المقالات
08 نوفمبر 2019
لأنه سترنا
إن الطلبات التي قيل عنها في الكتاب المقدس أن تُطلَب "كل حين" هي: الصلاة (لوقا 18: 1)، والشكر (أفسس 5: 20)، والفرح كل حين (فيلبي 4:4) والشكر في كنيستنا نعبّر عنه في "صلاة الشكر"ومن مميزات هذه الصلاة أنها تُصلّى بصيغة جماعية، ويصليها كل الناس، ونشكر ربنا على كل ما يقدمة لنا هذه الصلاة تبدأ بشكر الله سبع نِعم يعطيها لنا، يعطيها لنا مهما كان حالنا "فلنشكر صانع الخيرات لأنك سترتنا، وأعنتنا، وحفظتنا، وقبلتنا إليك، وأشفقت علينا، وعضدتنا، وأتيت بينا اإلى هذه الساعة" هذه النِعم يجب أن يشعر بها كل إنسان ويشعر بقيمتها وأهميتها في حياة كل واحد فينا.
نتأمل في النعمة الأولى نعمة الستر:-
أحد الصفات التي نصف بها إلهنا أنه الله الساتر، الذي يستر. وستر الله لا يوجد في مفردات اللغة، فلا توجد كلمات تقدر أن تصفه. يستر علينا كلنا، ولا يستطيع إنسان أن يقف أمام الله ويقول إنه لا يحتاج إلى الستر، حتى الذين يعيشون في الخطية والبعيدين، وحتى الذين ينكرون وجود الله؛ الله يستر عليهم. حتى الناس الذين فرغت قلوبهم من كل شيء، والذي يستخدم لسانه في استخدامات شريرة؛ الله يستر عليه... بل حتى اللص عندما يسرق يقول: ربنا يستر. وفي التقليد الشعبي نجد أن كل ما يريده الإنسان هو الستر والصحة. ولا يمكن أن نحصر كم مرة ستر الله علينا، لكن داود النبي يقول في مزمور ١٧ «احفظني مثل حدقة العين، بظلّ جناحيك استرني»، ويقول في مزمور ٦٤ "«استرني من الأشرار، من مؤامرت الإشرار، من جمهور فاعلي الإثم».
أولًا: لماذا يستر الله علينا؟
الله الذي خلقنا وأعطانا نعمة الحياة يستر علينا لثلاث صفات فيه:
١- هو واهب الغفران.
٢- لأنه كلي المحبة.
٣- لأنه نبع الأبوة.
1) الله يستر علينا لأنه واهب الغفران:
هو الذي غفر لنا، من يغفر خطية الإنسان إلا الله الذي خلق الإنسان، فجاء الله «الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا»، تجسد الله ثم صُلِب وخلصنا وفدانا من أجل غفران خطية الإنسان، ولا يوجد شيء آخر أو إنسان آخر يستطيع أن يغفر خطيئة الإنسان، لذلك ربنا يستر علينا. «تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص وكساني رداء البر»، وكساني تعني ستر الله عليّ. وستر الله للإنسان من أيام آدم. خطية آدم وحواء بدأت باللسان والشهوة، ودخلت الحيّة من هذا الباب، وانزلق الإنسان وكسر الوصية، وستر الله عليهما وألبسهما أقمصة من جلد. وفي سفر حزقيال يشبّه النفس البشرية بالإنسان المُلقى في الشارع ويريد من يأتي ويستر عليه «فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ، وَحَلَفْتُ لَكِ، وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي» (حز١٦: ٨)، وكأن النفس البشرية من أيام آدم صارت كالإنسان الملقى في الشارع وفقدت كل شيء وصار حالها صعب جدًا. في سفر القضاة عندما كانت تحدث مشكلة لبني إسرائيل، كانوا يختارون قاضيًا (مخلصًا)، فيحل المشكلة ثم يعودون للخطية مرة ثانية، وهكذا حياة الإنسان. وكذلك داود النبي وخطيته المشهورة مع امرأة أوريا الحثي، وتاب عنها فيقول «استر وجهك عن خطاياي، وامحُ كل آثامي»... هذا هو الله واهب الغفران للإنسان من الأمثلة المشهورة "المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي" (لوقا 7)، وكان سمعان مُعجَبًا بنفسه، ودخلت المرأة وانحنت وسكبت دموعها وقدمت توبة. سمعان قال: "لو كان هذا نبيًا لعرف أن هذه المرأة خاطئة "، والإنجيل يقول إن السيد المسيح غفر لها وستر عليها لأنها أحبت كثيرًا، وصارت مثالًا، ونصلي بهذه القطعة في نصف الليل.
2) يستر علينا لأنه كليّ المحبة:
الله محبة إي أن تفصيل شرح الله أنه محبة دائمة وحركة دائمة، في محبته يستر، ويعلن هذه المحبة، وتجلّت مع يعقوب ومع إيليا، ومحبة الله فيّاضة ليس لها حدود.
٣) الله يستر علينا لأنه نبع الأبوة:
نقف دائمًا ونقول: "يا أبانا الذي في السموات"، وعندما نرشم شماسًا ويصير كاهنًا يصبح "أبونا".. كلمة الأبوة مفتاح، والله هو نبع الأبوة، ونحن نستمد هذه الأبوة من الله. والأبوة في أصلها ومعناها هي الستر والحماية. أروع مثال في الكتاب يشرح لنا الأبوة مثل الابن الضال، وكيف أن هذا الابن الذي أخطأ كل هذه الخطايا، عندما عاد وجد أحضان أبيه مفتوحة «وإذا كان لم يزل بعيدًا، رآه أبوة، فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله»، الأب يستقبل الابن، ويقدم له الهدايا، ويذبح العجل المُسمّن، ولكن الأهم يقدم له الحضن ويقبله، ولا يتأفّف منه. ولكن نرى في نفس القصة موقف الأخ الكبير فاقد الأبوة، ويتكلم على أخيه بكلمات ردية «ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني»، وفضح أخاه، وكأنه يقول لأبيه: إنك لم تحسن تربيته. لكن الأب ستر وأرجع ابنه إلى رتبته الأولى.
مثال آخر المرأة السامرية، هذه المرأة سُمِّيت باسم بلدها، لقد ستر الله عليها ولم يذكرها بالاسم حتي لا يفضحها، وكان الحوار معها كله مليء بالستر والحنان والعذوبة، وبدّل الله هذه الإنسانة التي كانت بعيدة جدًا وجعلها قديسة وكارزة ، ستر الرب عليها، وقادها إلى توبة، وصارت كارزة.. وهذا دور الله للإنسان، الله الذي يستر على الخليقة كلها صباحًا ومساءً ونأتي لدور الإنسان نحو أخيه الإنسان، يقول الرب يسوع: «لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟».. لا يمكن أن تستر على أخيك بينما أنت تدينه، ومجالات ستر الإنسان على الإنسان:
أ- ستر خصوصيات الآخر: كل واحد فينا له عائلة وأصدقاء ومعارف، ليس لك الحق في نقل خصوصيات الآخر ونقل أخباره. ويجب على المتزوجين أن يحافظوا على خصوصياتهم لأنه «بكلامك تتبرّر وبكلامك تُدان». مثال لذلك المرأة التي أُمسِكت في ذات الفعل، وأراد الناس أن يرجموها ولا ينظروا لخطيتهم، أمّا السيد المسيح فعالج الأمر بمنتهي الستر إذ انحنى وكان يكتب على الأرض، وبعض الآباء يقولون إنه كتب خطيتهم، وعندما رأوا خطيتهم أنزلوا الحجارة ومضوا، «وقال: إما دانك أحد؟... اذهبي ولا تخطئي»، وانتهت القصة.
ب- حفظ خصوصيات سر الاعتراف: سر الاعتراف أحد الأسرار الأساسية في حياة كنيستنا، وهو يضبط ميزان ومسار الحياة الروحية للإنسان، ويضبط الطريق الروحي. وأب الاعتراف هو الكاهن والمرشد، وكل ما يسمعه في سر الاعتراف يجب أن يُحفَظ تمامًا. والكاهن الذي يفشي أسرار الاعتراف يستوجب العقاب. ولكن بعض الناس يعتقدون أن الكاهن يفشي سر الاعتراف لأنه قال حكاية في عظة، وقالها بدون تفاصيل، ولكن الناس تكون حساسة. سرية سر الاعتراف هي أحد صور الستر، ولذلك ممارسة سر الاعتراف من أصعب الممارسات التي يمارسها الكاهن، لأنه تتجمع عنده أحوال وخصوصيات آخرين، ولا يستطيع أن ينطق بحرف. وأحيانًا يكون في مأزق خطير عندما يسأله أحد في موضوع الارتباط، فيكون هناك نزاع بداخله. وأنصح الكاهن أن يتحلّى بالحكمة دون أن يفشي أي سر. استر على غيرك ما دمت محتاجًا للستر.
كيف نقتني فضيلة الستر؟
أ- تذكر ستر الله لك: الله يستر علينا جميعًا، ومن لا يشعر بستر الله ويشكره عليه كل يوم هو إنسان جاحد.
ب- تعلم أن تحب الآخرين مهما كانوا: أحبب الجانب الحلو الذي في الإنسان، الله عندما تحدث مع زكا والسامرية واللص اليمين اهتم بالكلمة الحسنة التي قالوها اعتبرها توبة، وركز في هذه الكلام ولم يركز في باقي الأخطاء السابقة، «لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا»، و مار أفرام السرياني يقول: "التلذذ بعيوب الآخرين يدل أننا ممتلئين بغضة"، والقديس مكاريوس الكبير يقول: "يا أخي احكم على نفسك قبل أن يحكموا عليك"، والقديس موسي الأسود عندما سألوه ان يحضر محاكمة واحد من الرهبان، دخل معه جوال من الرمل وقال: "هذه خطاياي تجرى وارئي ولا أبصرها، وقد جئت اليوم لأحكم على غيرى". يجب أن نعيش بهذا الكلام، ونغيّر من سلوكنا، ونعرف أن الذي يسير في طريق السماء يتمتع بنعمة الستر من الله، وهو أيضا يستر على الآخرين.
ج- تعلم أن لا تدين غيرك: وقد يتساءل البعض لماذا يوجد مجالس تأديب؟ ولكن هذا نظام في إدارة العمل. الأنبا أنطونيوس يقول: "لا تدن غيرك لئلا تقع في أيدي أعدائك". الذي يدين يقع في نفس الخطية التي أدان عليها، و"إذا أدنّا أنفسنا، لا يبقي لنا وقت لندين الآخرين"، "ليس أفضل أن يرجع الإنسان بالملامة على نفسه في كل شيء" العبارات كثيرة جدًا في موضوع الستر، لكن خلاصة الأمر أنك عندما تصلي صلاة الشكر وتقول "أشكرك يا رب لأنك سترتنا"، سترت حياتي في الماضي والحاضر، وسترت أسرتي الكبير والصغير فيها، وسترت على أصدقائي وعلى خدمتي وكنيستي ومجتمعي نعمة الستر نعمة غالية، حاول أن تشعر بها، واستر على كل من تعرفهم، وتعلم هذه الفضيلة.
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
15 أكتوبر 2018
عصر سبي بابل - الجزء الثالث
(5) العودة من السبي
+ كورش الملك الوثني مسيح الرب صرخ الشعب إلى الله، وندموا على خطاياهم التي تسببت في سبيهم، وأحسوا باحتياجهم للعودة إلى أرضهم، وهيكلهم، وعلاقاتهم القديمة مع الله، واعترفوا بخطيتهم، وأخطائهم قائلين: "أنتَ بارٌّ في كُل ما أتَى علَينا لأنَّكَ عَمِلتَ بالحَق، ونَحنُ أذنَبنا ومُلوكُنا ورؤَساؤُنا وكهَنَتُنا وآباؤُنا لم يَعمَلوا شَريعَتَكَ، ولا أصغَوْا إلَى وصاياكَ وشَهاداتِكَ التي أشهَدتَها علَيهِمْ" (نح33:9-34) حينئذ سخّر الرب الملك الوثني "كورش" لخدمة شعب الله، وذلك بأن أمر بعودتهم إلى بلادهم، وتعمير أورشليم والهيكل وقد تنبأ إشعياء النبي عن هذا الملك الوثني باسمه قبل ولادته بأكثر من مائة عام قائلاً: "هكذا يقولُ الرَّبُّ لمَسيحِهِ، لكورَشَ الذي أمسَكتُ بيَمينِهِ لأدوسَ أمامَهُ أُمَمًا، وأحقاءَ مُلوكٍ أحُلُّ، لأفتَحَ أمامَهُ المِصراعَينِ، والأبوابُ لا تُغلَقُ: أنا أسيرُ قُدّامَكَ والهِضابَ أُمَهدُ أُكَسرُ مِصراعَيِ النُّحاسِ، ومَغاليقَ الحَديدِ أقصِفُ وأُعطيكَ ذَخائرَ الظُّلمَةِ وكُنوزَ المَخابِئ، لكَيْ تعرِفَ أني أنا الرَّبُّ الذي يَدعوكَ باسمِكَ، إلهُ إسرائيلَ لأجلِ عَبدي يعقوبَ، وإسرائيلَ مُختاري، دَعَوْتُكَ باسمِكَ لَقَّبتُكَ وأنتَ لستَ تعرِفُني أنا الرَّبُّ وليس آخَرُ لا إلهَ سِوايَ نَطَّقتُكَ وأنتَ لم تعرِفني" (إش1:45-5)وقد وصفه إشعياء النبي بصفات عجيبة، بالرغم من أنه ملك وثني مثل:-
"راعيَّ" (إش28:44).
"مسيح الرب" (إش1:45).
"رجل مشورتي" (إش11:46).
"قد أحَبَّهُ الرَّبُّ" (إش14:48).
"كُلَّ مَسَرَّتي يُتَممُ" (إش28:44).
" الكاسِرَ" (إش11:46).
هذا يوضّح كيف يستخدم الله حتى غير المؤمنين لخدمة كنيسته وقد قيل إن هذه النبوات قُرأت أمام كورش فسُّر بها، وسمع من خلالها صوت الإله الحقيقي، الذي يبارك خطواته، وحياته مما جعله يُطيع النبوة: "القائلُ عن كورَشَ: راعيَّ، فكُلَّ مَسَرَّتي يُتَممُ ويقولُ عن أورُشَليمَ: ستُبنَى، وللهيكلِ: ستؤَسَّسُ" (إش28:44)علمًا بأن هذه النبوات التي قيلت عن كورش كمُخلِّص زمني لإسرائيل من السبي يمكن أيضًا أن تفهم بالبعد المسياني على أنها نبوات عن تجسد الله الكلمة لخلاص كل العالم من السبي الروحي.
+ العودة من السبي:-
نبَّه روح الله كورش، فأطلق نداءه بالسماح لمَنْ يريد من المسبيين من اليهود، بالعودة إلى وطنهم، لبناء هيكل إله السماء: "نَبَّهَ الرَّبُّ روحَ كورَشَ مَلِكِ فارِسَ فأطلَقَ نِداءً في كُل مَملكَتِهِ وبالكِتابَةِ أيضًا قائلاً: هكذا قالَ كورَشُ مَلِكُ فارِسَ: جميعُ مَمالِكِ الأرضِ دَفَعَها لي الرَّبُّ إلهُ السماءِ، وهو أوصاني أنْ أبنيَ لهُ بَيتًا في أورُشَليمَ التي في يَهوذا" (عز1:1-2) وبدأ بعض المسبيين في العودة من السبي إلى بلادهم، وبدأت مع هذه العودة المباركة، نهضة روحية قادها بعض رجال الله القديسون. وكانت هذه العودة من السبي على أربعة مراحل:-
(1) المرحلة الأولى:-
عاد الفوج الأول من السبي بقيادة زربابل ويهوشع رئيس الكهنة: "آخُذُكَ يا زَرُبّابِلُ عَبدي ابنُ شألتيئيلَ، يقولُ الرَّبُّ، وأجعَلُكَ كخاتِمٍ، لأني قد اختَرتُكَ، يقولُ رَبُّ الجُنودِ" (حج23:2) وقد ذُكر خبر هذا الرجوع في سفر عزرا الأصحاح الثاني"وهؤُلاءِ هُم بَنو الكورَةِ الصّاعِدونَ مِنْ سبيِ المَسبيينَ، الذينَ سباهُمْ نَبوخَذناصَّرُ مَلِكُ بابِلَ إلَى بابِلَ، ورَجَعوا إلَى أورُشَليمَ ويَهوذا، كُلُّ واحِدٍ إلَى مَدينَتِهِ. الذينَ جاءوا مع زَرُبّابَلَ" (عز1:2-الخ)هؤلاء العائدون بنوا المذبح لإصعاد الذبائح والمحرقات، علامة العودة إلى عبادة الله الحي، بعد توقف هذه الذبائح طيلة فترة السبي (عز2:3-3). ولكن بسبب مضايقات الأعداء، توقفوا عن بناء الهيكل، إذ تم استصدار أمر ملكي من بابل بإيقاف العمل في البناء، نتيجة الوشاية لدى الملك (عز1:4-5).
(2) المرحلة الثانية:-
بعد نحو 16 سنة من النهضة الأولى قام حجي وزكريا النبييْن ببناء الهيكل، والاحتفال بعيديْ الفصح والفطير، وذلك بعد أن حنّن الرب قلب داريوس الملك؛ فأصدر أمرًا ملكيًا باستكمال العمل في بناء الهيكل، وكذلك تنبيه حجي وزكريا للشعب أن يلتفتوا إلى بناء الهيكل (عز1:6-3)، ولا يكتفوا بأنهم بنوا منازلهم الفخمة وسكنوا فيها: "هل الوَقتُ لكُمْ أنتُمْ أنْ تسكُنوا في بُيوتِكُمُ المُغَشّاةِ، وهذا البَيتُ خَرابٌ؟ والآنَ فهكذا قالَ رَبُّ الجُنودِ: اجعَلوا قَلبَكُمْ علَى طُرُقِكُمْ زَرَعتُمْ كثيرًا ودَخَّلتُمْ قَليلاً تأكُلونَ وليس إلَى الشَّبَعِ تشرَبونَ ولا تروونَ تكتَسونَ ولا تدفأونَ والآخِذُ أُجرَةً يأخُذُ أُجرَةً لكيسٍ مَنقوبٍ هكذا قالَ رَبُّ الجُنودِ:اجعَلوا قَلبَكُمْ علَى طُرُقِكُمْ اِصعَدوا إلَى الجَبَلِ وأتوا بخَشَبٍ وابنوا البَيتَ، فأرضَى علَيهِ وأتَمَجَّدَ" (حج4:1-8)، وكذلك تنبأ زكريا النبي عن بناء أورشليم قائلاً: "قد رَجَعتُ إلَى أورُشَليمَ بالمَراحِمِ فبَيتي يُبنَى فيها، يقولُ رَبُّ الجُنودِ" (زك16:1).
(3) المرحلة الثالثة:-
قادها عزرا النبي بناءً على أوامر من أرتحشستا الملك، بعودة مَنْ يريد من الباقين من السبي، إلى أورشليم "مِنْ أرتَحشَشتا مَلِكِ المُلوكِ، إلَى عَزرا الكاهِنِ كاتِبِ شَريعَةِ إلهِ السماءِ الكامِلِ، إلَى آخِرِهِ قد صَدَرَ مِني أمرٌ أنَّ كُلَّ مَنْ أرادَ في مُلكي مِنْ شَعبِ إسرائيلَ وكهَنَتِهِ واللاويينَ أنْ يَرجعَ إلَى أورُشَليمَ معكَ فليَرجِعْ" (عز12:7-13)، وبعد هذه العودة قرأ عزرا الشريعة على الشعب وألزمهم بتنفيذها "لأنَّ عَزرا هَيّأَ قَلبَهُ لطَلَبِ شَريعَةِ الرَّب والعَمَلِ بها" (عز10:7)وكانت هذه أيضًا نهضة روحية رائعة لشعب الله، بسبب العودة إلى كلمة الله وقراءتها بروح التوبة، والغيرة المقدَّسة.
(4) المرحلة الرابعة:-
قادها نحميا النبي بعد نحو 14 سنة من النهضة الثالثة (راجع نحميا1:2-8)، وبنى أسوار أورشليم، وعمَّر المدينة، وذلك بعد تجميع الشعب وتحفيزه، وبعد طلب مشورة الرب وتدعيمه وكانت أيضًا عودة بناء أسوار أورشليم والهيكل سببًا في بعث الغيرة المقدَّسة للشعب، مما دفعهم لتجديد العهود مع الله، وإحياء روح ذبيحة التسبيح.
(6) النهضة الروحية المصاحبة للعودة من السبي
بالطبع كانت عودة الشعب إلى أرضه المقدَّسة سببًا في عودة الروح إليه، وبدأ الناس يفكرون من جديد في إلههم وبدأوا يعودون إلى عبادته المقدسة. فكان من أبرز علامات النهضة الروحية التي صاحبت العودة من السبي عودة ذبيحة التسبيح إلى مكانتها ومجدها اللائقَين بها.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
20 يونيو 2019
القدوة فى حياة الخادم
لا يستهن أحد بحداثتك، بل كن قدوة للمؤمنين فى الكلام و التصرف فى المحبة فى الروح فى الإيمان فى الطهارة" (1 تى 4 : 12)الإنسان المسيحى مطالب أن يكون قدوة للآخرين بصفة عامة و الخادم بصفة خاصة و هذا يعتمد أساسا على عمل الروح القدس فى الإنسان الذى يحيا للمسيح. "لى الحياة هى المسيح" (فى 1: 12) وهكذا كتب القديس بولس الرسول أيضا إلى تلميذه تيطس قائلا " مقدما نفسك فى كل شىء قدوة للأعمال الحسنة" (تى 2: 6 – 7).
و المطلوب من الكل أن يكونوا قدوة لذا يقول الرسول "كونوا متمثلين بى معا أيها الإخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عنكم قدوة" (تى 3:17(
أولاد الله جميعا يجب أن يكونوا قدوة لجميع الناس " يروا الناس أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذى فى الموات" (مت 5:16) ولقد دعانا المسيح له المجد نورا للعالم وملحا للأرض..ولذا يقول الرسول بولس "لأنه الله هو العامل فيكم أن تريدوا و أن تعملوا من أجل المسرة. إفعلوا كل شىء بلا دمدمة أو مجادلة لكى تكونوا بلا لوم و بسطاء أولادا لله بلاعيب فى وسط جيل معوج و ملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار فى العالم" (فى 2:13-15) ولقد قدم لنا ربنا و مخلصنا يسوع المسيح ذاته قدوة قائلا "تعلموا منى لانى وديع و متواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم"(مت 11:28) و أيضا لأجلهم أقدس أنا ذاتى(يو 17 : 19 ) لذا وجب على كل الرعاة و الخدام أن يقدموا ذواتهم قدوة و مدققين بأن يكونوا بلا عثرة للمخدومين مرددين مع الرسول " لسنا نجعل عثرة فى شىء لئلا تلام الخدمة" (2كو 6 : 13 )إن سبب إنتشار المسيحية لم يكن فقط بالوعظ و التعليم و إنما بالقدوة فى حبياة المؤمنين مما جذب إليهم الكثيرون متحققين من صدق تعاليم المسيح مما يحلو ان نسمى حياة القدوة بالإنجيل الخامس أو الإنجيل المعاش.
قدوة فى الكلام:-
أى أن يكون له الكنز الصالح(القلب) الذى يخرج منه الصالحات، فبأى لسان نتكلم؟!.. يوصينا الرسول يعقوب قائلا "ليكن كل إنسان مسرعا فى الاستماع مبطئا فى الغضب" (يع 1 : 19).
بلا شك أن لغة الانسان تظهره و تكشف مابداخله من مبادىء أو أمثلة روحية.
" الصديق يبغض كلام الكذب" ( أم 13 : 15 ) " كثرة الكلام لا تخلوا من معصية. أما الضابط شفتيه فعاقل" (أم 10 : 19)كيف تتكلم إلى غيرك؟!.. لا تقاطع غيرك فى الكلام ولا تتعجل فى الرد بل تعلم فضيلة الإستماع.إحذر أن يتكلم لسانك بالباطل الذى لا يمجد إسم إلهك أو تدنس فمك بالكلام الدنس.
قدوة فى التصرف:-
أى قدوة فى السلوك.. فسلوك الخادم لابد أن يظهر مسيحيته سواء فى البيت أو الكنيسة أو فى العالم
فى البيت طائعا و باذلا فى الكنيسة مصليا و خادما فى العالم عاملا و طاهرا" من علم و عمل يدعى عظيما فى ملكوت السموات" (مت 5:19 )إن السلوك الخاطىء من بعض الخدام يؤثر مباشرة على المخدومين مما يسبب العثرة لهمو قيل" ويل لمن تأتى بواسطته العثرات" (نت 18: 7)هذه الأخطاء إما أن يقلدها الخدام فتضيع روحياتهم أو أن ينتقدوها فيقعون فى خطية الإدانة..
فالسلوك المستقيم للخادم أو للمسيحي بصفة عامة ينبع من خضوعة للوصية, الإلهيه فى حياته و التى تتحول فى حياته إلى منهج ومبدأ روحى لا يتغير بتغيير الظروف المحيطة به.
قدوة فى المحبة:-
يتميز أولاد الله بالمحبة... لأن المحبة قد إنسكبت فى قلوبكم بالروح القدس المعطى لهم (رو 5: 5 ) من أجل ذلك ففى امكان الانسان المسيحى أن يكون قدوة فى المحبة.ففى محبتنا لله .. نبغض العالم و شهواته و نسعى دائما لإرضائه و صنع مشيئته و تنفيذ وصيته ولا نحتسب نفوسنا ثمينة عندنا حتى نتمم بفرح الخدمة التى إستلمناها من يده فلا نسعى وراء الراحة بل نستعذب كل تعب من أجل مجد إسم القدوس.
وفى محبتنا للقريب و للأخوه و حتى للأعداء سنبارك من يلعننا و نحسن إلى من يبغضنا و نصلى لأجل من يسىء إلينا."نشتم فنبارك نضطهد فنحتمل يفترى علينا فنعظ" (1 كو 4 : 2) مثال سيدنا يسوع المسيح الذى قيل عنه ..".إذا شتم لم يكن يشتم عوضا " (1 بط 2 : 23 )
قدوة فى الروح:-
هذا يعنى عمل الروح القدس و ثماره فى حياة الإنسان المسيحيى روح و ديع هادىء ...روح متواضع و منسحق...روح وقور لا يعرف الهزل أو كلام السفاهة..روح أمين على أسرار الآخرين إن الخدمة كما يقول قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث ليس كلاما و إنما هى روح و حياة (يو 6 : 63) و أن الخادم الذى لايملك سوى معلومات لايأخذون منه سوى هذه المعلومات بلاروح ..فالخادم الروحى ليس مجرد درس بل حياته كلها خدمة...إنه حياه روحية تتحرك فى عمق و تؤثر روحيا فى غيرها بطريقة مشوقة غير مصطنعة و يكون غسم الرب حلوا فى فمه يتحدث عنه بطريقة تجذب و تربح النفوس.
بعض الناس يظنون ان المبادىء المسيحية مثاليات من يستطيع تنفيذها أما الخادم الروحى فيقدم هذه المثاليات منفذه فى حياته.
قدوة فى الإيمان:-
إيمان بإبن الله الذى احبنى و أسلم نفسه لأجلى (غل 2: 20) و كما يقول يوحنا الحبيب " هذه هى الغلبة التى تغلب العالم إيماننا. من هو الذى يغلب العالم إلا الذى يؤمن أن يسوع هو إبن الله" (1 يو 5 : 4،5)
فنؤمن أنه ليس للشيطان سلطان علينا...ولا للخطية..ولا للعالم فنسلك كما يليق ببنوتنا لله ولا نشابه أهل هذا الدهرإيمان بالحياة الأبدية..: اتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو 10 : 10) هذه هى الحياة التى عرفها أباؤنا القديسون بالإيمان فنظروها و صدقوها و حييوها وأقروا بأنهم غرباء و نزلاء (عب 11 : 13) مثال أبينا إبراهيم فالخادم الحقيقى يعيش متغربا فى العالم و بعد نفسه و الآخرين للحياة الأفضل و يسعى دائما أن تكون سيرته محفظة فى السموات (فى 3 : 20)إيمان بان الله معنا " يدعون إسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا" (مت 1 : 23) الخادم المؤمن يشعر دائما انه ليس بمفرده فلا ينظر لضعفه بل يثق بأن الله معه سند و معين فلا يخاف ولا ينزعج مهما كانت الريح ضده و أمواج بحر هذا العالم..فهو يتمسك بإلهه و متوكل عليه "طوبى لجميع المتوكلين عليه" حتى يستطيع أن يشدد الضعفاء و يعزى المتضايقين و كما يقول بولس الرسول " مبارك الله الذى يعزينا فى كل ضيقتنا حتى نستطيع ان نعزى الذين هم فى كل ضيقة بالتعزية التى نتعزى بها نحن من الله" (2 كو 1 : 3 – 4 )
قدوة فى الطهارة:-
" فى كل شىء نظهر أنفسنا كخدام الله فى صبر كثير فى شدائد فى ضرورات فى ضيقات..فى اتعاب فى أسهار فى أصوام فى طهارة فى علم فى أناة فى لطف" (2 كو 6 : 6 )هكذا يؤكد بولس الرسول على وجوب حياة الطهارة للخادم بصفة عامة لأنه سيدعو الناس للملكوت و هذا لايدخله شىء دنس او نجس فهو لا يشارك فى أعمال الظلمة ولا يسلك طريق المستهزئين ولا يعطى أذنا لأباطيل العالم و يغمض عينيه عن الشر مرددا هذه الوصية" فإذ لنا هذه المواعيد أيها الاحباء لنطهر زواتنا من كل دنس الجسد و الروح مكملين القداسة فى خوف الله" (2 كو 7 : 1 ).
القمص يوحنا أديب
المزيد
24 يناير 2019
السيد المسيح المعلم (1)
من خلال قراءتنا للكتاب المقدس نكتشف أن من أهم القاب ربنا يسوع المسيح أنه هو المعلم الصالح، فقد كان الرب يسوع يعلّم دائمًا طوال فترة خدمته الجهارية. فقد بدأ خدمته الجهارية بالموعظة على الجبل كأول عمل له بين الجموع، ولا شك أن التعليم في الكنيسة هو أساس خلاص الإنسان لأننا من خلاله نتعرّف على عمق اللاهوت وسر الثالوث وسر التجسد ووسائط النعمة والاستعداد للابدية، وبه يتضح طريق خلاصنا ونتعرف على ملكوت السموات وكيفية تكوين العلاقة مع الرب يسوع الفادي والمخلص، وكل هذه العقائد والإيمانيات إن لم نعرفها لا يكون لنا بركات الخلاص.
لذلك فإن التعليم في كنيستنا ضرورة، ولهذا نجد معلمنا بولس يوصي تلميذه تيموثاوس: «لاحظ نفسك والتعليم» (1تي4: 16). كما يسجّل الوحي الإلهي في العهد القديم كلمات النبي «هلك شعبي من عدم المعرفة» (هو4: 6). كما تخاطب الدسقولية الآباء في الكنيسة قائلة: "امحُ الذنب بالتعليم". ونحن نرى أن أسلوب التعليم الانفعالي الذي يعتمد على إثارة المشاعر فقط هو أسلوب تعليم غير نافع للإنسان لأنه يعتمد على التأثير النفسي فقط، ولا يهتم كثيرًا بالعمق الروحي السليم الذي يساعد الناس على خلاص نفوسهم، لذلك كان علينا أن نكتشف منهج الرب يسوع في التعليم، وعلى ملامح ووسائل التعليم التي استخدمها الرب يسوع... وهذه بعض الأفكار...
أولًا: علاقة الرب يسوع بأولاده في التعليم:
1) كان يسوع كمعلم يحتفظ في قلبه بحب غير محدود لأولاده، فقوة المعلم تظهر في مدى محبته لمن يعلمهم، فكان يسوع دائمًا يعلن لتلاميذه عن محبته لهم قولًا وعملًا، فقد أحبهم حتى المنتهى وقبل الموت من أجلهم، وأعلمهم بهذا الحب مرات كثيرة. وكانت محبة الرب يسوع تظهر لكل من يتعامل معهم أو يعلمهم: لتلاميذه، وللخطاة، للقريبين، وللبعيدين، لبني جنسه من الشعب اليهودي، وللغرباء كالسامرية والكنعانية... فقد أحب الجميع، وقدم لهم كل الحب، فسار من أجل السامرية مسافات طويلة، وانتظر موعدًا مناسبا لها، وامتدحها رغم ضعفها وخطيتها! كان يسوع كمعلم يمتاز بمحبته لكل من يعلّمهم.. وحتى في المواقف التي كانت تحتاج إلى الحزم، كان حزمه لا يخلو من الحب، فعندما صنع سوطًا وطرد باعة الحمام من الهيكل، كان قلبه ممتلئًا غيرة وحبًا وحزنًا للمخالفين لوصايا الناموس، فلم يؤذهم بل خاطبهم «بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت21: 13). وهو بهذا يعلمنا أن المعلم النافع في الكنسية هو ذلك المعلم الذي يحمل قلبًا ملتهبًا بالحب تجاه قطيعه.
2) كان يسوع كمعلم يمتاز بطول الأناة: فكثيرًا ما كان يفسّر للتلاميذ تصرفاته التي يتساءلون عنها، ويفسر لهم أسباب تصرفه رغم أنه لم يكن مُطالَبًا أن يقدم لهم تفسيرًا لسلوكه. فعندما تساءلوا عن سبب جلوسه مع امرأة سامرية، بدأ يشرح لهم عن رؤيته لخلاص البشرية كلها. وحتي في المواقف التي تشكك فيها تلاميذه فيه، كان يقابلها بطول الأناة دون رفض أو عتاب، فهكذا فعل مع توما عندما تشكك في قيامته. كما كان يتعامل أيضًا بطول أناه مع الذين يعجزون عن تنفيذ وصيته، فنراه يتحدث إلى الشاب الغني الذي دعاه ليتبعه ولكن امواله كانت عائقًا له، ونجده يعامله بكل رفق (مت19: 13).
3) كان الرب يسوع كمعلم يقدم ذاته نموذجًا عمليًا وقدوة قبل أن يعلم. كان يصلي فيعلم تلاميذه الصلاة، وكان يعفو قبل أن يعلم التسامح، وكان يقبل الجميع قبل أن يعلمهم أن يذهبوا للعالم أجمع... فلم يكن يسوع معلمًا بالكلمات فقط، بل كان عاملًا ومعلمًا بكلمة الخلاص...
نيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة ومطروح وشمال أفريقيا
المزيد
25 أغسطس 2019
المجيء الثاني للسيد المسيح وقيامة الأموات
أولا حتمية المجيء الثاني
جاء السيد المسيح إلى عالمنا في المرة الأولى ، في مجيئه الأول ، متضعا في الجسد ، متجسدا في صورة عبد " صار جسدا " (يو14:1) ، " ظهر في الجسد " (1تى 16:3) ، " آخذاً صورة عبد " وبعد قيامته من الأموات صعد إلى السماوات وجلس عن يمين العظمة " وجلس عن يمين الله " (مر16 : 19) ، " جالسا عن يمين قوة الله " (لو22 : 69) ، " يسوع قائما عن يمين الله " (أع 7 : 55) " ابن الإنسان قائما عن يمين الله " (أع 7 : 56) ، " عن يمين الله الذي أيضا يشفع فينا " (رو 8 : 34) ، " المسيح جالس عن يمين الله " (كو3 : 1) ، " جلس في يمين العظمة في الأعالي " (عب1 : 3) ، " جلس في يمين عرش العظمة في السماوات (عب 8 : 1) ، " جلس إلى الأبد عن يمين الله " (عب10 : 12) ، " جلس في يمين عرش الله " (عب12 : 2) ، " الذي هو في يمين الله إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له " (1بط 3 : 22) . ويلخص الوحي الإلهي ذلك بقوله : " الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب " (فى6:2-11) وكان السيد قد طلب من تلاميذه أن ينشروا الكرازة باسمه في كل جزء وكل مكان في العالم في المسكونة كلها بعد أن يحل عليهم الروح القدس : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر آمين " (مت19:28،20) ، " وقال لهم اذهبوا إلي العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها من أمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن " (مر15:16،1) ، " وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وان يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم وانتم شهود لذلك.
وها أنا أرسل إليكم موعد أبى فأقيموا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا قوة من الأعالي " (لو46:24-49) ، " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلي أقصى الأرض " (أع 8:1) كما وعد السيد أنه سيكون مع كنيسته دائما ، في كل وقت ، وإلى الأبد " وها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر آمين " (مت 28 : 20) ، " لا أترككم يتامى أنى آتى إليكم " (يو14 : 18) ، " أجاب يسوع وقال له أن احبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبى وإليه نأتي وعنده نصنع منزلا " (يو14 : 23) ، من خلال وجوده ، بلاهوته في كل مكان " لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم " (مت 18 : 20) . فقد جلس على عرشه في السماوات كملك الملوك ورب الأرباب (رؤ14:17) وديان الأحياء والأموات (2تى 1:4؛1بط5:4) ، وهو يوجه ويدير كنيسته ، ملكوته ، ملكوت الله ، ملكوت السماوات على الأرض كرب العالمين " يسوع المسيح هذا هو رب الكل " (أع36:10) ، " الذي عمله ( الآب ) في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضا واخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأسا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملا الكل في الكل " (أف20:1-23) . " الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلي ملكوت ابن محبته " (كو1 : 13) ، " لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي " (2بط1 : 11) ، " أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره كنت في الجزيرة التي تدعى بطمس من اجل كلمة الله ومن اجل شهادة يسوع المسيح " (رؤ1 : 9) . وقد وعد أنه سيأتي مرة ثانية في نهاية العالم وانقضاء هذا الدهر " فان ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله " (مت16 : 27) كان مجيئه الأول في أتضاع ليقدم ذاته فدية للعالم وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين العظمة في الأعالي وهو الآن مع كنيسته كملك الملوك وسيأتي في نهاية الأيام في مجد ليدين المسكونة بالعدل ويأخذ معه مؤمنيه ليكونوا معه إلى الأبد " آتي أيضا وأخذكم إلى حتى حيث أكون أنا تكونون انتم أيضا " (يو3:14) . ويسمى مجيئه هذا الذي سيكون في نهاية الأيام ب " المجيء الثاني " وقد أكد السيد المسيح مرارا وتكرارا على حقيقة وحتمية مجيئه مرة ثانية ، المجيء الثاني ، في نهاية العالم ، كما أكد هذه الحقيقة أيضاً تلاميذه ورسله بالروح القدس . قال السيد نفسه لتلاميذه " لا تضطرب قلوبكم انتم تؤمنون بالله فآمنوا بي في بيت أبى منازل كثيرة وإلا فأني كنت قد قلت لكم أنا امضي لأعد لكم مكانا وان مضيت وأعددت لكم مكانا آتي أيضا ( أجئ ثانية ) وآخذكم إلى حتى حيث أكون أنا تكونون انتم أيضا " (يو1:14-3) . وقال القديس بولس بالروح " هكذا المسيح أيضا
بعدما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه " (عب9 : 28) قال الملاك للتلاميذ لحظة صعود السيد المسيح إلى السماء في مجيئه الأول :" أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء أن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا إلى السماء " (أع11:1) ، وقال القديس بولس بالروح : " إذا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر أراء القلوب وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله (1كو5:4) ، " وتنتظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي " (1تس10:1) ، " لان الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا ، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء وهكذا نكون كل حين مع الرب " (1تس15:4-17) . وقال القديس يوحنا في الرؤيا بالروح القدس " هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض نعم آمين " (رؤ7:1) . وقال السيد نفسه في الرؤيا " ها أنا آتى سريعا تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك (رؤ11:3) ، " يقول الشاهد بهذا نعم أنا آتى سريعا آمين تعال أيها الرب يسوع (رؤ20:22) .واستخدم السيد وتلاميذه ثلاث كلمات ، أو مصطلحات ، هي ؛ مجيء ، وظهور واستعلان ، وذلك إلى جانب " يوم " :
(1) مجيء (Parousia - - باروسيا ) : والذي يعنى مجيء أو حضور :
" وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا و ما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر " (متى 24 : 3) .
" لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق و يظهر إلي المغارب هكذا يكون أيضا مجيء ابن الإنسان " (متى 24 : 27) .
" وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضا مجيء ابن الإنسان " (متى 24 : 37) .
" ولم يعلموا حتى جاء الطوفان واخذ الجميع كذلك يكون أيضا مجيء ابن الإنسان " (متى 24 : 39) .
" كل واحد في رتبته المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه " (1كو15 : 23) .
" لان من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أم لستم انتم أيضا أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه " (1تس2 : 19) .
" لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه " (1تس3 : 13) .
" فأننا نقول لكم هذا بكلمة الرب أننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا
نسبق الراقدين لان الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا ، ثم نحن الإحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء وهكذا نكون كل حين مع الرب (1تس4 : 15-17) .
" واله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح " (1تس 5 : 23) .
" ثم نسألكم أيها الاخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه " (2تس2 : 1) .
" وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه " (2تس2 : 8) .
" فتأنوا أيها الاخوة إلى مجيء الرب " (يع5 : 7) .
" فتأنوا انتم وثبتوا قلوبكم لان مجيء الرب قد اقترب " (يع5: 8) .
" وقائلين أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة " (2بط3 : 4) .
" منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب " (2بط3 : 12) .
" والآن أيها الأولاد اثبتوا فيه حتى إذا اظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه " (1يو2 : 28) .
(2) ظهور (Epiphaniea - ابيفانيا ) : استخدمت كلمة ظهور للتعبير عن ظهور المسيح في مجيئه الثاني ، ظاهرا ومرئيا للعيان ، كما استخدمت للتعبير عن ظهور مجده وملكوته :
" وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه " (2تس2 : 8) .
" أوصيك أمام الله ... أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح " (1تي6 : 14) .
" أنا أناشدك إذا أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد ان يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته " (2تي4 : 1) .
" قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرا قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضا " (2تي4 : 7،8)
" منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح " (تي2 : 13) .
كما استخدم الكتاب أيضا تعبير " phanerosis - - فانيروثيس – ظهور " : " متى اظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون انتم أيضا معه في المجد " (كو4:3) ، " والآن أيها الأولاد اثبتوا فيه حتى إذا اظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه " (1يو28:2) ، " أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم انه إذا اظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو " (1يو2:3) .
(3) استعلان (Apocalypse - - ابوكاليبس ) :
" وانتم متوقعون استعلان ربنا يسوع المسيح " (1كو1: 7) .
" وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته في نار لهيب معطيا نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح ، الذين سيعاقبون بهلاك ابدي من وجه الرب ومن مجد قوته متى جاء ليتمجد في قديسيه ويتعجب منه في جميع المؤمنين لان شهادتنا عندكم صدقت في ذلك اليوم " (2تس1 : 7) .
" لكي تكون تزكية إيمانكم وهي اثمن من الذهب الفاني مع انه يمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح " (1بط1 : 7) .
" لذلك منطقوا احقاء ذهنكم صاحين فالقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح (1بط1 : 13) .
" بل كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضا مبتهجين " (1بط4 : 13) .
(4) اليوم أو يوم الرب أو يوم المسيح :
وصف العهد الجديد اليوم الذي سيأتي فيه السيد المسيح في نهاية العالم بيوم ابن الإنسان " لأنه كما أن البرق الذي يبرق من ناحية تحت السماء يضيء إلى ناحية تحت السماء كذلك يكون أيضا ابن الإنسان في يومه " (لو17 : 24) ، كما وصف أيضا باليوم أو يوم الرب ، ويوم يسوع المسيح ويوم المسيح ويوم الرب يسوع ويوم الدين واليوم العظيم واليوم الأخير ويوم غضبه العظيم ويوم الغضب ويوم الفداء : " فاسهروا إذا لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان " (متى 25 : 13) .
" الذي سيثبتكم أيضا إلى النهاية بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح " (1كو1 : 8).
" واثقا بهذا عينه أن الذي أبتدأ فيكم عملا صالحا يكمل إلي يوم يسوع المسيح " (فيلبي 1 : 6) .
" حتى تميزوا الأمور المتخالفة لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح " (فيلبي 1 : 10) .
" متمسكين بكلمة الحياة لافتخاري في يوم المسيح باني لم اسع باطلا ولا تعبت باطلا " (في2 : 16) .
" أن لا تتزعزعوا سريعا عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضر " (2تس2 : 2) .
" تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلي دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الشهير" (أع2 : 20).
" أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع " (1كو5 : 5) .
" كما عرفتمونا أيضا بعض المعرفة أننا فخركم كما أنكم أيضا فخرنا في يوم الرب يسوع " (2كو1 : 14) .
" لأنكم انتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء " (1تس 5 : 2) .
" يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الاثمة إلي يوم الدين معاقبين " (2بط2 : 9) .
" ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها " (2بط3 : 10).
" منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب " (2بط3 : 12) .
" والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام " (يه1 : 6) .
" لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم و من يستطيع الوقوف " (الرؤيا 6 : 17) .
" ولكنك من اجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة " (رو2 : 5) .
" ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء " (أف 4 : 30) .
القمص عبد المسيح بسيط أبو الخيركاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد
عن كتاب المجيء الثاني متى يكون وما هي علاماته؟
المزيد
24 ديسمبر 2018
عقيدة الثالوث القدوس
عقيدة الثالوث هي عقيدة أساسية في الفكر المسيحي، حتى أنه لا يمكن أن يُعتبر الشخص مسيحيًا إن لم يكن مؤمنًا بالثالوث.. وهناك حقائق لا بد أن نعرفها عن الثالوث القدوس:
(1) حقيقة أزلية
الله ثالوث في أقانيمه (الآب والابن والروح القدس) والله لا يتغيَّر، وهو ثابت من الأزل وإلى الأبد وبالتالي الله ثالوث منذ الأزل الآب كائن منذ الأزل ومعه الابن والروح القدس أيضًا منذ الأزل.
بعض الناس يظنون أن الابن يُسمى ابنًا لأنه وُلد من العذراء مريم في ملء الزمان، وهذا خطأ.. لأن الابن اسمه ابن منذ الأزل، لأنه مولود من الآب قبل كل الدهور ..
+ "الرَّبُّ قَناني أوَّلَ طريقِهِ، مِنْ قَبلِ أعمالِهِ، منذُ القِدَمِ. منذُ الأزَلِ مُسِحتُ، منذُ البَدءِ، منذُ أوائلِ الأرضِ. إذ لم يَكُنْ غَمرٌ أُبدِئتُ. إذ لم تكُنْ يَنابيعُ كثيرَةُ المياهِ. مِنْ قَبلِ أنْ تقَرَّرَتِ الجِبالُ، قَبلَ التِّلالِ أُبدِئتُ. إذ لم يَكُنْ قد صَنَعَ الأرضَ بَعدُ ولا البَراريَّ ولا أوَّلَ أعفارِ المَسكونَةِ. لَمّا ثَبَّتَ السماواتِ كُنتُ هناكَ أنا. لَمّا رَسَمَ دائرَةً علَى وجهِ الغَمرِ. لَمّا أثبَتَ السُّحُبَ مِنْ فوقُ. لَمّا تشَدَّدَتْ يَنابيعُ الغَمرِ. لَمّا وضَعَ للبحرِ حَدَّهُ فلا تتعَدَّى المياهُ تُخمَهُ، لَمّا رَسَمَ أُسُسَ الأرضِ، كُنتُ عِندَهُ صانِعًا، وكُنتُ كُلَّ يومٍ لَذَّتَهُ، فرِحَةً دائمًا قُدّامَهُ. فرِحَةً في مَسكونَةِ أرضِهِ، ولَذّاتي مع بَني آدَمَ" (أم8: 22-31) "تقدَّموا إلَيَّ. اسمَعوا هذا: لم أتكلَّمْ مِنَ البَدءِ في الخَفاءِ. منذُ وُجودِهِ أنا هناكَ. والآنَ السَّيدُ الرَّبُّ أرسَلَني وروحُهُ" (إش48: 16) أما ميلاده من العذراء مريم فهو التجسد الإلهي، وظهوره للبشر، وصيرورته ابنًا للإنسان .. هذا ميلاد آخر غير الميلاد الأزلي من الآب "لَمّا جاءَ مِلءُ الزَّمانِ، أرسَلَ اللهُ ابنَهُ مَوْلودًا مِنِ امرأةٍ، مَوْلودًا تحتَ النّاموسِ" (غل4: 4) "والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ، مَجدًا كما لوَحيدٍ مِنَ الآبِ، مَملوءًا نِعمَةً وحَقًّا" (يو1: 14) "عن ابنِهِ. الذي صارَ مِنْ نَسلِ داوُدَ مِنْ جِهَةِ الجَسَدِ" (رو1: 3) "لكنهُ أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ" (في2: 7).
(2) إعلان حقيقة الثالوث كان متدرجًا
بالرغم من وجود الثالوث منذ الأزل، ولكن الله أعلن لنا ذاته بطريقة متدرجة، لكي نستوعب حقيقته الإلهية تثبيت عقيدة أن الله واحد "اِسمَعْ يا إسرائيلُ: الرَّبُّ إلهنا رَبٌّ واحِدٌ" (تث6: 4) "أنا الرَّبُّ هذا اسمي، ومَجدي لا أُعطيهِ لآخَرَ، ولا تسبيحي للمَنحوتاتِ" (إش42: 8)"أليس أبٌ واحِدٌ لكُلنا؟ أليس إلهٌ واحِدٌ خَلَقَنا؟ فلمَ نَغدُرُ الرَّجُلُ بأخيهِ لتدنيسِ عَهدِ آبائنا؟" (ملا2: 10)"هكذا يقولُ الرَّبُّ مَلِكُ إسرائيلَ وفاديهِ، رَبُّ الجُنودِ: أنا الأوَّلُ وأنا الآخِرُ، ولا إلهَ غَيري... لا ترتَعِبوا ولا ترتاعوا. أما أعلَمتُكَ منذُ القَديمِ وأخبَرتُكَ؟ فأنتُمْ شُهودي. هل يوجَدُ إلهٌ غَيري؟ ولا صَخرَةَ لا أعلَمُ بها؟" (إش44: 6، 8) "هكذا يقولُ الرَّبُّ فاديكَ وجابِلُكَ مِنَ البَطنِ: أنا الرَّبُّ صانِعٌ كُلَّ شَيءٍ، ناشِرٌ السماواتِ وحدي، باسِطٌ الأرضَ. مَنْ معي؟" (إش44: 24) "مِنْ أجلِ نَفسي، مِنْ أجلِ نَفسي أفعَلُ. لأنَّهُ كيفَ يُدَنَّسُ اسمي؟ وكرامَتي لا أُعطيها لآخَرَ" (إش48: 11) "أنتُمْ شُهودي، يقولُ الرَّبُّ، وعَبدي الذي اختَرتُهُ، لكَيْ تعرِفوا وتؤمِنوا بي وتفهَموا أني أنا هو. قَبلي لم يُصَوَّرْ إلهٌ وبَعدي لا يكونُ. أنا أنا الرَّبُّ، وليس غَيري مُخَلصٌ" (إش43: 10-11) "مَنْ فعَلَ وصَنَعَ داعيًا الأجيالَ مِنَ البَدءِ؟ أنا الرَّبُّ الأوَّلُ، ومع الآخِرينَ أنا هو" (إش41: 4)"أخبِروا. قَدموا. وليتشاوَروا معًا. مَنْ أعلَمَ بهذِهِ منذُ القَديمِ، أخبَرَ بها منذُ زَمانٍ؟ أليس أنا الرَّبُّ ولا إلهَ آخَرَ غَيري؟ إلهٌ بارٌّ ومُخَلصٌ. ليس سِوايَ. اِلتَفِتوا إلَيَّ واخلُصوا يا جميعَ أقاصي الأرضِ، لأني أنا اللهُ وليس آخَر" (إش45: 21-22) "أنا الرَّبُّ وليس آخَرُ. لا إلهَ سِوايَ. نَطَّقتُكَ وأنتَ لم تعرِفني. لكَيْ يَعلَموا مِنْ مَشرِقِ الشَّمسِ ومِنْ مَغرِبِها أنْ ليس غَيري. أنا الرَّبُّ وليس آخَرُ. مُصَورُ النّورِ وخالِقُ الظُّلمَةِ، صانِعُ السَّلامِ وخالِقُ الشَّر. أنا الرَّبُّ صانِعُ كُل هذِهِ" (إش45: 5-7)"وأنا الرَّبُّ إلهُكَ مِنْ أرضِ مِصرَ، وإلهًا سوايَ لستَ تعرِفُ، ولا مُخَلصَ غَيري" (هو13: 4)"اُذكُروا الأوَّليّاتِ منذُ القَديمِ، لأني أنا اللهُ وليس آخَرُ. الإلهُ وليس مِثلي" (إش46: 9).
وهذه الحقيقة الأزلية أن الله واحد هي أيضًا جوهر الإيمان المسيحي في العهد الجديد، فالسيد المسيح نفسه وآباؤنا الرسل علَّموا بأن الله واحد كمثلما في هذه الآيات:-
"فأجابَهُ يَسوعُ: إنَّ أوَّلَ كُل الوَصايا هي: اسمَعْ يا إسرائيلُ. الرَّبُّ إلهنا رَبٌّ واحِدٌ. وتُحِبُّ الرَّبَّ إلهَكَ مِنْ كُل قَلبِكَ، ومِنْ كُل نَفسِكَ، ومِنْ كُل فِكرِكَ، ومِنْ كُل قُدرَتِكَ. هذِهِ هي الوَصيَّةُ الأولَى. وثانيَةٌ مِثلُها هي: تُحِبُّ قريبَكَ كنَفسِكَ. ليس وصيَّةٌ أُخرَى أعظَمَ مِنْ هاتَينِ. فقالَ لهُ الكاتِبُ: جَيدًا يا مُعَلمُ. بالحَق قُلتَ، لأنَّهُ اللهُ واحِدٌ وليس آخَرُ سِواهُ" (مر12: 29-32) "إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكُل، الذي علَى الكُل وبالكُل وفي كُلكُمْ" (أف4: 6)"وهذِهِ هي الحياةُ الأبديَّةُ: أنْ يَعرِفوكَ أنتَ الإلهَ الحَقيقيَّ وحدَكَ ويَسوعَ المَسيحَ الذي أرسَلتهُ" (يو17: 3)"فمِنْ جِهَةِ أكلِ ما ذُبِحَ للأوثانِ: نَعلَمُ أنْ ليس وثَنٌ في العالَمِ، وأنْ ليس إلهٌ آخَرُ إلاَّ واحِدًا. لأنَّهُ وإنْ وُجِدَ ما يُسَمَّى آلِهَةً، سِواءٌ كانَ في السماءِ أو علَى الأرضِ، كما يوجَدُ آلِهَةٌ كثيرونَ وأربابٌ كثيرونَ، لكن لنا إلهٌ واحِدٌ: الآبُ الذي مِنهُ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ لهُ. ورَبٌّ واحِدٌ: يَسوعُ المَسيحُ، الذي بهِ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ بهِ" (1كو8: 4-6) كل هذه الآيات وغيرها .. أراد الله القدوس أن يثبِّت فينا معرفة أنه واحد لا إله آخر معه.
(3) إشارات عن الثالوث في العهد القديم
ومع أن الله قد ركّز في الإعلان الإلهي في العهد القديم على وحدانيته .. لم يكن ممكنًا اختفاء الثالوث نهائيًا بطول الأسفار المقدسة، لذلك هناك أيضًا إشارات في العهد القديم للثالوث "في البَدء خلق الله السماوات والأرض ... وروح الله يَرف على وجه المياه. وقال الله: (كلمة الله) ليكن نور، فكان نور" (تك1: 1-3). هنا يظهر الثالوث بوضوح منذ أول آية في الوحي المقدس (الله وروح الله وكلمة الله) "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك1: 26). هنا استخدم صيغة الجمع.. ليست للتعظيم (كمثلما في اللغة العربية) ولكن لإعلان حقيقة الثالوث، بدليل أنه جاء بعدها "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خَلقهُ. ذكرًا وأُنثى خَلقهُم" (تك1: 27). وهنا يؤكد على حقيقة التوحيد وهناك إشارة أخرى عن الابن جاءت في صيغة سؤال في سفر الأمثال .. "مَنْ صَعِدَ إلَى السماواتِ ونَزَلَ؟ مَنْ جَمَعَ الرِّيحَ في حَفنتيهِ؟ مَنْ صَرَّ المياهَ في ثَوبٍ؟ مَنْ ثَبَّتَ جميعَ أطرافِ الأرضِ؟ ما اسمُهُ؟ وما اسمُ ابنِهِ إنْ عَرَفتَ؟" (أم30: 4).
(4) الظهور الإلهي الواضح في العهد الجديد
بسبب تجسد ابن الله الوحيد عرفنا حقيقة الثالوث، فقد ظهر لنا الابن متجسدًا وأعلمنا بأبيه الصالح والروح القدس بداية هذا الإعلان الواضح كان عند معمودية ربنا يسوع المسيح حيث سمعنا صوت الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحَبيبُ الذي بهِ سُرِرتُ" (مت3: 17) ورأينا الروح القدس في شكل حمامة "وإذا السماواتُ قد انفَتَحَتْ لهُ، فرأَى روحَ اللهِ نازِلاً مِثلَ حَمامَةٍ وآتيًا علَيهِ" (مت3: 16)، والابن كائنًا في الماء يشهد له الآب.. لذلك سُمي عيد الغطاس "عيد الظهور الإلهي" (الثيؤفانيا).
وهنا تحققت نبوءات الأنبياء "ويَحُلُّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفَهم، روح المَشورَة والقوة، روح المعرفة ومَخافة الرب" (إش11: 2) "هوذا عَبدي الذي أعضُدُهُ، مُختاري الذي سُرَّتْ بهِ نَفسي. وضَعتُ روحي علَيهِ فيُخرِجُ الحَقَّ للأُمَمِ" (إش42: 1) "إني أُخبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضاءِ الرَّب: قالَ لي: أنتَ ابني، أنا اليومَ ولَدتُكَ" (مز2: 7) وبدأنا نعرف أن الله إلهنا هو الآب والابن والروح القدس، وبدأ السيد المسيح يكلمنا عن الآب والروح القدس في أحاديث طويلة، لذلك نقول له في القداس الغريغوري: "الذي أظهر لنا نور الآب، الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس (الحقيقية)".
(5) لماذا أخفى الله حقيقة الثالوث منذ البداية؟
لقد كانت البشرية في حالة ضعف شديد، ومائلة إلى عبادة الأوثان وتعدد الآلهة، فأراد الله أن يثبّت أولاً فكرة وحدانية الله حتى لا يُفهم الثالوث على أنه ثلاثة آلهة ولذلك نلاحظ أن جميع المسيحيين يؤمنون بالثالوث، ولم يحدث أن واحدًا فقط من المسيحيين قد فهم الثالوث على أنه تعدد آلهة أو ثلاثة آلهة. نحن نؤمن بإله واحد فيه ثلاثة أقانيم.
(6) شرح معنى الثالوث
أبسط شرح للثالوث هو أن نستخدم مثلثًا مجسمًا متساوي الأضلاع، وبالطبع سيكون متساوِ الزوايا لدينا الآن مثلث واحد وثلاثة رؤوس .. وكذلك نحن نؤمن بإله واحد وثلاثة أقانيم في المثلث تستطيع أن تقول أ = ب = ج ولكنك لا تستطيع أن تقول أ هو ب هو ج بعينه وإلا تحول المثلث إلى نقطة واحدة ولا يصير له وجود كذلك في الثالوث نقول إن الآب يساوي الابن ويساوي الروح القدس ولكننا لا نقول إن الآب هو الابن هو الروح القدس بعينه.
مرة ثانية: لدينا مثلث واحد وثلاثة رؤوس .. وكذلك لدينا إله واحد وثلاثة أقانيم الآب متميز عن الابن ومتميز عن الروح القدس .. الثلاثة أقانيم متمايزة لو عرفنا أن المثلث كله من معدن الذهب الخالص، فإذا أردنا أن نعرف ما هو معدن الرأس (أ) سنقول إنه (ذهب)، الرأس (ب) هو أيضًا (نفس الذهب)، الرأس (ج) هو (نفس الذهب).
لاحظ أننا نتكلم عن الرأس (أ) وليس النقطة (أ).
الرأس (أ) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (أ).
الرأس (ب) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (ب).
الراس (ج) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (ج).
نفس الكلام ممكن أن يقال عن الثالوث: فالآب هو الله، الابن هو الله، الروح القدس هو الله والثلاثة هم إله واحد "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 7). وإذا سألت:
ما هو جوهر الآب؟ تكون الإجابة: (لاهوت) ما هو جوهر الابن؟ تكون الإجابة: (نفس اللاهوت) ما هو جوهر الروح القدس؟ تكون الإجابة: (نفس اللاهوت) فالثلاثة أقانيم لهم لاهوت واحد "نسجد له ونمجده"وبما أن الرأس (أ) هو المثلث كله منظورًا إليه من ناحية (أ)، والرأس (ب) هو المثلث كله منظورًا إليه من ناحية (ب).. نستطيع أن نقول إن الراس (أ) في الرأس (ب)، والرأس (ب) في الرأس (أ) .. ونفس الكلام يقال عن الرأس (ج) وهذا أيضًا ينطبق على الثالوث القدوس له المجد .. فالسيد المسيح أعلن لنا أنه في الآب والآب فيه"ألستَ تؤمِنُ أني أنا في الآبِ والآبَ فيَّ؟" (يو14: 10)"الآبَ الحالَّ فيَّ هو يَعمَلُ الأعمالَ" (يو14: 10)"صَدقوني أني في الآبِ والآبَ فيَّ" (يو14: 11)"ولكن إنْ كُنتُ أعمَلُ، فإنْ لم تؤمِنوا بي فآمِنوا بالأعمالِ، لكَيْ تعرِفوا وتؤمِنوا أنَّ الآبَ فيَّ وأنا فيهِ" (يو10: 38)"كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ" (يو17: 21).
لذلك قال السيد المسيح:-
"الذي رَآني فقد رأَى الآبَ" (يو14: 9).
"والذي يَراني يَرَى الذي أرسَلَني" (يو12: 45).
وهناك حقيقة أخرى هي:-
بما أن: أ = ب = ج ولهم نفس الجوهر ونفس المقاسات.. لذلك فكل صفات (أ) موجودة في (ب) وفي (ج) وكذلك في الثالوث القدوس: كل صفات الألوهية التي في الآب موجودة أيضًا في الابن وفي الروح القدس، وهذا ما أعلنه السيد المسيح له المجد: "كُلُّ ما للآبِ هو لي" (يو16: 15) فالصفات (الأزلي، الخالق، القادر على كل شيء، العارف كل شيء، ضابط الكل، المُخلِّص، القدوس، .....) يشترك فيها الأقانيم الثلاثة .. ولا يمكن أن نتخيل أن أقنومًا رحيم والآخر غير رحيم، أو أقنومًا عادل والآخر غير عادل!! ففيهم جميعًا كل الصفات بالتساوي.
ومع ذلك:-
هناك صفة واحدة موجودة في الآب ولا يمكن أن توجد في الابن أو الروح القدس، وصفة أخرى في الابن لا يمكن أن توجد في الآب ولا الروح القدس، وصفة ثالثة تُسمى الصفة الأقنومية، والتي بدونها لا يكون هناك تمايز بين الأقانيم فلماذا يُسمى الآب آب، ولا يُسمى الابن أو الروح القدس؟ وكذلك نفس الكلام يقال عن الابن والروح القدس هذه الصفة الأقنومية لكل أقنوم تحِّدد لنا تميزه واسمه وعلاقته بالأقنومين الآخرين:-
الصفة الأقنومية للابن أنه مولود لذلك فهو ابن والصفة الأقنومية للروح القدس أنه منبثق ولذلك فهو ليس ابنًا لأنه ليس مولودًا بل هو منبثق والآب هو الوالد للابن الباثق للروح القدس، ولذلك فصفته الأقنومية أنه ينبوع لا يمكن للآب أن يكون مولودًا وإلا لكان اسمه الابن ولا يمكن للابن أن يكون ينوعًا وإلا لصار اسمه الآب وكذلك الروح القدس أن يكون ينبوعًا ولا مولودًا بل هو روح قدس لأنه منبثق من الآب الآب هو الأقنوم الوالد والباثق، ولا يمكن أن يكون مولودًا ولا منبثقًا الابن هو الأقنوم المولود، ولا يمكن أن يكون والدًا ولا باثقًا ولا منبثقًا الروح القدس هو الأقنوم المنبثق، ولا يمكن أن يكون والدًا ولا مولودًا ولا باثقًا.
شرح هذه العلاقة:-
الآب كائن منذ الأزل بدون بداية وبدون سابق له، فهو أصل الوجود، ولا يمكن أن يكون له بداية، ولا يمكن أن يكون له خالق يخلقه .. بل هو الخالق وليس مخلوقًا الآب هو أصل الثالوث، يخرج منه الابن بطريقة اسمها الولادة، ويخرج منه الروح القدس بطريقة أخرى اسمها الانبثاق ولا يمكن أن يكون خروج الابن والروح القدس من الآب بنفس الطريقة وإلا لصار للآب ابنان أو روحان. ولكن الحقيقة هي أن الآب له ابن وحيد مولود منه قبل كل الدهور، وله روح وحيد منبثق منه أيضًا قبل كل الدهور "اللهُ لم يَرَهُ أحَدٌ قَطُّ. الاِبنُ الوَحيدُ الذي هو في حِضنِ الآبِ هو خَبَّرَ" (يو1: 18) "أنتُمْ تدعونَني مُعَلمًا وسيدًا، وحَسَنًا تقولونَ، لأني أنا كذلكَ" (يو13: 13)"لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ حتَّى بَذَلَ ابنَهُ الوَحيدَ، لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ، بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ" (يو3: 16) "فليَعلَمْ يَقينًا جميعُ بَيتِ إسرائيلَ أنَّ اللهَ جَعَلَ يَسوعَ هذا، الذي صَلَبتُموهُ أنتُمْ، رَبًّا ومَسيحًا" (أع2: 36)"الذي يؤمِنُ بهِ لا يُدانُ، والذي لا يؤمِنُ قد دينَ، لأنَّهُ لم يؤمِنْ باسمِ ابنِ اللهِ الوَحيدِ" (يو3: 18) واضح هنا أن السيد المسيح هو الابن الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، وكذلك الروح القدس هو روح واحد وحيد منبثق من الآب قبل كل الدهور .. ونقول في القداس الإلهي "واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس" نحن نؤمن بآب واحد، وابن واحد، وروح قدس واحد والثلاثة هم الإله الواحد "لكن لنا إلهٌ واحِدٌ الآبُ الذي مِنهُ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ لهُ. ورَبٌّ واحِدٌ يَسوعُ المَسيحُ، الذي بهِ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ بهِ" (1كو8: 6) هذا الشرح لا يُعني أن الآب أقدم أو أقيم أو أهم من الابن والروح القدس لأن الآب أزلي، وهو آب منذ الأزل. فلذلك له ابن خارج منه منذ الأزل والروح القدس أيضًا خارج منه منذ الأزل بدون أسبقية الآب عنهما كلمة الولادة وكلمة الابن توحي لغير العارفين أن هناك زواج، وأن الآب أكبر سنًا من الابن، وأن الابن عندما وُلد انفصل عن الآب كمثل ميلاد البشر والحيوانات.
هنا لابد أن غير ولادة الابن من الآب أنها تختلف عن ولادات الناس والبهائم بأربعة اختلافات:-
(1) لا يوجد زواج طبعًا، بل ميلاد الابن من الآب كميلاد الحرارة من النار، والشعاع من المصباح.
(2) لا يوجد أسبقية، فالابن أزلي مع الآب، لم توجد لحظة أو جزء من الثانية كان الآب بدون ابن، وإلا لما كان أب ثم صار آب. وهذا معناه أن الله يتغير.
الحقيقة أن الله لا يتغير وبالتالي فهو آب منذ الأزل، وبالتالي فالابن خارج منه منذ الأزل، كمثل النار أيضًا تخرج من الحرارة بدون أسبقية النار عن الحرارة بل حيث النار هناك الحرارة والضوء. وكذلك حيث الآب هناك الابن والروح القدس.
(3) لا يوجد انفصال بين الآب والابن، بل هو خارج منه بينما هو كائن فيه بدون انفصال، كمثل خروج الحرارة من النار بدون أن تبرد النار ولا يكون فيها حرارة. وكمثل خروج الفكر من العقل وانتشاره في كل مكان، بينما هو ما يزال في عقل الإنسان.
(4) ولادة الطفل تستغرق لحظات ثم ينفصل عن أمه، وخروج الرصاصة من المسدس تستغرق لحظة وتنطلق تاركة المسدس فارغًا. أما ولادة الابن من الآب فهو ولادة مستمرة بدون انقطاع منذ الأزل وإلى الأبد. كمثل أيضًا دوام خروج الحرارة من النار وما يقال عن ولادة الابن من الآب يقال أيضًا عن انبثاق الروح القدس من الآب .. أيضًا يكون الانبثاق بدون أسبقية. فالآب ليس أسبق على الروح القدس، وكذلك بدون زواج وبدون انفصال وبدون انقطاع بل باستمرار.
الفرق بين الولادة والانبثاق:-
في عالم الفيزياء يفرّقون بين طريقة خروج الحرارة من النار، فيقال (توليد الحرارة)، وبين خروج الضوء من النار، فيقال (انبعاث الضوء) .. وذلك لأن فيزيقيًا هناك اختلاف بين الطريقتين، ولو كان خروج النور والحرارة من النار بنفس الذبذبات والترددات والموجات لكان الاثنان حرارة أو الاثنان ضوءًا، ولكن هناك فارق بين الطريقتين، ولذلك هناك حرارة وهناك ضوء وكذلك في مجال شرح اللاهوت، لقد أعلن لنا الكتاب المقدس أن الابن مولود من الآب، والروح القدس منبثق من الآب، وليس لدينا معرفة كافية عن كنه الولادة أو كنه الانبثاق .. لعلنا سنعرف ذلك في الأبدية!!
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
12 أغسطس 2020
مريم العذراء فى عقيدة الأرثوذكس
تؤمن الكنيسة القبطية الأرثوذكسة بأن مريم العذراء هى الدائمة البتولية، فقد كانت مخطوبة ليوسف النجار وبعد موت يوسف النجار لم تخطب أو تتزوج من أى شخص آخر، فهى لم تعرف رجلا قط كل أيام حياتها بمعنى العلاقة الزوجية والجسدية بين الأزواج، فقد كانت مريم هى العذراء قبل الحبل بيسوع المسيح وأثناء الحبل بيسوع وظلت عذراء بعد ولادة يسوع المسيح حتى آخر يوم فى حياتها على الأرض.
مكانة مريم العذراء فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية:-
1- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تكرم السيدة العذراء الإكرام اللائق بها دون مبالغة أو إقلال من شأنها. فهى القديسة المكرمة والدة الإله المطوبة من السمائيين والأرضيين, دائمة البتولية العذراء كل حين, الشفيعة المؤتمنة والمعينة, السماء الثانية الجسدانية أم النور الحقيقى التى ولدت مخلص العالم ربنا يسوع المسيح.
2- مريم العذراء هى الإنسانة الوحيدة التى إنتظر الله آلاف السنين حتى وجدها ورآها مستحقة لهذا الشرف العظيم "التجسد الإلهى" الشرف الذى شرحه الملاك جبرائيل بقوله "الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلىّ تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يدعى أبن الله" (لوقا 35: 1). لهذا قال عنها الكتاب المقدس "بنات كثيرات عملن فضلاً أما أنت ففقتِ عليهن جميعاً " (أمثال 29: 31)
3- هذه العذراء كانت القديسة كانت فى فكر الله وفى تدبيره منذ البدء ففى الخلاص الذى وعد به آدم وحواء قال لهما "أن نسل المرأة يسحق رأس الحية" (تكوين 15: 3) هذه المرأة هى العذراء ونسلها هو المسيح الذى سحق رأس الحية على الصليب.
4- تحظى مريم فتاة الله بمكانة عظمى في قلب معظم الذين انتسبوا الى المسيح المخلّص، ولها في قلوبهم محبة كبيرة. غير أن هذا لا يمنع القول ان مسيحيّي العالم -وإن قالوا، على العموم، قولا واحدا في حقيقة تجسد ابن الله الوحيد- لا يتفقون في وصف مريم وتكريمها ولا في تحديد مساهمتها في خدمة السرّ "الذي قبل الدهور".
5- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تقدم السلام للعذراء مريم بخشوع كثير واحترام كما قدمه لها الملاك ولكن بلا عبادة.
6- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تكرم العذراء كأم الاله تكريما يفوق كل كرامة لاى ملاك او رئيس ملائكة وفوق الشاروبيم والسارافيم ايضا.. ولكن تكريمنا لها يحدده قولها * هوذا انا امة الرب * فهى فى تقليدنا عبده وامة خاضعة لسلطان الله.. فكأم الاله نكرمها ونعظمها جدا ونتشفع بها، وكأنسانة لايمكن ان نعبدها.
7- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمجد العذراء لا كملكة السماء تجلس بمفردها.. ولكن كملكة تقف عن يمين الملك *قامت الملكة عن يمين الملك* حيث الوقوف لايؤهلها للمساوة كما فى حالة المسيح حينما جلس عن يمين ابيه
8- فى التقليد الكنسى يحتم فى الايقونة القبطية ان ترسم العذراء حاملة للمسيح على ذراعها الايسر *قامت الملكة عن يمين الملك* ولاتقبل الكنيسة ان تقدم تمجيدا للعذراء بشخصها بمفرده ولكن تمجدها كعذراء وكأم معا.
9- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ترى ان مجد ام الاله مكتسب بسبب امومتها للرب يسوع، وليس طبيعيا لذلك لانقدمه لها فى شكل عبادة وانما فى صورة تكريم فائق.
10- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ترى ان نصيب مريم فى استعلان المجد العتيد سيكون غير منفصل عن جسد المسيح الذى سيجمع البشرية كلها معا كانسان كامل رأسه المسيح، غير ان نصيبها سيكون فائقا بالضرورة وعلى كل وجه انما غير منفصل عنا.
11- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تقدم البخور لله امام ايقونة مريم العذراء الحاملة يسوع المسيح لان مريم اصبحت هى الهيكل الجديد الذى احتوى الحمل المقدس المعد للذبيحة، لذلك اصبح لائقا ان يقدم امامها بخور لله لكى تشفعه هى بصلواتها عنا.. فيرفع البخور امام الله حاملا صلواتها وصلواتنا.
12- تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية أن العذراء بما أنها صارت أم الإله المتجسّد, فقد أصبحت أيضًا أمًّا لكلّ الذين صار ذاك الإله أخا لهم بالتجسّد: "لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً . فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا" (عبرانيين 2: 11-14).
لقب مريم العذراء والدة الإله:-
مريم العذراء هى "والدة الإله" theotokos، وهو اللقب الذي منحه اياها المجمع المسكوني الثالث المنعقد في افسس في العام 431م
مريم العذراء هى "والدائمة البتولية" aeparthenos، وهو اللقب الذي جاء به المجمع المسكوني الخامس المنعقد في القسطنطينية في العام 553م.
مريم العذراء هى "الكلية القداسة" panagia، فلم يحدَّد عقائديا، ولكنه مقبول ويستخدمه جميع الارثوذكسيين في العالم.
ميزت الكنيسة الأرثوذكسية في تعليمها عن مريم بين اصطلاحي "العبادة" و"التكريم"، فهي لا تدعو، مطلقا، الى عبادة مريم كعبادة الله، وإنما تكرمها وتعظّمها لأن "إلهاً حقا وُلِدَ منها" (يوحنا الدمشقي)، وهي بذلك تطيع ما جاء على لسانها في انجيل لوقا: "ها منذ الآن (اي منذ قبولي الإلهَ في أحشائي) تكرمني جميعُ الأجيال" (لوقا 1: 48).
تحمل عبارة "والدة الإله" تراثا إيمانيا ذا قيمة لاهوتية عظيمة، فاللفظة اليونانية تعني "حاملة الإله" اي التي حملت الإله في رحمها، وقد وُضعَ فحواها اولا على لسان أليصابات زوجة زكريا الشيخ التي لفظت ذاك النداء التعظيمي "من اين لي هذا أن تأتي أم ربّي اليّ؟" (لوقا 1: 41-43)، (غلاطية 4: 4)، وقد إنتشر ذلك اللقب وانتشر انتشارا واسعا منذ بدء المسيحية وفق شهادة إكليمنضس الإسكندري.
استعمل لقب والدة الإله كثير من الآباء الأولين مثل: هيبوليتس، واوريجانس الذي شرحها في تفسيره للرسالة الى كنيسة رومية، وديديموس الضرير، وألكسندروس بطريرك الاسكندرية الذي خطّها في رسالة وجهها الى مجمع عُقد ضد بدعة آريوس في الاسكندرية في العام 320 (اي قبل المجمع المسكوني الاول بخمس سنوات)، وكيرلُّس الاورشليمي، وغريغوريوس النيصصي، وكيرلُّس الاسكندري وغيرهم، مما يؤكد انها كانت معروفة ورائجة قبل أن سطرها الآباء عقيدةً في مجمع أفسس. ويقول الاسقف كاليستوس (وير): إن تسمية والدة الإله "مفتاحُ العبادة الارثوذكسية الموجّهة الى العذراء"، وذلك اننا "نكرم مريم لأنها والدة إلهنا، ولا نكرمها منفصلة عنه وإنما بسبب علاقتها بالمسيح" (انظر الايقونات الارثوذكسية التي تظهرهما دائما معا، ولا تصوّر مريم من دون ابنها). ويتابع الأسقف بقوله: "إن التعليم الارثوذكسي المتعلق بوالدة الاله منبثق من تعليمها الخاص بالمسيح وحين أكد آباء مجمع أفسس (تسمية مريم بوالدة الإله)، لم يكن ذلك بقصد تمجيدها بل من اجل الحفاظ على العقيدة الحق المتعلقة بشخص المسيح"، ويخلص الى القول: "وأولئك الذين يرفضون تكريم مريم هم انفسهم اولئك الذين لا يؤمنون حقا بالتجسد".
لقب "والدة الإله"، ليس لقب تكريمي فقط لمريم وإنما هو ضرورة لاهوتية تحتّمها، كما يقول القديس كيرلُّس الاسكندري، "حقيقة التجسد"، ولا يمكن لأحد أن يرفض هذه الحقيقة ويُقبَل في الإيمان الحق. فمريم هي ام الرب، وهي أمنا.
لا يوجد مسيحي يقول ان مريم ولدت الاهوت، والقول أن مريم أم الله المتجسد مقصود به الناسوت وليس الاهوت. ففى مريم تمّ أولاً الاتحاد بين الله والإنسان، إذ أن ابن الله اتحد ذاته بجسد إتخذه من جسد مريم، لذلك تدعو الكنيسة العذراء "والدة الإله" لأنها ولدت الإله المتجسّد.
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية أن منزلة العذراء تفوق الملائكة إذ قد أُهّلَتْ أن تحمل فى ذاتها ابن الله المتجسد الذى لا تسعه السموات ولا سماء السموات، فصارت هى هيكل حي للإله الذى: {لا تجسر طغمات الملائكة أن تنظر إليه}. لذلك تخاطبها الكنيسة منشدة: {يامن هى أكرم من الشاروبيم وأرفع مجدًا بغير قياس من السارافيم}، وأيضًا: {لأنه صنع مستودعك عرشًا وجعل بطنك أرحب من السماوات}.
المزيد
23 فبراير 2020
بمناسبة أحد الرفاع وبدء الصوم الكبير
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين
يُعرف هذا الأحد المبارك بأحد الرفاع، وكلمة الرفاع يُقصد بها أن يرفع الطعام الإفطارى أو الطعام الدسم، يُرفع فى هذا اليوم ليبدأ الصوم المعروف بالصوم الكبيروالصوم الكبير يُسمى بالصوم الكبير، ليس فقط لطوله وإنما لأهميته، لأنه هو ذاته صوم ربنا يسوع المسيح، ونحن نصوم من بعده وقياساً عليه، لأنه إذا كان هو قد صام وهو فى غير حاجة إلى الصوم، فمن باب أولى ومن الأحرى أن نصوم نحن لنستغفر الله ونطلب رحمته، والصوم عبادة. " اعبدوا الرب بخشية (بخوف)" (مز2: 11)، هذا هو المزمور الذى سبق الإنجيل " اعبدو الرب بخشية، واهتفوا له برعدة " فنـحن علاقتنا بالله علاقة العبد بالسيد، فنحن بالعبادة نربط أنفسنا ونتواصل مع الله، هذا التواصل هو إقرار بعبوديتنا له، هذا هو معنى العبودية ومنه التعبد بتقديم الصلوات والأصوام وأعمال الرحمة التى نقدمها برهانا لعبوديتنا لجلاله وإقراراً بأنه سيدنا ونحن عبيده، نقدم له صلواتنا وأصوامنا، خصوصاً وأن هذا الصوم وغيره من الأصوام العامة فى كنيستنا أصبحت أصواما تذهب وتجىء كل عام من هنا أصبحت أصواماً تعبدية، كنيستنا كنيسة تعبدية تقسم فترات السنة على مواسم، فبعض أيام السنة إفطار وبعضها أصوام، نصوم ثم نفطر ثم نصوم ثم نفطر وهكذا كل أيام السنة، والسبب فى هذا الإختلاف لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى التغيير حتى لا يقع الإنسان تحت فعل الحياة النمطية التى تكون على وتيرة واحدة، فكنيستنا ترتب أيام السنة ترتيبا فيه تغيير، لأن التغيير فيه لفت للنظر وفيه تحويل للفكر وفيه تنبيه للإنسان، أما الحياة النمطية التى تسير على وتيرة واحدة فهذه حياة مؤداها إلى الفتور. لكن لكى يبقى الإحساس بالفارق موجوداً رأت الكنيسة أن تنظم أيام السنة على فترات تختلف فى الصوم والإفطار قلنا أن الصوم الكبير يُسَمى بالكبير ليس فقط لطوله وإنما لأهميته ، وكذلك هو من الأصوام التى تُسمى بأصوام الدرجة الأولى، وهى الأصوام التى حُدت بقانون، فكـل مسيحى مفروض أن يصوم هذه الأصوام، وهى لازمة وضرورية لكى يكون حقاً مسيحياً ومسيحياً متعبداً فهذه الأصوام الثلاثة هى الأربعين المقدسة، وأسبوع الآلام، والأربعاء والجمعة، حدها القانون الرسولى " مَن لا يصوم الأربعين المقدسة وأسبوع الآلام والأربعــاء والجمعة إن كان كاهناً يُقطع، وإن كان علمانياً يُفرز ". وذلك لأهميتها وهى تسمى أصوام المرتبة الأولى، إن على كل مسيحى هذا الواجب الذى لايصح أن يفلت منه إلاّ إذا كان مريضاً ويجرى مجرى هذه الأصوام الثلاثة فى الأهمية صوم البرمون، وهو اليوم السابق على عيد الميلاد مباشرة واليوم السابق على عيد الغطاس مباشرة، كلمة برمون معناها استعداد فوق العادة. وكذلك الصوم المعروف بصوم يونان نظراً للعلاقة والرباط بين هذا الصوم، وبين رب المجد يسوع المسيح حينما كان فى باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولذلك يسمى يوم الإفطار فصح يونان. وهذا هو التعبير الوحيد الذى يستخدم فيه كلمة فصح، فى إفطار صوم يونان، هذا نظراً للعلاقة الرمزية بين يونان الذى كان فى باطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وبين رب المجد يسوع المسيح.
الصوم الكبير يتألف فى الواقع من ثلاثة أصوام :
1- الأسبوع الأول يسمى مقدمة الصوم الكبير.
2- وبعد الأسبوع الأول مباشرة تبدأ الأربعون المقدسة. وفى نهاية الأربعين المقدسة نختم هذا الصوم بيوم الجمعة المعروف بجمعة ختام الصوم .
3- بعد ذلك يبدأ اسبوع الآلام .
إن اسبوع الآلام فى الواقع اسبوع صوم مستقل بذاته، لأن سيدنا لم يتألم بعد أن صام مباشرة، إنما الكنيسة فى ترتيبها الحكيم رأت أن يُحتفل باسبوع الآلام بأن يصام صوماً نسكياً، ولكى يصام صوماً نسكياً جعلت الأربعين المقدسة مقدمة لأسبوع الآلام، حتى يكون الإنسان فى نهاية الصوم الأربعينى فى حالة من الزهد والنسك والروحانية تسمح له أن يدخل بورع وتقوى فى اسبوع الآلام. الـ 47 يوم الأولى تعتبرها الكنيسة مقدمة لأسبوع الآلام كما نعتبر الأسبوع الأول مقدمة للأربعين المقدسة وفرضت قوانين الكنيسة احتراما لهذا الصوم، وللإستفادة منه أن يصام إلــى الغروب وخصوصا للشباب، ممكن يُعفى من هذا الصوم الإنقطاعى الطويل المرضى والشيوخ والنساء الحوامل والنساء المرضعات والأطفال الصغار. إنما الشباب مدعوون إلى أن يصوموا الصوم الكبير إنقطاعيا إلى الغروب وبعد ذلك يأكل طعاماً نباتياً وعن هذا الطريق تكون الاستفادة الحقيقية من الصوم، ومن غير ذلك لا تكون الإستفادة كاملة أو تامة من الصوم، فإذا كان الإنسان لا يصوم إنقطاعياً فصومه ليس كاملاً ولا منطقياً، لأن الصوم يقتضى الإنقطاع عن الطعام، فإذا أفطر الإنسان فى الصباح فكيف يُعّد صائما، لابد أن ينقطع عن الطعام فترة مناسبة، وكما قلنا احتراماً لهذا الصوم وتوقيراً له رأت الكنيسة أن تربط هذا الصوم بقانون، أن القادرين وخصوصا من الشباب يصومونه إلى الغروب، أما الشيوخ والأطفال والمرضى والنساء الحوامل والنساء المرضعات والأطفال يعفون من هذا الصوم الإنقطاعى الطويل، وإن كانوا لا يعفون من الطعام النباتى.
الأسبوع الأول نسميه مقدمة الصوم الكبير، السبب الأساسى فى هذه المقدمة هو ذات الاحترام والتقديس الذى للأربعين المقدسة التى صامها الرب يسوع. فمن منطلق هذا التقديس والاحترام والتوقير ندخل إلى الصوم بعد فترة معينة، نكون قد أعددنا أنفسنا لها، ولما كان هذا الصوم ينبغى أن يكون نسكياً فنبدأ بمقدمة، ففى الأسبوع الأول ممكن أن يصوم الإنسان إلى الثالثة أو إلى ما قبل ذلك، إذا لم يكن قادراً، حتى إذا دخل إلى الأربعين المقدسة يصوم إلى الغروب مثل أى حركة طبيعية فى الدنيا لابد أن تبدأ بطيئة، وئيدة، قطار السكة الحديد لا يمكن أن يبدأ بسرعة حينما يقوم، فهو لا يبدأ بسرعة 80 كيلو مثلا، إنما يبدأ بحركة وئيدة إلى أن تتمكن المحركات أن تسير بالسرعة الكبيرة المطلوبة.
لازال السبت له كرامته:-
فنحن تقديساً لهذا الصوم نبدأ بهذه المقدمة، وفى نفس الوقت هى تعويض عن أيام السبوت التى لا تصام إنقطاعياً، فى ترتيب كنيستنا أن يوم السبت لايصام إنقطاعيا، لأن يوم السبت عيد الشريعة القديمة، والكنيسة المسيحية لم تلغ احترام السبت، وهذه نقطة مهمة فيها رد على إخوتنا الذين يسموا أنفسهم بالسبتيين، نحن لم نبدل السبت بالأحد، هذا التعبير غير أرثوذكسى، لم يحدث أبداً أننا استبدلنا السبت بالأحد، إنمــا لازال السبت له كرامته، لكن مجد الأحد غطى على مجد السبت. كلمة أبدلنا السبت بالأحد، هذا ليس تعبيرنا لم يحدث فى الكنيسة الأرثوذكسية أن أبدلنا السبت بالأحـد، لازال يوم السبت مكرماً فى الكنيسة الأرثوذكسية:
أولاً: لأن هذا اليوم لايصام فيه إنقطاعيا. إحتراما لأن السبت عيد ولازال عيداً فى الكنيسة الأرثوذكسية.
ثانيا: فى الألحان يعامل يوم السبت معاملة الأعياد، ويعامل معاملة الأحد تماما، مما يدل على أن يوم السبت فى المسيحية الأرثوذكسية له كرامته بإعتباره عيداً.
ثالثا: أنه تُمنع فيه الميطانيات مثل يوم الأحد، الميطانيات معناها الصلوات الراكعة، حتى بالنسبة إلى الرهبان، تمنع الميطانيات يوم السبت مثل يوم الأحد، وتُمنع فيه الصلاة الراكعة كما قال الكتاب المقدس عن بولس الرسول يقول " جثونا على ركبنا وصلينا "، هذا الجثو يعفى المسيحيون منه يوم السبت ويوم الأحد وكذلك أيام الخماسين المقدسة، تكريماً لها وكذلك لفتا للنظر ولتحريك القلب إلى الشعور، بأنه يجب أن تكون رؤوسنا مرفوعة وقائمة وليست مذلة لأن الرب قد صنع خلاصه معنا إذن لهذه النقط الثلاثة يوم السبت له كرامته فى الكنيسة الأرثوذكسية، فيعامل معاملة الأحد من حيث أنه لايصام إنقطاعيا، وكذلك فى الألحان وعدم الصلاة الراكعة أو الميطانيات إنما مجد يوم الأحد غطى على مجد يوم السبت، فهنا لا يوجد إبدال، وأنا أضرب مثل لهذا، عندما تشرق الشمس ننظر فى السماء فلا نجد النجوم، هل النجوم انعدم وجودها، لا.. طبعا فى النهار لاتزال النجوم موجودة، بدليل أنه إذا حدث كسوف للشمس تظهر النجوم، إذن النجوم كانت موجودة ولاتزال موجودة، إنما حينما تكون الشمس ساطعة، بهاء الشمس يغطى على بهاء النجوم، فالنجوم لاتظهر لكن ليس معنى ذلك أنها غير موجودة. فنحن لم نلغ السبت، وإنما مجد يوم الأحد لأن فيه قام المسيح من بين الأموات وصنع الخليقة الجديدة، فمجد الخليقة الجديدة ومجد العمل العظيم الذى صنعه المسيح بمجده وقيامته فاق مجد الخليقة الأولى، فمجد يوم الأحد غطى على يوم السبت. والسيد المسيح قال " لاتظنوا أنى أتيت لأنقض الشريعة والأنبياء، ماجئت لأنقض بل لأتمم "فنظرتنا فى المسيحية إلى أمور العهد الجديد إنما هى تتميم للقديم، فحتى فى مسألة يوم السبت لازال يوم السبت له كرامته، ولازال عيداً فى الكنيسة المسيحية، وأقدم المصادر المسيحية تشير إلى أن القداس كان يُحتفل به فى بدء المسيحية فى يومى السبت والأحد، فإقامة قداس يوم الأربعاء والجمعة هذه جاءت متأخرة فى الزمن، إنما فى بدء المسيحية كان الإحتفال بالقداس يوم الأحد ويوم السبت. وهذا تكريم آخر ليوم السبت وهو عيد الشريعة القديمة، فلا زالت له فى العهد الجديد كرامته.
ففى الأربعين المقدسة فيه خمسة سبوت، فهذه يعوض عنها بخمسة أيام، الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ومع إضافة السبت والأحد يكون أسبوع المهم أن هذا هو الأسبوع الأول المعروف بمقدمة الصوم الكبير، الذى كما قلنا أنه تمهيداً للدخول فى الصوم نسكياً، الأمر الثانى أنه تعويض عن خمسة أيام السبوت التى لا تصام إنقطاعياً ثم بعد ذلك الأربعين المقدسة مباشرة، أنا أقول هذا الكلام أيضا تصحيحاً لبعض أولادنا الأقباط، الذين يصوموا الأربعين المقدسة، ويفطرون الـ 15يوم الأولى، ويقولوا نبدأ من الأربعين المقدسة، هذا خطأ، الأربعين المقدسة تبدأ بعد اسبوع واحد من الصوم، لأن الأسبوع الأخير هو اسبوع الآلام وهو صوم منفصل عـن الأربعين المقدسة نقول كما قال المزمور" اعبدوا الرب بخشية واهتفوا له برعدة "، اختارت الكنيسة هذا المزمور لتؤكد أننا فى حاجة إلى من يلفت نظرنا إلى أهمية العبادة فى حياتنا الدينية، نحن عبيد والرب هو سيدنا، فعلامة خضوعنا وتقديرنا واحترامنا وإجلالنا لخالقنا وسيدنا أن نعبده العبادة، عبد يعبد بمعنى خدم يخدم، وخدم بأن جعل نفسه عبداً لسيد وهذا السيد هو الله. فعلامة إعترافنا وإقرارنا بالله وبسيادته علينا أن نعترف له بعبوديتنا، فنحن عبيده وهو سيدنا، ومن هنا جاءت العبادة كمراسم يعبر بها الإنسان عن تعبده لله، والعبادة مراسم فيها روح وفيها شكل، روح وشكل، الإثنين معا لأننا روح وجسد، الإنسان يتألف من روح ومن جسد، فالعبادة فيها روح وفيها شكل، فيها جوهر وفيها مظهر، القلب يخضع ويخشع ويخنع ويتعبد ويقر ويتواضع وينسحق، والجسد أيضا لإرتباطه بالروح يعبر عما تنفعل به الروح، فالروح التى تخشع، يخشع معها الجسد، ومن هنا كان إنحناء الإنسان أو ركوعه أو سجوده تعبير عما ينطوى عليه ضميره وقلبه من خضوع وخشوع وورع وانسحاق أمام العزة الإلهية هذه العبادة تقوم على أركان ثلاثة: هى التى شملها كلام المسيح فى عظته على الجبل وفى هذا الفصل الذى تلى علينا فى هذا الصباح :
الرحمة - الصدقة – الصوم
والجميل أن يسوع المسيح ربنا لم يبدأ لا بالصلاة ولا بالصوم، إنما بدأ بالكلام عن الصدقة أو الرحمة. وهذه عظمة الشريعة المسيحية وعمق نظرة الله إلينا، ولفت لنظرنا أنه قبل أن يطالبنا بالصلاة أو الصوم يطالبنا بالرحمة، فالرحمة أفضل من الذبيحة عند الله، الرحمة للفقراء والمساكين، والشىء الذى يبدو لنا غريباً حسب النظرة الإنسانية أنه فى يوم الحساب وفى يوم الدينونة لن يسألنا لا عن الصلاة ولا عن الصوم أبدا، إنما يقول للذين عن يمينه "تعالوا أيها المباركون من أبى رثوا الملكوت المعد لكم قبل إنشاء العالم لأنى كنت جائعا فأطعمتمونى، عطشاناً فسقيتمونى، عرياناً فكسوتمونى غريباً ومحبوساً فأتيتم إلىّ " لا يوجد كلام آخر لا عن الصوم ولا عن الصلاة، كل الحساب قائم على أساس الرحمة، وهذا يؤكد تماما أن الله يريد الرحمة قبل أن يريد الذبيحة، إن عبادة الإنسان لها واجب على الإنسان لكن الله لا يطلبها، لو كنت إنسان عظيم ومرتفع النفسية وتعمل الخير لا تتطلب من الشخص أن يشكرك، هو من واجبه أن يشكرك، لكن لأنك خَيّر تعمل الخير لأجل الخير فى ذاته، فالله لو أنه يطلب منا الصلاة والصوم كفريضة ويحاسبنا عليها يكون الله خلقنا لغرض يعود عليه هو، وفى هذه الحالة يكون الله أنانياً، وهذا ما نسمعه أحيانا فى بعض الناس، يقول: ربنا خلقنا لكى يعذبنا !! هذا المفهوم خاطىء، الله خلقنا لخير يعود علينا نحن وليس عليه هو، الله كان فى غنى عنا، لكن لماذا خلقنا؟ خلقنا لخير يعود على الإنسان لأن الله فى سعـادة لا تستقصى، فأراد أن يشرك معه كائنات غير موجودة، يوجدها لكى تشترك معه فى هذه السعادة التى لا تستقصى، إذن الوجود خير من العدم، لماذا ننظر هذه النظرة البائسة الشقية أن الله خلقنا لكى نشقى، لا.. بل خلقنا لكى نسعد، والله لأنه السعيد الأعظم وسعادته لا تستقصى، خلقنا لنشترك معه فى سعادته التى لا تستقصى. اضرب لك مثل بسيط، عندما يكون إنسان غنى جدا وليس عنده أولاد يكون حزين لأنه ليس له ابن يتمتع بهذا الخير العظيم، لكن لو كان له ابن يكون له فرح لأنه اطمئن إلى أن هذا الغنى والإرث الذى له، له ابن يأخذه بدلا من أن يتدمر هذا الخير عندما يكون الإنسان سعيد أو عنده فرح، نراه يدعو الأصدقاء والجيران ليشتركوا معه فى هذا الفرح، لأن هذا يزيد فرحه على الرغم من التكاليف التى يتحملها.
لماذا خلقنا الله ؟
جاءنا هذا الإحساس الخَيّر من الله، لأن الله هو خالقنا، والله فيه صفة الخيرية وصفة الجودة التى تجعله يفرح بأن يخلق كائنات لكى تشترك معه فى سعادته التى لا تستقصى، وهذا معنى أن الله جعل لذته فى بنى آدم عندما قال الملاك: " المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة "، بالناس المسرة أى بالناس مسرته؟ الله مسرور بخليقته، فرحان بخليقته، وبالنـاس مسرته، يعنى لذته فى بنى آدم، يفرح بهم إذن الله عندما خلقنا لم يخلقنا لكى يعذبنا كما يقول بعض الناس حاشا .. إنما لأن الله هو الخير الأعظم، كما يقول بعض الفلاسفة: فلأنه الخير الأعظم فمن خيريته وجودته محبته للبشر، لذلك نحن فى الصلوات نقول يامحب البشر، فالله يحب البشر قبل أن يخلقنا، ولأنه كان يتمتع بسعادة لا تستقصى لذلك خلقنا لنتنعم نحن بها ومعه. توجد كلمة جميلة يقولها يوحنا الرسول: " نحن الآن أولاد الله "، طبعا بالتبنى وبالفضل، نحن الآن أولاد الله بالمعمودية، أعطاهم الحق أن يصيروا أولاد الله أى المؤمنين باسمه " نحن الآن أولاد الله ولم يتبين بعد ماذا سنكون !! " ياإلهى، ما هذا الجمال كله، لم يتبين بعد ماذا سنكون، هنا فتح أمامنا طريق الترقى، نحن اليوم فى درجة أولاد الله لكن أمامنا طريق مفتوح إلى فوق، طريق صاعد، قال: " كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل " نقطة البداءة أننا أولاد الله " لم يتبين بعد ماذا سنكون، غير أننا سنصير مثله " لأننا سنراه كما هو، سنراه كما هو فى حقيقته، فى طبيعته، ندخل إليه وإلى طبيعته دخولا، هو الله والإنسان خُلق ليكون إلهاً. كما يقول القديس اكليمنضس الاسكندرى، نحن خُلقنا لنكون آلهة، طبعا تحت قيادة الإله الأكبر العظيم، هذا هو الشرف الذى نحن فيه، لم نُخلَق لكى نشقى كما قال بعض الناس، لا.. نحن خُلقنا لكى نكون عائلة الله ، الله هو رب الأسرة، رب العائلة ، ونحن عائلة بيت الله ، هذا تعبير الكتاب المقدس، عائلة بيت الله، " لا أعود بعد أسميـكم عبيداً "، انظر الجمال لا أعود بعد، حتى كلمة عبيدك، هى أمر طبيعى لأننا عبيدك يارب، لكن الجمال أنه لا يريد أن نكون عبيد أو فى مرتبة العبيد، نحن نقول عبيد، وبولس الرسول يقول: عبد يسوع المسيح وأسيره، لكن المسيح له نظرة أخرى، نظرة ترفعنا إلى فوق، لا أعود أسميكم بعد عبيد إنما أحباء، لأنى أعلمتكم بكل ما سمعته من أبى. هنا يدخلنا إلى المعرفة، يدخلنا إلى فوق، يدخلنا إلى المكاشفات الروحانية التى ترفع مكانتنا من مكانة العبيد إلى أسرة بيت الله هنا العبادة تتألف من الرحمة أولا ثم بعد ذلك يتكلم عن الصلاة ويتكلم عن الصوم، والشىء الغريب أنه لم يقل صلوا، ولا مرة تجد المسيح يقول صلوا، أبداً، ولا يقول صوموا أبداً، ممكن تجد هذا الكلام من الرسل أو من نبى من الأنبياء، إنما الله لم يحدث أن قال صلوا أو صوموا، لأن هذا واجبنا نحن، هذه هى واسطتنا لكى نترقى إلى فوق، العبادة ليس المقصود بها أننا نثبت فقط أننا عبيد لخالقنا، وأن هذا برهان على عبادتنا، نظرة الله إلينا على أن الصلاة والصوم هذا واجبنا نحن، علينا أن نشكر الله، هو صنع معنا الخير ولا يتطلب حتى الشكر، لكن نحن علينا أن نشكر، هذا واجبنا، كذلك السيد المسيح لا يقول أن تصلى أو تصوم، أبدا، هذا واجبك، واجـب التعبد. أنت الذى تقدر فضل من يحسن إليك، ولذلك هو يقول متى صليتم، متى صمتم، لم يقل صلوا ولم يقل صوموا، واجبى أنا كإنسان يثبت أنه كريم وأنه يقدر فضل من أحسن إليه.
سوء الفهم للصوم:
أريد أن أنبه الناس التى ترى أن أولادها فى المدارس ويخافوا عليهم من الصوم، هذه نظرية خاطئة مبنية على سوء فهم للصوم، الإنسان الذى يتصور أن ابنه أو ابنته عندما يأكل طعام نباتى يضعف وخصوصا وهو يذاكر، هذا الكلام غير سليم، الثور الذى هو رمز القوة، ماذا يأكل؟ يأكل النبات فقط، النبات هو غذاء الإنسان فى حياته الأولى، الإنسان أصله نباتى، الفيل أقوى الحيوانات، الفيل لو أمسك الأسد بزلومته يقطمه، الفيل يضرب الشجرة برجله فتميل، الفيل يأكل النباتات. القرد الذى قوته عشرة أمثال قوة الرجل وعشرين مرة مثل المرأة، يأكل النباتات وجوز الهند إذن الأكل النباتى لا يضعف، كذلك الأكل النباتى يساعد على صفاء الذهن وهذه مهمة للأولاد والبنات الذين يدرسوا، بل أكثر من هذا أن الإنسان الذى يعيش نباتى لا تهاجمه الشيخوخة العقلية أو ما يسموه تصلب شرايين المخ، وهذه مسألة معروفة لذلك تجد من يسموهم النباتيين، الذين يعيشون طول أيام حياتهم يأكلوا نباتات ولا يسمحوا لأنفسهم أن يأكلوا اللحوم لأسباب صحية ولأسباب ذهنية، وليس لأسباب دينية وإنما لأسباب صحية، يوجد أديب ايرلندى كتب كتاب اسمه العودة إلى متوشالح، متوشالح عاش 960 سنة أطول إنسان عمراً، فيقول لو عاد الإنسان نباتيا طول أيام حياته لأصبح أطول عمراً، وأكثر صحة، وأكثر صفاءا ذهنياً، وهناك الرياضى العظيم فيثاغوراس كان نباتى أيضا، وهناك من العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين يروا أن الحياة النباتية حياة أنسب للذهن وأيضا لصحة الإنسان، فلا تهاجمه الأمراض. الفيل يعيش أحيانا 300 سنة والأسد يعيش30 سنة والعشر سنين الأخيرة يكون فيها ضعيف أيضا هناك شىء مهم من الناحية الأخلاقية، النباتات تساعد على الدم الهادىء وعلى الأخلاقيات الطيبة، وأكل اللحوم يساعد على التوحش وعلى إثارة الغرائز ولهذا السبب الكنيسة المسيحية التى أباحت أكل اللحوم منعت أكل الدم والمخنوق؟ لأنه يثير الغرائز، الحيوانات آكلات النبات تجدها هادئة، الحيوانات آكلات اللحوم هى المتوحشة، الأطفال الصغار يركبون الفيل ويلعبون عليه ولا يشعروا بأى خطر لماذا ؟ لأنه من آكلات النبات، بينما كلب صغير كل الناس تخاف منه، حتى الرجل الكبير يخاف منه لماذا؟ لأنه من آكلات اللحوم. فالطبع يتأثر بالأكل وهى نظرية معروفة علمياً، فالحيوانات آكلات اللحوم دائما متوحشة، تعالوا معى إلى الطيور وإلى الدواجن والفراخ والبط والوز والحمام والعصافير، كل هذه هادئة لأنها من آكلات النبات أو الحبوب، بينما النسر والصقر وما إليها لأنها من آكلات اللحوم فيسموها الطيور الجوارح، ممكن نسر يخطف طفل يأكله، فهنا نظرية أخلاقية أن النبات يساعد على هدوء الطبع وعلى التحكم فى الغرائز، بينما اللحوم وما إليها تعمل على الإثارة، لذلك لو سيدة أخطأت وأعطت الفراخ مصارين فرخة ذبحتها تتوحش الفراخ، تأكل فى بعضها الخلاصة ياأولادنا أريد أن أقول أننا نخطىء عندما نلقن أولادنا وبناتنا خصوصا الذين فى المدارس أن الأكل الصيامى يُضعف أفلاطون فيلسوف وثنى غير مسيحى قبل المسيحية وقبل التجسد يقول " المدينة الصحية التى يأكل أهلها حبوباً وبقولاً وفواكه ولا يأكلون لحماً قط "، نريد أن نغير الأفكار التى فى أذهاننا، فلو صمنا فالصوم يفيدنا روحياً ويفيدنا صحياً ويفيدنا ذهنياً ويفيدنا أخلاقياً.
ونعمة الرب تشملنا جميعا وله الإكرام إلى الأبد آمين .
نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى
المزيد
14 ديسمبر 2019
تسبحة 7 و 4 والأربعة هوسات
إن تسبحة كيهك التي تُصلى ليالي الآحاد الكيهكية هي تسبحة كل أحد على مدار السنة لأنه هو يوم القيامة، الذي تحتفل فيه الكنيسة بهذه الذكرى أسبوعيًا، بسهرها حتى طلوع الفجر الذي قام فيه السيد المسيح وعند طلوع الفجر كانت البُشرى الملائكية بدحرجة الحجر، وإعلان القيامة المجيدة فبعد أن تُصلى صلوات مزامير نصف الليل بخدماتها الثلاثة يُقرأ في أول خدمة إنجيل لقاء العريس مع العذارى اللواتي استعددن بإيقادهن مصابيحهن(مت25: 1-13)"حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ" (مت25: 1-13).
وفي الخدمة الثانية نصلي إنجيل التوبة "المرأة الخاطئة"، ولقاء المحبة مع السيد المسيح في بيت الفريسي، فنشتم رائحة طيب عطرة (هي أصلًا رائحة دموع المرأة الخاطئة وليست رائحة الطيب المسكوب).. فدموعها التي بللت بها قدمي المُخلّص هي أقصر قيمة وأريجًا من رائحة الطيب المسكوب.. (لو7: 36-50)"وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الْفَرِّيسِيِّ وَاتَّكَأَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ. فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا: "لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ". فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: "يَا سِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ". فَقَالَ: "قُلْ، يَا مُعَلِّمُ". "كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى الْوَاحِدِ خَمْسُمِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى الآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعًا. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟" فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ:"أَظُنُّ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَرِ". فَقَالَ لَهُ: "بِالصَّوَابِ حَكَمْتَ". ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: "أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلًا". ثُمَّ قَالَ لَهَا: "مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ". فَابْتَدَأَ الْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: "مَنْ هذَا الَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟". فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ" (لو7: 36-50).
ونختم صلوات الخدمة الثالثة بوعد الراعي لقطيعه بعدم الخوف من أي شيء.. هذا القطيع ولو أنه صغير ومفروز من العالم، لكنه بإطاعته لراعيه أصبح الرب من نصيبه ومن حقه أن يرث الملكوت.. (لو 12: 32-40)"لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاسًا لاَ تَفْنَى وَكَنْزًا لاَ يَنْفَدُ فِي السَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضًا. "لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً، وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجعُ مِنَ الْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ. طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ. وَإِنْ أَتَى فِي الْهَزِيعِ الثَّانِي أَوْ أَتَى فِي الْهَزِيعِ الثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هكَذَا، فَطُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ. وَإِنَّمَا اعْلَمُوا هذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي السَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذًا مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ" (لو 12: 32-40).
وتبدأ التسبحة بلحن نُصليه يوميًا.. وهو لحن (تين ثينو Ten;ynou)، ومعناه: "قوموا يا بني النور لنسبح رب القوات".. وهنا نجد الكنيسة تحثنا على السهر، الذي هو تعبير عن الوقوف في نور السيد المسيح، لنسبح رب القوات، لأن بنوره نعاين النور.. وهنا ينطبق قول بولس الرسول: "جَمِيعُكُمْ أَبْنَاءُ نُورٍ وَأَبْنَاءُ نَهَارٍ. لَسْنَا مِنْ لَيْل وَلاَ ظُلْمَةٍ. فَلاَ نَنَمْ إِذًا كَالْبَاقِينَ، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ... فَلْنَصْحُ لاَبِسِينَ دِرْعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَخُوذَةً هِيَ رَجَاءُ الْخَلاَصِ" (1تس5: 4-8) وكلمة "اسهروا" نجدها من أكثر الكلمات التي تكررت في الأناجيل، لأنها هي متعة روحية تنعش الروح، وتجدد النفس، وتقوي العلاقة بين الإنسان والله فالسهر في تسبيح رب القوات خالق الكل هو:
- اشتراك في تمجيد مع القديسين والملائكة في تمجيد الرب.
- وتدريب على الوجود مع الله باستمرار.
- وأيضًا استعداد للقاء العريس السماوي.. فهو تصريح واضح لأصحاب المصابيح الموقدة للدخول مع العريس السماوي عندما يأتي الصوت الصارخ: "هوذا العَريسُ مُقبِلٌ، فاخرُجنَ للِقائهِ!" (مت25: 6).
ولاشك أن السهر في بدايته يكون عبئًا على الإنسان وشيئًا ثقيلًا عليه، ولكن مع جهاد الإنسان وتخطيه هذه المرحلة بالتغصب (يبدأ بالتغصب.. أي تغصب الذات على السهر، وينتهي بالحب).. تنتهي هذه المرحلة بالمحبة الغير محدودة، والانطلاقة الروحية التي لا يساويها شيء، وهي أن يقضي الإنسان ليلة في التسبيح والشكر وتقديم صلوات يشتمها ضابط الكل رائحة بخور عطرة، فيتحول السهر داخل الإنسان من شيء ثقيل إلى عادة شهية لذيذة، يتمتع بها، ولا يستطع فيما بعد أن يتخلى عنها أو يفضل النوم عنها.
أقسام تسبحة 7 و 4
تسمى التسبحة الكيهكية (7 و4) لأنها تتكون من أربع هوسات، ويعقبها سبع إبصاليات، ثم سبع ثيؤطوكيات، مرتبة على سبعة أيام الأسبوع،وكل يوم من أيام الأسبوع له "إبصالية" و"ثيؤطوكية" الخاصة به، وهذا بخلاف المدائح العربية والابصاليات القبطية المرتبة على الأربع هوسات.. والهدف من ذلك هو إطالة وقت التسبيح الذي نتمتع به في تسبيح رب القوات وخالق الكل.. وأيضًا الطروحات المترتبة على الهوسات والمَجمَع والثيؤطوكيات، التي تفسر لنا مع تذكرة ما نركز عليه في هذا اليوم. وإليك فكرة بسيطة عن ترتيب التسبحة:
(1) الهوس الأول
هو عبارة عن تسبحة موسى النبي والشعب كله عندما عبروا البحر الأحمر، وهى المسجلة بالتفصيل فيسف الخروج (خر 15) "حِينَئِذٍ رَنَّمَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ هذِهِ التَّسْبِيحَةَ لِلرَّبِّ وَقَالُوا: "أُرَنِّمُ لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ. الرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي، وَقَدْ صَارَ خَلاَصِي. هذَا إِلهِي فَأُمَجِّدُهُ، إِلهُ أَبِي فَأُرَفِّعُهُ. الرَّبُّ رَجُلُ الْحَرْبِ. الرَّبُّ اسْمُهُ. مَرْكَبَاتُ فِرْعَوْنَ وَجَيْشُهُ أَلْقَاهُمَا فِي الْبَحْرِ، فَغَرِقَ أَفْضَلُ جُنُودِهِ الْمَرْكَبِيَّةِ فِي بَحْرِ سُوفَ، تُغَطِّيهِمُ اللُّجَجُ. قَدْ هَبَطُوا فِي الأَعْمَاقِ كَحَجَرٍ. يَمِينُكَ يَا رَبُّ مُعْتَزَّةٌ بِالْقُدْرَةِ. يَمِينُكَ يَا رَبُّ تُحَطِّمُ الْعَدُوَّ. وَبِكَثْرَةِ عَظَمَتِكَ تَهْدِمُ مُقَاوِمِيكَ. تُرْسِلُ سَخَطَكَ فَيَأْكُلُهُمْ كَالْقَشِّ، وَبِرِيحِ أَنْفِكَ تَرَاكَمَتِ الْمِيَاهُ. انْتَصَبَتِ الْمَجَارِيَ كَرَابِيَةٍ. تَجَمَّدَتِ اللُّجَجُ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ. قَالَ الْعَدُوُّ: أَتْبَعُ، أُدْرِكُ، أُقَسِّمُ غَنِيمَةً. تَمْتَلِئُ مِنْهُمْ نَفْسِي. أُجَرِّدُ سَيْفِي. تُفْنِيهِمْ يَدِي. نَفَخْتَ بِرِيحِكَ فَغَطَّاهُمُ الْبَحْرُ. غَاصُوا كَالرَّصَاصِ فِي مِيَاهٍ غَامِرَةٍ. مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟ تَمُدُّ يَمِينَكَ فَتَبْتَلِعُهُمُ الأَرْضُ. تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ الشَّعْبَ الَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ. يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ الرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ الرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. تَقَعُ عَلَيْهِمِ الْهَيْبَةُ وَالرُّعْبُ. بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَالْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ. حَتَّى يَعْبُرَ الشَّعْبُ الَّذِي اقْتَنَيْتَهُ. تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ. الرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ". فَإِنَّ خَيْلَ فِرْعَوْنَ دَخَلَتْ بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى الْبَحْرِ، وَرَدَّ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ مَاءَ الْبَحْرِ. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا، وَخَرَجَتْ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وَأَجَابَتْهُمْ مَرْيَمُ: "رَنِّمُوا لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ..." (خر 15: 1-21) والبحر الأحمر هنا يذكرنا أنه كان رمزًا للمعمودية، التي تُعتبر حدًا فاصلًا بين فرعون وجنوده، وبين الشعب الماشي في البرية مع إلهه فالكنيسة بعبور أولادها في مياه المعمودية.. هي الآن في برية العالم، وترنم تسبحة الغلبة والخلاص (ترنيمة موسى).. فهي تُرتلها كل يوم إلى أن تُرتلها في تمام الغلبة والنُصرة في الأبدية.. كما ذكر ذلك مُعلمنا يوحنا الرائي..
"ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ. وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ، وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: "عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَارَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ" (رؤ15 : 1–4) ومن هنا نجد ارتباطًا قويًا بين كنيسة العهد القديم في رموزها، وبين كنيسة العهد الجديد.. كنيسة تحقيق الرموز.
إن الكنيسة اليوم ترتل ترنيمة الغلبة وهي عابرة بحر هذا العالم، لتؤكد لنا نصرتنا على العالم وشهواته، ولترفع من أرواحنا المعنوية في جهادنا وحربنا الغير منظورة مع قوات الشر الروحية، وأيضا تأكيدًا لقوة الله وروحه القدوس الذي يعمل فيها.. فهي سر نصرتنا.. فهي تؤكد لنا أن الشيطان قد ذُل وهو يغوص مثل الرصاص في بحر ليس له قرار.. أي جرن المعمودية).
(2) الهوس الثاني
هو عبارة عن المزمور (135)"هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ، الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ بَيْتِ إِلهِنَا. سَبِّحُوا الرَّبَّ لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ. رَنِّمُوا لاسْمِهِ لأَنَّ ذَاكَ حُلْوٌ. لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ يَعْقُوبَ لِذَاتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ لِخَاصَّتِهِ. لأَنِّي أَنَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ، وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيعِ الآلِهَةِ. كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ. الْمُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. الصَّانِعُ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ. الْمُخْرِجُ الرِّيحِ مِنْ خَزَائِنِهِ. الَّذِي ضَرَبَ أَبْكَارَ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ. أَرْسَلَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي وَسَطِكِ يَا مِصْرُ، عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَى كُلِّ عَبِيدِهِ. الَّذِي ضَرَبَ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ: سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ، وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، وَكُلَّ مَمَالِكِ كَنْعَانَ. وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثًا، مِيرَاثًا لإِسْرَائِيلَ شَعْبِهِ. يَا رَبُّ، اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ. يَا رَبُّ، ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ. أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. كَذلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ! مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا. يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا بَيْتَ هَارُونَ، بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا بَيْتَ لاَوِي، بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا خَائِفِي الرَّبِّ، بَارِكُوا الرَّبَّ. مُبَارَكٌ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، السَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ. هَلِّلُويَا" فهذا المزمور هو تسبحة شكر خالص لله.. وهذا الشكر هو الذي تُقدمهُ الكنيسة لله خالقها ومدبرها وراعيها من أجل محبته لها ولنا.. (فالكنيسة هي نحن).. فهو الذي أنقذها عندما عبر بنا بحر الموت، وقد أعالنا في البرية، ويعولنا حتى اليوم في برية العالم، ويقوتنا بجسده ودمه الأقدسين، كما أعال الشعب في البرية أربعين سنة.. وثيابه لم تُبلى، ونِعال رجليه لم تتهرأ، وأعطاهم المَن من السماء.. فهو أعطانا اليوم المَن السماوي الذي يأكل منه لا يموت إلى الأبد إن الشكر هو طبيعة الكنيسة المجاهدة كل يوم.. فكما قال مار إسحق:"ليست موهبة (عطية) بلا زيادة إلاَّ التي بلا شكر".. فنحن نشكره لأنه يحتمل ضعفاتنا البشرية، ويستر ضعف طبيعتنا الساقطة، ويغسل أرجلنا التي اتسخت بخطايا وأقذار العالم بالتوبة والاعتراف، ويجدد طبيعتنا، ويعطينا الحياة بدل الموت بالإفخارستيا أي جسده ودمه الحاضرين كل يوم على المذبح.. فهو يقودنا في موكب نصرته من مجد إلى مجد.
(3) الهوس الثالث
هو عبارة عن تسبحة الثلاثة فتية القديسين (وهذه التسبحة مدونة في الكتاب المقدس وقد حذفها البروتستانت في طبعة بيروت).. وملخص هذه التسبحة هو أن الملك أمر بإلقاء الثلاثة فتية القديسين في أتون النار المتقدة.. فرغم أن النار لم تنطفئ لكنها لم تمسهم بأي أذى، ثم بعد ذلك اكتشف الملك وجود شخص رابع (شبيه بابن الآلهة) يتمشى معهم وسط الآتون.. وهذا الهوس ترتله الكنيسة بنغمة الابتهاج والفرح، لتعلن لنا هذه المعاني الروحية السامية وهي أن السلام الداخلي لا يُعني زوال التجارب والآلام عنا.. لكنه يعني وجود الله معنا في وسط نيران العالم.. فمفهوم التجربة في المسيحية هي أنها لا تحل بزوالها، ولكن باجتياز الرب معنا في هذه التجربة، وبحمله الصليب معنا.. أي الوجود الدائم معنا فالشهيد اسطفانوس كان يُرجم بالحجارة وعظامه تتفتت، ولحم جسمه يتهرأ من الحجارة.. ولكنه كان يرى ابن الإنسان قائمًا عن يمين العظمة.. فكان شاخصًا للسماء، ولا يبالي بالحجارة ولا الراجمين أن نار العالم لازمة لتجربة الكنيسة.. (الكنيسة كجماعة ونحن كأشخاص في هذه الجماعة)، ولكن الله الرؤوف الحنون واقف في وسط هذا الأتون (التجارب القاسية)، فيحول النار إلى ندى بارد.
* هذه التسبحة تجمع في مشهد واحد وجودها في الحاضر الزمني المؤلم (الأتون)، ووجودها في الأبدية السعيدة (ابن الآلهة الموجود في الآتون).. "الخَروفَ الذي في وسطِ العَرشِ يَرعاهُمْ" (رؤ7: 17).. فهي في نار العالم وهى في حضرة الله والسعادة الأبدية أن هذه التسبحة تحمل معنى الغلبة بقوة الصليب، بسر الرابع، الشبيه بابن الآلهة فنهتف كلنا بصوت الفرح والتهليل: "سبحوه مجدوه زيده علوًا"، وهو المَرَد المتكرر في كل أرباع الهوس الثالث وهو اللحن الرائع الذي نتغنى به على مدار ما يقرب من الخمسة عشر دقيقة في تناغم ليس له مثيل في لحن (هوس ايروف \wc `erof)، وهو يقال في آخر ربع من أرباع هذا الهوس.. لنعبر عن فرحتنا بإلهنا الذي لا يتركنا حتى ونحن في آتون النارولعل هذا ما يجعلنا نجد أن الهوس الثالث هو أكبر جزء في التسبحة اليومية بألحانها العديدة والجميلة والرائعة.. فنحن في ختام الهوس الثالث نقول الألحان الآتية:
(1) ازمو ابشويس `Cmou `e`P[oic
(2) هوس ايروف \wc `erof
(3) آري هواؤ تشاسف `arihou`o [acf
(4) أربسالين `Ari'alin
(5) تنين ولحنه الممتع الرائع
(6) تين أويه انسوك Tenoueh `ncwk
كل هذا كختام للهوس الثالث.. ولنلاحظ أن إبصالية أربسالين نجدها تبدأ بـ "رتلوا للذي صلب عنا وقبر وقام وأبطل الموت وأهانه سبحوه وزيده علوا".. ونعقبها بعد ذلك بلحن تينين، وهى القطعة اليونانية التي تقال للثلاثة فتية القديسين، ونقول فيها: "فمن ثم تقدم الذبيحة والعبادة العقلية. ونرسل لك في هذا اليوم التسابيح لدى مجدك يا مخلصنا.. حنانيا وعزاريا وميصائيل.... يسبحون ويباركون الله كل حين" ثم نتبعها بلحن للثلاثة فتية القديسين أيضًا هو (تين اويه انسوك) بلحنه الكيهكي الرائع الذي نقول فيه: "نتبعك بكل قلوبنا ونخافك ونطلب وجهك يا الله لا تحزنا...".
*وأخيرًا نقول بعد هذه الألحان الجميلة (مجمع الآباء القديسين)، الذي هو امتداد للثلاثة فتية.. فكما شهدوا هؤلاء الثلاثة أمام الملك نبوخذ نصر، كذلك هؤلاء الشهداء والقديسين شهدوا أمام الولاة وأمام الكل بحياتهم حسب المسيح فكمثل إحساس الكنيسة بوجود الله مع الثلاثة فتية القديسين في أتون نار هذا العالم.. هكذا يتدرج بإحساس المجاهدين والعابدين بعمق الشركة والعلاقة القوية التي تربط بين الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة.. يجمعها هدف واحد وروح واحدة فالعضوية هي جسد واحد يقرب بينهما اشتياق لا مثيل له، لملاقاة الرب على السحاب حيث نكون مع الرب كل حين.. "ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ" (1تس4: 17) فنجد المجمع يبدأ بشفاعة السيدة العذراء كلية الطهر والقداسة مريم والدة الإله، ثم رؤساء الملائكة وبقية رتب السمائيين، والأربعة وعشرون قسيسًا ويوحنا المعمدان، ثم طلب صلوات القديسين ابتداء من البطاركة الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب)، ثم الآباء الرسل والأنبياء والشهداء والنساك والرهبان.. إلى أن نصل إلى طلب صلوات البابا البطريرك اعترافًا منا أننا كنيسة آباء وكنيسة رسولية.. هؤلاء أجدادنا والأحياء الآن آباءنا ونخضع لهم بكل ترتيب ونظام فنحن نطلب صلوات الآباء الرسل والأنبياء والشهداء والقديسين.. فهم بمثابة سحابة الشهود التي لنا في السماء تطلب من أجلنا ليلًا نهارًا.. وكل منهم يتطلع لنظيره متمثلًا بسيرته طالبًا معونته.. هؤلاء هم الموجودون تحت المذبح في السماء يصلون من أجل المضطهدين والمتضايقين من اجل المسيح.
وأيضا المئة والأربعة والأربعون ألفًا البتوليون يطلبون من أجل الذين اشتهوا بحياة البتولية والقداسة في السيد المسيح، وأيضًا الغالبون عند البحر البلوري يطلبون من أجل شبابنا المسيحي العفيف المجاهد حتى الدم ضد الخطية فالمجتمع يعتبر لحظة من لحظات التجلي على قمة جبل الرب العالي (وهو الكنيسة)، حيث يشمخ الرب يسوع المسيح بين موسى وإيليا (أبطال العهد القديم)، والتجلي ما هو إلا حالة الصلاة التي يجتمع فيها الرب يسوع مع قديسيه.. فلا فارق بينهما في عنصري الزمان والمكان.. إنها الأبدية الجميلة.
(4) الهوس الرابع
الهوس الرابع يتكون من ثلاثة مزامير هم: (مز148، 149، 150)"هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي. سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ. سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ. سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ، وَثَبَّتَهَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ، وَضَعَ لَهَا حَدًّا فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ. سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ، يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ وَكُلَّ اللُّجَجِ. النَّارُ وَالْبَرَدُ، الثَّلْجُ وَالضَّبَابُ، الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ، الْجِبَالُ وَكُلُّ الآكَامِ، الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ وَكُلُّ الأَرْزِ، الْوُحُوشُ وَكُلُّ الْبَهَائِمِ، الدَّبَّابَاتُ وَالطُّيُورُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ، مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ الشُّعُوبِ، الرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ، الأَحْدَاثُ وَالْعَذَارَى أَيْضًا، الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ، لِيُسَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ. وَيَنْصِبُ قَرْنًا لِشَعْبِهِ، فَخْرًا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الشَّعْبِ الْقَرِيبِ إِلَيْهِ. هَلِّلُويَا" (مز 148).
"هَلِّلُويَا. غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ الأَتْقِيَاءِ. لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ. لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ. لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ. لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ. لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُول مِنْ حَدِيدٍ. لِيُجْرُوا بِهِمُِ الْحُكْمَ الْمَكْتُوبَ. كَرَامَةٌ هذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ. هَلِّلُويَا" (مز 149).
"هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ. سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ. سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ. سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ. سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ. سَبِّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ. سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ. كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ. هَلِّلُويَا" (مز 150) هذه المزامير كلها عبارة عن تسبيح، وهذا التسبيح هو عمل الملائكة، وهو عمل الكنيسة الدائم في السماء، وعمل القديسين وكل الخليقة أيًا كانت.. إنسان أم حيوان أم نبات أم جماد.. الكل يمجد الله في صورة منقطعة النظير فأتركك أيها الفادي العزيز لنتمعن في كلمات الهوس الرابع الرائعة، وأذكرك أنك الآن تعرفت على معنى أربعة.. وبقي أن نتعرف عن جمال سبعة في التسبحة الكيهكية (سبعة وأربعة) وهذا ما سوف نلتقي به في المقال القادم إن شاء الله لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد