائعة بأن العثور على عريس أحلامها سوف يوفِّر لها الحياة السعيدة إلى الأبد. وأفهِميها أنها إذا انتظرتْ عريساً غير مستحق، ولكن سيُحقِّق لها أحلامها؛ فسيكون ذلك فيما بعد وبالاً عليها. أخبريها أن محبة المسيح هي وحدها - إذا ملأت قلبيهما - سوف تشيع السعادة الحقيقية في بيتهما. شجِّعيها أن تطلب احتياجاتها الأساسية من خلال شركتها الشخصية مع المسيح، وليس بأن تطلبها من خلال العلاقات الرومانسية الزائفة. اجعليها أن تعرف بأنه من غير المعقول ولا المناسب أن تضع عبء سعادتها الشخصية على عاتق شخص آخر (عريسها المنتظر). علِّميها أن تتحقَّق من أن الزيجات الصحيحة تقوم على الحقائق وتستلزم الوقت الكافي والجهد الشاق من كِلاَ العروسين بهدف التزامهما معاً بحياة الشركة بحلوها ومرِّها. 10. الحذر من المقابلات والتنزُّه والرحلات غير المتوافقة:- يجب أن تُرتِّبي أنتِ خطة للتلاقي بين ابنتكِ وصديقاتها وأصدقائها. وليكن تنفيذ هذه اللقاءات والمقابلات في الوقت الذي تصل فيه ابنتكِ إلى السن الملائم للقيام بمثل هذه اللقاءات. لا توافقي على اللقاءات لمجرد المرح أو لمجرد التنزُّه. وعلِّميها أن مثل هذه اللقاءات ليست بالأمر السهل العابر، بل إن حدوثها عشوائياً وبغير ترتيب يؤدِّي إلى مضاعفات لا يمكن إيقافها. اجعليها تتفادى أي لقاء يقوم على المشاعر والعواطف وليس على سبب جدِّي مسموح به. وفِّري على ابنتكِ الكثير من المشاكل والصداع الذي يترتَّب على اللقاء والصداقات مع غير المؤمنين حقاً بالمسيح (حتى ولو كانوا مسيحيين بالاسم، وهنا نُحذِّر من شيوع الاختلاط غير المقنَّن وغير الموجَّه داخل اجتماعات الشباب في الكنائس، وكذلك الرحلات والأنشطة المختلطة لمجرد أن أعضاءها مسيحيون بالاسم). 11. المحبة والرحمة مقابل سوء المعاملة:- ساعدي ابنتكِ على أن تتصرف مسيحياً داخل شلة صديقاتها وأصدقائها. فتستخدم المحبة والرحمة في مواجهة المعاملة غير الكريمة. ساعديها على أن تتأكَّد من أن شلَّة صديقاتها وأصدقائها ليست منغلقة على نفسها (أي تستبعد الآخرين وتتصرَّف بتعالٍ مع أي شخص ليس منها). فإذا حدث أن فتاة أخرى أساءت إليها، علِّميها أن تصلِّي من أجل هذه الفتاة، طاعةً لوصية المسيح: "صلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم..." (مت 5: 44) حتى تتشجَّع ابنتكِ وتؤدِّي لهذه الفتاة أي عمل خير، عالمة بأنها بتقديمها المحبة والرحمة قد تغيِّر قلب هذه الفتاة. شجِّعي ابنتكِ أيضاً على عدم الاشتراك في ترويج الإشاعات حول الآخرين حتى ولو كان الكل يفعلون ذلك. ساعديها أن تتفادى الغيرة والحسد من البنات الأُخريات، واثقة أنها تقتني مركزاً خاصاً لدى الله، وكذلك كل واحدة من البنات الأُخريات. علِّميها أن تتفادى هاتين الرذيلتين: الحسد والغيرة، قبل أن تتطوَّرا إلى ما هو أسوأ. 12. علِّمي ابنتكِ وسلِّميها المحبة والثقة في الإنجيل:- ساعدي ابنتكِ منذ نعومة أظفارها على أن تعرف الإنجيل وتحبه وتثق فيه باعتباره إعلان الله عن محبة الله الأبدية لنا. اشرحي لابنتكِ عملياً كيف أن الإنجيل ليس مجرد كتاب كسائر الكتب الممتلئة بالقصص الجميلة والمبادئ السامية؛ بل هو إعلان الله للبشر، وطريق الله للخلاص، والبشارة بتدبير الله لتجسُّد ابنه يسوع المسيح. وعلِّميها كيف أن حقائق الإنجيل يمكن الاعتماد عليها في حياتها اليومية، وهي مدعَّمة باختبارات رجال الله القديسين ونساء الله القدِّيسات مما نسمع عنهم وعنهن في الكنيسة من خلال قراءات السنكسار.واذكري لها بين الحين والآخر كيف أن حقائق الإنجيل متوافقة مع خير حياتها اليومية، وعلِّميها كيف تطبِّق الإنجيل في سائر نواحي حياتها اليومية. واشتري لها إنجيلاً ليكون خاصاً بها، وعلِّميها كيف تقرأ فيه بانتظام كغذاء يومي، وكيف تتأمل في كلماته وآياته لمنفعة نفسها، وكيف تحوِّل قراءاتها فيه إلى صلاة وعبادة وخشوع. إن الاختبار الشخصي لكلمة الله يعطي النفس ثباتاً في الإيمان والعفة والطهارة أكثر من مئات العظات. 13. علِّمي ابنتكِ الصلاة:- ساعدي ابنتكِ لكي تتعلَّم كيف تصلِّي. شجِّعيها على أن تدخل غرفتها لتصلِّي، ولكي تنصت إلى صوت الله وليس فقط مجرد الصلاة لله. اشرحي لها أنواع الصلاة المختلفة (التسبيح، الاعتراف لله ببركاته ونِعَمه، وكذلك الاعتراف بالخطايا، وطلب السماح والمغفرة من الله، سؤال الله من أجل طلب شخصي خاص أو من أجل طلبات متنوعة). ويمكنكِ الاستعانة بكتاب: "حياة الصلاة الأرثوذكسية" وتبسيط الفصول الأولى منه وشرحها لابنتكِ. وشجِّعيها على أن تمارِس كل هذه الأنواع من الصلاة بانتظام، ودرِّبيها لكي تختبر الاستماع إلى صوت الله في حياتها من خلال الصلاة والتأمُّل. 14. شجِّعي واصطحبي ابنتكِ إلى الكنيسة:- شجِّعي وعلِّمي ابنتكِ الحرص على حفظ يوم الرب (الأحد) والمواظبة على حضور القدَّاس الإلهي والاستعداد للتناول من الأسرار المقدسة. وليتكِ تشتري لابنتكِ كتابَي الخولاجي المقدس والأجبية المقدسة، لكي تتابع ابنتكِ القداس الإلهي وتشارِك في مردَّاته. وحذِّريها من الخروج من الكنيسة والانشغال عن حضور القداس الإلهي لأي عذر أو حجة (ما أصبح ظاهرة مؤسفة في بعض الكنائس). وفي المناسبات المختلفة، اصطحبيها لتتتبَّع أحداث حياة المسيح من خلال ليتورجية الكنيسة (أسبوع الآلام، تسابيح كيهك، صلوات القداس الإلهي أيام وليالي الأعياد السيِّدية: الميلاد - الغطاس - القيامة - العنصرة... إلخ). إن الارتباط بالكنيسة من خلال أسرارها المقدسة وليتورجياتها ومناسباتها الكنسية هو خير حافظ لإيمان المسيح داخل قلب ابنتكِ. 15. احذري المساومة على إيمانكِ ومُثُلكِ وقيَمكِ المسيحية:- أخيراً، لا تساومي على إيمانك الشخصي بالمسيح وبقيَمكِ ومُثُلكِ المسيحية، وبالتالي فلن تساومي على إيمان ابنتكِ. ابتعدي عن كل هذه السلوكيات والاتجاهات: عدم الانتظام في حضور الكنيسة، الاقتصار في عبادتكِ على حضور القداس الإلهي والإهمال في ممارسة الحياة المسيحية باقي أيام الأسبوع، القلق والهمّ والفشل في الثقة في عناية الله في أيام الضيق، الفشل في اتِّباع الوصايا الإلهية والمُثُل المسيحية في استخدام المال، التذمُّر على الآلام والضيقات وليس الشكر على بركات الله في كل حال، الخجل من مشاركة إيمانكِ مع الآخرين (وعلى الأخص أثناء الزيارات العائلية ولقاءات المعارف، والانشغال بالأحاديث العالمية ومَسْك سيرة الآخرين بدلاً من التفاوض في كلام الله)، محاولة تطويع إيمانكِ حسب متطلبات الحياة، وليس تطويع حياتك حسب متطلبات الإيمان، ترك ماضيك يحكم حاضرك ومستقبلك بدلاً من الثقة في الله ليشفي ضعفات ماضيك وقصور حاضرك، ولكي يقودك إلى المستقبل السعيد، التحجُّر والافتخار بما لا يفيد بدلاً من التمسُّك بالسلام والهدوء وبساطة الحياة.
المزيد
02 يوليو 2021

أمور تبدو صغيرة ذات مدلولات كبيرة ج2

اجتاحَت ضيقة شديدة حياةَ أحد الأحباء.. كانت نفسيّته وكأنّه أحاطتْ بها ظُلمة شديدة أو كأنّه انحبَس في فخٍّ ولا خروج، فكانت نفسُهُ مُرَّةً فيه. فلجأ إلى الصلاة بلجاجة ودموع، وطلب بصراخ الليل والنهار. وطالت به الأيام وهو في ذات الحال. وكأنَّ الصلاة تذهَب أدراج الرياح.. وكأنَّ ليس مَن يَسمع. وكانت نفسه تنزوي كلّ يومٍ وكاد يدخل في يأسٍ قاتل.قال لي: «عندي أيقونة للسيد المسيح أحبّها وأحبّ أن أتطلّع إليها. وأصلّي أمامها.. وأعلَم أنّه يَسمع لي. فكنتُ في هذه الأيام التي اكتنفتني فيها هذه الضيقة أخلدُ إلى هذه الأيقونة وأضع رأسي المُتعَب عليها. وجاءني فكرٌ داخلي قلتُهُ للربّ، ولم يكُن يخطر على بالي من قبل، كنت أقول للربّ: احتضنّي.. خُذني في حضنك. وظللت على هذه الحالة قرابة شهر كامل. وفي ليلة الأحد الماضي وأنا أقول للربّ أمام الأيقونة.. احتضنّي. راجعتُ نفسي وقلتُ كيف؟! هل ينزل الرب من السماء ليحتضنّي؟! ما هذا الذي أنا أطلبه من الرب هذه الثلاثين يومًا.. هل هذا معقول؟ ثم صليتُ ونمتُ.. قمتُ باكرًا وحضرتُ إلى الكنيسة. صليتُ القُدّاس، وشعرتُ بعزاء فوق العادة. وتناولتُ من الأسرار.. وكانت كلمات القراءات وكلمات القداس كلّها موجّهة إلى نفسي.. لم أشعر هكذا من قبل. وبعد القداس الإلهي كنت أنا وزوجتي وبعض الأحبّاء واقفين.. فسلّمتُ عليهم وجئتَ أنت إليَّ وفوجئتُ أنّك تأخذني في حضنك.. أنا وحدي دون جميع الواقفين.. ولم تكُن هذه عادتك، وعلى مدى سنوات معرفتي بك لم يحدُث هذا الأمر.احتضنتني بقوّة.. لم أملك نفسي.. ارتميتُ في حضنك وبكيتُ.. وأزال الربُّ الضيق. وقلتُ: أُعظّمك يا رب لأنّك احتضنتني.. وعلمتُ أنّ الله سمع صوت بكائي. واستجابَ طلبتي الغريبة التي كنت أتوسل إليه أن يحتضني. ولم يقف الأمر عند العمل الداخلي للنعمة، أنّ الرب آزَر نفسي وعزَّاني.. بل تجاوزه إلى الفِعل الحِسّي، عندما شعرتُ أنّ الله أرسلك لتتمّم شهوة قلبي. فتَقَوَّى إيماني بالرب، وعلمتُ أنّه يسمع صراخ المساكين».في الحقيقة لستُ أعلم ما الذي دفعني حتّى أفعل هذا.. شعرتُ وأنا أُسلّم على الرجل أنّ دافعًا أقوى مِنِّي يدفعني أن أفعل هذا؛ كأنّ شوقًا ومحبّة قويّة أريد أن أُعبِّر عنها نحوه. مع أنّ الرجل من عامّة الشعب، ولم أكُن أعلَم شيئًا عمّا يجوز فيه مِن ضيقة، أو ما هي ظروفه. فلما وجدتُه يبكي على كتفي بدون مُقدِّمات تعجّبتُ. فلمّا سألته على انفراد، حكى لي ما كان مَخفِيًّا عنّي. فمجدتُ الله الذي يعمل أكثر مِمّا نفهم أو نسأل. «وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا» (أف3: 20). المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
01 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس باروخ

باروخ "وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة. لا تطلب "إر 45: 5 مقدمة لم يكن باروخ الكاتب نبياً أو ملكاً، ولكنه كان - إذ صح التعبير - الساعد الأيمن لإرميا النبى، وسعيد إرميا إذ عثر على هذا المساعد الأمين، الذى عندما قدم نفسه للخدمة، لم يقدمها طمعاً فى مال، فأغلب الظن أنه كان من عائلة غنية شريفة، ولم يقدمها طمعاً فى جاه، إذ قبل على العكس أن يكون ثانياً للنبى، عندما يريد الناس أن يعرفوه، فإن معرفتهم به ستأتى خلال معرفتهم للنبى العظيم، وإذا تحدثت قصته إلينا بشئ فإنها تؤكد أن خدمة اللّه ليست قاصرة على أصحاب الخمس الوزنات، بل هى فى حاجة إلى أصحاب الوزنتين أيضاً، وأن أعظم حركات التاريخ لم تتم بدون هؤلاء المساعدين الذين يقفون إلى جوار العظماء والأبطال، كما وقف يشوع إلى جوار موسى، وكما وقف أليشع إلى جوار إيليا، وكما وقف تيموثاوس إلى جوار بولس، إنهم قد يكونون من الرعيل الثانى فى الخدمة عندما يسقط الرداء عن الرعيل الأول، ومهما يكن الدور الذى يلعبونه، فقد يكون دور الغلام الصغير المساعد، الذى كان لابد أن يقوم به، عندما قدم الخمسة أرغفة من الشعير والسمكتين، فصنع بها المسيح معجزة إطعام الخمسة اللاف رجل ما عدا النساء والأولاد.وعلى هذا الأساس يمكن متابعة قصة باروخ فيما يلى: باروخ: من هو كان باروخ بن نيريا، ونحن لا نعلم من هو نيريا هذا على وجه التحديد لكن العائلة - على الأغلب - كانت من العائلات الشريفة الارستقراطية، إذ أن سرايا أخا باروخ (إر 15: 95) كان من الرؤساء الذين رافقوا الملك صدقيا إلى بابل، وأو بعبارة أخرى، كانت هذه العائلة من العائلات التى انتظم واحد من أبنائها فى السلك السياسى، وآخر فى السلك الدينى،.. واحد كان صديق الملك وفى معيته، وآخر كان صديق النبى وفى صحبته، ويبدو أن العلاقة بين سرايا وإرميا كانت طيبة، وفى الغالب كان سرايا من الرجال الطيبين، الذين مس اللّه قلبهم، حتى أن إرميا كلف برسالة خاصة يحملها إلى بابل، تحدث عن عمق إيمان النبى بمصير المدينة العظيمة التى أذلت بلاده، وحطمتها تحطيماً: " الأمر الذى أوصى به إرميا النبى سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل فى السنة الرابعة لملكه، وكان سرايا رئيس المحلة فكتب إرميا كل الشر الآتى على بابل فى سفر واحد كل هذا الكلام المكتوب على بابل. وقال إرميا لسرايا إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام، فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الوضع لتفرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خرباً أبدية. ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجراً وتطرحه إلى وسط الفرات، وتقول: هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون " " إر 51: 59 - 64 ".. ومهما تختلف الظروف الاجتماعية بين أخوين، ومهما يكن خط كل واحد منهما، فيكون الواحد فى القصر الملكى، ويكون الآخر فى الكوخ الصغير، فإنه لا يجوز لأحدهما أن يتعالى على الآخر، وعلى كل منهما أن يتمم رسالته، ويؤديها مهما يكن حظه أو وضعه فى الحياة!!.. ومهما يكن من وضع باروخ، فمما لا شك فيه، أن الرجل كان آية فى الوداعة والتواضع ونكران الذات، وذلك لأنه جاء دائماً ثانياً بعد إرميا وفى موضع الظل منه،.. فهو لم يضع حساباً لأصله وفصله كما تعود الناس أن يأخذوا هذا فى الاعتبار والحسبان. وهو لا يمانع فى خدمة إرميا وحمل حذائنه، والمسير معه، والمبيت على الطوى، دون أن يرى فى هذا أية مهانة أو تحقير لحياته ومركزه،.. ومع ذلك فقد كان الرجل شجاعاً، ولعله كان من أشجع الناس فى جيله، لقد كان عليه أن يحمل رسالة إرميا الثقيلة ضد الملك ورؤساء البلاد بل وضد الشعب نفسه، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من بلغوا أعلى درجات الجسارة والبطولة،.. من السهل جداً أن يصفق الناس لمن يرضى عليه الرئيس أو لملك، أو من يتمشى مع لغة الجماهير والشعوب ويتملقها،... ولكن أصعب الصور أن يسبح الإنسان ضد التيار مهما كان عاتياً وقوياً،.. وكان باروخ بهذا المعنى فى مواجهة التيار بل كان باروخ، أكثر من هذا، من أخلص الناس وأوفاهم، لقد ظل فى صحبة النبى وخدمته عشرين عاماً على الأقل، وقد صاحبه، لا فى مختلف الظروف فحسب، بل فى جولاته وتنقلاته، وقد ذهب معه إلى مصر، وهكذا كان الرفيق الوفى الأمين لنبى الأحزان،... وإذا كان الناس قد درجوا فى العادة على الفخر بالوفاء والإخلاص لمن ضحكت لهم الحياة وابتسمت الدنيا، فإن الوفاء الأصدق والأعمق يبدو فى الحقيقة عندما تأتى المحن والآلام،... كان فخر لوقا أن بولس وصفه بالقول: " لوقا وحده معى "،.. " 2 تى 4: 11 " فى الوقت الذى قال فيه: عن الآخرين فى احتجاجى الأول لم يحضر أحد معى بل الجميع تركونى لا يحسب عليهم "!!.. " 2 تى 4: 16 " وهكذا جاء باروخ ليعطى صورة للوفاء والولاء، عندما عز هذا أو ذهب من بين الناس!!.. باروخ والرسالة التى كلف بها لعل من أهم الحوادث فى حياة الرجل، الرسالة التى أوصاه إرميا النبى أن يكتبها، ويقرأها فى بيت اللّه، فى الهيكل، ويبدو أن عداء الرؤساء كان مستحكماً ضد إرميا، إذ منعوه من الدخول إلى البيت المفدى، بل كان محرماً عليه أن يدنو منه،.. ولما لم يجد سبيلا إلى الاتصال بالشعب، أملى الرسالة إلى باروخ وكلفه أن يقرأها فى آذان الشعب، وإذ قرأها، وكانت تتحدث عن عقاب أورشليم ويهوذا الرهيب نتيجة لخيانتهم الرب، وكان هذا كثيراً على الكهنة، والملك الذى بدلا من أن يتعظ ويتوب كما فعل يوشيا، ارتكب الحماقة الكبرى، إذ حاول القضاء على الكلمة وعلى الرسول الذى أعلنها، وعلى النبى المرسل بها من اللّه،.. كان يهوياقيم عندما قرأوا أمامه بعضاً من الرسالة جالسا فى بيت الشتاء يستدفئ، ولم يطق الملك سماع الرسالة المرسلة، فأخذ مبراة ومزق بها الكلمة، وألقى بها فى النار وظن أنه بذلك استطاع أن يتخلص منها وينتهى" انظر إر 36: 20 -32 "، وهو لا يعلم بأن ما مزقه، لن تحرقه النيران، إذ عاود إرميا وكتبه مرة أخرى بصورة أقسى وأشد، وحمل باروخ مرة أخرى الكلمة التى يحسن أن نقف لنراها، فيمن لا يزالون إلى اليوم يحاولون حرقها، ومع أننا لا نستطيع أن نعدد أنواعهم لكننا على الأقل يمكن أن نرى أشهرهم فى جماعات الملحدين الذين لا يؤمنون باللّه، وعندما تقدم كلمته لهم، لا نسمع منهم سوى كلمات السخرية والهزء، فالكتاب فى نظرهم قصة خرافية قديمة لا يأبهون لها، أو يتأملون فيها، وكم من الفلاسفة والناقدين والمتهجمين، من مد يده بجرأة وكبرياء ودون تعقل إلى الكتاب العظيم، وأمسك مبراته ومزقه ورمى به فى النيران،.. وهى كبرياء العقل البشرى، وسيتبين لنا عما قليل، حماقة هذا العقل وقصوره عن الرؤية الصحيحة للكتاب،.. وهناك جماعات السياسيين، الذين مزقوا الكتاب المقدس بدافع من سياستهم التى لم تستطع أن تعطى ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه،.. وهناك أيضاً جماعات المتعصبين، الذين أعماهم التعصب الدينى، وهم لا يريدون للكتاب انتشاراً، فقاوموا ترجماته، ليفسروه كما يحلو لهم ولرجال الكهنة فيهم،.. وتعيش الشعوب أسرى تقاليدهم التى ما أنزل اللّه بها من سلطان،... وهناك أيضا المهملون الذين قد ينتسبون إلى المسيحية، وقد نجد فى بيوتهم كل شئ إلا نسخة من الكتاب المقدس،... وقد نجد الكتاب، ولكن قد غطاه التراب إذ هو أقرب الأشياء إلى التحف التى يراها الإنسان كصورة أو زينة،.. ومن الغريب أن وقت هولاء يتسع لقراءة مختلف الكتب والدراسات، لكنه لا يتسع مطلقاً لدراسة الكلمة الإلهية أو قراءتها، أو الإلمام بما فيها،... وهناك أيضاً الخطاة المتعلقون بشرورهم وخطاياهم، وهم لا يقبلون الكلمة الإلهية التى توبخ خطاياهم، أو كما قال السيد المسيح: " وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله " " يو 3: 19 و20 ".. وهؤلاء جميعاً يتوجون يهوياقيم بن يوشيا ملكاً عليهم، ويحمل كل واحد منهم مبراته ليمزق الكلمة الإلهية ويلقى بها فى النار!!.. على أن السؤال هو هل استطاع هؤلاء الرافضون أن يتخلصوا من الكتاب المقدس، ومن سلطانه الأبدى عليهم؟؟.. كلا وإلى الأبد كلا!! إذ أن نيران التاريخ كلها أعجز من أن تنتصر على كتاب اللّه،... عندما ترجم وليم تندال العهد الجديد، وأقبل الناس على شرائه، أرادته الحكومة الانجليزية فى ذلك الوقت منع هذه الترجمة، فسعت إلى جمع النسخ وشرائها بأى ثمن وأحرقتها، وكان تندال فى حاجة إلى المال ليتوسع فى نشر الكتاب، ومن المال الذى وصل إليه، نتيجة شراء الحكومة الإنجليزية للكتاب لحرقه، استطاع أن يترجم الكتاب المقدس بأكمله، وينشره بين الناس، ولعلنا نذكر ما قاله فولتير عندما قال: إن هذا الكتاب سينتهى بعد خمسين سنة، ولم يحلم فولتير بأن بيته سيكون فى ذلك التاريخ الدار التى يطبع فيها الكتاب المقدس، ويخرج منها إلى فرنسا وغير فرنسا!!... ومن المثير أن الألمان النازيين عندما أحرقوا الكتب الدينية والمقدسة، وقال جوبلز إننا نضع الآن أساس حرية جديدة، وروح جديدة، وبهما سنغلب، لم يكن يعلم أن صحيفة ألمانية ستكتب بعد سقوط النازية: إن، الكتاب المحترق مايزال يعيش!!... كان الملك يهوياقيم أحوج الكل إلى كلمة اللّه،... كانت مصر تستعبده، وبابل تهدده، والظروف الضيقة تحيط به من كل جانب، وكان فى حاجة إلى صديق ومرشد ومنبه ومحذر، وكانت كلمة اللّه يمكن أن تكون هذه جميعها له، ولكنه لم ينتفع بالكلمة كما انتفع أبوه يوشيا بها، وكانت خسارته لذلك فادحة وقاسية،... وليس هناك من خسارة تعدل خسارة إنسان لا يقرأ الكلمة الإلهية، أو يطوح بها، أو يحرقها، أو يلقى بها فى طريق حياته، وموكبه الأرضى،... وإذا كانت توماس كارليل قد قال: إنه من وقت عصا موسى حتى اليوم ليس هناك قوة تضارع قوة العلم،... وهو يقصد بذلك أثر الكلمة المكتوبة فى حياة الناس، ومما تفعله الصحف والكتب والمجالات، فإنه مما لا شك فيه أن الكلمة الإلهية تقف من كل كلمة أخرى مكتوبة الموقف الذى ذكره إرميا حين قال: " ما للتبن مع الحنطة يقول الرب، أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر "؟.. " إر 23: 28 و29 "، أو بعبارة أخرى، إن الفارق بين كلمة البشر، وكلمة اللّه، هو الفارق بين التبن والحنطة،... وكل الاثار التى يمكن أن يتمخض عنها كلام البشر، وإذا قورنت بالكلمة الإلهية، هى التبن عندما يقارن بالحنطة إذ صح أن نقارن بين الاثنين،... فالتبن بادئ ذى بدء خفيف وكلام البشر كاذب يطير فى الهواء إذا قورن بالصدق الإلهى،... وما أكثر كذب الناس أو نفاقهم الذى تمتلئ به الصحف والمجلات والكتب كل يوم بالمقارنة أو الموازنة مع الحق الإلهى!!.. والتبن ليس غذاء للإنسان، بل هو طعام الحيوان والكلمة البشرية فى سداها ولحمتها، ليست إلا غذاء للحيوانية الكامنة فى الإنسان، ويوجد كثيرون من الكتاب لا يفعلون شيئاً من وراء الكلمة التى يكتبونها سوى إشباع الحيوانية فى الإنسان، أو إرضاء النزوات الحسية أو الاجتماعية، ويحتاجون إلى من يصرخ فيهم، هذا كذب، وبهتان وتضليل، وهوس وحشى حيوانى!!.. والتبن رخيص، وكل أدب إذا قورن بأدب الكتاب هو أدب رخيص وتافهه وحقير،... والتبن تذروه الرياح سريعاً، وتلتهمه النيران فى ومض البصر!!.. وكذا الكلام البشرى أمام الحق الإلهى واللهيب الأبدى!!... وعلى العكس من ذلك كلمة اللّه التى هى الحنطة المشبعة... كان شيشرون عندما يخطب يعتقد أنه يقول الحق تماماً،... وعندما يذهب إلى بيته يتساءل: هل كل ما قاله حق تماماً،... لكن كلمة اللّه تشبع على الدوام الفكر والمشاعر والإرادة،... إنها الحنطة الحقيقية للإنسان،... وهى إلى جانب ذلك الكلمة الملهبة إذ أنها نار، والنار تضئ قبل ان تحرق،... وكلمة اللّه هى النور المرسل لإنسان يعيش غارقاً فى الظلام - وهى النار المحرقة التى تحرق كل كذب وضلال.وجاء فى أسطورة قديمة أن هناك سائلا إذا شربه أى إنسان فإنه يضحك ويظل يضحك حتى يموت من الضحك،... وما أكثر ما تكون هكذا كلمات البشر التى تخدع الإنسان وتضحكه، وكان أولى بها أن تبكيه، لو أنها كانت بحسب الحق الذى يعلنه اللّه القدير فى كتابه، والذى يحرق الأوهام والأضاليل، ويضع الحقيقة مجردة وعادية أمام الإنسان،.. والكلمة الإلهية هى أيضاً، المطرقة التى تحطم الصخر، والإنسان إذا قسا قلبه وتحجر واستعبد للتقاليد والعادات الاثمة والشريرة، فليست هناك قوة تستطيع أن تحطم عنفه وقسوته وشره كما تفعل كلمة اللّه،... ولعل يهوياقيم بن يوشيا كان فى حاجة إلى هذه الكلمة التى رق أمامها قلب أبيه العظيم الملك يوشيا!! باروخ والعظمة المهجورة قال اللّه لباروخ: " وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة؟ لا تطلب ". ولعل باروخ كإرميا ضاق بالالام التى أحاطت به، والمتاعب التى توالت فى حياته، فى أيام امتلأت بالاضطهاد والمشقة والأحزان،... وربما جرب كإنسان، عندما كان أخوه فى القصر الملكى، يتمتع به الساكنون فى القصور،... لماذا لا يكون كأخيه، واحداً من عظماء الأمة، وسادة القوم ألم تلده أمة، كما ولدت أخاه!!؟ وألم ينشأ فى بيت واحد، فلماذا ينعم أخوه بما ينعم به العظماء فى الأرض، ويبقى هو على حظ من المعاناة والمتاعب! فى الحقيقة إن هذه تجربة البيوت العظيمة فى الأرض، عندما يتراجع أو يتقاعس أولادها عن الخدمة الدينية، لما قد يكون فى هذه الخدمة من عار أو تعب أو مشقة أو ضيق، ولكن أولئك الذين دخلوا الخدمة، وكانوا من أعظم البيوت على الأرض، لم يترددوا قط فى إدراك الحقيقة التى ملأت قلب موسى الذى " لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنه فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه على أن يكون له تمتع وقتى بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر " عب 11: 24 - 26 ". واستولت على مشاعر يوسف حتى حمل شعبه الرسالة أن تؤخذ عظامة عند رحيلهم من مصر، مع أنه كان يمكن أن يفاخر بأنها تتحنط لتغالب الأيام والليالى كجثث المصريين المحنطة،... وهى التى دعت نحميا إلى أن يرى فخره العظيم، لا فى أن يكون ساقياً للملك، أو وزيراً مفضلا فى قصره بل بالأحرى، أن يقف على أكوام التراب فى مدينة ابائه المحترقة، كى يرممها ويعيد أسوارها من جديد!!.. وهى التى جعلت دانيال ورفاقه من الشرفاء، أن يتطلعوا بأحلامهم وخيالهم، من البلاد البعيدة، نحو المدينة التى أسروا منها، ولكنها كانت آسرة لقلوبهم وعواطفهم فى السبى والمنفى،... كان باروخ يدرك ما هى العظمة الحقيقية، إذ أنها ليست المنبت العريق أو القصور الشامخة الماضية،... بل هى الحقيقة الكامنة فى أعماق الإنسان نفسه حيث يمكن بشخصه، دون بيته، أن يكون عظيماً أو غير عظيم،... كان اثنان يتجادلان، وكان أحدهما يفخر بعائلته، ويقول للآخر: وأنت من أنت!!؟... وأجابه الآخر: إن فضيلتى تبدأ من حيث تنتهى فضيلتك، إذ حسن أن تكون من عائلة عظيمة وعريقة، ولكن الأفضل لا أن تنبت من عائلة عظيمة، بل أن تكون أنت فى ذاتك عظيماً!. وكان باروخ، بهذا المعنى، على عكس الظاهر، أعظم من أخيه سرايا، الذى وإن كان كما يبدو من اللغة الكتابية، رجلاً كريماً طيباً، لكنه لا يمكن أن يرقى بحال ما إلى شخصية أخيه الذى عاش مع إرميا وفى خدمة اللّه!!... إن نقطة العظمة الصحيحة تبدأ من علاقة الإنسان باللّه،... عندما زار مارك نوين أوربا، استقبله المللوك والأمراء، وأفردت له الصحف مكاناً كبيراً على صفحاتها، وفى عودته إلى أمريكا قال له ابنه الصغير على ظهر الباخرة: يا أبى يخيل إلى أنك أصبحت تعرف جميع الملوك والأمراء والعظماء، ولم يبق إلا اللّه لتعرفه!!.. وأنها لأكبر مأساة على الأرض أن يعرف الناس العظمة بهذا المعنى فيعرفون ويعرفون إلا من اللّه،... إن الشهرة طبل أجوف لا يلبث ان ينتهى أو يضيع، ولعل اللّه وهو يقول لباروخ لا تطلب لنفسك أموراً عظيمة، كان يقصد أن يذكره بهذه الحقيقة التى ربما غابت عنه وراء التجارب والمحن التى أحاطت بحياته!!. وما أكثر الأخطار التى تلحق بالإنسان من العظمة حسب مفهوم الناس، وهو يوم ينسى اللّه، أو يهمل الشركة معه، سيتعرض للكثير من التجارب الروحية والأدبية، إذ يتعرض للانانية وحب الذات، والرغبة الكاملة فى أن يعيش جيله وعصره، تسلط عليه الأضواء، ويلمع اسمه بالنور، وإلا فإنه سيقاتل ويصارع، ويسحق كل من يحاول أن يقف فى طريقه، أو يضعه فى الظلال أو الظلام،... وهو على استعداد أن يفعل ذلك، فى نطاق الحياة العالمية أو الكنسية أيضاً، ألم يفعل هذا ديو تريفس الذى يحب أن يكون الأول، وهو على استعداد أن يفعل كل شئ فى سبيل ذلك إلى الدرجة التى فيها لا يقبل الرسول يوحنا، ويهذر عليه بأقوال خبيثة، ولا يقبل الأخوة، ويمنع أيضاً الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة، " انظر 3 يو: 9 و10 ".. كما يتعرض الباحث عن العظمة إلى ما يخف بها من حياة الترف والدعة أو الكسل، أو حياة الكأس والطاس، دون أن يبالى بآلام الآخرين أو تعاساتهم أو أحزانهم أو ماسيهم، وكان باروخ مجربا بهذه كلها، ومن ثم قال له: " وأنت فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة؟ لا تطلب … ".. باروخ والضمان الإلهى لا يستطيع الإنسان أن يفهم الضمان الإلهى لباروخ إلا إذا ذكر أن هذا الضمان جاءه فى عام 605 ق. م. عندما قام نبوخذ ناصر بغزواته الواسعة، فقضى على اشور فى عام 613 وتحول إلى مصر فى موقعه كركميش المشهورة، وانتصر على فرعون نخو، وكان نبوخذ ناصر فى اكتساحه للأمم والممالك، أشبه بهتلر فى اكتساحه لغرب أوربا فى الحرب العالمية الأخيرة حيث ترك وراءه الفزع والرعب والحيرة والقلق فى كل مكان، ولا شبهة فى أن باروخ كان كإرميا مشغولا بمصير بلاده ووطنه، وزادته نبوات إرميا حزناً على حزن، وألماً على ألم، وعندما كانت بنفسه أفكار العظيمة التى يحلم بها، ولماذا لا يكون على الأقل مثل أخيه فى القصر الملكى؟... أعطاه اللّه الصورة المروعة للخراب الذى ستصل إليه بلاده،...: " هأنذا أهدم ما بنيته، واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض " (إر 54: 4) ولعله قد أبصر المصير التعس الذى سيذهب إليه أخوه نفسه، الذي سيهوى مع الملك صدقيا من حالق، ويساق وإياه إلى السبى القاسى فى بابل، وهو لن يأسف على العظمة الضائعة لبلاده فحسب، بل على المصير المحزن للاخ الذى تاق أن يكون مثله!!.. وقد قصد اللّه أن يريه قصة العظمة البشرية التى مهما علت، فإنها فى سبيلها إلى الحضيض والرماد،... ولست أظن أن هناك صورة تتفوق على ماكتبه إرميا عن مصير بابل المؤكد مما أشرنا إليه قبلا، وكيف أن المدينة، فى أعلى مجدها وقمته، ستغرق إلى الأبد دون أن تقوم لها قائمة إذ هى رمز للشر والفساد اللذين مهما علا فعلهما وامتد، فإنه سيسقط، كما صاح الرائى فى روياه العظيمة: " سقطت سقطت بابل العظيمة.. من أجل ذلك فى يوم واحد ستأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوى. وسيبكى وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين: ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية، لأنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك ".. " رؤ 18: 2 و10 "وكل عظمة بشرية، طال الزمان عليها أو قصر، مصيرها إلى الضياع والهلاك، لأن يد اللّه القوية تتعقبها فى كل مكان، وتغرقها كالحجر الذى يسقط فى نهر الفرات!!.. على أنه على قدر ما يحدث من اضطراب أو فزع لجميع الشعوب والناس، فإن المؤمن سيبقى على الدوام محروساً باللّه مضموناً بقدرته وقوته، وأينما يذهب باروخ وأينما يتنقل، وفى الوقت الذي يجلب فيه اللّه الشر على كل ذي جسد: " أعطيك نفسك غنيمة فى كل المواضع التى تسير إليها ".. " إر 45: 5 " فإذا كان إرميا قد طوحت به الحياة، وباروخ معه، ورأيا روى العين، الهجوم الذي دمر أورشليم، والجماعات التى ألزمتهما بالذهاب معها إلى مصر،.. فهما فى أى مكان فى الأرض، وفى وسط الحروب والقلاقل والفزع الذى يكتسح العالم بأجمعه يعلمان تمام العلم، أن المؤمن آمن لأنه فى قبضة يمين القادر على كل شئ،... ولعلهما غنياً معاً، أو غنى الواحد منها: " الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت أقول للرب ملجأى وحصنى إلهى فأتكل عليه. لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر. يخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى - ترس ومجن حقه - لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير فى النار، ولا من وبأ يسلك فى الدجى ولا من هلاك يفسد فى الظهيرة، يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار ".. " مز 91: 1 - 8 ".
المزيد
30 يونيو 2021

الجسد والروح

تذكرت مرة أننا مخلوقون من تراب الأرض، وأننا سنعود مرة أخرى إلى التراب بعد الموت فقلت في أبيات من الشعر: يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طُرّا أنت أصلي, أنت يا أقدم من آدم عمرًا ومصيري أنت في القبر إذا وُسَدتُ قبرًا على أنني راجعت نفسي، وتذكرت أن التراب هو أصل الجسد فقط، الذي خُلق من تراب أو من طين، قبل أنا ينفخ الله فيه نسمة حياة هي الروح. فعدت أصحِّح فكري, وأقول في أبيات أُخرى: ما أنا طينٌ ولكن أنا في الطين سَكْنتُ لست طينًا, أنا روح من فم الله خرجتُ سأمضي راجعًا لله أحيا حيث كنت وفي الحقيقة ما أنا مجرد جسد, ولا مجرد روح, بل أنا كلاهما معًا, جسد وروح وهكذا كل إنسان أيضًا. الجسد والروح متحِدانِ معًا, يكونان إنسانًا واحدًا, غير أن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر. ولذلك كثيرًا ما نرى أن الجسد يشتهي ضد الروح, والروح تشتهي ضد الجسد, حتى أن كلا منهما يقاوم الآخر.مشكلة الجسد أنه مادي, لذلك فشهواته تتركز في المادة وفي كل ما هو مادي, أما الروح فاتجاهاتها سامية, فوق مستوى المادة الجسد ينشغل بالمرئيات والمحسوسات. أما الروح فيمكنها أن تنشغل بالأمور غير المرئية, بل وبالإلهيات أيضًا الجسد يدركه الموت, حينما تنفصل الروح عنه ويموت الجسد تخل عناصره, ويفقد الشعور والحيوية, أما الروح فلا تموت وما أكثر الحديث عن شهوات الجسد الخاطئة, وعن سقطاته الجسد يقع في شهوة الطعام, وفي المُسكِرات والمخدرات والإدمان، كما يقع أيضًا في شهوة الزنا وسائر سقطات الجنس, كما يقع في كثير من خطايا اللسان, والاعتداء على الآخرين بأنواع وطرق شتى.. وقد تمتد يده إلى السرقة وإلى الرشوة.. وما إلى ذلك من أجل هذا, كان كثير من الأبرار ومن النُسَّاك, ينظرون إلى الجسد كمصدر للخطيئة, ويبذلون كل الجهد للانتصار على شهوات الجسد, ويصبح قمع الجسد من الفضائل الأساسية. ولا ننسى أن الصلاة فضيلة في جميع الأديان, وهو فترة لانضباط الجسد ليعطي فرصة الروح فهل معنى كل ذلك أن الجسد شرٌ في ذاته كما يتخيله البعض؟! كلا, بلا شك، فلو كان الجسد شرًا, ما كان الله يخلق الجسد, بل الجسد خير إذا لم ينحرف، وإذا لم يقاوم الروح. وإذا لم يخضع لعوامل نفسية خاطئة أيضًا لو كان الجسد شرًا, ما كنا نُكرمْ رفات الأبرار والشهداء.. ولو كان الجسد شرًا ما كان الله ينعم عليه بالقيامة والحياة الأخرى بل كان يكفيه ما عاشه على الأرض, دون امتداد لحياته ولو كان الجسد شرًا, ما كان الأنبياء والرُسلْ يعيشون حياة بارة على الأرض, ولهم أجساد..! وكانت أجسادهم طاهرة ومقدسة.. الجسد إذن ليس شرًا في ذاته, ولكنه قد ينحرف فيخطئ. الروح أيضًا يمكن أن تخطيء سواء كانت وحدها, أو متحدة بالجسد. وأول خطايا عرفها العالم كانت خطايا "أرواح"! وأقصد بذلك خطايا الشياطين, وهم أرواح ليس لهم أجساد. وقد وصِفوا بأنهم أرواح شريرة أو أرواح نجسة الشياطين –وهو روح- وقع في خطية الكبرياء، وما زال في كبريائه يتحدى ملكوت الله على الأرض, وفي كبريائه يعصى الله ويكسر وصاياه. كذلك -وهو روح- وقع في خطيئة الحسد, فحسد الإنسان على ما وهبه الله من نعمة. ولا يزال يحسد القديسين والأبرار ويحاول إسقاطهم. وفي إغرائه للبشر يقع في خطايا الخداع والكذب بتصوير الشر أنه خيرًا! والشيطان -وهو روح- يقع في التجديف على الله تبارك اسمه, وينشر الإلحاد والبدع والأفكار المنحرفة.وكما يخطئ الشيطان وهو روح. كذلك يمكن أن تخطئ أرواح البشر.روح الإنسان قد تخطئ، وتجد الجسد معها في الخطأ. الروح مثلًا قد تسقط في الكبرياء, ثُم تجر الجسد معها في كبريائها، فيجلس في كبرياء، ويمشي في خيلاء, ويتكلم في عظمة, وينظر في غطرسة.. وتكون الكبرياء قد بدأت في الروح أولًا ثُم تحولت إلى الجسد. الروح قد تَفْتُر في محبتها لله, ثُم يقود الجسد معه في الفتور, فيكسل في صلواته, ويُهمِل واجبات العبادة. إن ضعفت الروح, يخور الجسد وان بعدت الروح عن الله, ينهمك الجسد في ملاذ الحياة والدنيا. إن تشبعت روح الإنسان بالكراهية, يمارس الجسد هذه الكراهية, فقد يعتدي على غيره, بيده أو بلسانه أو بقلمه. وهنا نسأل: هل حوادث القتل ترجع إلى الجسد مع الروح؟ وتكون الروح هي البادئة والمشجعة والمخططة!! ومن الناحية الأخرى: إذا قويت الروح, فأنها ترفع الجسد إلى فوق, فالروح المعنوية عند المريض إذا قويت تجعله يحتمل المرض ويجتاز مراحله الصعبة. وإن ضعفت روحه المعنوية, فإنه يستسلم للمرض وينهار.. كذلك في الصوم: إذا نفذت الروح بالصلوات والتأملات والتسابيح والقراءات المقدسة, فإن الجسد يستطيع أن يحتمل الصوم بدون تعب... وأيضًا الجندي في ساحة القتال إذا كانت روحه قوية لا تعرف للخوف معنى, بل تحفزها محبة الوطن, فأنها تدفع الجسد إلى الاستبسال والشهامة. وعمومًا فإننا تجاوبًا وتضامنًا ما بين الروح والجسد.. ففي الصلاة مثلًا, أن كانت الروح خاشعة, فإن الجسد يخشع بالتالي، تنحني ركبتاه بالركوع أو السجود, وترتفع عيناه في الصلاة, وترتفع يداه. وإذا لم تكن الروح خاشعة, يكسل الجسد أيضًا. الروح إذا حزنت, ممكن أن ملامح الوجه تعيب, ودموع العين تتساقط. وإذا فرحت الروح، تظهر البشاشة على الوجه, وتلمع العينان في فرح إذا سلم إنسان على رئيس له, أو على شخص كبير السن أو عالي المقام, فإن الاحترام الذي يكنه في روحه, يظهر في أنحاء جسده وتقريبًا كل المشاعر التي للروح, تظهر في حركات الجسد, أو في نظرات العينين, أو في لهجة الصوت, أي يكشفها الجسد لذلك لا نستطيع كثيرًا, أن نمنع هذه الصلة بين الروح والجسد، ولهذا فإن محاسبة الإنسان في القيامة, تكون للروح والجسد معًا لا يُدان الجسد بدون الروح, ولا تدان الروح بدون الجسد لقد اشترك الاثنان معًا في عمل الخير أو الشر، إما أن الروح خضعت للجسد في شهواته, أو أن الجسد أسلم قيادته إلى الروح, وارتفع معها, وعَبَّر عن سموّها بأفعاله ونصيحتنا لكل إنسان أن يقوي روحياته, ويسلك في السلوك الروحي, وحينئذ سيجد أن جسده يتجاوب مع الروح في عمل البرفالجسد يمكنه أن يتعب في خدمة الآخرين بفرح, وان يبذل ذاته ليسعد غيره, كما يمكنه أن يتبرع بدمه, إذا كان احد المرضى في حاجة إليه, بل أن يضحي بعضو من أعضاء الجسد لأجل حياة إنسان آخروكل الخدمات الاجتماعية التي تراها في العالم، وكذلك كل أعمال الإنقاذ التي يقوم بها رجال الإسعاف, ويقوم بها من يعملون في إطفاء الحرائق, وإنقاذ المشرفين على الغرق... كلها أعمال يشترك فيها الجسد مع الروح. الروح تدفع والجسد ينفذ.إن الله وهبنا الجسد، كما وهبنا الروح, هو قادر أن يعمل فيها لمجد اسمه, ولنشر الخير على الأرض, في غير تناقض, بل في تعاون تام بين الروح والجسد. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
29 يونيو 2021

روح الله يرف على وجه المياه

في قصة الخلق سجّل لنا الوحي الإلهي: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرفّ على وجه المياه» (تك1: 2). وكلمة "يرفّ" في أصل الترجمة العبرية هي "راخاف" وهي تعني احتضان الطائر للبيض حتى يفقس. ونفس هذه الكلمة تكررت في سفر التثنية في قول الرب: «كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه» (تث32: 11). يعني ذلك أن الوحي الإلهي قصد أن يوضح لنا أن الروح القدس منذ البدء كان يرقد على الأرض كما ترقد الدجاجة على بيضها محتضنة إياه حتى يفقس. ومن المعروف أن الدجاجة عندما تحتضن البيض تنزع الريش من صدرها حتى يحافظ جلدها الدافئ على دفء البيض، وحتى يبقى هذا الريش المنزوع كعازل للعش. والدجاجة لا تقوم من على البيض سوى مرة واحدة في اليوم لتأكل وتشرب ثم تعود سريعًا لترقد على البيض من جديد حتى يفقس.وإن كان السيد المسيح قد علمنا أن نصلي قائلين: «أبانا الذي في السماوات»، إلّا أن الكتاب المقدس يتكلم في مواضع كثيرة عن "أمومة" الله". وفي أغلب الأحيان ترتبط أمومة الله في هذه المواضع الكتابية بالروح القدس. ومن أمثلة ذلك: «كالوالدة أصيح. أنفخ وأنخر معًا» (إش42: 14)؛ «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ» (إش49: 15)؛ «فترضعون وعلى الأيدي تُحملون وعلى الركبتين تُدلَّلون. كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا، وفي أورشليم تُعزَّون» (إش66: 12-13)؛ «بل هدّأتُ وسكّتُّ نفسي كفطيم نحو أمه» (مز131: 2). أمّا في قصة الخلق، فقال: «فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم» (تك1: 27). أي أن الإنسان الذي هو المرآة العاكسة لصورة الله، أظهر بخلقته أن الله الذي لاجنس له،هو أب وأم بآن واحد!وفي قصة نيقوديموس يرد قول صريح للسيد المسيح عن الروح القدس الذي يلد مثل الأم حيث قال: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو3: 5). والأم الجسدية تشعر بمسئولية شديدة من نحو طفلها الذي تلده، فلا تكتفي فقط بولادته بل تعتبر تلك الولادة نقطة البدء في تعهدها له بالرعاية والتربية والتعليم، حتى ينمو ويصير ناضجًا. هكذا أيضًا الروح القدس الذي نولد منه لا يتركنا يتامى، بحسب تعبير السيد المسيح، بل تبقى مسحته داخلنا ثابتة فينا تعلّمنا عن كل شيء كما تعلّم الأم ابنها عن كل شيء، بدءًا من كيف يأكل ويشرب ويمشي ويتكلم. والسيد المسيح وصف أيضًا الروح القدس بأنه "المعزي"، ومن المعروف أن الأم هي أكثر من يعزي أبناءها في حضنها الذي يرتمي فيه الطفل الباكي المضطرب فيجد أمانه وسلامه. وبالتالي، يكون من الأرجح أن عبارة: «شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني» (نش2: 6) تخص العمل الأمومي للروح القدس المعزي بالدرجة الأولى.لقد أعجبني قول أحدهم: "الله هو أب يحبنا بقلب أم"!! كل عيد عنصرة ونحن جميعًا متمتعون بأمومة روحه القدوس الوديعة الحانية!! نيافة الانبا يوسف أسقف جنوب الولايات المتحدة الأمريكية
المزيد
28 يونيو 2021

الخادم وحياة الصلاة

إن الصلاة هي أداة اقتراب الإنسان من الله فهي تُمثل العلاقة الشخصية بين الإنسان والله. * وهي علاقة العروس بعريسها السماوي. ففيها.. تقترب النفس البشرية إلى عريسها المحبوب شهوة قلبها. يقترب الشيء إلى كل شيء. يقترب الكيان المحدود إلى اللا محدود. تقترب الطبيعة الساقطة إلى الله الذي بلا خطية ليغسلها ويُطهرها، ويُعيد لها صورتها الأولى الجميلة التي ُخلقت عليها بالصلاة نستطيع أن نفتح السماء لأن الصلاة هي مفتاح السماء كما أن التوبة هي باب السماء ففي الصلاة تُشفى النفس المريضة المنكسرة وبالصلاة تفرح النفس الحزينة فالصلاة هي باب ثمين مَنْ يُفرط أو يتهاون فيه فهو يُفرط في أغلى شيء عنده. لقد تغنى آباءنا القديسين بعِظَم الصلاة وقوتها وفاعليتهالأنها كانت حياتهم ومصدر شبعهم وغذائهم الروحي الذي لا ينتهي، وعين الماء التي يستقوا منها ولا تنضُب. "الصلاة هي سلاح عظيم، كنز لا يفرغ، غنى لا يسقط أبدًا، ميناء هادئ هي مصدر وأساس لبركات لا تُحصى هي قوية بل أشد من القوة ذاتها" (القديس يوحنا ذهبي الفم). "الصلاة هي مفتاح السماء بقوتها تستطيع كل شيء هي حِمى نفوسنا مصدر لكل الفضائل هي السلّم الذي نصعد به إلى الله هي عمل الملائكة هي أساس الإيمان" (القديس أغسطينوس). لذلك أصبحت الصلاة احتياج أساسي للإنسان مثل الأكل والشرب فكما يهتم الإنسان بغذائه الجسدي لضمان استمرار الحياة بصحة جيدة هكذا لابد من استمرارية الصلاة من أجل ضمان صحة الروح أيضًا.فما أكثر حاجة الإنسان للصلاة من أجل احتياجاته الروحية والجسدية معًا فبدون الصلاة لا تستقيم الحياة الروحية فهي المطلب الأول لبداية طريق الروح والجهاد الروحي لأنها تعلّمنا كل شيء. الصلاة فيها شفاء من كل الزلات والخطايا. الصلاة هي رباط متين يربطنا بالله، ويشدنا بالسماء بقوة، ويقينا شر السقوط والانحراف فهي تخلّصنا من كل الضيقات والمتاعب حتى إذا اعترانا فتور في الصلاة نفسها، وبدأ إحساس الملل والضجر وعدم الرغبة وعدم الشعور بالتلذذ بها فليس علاج من هذا إلاَّ الالتجاء للصلاة فبالتمسك بالصلاة نستطيع أن نخرج من حفرة الملل والضجر والفتور يستطيع الإنسان أن يقول: "مهما حصل لي لازم أصلي" فالاستمرارية حتى مع عدم الشعور بقيمتها هو الضامن الوحيد للرجوع إلى حياة الصلاة بعمق وتركيز وتأمل واستمتاع. إن الصلاة بالنسبة لحياتنا الروحية هي مثل اليد بالنسبة للجسد فاليد عضو عام للجسد كله، ومع ذلك فهي آلة خاصة لذاتها تخدم بها نفسها فإذا كانت يد مريضة تداويها اليد الأخرى، وإذا كانت متسخة فتغسلها وتنظفها، وإذا كانت باردة فتدفئها ولذلك فاليد تعمل كل شيء هكذا الصلاة هي العنصر الأساسي لحياتنا الروحية، وبالاهتمام بحياتي الروحية أكون مهتم بالروح والجسد(والعكس ليس صحيح) إن الصلاة بالنسبة للإنسان هي مثل النَفَس الذي يدخل الرئتين بالنسبة للجسد فبدون استنشاق الهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش، لأن الرئتين كيف تعمل وما هو عملها بدون هواء؟! فبقلة الهواء يحدث اختناق ويموت الإنسان (الجسد)هكذا الصلاة عندما تقل تضعف الروح وتذبل بل قد يؤدي ذلك إلى موت الإنسان (روحيًا). ونستطيع أن نلمس حاجتنا للصلاة بالنظر إلى النقاط الآتية:- أولًا: لأنها سر النصرة:- لاشك أن الصلاة هي سر النصرة في حياتنا الروحية والجسدية يقول القديس يوحنا ذهبي الفم "إذا لاحظت أن إنسانًا لا يحب الصلاة فاعرف في الحال أنه ليس فيه شيء صالح بالمرة فالذي لا يُصلي لله هو ميت وليست فيه حياة"ولقد ذُكر عن القديس تادرس المصري القصة التالية"في حين وجوده في القلاية في الإسقيط أتاه شيطان محاولًا الدخول، فربطه خارج القلاية بصلاته وأتاه شيطان ثاني وحاول دخول قلايته، فربطه القديس أيضًا خارجها ثم جاء شيطان ثالث فلما وجد زميليه مربوطين قال لهما "ما بالكما واقفين هكذا خارج القلاية؟" فأجاباه "بداخل القلاية مَنْ هو واقف يمنعنا من الدخول" فغضب هذا الأخير وحاول اقتحام القلاية، لكن القديس ربطة كذلك بصلاته فضجت الشياطين من صلاة القديس، وطلبوا أن يطلق سراحهم حينئذ قال لهم "أمضوا واخزوا"، فمضوا بخزي عظيم"هذه هي قوة الصلاة هي سور يحمينا من هجمات العدو الشرير. ثانيًا: لأنها وسيلة البركات:- بالصلاة يكمل عمل التوبة فعندما يريد شخص ما أن يقدم توبة عملية فلا بد أن يقدمها في الصلاة. بمداومة الإنسان على الصلاة ينمو بداخله إحساس الحياة والحشمة من الله "الذي يتهاون في عفة جسده يخجل في صلاته" (القديس الأنبا موسى الأسود) وقت الصلاة هو الوقت الذي نلتقي فيه مع الله، ونحظى بحضوره معنا، و"لأنَّهُ حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أو ثَلاثَةٌ باسمي فهناكَ أكونُ في وسطِهِمْ" (مت18: 20) بالصلاة نسعى ونسير نحو نقاوة القلب.. لأنها توضِّح للإنسان عيوبه وخطاياه "بالصلاة نصل إلى الحب الإلهي الذي هو أسمى الفضائل والدرجات" (مار إسحق) وبالصلاة نتأهل لأن نشعر بمراحم الله ونتمتع بإحساناته.. "الصوم والصلاة هما اللذان عملا بهما الأنبياء والرسل والشهداء ولبّاس الصليب" (قسمة الصوم الكبير) فما أعمق وأغزر حياة الصلاة فهي تؤهلنا لمعرفة لغة السماءوطننا الأصلي الذي نسعى جميعًا للوصول إليه. أخي الخادم اسأل نفسك.. هل أستطيع أن أخدم بدون صلاة؟ ما هو عمق صلاتي.. هل هي بنفس مقدار الخدمة؟ هل اهتمامي بمخدعي وصلاتي الشخصية مثل اهتمامي بالخدمة المُؤتمن عليها؟ هل أحاسب نفسي على تقصيري في الصلاة مثلما أحاسب نفسي على تقصيري في الخدمة؟ هل صلاتي في حياتي رقم واحد وبعدها الخدمة.. أم العكس؟ هل مخدومينا يروا فينا (الخادم والخادمة) - (المُصلي والمُصلية) بالفعل وليس بالمظهر؟ هل اهتم بحضور القداس قبل الخدمة ليبارك الرب خدمتي أم أنشغل في هذا الوقت بتجهيز الخدمة وتحضيرها، وأترك الذبيحة على المذبح دون التمتع بها؟ نحن نحتاج إلى خادم مُصلى وليس خادم متكلم وواعظ شهير فالصلاة هي التي تعطي النجاح للخدمة وتثمر في قلوب المخدومين فهلموا بنا نطلب من السيد المسيح في صلاتنا الشخصية أن ينجح كل ما تمتد إليه أيدينا ربنا يبارك حياتكم وخدمتكم ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل