المقالات
01 أكتوبر 2021
كلمات روحيّة للحياة
شفاعة السيدة العذراء والقديسين
سألني أحدهم كيف نطلب شفاعة العذراء من أجل غفران الخطايا؟ إنّ الغفران فقط بدم يسوع لأنّ دم يسوع يُطهِّر من كلّ خطيّة، وأنّه ليس لنا شفيع عند الآب إلاّ يسوع الذي هو كفَّارة لخطايانا، وليس خطايانا فقط بل خطايا كلّ العالم. وأنّه ليس بأحد غيره الخلاص.
قلت لصديقي هذا.. كلّ ما تقوله حقّ.. ولكن دعني أراجع معك واقعة مشوّقة جدًّا، دوَّنها الوحي الإلهي في أيام داود النبي الملك في الأصحاح 14 في سفر صموئيل الثاني. وما حدث عندما قتل أبشالوم ابن داود أمنون أخاه انتقامًا لِمَا فَعَلَه مع أخته من قباحة. وبعدما قتل أبشالوم أمنون هرب من وجه داود وهرب من الناموس الذي كان يحكُم بأنّ القاتل يُقتل. وظلّ أبشالوم هاربًا إلى أن جاء يوآب بامرأة حكيمة من تقوع، ولبست ثياب الترمُّل وجاءت إلى الملك داود كَمَن لها شكوى وهي تصرخ من الظلم وتتوجّع وتقول: "أَعِنْ أَيُّهَا الْمَلِكُ". فلما استفسر داود منها حكت له وضعًا مؤلمًا.. إذ أنّها أرملة، مات زوجها ولها ولدان، تشاجرا في الحقل وقام أحدهما وقتل الآخر. وها كلّ العشيرة حولها تطلب أن تنفِّذ الناموس وهو قتل القاتل. فقالت المرأة.. إنّها والحال كذلك ستعدِم كلا الاثنين. فهي أرملة مسكينة وما الفائدة من تنفيذ الناموس في هذه الحالة.. إنّها تريد رحمة.
فقال لها الملك: اذهبي وأنا سأدرس الأمر. فقالت: لا. وتوسّلت إليه. فقال: سأوصي بكِ. فأصرَّت وصارت تستعطف. إلى أن قال لها الملك، وهو صاحب الأمر، لن يموت ابنك.
فقد جعلت المرأة القضيّة بين يديّ الملك، وبالتوسُّل والاستعطاف استخلصت للقاتل حكم براءة، وكلمة من فم الملك أنّ الولد لن يموت.
قلت لصديقى هذا.. ما رأيك؟! نعم الناموس حقّ وأحكامه حقّ وواجبة النفاذ. ولكن ما رأيك في واضع الناموس وهو صاحب الحقّ كلّ الحقّ في كلّ أحكامه. فإنْ كانت هذه المرأة استطاعتْ بالتوسُّل والاستعطاف أن تصنع هذه الشفاعة، فكم بالحري أمّنا العذراء..؟!
هي تقف أمام الملك الديَّان لتشفع في الخطاة، وتستعطِف قلبه نحو بنيها.. هي أمّ القاضي والملك الديَّان.. وهي أمّ الخاطئ المُدان.
وبكلّ تأكيد كثيرة هي شفاعتها، قويّة ومقبولة لدى مخلّصنا.. هي تقف كأمّ حنون، قلبها نحو كلّ ضعيف. وهل تؤثِّر خطايا الأولاد وإخفاقاتهم على عاطفة الأمومة؟! وهل يُعقَل أنّ الأمّ تبغض أبناءها بسبب جحودهم أو أخطائهم؟ وهل تنسى الأمّ رضيعها؟!
إنّ طبيعة الأمّ الجسديّة وحبّها وعاطفتها في صميم الخليقة شيء مهول، لا يمكن التعبير عنه. فكم بالحري التي صارت أم المسيح، أم الرحمة المتجسّدة. مَن يقدر أن يصف عاطفتها وحبّها نحو أولادها الخطاة أو المرضى أو المتغرّبين عن المسيح؟!
شفاعة القديسين:
أمّا مِن جِهة أنّ القدّيسين يشفعون ويقفون أمام الله من أجل الشعب، فهذا أمر يخصّنا بالدرجة الأولى إذ نشعر أنّنا فِعلاً في حاجة شديدة لمِثل هذا الأمر. ألَم يقِف إبراهيم أمام الله يطلُب من أجل أشرّ الناس في جيله. وقال وقفتُ أمام المَولَى وأنا تراب. واستعطَفَ الربّ من أجل سدوم.. وهل يوجد أعظم من هذا؟! بل وزاد على ذلك أنّه تجرّأ بحسب الدالة التي له مع القدير، إذ دُعِيَ خليل الله، أنْ يطلُب أن يرحم الرب سدوم بسبب وجود قديسين وأبرار بها. فقال: لا تُهلِك البارّ مع الأثيم. وكان إبراهيم يفتكِر بحسب قلبه الطيّب أنّه لا يمكن أن تخلو مدينة بأكملها مثل سدوم، على الأقل، من خمسين بارًا. ولكن كشفَ له القدير أنّه لو وُجد خمسون بارًا لا يُهلِك المدينة. وظلّ إبراهيم يستعطِف ويطلب، ويتواضع أمام الله، إلى آخِر مَرّة، حتّى قال إبراهيم: اسمعني هذه المرّة فقط، ألا يوجد عشرة أبرار؟ وإذ كان الجواب مِن الله بالنفي، صَمَتَ إبراهيم عن شفاعته في سدُوم. ونالَت ما نالَت من عقاب استوجبته خطايا الشذوذ والنجاسات.
ولذلك نقول إنّ حاجَتنا إلى شفاعة القدّيسين شديدة ومُلِحّة للغاية. فقد استخلص أبو الآباء بفعلِهِ هذا أنّ وجود الأبرار في مدينةٍ، يُنقذها من مُكابدة العقاب والغضب. وهكذا يكون في البيت والمدرسة والمصنع والجامعة والكنيسة والمدينة والقرية. إن خَلَتْ من الأبرار أدركها الفناء.
+ وهذا هو موسى الذي حمَل شعبه على عنقه، بحُلمِه وصبرِه وطول أناته، التي وصفها الكتاب، أنّ الرّجل موسى كان حليمًا جدًّا أكثر من جميع الرجال الذين على وجه الأرض. لما اشتدّ غضب الرب على الشعب العاصي الجاحد للنعمة، والراجع بقلبه إلى مصر مُرتّدًّا عن الذي فداه. وقف موسى أمام الله من أجل هذا الشعب الصلب الرقبة، وقال الرب لموسى: دَعني أفنيهم وأجعلك لأمّةٍ أعظم. فتشفّع موسى في الشعب، وحَجَبَ الغضب الإلهي. وبما له من دالّة تَكَلّم مع الله. قال للربّ: إنْ تفعل هذا امحُ اسمي مِن كتابك الذي كتبتَ. وأرجَعَ الربّ عن حموّ غضبِهِ.
ما أحوجنا نحن الخُطاة إلى مَن يقف لأجلنا أمام الله.
+ قال الرب لإرميا النبي: لا تطلُب من أجل هذا الشعب. ولا ترفع صلاة لأجلهم. وقال «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هذَا الشَّعْبِ». أرأيت هذا الاقتدار لطلبات الأبرار. ألم يقُل يعقوب الرسول إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فِعلِها.
+ إنّنا لا ننسى أنّ الآية الأولى التي صنعها ربنا يسوع في عُرس قانا الجليل كانت بتوسّلات وشفاعة أمّنا العذراء القديسة. فهي كما يبدو من المكتوب أنّها رأَت أهل العرس وقد صاروا في ورطة بسبب نفاذ الخمر، ربما لكثرة المدعوّين أو رِقّة حالهم كفقراء، وقد يتعكّر صفو الجميع وينقلب الفرح إلى غمّ، ويُلام منهم من يُلام، ويقع في الإحراج ذات العريس وعائلته.. وقد يترتّب على ذلك ما لا تُحمَد عُقباه. رأت الأم كلّ ذلك، وبروحها النقيّة أدركَتْ الأمر قبل أن يدركه أحد، وبحنانها الفائق تقدّمت دون أن يسألها أحد، إذ هي الأم للعريس الحقيقي مَصدَر الفرح. ذهبَت إليه وقالت: ليس لهم خمر. ثلاث كلمات لا غير.. فهي في الإنجيل كلّه صاحبة الكلمات القليلة، ولكنّها صاحبة الدالّة التي تفوق دالّة الملائكة والأنبياء ورؤساء الآباء. طرحت طلبتها وسؤالها من أجل الذين ليس لهم، أمام ابنها الذي له الكلّ في الكلّ. ابنها افتقر وهو الغني بل هو الغِنَى ذاته. ولا أحد يعرِف سرّ إخلائه إلاّ هي. لذلك اتّجهت إليه ليخلّص الذين كانوا في ورطة العوَز والفقر. فهي كانت ومازالت تشفع في المُعوَزين والمعدومين. فإنْ قالت ليس لهم خمر، فهي قائمة دائمًا مازالت تطلُب إليه من جهة كلّ من ليس لهم. فها أناس مِنّا ليس لهم حبّ، بل افتقروا جدًّا في الجحود والعداء. وآخرون ليس لهم فرح بل لهم النَكَد والحزن. وآخرون ليس لهم قداسة بل طُرِحوا أسرى الخطايا. وافتقروا جدًا. وغيرهم ليس لهم اتضاع بل عدِموه بحياة الاعتداد بالذّات وفقر الكبرياء. وغيرهم ليس لهم سلام. وما أكثر مَن أعوزهم مجد الرب.
وها هي واقفة أمام ابنها، تَطلُب فتُجاب، وتسأل ولا يَرُد طلبتها. ورغم أنّ استعلان صليبه لم يكن قد حان بعد بحسب كلامه لها، إلاّ أنّه صنع الآية وأظهر مجده. ويا للعجب.. قد كان من الممكن أن يعطيهم ما يكفي، وما نقُص عنهم. ولكن قال: املأوا الأجران.. فملأوها إلى ما فوق.. إلى أقصى اتساعها بدون نقص، 36 صفيحة ماء.. ما هذا الفيض؟!
ألا نَذكُر ما قاله فيلبس من جهة الخمسة الآلاف إنّه لا يكفيهم بمئتيّ دينار خبز لكي يأخذ كلّ واحد منهم شيئًا يسيرًا. غِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى يتعارض تمامًا مع الشُّحّ والقِلّة، فهو حين يُعطي بسخائه الإلهي.. «فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً» (لو9: 17). لذلك فاض سخاؤه الإلهيّ للارتواء والشبع وسدّ الإعواز للغنى والفيض. وبالطبع الأمر الجوهري لا يخصّ الخيرات الزمنية ولكن غِنى المسيح أبديّ يخُصّ بالدرجة الأولى الحياة الأبدية.
+ ألم يُصلِّ أيوب لأجل أصحابه لكي يرفع الربّ عنهم غضبه. لأنّ الرب قال: «قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ» (أي42: 7). فهم إن كانوا يظنون أنهم يدافعون عن الله وأحكامه وعدله، لكنّهم لم ينالوا الرضى لأنّ حياتهم لم تكن على مستوى التقوى والعشرة الحقيقيّة، بل كلام في كلام. فأمرهم أن يأخذوا «سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَاذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ".
هذه هي معاملات الله نحو قدّيسيه.. ومختاريه في كلّ الأجيال. لقد بدا أنّ أيّوب يجترئ في الكلام، وظنّوه يتجاوز الحدود في الحديث. ولكنّ تَقواه وصِلته العميقة مع الله كانت تشفع له، فلم يحسِب الرب عليه ما تفوّه به، بل عاتبه وكشف له المستُورات، ورَدّه إلى اتضاعه. وقال للرب: «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أي42: 5، 6).
هذه الدالة التي للقدّيسين قد ظهرت بأجلى بيان في نهاية سفر أيّوب. ولولا صلاة أيّوب من أجل أصحابه لنزل بهم غضب الله. فِعلاً طلبة البار تقتدر كثيرًا في فِعلها.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
30 سبتمبر 2021
عيد الصليب المجيد فى كنيستنا القبطية الأرثوذكسية
١٠ برمهات = ١٩ مارس
١٧ توت = ٢٧ ســــــــبتمبر
كل عام وجميعنا بخير متمتعين ببركات الصليب
وضعت لك هنا عزيزى القارئ مجموعتين من صور مأخوذة من كتاب الصليب صنع فى مصر :
المجموعة الأولى تتكلم عن الصليب كأداة تعذيب منذ أقدم العصور
والمجموعة الثانية عن رموز الصليب فى العهد القديم
والكتاب تأليف الدكتور / فليمون كامل مسيحة
غلاطية ١٤:٦ وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ.
1 كورنثوس ٢٣:١ وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!
1 كورنثوس ٢:٢ لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا.
لقد شهدت الجلجثة ثلاثة صلبان انتصبت متجاورة، وعلى كل منهم مات شخص متألمًا إثنان منهم من أجل جرائمهم، والثالث من أجلي أنا فهل يمكن أن تقول : مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في (غلا٢٠:٢) وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل فالشهيد في المسيحية هو من سفك دمه على مثال المسيح شهادة لقيامته أما الذين اعترفوا أمام السلطات الحاكمة، وعذبوا وتألموا من أجل المسيح، وظلوا أحياء أطلق عليهم اسم معترفون
كما أطلق اسم شهيد أيضًا على النساك في البراري الذين اماتوا ذواتهم من اجل المسيح كما وصف القديس البابا اثناسيوس أبيه القديس أنطونيوس وقال فبنسكه وأماتته لِذاتهِ صار الأنبا أنطونيوس شهيدًا شاهدًا لآلام المسيح فالشهيد هو الذي يشهد للحق الذي اختبره، وعرفه، وسمعه، ويُفضل الموت ولا يُنكر مسيحه، ويقول لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح (في٢١:١؛٢٧) بركة عيد الصليب تشمل بيوتنا وكنائسنا
القمص مكاريوس ساويرس كاهن كنيسة القديسين مارجرجس والانبا شنودة رئيس المتوحدين برجن جيرسى ستى الولايات المتحدة الامريكية
المزيد
29 سبتمبر 2021
الصليب قمة الحب والبذل
السيد المسيح والألم والفداء
تنبأ اشعياء النبى قبل ما يقرب من سبعمائة عام من ميلاد السيد المسيح عن الآم السيد المسيح رجل الاوجاع ومختبر الحزن قائلاً { محتقر ومخذول من الناس رجل اوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به. لكن احزاننا حملها واوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا. وهو مجروح لاجل معاصينا مسحوق لاجل اثامنا تاديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد الى طريقه والرب وضع عليه اثم جميعنا} (أش 4:53-6). وربما من هنا جاء المثل العبرى ( ليس قلب كامل مثل القلب المنكسر). لقد عانى الرب الاله المتجسد عندما أتى الى ارض الشقاء من الجوع والألم والاحزان، الاستهزاء والاتهامات الباطلة والظلم، وخيانة وتباعد الاصدقاء والاتباع لاسيما وقت الصلب ، عانى السيد المسيح الظلم أمام محاكمات غير عادلة مع تهجم العامة وحسد رجال الدين والسياسة، رغم انه لم يفعل شر ولم يوجد فى فمه غش بل كان يجول يصنع خيراً ويشفى الامراض، ويخرج الشياطين من الذين تسلط عليهم أبليس ويشبع الجياع ويواسي المحزونين . أخيراً قدمت له البشرية مرارة الصليب وفى وقت عطشه سقوه خلاً ممزوجا بمر. شرب القدوس كأس الألم حتى الثمالة ليوفى العدل الإلهى حقه بقبول الموت عن البشرية الساقطة فى كل زمان ومكان. وقدم لنا الخلاص الثمين من أجل تبرير الخطاة التائبين .
قِيل ان الزعيم الهندوسى غاندى وقف أمام صورة المسيح المصلوب وتأثر وبكى، وقِيل ان أخر عندما سمع قصة الفداء والصليب، قال ان لم يكن المسيح الها فبقبوله الصلب والفداء فى شجاعة وبغفران لصالبيه لصار الهاً. لقد كان الصليب اداة عقاب لكبار المجرمين والخونة فى الامم فى الامبراطورية الرومانية وفى التقليد العبرى كان الصليب عقاب ولعنه، { المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة }(غل 3 : 13). وقد ارتضى الرب بحكم الصلب وحمل خطايانا، من أجل السرور الموضوع أمامه ليخلص البشرية. وبصلبه أصبح الصليب والمصلوب فرح وفخر المسيحييين لانه صار رمزاً وعلماً للخلاص والمحبة والبذل والتواضع الذى قدمه الرب المتجسد من أجل غفران خطايانا. بل حتى بعد القيامة المجيده كان الفداء جزء من البشرى بالمسيح القائم {فاجاب الملاك وقال للمراتين لا تخافا انتما فاني اعلم انكما تطلبان يسوع المصلوب.ليس هو ههنا لانه قام كما قال} (مت 5:28-6). وهذا ما دعا القديس بولس يربط بين القيامة وشركة الآلام مع المسيح { لاعرفه وقوة قيامته وشركة الامه متشبها بموته }(في 3 : 10). وفى السماء راه يوحنا الحبيب فى الرؤيا { خروف قائم كانه مذبوح } (رؤ 5 : 6). ولعل هذا ما جعل الملائكة والقديسين فى السماء يتهللون قائلين { وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين مستحق انت ان تاخذ السفر وتفتح ختومه لانك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وامة}
(رؤ 5 : 9).
لقد حمل السيد المسيح خطايانا وأحزاننا والآمنا حتى جاء عنه { أوجاعنا حملها واحزاننا تحملها} أش 4:53. وقال السيد الرب ليلة الجمعة العظيمة { نفسي حزينة جدا حتى الموت امكثوا ههنا واسهروا معي} (مت 26 : 38). ولم يستخدم الرب لاهوته ليخفف كأس الألم عن بشريته وكانسان كامل أحتمل الآلام ورايناه يبكى على أورشليم { وفيما هو يقترب نظر الى المدينة وبكى عليها. قائلا انك لو علمت انت ايضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الان قد اخفي عن عينيك. فانه ستاتي ايام ويحيط بك اعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرا على حجر لانك لم تعرفي زمان افتقادك} (لو 41:19-44). وبكى حزنا مع مريم ومرثا فى موت لعازر وأقامة بعد ان أنتن فى القبر ليبث فى قلوبنا الثقة فى قيامته بعد الصلب كما أخبرتلاميذه وكما قال لنا انه القيامة والحياة ومن يؤمن به سيقوم معه فى اليوم الاخير. ان المسيح حمل الله الحامل خطايا العالم. يبكى مجدداً ليس على أورشليم فحسب بل عندما ينظر الى العالم الذى يمتلئ بالغرور والشرور، وبالظلم والكراهية والحروب، والفقر والمرض والاساءة الى المقدسات، ومن اجل خطايا العالم المستمرة والمتجددة ويريد لنا ان نعرف ما هو لسلامنا ونرجع اليه فى توبة صادقة وإيمان واثق ومحبة كاملة لنجد النجاة من الطوفان القادم والغضب الأتى قبل ان تضيع فرصة النجاة والرجوع الى الله . فهل ننتهز الفرصة المقدمة لنا أم تسير البشرية الى حافة الهاوية والهلاك.
أهمية الآم السيد المسيح والتأمل فيها..
الآم السيد المسيح والحب ..لقد كان الحب الإلهى للبشرية الساقطة وسعي الله الى خلاصها وفدائها هو سبب تجسد السيد المسيح أقنوم اللوغوس، كلمة الله المتجسد. ولولا هذه المحبة الفائقة فى فكر الله الأبوى نحونا لما استطاع لا بيلاطس ولا السلطات الدينية اليهودية وحسدها ولا العالم كله ان يقدر ان يصلب الرب وهو القائل { ليس احد ياخذها مني بل اضعها انا من ذاتي لي سلطان ان اضعها ولي سلطان ان اخذها ايضا } (يو 10 : 18) وكما قال السيد الرب لبيلاطس {فقال له بيلاطس اما تكلمني الست تعلم ان لي سلطانا ان اصلبك وسلطانا ان اطلقك. اجاب يسوع لم يكن لك علي سلطان البتة لو لم تكن قد اعطيت من فوق لذلك الذي اسلمني اليك له خطية اعظم }(يو19 :11). انها المحبة التى كانت فى فكر الآب السماوى والمقدمة لنا خلاصنا فى ابنه الوحيد { وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي ان يرفع ابن الانسان. لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية. لانه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية.لانه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم.الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لانه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد}(يو 14:3-18) ان هذا الحب الإلهى يجب ان يقابل منا بكل محبة واخلاص وشكر {نحن نحبه لانه هو احبنا اولا} (1يو 4 :19).
الألم والسرور .. تقدم الرب يسوع المسيح الى الصليب واحتمل الألم فى بذل وفرح من أجل خلاصنا { ناظرين الى رئيس الايمان ومكمله يسوع الذي من اجل السرور الموضوع امامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله} (عب 12 : 2). ولكى ما يكمل فرحنا فى المسيح يسوع قدم لنا الفداء والخلاص والتبرير والتقديس كما قال للآب القدوس فى الليلة الاخيرة قبل الصلب { ولست انا بعد في العالم واما هؤلاء فهم في العالم وانا اتي اليك ايها الاب القدوس احفظهم في اسمك الذين اعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن. حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك الذين اعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم احد الا ابن الهلاك ليتم الكتاب.اما الان فاني اتي اليك واتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملا فيهم} (يو 11:17-13). لم يكن الرب يسوع المسيح يستعذب الالم ولا يرضى بالظلم ولكن شر الاشرار وظلمهم وحسدهم وكراهيتهم للبار دفعهم الى صلبه، وقد قبل هو بارادته ان يحتمل الآم الجلد والصلب، ليتمم لنا الخلاص ويفى العدل الالهى حقه كاملاً . لقد استوجبت البشرية حكم الموت بتعدى آدم { لانه كما في ادم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع }(1كو 15 : 22). ولما كنا غير قادرين على خلاص أنفسنا فقد جاءت لنا رحمة الله ومحبته متجسدة وصارت ذبيحة محرقة وخطية وأثم من اجل خلاصنا { يوقده الكاهن على المذبح فوق الحطب الذي على النار انه محرقة وقود رائحة سرور للرب }(لا 1 : 17).
لقد بين لنا السيد المسيح عظم محبته باحتماله كل ذلك الآلام من اجل خلاصنا وأستعلنت لنا المحبة الكاملة بالبذل والعطاء حتى الموت، موت الصليب { ان إبن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدمَ ، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين} (مر45:10). ان قوة الصليب تظهر فى الصبر والاحتمال مع الحب والبذل . فليس القوى من يمسك سيفاً او سلاحاً ليقطع الرقاب أو يقتل الابرياء بل القوى هو الذى يحب ويصفح وما أجمل النبل والصفح عند المقدرة ولاسيما عندما يأتى من رب القدرة والغلبة. لقد كتبوا فوق الصليب {وكتب بيلاطس عنوانا ووضعه على الصليب وكان مكتوبا يسوع الناصري ملك اليهود}(يو 19 :19). وكان يجب ان يكتبوا عليه " البذل والحب المقدم لخلاص العالم". من اجل هذا نقول مع القديس بولس الرسول { واما من جهتي فحاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وانا للعالم }(غل 6 : 14).ان كان الصليب عن البعض عثرة او جهالة أما لدينا نحن المؤمنين به فهى قوة الله {فان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة واما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله} (1كو 1 : 18).
دروس من الآم السيد المسيح وصلبه ...
لقد قدم لنا السيد المسيح مثالاً لكى ما نتبع خطواته . قدم اروع مثال للصمود وقت الشدة والآلم والصبر فى التجربة . وقدم نموذج فريدا للمغفرة للمسيئين والصفح عن الخطاة {فقال يسوع يا ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون }(لو 23 : 34). على الصليب سعى الرب لتقديم الخلاص للعالم كله وبين محبته لكل نفس حتى اللص اليمين عندما قال له أذكرنى يارب متى جئت فى ملكوتك { فقال له يسوع الحق اقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس} (لو 23 : 43). واهتم السيد المسيح بخاصته لاسيما القديسة مريم وعهد برعايتها الى تلميذه الحبيب يوحنا الانجيلى . على الصليب راينا السيد المسيح يكمل لنا الخلاص والفداء ويقدم لنا محبةً كاملةً وتواضعاً فريداً وأخلاء للذات ومصالحة مع الآب { وان يصالح به الكل لنفسه عاملا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الارض ام ما في السماوات (كو 1 : 20). وعلى الصليب قدم لنا أنتصاراً على الشيطان وكل قواته { اذ جرد الرياسات والسلاطين اشهرهم جهارا ظافرا بهم فيه} (كو 2 : 15).قدم الرب على الصليب صبراً كاملاً وفداءاً شلاملاً لعل ذلك يكون دافعاً لنا للعرفان بالجميل .
اننا اذ نشكر الرب الاله الذى تجسد وصلب وقام، فاننا نفتخر بالصليب والقدوس المصلوب عليه ونتعلم منه ان نبذل ذواتنا كذبيحة حب من أجل الأخرين محبة فى من أحبنا . وان لم نستطيع ان نحمل خطاياهم كما فعل الرب فعلى الاقل ان نحتملهم ونلتمس لهم الاعزار ونستر عليهم ولا نشهر بهم.
ننظر الى صليب الرب يسوع المسيح ونتعزى ونحتمل كل الآم الحياة بفرح وشكر، فما هى الآمنا اذ ما قيست بالآم السيد المسيح، لقد أصبح الالم هبة للمؤمنين {لانه قد وهب لكم لاجل المسيح لا ان تؤمنوا به فقط بل ايضا ان تتالموا لاجله }(في 1 : 29). وكما قال لنا الرب { طوبى للمطرودين من اجل البر لان لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم اذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من اجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لان اجركم عظيم في السماوات فانهم هكذا طردوا الانبياء الذين قبلكم} (مت 10:5-12). الالم مدرسة للصلاة والعزاء والكمال ويجب علينا ان لا نتذمر من الضيقة لكى لا نفقد بركاتها بل نصلى ان يرفعها الله ان اراد ومتى يريد وان يعطينا الصبر والتعزية والرجاء ان شاء ان نشرب كأس الآلام مشتركين معه فى الآمه لنقوم معه فى جدة الحياة.
مع المسيح المحب الباذل مفرح القلوب يجب علينا ان نشترك فى اراحة المتعبين وتعزية المتألمين ونساهم بايجابية فى تخفيف الآلم البشرية ولاسيما المحيطين بنا وعلى قدر استطاعتنا. علينا ان نزرع بذور الإيمان والصلاة لكي ينميها الله وتثمر فى القلوب . علينا ان نفتح باباً للرجاء للبائسين والمحرومين والمحتاجين والضعفاء ولكل نفس ليس لها معين .
ان التوبة والرجوع الى الله هى التى تفرح الله وملائكته وقديسيه {اقول لكم انه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب اكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون الى توبة }(لو 15 : 7). التوبة الحقيقية هى التى تروى عطش السيد المسيح لان الخطية تضيف قطرات فى كأس الآم الفادى. فلنرجع اليه ولا نجرح قلبه المحب ببعدنا عنه وخطايانا { فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تاتي اوقات الفرج من وجه الرب} (اع 3 : 19). ولنشكر المسيح مخلصنا الذى جاء وتألم عنا لكى بالأمه يخلصنا. ونمجده ونرفع اسمه ونساله ان يصنع معنا رحمة كعظيم رحمته.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المزيد
28 سبتمبر 2021
الصليب والجمال الحقّ
لا نخاطب الأطفال بما قد يخيفهم وذلك في سنيهم الأولى لأنّ ما قد نزرعه رهبة يرسب في الوجدان ويشكل الوعي والحياة فيما بعد. إلاّ أنّه في الحياة الروحيّة تبدأ قامة الطفولة بإعلان الصليب شعارًا للحياة ولكنّه الصليب المتفجِّر بضياء القيامة.
لا تكرز المسيحيّة بصليب مجرّد، بصليب نهائي، بصليب ختامي للرواية الإلهيّة المدوّنة بأحبار الزمن البشري. الصليب في المسيحيّة في حالة تجلٍّ، لأنّ منه تقطر قطرات دمٍ هي هي واهبة للحياة. ليس موتًا صارمًا يختم العقيدة الفكريّة التي نعتنقها بأختام الألم ولكنّه حياة تجدّد معنى الموت برسمه بأقلام النور والفجر والضياء السرمدي. حينما نعانق الصليب ونُقبِّله، لا نُقبِّل موتنا بل حياتنا، وإن كنّا نَقْبَل مسيرة الموت إلى الحياة. حينما نرشم جباهنا وأجسادنا به لا نعلن خضوعنا للألم بل خضوعنا لله وإن كان عبر الألم. نحن لا نرى الصليب وحده، بقدر ما نتلمّس ببصائرنا الجديدة، المصلوب، كربّ الحياة وسيد الخليقة ومالك مفاتيح البرّ ودافع حركة الوجود إلى البهاء الدهري في مُلْكٍ مزركش بزينة الروح.
لقد دعا المسيح الكنيسة لتتبعه حاملة صليبها. يرى البعض أن ملمح الألم ونغمة الحزن هي السائدة على هذا النمط من التبعيّة، ولكن دعنا نتساءل، إلى أين سيقودنا؟؟ أليس إلى المجد.. إلى القيامة.. لذا فالتبعيّة ليسوع حاملين صليبه تعني أن نسير وراءه نحو المجد المُعدّ لقابلي خلاصه بالروح والحقّ. وهنا يظهر الوجه الآخر لعملة التبعيّة؛ فهي ليست آلام السائرين على الطريق ولكنّها ضمان الوصول إلى المجد طالما نتحرّك على آثار يسوعنا المحبوب. تلك الصورة نحو المجد وإن كان من خلال بعض أنّات الطريق تفسّر أنغام التهلُّل الصادر من الجمع المتحرّك نحو الأبديّة البَهِجَة. من أين يأتي التهلُّل لمن يرزحون تحت وطأة الصليب؟؟؟؟ إنه يأتي من التبعيّة للراعي الحقّ للقطعان الملكيّة. لذا فإن وجدت أن نغمات الحزن تغلف عالمك اعلم أنك لا تدرك وراء من تسير وإلى وجهة تتّجه. انحسارك في قسوة الصليب وطول الطريق يحرمك من تجدُّد قواك كنسرٍ محلِّق بحريّة الروح الداخليّة، في شباب وفتيّة دائمة..
الصليب لنا ليس جهالة ولكنّه يقين الواقع الجديد ووعي بآليات تحقُّه فينا. الصليب لنا شريعة خطّها الربّ يسوع بقبوله المُجدِّد لقبحه وللعنته؛ فخشبّة الصليب تحوّلت بارتفاع المصلوب عليها إلى عرش ملكي، هذا ما نراه؛ السيد مرتفعًا على عرشٍ من خشب يجدّد عليه واقع الإنسان المنهزم بجمالات الحياة زائفة. من هنا ننطلق في تكوين وعي جمالي مسيحي خاص؛ فالجمال في المسيحيّة ليس ذهبٍ وفضة وثياب ملكيّة وبهرجة إمبراطوريّة.. إلخ ولكن التجلِّي الحادث بسكنى الله وإن كان المسكن قبيح بدرجة الصليب ما قبل ارتفاع السيّد. الصليب بيسوع صار جمالاً. لقد استقطب ذاك الأبرع جمالاً من كلّ البشر أفئدة الخليقة لتترنّم للجمال المجروح من أجل حياة العالم.
أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد
27 سبتمبر 2021
الصليب في حياتنا
الصليب في حياتنا بمناسبة عيد الصليب، نذكر الكلمات الآتية:أول علاقة لنا بالصليب هي في المعمودية، حيث صُلِب إنساننا العتيق حتى لا نُستَعبَد بعد للخطية..والصليب قد حملته الكنيسة في حركة الاستشهاد وفي كل الاضطهادات التي لحقت بها على مر العصور.. والجميل في هذا الصليب أن الكنيسة قد حملته بفرح وصبر دون أن تشكو منه أو تتذمر.. تحول الصليب في حياة الكنيسة إلى شهوة تشتهيها وتسعى إليها. وكان إقبال المسيحيين على الموت يذهل الوثنيين، وكانوا يرون فيه الإيمان بالأبدية السعيدة، واحتقار الدنيا وكل ما فيها من ملاذ ومتع.. تحولت السجون إلى معابد، وكانت ترن فيها الألحان والتسابيح والصلوات من مسيحيين فرحين بالموت..وثالث مجال نحمل فيه الصليب هو الباب الضيق..فيه يضيّق الإنسان على نفسه من أجل الرب. يبعد عن العالم وكل شهواته. ومن أجل الله يزدرى بكل شيء. في سهر، في أصوام، في نسك، في ضبط النفس، في احتمالات لإساءات الآخرين.ويمكن أن يدخل في هذا المجال صليب التعب.. فيتعب الإنسان في الخدمة من أجل الرب. ويتعب في «صلب الجسد مع الأهواء» كما يقول الرسول: «ولكن الّذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ» (غلاطية 5: 24)، ويتعب في الجهاد وصلب الفكر، والانتصار على النفس، ويعلم في كل ذلك أنه ينال أجرته بحسب تعبه حسبما قال بولس الرسول (كورنثوس الأولى 3: 8).والمسيحية لا يمكن أن نفصلها إطلاقًا عن الصليب.. والسيد المسيح صارحنا بهذا الأمر، فقال: «في العالَمِ سيكونُ لكُمْ ضيقٌ» (يوحنا 16: 33)، وقال أيضًا: «وتكونونَ مُبغَضينَ مِنَ الجميعِ مِنْ أجلِ اسمي» (لوقا 21: 17).ونحن نفرح بالصليب ونرحب به، ونرى فيه قوتنا كما قال الرسول: «كلِمَةَ الصَّليبِ عِندَ الهالِكينَ جَهالَةٌ، وأمّا عِندَنا نَحنُ المُخَلَّصينَ فهي قوَّةُ اللهِ» (كورنثوس الأولى 1: 18).المسيحية بدون صليب، لا تكون مسيحية..وقد قال الرب: «إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني» (متى 16: 24)، بل قال أكثر من هذا: «ومَنْ لا يأخُذُ صَليبَهُ ويتبَعُني فلا يَستَحِقُّني. مَنْ وجَدَ حَياتَهُ يُضيعُها، ومَنْ أضاعَ حَياتَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها» (متى 10: 38، 39).والصليب قد يكون من الداخل ومن الخارج..من الداخل كما يقول الرسول: «مع المَسيحِ صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المَسيحُ يَحيا فيَّ» (غلاطية 2: 20). إنكار الذات إذًا (لا أنا)، هو صليب، وقليلون هم الذين ينجحون في حمل هذا الصليب..أما الصليب الخارجي، فهو كل ضيقة يتحمّلها المؤمن من أجل الرب، سواء بإرادته أو على الرغم منه. وعن هذا قال السيد الرب «في العالَمِ سيكونُ لكُمْ ضيقٌ» (يوحنا 16: 33)، وقيل أيضًا: «كثيرة هي أحزان الصديقين» (مزمور 34: 19)، وقيل كذلك: «بضيقاتٍ كثيرَةٍ يَنبَغي أنْ نَدخُلَ ملكوتَ اللهِ» (أعمال 14: 22).ولكن هذا الصليب – في كل أحزانه وضيقاته – هو موضع افتخارنا وأيضًا موضع فرحنا. وفي هذا يقول الرسول: «وأمّا مِنْ جِهَتي، فحاشا لي أنْ أفتخِرَ إلّا بصَليبِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ، الّذي بهِ قد صُلِبَ العالَمُ لي وأنا للعالَمِ» (غلاطية 6: 14)، كما يقول أيضًا: «لذلكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ والشَّتائمِ والضَّروراتِ والِاضطِهاداتِ والضّيقاتِ لأجلِ المَسيحِ. لأنّي حينَما أنا ضَعيفٌ فحينَئذٍ أنا قَويٌّ» (كورنثوس الثانية 12: 10). كما ينصحنا معلمنا يعقوب الرسول قائلا «اِحسِبوهُ كُلَّ فرَحٍ يا إخوَتي حينَما تقَعونَ في تجارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عالِمينَ أنَّ امتِحانَ إيمانِكُمْ يُنشِئُ صَبرًا» (يعقوب 1: 2، 3).من محبة الكنيسة للصليب جعلته شعارًا لها..وكانت الكنيسة تعلم أولادها محبة الألم من أجل الرب، وتغرس في فكرهم قول الكتاب «إنْ تألَّمتُمْ مِنْ أجلِ البِرِّ، فطوباكُمْ» (بطرس الأولى 3: 14)، بل أن الألم اعتبرته المسيحية هبة من الله، وفي ذلك قال الكتاب: «لأنَّهُ قد وُهِبَ لكُمْ لأجلِ المَسيحِ لا أنْ تؤمِنوا بهِ فقط، بل أيضًا أنْ تتألَّموا لأجلِهِ» (فيلبي 1: 29).وفى الألم، وفى حمل الصليب، لا يترك الله أولاده، فإن قال المزمور: «كثيرة هي أحزان الصديقين»، إنما يقول بعدها: «ومن جميعها ينجيهم الرب» (مزمور 34: 19)، كما يقول أيضًا: «الرب لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين» (مزمور 125: 3).احمل صليبك.. كن مصلوبًا لا صالِبًاإن كنتَ مصلوبًا، فاضمن أن الله سيكون معك ويرد لك حقك كاملًا، إن لم يكن هنا ففي السماء. أمّا إن كنتَ صالبًا لغيرك، فثق أن الله سيقف ضدك حتى يأخذ حق غيرك منك ويعاقبك.إن كنت صالِبًا لغيرك، اعرف أن فيك عنصر الشر والاعتداء والعنف، وكلها أنواع من الظلم لا تتفق مع البر الواجب عليك، ولا حتى مع المثالية الإنسانية التي يتطلبها العلمانيون..أمّا إن كنتَ مصلوبًا وبخاصة من أجل الحق ومن أجل الإيمان، فاعرف أن كل ألم تقاسيه هو محسوب عند الله، له إكليله في السماء وبركته على الأرض.وثق أن السماء كلها معك: الله والملائكة والقديسون..إن كل الذين تبعوا الحق، تحمّلوا من أجله. وكل الذين تمسكوا بالإيمان، دفعوا ثمن إيمانهم..إن العنف يستطيعه أي أحد ولكنه لا يدلّ على مثالية، والظلم سهل بإمكان أي أحد، ولكن لا يوجد دين يوافق عليه..لذلك احتفظ بمثالياتك وخلقك واحمل صليبك، والباطل الذي يحاربك لن يدوم إلى الأبد..إن السيد المسيح الذي ذاق مرارة الألم واحتمل الصلب، قادر أن يعين المتألمين والمصلوبين في كل زمان وفي كل موضع. لذلك ضع أمامك صورة المسيح المصلوب تجد تعزية، وثق أن بعد الجلجثة توجد أمجاد القيامة...
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
26 سبتمبر 2021
دور الكنيسة في الاستعداد للاستشهاد
كان دور الكنيسة الأساسي الذي قامت به أثناء الاضطهادات المُريعة التي صادفتها خلال الثلاثة قرون الأُولى، هو إعداد أبنائها لاجتياز تلك الاضطهادات التي كانت في عهد الأباطرة المُضطهدين:-
(1) نيرون سنة 64 م.
(2) دوميتيان سنة 81 م.
(3) تراجان سنة 106 م.
(4) أوريليوس سنة 161 م.
(5) ساويرُس سنة 193 م.
(6) مكسيميانوس سنة 235 م.
(7) ديسيوس سنة 250 م.
(8) ڤالريان سنة 257 م.
(9) أورليان سنة 274 م.
(10) دقلديانوس سنة 303 م. لكنه سالم الكنيسة منذ تَوَلِّيه سنة 284 م. حتى سنة 303 م.ومن إحصائية قام بها بعض المؤرخين للسنوات التي عاشتها الكنيسة تحت الحرمان والاضطهاد، تبيَّن ما يأتي:-
القرن الأول سِت سنوات اضطهاد ، مُقابِل 28 سنة تسامُح.
القرن الثاني 86 سنة اضطهاد، مُقابِل 14 سنة تسامُح.
القرن الثالِث 24 سنة اضطهاد، مُقابِل 76 سنة تسامُح.
القرن الرابِع 10 سنوات اضطهاد ، حتى صدور مرسوم ميلان.
فالكنيسة عاشت تحت الحرمان والاضطهاد والمُطاردة ابتداءً من عصر نيرون سنة 64 م إلى سنة 313 م، حتى مرسوم ميلان السلامي الذي أصدره قسطنطين الكبير... ومع أنَّ الاضطهادات لم تكن بدرجة واحدة في العُنف، إلاَّ أنَّ الكنيسة من سنة 249 م حتى تملَّك قسطنطين الكبير ذاقت اضطهادات ومُطاردات ومذابِح عظيمة.وكانت الأجيال المُتلاحِقة تُدرِك تمامًا أنها تعيش تحت خطر الاستشهاد الذي ينبغي الاستعداد له... فكان هذا واجب الأساقفة وقادة الكنيسة من إكليروس وعلمانيين.فكانت تُلقِن أولادها إنهم مُجاهدون لأنَّ حياة المُجاهِد تستوجِب التدريب على النُسك والجهاد ويذكُر التاريخ والتقليد الكنسي أنَّ هناك شُهداء لم يكونوا مُستعدين ولا مُدربين لذلك عجزوا عن الشهادة، وكذلك نجد أنَّ القديس كبريانوس الأسقف والشهيد سنة 249 م يُؤكد على حمل سلاح الله.. فصار تدريب الكنيسة الروحي المُستمر هو الاستعداد للموت وتصفية النَّفْس.وتكلَّم أيضًا العلاَّمة ترتليان عن مبدأ الاستعداد بقوله: يجب أن تجعل النفس تألف السجن وتُمارِس الجوع والعطش وتقبل الحرمان من الطعام حتى يمكن للمسيحي أن يدخل السجن، بنفس الكيفية كما لو كان خارجًا منهُ حالًا، فيصير تعذيب العالم لنا ممارسة عادية... فلنمضي للجهاد بكل ثقة دون جزع كاذِب، وليصير الجسد مُدرع بسلاح فيوجد يابسًا. لذلك نقرأ في سيرِة الشهيد يوحنا الهرقلي أنه عاش كيوحنا المعمدان بتولًا، والشهيد أنبا إيسي من صعيد مصر الذي فضَّل البتولية وحذا حذو أُخته تكلة.
القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
25 سبتمبر 2021
أُدَرِّبُ نَفْسِي
يقول القديس يعقوب الرسول في رسالته: «إنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ» (3: 7) وذلك عندما تكلّم عن اللسان وكيف أنّه لا يقدر «أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ».
فإن كان الأمر كذلك مع طباع الخلائق غير الناطقة فكيف يستقيم الأمر مع الإنسان الذي يفوق ويتفوق على الخليقة؟ والمتأمِّل يرى فعلاً أنّ الإنسان صاحب السلطان على الخليقة، قد أَخضَعَ ودرّب وذلّل طباع الوحوش والطيور وخلافه.. وبالتدريب والتمرين طوّع الطباع المتوحشة وصيّرها تخضع وتطيع.
والذي نراه في هذا المجال في العالم كلّه يفوق حدّ التصوُّر، ويصل بالإنسان إلى العجب والدهشة كيف يكون هذا؟! فأنت ترى في السيرك كيف تدرّبت الأسود والنمور والأفيال وهي تقوم بالعروض المُذهِلة التي تخالف طباعها الشرسة والمفترسة.. كيف صارت مُستأنسة هكذا؟ وأيضًا في عالم البحار والكائنات البحريّة كيف طوّع الإنسان هذه الكائنات وأصبحت تقدِّم عروضًا وألعابًا غايّة في الإعجاز.
هذا ما كتبه القديس يعقوب، وهذا ما نراه ونسمعه حولنا كلّ يوم وفي كلّ مكان.
+ نعود إذن إلى الطّبع البشري، وما هو مزروع فينا من غرائز في جسم بشريتنا، وما تربّى فينا من عادات وطباع، منها ما هو موروث، وما هو مكتَسَب من التعليم في المدارس، ومن أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده. ونقول إنّ كثيرًا من هذه الطباع يخصّ الطبيعة البشرية والساقطة، والذي نُعَبِّر عنه بإنساننا العتيق. فطباع مثل: الطمع والعنف والغضب والمراوغة والخبث وحُبّ الذات والشراسة وعدم النزاهة وحُبّ الانتقام والتَشَفِّي. وباقى الطباع الرديّة التي يصعب حصرها.
والسؤال: هل هذه الطباع ممكن أن تتغيّر، وهل ممكن أن تُذلَّل. وهل من وسيلة لتدريبها؟
+ والحقيقة الإيمانية أنّنا حصلنا بالنعمة على الخليقة الجديدة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2كو5: 17).. وهذه الخليقة والإنسان الجديد ليست فكرًا ولكن فعل ولادة «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23) والإنسان الجديد المولود من الله، قال عنه القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ (زرع الله) يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ» (1يو3: 9).
وهذه الطبيعة الجديدة والميلاد الثاني والخليقة الجديدة لإنساننا الداخلي، بها صرنا أولاد الله. فالآن نُدرِك أنّنا بإنساننا الجديد، وخِلقتنا التي نلناها بالنعمة، وتجديد الروح القدس بولادتنا من الماء والروح، صرنا مخلوقين ثانية على شبه المسيح ومثاله كرأس الخليقة الجديدة. وأنّنا بحسب الجسد ورثنا الطبيعة البشرية بكلّ قصورها وعيوبها. وأصبح الأمر بالنسبة لنا واضحًا غاية الوضوح.. وهو إمّا أن يسلك الإنسان بروحه ووعيه المسيحي ويعيش بحسب الروح ويثمر لله ثمر الروح، أو أن يسلك بحسب طبيعته البشرية، ويحيا بالجسد وللجسد وبحسب مفاهيم العالم «إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13)، «مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غل6: 8). «وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ... » (غل5: 19–21)، «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غل5 :21، 22).
والصراع إذن قائم بين كياننا وإنساننا الجديد وطبيعة جسدنا العتيقة. والإنسان الروحي مدعو أن يعيش بالروح ويسلك بالروح.. وعليه إذن أن يدرّب نفسه ويُخضِع جسده بتداريب روحية. وكما قلنا سابقًا إن كانت طباع الوحوش تُذلَّل فبالأولى يستطيع الإنسان بالنعمة أن يُدرِّب نفسه ويُقمِع شهواته ويضبط غرائزه، بل يستأسرها لعمل الخير والفضيلة والبذل والحبّ، ويستعمل جسده كآلات بر وصلاح.
على أنّنا نرى هذه الوحوش الكاسرة قد أُخضعت بالتدريب المتواصل والمستمرّ وبدون هوادة أو مهادنة.. وإلاّ إذا ما غُفِل عن تدريبها عادت إلى طبعها الأول. فالحال إذن أنّ الطباع التي للوحوش لم تمُتْ ولكنها تدرّبت لتكون على شكل أفضل، وقد اختفى منها ما هو وحشي ومخيف.
قال أحد الآباء في هذا المجال -وهو يحيا حياة النسك الكثير والصوم المتواصل- : «نحن غير قاتلين أجسادنا بل قاتلون شهواتنا». فالأمر إذن يكمن في المواظبة بدون اهمال لتدريب النفس وتهذيبها لتخضع للروح، وتتعلّم الخضوع والطاعة فيما تتدرّب عليه. وأي غفلة أو اهمال في التدريب سرعان ما تُظهِر قُبح الطبائع القديمة، حتى لو كانت قد أُخضِعَت لسنين. «الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ» (غل5: 7).
+ الإنسان الطبيعي بدون المسيح خاضع عنوة لناموس الجسد ومستعبد، حتى إذا أراد أن يفعل الخير يجد الشرّ ماثلاً أمامه، ويجد نفسه مغلوبًا على أمره ويقول: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟» (رو7: 24).
أمّا في المسيح، فقد خُلِقَ فينا ناموس روح الحياة في المسيح، وصار فينا روح الله يرشدنا ويهدينا إلى جميع الحق «وهُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 13). هذا الناموس الإلهي يُثمر فينا ثمر الحياة الأبدية. فعمل النعمة يغلب كلّ عوار الطبيعة، ويداوي جراحاتها، ويجعل الإنسان يحيا حياة القيامة والنصرة والشكر للذي أعطانا الغلبة.
+ أمّا من جهة التدريب، فهو يلذّ لأولاد الله أن يُميتوا أعضائهم التي على الأرض ويقولوا مع الرسول: «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27) وأُدرب نفسي كلّ يوم لكي يكون لي ضمير صالح. وقد أتقن الآباء القديسون في كلّ عصور الكنيسة فنون التأديب، عندما كبرت أرواحهم المؤازَرة بنعمة الروح القدس، وسيطرت على الحياة برمّتها في الكلام والصمت معًا، والتصرُّف والسلوك في المعاملات مع الناس، في أعمال المحبّة والاتضاع، وكلّ الفضائل المسيحية.
وبالصلاة المستديمة، وتهذيب النفس بالصوم، وأعمال التوبة في الحزن على الخطايا وتبكيت النفس حتى على الهفوات، والتدريب على ضبط النفس وضبط العين واللسان وجميع الحواس.
وكان إذ اتقنوا التدريب، وواظبوا على السهر على خلاص النفس، أنْ تحلّتْ حياتهم بأجمل الفضائل، وظهروا كأنّهم أناس سماويّون، أو كأنّ طبيعتهم مختلفة وأخلاقهم وسلوكهم ليس من هذا العالم. والواقع أنّهم كانوا كسائر البشر ولكنهم اختلفوا جدًّا عندما أَخضعوا إنسانهم الخارجي لأرواحهم، فصاروا بالتداريب وعمل النعمة فعلاً مختلفين.
والحياة الروحية ليست قَصرًا على مَن سكنوا الجبال والبراري. ولا التداريب الروحية صارت وقفًا على النُسّاك، بل هي حياة المسيحي أينما وُجد، وفي أي ظروف يعيش. وكلّ واحدٍ على قدر طاقته.
وفي النهاية إذ يكون الإنسان قد تدرّب «أَنْ يكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا فِيهِ.. يعْرِفُ أَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ، فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّب أَنْ يشْبَعَ وَأَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ وَأَنْ ينْقُصَ» (في4: 11، 12)، يقدر بالنعمة أن يصرخ بصوت الغلبة: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).
أحتمي فيك واستتر بسترك.. اِجعل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيت إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
24 سبتمبر 2021
تأملات فى عيـد الصليـب
الصليب شعار المسيحية وقوتها..
الصليب هو شعار المسيحية وفخرها فهو رمز لمحبة الله الغافرة للبشر {لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.} (يو 16:3-17). وان كانت كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وعثرة فان الإيمان بالصليب والمصلوب عليه هو وسيلة الخلاص وهو يعلن قوة المسيح المصلوب ورحمته ومحبته وفدائه {فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ آللهِ} (1كو 1: 18). الصليب ليس حقيقة من حقائق الماضي لأن تأثيره الفعال يمتد في الحاضر والمستقبل، وطالما يوجد إنسان يعيش على الأرض. لأن الصليب مرتبط بالمصلوب عليه وهو حي في السماء يحمل سمات صليبه ويسكبها علينا كل يوم بل كل لحظة غفرانًا وتطهيرًا وقداسة وبرًا وفداء. وبالصليب رفع الله البشرية من دائرة العصيان إلى الصفح والمصالحة، ومن الرفض إلى القبول والاختيار، ومن العبودية إلى البنوة والحياة الأبدية.
الصليب تاريخيا كان وسيلة يعدم عليها كبار المجرمين حتى يظهر للناس مقدار خطيتهم أو خيانتهم. راينا ذلك فى الفكر القديم لدى المصريين عندما صلب عليه فرعون الخباز الخائن، وكان كذلك لدى الفرس عندما صلب عليه هامان الخائن فى قصر الملك. وكان الرومان يصلبوا عليه المتمردين من الأمم ليردعوا البقية حتى لا يقوموا بالثورة عليهم. وفى الثقافة اليهودية كان الصلب لعنة ولقد بين الله محبته لنا بتجسد ابنه يسوع المسيح ليفتدينا من الموت واللعنه ويحمل عقاب خطايانا ويموت عوضا عنا ويهبنا حياة أبدية { المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة }(غل 3 : 13). الصليب ليس حادثة عرضية فى حياة ربنا يسوع المسيح بل غاية، جاء وتجسد من أجلها، ومنهج شمل حياته كلها جاعلًا من الصليب الكأس المفضلة وطاعته العظمى للآب، وبرهان حبه الأبدي للإنسان، نقض السيد المسيح بالصليب ناموس الخطية وبَّرر الخطاة، وظفر على قوات الظلمة، وقتل العداوة، وجمع تحت لوائه شمل البعيدين والقريبين، كرعية مع القديسين وأهل بيت الله. وصار حمل الصليب من أجل يسوع المسيح المصلوب سعادة وقوة حب ومصدر راحة وسرور وافتخار، وكلما ازدادت الآلام من أجل شهادة يسوع ازدادت رؤية الصليب نورًا وازدادت الحياة قوة وعزاء، وارتفع الصليب من التاريخ لينغرس في أعماق الضمير ويشع لنا من الصليب نور القيامة ومجد المسيح القائم من الموت منتصرا على الشيطان والخطية والموت لنهتف بفرح: (السلام لك ايها الصليب).
عيد الصليب المقدس..
عيد الصليب المقدس هو عيد اكتشاف ورفع الصليب المقدس وتحتفل به سائر الكنائس كما تحتفل كنيستنا القبطية فى الأول في 17توت من كل عام الموافق 27سبتمبروذلك تذكار لاكتشاف الصليب المقدس الذى صلب عليه ربنا يسوع المسيح بواسطة الملكة هيلانه أم قسطنطين التى نذرت أن تمضى إلى القدس فأعد ابنها الملك كل شيء لإتمام هذه الزيارة المقدسة. ولما وصلت إلى أورشليم بحثت بتدقيق عن مكان الصليب فأشاروا عليها بتنظيف الجلجثة، فعثرت عليه وذلك في 326م. وبنت هناك كنيسة القيامة وما حولها وأحتفلت مع الاساقفة والكهنة والشعب برفع الصليب فى موضع الجلجثة. والاحتفال الثاني الذي تقيم فيه الكنيسة تذكار الصليب في اليوم العاشر من برمهات، ويرجع تاريخه الي ارجاع الصليب علي يد الإمبراطور هرقل فى628 م. عندما ذهب هيرقل واسترد خشبة الصليب التى اخذها الفرس من اورشليم فى 614م. وأعاد ذخيرة الصليب المقدس ودخل بها الي القسطنطينية التي استقبلت الموكب بأحتفال مهيب بالمصابيح وتراتيل النصر والإبتهاج. بعدها نقل الصليب إلى إورشليم سنة 631م. ويذكر التقليد أنّ الملك هرقل حمل الصليب على كتفه وسار به بحفاوة كبيرة بين الجموع المحتشدة إلى الجلجثة وهناك أحسّ الملك بقوة خفية تصده وتمنعه من دخول المكان فوقف الأسقف زكريا بطريرك أورشليم وقال للإمبراطور: (حذار أيها الملك أن هذه الملابس اللأمعة وما تشير اليه من مجد وعظمة تبعدك عن فقر المسيح يسوع ومذلة الصليب) وفي الحال خلع الملك ملابسه الفاخرة وارتدى ملابس بسيطة وتابع مسيره حافي القدمين حتى الجلجثة حيث رفع عود الصليب المكرم فسجد المؤمنون على الأرض، وهم يرنمون : لصليبك يارب نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد.
ويذكر أوسابيوس القيصري بأن الملك الروماني قسطنطين الكبير (324ـ 337) رأى علامة الصليب في السماء على مثال نور بهيئة الصليب مع مكتوب تحتها عبارة: (بهذه العلامة تغلب). ولقد شهد علي وجود خشبة الصليب المقدس في أورشليم القديس كيرلس الأورشليمي فى عظة له في سنة 347م. كما ذكرت المورخة ايجيريا الاسبانية في أخبار رحلاتها الى فلسطين بأن تذكار اكتشاف الصليب تعلق بعيد تكريس كنيسته وبأن العيد كان لمدة 7 ايام يجري خلالها تقديم الصليب المقدس لتسجد الناس له اكراماً وتشفعا.
الصليب في حياتنا...
يدعونا السيد المسيح الى أنكار الذات وحمل الصليب { وقال للجميع ان اراد احد ان ياتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني} (لو 9 : 23).أن نكران الذات يعنى تتميم مشيئة الله فى حياتنا ليكون لسان حالنا {لتكن لا إرادتي بل إرادتك} (لو24: 22). المؤمن يصلب شهواته من أجل الله كشهادة صادقة على تبعيته للمسيح يسوع ربنا ليقوم معه فى جدة الحياة ويقول مع القديس البولس الرسول { مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ} (غل20: 2). لقد مات المسيح عنا لكي نعيش من أجل وكشهود لمحبته { وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام} (2كو15: 5). ونحن في الصلاة الربانية نصلي : {لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض} (مت10: 6). فهل نحن نعيش لانفسنا أم من أجل من مات من أجلنا وقام ليقيمنا من موت الخطية ويحيينا حياة أبدية؟ وهل نصنع مشيئة الله في حياتنا؟.
حمل الصليب بشكر سواء صليب الخدمة أو المرض او الحاجة أو الاضطهاد أو الصوم والنسك أو الطاعة يدخل بنا الى أفراح القيامة ومسرة الله { ناظرين الى رئيس الايمان ومكمله يسوع الذي من اجل السرور الموضوع امامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله } (عب 12 : 2) عندما نحمل الصليب يحتضننا المصلوب فننفذ من خلال الصليب إلى أحشاء رأفاته، ونستشعر الآلام واقعة، ولكن ليست علينا بل يتلقاها المسيح عنا، وتحتضن أحشاؤه الحانية نفوسنا الخائرة لتحميها وتطمئنها، فتبدو الصورة في الظاهر أننا نحمل الصليب ولكن الحقيقة في الواقع أن الصليب يحملنا بل المصلوب يحمينا ويحتوينا. ونرى كفة الميزان الخفية التي توازن ثقل الصليب بثقل مجد أبدي، كما رآها القدس بولس الرسول قائلاً: {لان خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى. لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية} (2كو17: 4،18).
تحت ظلال الصليب
ايها الرب الاله الذى أحبنا وحبه خلاصنا من الموت بقوة التجسد والفداء على الصليب ، نشكرك على محبتك وخلاصك ونؤمن بابوتك وحنانك وفدائك المعلن لنا من خلال سر التجسد العجيب. ونعترف بقوة صليبك المعلنه لخلاصنا فيه وبه .ان كانت كلمة الصليب عثرة للبعض وجهالة للبعض الأخر، يرفضها الجهلاء غير عالمين عظمة المحبة المعلنه فى الصليب اذ يموت البار من أجل خلاص الأثمة معلنا حبه للبشرية يريد إن يحتضنها ويقدمنا قربانا لله ابيه . نعم بالصليب نؤمن وبالمصلوب ننادى وبه نهزم قوى الشر والشيطان والعالم. وبايماننا بالفداء سنصل للقيام من الخطية والضعف والحزن والفشل لنصل الى قوة القيامة .
انت يا سيدى تعلن على الصليب تواضعك ومحبتك وفدائك ، تعلمنا كيف يبذل الحب نفسه من أجل أحبائه، وكيف ننتصر على الذات والشهوات والشيطان فاعطانا يا سيد القوة لنقول للمسئيين الينا { يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون } علمنا يارب ان نجاهد ضد الخطية وان نحمل الصليب بشجاعة وفرح لنصل الى ملكوتك السماوى وتستعلن لنا قوة الصليب والفداء.
القمص أفرايم الانبا بيشوى
المزيد
23 سبتمبر 2021
عيد الصليب
تعيد الكنيسة بعيد الصليب على مناسبتين يوم 17 توت ويوم 10 برمهات. وإن كان الأخير هو يوم اكتشاف الصليب ولكن لأنه يقع في أيام الصوم الكبير فاتفقت الكنيسة أن يكون العيد الثاني هو ثاني يوم تدشين كنيسة القيامة وهو الموافق 17 توت.
وإن كان الصليب يأخذ قوته من عمل الفداء ولكنه أيضاً أداة الحب، وأداة الصلح، وهو العرش الذي صعد إليه الملك ليأخذ ملكوته، وهو المذبح الذي قدم رئيس الكهنة ذاته ذبيحة عليه.
ومن هنا جاءت قيمة الصليب في تاريخ البشرية وقد ظل مختفياً مدة كبيرة من الزمن حتى ملك قسطنطين بقوة الصليب الذي ظهر له، وكانت الملكة هيلانة التي لها اشتياقات قوية لبناء الكنائس وانتشار المسيحية في العالم كله، لذلك استخدمها السيد المسيح لاكتشاف خشبة الصليب فقد أرسل لها عن طريق رؤيا يخبرها أن تذهب إلى أورشليم لتبحث عن خشبة الصليب. وفي نفس الوقت كلم أسقف أورشليم الإمبراطور قسطنطين بأن الصليب الذي أعطاه قوة الانتصار مختفي ولا يعرف أحد أين هو. فجاءت الملكة هيلانة وكلمت ابنها في هذا الأمر وقد وجدت عنده نفس الطلب.
فذهبت ولم تعرف كيف تعثر عليه فأخذت تسأل عن مكان الجلجثة القديم فوصلت إلى شخص عجوز يهودي يعرف مكان الجلجثة وبعد أن ضيقت عليه بسلطانها حتى تكلم وأخبرها عن مكان الجلجثة. وقد كان الإمبراطور هادريان قد بنى عليه معبد وثني كما قلنا سابقاً. ثم عرفت أن الصليب مدفون في مزبلة بجانب الجلجثة فحفرت حتى وجدت ثلاثة صلبان ولم تعرف كيف تجد صليب المسيح من الثلاثة صلبان لأن واحد منهم للسيد المسيح والاثنين الآخرين للصين. فكانت هناك جنازة وميت محمول فوضعت الميت على الثلاثة خشبات وحين لمس الميت خشبة الصليب الحقيقي قام من الأموات فعرفت أن هذا هو صليب ربنا يسوع المسيح.
وقد ذكر الآباء هذه القصة في أكثر من مكان، فذكرها أيضاً القديس أمبروسيوس أسقف ميلان 395 م.، وذكرها أيضاً القديس يوحنا ذهبي الفم وقال: "منذ أن دفنت خشبة الصليب لم يوجد من يعتني بها بسبب الخوف المحيط بالمؤمنين واهتماماتهم بما هو أكثر ضرورة ولكن لم يكن مكانه مجهولاً".
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: "بعد مرور خمسة وعشرون عاماً على الصليب صار الصليب في العالم كله افتخار لكل الكنائس". ويقصد هنا قوة الصليب.
ويقول أيضاً: "لقد صلب المسيح حقاً ونحن لا يمكننا أن ننكر هذا لأننا مجتمعون الآن أمام خشبة الصليب".
وهذا يؤكد على أن أيامه كانت خشبة الصليب قائمة في أورشليم. وقد كان لخشبة الصليب قصة أخرى تاريخية هامة جداً. ففي القرن السابع، أثناء حكم الإمبراطور هرقل اجتاح الفرس بلدان الشرق ومنها أورشليم، وكان هناك أمير فارسي يكره المسيحية فدخل إلى كنيسة القيامة ورأى خشبة الصليب وكانت موضوعة في برواز فضة وعلى قاعدة من ذهب فحاول أن يمسك بخشبة الصليب فاحترقت يداه وكان واقف بالكنيسة شماس فقال له:
"لقد احترقت يداك لأنك غير مسيحي".
فقال له الأمير: "إذن احمله أنت وتعالى معي".
وأخذ الشماس والصليب وسافر إلى بلاد الفرس وأخفى الصليب وقتل الشماس.
وكان الجيش الفارسي قد سبي من أورشليم كهنة وعائلاتهم ومنها ابنة كاهن كانت عيناها معلقتان على الصليب ورأت ما حدث. وتمر السنوات ويعود هرقل وينتصر على الفرس، وأخذ الإمبراطور يبحث عن خشبة الصليب في كل مكان إلى أن جاءت إليه ابنة الكاهن التي كانت ترى الصليب وما فعله الشماس وقالت: "أن الأمير حفر في حديقة قصره وأخفى الصليب وقتل الشماس".
وفعلاً وجد هرقل الصليب وأعاده إلى القسطنطينية بإكرام كبير وعمل احتفالاً له في العاشر من برمهات أيضاً.
والذين لا يفهموا معنى الصليب ولا يعرفوا قوته وعمله يقولون لنا أنتم تعبدون أداة تعذيب إلهكم، كيف تكرمون آلات التعذيب؟ ولهؤلاء نقول لقد كان الصليب قبل المسيح أداة للتعذيب والموت والعقوبة ولكنه صار وسيلة خلاص العالم كله من إبليس وبه رفع حكم الموت، وأيضاً به تم عمل المصالحة بين الأرض والسماء، وبيننا وبين إلهنا المحبوب الذي اقتنانا إلهنا بدمه من خلاله وصرنا أحباء وأبناء.
وقد كان الصليب أقسي أنواع العقوبة قديماً لهذا قد صار أقوى صور الحب لأن مسيحنا احتمل أقسى أنواع العقوبة على الأرض لأجلنا. وقد اختار السيد المسيح الصليب لثلاثة أشياء
أولاً: كان الصليب في فكر العهد القديم هو لعنة
"وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المُعلق ملعون من اللـه" (تث 21: 22، 23)
وهو قد جاء ليحمل خطايانا ولعناتنا كما قال معلمنا بولس الرسول: "إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: "ملعون كل من علق على خشبة" (غلا 3: 13)، فهو قد جاء لكي يحمل خطايانا ويقدم ذاته عوضاً لنا.
ثانياً: ذبيحة الصليب هي الذبيحة الوحيدة التي يرى العالم كله من ينفذ هذا الحكم علناً ويرى الجميع أنه قد تم فيه حقاً حكم الموت. فهو حكم بالموت البطيء والذي يصلب يدفع ثمناً غالياً لأنه يموت بألم شديد. وهذا هو علامة الحب لأجلنا.
ثالثاً: الصليب معلق بين الأرض والسماء ليكون هو السلم الذي به يصعد الأرضين نحو السماء كما أن المصلوب أيضاً يفتح أحضانه إلى أن يموت. وهذه الصورة هي أقوى صورة للحب ذبيحة تفتح أحضانها وتقدم بين الأرض والسماء.
ولكن كان العهد القديم أيضاً يعطي إشارات بأن صورة الصليب هي صورة البركة أيضاً. فالصليب نفسه عقوبة اللعنة ولكن عمل الصليب هو البركة والقوة والمجد.
فنرى موسى النبي يقف يصلي ويفتح يديه مثل علامة الصليب في حرب الشعب مع عماليق وينتصر الشعب طالما صورة الصليب قائمة أمام اللـه وينهزم حينما يغيب الصليب.
وفي قصة ذبح اسحق نرى إبراهيم يضع حطب المحرقة على كتف ابنه ليحملها وهو صاعد ليقدمه ذبيحة كما حمل المسيح خشبة الصليب ليقدم ذاته ذبيحة.
وفي عبور الشعب من مصر إلى أرض الموعد ورمز الملكوت أرسل الرب ضربة موت الأبكار لم ينقذ الشعب إلا دم خروف الفصح ووضع الدم على العتبة العليا والقائمتين لتكون علامة الصليب هي علامة الخلاص والتي تنجي من الموت. وكان خروف الفصح نفسه يقدم على سيخين متعارضين أي على شكل صليب ويقول المزمور: "الرب قد ملك على خشبة" (مز 95)
وهي من النبوات العجيبة لأن في الفكر اليهودي عرش اللـه له صورة حسب رؤيا إشعياء وحزقيال بالمجد والكرامة والبهاء ولكنه يقول إنه يملك على خشبة. وقد تحققت هذه النبوة العجيبة بالصليب إذ ملك المسيح الإله المتجسد على خشبة الصليب، وصار ملكاً لكل النفوس التي أمنت واتحدت به.
ولعل هناك من يشكك في موت المسيح على الصليب. وكان أول هؤلاء الفلاسفة الغنوسيين الذين صاروا مسيحيين فهم حسب فلسفتهم السابقة للمسيحية كانوا يحتقرون المادة وعلموا بفكرهم أن المعرفة تخلص. فرفضوا التجسد الإلهي ورفضوا الخلاص بالصليب. فقالوا إن سمعان القيرواني حين حمل الصليب بدلاً من السيد المسيح في الطريق وضع اللـه شبه المسيح عليه فقادوه ليصلب بينما المسيح صعد إلى السماوات أي أن المصلوب شبه لهم به والذي وضع الشبه على سمعان القيرواني هو اللـه لينجي المسيح نفسه. ولا أدري كيف لإنسان عنده عقل أن يؤمن بهذا الفكر الساذج وكيف لأحد أن يقتنع بهذه القصة الهزلية للأسباب الآتية:
أولاً: الصليب نفسه هو عملية فداء من المسيح للبشرية كلها فكيف يقبل أن يصلب أخر نيابة عنه هو؟
ثانياً: أي شخص أخر يصلب بدلاً عنه تسقط فكرة الفداء والذبيحة الخلاصية وبالتالي سقط معها فكرة عمل اللـه لخلاص البشرية كلها بالتجسد ومعها أيضاً يكون كل التدبير الإلهي للخلاص بلا معنى والمسيحية نفسها بلا معنى.
ثالثاً: وماذا عن النبوات التي تقول بأنه هو المخلص وخاصة ما قاله إشعياء النبي: "إن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 53: 10)، والمزامير التي تتكلم عن الصلب مثل: "ثقبوا يدي ورجلي" (مز 22: 16)
رابعاً: ولماذا هذه القصة الغريبة؟ فإذا كان الهدف هو ألا يصلب المسيح فكان يمكن أن يصعد المسيح إلى السماء دون أن يضع شبهه على آخر يصلبه.
خامساً: وماذا عن كلمات المسيح عن نفسه أنه سيتألم ويصلب؟ وماذا عن قيامته؟ وماذا عن كلمات الرسل عن الصليب؟ وماذا عن المسيحية نفسها وقوة عمل المسيح فيها بالصليب؟
سادساً: وماذا عن التواتر والذين شهدوا بهذه القصة من اليهود والرومان قبل المسيحيين أنفسهم يقول مؤرخ روماني اسمه "تاسيثوس" عاش من عام (56 – 120 م.) في كتاب اسمه "الحوليات" عن حريق روما: "يقول نيرون أن المسيحيون هم المتسببون في حريق روما، والمسيحيون هؤلاء أخذوا الاسم من واحد حكم عليه بيلاطس بالموت صلباً".
ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر لأحداث الخلاص: "المسيح هو شخص حكم عليه بيلاطس البنطي بالصلب".
وفيلسوف أخر اسمه "لوسيان" من أشهر فلاسفة الوثنية عام 100 م.: "المسيحيون لا يزالون إلى الآن يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي صلب في فلسطين ويؤمنون أنه يدخلهم الجنة".
ويقول فيلسوف أبيقوري اسمه "كلسوس" وهو يتهكم على المسيحية عام 170 م. في كتابه "البحث عن الحقيقة": "أولئك صلبوا إلهكم".
وكُتب في أحد نصوص التلمود: "في ليلة عيد الفصح علق يسوع الناصري على الصليب".
ولدينا الآن الكفن المقدس الذي عكف مئات العلماء بالتقنية الحديثة ببحث دقيق ليخرجوا للعالم أسرار عملية الصليب والقيامة ليكون شاهداً في زماننا أمام هؤلاء المشككين والملحدين.
ونعود إلى أحضان كنيستنا ومسيحيتنا لنرى الرسل يخبرونا بقوة وعمل الصليب ويقول معلمنا بولس الرسول: "لكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة!" (1 كو 1: 23)، ويقول: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غلا 2: 20)، ويخبرنا المسيح نفسه عن صلبه وقيامته كثيراً حتى بعد قيامته في حديثه مع تلميذي عمواس.
وظل الآباء يكتبوا عن عمل الصليب منذ الكرازة الأولى للمسيحية حتى الآن فيقول مار أغناطيوس عام 107 م. في رسالته إلى سميرنا: "لقد تألم المسيح من أجلنا ليخلصنا". وفي رسالته إلى أفسس: "يسوع المسيح هو الذي صلب لأجلنا".
ويقول القديس بوليكاربوس عام 155 م. في رسالته إلى فيلبي: "كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو ضد المسيح. ومن لا يعترف بشهادة الصليب فهو من إبليس، ومن ينكر القيامة هو من الشيطان".
والكنيسة في طقسها الرائع في عيد الصليب تعمل دورة الصليب، يدور الكاهن والشمامسة في الكنيسة ليعلنوا ملكوت المسيح بالصليب فيقفوا عند المذبح والأيقونات والأبواب ويتلون الألحان وفصول الكتاب المقدس التي تعلن عن ملكوت اللـه الذي فيه الخلاص والقديسين بالصليب.
ولعل هناك أيضاً من يسمون أنفسهم مسيحيون ولكنهم لا يرسمون الصليب لأنه لا توجد آية في الكتاب المقدس تقول إن نرشم الصليب، ولهؤلاء نقول أن الصليب هو حياة القوة عند القديسين فهو قوة اختبار وحياة دائمة لكل من آمن بالمسيح. وكانت علامة الصليب هي قوة عبر العصور.
فيقول القديس باسيليوس: "الرسل سلمونا أن نرشم الصليب ونقول باسم الآب والابن والروح القدس".
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: "الصليب ختمنا الذي نضعه بشجاعة على جبهتنا بأصابعنا ونرشمه على كل شيء".
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "صارت علامة الصليب ترسم على ملابس الملوك وتيجانهم، وترسم في الصلوات على المائدة المقدسة ليرتفع الصليب بكل قوة في كل مكان".
ويقول البابا أثناسيوس: "بالصليب يستطيع الإنسان أن يطرد كل خداعات الشياطين".
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "الشيطان يفزع من الصليب لأنه يرى السلاح الذي به جرح والسيف الذي تلقى به الضربة المميتة".
أحبائي اليوم عيد الصليب يقول البابا أثناسيوس: "أنه تذكار الانتصار فوق الموت والفساد".
لذلك أفرح يا عزيزي لأن مسيحك الذي أحبك أعطاك اليوم قوة لا يمكن للعالم أن يغلبها. فأنت قوي بالصليب ولابد أن تشعر بوجودك الشخصي اليوم مع المسيح في الصليب.
في لوحة شهيرة رسمها الفنان "رمبرانت" عن الصليب رسم فيها السيد المسيح مصلوباً ورسم حوله جموع كثيرة كانت حاضرة منهم من كان مشتركاً في صلبه ومنهم من كان حاضراً ويبكي. ولكن الغريب أن الفنان رسم نفسه أيضاً وسط هذه الجموع.
القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة أبي سرجة مصر القديمة
المزيد