المقالات

21 يوليو 2021

الضمير صلاحيته عناصره أنواعه تأثراته

الضمير هو طاقة أوجدها الله في الإنسان للتمييز بين الخير والشر، والحلال والحرام، و اللائق وغير اللائق وما يجوز وما لا يجوز. لذلك دعي بالشريعة الطبيعية أو بالشريعة الأدبية غير المكتوبة.وقد كان هو الحكم الداخلي في الإنسان قبل زمن الأنبياء، قبل الوحي والشريعة المكتوبة. وبه كمثال تسامي يوسف الصديق عن الخطأ مع امرأة سيده حين طلبت ذلك منه. بينما عاش يوسف قبل موسي النبي بمئات السنين، وقبل أن يأمر الله في الوصايا العشر قائلا 'لا تزن' ولكن كان هناك الضميرولكن لما ضلٌ الضمير، حينئذ أرسل الرب وصاياه الإلهية لترشد الإنسان وتكون ميزانًا يزن به أفعاله ونواياه. وسنضرب أمثله للدلالة علي أن الضمير قد يضلٌ: ذلك الشخص الذي يقتل ابنته أو أخته إذا سقطت وفقدت عفتها ألا يري بضميره انه يمحو عار الأسرة ويرد شرفها؟! بل إن البعض في الريف قد يتعبه ضميره إن لم يقتل هذه الفتاة!! كذلك الشخص الذي يفجر نفسه أو يفجر سيارة، ويقتل بذلك مجموعة من الأبرياء، ويدمر بعض ألاماكن، ألا يعتبر نفسه شهيدا، وانه قام بعمل وطني يسجل له بالفخر؟! وقد شجعه ضميره علي ذلك!! يمكننا إذن أن نقسم الضمائر إلي أنواع منها الضمير الصالح الذي يحكم حكمًا خيرًا ونيرًا، ودقيقًا. وهو مثل ميزان الصيدلي لا يزيد في تركيب الدواء ولا ينقص وهناك ضمير واسع يبلع الجمل، وهو يقبل أمورًا خاطئة عديدة، لا يوبخ عليها إطلاقًا، بل قد يجد لها تبريرًا يريحه! بينما هناك أيضًا ضمير ضيق أو موسوس أو متشدد. يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو يضخم كثيرًا من قيمة الأخطاء. وهو بهذا يضيق علي الناس بأحكامه ويغلق أمامهم أبواب السماء! علي أن هناك أنواعًا أخرى من الضمائر كالضمير الغائب، أو الضمير النائم أو الضمير الميت الذي يوصف صاحبه بأنه بلا ضمير!! مثال ذلك القاتل الذي تعوَّد القتل، أو السارق الذي تعود السرقة، أو الظالم الذي يصبح الظلم جزءا من طبعه! وكذلك القاسي القلب وكل من هؤلاء يرتكب الخطايا ولا يشعر انه قد اخطأ ومثلهم أيضًا الكاذب الذي تعود الكذب، والفاجر الذي تعود الفجورهؤلاء تصير خطاياهم شيئا طبيعيا في نظرهم، لا يبكتهم عليها ضمير، ولا يندمون كلما أخطأوا..! أما الضمير السليم أو الضمير الصالح، فله وظائف مهمة منها التشريع، والمحاكمة، وإصدار الحكم.. ففي التشريع يعلن ما كان ينبغي أن يقال أو أن يفعل طبقًا لوصايا الله وتمشيًّا مع المبادئ السليمة والمثل. ومن جهة المحاكمة يقول للشخص ماذا فعلت؟ ولماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ وكيف جرؤت أن تفعل؟ وأين خشية الله في قلبك؟ ومن جهة إصدار الحكم يحكم الضمير باللوم أو بالتوبيخ وقد يصل الأمر إلي تعذيب الضمير، وقد يحكم بوجوب تصحيح ما قد فعله وعلاج نتائجه والضمير لا يحكم فقط علي الفعل، إنما حتى علي النية والغرض. ويحكم علي المشاعر الباطنية، وعلي الفكر ومن هنا كان الضمير أوسع دائرة وأعمق أثرًا من القوانين الموضوعة وما أكثر الأمور التي لا يحكم عليها القانون. ولكن يحكم عليها الضمير، ويكون حكمه غير قابل للنقض ونطاق الضمير يشمل ما قبل الفعل وما بعده فهو من جهة النواحي الطيبة، يستحث ويدفع ويشجع. أما من جهة الأمور الرديئة، فهو يمنع أو ينذر ويبصر بالعواقب كما انه لا يتناول الفعل فقط، إنما يحكم أيضًا علي تأثيره ونتائجه ومقدار ردود هذا الفعل علي أن الضمير قد يصطدم بالإرادة التي ربما تقف ضده! فضمير الشخص قد يقول له إن هذا الأمر واضح الخطأ ومع ذلك فانه يفعله!! كالتدخين مثلًا: يقول له الضمير انه يضر صحتك وصحة الذين حولك.. وفيه تفقد مالك وتفقد إرادتك. ومع ذلك لا يمتنع الإنسان عن التدخين، لان إرادته لا تستطيع! ومن هنا قال البعض عن الضمير انه قاض عادل غير انه ضعيف والضعيف يقف ضد تنفيذ أحكامه أما لماذا هو ضعيف، فذلك لان هناك مؤثرات أخرى كثيرة تضغط عليه.. وقد لا يستطيع مقاومتها.الضمير يتأثر بالشهوة.. وكلما كانت الشهوة قوية، يضعف أمامها الضمير والشهوة علي أنواع. منها شهوة الجسد، وشهوة المناصب والارتفاع، وشهوة العظمة، وشهوة السيطرة، وشهوة الانتقام، وغير ذلك.. وحينما تشتد الشهوة فإنها تطرح الضمير جانبا فيفقد سلطانه وتتولي الشهوة قيادة الموقف، بلا ضمير، وتدبر الأمر حسب هواها.. ومن هنا أيضًا كانت المصالح الشخصية هي من الأمور الضاغطة علي الضمير أو السيطرة عليه، أو التي تحل محله، سواء بالنسبة إلي ضمير الفرد أو ضمير الدول. حتى لو كانت النظرة إلي المصالح الشخصية نظرة غير سليمة. إذن الدوافع ­أيًا كانت­ لها سيطرة علي الضمير مما يؤثر علي الضمير أيضًا مقدار المعرفة ودرجة الذكاء فقد يخطئ الضمير في حكمه نتيجة للجهل أو لنقص المعرفة أو لخطأ في الأمور المعروضة عليه وعلاج ذلك هو التوعية والإرشاد السليم. وقد يخطئ الضمير، أو تختلف أحكام الضمائر، باختلاف العقول وتنوع درجات الذكاء فيها. فضمير الإنسان الحكيم العاقل غير ضمير الإنسان العادي أو الأقل ذكاء أو البسيط في تفكيره وعلاج نقص العقل أو المعرفة هو الاسترشاد. وكما قال الشاعر: فخذوا العلم علي أربابه.. واطلبوا الحكمة عند الحكماء ومن الناحية المضادة قد يخطئ الضمير نتيجة للإرشاد الخاطئ إن كان خاضعًا لإرشاد يضلله. وكما يقول المثل 'أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى'، يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ (إنجيل متى 15: 14؛ إنجيل لوقا 6: 39).مما يؤثر علي الضمير أيضًا: العرف و البيئة وحماس الجماعة: فهناك عادات متوارثة وعرف سائد وتأثيرات للبيئة قد يتبعها الإنسان دون أن يفكر أو يحلل.. وبهذا تحل محل ضميره! كما تؤثر علي الضمير مشاعر الجماعة واقتناعها أو حماسها. مثال ذلك في بعض مظاهرات الطلبة قد ينقاد بعضهم وراء هتافات الجماعة وحماسها، دون أن يفكر ما هو الخير. ولكنه إذا خلا إلي نفسه، أو إذا قبض عليه وجلس في الحبس منفردا، ربما يناقش الأمر بضمير آخر قد تخلص من تأثير المظاهرة وهتاف الزملاء ونفس الوضع لمن يكون تحت تأثير ما تنشره بعض الصحف، أو ما توحي به بعض دور الإعلام. في كل ذلك وما يشبهه يكون الضمير تحت تأثير خارجي، يستمر إلى أن يوجد ما يتوازن معه.الضمير أيضًا قد يتأثر أيضًا بالمبدأ الميكيافلي 'الغاية تبرر الواسطة' فقد يقبل وسيلة خاطئة، إن كانت في نظره توصل إلي هدف يراه سليمًا، وكثيرًا ما تستخدم هذه الفكرة عن الوصوليين الذي هدفهم هو مجرد الوصول إلي ما يريدون أيًا كانت الوسائل!! والعجيب أن هؤلاء يبررون وسائلهم الخاطئة اعتمادًا علي أهداف وحجج وأسباب تكون حكيمة في أعينهم! وقد قال احد الآباء الروحيين "كثيرًا ما يكون طريق جهنم مفروشا بالأعذار والتبريرات" والمقصود هو التبريرات التي تغطي علي حكم الضمير. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
20 يوليو 2021

المسيحية والبتولية

لقد تميزت المسيحية عن غيرها من الديانات الأخرى في فكر البتولية وحياة البتولية هذه تعني عدم الزواج، وهي ليست حياة العفة.. فحياة العفة والطهارة مطلوبة من الكل (بتوليين ومتزوجين). أما حياة البتولية.. فيسلك فيها مَنْ لا يريد الارتباط بزوج أو زوجة.. فهو يريد أن يعطي كل حياته للسيد المسيح (الرهبان والراهبات)، ويخدم السيد المسيح بكل قوته وحياته (المكرسين والمكرسات). والبتولية قد عُرفت قديمًا بين بعض الديانات الوثنية لدى شعوب الحضارات القديمة.. أمثال المصريين والهنود والصينين، وأيضًا عُرفت بين شعب الله فى العهد القديم.. فكان البعض يحيون حياة البتولية مثل: "إيليا النبي".. ولكنها في المسيحية أخذت مفهوم سامٍ.. فبدت تتألق بين الفضائل جميعها.. فهي أسمى الفضائل وأجملها لأنها تهيئ للإنسان أن يرتبط بعريس نفسه السماوي السيد المسيح فالسيد المسيح هو المثل الأعلى لنا (المسيحيين).. فقد عاش بتولًا.. ووُلد أيضًا من عذراء بتول (السيدة العذراء الدائمة البتولية).فنجد السيد المسيح نفسه يتكلّم عن البتولية في حديثه عن الخصيان الذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات.. "قالَ لهُ تلاميذُهُ: "إنْ كانَ هكذا أمرُ الرَّجُلِ مع المَرأةِ، فلا يوافِقُ أنْ يتزَوَّجَ!". فقالَ لهُمْ: "ليس الجميعُ يَقبَلونَ هذا الكلامَ بل الذينَ أُعطيَ لهُم، لأنَّهُ يوجَدُ خِصيانٌ وُلِدوا هكذا مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِهِمْ، ويوجَدُ خِصيانٌ خَصاهُمُ الناسُ، ويوجَدُ خِصيانٌ خَصَوْا أنفُسَهُمْ لأجلِ ملكوتِ السماواتِ. مَنِ استَطاعَ أنْ يَقبَلَ فليَقبَلْ" (مت19: 10-12). وأيضًا عندما سألوه الصدوقيين عن المرأة التى تزوجت من سبعة أخوة... ففي القيامة لمَنْ تكون زوجة من السبعة.. فكان رده واضحًا عليهم قائلًا: "لأنَّهُمْ في القيامَةِ لا يُزَوّجونَ ولا يتزَوَّجونَ، بل يكونونَ كمَلائكَةِ اللهِ في السماءِ" (مت22: 30)، (لو20: 35).. ويقصد بذلك أن حالة عدم الزواج (البتولية) تشبة حياة الملائكة.ويؤكد هذا الفكر القديس "كبريانوس الشهيد" فى إحدى رسائله لبعض العذارى قائلًا لهن: "لقد ابتدأتن الآن وأنتن في هذه الحياة في التمتع بما سيكون لكّن في السماء بعد القيامة. لأنكّن بحفظكن بكارتكن قد تشبهتن بالملائكة" ونجد مُعلمنا بولس الرسول مَثلًا آخر واضح في حياة البتولية.. فقد تحدث عنها راجيًا أن يكون الجميع مثله متمتعين بحياة البتولية قائلًا "ولكن أقولُ لغَيرِ المُتَزَوجينَ وللأرامِلِ، إنَّهُ حَسَنٌ لهُمْ إذا لَبِثوا كما أنا" (1كو7: 8) "فأُريدُ أنْ تكونوا بلا هَم. غَيرُ المُتَزَوّجِ يَهتَمُّ في ما للرَّب كيفَ يُرضي الرَّبَّ، وأمّا المُتَزَوّجُ فيَهتَمُّ في ما للعالَمِ كيفَ يُرضي امرأتَهُ" (1كو7: 32-33) "إذًا، مَنْ زَوَّجَ فحَسَنًا يَفعَلُ، ومَنْ لا يُزَوّجُ يَفعَلُ أحسَنَ" (1كو7: 38). ففي هذه الآيات يوضِّح أهمية البتولية.. بل أن البتولية أحسن من الزواج (مَنْ لا يُزَوّجُ يَفعَلُ أحسَنَ).. ولم يقصد هنا أن الجميع يعيشون حياة البتولية، ولكنها في مرتبة أحسن من مرتبة من يتزوج. فلا يستطيع الكل أن يعيشوا حياة البتولية.. فالطرق كثيرة وكل منَّا يسلك حسب ميولة وحسب اشتياقات قلبه وإمكانياته الروحية.ونرى مُعلمنا يوحنا الرائي يوضِّح لنا مركز البتولية في السماء فيقول: "ثُمَّ نَظَرتُ وإذا خَروفٌ واقِفٌ علَى جَبَلِ صِهيَوْنَ، ومَعَهُ مِئَةٌ وأربَعَةٌ وأربَعونَ ألفًا، لهُمُ اسمُ أبيهِ مَكتوبًا علَى جِباهِهِمْ. وسَمِعتُ صوتًا مِنَ السماءِ كصوتِ مياهٍ كثيرَةٍ وكصوتِ رَعدٍ عظيمٍ. وسمِعتُ صوتًا كصوتِ ضارِبينَ بالقيثارَةِ يَضرِبونَ بقيثاراتِهِمْ، وهُمْ يترَنَّمونَ كتَرنيمَةٍ جديدَةٍ أمامَ العَرشِ وأمامَ الأربَعَةِ الحَيَواناتِ والشُّيوخِ. ولم يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يتعَلَّمَ التَّرنيمَةَ إلاَّ المِئَةُ والأربَعَةُ والأربَعونَ ألفًا الذينَ اشتُروا مِنَ الأرضِ. هؤُلاءِ هُمُ الذينَ لم يتنَجَّسوا مع النساءِ لأنَّهُمْ أطهارٌ. هؤُلاءِ هُمُ الذينَ يتبَعونَ الخَروفَ حَيثُما ذَهَبَ. هؤُلاءِ اشتُروا مِنْ بَينِ الناسِ باكورَةً للهِ وللخَروفِ. وفي أفواهِهِمْ لم يوجَدْ غِشٌّ، لأنَّهُمْ بلا عَيبٍ قُدّامَ عَرشِ اللهِ" (رؤ14: 1-5) وهنا نجد كلامًا في غاية الوضوح عن عِظم وامتياز البتولية والبتوليين.. فهو يظهرهم هنا أنهم ملازمون للمسيح (الخروف)، فهم يتبعونه حيثما ذهب، وأيضًا ينفردون عن غيرهم في معرفة الترنيمة التي لا يستطيع أحد أن يرددها غيرهم (حياة التسبيح المستمرة).. والسبب في ذلك: "إنهم لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار"هكذا سارت موجة شديدة من الحماس للبتولية على مر العصور، وتغلغلت في صدور المؤمنين بعمق، وفتغنى بها آباء الكنيسة، وتباروا في مدحها.. ليس عن اصطناع ومغالاة بل عن حب وعمق وممارسة وتقدير لأهميتها.. فقد عاشها الآباء الأولين بعمق.فنجد القديس "أمبروسيوس" أسقف ميلان.. يكتب ثلاث كُتب عن البتولية لأخته مرسللينا، ويقول فيها: "ليست البتولية مستحقة المديح من حيث أنها توجد في الشهداء، بل لأنها هي نفسها تصنع الشهداء. ومَنْ الذي يستطيع أن يدرك بفهمه البشري ذاك الذي لا تحويه الطبيعة في قوانينها؟ أو مَنْ يقدر أن يشرح في أسلوب مألوف ذاك الذي فوق مستوى الطبيعة؟ لقد استحضرت البتولية من السماء ما يمكنها من أن نحاكيه على الأرض"وبعد أن وصف البتوليين كملائكة الله استكمل كلامه قائلًا: "وما قلته ليس كلامي طالما أن الذين لا يتزوجون ولا يزوجون هم كملائكة السماء.. فلا تعجب إذن اذا ما قورنوا بالملائكة الملتصقين برب الملائكة. مَنْ يقدر إذن أن ينكر أن هذا النهج من الحياة له نعمة فى السماء؟ ولم نجده بسهولة على الأرض إلاَّ بعد أن نزل الله أخذًا جسدًا بشريًا".فهل ترى أيها الحبيب فى الرب.. أن حياة البتولية هي بتولية الجسد فقط.. أم يشترك فيها بتولية الفكر والحواس؟ فكر معي!! كيف يسلك الإنسان في حياة البتولية في هذا العالم الشرير، وهذا المجتمع المليء بالمعاثر والشهوات!! هل يلزم ذلك منَّا جهادًا مستمرًا ونموًا روحيًا دائمًا.. أيًا كان كل واحد منَّا راهبًا أو راهبة أو مكرسًا أو مكرسة أو علمانيًا؟ فلنتمسك بالمسيح ونطلب معونته لتآزرنا في جهادنا وحياتنا على الأرض لكي نكون كملائكة الله في السماء.ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
19 يوليو 2021

فضيلة الوداعة

الفضيلة ليست تفضل من الانسان، ولكنها فيض، فقد امتلأ بنعمة ما وفاضت النعمة فخرجت للآخرين " فاض قلبي بكلام صالح" (مزمور 45 : 1) فالوديع مثلا انسان امتلأ قلبه بالوداعة ففاضت منه فى الخارج، ولذا فالفضيلة هى عمل روحى داخلى، ظهر فى ملامح الانسان .. انها عمل للروح القدس، وألا ُحسبت ابتسامات المطاعم والطائرات والدعاية والاعلان فضائل، كلاّ ولكنها مهنة. بعض الفضائل يظهر فى سلوك الناس، مثل احترام الآخرين .. أو الصبر، والبعض الآخر يكون في الفكر (التفكير) مثل الاتضاع، والعض الآخر يظهر فى ملامحهم مثل الوداعة ..البشاشة. والوداعة تختلف عن الاتضاع، لأن المتضع فد يكون صامتاً من الخارج .. بل نعرف الكثير من القديسين كانوا جادين .. حارين فى الروح، وآخرين اجتذبوا ببشاشتهم الكثيرين إلى الحياة النسكية مثل القديس أبوللو صديق القديس أبيب .. والقديس مكاريوس السكندرى وغيرهم .. ورغم ما يقال عن أن السيد المسيح لم يضحك أبداً بل بكى، فإنه من المؤكد أنه كان لطيفا بشوشاً أليس هو القائل بفمه الطاهر "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" ولكن الضحك غير البشاشة والوداعة .. وبالطبع لا أقصد بالبشاشة تلك الابتسامة الصفراء أو التى ليس لها معنى. علامات الوداعة: الإنسان الروحي عليه صورة المسيح الوديع المتواضع القلب، كما أن وداعته انعكاس لعمل الروح فى قلبه، فهو بسيط غير ماكر .. (أي مستريح من الداخل) يقول القديس باخوميوس (منظر الانسان الوديع المتواضع القلب، هو أجمل ما يمكن أن تنظر العين وعن افضل من هذا المنظر لا تبحث .. الوديع هو شخص مريح القسمات .. بعكس شخص آخر تشعر بأن عليه غضب الله، فى الكنيسة يمثل العبادة المفرحة .. والمسيح المبهج .. تصوروا لو أن خادم أو خادمة يعود من الكنيسة إلى البيت فيجدونه عصبياً لا يتكلم، قاسي الوجه حديدى الملامح .. فهم سيعثرون فى الكنسية والخدام .. ومع ذلك فليس من اللائق أن تكون له تلك الابتسامة التى تثير الغيظ والحنق !! بل أن الوداعة تمجد الانسان مثل اكليل يتجلى به "يابنى مجد نفسك بالوداعة واعط لها من الكرامة ماتستحق" سيراخ 31:10) ويقول سيراخ أيضا "الإيمان والوداعة يغمران صاحبهما بالكنوز"(سيراخ 35:1) وحسبما ورد في كتاب الدرجي فإن الغضب له درجات: الغضب = بغض مكتوم وهو شهوة الإساءه لمن أغضبك. الغيظ = اشتعال القلب بغتة. الحنق = تحول الاخلاق بسرعة وجعل النفس قبيحة. فى حين أن كل مرارة وغضب يزولان برائحة التواضع .. 3 - منابع الوداعة: الوداعة هى رداء المسيح وبالتالى المسيحى، لذلك يقول القديس بولس "فالبسوا كمختارى الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناه" (كو 12:3). والوديع لابد أن يكون مستريحاً من الداخل، بلا شر، فالشرير لا يمكن أن يكون وديعاً، قد يجتهد أن يكونمهزارا وهناك فرق بين الوداعة والهزر السخيف والنكات الخارجة.ً عموماً فإن هذه الفضيلة تحتاج إلى طلب بحرارة من الله، لأن الابتسامة السريعة أو المرسومة يمكن ممارستها بالتدريب (مثل السياسيين والدبلوماسيين والمضيفين وغيرهم) ولكن الملامح المريحة تعكس قلباً يفيض بالهدوء والفرح .. 4- الخادم والأب الوديع: عندما تكلم الشاب الغنى مع المسيح، نظر إليه يسوع وأحبه .. أنها نظرة الحنو والوداعة لخادم تجاه مخدومه، والخادم بوادعته يقدر أن يكسب للمسيح أكثر مما يكسب بلباقته وعلمه، لأنه بذلك يقدم صورة المسيح الوديع ( مثلما حدث في حواره مع السامرية) هكذا الخادم مع المخطئ، فالتبكيت والتأنيب اللازع لن يجدى بقدر الشرح وعرض أبعاد المشكلة، كما أن النصح المخلص أفضل من التهكم والسخرية .. "أيها الاخوة إذا أنزلق انسان فأخذ فى زلة ، فأصلحو انتم الروحانين مثل هذا بروح الوداعة" .. (غلاطية 1:6). مثل الأب الذى ينتهر طفله فيبكى الطفل ليس بسبب الكلام (أو حتى الضرب) وانما بسبب ملامح أبيه القاسية وصوته المرعب .. أو الأم التى تنتهر ابنها بالشتائم .. أو ترضعه وهى غاضبة فقد يصاب بالتسمم .. يقول بن سراخ: "انفعال الانسان بالغضب يقوده إلى السقوط" (سيراخ 21:1) لقد قال الكتاب عن موسى النبى كخادم "كان الرجل موسى حليما جدا اكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عدد 13:12) من المتوقع أن يخطئ الناس ولكنه من الواجب على الراعى احتمالهم وتعليمهم بصبر ووداعة وأبوة وأمومة حلوة. "مؤدباً بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق"(2 تيمو 25:2). بل حتى الموظف والبائع والمذيع يتدربون طويلاً كيف يتعاملون مع الجمهور بلطف ويحتملون سخافاته وكثرة أسثلته واستبداله للبضاعة، بل يبادر بعرض أصناف أخرى بمزياها (هذه لك خصيصا ً.. وهذه احتفظت بها لك .. وهذه تناسبك ..) وقد يزدحم مكان بسبب لطف البائع الذى فيه .. وابتسامته المشرقة التى يوزعها هنا وهناك .. (ومع ذلك فقد يعود إلى البيت مهموماً لا يطيق أسئلة أولاده ولا استفسارات زوجته، كيف وهو صاحب الابتسامة العريضة !.. إنه عمل .. ودور يؤديه مقابل أجر، مثل الممثل الكوميدى .. يسعد الجماهير .. وقد لا يكون سعيدا بسبب صحته .. أو زوجته .. أو أولاده .. الخ. هكذا المذيع الذى يعود إلى القسمات الطبيعية لوجهه طالما ينتهى البرنامج، هكذا الموظف الذى يتعامل مع الجمهور .. لا سيما فى الشركات الخاصة أما أولئك فمن أجل الاجر والمال والكرامة الزمنية واحراز شعبية بين الجمهور. أما نحن كخدام فمن أجل المسيح الوديع والروح الذى انسكب بغنى فى قلوبنا. 5- ولكن هل يغضب الوديع ؟ : يقول القديس بولس "ماذا تريدون أبعصا أتى إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة" (1كو 21:4 ) فإذا غضب لابد وأن يكون لأمر خطير، وسيكون غضبه مقدساً وليس ثأرا لكرامته هو. ولا يثور لكن يعلن رفضة بهدوء، الوديع إذا غضب سيكون مثل الطفل الذى ما أن يغضب حتى يصفو ويهدأ ويبتسم، بعكس الشرير، يقول مار اسحق (من السهل عليك أن تحرك جبلا من مكانه فى حين ليس من السهل أن تحرك الانسان الوديع عن هدوئه) وأخيرا:ًاأطلب من الله بإلحاح أن يطبع عليك صورته ويهبك هذا الروح الوديع الهاديء " الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن (1بط 3 : 4) يقول القديس يوحنا الدرجى (فالروح القدس هو سلام النفس، والغضب اضطراب القلب، فلا شئ يمنع حضور الروح القدس فينا مثل الغضب) وتذكر قول الآباء: (لا تحزن أحداً من الناس قبل رحيلك إلى الرب) وعندما تجد نفسك غاضبا وقد يؤذى منظرك الآخرين، لا سيما وقد اعتادوا على رؤيتك بشوشاً، اعتزل لبعض الوقت حتى تهدأ، وربما كان من المفيد الترتيل فقد يزيل الغضب، وبكت نفسك على غضبك، يقول يوحنا الدرجى (كما أن الماء المنسكب على النار يطفئها هكذا المسكنة الحقيقية ُتطفىء لهيب الغضب والغيظ). نيافة الحبر الجليل انبا مكاريوس اسقف المنيا وتوابعها
المزيد
18 يوليو 2021

الخادم والازدواجية

الخادم يمثّل المسيح أمام المخدومين، يحمل فكره، يتكلم بكلامه، وينشر رسالته وتعاليمه. هكذا يرى المخدومون الخادم أنه في درجه من الكمال، وقد لا يستوعبون أنه شخص تحت الآلام مثلهم. وكثيرًا ما نجد الخادم قد يُسَرّ بهذه الصورة ويرسّخها في أذهان المخدومين، بينما الحقيقة مختلفه تمامًا! فتجد الخارج غير الداخل، والكلام غير الأفعال، والمظهر غير الجوهر، ممّا جعل الخادم يحيا في ازدواجية تجعله غريبًا عن نفسه. وأخطر ما في الأمر هو تباعُد المسافة بين ما يقول وما يفعل إلى أن يصل إلى درجة الازدواجية المريضة.وهناك موقف في الكتاب المقدس يوضّح لنا كيف يحيا الإنسان مزدوجًا؛ حين تقدّم أبونا يعقوب إلى أبيه إسحق لنوال البركة عوض عيسو البكر«فتقَدَّمَ يعقوبُ إلَى إسحاقَ أبيهِ، فجَسَّهُ وقالَ: «الصَّوْتُ صوتُ يعقوبَ، ولكن اليَدَينِ يَدا عيسو». ولَمْ يَعرِفهُ لأنَّ يَدَيهِ كانتا مُشعِرَتَينِ كيَدَيْ عيسو أخيهِ، فبارَكَهُ. وقالَ: «هل أنتَ هو ابني عيسو؟». فقالَ: «أنا هو».» (تكوين 27: 21-24) كثيرًا ما يوجد داخلنا هذا التناقض الصوت صوت يعقوب، واليدان (اللتان تشيران إلى الأعمال) يدا عيسو! وتجتهد النفس في تزييف حقيقتها لتأخذ ما ليس لها، وتدقّق وتجتهد لتلبس الثياب وتأخذ الشكل بل والرائحة، وتمتد إلى ما أهو أكثر وأعقد من ذلك وهو تغطية الجلد حتى يحصل على ضمان اقتناء الشخصية المرغوبة، ويتحمّل المخاطر ويستمرّ في الخداع حتى وإن ظهر الشك في أمره، ولكنه يؤكد: «أنا هو»! ما أخطر خداع النفس وما أسوأ النتائج حين يتوقّع المخدوم من الخادم كمالات لا يجدها، بل والأكثر حين تظهر أمور عكس ما يظهر أو يعلم.لقد مدح السيد المسيح من عَمِل وعَلَّم أنه يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات (متى 19:5)، بل وقد وجدنا في شخصه القدوس تحقيقًا وتطبيقًا واضحًا لكل ما عَلَّم به، فلم يتكلم عن المتّكأ الأخير بينما يتنافس على المتكآت الأولى، ولم يحدّثنا أن «بيعوا أمتعتكم وأعطوا صدقة» بينما يسكن هو في القصور، ولم يتكلم عن ضرورة حمل الصليب بينما يهرب هو من حمله، بل على العكس نجده فعل أكثر مما تكلّم به لدرجة عجز الكلمات عن التعبير.أعظم عمل للخادم هو التأثير، والعين أكثر تفاعلاً من الأذن، فنحن لا نحتاج إلى كلمات بقدر ما نحتاج إلى أفعال، ولا نحتاج إلى خدام بل إلى نماذج، ومن المعروف أن أي تعليم يستمدّ قوته من قائله، فالذي جعل القديس تيموثاؤس يتبع بولس الرسول ليس فقط تعليمه بل سيرته وقصده وإيمانه وأناته ومحبته وصبره (تيموثاوس الثانية 10:3) التي رآها وتلامس معها بشكل عملي.ليت نفوسنا تتوحّد في خوف الله، ونقدم صورة للمسيح الذي يحيا في داخلنا، ولا ننجذب لغيره ولا نتبع غيره، فنقدم صورته وكلامه وحياته لأولاده فيجذبهم فيجروا وراءه. القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديس جوارجيوس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
17 يوليو 2021

عن الحياة ببساطة

يتخيل الإنسان الغني عادة أنه لا يرتكب أية خطية مادام لا يسلب الفقير ماديًا. لكن تكمن خطية الغني في عدم مشاركته ثروته مع الفقير. في الواقع احتفاظ الغني بكل ثروته يعني ارتكاب نوعٍ من السرقة. والسبب أنه بالحقيقة كل الغنى هو من الله، فهو ملك الجميع بالتساوي... والدليل على ذلك يحيط بنا في كل مكان. أنظر إلى الفاكهة النضرة التي تنتجها الأشجار والأدغال. أنظر إلى التربة الخصبة التي تعطي كل عام حصادًا وفيرًا هكذا. أنظر إلى العنب الحلو على العناقيد الذي يمنحنا الخمر لنشربه ربما يدعي الأغنياء أنهم يمتلكون الكثير من الأراضي حيث تنمو الثمار والحبوب، لكن الله هو الذي يجعل البذرة تنبت وتنضج. فواجب الأغنياء أن يشاركوا كل حصاد أرضهم مع كل من يعمل فيها، ومع كل من له احتياج. إننا لسنا في حاجة لشراء الهواء، والماء، والنار، وضوء الشمس وما شابه ذلك. فقد أعطى الله لكل إنسانٍ كفاية من كل هذه البركات لينعم بها مجانًا. تشرق الشمس بالتساوي على الفقير والغني، وكلاهما يستنشق نفس الهواء. إذن لماذا خلق الله هذه الضروريات التي هي عماد الحياة للاستخدام العام، بينما المال ليس عامًا؟ السبب في ذلك له شقان: لحفظ الحياة ولفتح الطريق للفضيلة. من جانب، لو كانت ضروريات الحياة غير عامة، لانتزعها الغني من الفقير بطمعه المعتاد. ففي الواقع حيث أن الأغنياء يحتفظون بكل المال لأنفسهم، فمن المؤكد كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للضروريات أيضًا. ومن الجانب الآخر، لو كان المال عامًا ومُتاحًا للجميع، إذن لما كانت هناك فرصة للكرم من جانب الأغنياء، وتقديم الشكر من جانب الفقير. عندما تفتقر أسرة ما، تصير مدفوعة للاستدانة من أجل البقاء. لكن إن طالب الدائن بفوائد على الدين، حينئذ تسقط هذه الأسرة بالأكثر في عمق الحفرة. فتلتزم ليس فقط برد الدين بل أيضًا الفائدة التي تتراكم عليه. ربما يدعي الدائن حتى أمام نفسه أنه يتصرف بكياسة، لكن فعليًا يتصرف بخبثٍ شديدٍ وراء مظهر العطاء متعمدًا الأذى لغيره. إنه يتاجر على حساب مصائب الآخرين، ويستفيد من نكبتهم. إنه يطلب الفوز بالماديات في قالب عمل الرحمة، وهكذا يحول العطاء إلى سرقة. يبدو أنه يرسي بالعائلة الفقيرة على ميناء الأمان، لكنه في الحقيقة يدفع السفينة نحو الصخور. ربما يتساءل الدائن: لماذا يجب عليّ أن اقرض الآخرين مالاً وهو مفيد لي، ولا أطلب مكافأة لذلك؟ والإجابة إنك سوف تنال مكافأة، في مقابل الذهب الذي أقرضته على الأرض، ستأخذ ذهبًا في السماء بنسبة أكبر كثيرًا في الفائدة فوق ما تستطيع أن تتصور. تخيل نجارًا يعمل بأدوات بسيطة. يأخذه عدة أيام ليصنع منضدة بسيطة. وتُباع هذه المنضدة بثمن بخس لأنها ذو نوعية ضعيفة جدًا. له الخيار، إما أن ينفق كل ما يكسبه من مالٍ لشراء الطعام والشراب أو يضع جانبًا بعض المال حتى وإن كان هذا يعني له أن يجوع، حتى يتمكن من شراء أدوات أفضل. إن فعل الأمر الأخير، حينئذ سريعًا ما تستطيع صنع مناضد جيدة بأكثر سرعة وهكذا يرتفع مكسبه بالمثل. هذا الاختيار يشابه الاختيار الروحي الواجب على كلٍ منا. فإما نقوم بإنفاق كل ما نملكه من ثراء على ملذاتنا الخاصة أو نضع جانبًا جزءً من ثروتنا لنعطيه للآخرين. إن فعلنا الأخيرة حينئذ يمكننا أن نضحي بالقليل من الملذات الأرضية وقتيًا، أمام السرور الذي ندركه في السماء والذي فيفوق أكثر كثيرًا اللذة التي فقدناها على الأرض. كل عمل رحمة على الأرض هو استثمار في السماء. نُدعى نحن تلاميذ المسيح أن كان هدفنا على الأرض هو أن نضع كنوزنا في السماء. ولكن أعمالنا تناقض كلماتنا. يبني الكثير من المسيحيين لأنفسهم منازل جميلة، ويعدون الحدائق الرائعة، ويشيدون حمامات السباحة ويشترون الأفدنة. فليس بالعجيب إذا رفض الكثير من الوثنيين تصديق ما نقول. يتساءلون إن كانت أعينهم متطلعة إلى منازل في السماء، فلماذا يبنون منازل على الأرض؟ إن كانوا يمارسون ما يقولون لتركوا ثرواتهم وعاشوا في أكواخ بسيطة. لذلك يستخلص هؤلاء الوثنيين أننا لا نؤمن بحق في الديانة التي نعترف بها، ولذلك يرفضون قبول هذه الديانة بجدية. ربما تقول إن كلمات المسيح بصدد هذه الأمور يصعب جدًا تنفيذها، وأنه بينما تريد روحك هذا، جسدك يكون ضعيفًا. أجيبك أن حكم الوثنيين عليك هو أكثر دقة عن حكمك على نفسك. فعندما يتهمنا الوثنيون بالرياء يجب أن يجيب الكثير منا بأنه مذنب. -11- يرى البعض أن منازلهم التي يقيمون فيها هي مملكتهم، وبالرغم من علمهم أن الموت محتم وأنه يومًا ما سيجبرهم على تركها، ففي قلوبهم يشعرون أنهم يمكثون إلى الأبد. إنهم يفتخرون بحجم منازلهم، والمواد الممتازة التي صنعت منها. يجدون متعة في زخرفة منازلهم بألوان زاهية، وفي انتقاء الأثاث الأكثر صلابة والأفضل لملأ الغرف. يتخيلون أنهم باقتناء منزل معمر... سيجدون فيه سلامهم، أي كلما تأكدوا أن حوائطه وأسطحه سوف تظل متينة إلي أجيال كثيرة. أما نحن فعلى النقيض، نعلم أننا مجرد ضيوف مؤقتين على الأرض. ندرك أن المنازل التي نقطنها هي بمثابة فنادق على الطريق إلى الأبدية. إننا لا ننشد سلامًا أو أمنًا من الحوائط المادية من حولنا أو الأَسقف فوق رؤوسنا. بل بالحري نريد أن نحيط أنفسنا بحوائط النعمة الإلهية. ونتطلع إلى السماء عاليًا كسقفٍ لنا. أما الأثاث في حياتنا فيجب أن يكون أعمال صالحة، نعملها بروح الحب. -12- عندما نعيش بحسب مبادئ إيماننا السلوكية سوف يأتي رد فعل من حولنا في ثلاثة احتمالات. أولاً، ربما يتأثرون بالمثل الذي نقدمه بصلاحنا، وبالغيرة التي يشعرون بها للسرور الذي ننعم به، فيشتاقون أن ينضموا إلينا ويصيروا مثلنا. ورد الفعل هذا هو ما نبتغيه بالأكثر. ثانيًا، ربما يكونون غير مكترثين بالأمر، بسبب ارتباطهم باهتماماتهم وأنانيتهم فيما يشغلهم من أمورٍ. وبالرغم من رؤيتهم لمنهج حياتنا، وقد أعمت قلوبهم، لذلك لا نستطيع أن نحثهم على اتخاذ هذا المسلك. ثالثًا، ربما يصيرون ضدًا لنا، إذ يشعرون بالغضب من نحونا. إذ يشعرون أن مثلنا يهددهم، وقد يغضبون علينا. لذلك يلتصقون بالأكثر بممتلكاتهم المادية وطموحاتهم الأنانية، ويقذفوننا كلما سنحت الفرصة. من الطبيعي إننا نخشى هذا النوع الثالث من رد الفعل، لأننا نريد أن نعيش في سلام مع جيراننا بغض النظر عن معتقداتهم وقيمهم ولكن إن لم يأتِ رد الفعل هذا علينا من أي شخص، علينا أن نعجب هل نحن حقًا ننفذ وصية المسيح. -13- هل تتضايق عندما يسقط طبق أو إناء على الأرض فينكسر إلى أجزاء رفيعة؟ هل تنزعج عندما تهب ريح قوية، وتسمع لألواح سقف بيتك أن تتخلع؟ هل تقلق من أجل محصولات حقلك عندما يزداد هطيل الأمطار لئلا تغرق الأرض؟ هل تشعر بالخوف ليلاً عند سماع طقطقة باب أو حين يصرف، خشية من اللصوص الذين ربما قد أتوا لسرقة مقتنياتك؟ هذه المشاعر طبيعية تمامًا. لكن التحدي في إيماننا أن نصير غير مكترثين بالمقتنيات المادية حتى أن أي شيء من هذا النوع لا يهمك من المؤكد انه مادمنا نعيش على هذه الأرض لابد آن يكون عندنا أطباق نأكل فيها، أسقف فوق رؤوسنا لتحمينا من الجو الخارجي، محاصيل في حقولنا لنقتات عليها وقطع أثاث أساسية في منازلنا. ولكن إن اجتهدنا بأقصى ما نستطيع، سوف نتيقن أن الله سوف يوفي احتياجاتنا. وإذا ما انكسر شيء، ضاع، أو سرق، سيدبر الله ويقرر إن كان ومتى يعوضنا عنه. -14- تظهر مهارة شخصً ما في طََرْقْ النحاس ليصنع أشكالاً رائعة، وينحت نماذج متقنة عليها. وآخر له مهارة في صنع الأثاث، يضع قطع الخشب جنبًا إلى جنب بثباتٍ حتى يكون متينًا لا ينفلق. وثالث يستطيع أن يغزل أفضل صوف بينما رابع ينسجه إلى ملابس. وخامس بناء يستطيع أن يضع حجر على آخر ليبني حائطًا، بينما سادس يصنع سقفًا على قمة الحائط ليصنع منزلاً. حقًا هناك حِرَف مختلفة، وكل منها يحتاج عدة سنوات لبلوغها، حتى يستحيل أن نفندها جميعًا. والآن ما هي الحرفة التي يجب على الأغنياء أن يكتسبوها؟ إنهم لا يحتاجون أن يطرقوا النحاس، أو يشكلوا الخشب، أو يبنوا بيوتًا... بل بالحري عليهم أن يتعلموا كيف يستخدمون ثروتهم حسنًا، لخير الجميع ممن هم حولهم. قد يظن الحرفي العادي أن هذه حرفة يسهل أن يتعلمها. على العكس، إنها أصعب المهارات على الإطلاق. إنها تحتاج إلى حكمة عظيمة وقوة أخلاقية رفيعة. أنظر كم يحقق الكثير من الأغنياء في اكتسابها، وهم قليلون الذين يمارسونها بكمال. -15- عندما يحيك خياط رداء ويقوم ببيعه، تحدث خدمة واحدة وهي وضع ثوب على جسم إنسان. بالمثل عندما يصنع الإسكافي زوجًا من الأحذية ويبيعه، فالخدمة الوحيدة المقدمة هنا هي وضع حذاء في أرجل. ولكن عندما يقدم إنسان هدية لأخر، سواء من المال أو شيء ما، هنا الخدمة المقدمة مزدوجة. أولاً يخرج المتقبل الهدية بفائدة مادية منها. ثانيًا يخرج المعطي بفائدة روحية... لأن كرمه في العطاء يأتي إليه ببركة لروحه. ويمكن أن تكون هناك خدمة ثالثة: إن امتلأت نفس المتقبل الهدية بشكر متواضع فيكون بمثابة بركة لروحه. تخيل مجتمع لا يبيع فيه أحد شيء... بل يتقاسم كل واحد مجانًا مهاراته وثرواته مع الآخر. حينئذ يأتي كل عمل في مثل هذا المجتمع ليس بنفع مادي فحسب، بل وبنفع روحي أيضًا. مثل هذا المجتمع كائن بصورة مصغرة في العائلات الكبيرة، حيث تكون السماء قد نزلت إلى الأرض. -16- لا يُحكم على عطايانا بالكم الكبير من العطايا، بل بمدى اتساع قلب المعطي. إذا ما شاركت امرأة فقيرة أخرى فقيرة في وعاء طعامها الضئيل ينال هذا العمل مدحًا يفوق ما يناله الرجل الغني الذي يلقي بضع العملات الذهبية وسط مجموعة منها في الكنيسة. ولكن بالرغم من علم معظم المسيحيين بحقيقة ذلك تقوم كلماتهم وأعمالهم برسالة أخرى. عندما يقدم رجل غني هدية كبيرة للكنيسة، يُقدم له عظيم الشكر، بالرغم من أن هذا المبلغ لا يمثل الكثير بالنسبة له، فلن ينقصه شيء، يمدح على سخائه. وعندما يقدم رجل فقير هدية صغيرة، لا يقال شيء، وإن كانت هذه الهدية تسبب له الجوع... ولكن لا يمدحه أحد ولا يشكره. من الأفضل ألا نشكر أحدًا عن تخصيص مدحنا للغني. والأفضل من كل ذلك أن نهتم بالأكثر بملاحظة عمل الكرم الحقيقي سواء قدمه الغني أو الفقير قبل تقديم المديح. حقًا لنكن كرماء في مدحنا كما أن المعطي سخي بماله. -17- نحتاج بعضنا لبعض انظر كيف تخرج سنبلة القمح. يشير معظمنا لجهد الزارع في تقليب التربة، وبذر البذور وحَصد الحبوب. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. يحتاج الزارع إلى الحداد ليصنع المجراف، وشفرة المحراث، والمنجل والفأس. إنه يحتاج إلى النجار ليصنع بروازًا للمحراث ونيرًا للحصان. يحتاج إلى صانع الجلود ومخزنًا للحبوب والتبن. يحتاج إلى خباز ليصنع من الحبوب خبزًا وإلا يصير تعبه باطلاً. ويحتاج إلى رجل الغابات ليمد النجار بالخشب لينشره، وخشب للخباز لإشعال الفرن. وهكذا يحتاج إنتاج القمح إلى أناسٍ مختلفين. إذًا إن كنا نحتاج بعضنا لبعضٍ من أجل البقاء نفسه، لماذا نستغل ونرعب بعضنا البعض أبدًا؟ ليس شيء أكثر حماقة وعدم تعقل من محاولتنا الفوز على الآخرين. من يرعب الآخرين ويستغلهم، إنما يرعب ويستغل نفسه. القدِّيس يوحنا الذهبي الفم -18- تقول لي أنك محتاج إلى المال. تقول إن المال هام ليمكنك من شراء احتياجاتك. إنني لست غير متفق معك، فأنا أيضًا أريد مالاً حتى أعيش.. لكنني أتمنى ألا أكون في حاجة إلى المال. أو بالحري أتمنى ألا يكون أحدًا منا في احتياج إلى المال. يطلب الله منا أن نثق فيه ليمنحنا كل ما نحتاجه. أرجو أن نكون قادرين على الثقة في آخرين أيضًا ليمدوننا باحتياجاتنا. في الحقيقة إنني كواعظ مضطر لذلك... إنني أنادى بالله الحق، واعتمد كلية على هبات من يسمعني - هدايا تأتيني في شكل نقود. يقدم ذلك آخرين فيما بينكم. إن أعطي كل منا لمن له احتياج مجانًا لصار المال غير ضروري. إن اهتم كل منكم بالنظر في احتياجات الآخرين، ثم نسد هذه الاحتياجات على قدر طاقتنا مجانًا، لما احتاج أحدنا إلى المال. ولما جاع أحد أو شعر بالبرد، فحينئذ يصير الكل في اكتفاء. -19- المهارة المطلوبة من الأغنياء لحسن استخدام ثرواتهم هي أعلى الفنون جميعًا. لا يبني معلمها على الأرض، بل في السماء، لأنه لابد للأغنياء من الاتصال المباشر مع الله لاكتساب هذا الفن وممارسته. أدواتها غير مصنوعة من الحديد أو النحاس بل من الإرادة الحسنة، لأن الأغنياء لن يحسنوا استخدام ثرواتهم إلا إن أرادوا ذلك. حقًا إن الإرادة الصالحة هي في ذاتها المهارة. إن أراد شخص غني بإخلاص أن يساعد الفقير، سرعان ما يريه الله أفضل السبل. وهكذا حينما وجب على الشخص الذي يتدرب ليصير نجارًا أن يتعلم كيف يتحكم في المطرقة والمنشار والإزميل، بالمثل وجب على الرجل الغني الذي يتدرب على خدمة الفقير أن يتعلم كيف يضبط عقله وقلبه وروحه. عليه أن يتعلم باستمرار التفكير في أمور صالحة، ماحيًا كل أفكار الأنانية. عليه أن يتعلم كيف يشعر بالحنو، ماحيًا كل خبثٍ وازدراءٍ. عليه ألا يشعر سوى كيف يرغب في إطاعة الهً. هذا ما يجعلني أقول إنها مهارة أن تكون تلميذًا غنيًا للمسيح، وهي أسمى كل الفنون، والشخص الذي يقتنيها فهو بالحق قديس. القديس يوحنا الذهبي الفم
المزيد
16 يوليو 2021

اسلكــــوا بالـــروح ج2

قال الروح القدس للرسل: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ....». (أع13: 2). لقد حلّ عليهم فتكلّموا بلغات، هو نطق بلسانهم. لم يكونوا همّ المتكلمين بل الروح الحالّ فيهم. تكلّموا بكلّ اللغات، أي وصلوا إلى كلّ إنسان، وتواصلوا معه، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.في الأصل لم يكُن لهم صوتٌ، ولم يكن أحد ليسمع صوتهم «الذين لم تُسمع أصواتهم خرجت أصواتهم إلى الأرض كلها وبلغت أصواتهم مسامع المسكونة» (مز19: 3، 4). صار صوتهم وكلامهم مملوءًا بالروح.. وحيثما هَبّ الروح سُمع صوتهم، لأنّ «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا» (يو3: 8). فحين حملوا سلام المسيح إلى كلّ بيت، حَلّ سلامه لما قالوا: السلام لهذا البيت كلامهم نَخَسَ القلوب التي كانت نائمة فاستيقظت.. كلامهم أحيا الموتى، وأرجعهم إلى الحياة. كلمتُهُم صارت أقوال الله بسبب الروح المتكلّم منهم «تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط1: 21). ولم تأتِ كلمة منهم بإرادة الناس بل بوحي الروح.نعم تكلّمَ بهم وتكلَّمَ فيهم، فأرشدهم وقادهم وذكَّرهم بكلّ ما قاله السيد. تكلّم فيهم فسمعوه ووعوا قوله وإلهاماته. لمّا منعهم من الذهاب إلى أماكن امتنعوا، ولما دفعهم للكرازة والشهادة أطاعوا وعملوا بحسب إرادته. لما وجهّهم إلى أي جهة لم يعاندوا. صاروا آلات طيِّعة في يد الروح فعمل بهم بلا مانع. ملأهم إلى كلّ الملء فامتلأوا، إذ لم يكن فيهم معاند كقول الرسول وظلّوا يمتلئوا يومًا بعد يوم، إلى مُنتهى الأيام وكانوا يمتلئون كُلّما خدموا وكرزوا.ملأهم من الحكمة فلم يستطع أحد أن يقاوم الحكمة التي فيهم وقد صَحّ التعبير «لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!» (1كو1: 25). ملأهم حكمة ليست من هذا الدهر، ولا تُضاهيها حكمة حكماء هذا الدهر. على أنّهم كلما زادوا في الاتضاع والمَسْكنة كلما زادوا في النعمة والحكمة، وهكذا كرزوا وعلَّموا«انْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ... بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ» (1كو1: 26، 27). صارت حكمتهم ليس نتاج رجاحة العقل والفلسفة، بل نازلة من فوق. الحِكمة البشرية تجعل الإنسان منتفِخًا مُتكبّرًا متباهيًا مُرتفعًا، وعلى العكس صارت حكمة الرسل، فاتّضعوا بالأكثر وقالوا: «أَنَا مَا أَنَا... وَلكِنْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي» (1كو15: 10) الروح بشفاعةٍ داخلية وأنَّات لا يُنطق بها ضبَط ملكاتهم، وقدس نيّاتهم، ووحّد طاقاتهم، واستخدمها الروح لتجديد الخليقة، وتقديسها بغسل الماء بالكلمة. وضْع أيديهم لنقل سِرّ الروح إلى كلّ مَن وضعوا عليه اليد. كانت الأيادي المنظورة تُخفي من ورائها سِرّ الروح الذي لا يُرى، ولكنّه العامل والفاعِل والمُستعِد والمنحدر والمنسكِب دون أن تدركه الحواس الخارجية.ملأهم الروح إلى كلّ الملء، فكرزوا للمؤمنين أن يسعوا للوصول إلى ملء قامة المسيح. كان الملء فيهم دائمًا مستديمًا بغير انقطاع بل بفيض وغزارة. كانوا في الحالة التي عبَّر عنها القديس يوحنا الرائي «لِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (يو2: 4). إذ كما قال القديس بولس: «أَفِي الْجَسَدِ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ لَسْتُ أَعْلَمُ» (2كو12: 2). هكذا كانوا وهكذا غيَّروا وجه الأرض. فإن كان الجسد ضعيفًا بحسب طبيعته، ولكنّ الروح جعل أرواحهم في قوّة الله. بحَسَب الجسد ذاقوا الآلام والأتعاب والأسهار، وبحسب الجسد ذاقوا مرارة الاضطهاد والتعذيب، وحتّى القيود كمذنبين، وحتّى التشريد والقمع، وأخيرًا قبلوا في أجسادهم جراحات الموت بحدّ السيف، ولكن بحسب الروح الساكن فيهم لم يعترِهم الخوف ولا الجُبن ولا الضعف بل كانوا مؤازَرين بقوة الله«شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ» (كو1: 12، 13).سلطان الظلمة، روح الظلمة، روح الضلال، الروح الشرير «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ... » (أف6: 12، 13).إن كُنّا في العالم بحسب قول الرسول سنواجه ونصارِع مع هذه القوات الشريرة، فلا يوجَد طريق للنصرة على هذه القوى الرهيبة سوى الملء من روح الله القدوس. وإلاّ.. فكيف يَقدِر الإنسان الضعيف الترابي بحسب طبيعته أن يتفوّق على أرواح الظلمة؟ فأي شكر يجب أن نقدّمه إلى الله من أجل عطية الروح القدس الذي سكن فينا؟! منذ أن سقط الإنسان، وسلّم إرادته لعدو الخير بإطاعة مشورته، حين دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس. منذ ذلك الحين صار روح الظلمة متسيّدًا على الإنسان لأنّه خضَع له بالإرادة. فلمّا ظهر عطف مخلّصنا الله بتجسده الإلهي، وصنع الخلاص وحرّرنا من عبودية إبليس.. «صِرْنَا عَبِيدًا لِلْبِرِّ» (رو6: 16) بحلول روح الله فينا.وفي طقس المعمودية المُقدّسة يُطرَد الروح النجس من مسكنه بقوة الله وباسم يسوع المسيح. هذا السلطان أعطاه الله للرسل، حين أعطاهم قوّة وسلطانًا على إخراج الشياطين، ونفخ في وجوههم، وأرسلهم أن يشفوا المرضى ويخرجوا الشياطين ويقيموا الموتى. هكذا بعد الصلاة ينفخ الكاهن في المُعمَّد ويقول بسلطان: "اخرج أيّها الروح النجس". وبالصبغة المقدسة وسرّ الميرون يحل الروح القدس في المُعمَّد، ويصير مسكِنًا لله بالروح.ولكن كلام المسيح فيه لنا تحذير غاية فى الخطورة والأهميّة، لابد أن يُؤخَذ مَأخذ الجدّ: «إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغًا مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ» (مت12: 43–45).«إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ» (في2: 1)«أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1يو1: 3، 4). ومع هذه الشركة ينبع الفرح «لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً».في المسيح نحن شركاء في الآلام وشركاء في التعزية والمجد، شركاء في الضيق وشركاء في السعة. شركاء في الموت وشركاء في القيامة. ألسنا أعضاء جسد واحد؟ إذن هذه الشركة هي شركة حياة، شركة عملية ولا يمكن إدراكها بالفكر. هذه الشركة في الروح لأنّنا كلّنا وُلدنا من ذات الروح الواحد. ولمّا أعطانا جسده لنأكله صارت فينا شركة الجسد الواحد. كلّ مَن يحيا ويتمتّع بهذه الشركة يعيش السماء على الأرض، يدخُل إلى عمق الحبّ الإلهي الذي جَمَع المتفرّقين إلى واحد.صرنا نحب الأخوة.. بل «انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ» (1يو3: 14). الحبّ الذي سكبه الروح فينا.. لذلك نحبّ من كلّ القلب، نحبّ الله ونحبّ القريب، نحبّ الله ونحب أولاد الله، نحبّ «مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ» (1بط1: 22). ونكرز بهذا الحبّ العجيب. نحبّ بلا تحفُّظ.. «قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ» (2كو6: 11).إنّ ممارسة المحبّة المسيحيّة في محيط الأسرة يُغيِّر مِن شكل الأسرة، ويجعلها مختلفة متميّزة، إذ يصير رباط أعضائها ليس رباط اللحم والدم فحسب، بل بالأكثر رباط الروح القدس الواحد. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
15 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس بلعام بن بعور

بلعام بن بعور "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم" عدد 23: 10 مقدمة لست أعلم من أي غدير أو نبع استقى روبرت لويس استفنسون فكرته، وهو يكتب كتابه العظيم: "دكتور چيكل ومستر هايد" الرجل المزدوج الشخصية، فهو تارة چيكل الطيب، وأخرى هايد الشرير، وهو يملك دواء يغير شخصيته كلما رام التنقل بين الشخصيتين،.. ومفعول الدواء يستمر معه لحظات من الزمن، غير أنه تأتي الساعة التي يفقد فيها هذا الدواء فاعليته، ويتوقف الرجل -للأسف- عند هايد الشرير، دون أن يبلغ چيكل الطيب،.. هناك من يؤكد أن استفنسون استوحى فكرته من الأصحاح السابع من رسالة رومية من قول الرسول بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت!!.." ولعل روبرت لويس استفنسون لو بحث عن نموذج بشري يصلح لهذه الفكرة، لما وجد أفضل من بلعام بن بعور، الرجل الذي ارتقى إلى مصاف الملائكة، ثم هبط إلى القاع مع الشياطين!!.. وربما نستطيع أن نتابع الرجل وقصته الغريبة لو وقفنا منه من الجوانب التالية: بلعام وامتيازه لا شبهة في أن بلعام كان من أعظم الشخصيات المعروفة في عصرها،.. وكان يتسم بصفات متعددة واضحة إذ هو: الرجل ذو العقل الجبار كان من فتور ما بين النهرين، والبلدة كانت مشهورة بالحكمة، ومليئة بالحكماء، وكان بلعام بن بعور مقصد الكثيرين الذين يأتونه من كل البلاد، يبحثون عن الحلول لمشاكلهم، وما يواجهون من متاعب وصعاب،.. وقد حلت مشكلة أمام بالاق، وهو يفتش هنا وهناك عن ناصح وحكيم، يستطيع أن يعطيه حلاً لها، فلا يجد إلا الرجل القابع ما بين النهرين، اللامع التفكير الجبار الذهن، المقتدر الفهم، وهو لا يكاد يجد في الأرض كلها شبيهاً له، ونظيراً،.. وهو واحد من المجوس حكماء المشرق القدامى، والذي ظهر قبل أن يأتي المجوس إلى السيد بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان.على أن المعرفة الأكبر عند الرجل كانت معرفة الله، وقد كان من أعظم العارفين بالله، فالله ليس شخصاً غامضاً أمام عينيه أو صورة يحف بها الإبهام والظلام، كلا.. بل هو رجل غزير المعرفة بالله، عندما يتحدث عنه تعالى، لا يتحدث عن ألوهيم" إله الكون والخليقة، بل عن "يهوه" إله العهد -وقد حار الشراح والمؤلفون، من أين للرجل هذه المعرفة، المعرفة التي تصف الله في ثباته وجلاله وقوته وانتصاره؟!.. إن الجواب على ذلك يكمن في أنه كان واحداً من الذين أودعهم الله النور الذي ينير كل إنسان، وقد أتى إلى العلم، وعرفه الكثيرون من غير شعب الله، لأنه لا يترك نفسه بلا شاهد،.. فكان هناك ملكي صادق، وكان هناك أيوب، وكان هناك صوفر النعماني، وبلدد الشوحي، وأليفاز التيماني، وأليهو بن برخئيل البوزي، وغيرهم. الرجل ذو اللسان الساحر لم يكن بلعام جبار العقل فحسب، بل كان ساحر اللسان أيضاً،.. من الناس من يكونون على أعظم قدرة ومعرفة ذهنية، لكنهم لا يملكون اللسان الزرب البارع المنطق،.. ولكن بلعام كان يملك ناصية الاثنين، إذ كان ذهبي اللسان رائع المنطق، سديد التعبير، وكان خطيباً مفوهاً، وصل ببيانه إلى أسمى الذرى، وكان ندا لأروع ما نطق به الأنبياء، وفي ألفاظه الرائعة، كان أقرب إلى شعر إشعياء، وبلاغة حبقوق!!.. كان أميراً من أمراء البيان، ولو اعتلى المنبر، لكان واحداً من خطباء العصور، وسيداً من سادة المتكلمين بين الوعاظ في كل زمان!!.. الرجل الممتليء الأشواق لم يكن بلعام ذهناً يفكر، أو لساناً زربا يتكلم، بل كان هناك شيء أكثر عند الرجل وفيه، إذ كانت له أشواق ملتهبة قوية، تزداد عنفاً وقوة ولمعاناً في وقت الصفاء، وساعات التأمل والهدوء،.. وأمام المذابح التي أقامها، والذبائح التي قدمها، التهب الرجل التهاباً، وهو يرى المخلص الآتي من بعيد: "أراه ولكن ليس الآن أبصره، ولكن ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى".. وهو إذ يرى عالماً أفضل، ومجداً أروع وأعظم يهتف: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم!!.. ومن المؤكد أن الشعب الذي رآه، والصور التي أثارها هذا الشعب أمام عينيه وفي خياله، هي التي رفعته إلى هذا المستوى الرفيع الممتلئ من الأشواق السماوية!!.. وكم من الناس دخلوا في وسط حفل مقدس، وأنصتوا إلى ترنم أعظم من كل أغاني الأرض، وأسمى من كل ما يعرف الإنسان،.. وسمعوا لغة إلهية أعلى من البيان البشري، فصاح كيانهم: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم"!!.. الرجل الباحث عن مشورة الله كان هناك شيء في الرجل يؤكد أن الحكمة البشرية -مهما بلغت أو عظمت، واللسان الزرب، مهما تكلم وأفصح، والشوق العميق مهما امتد والتهب- فإن الإنسان في حاجة إلى شيء أعظم من هذه كلها، وإلى جانبها، ألا وهو المشورة الإلهية التي لا يمكن أن يسير بدونها،.. وأبى بلعام أن يتخطى الطريق دون معرفة رأي الله وإرادته،.. ونحن نسأل هنا: هل أدرك الرجل أن ذكاء المرء محسوب عليه؟ وأن خطأ الحكمة البشرية بين وواضح في شتى المواقع الأرضية؟ وأن الإنسان مهما بلغ من الإدراك تائه في الظلام، لا يمكن أن يعرف ما يأتي به الغد، أو ما يتمخض عنه الزمن، أو ما تأتي به الأيام؟ وهو لا يتحرك إلا إذا أدرك ماذا يريد الله، وما هي مشيئته، وهو لذلك يطلب من رجال بالاق بن صفور أن ينظروا حتى يضيء له الله الظلمة الضاربة في الطريق؟!!. الرجل المستخدم من الله وبلعام بن بعور عنده الرغبة قبل وبعد هذه كلها أن يكون: "الرجل المفتوح العينين.. الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة القدير، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينيين" وهو يصمم وقد جاء من بين النهرين- على شيء واحد "ألعلي الآن أستطيع أن أتكلم بشيء من الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم" ومن العجيب أن هذا الرجل فتحت عيناه حقاً، ومد بصره إلى ما وراء القرون والأجيال البعيدة، وتكلم بأروع النبوات وأعظم الرؤى، وارتفعت نبواته إلى مصاف أعلى النبوات وهي تتحدث عن المسيح سيدنا مخلص العالم!!.. بلعام وسقوطه ولكن كيف يمكن لهذا الرجل العظيم أن يسقط من الجبل الشاهق الذي وصل إليه، وكيف يمكن أن يكون سقوطه عظيماً على الصورة التي جعلته عبرة لكل الأجيال والتاريخ!!.. وما هي عوامل سقوطه الشنيع هذا؟!!. أسقطته الكبرياء ولعل هذه أول تجربة واجهها الرجل إذ أن القارئ المدقق في كلمة الله يعلم أن بلعام رفض أن يذهب إلى بالاق من المرة الأولى، وأن بالاق داهن الرجل وتملقه، بأن أرسل إليه وفدا أعظم وأعلى من الوفد الأول، حتى يحس تقديره الكبير له، وسقط الرجل في الفخ المنصوب، وذهب مع الوفد الثاني،.. ولعل هذه تجربة العظماء والموهوبين في كل جيل وعصر، إذ يجربهم الشيطان بالتعالي والكبرياء والغرور، وعندما يتملقهم الناس تنزلق الطريق أمامهم، وما أسرع ما يسقطون!!.. ألم تكن هذه تجربة الشيطان نفسه، الذي وضعه الله في المكان العظيم المحدد له، ولكنه ترك رياسته، محاولاً أن يأخذ مكاناً أعظم وأعلى، وحبسه الله في القيود الأبدية تحت الظلام؟.. أليس هذه تجربة الجبابرة والملوك الذين قهروا الممالك ودوخوا الشعب، ولكن مأساتهم العظيمة، أنهم سقطوا من عل، لأنهم كانوا يتصورون أنهم من طينة غير طينة الناس، إلى الدرجة التي جعلت الإسكندر عندما انهمر الدم من جرح حدث له، أن يتعجب كيف يسقط دمه مثلما يسقط دم الآخرين من الناس، وكانت عقيدته أنه ابن الآلهة كما صوروا له أو خدعوه؟ أليست هذه تجربة نبوخذنصر الذي قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال ملكي.. والكلمة بعد بفم الملك وقع صوت من السماء قائلاً: لك يقولون يا نبوخذنصر الملك إن الملك زال عنك.. "في تلك الساعة تم الأمر على نبوخذنصر فطرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندي السماء، حتى طال شعره مثل النسور وأظفاره مثل الطيور، وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء فرجع إلىَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلي دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟؟"، أليست هذه هي تجربة هيرودس الذي تملقه الصوريون والصيداويون، وهو لابس حلته الملوكية وعلى عرش الملك وهو يخطابهم، وإذا بهم يصرخون: هذا صوت إله لا صوت إنسان، ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد لله فصار يأكله الدود ومات؟؟.. أليست هذه تجربة الكثيرين من أشهر الوعاظ، ولعله يوحنا ويسلي الذي جاءه واحد بعد عظة رائعة، وقال له -وهو نازل من المنبر-: ما أعظم ما وعظتنا به في هذه العظة، وأجاب الرجل العظيم: لقد قالها واحد غيرك من قبلك الآن، وتعجب الرجل وقال: من؟ وكان الجواب: إنه الشيطان؟؟ ولئن كان ويسلي نجح في مكافحة الشيطان، فإن بلعام بن بعور لم ينجح وهو ينزل من فوق منبر بالاق بن صفور، ومع أنه من هناك ألقى عظاته التي تلقفتها الأجيال، لكنه كان الواعظ الذي بعدما كرز للآخرين صار هو بنفسه مرفوضاً!!.. هذه الحقيقة العظيمة تؤكد أن الله لا يعطي مجده أو كرامته لآخر، وتكشف عن السياسة الإلهية الثابتة: "إن الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة".. كانت الكبرياء المسمار الأول في نعش بلعام بن بعور. أسقطه الطمع كان يزعم أنه لا يتجاوز قول الرب ولو أعطاه بالاق ملء بيته فضة وذهباً، وعينه على كل درهم أو دانق يلقي به الملك إليه، كان محباً للمال بكل ما في الكلمة من معنى، كان واحداً من ذلك الموكب الرهيب الذي يتمشى في كل العصور: "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا..".. ولم يهرب بلعام، بل -على العكس- سعى إلى الذهب، الذي ذهب به إلى الدمار، ومال إلى المال الذي مال به عن الطريق المستقيم، إلى طريق الأفك والضلال، أو كما وصفه الرسول بطرس مع محبي المال: "قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم".. هل رأيت الطريق من فتور إلى موآب؟ كان طريقاً طويلاً متعباً لكن بلعام بن بعور الطريق المرصوف بالذهب، وأحب بلعام أجرة الإثم، وسال لعابه طوال الطرق، وعبارة رهيبة تدوي في أذنيه في كل خطوة منه: الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. وويل لمن يقتحم المحرم من أجل الفضة أو الذهب،.. اقتحمه عخان بن كرمي من أجل الرداء الشنعاري النفيس، والمائتي شاقل من الفضة، واللسان من الذهب، ودفن المال عخان- بن كرمي ملفوفاً بردائه الشنعاري!!.. واقتحمه جيحزي غلام أليشع بعد أن رفض سيده أن يأخذ من يد نعمان السرياني ما أحضره هدية من أجل شفائه، وأخذ وزنتي فضة وحلتي ثياب، وعندما مثل أمام أليشع كان الجواب: "أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد فخرج من أمامه أبرص كالثلج". واقتحمه يهوذا الاسخريوطي الذي ذهب إلى رؤساء الكهنة وقال: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".. وارتكب أكبر جريمة في التاريخ مقابل ما يقرب من ثلاثة جنيهات!!..كل واحد يباع بثمن إذا تجرد من نعمة الله، وكان أشبه بذلك الرجل الذي عرض عليه الأعداء أن يخون وطنه، وعرضوا ثمناً ورفض، ورفعوا الثمن، وظلوا يرفعونه إلى أن وصلوا إلى النقطة التي جعلته يصرخ: لقد اقتربتم من الثمن الذي يمكن أن تشتروني به،.. ولا أعلم إن كانوا قد نجحوا أم لا، لكني أعلم أن بلعام بن بعور أخذ الأجرة الآثمة التي أسقطته!! هل أدرك بلعام بن بعور ما قاله أحد الشعراء، وهو يرى الناس تباع بأثمان مختلفة ومتنوعة!!.. ليس بالفضة، وليس بالذهب، بل توجد آلاف الطرق التي بها يشتري الإنسان،.. فالصداقة الآثمة، أو الرغبة الشريرة، أو الاسم الفارغ كثيراً ما تكون الثمن الذي به يباع الناس ويشترون!!.. وقد اشترى بالاق بن صفور بلعام بثمنين رهيبين: "فعاد بالاق وأرسل أيضاً رؤساء أكثر وأعظم من أولئك.. فأتوا إلى بلعام وقالوا هكذا قال بالاق بن صفور لا تمتنع عن الإتيان إليَّ لأني أكرمك إكراماً عظيماً وكل ما تقول لي أفعله" "فقال بالاق لبلعام ألم أرسل إليك لأدعوك لماذا لم تأت إليَّ أحقاً لا أقدر أن أكرمك".. كان الثمن الأول ما يمكن أن نطلق عليه إكرام الشهرة والحفاوة والإجلال في الوفود المرسلة، والاستقبال الفخم العظيم،.. وفي حلوان العرافة المتزايدة في المقدم أو المؤخر من الرشوة الكبيرة!!..كان بلعام بن بعور قائداً عظيماً من أقدم القادة، الذين جمعوا وراءهم كل خطيب، وواعظ، ورجل دين، استخدم منبره بحثاً عن الصيت الذائع، أو عن المادة المتكاثرة!!.. ولم يعلم هؤلاء جميعاً أن مصيرهم لابد أن يكون مصير الرجل التعس الذي ذهب على أبشع صورة وأقسى منظر!!.. بلعام وطريقه لم يتبع بلعام نهجاً وسلوكاً خاصاً به، بل أصبح أكثر من ذلك مدرسة مشهورة من مدارس الضلال والكذب، ويكفي أن يصف الرسول بطرس أتباعه: "لهم عيون مملوءة فسقاً لا تكف عن الخطية خادعون النفوس غير الثابتة لهم قلب متدرب في الطمع أولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم"، أو ما قاله السيد لملاك كنيسة برغامس: "إن عندك هناك قوماً متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا".. ولعل المشاهد لطريق بلعام يلاحظ أنها: طريق الخداع النفسي وهذه هي الحقيقة الأولى، إن المخادع قبل أن يخدع الآخرين لابد أن يخدعه نفسه أولاً، وهذا ميسور ويستوي فيه الجميع لأن "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه".. وقد منع الله بلعام من الليلة التي ذهب فيها رؤساء موآب إليه، وكان المنع واضحاً وصريحاً، وعندما عاد بالاق وأرسل له رؤساء أعظم وأكثر، كان من واجبه ألا يكون عنده جواب إلا الجواب الأول، لأنه هو يعلم جيداً أن مشيئة الرب لا تتقلقل أو تتذبذب، وهو ليس في حاجة إلى أن يعود مرة أخرى إلى سؤال الله،.. وعاد بلعام يسأل الله مرة أخرى، وأدرك الله أن الرجل يريد أن يخادع نفسه، وهو يطلب أذناً من الله، ليفعل ما لا يريده الله أن يفعل، ولم يكن هنا يخدع الله، بل كان يخدع نفسه، لعل الله -قد مثل أمامه إكرام البشر وذهبهم وفضتهم- يعطيه رخصة للذهاب، وأسلم الله إلى ذهنه المرفوض وهكذا يفعل الله على الدوام لمن يريد أن يحجز الحق بالإثم، ويغطي المشورة الإلهية بالرغبة البشرية،.. مرات كثيرة ما يطلب الناس الله بذات الصورة التي طلبها بلعام بن بعور، لعل ضميرهم الثائر يستريح، أو يعطي تبريراً لما ينتوون من رغبات شريرة أو آثمة،.. ويجيبهم الله بذات الإجابة القديمة، وعندما تتنكب بهم الطريق يصرخون ويجأرون!! ألم نطلب الله.. ألم ننتظره فلماذا أصابنا هذا كله؟، وهم يعلمون أن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً..” ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً”.. طريق الورطة إن طريق الخداع النفسي على الدوام طريق موروط، وكان لابد لبلعام أن يفهم موقف الرب بكل وضوح، فالله لم يتغير أبداً في موقفه، إنما الذي تغير هو بلعام، ويبدو أنه كان في صراع مع نفسه، وفي تساؤل هل يتبع الطريق الصحيح أم لا، وهو يركب الأتان التي تميل به في الطريق يميناً ويساراً مع الذبذبة النفسية، التي كانت تموج بها نفسه،.. وجاء إلى خندق، وكان هو قد وصل إلى خندق نفسي عظيم، حيث لا مجال للنكوب هنا أو هناك، وربضت الأتان تحته، ولم تفعل ما فعلته قبل ذلك مرة ومرتين، إذ كانت تغير طريقها من موقف الملاك الواقف قبالتها!!.. وضربها بلعام، ونطقت الأتان، وتكلمت بلغة البشر،.. لقد وقف بلعام في الطريق بين الملاك والأتان، لأن حياته كانت بين الوثنيين، ومن المؤسف أن النفس البشرية تبدأ في الطريق بالملاك لتنتهي إلى الحمار، أو في الواقع لتصل إلى حماقة لا يصل إليها الحمار نفسه!!.. وأي ورطة أعظم من هذه الورطة؟ وأي قسوة أشنع منها وأبلغ؟.. أهكذا تقع النفس البشرية بين الملاك والحمار؟ بين أعلى حكمة وأدنى غباوة؟.. ولكنها حقيقة الإنسان في طريق الورطة بعيداً عن الله!!.. لأن "الثور يعرف قانيه والحمار يعرف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم"!!.. على أن السؤال الأعمق والأبعد: لماذا يسمح الله بطريق الورطة التي لا يرغبها، والتي أعلن رفضها من الأول؟!!.. إن الله يسمح لا لأنه يريد ألا يقهر الحرية البشرية فحسب بل أكثر من ذلك لأنه يريد أن يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، ولأنه يريد أن ينتصر على القصد الشرير، ويصنع منه قصداً رائعاً جميلاً خيراً، وما كان من الممكن أن نسمع عن هذه النبوات الرائعة والعظيمة، أو نعرف إجادة الرب إلا كما يقول ميخا: "يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور من شكيم إلى الجلجال" (مي 6: 5).. بلعام وخطورته كان بلعام خطراً داهماً على نفسه، وعلى شعب الله أيضاً، وكانت خطورته: خطورة الإسفاف وأي إسفاف أبلغ من هذا الإسفاف الذي نزل به النسر المحلق في الأعالي بأعلى الرؤى وأقدس النبوات، إلى الجثث الميتة والجيف النتنة؟! خطورة الرائي الذي يرى رؤى القدير بعين مكشوفة.. إلى العراف الذي تحول إلى الخرافات والتنجيم؟.. خطورة الذي بدأ أعظم بداية لينتهي أسوأ نهاية؟!. إنه يذكرنا بالتعبير العظيم: لماذا سقطت يا زهرة بنت الصبح، ولماذا يهوى الجمال إلى حضيض الطين؟!! إنه شيء يروع النفس، ويدمي القلب، ويغمد النصل الحاد في القلب المحزون، عندما ينتهي تلميذ المسيح إلى قبلة الغدر، ويسمع للصيحة الأليمة الباكية: يا صحب لماذا جئت!!.. وهكذا كان إسفاف يهوذا الاسخريوطي، ومن قبله بلعام بن بعور الذي قتل نفسه قبل أن يقتل الآخرين!! خطورة الرأي الملتوي وأي التواء أكثر مما وصفه به "فردريك وليم روبرتسن" عندما قال: "إنه الرجل الذي أراد أن يرضي نفسه دون أن يغضب الله"؟ وكان في ذلك واحداً من أبرع أئمة الدبلوماسيين والمرائين!!.. إنه ذلك النوع من الثعالب الفضية اللون، التي يروق لك منظرها، ولا تعلم في أي جحر تبيت، ولا من أي باب تخرج، إنه الإنسان الذي يلقى عبارته التي تحتمل الكثير من التفسير والإيماء والتساؤل، وهو من أدهى الدهاة الذين يمكن أن تفسر بمائة تفسير، قد يذمك في قالب مدح، وقد يمدحك في قالب ذم، وهو قد يحتفل بك برقصة الثعلب في وسط الدجاج، أو احتفال ياهو بمن أراد أن يذبحهم من أنبياء البعل،.. أو بالحفلة التي أجهز بها محمد علي على المماليك في مصر!!.لقد وقعت أمامه مشكلة، الله يريده أن يبارك، وبالاق يريده أن يلعن، وهو يريد أن يرضي الله ويرضي بالاق أيضاً، ويبارك ويلعن في الوقت عينه، فماذا يفعل الداهية؟!!.. لقد بارك كما أراد الله،.. ومن خلال البركة فتح الطريق أمام بالاق للعنة –خذ مثلاً هذا التعبير- وهو صحيح مائة في المائة- وهو خطير أيضاً إلى أبلغ حد: لقد جاء في بركته: “ لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل الرب إلهه معه ”(عد23: 21).. وهذه بركة حقيقية ودائمة،.. ولكنها بمفهوم المخالفة (كما يقول رجال القانون).. إنك يا بالاق إذا أردت أن تقضي على هذا الشعب، فليس هناك إلا سبيل واحد،.. وهو أن تسقطه في الإثم، فتأتي به إلى خيانة الله، والبعد عنه.. وتلقف بالاق بن صفور الإشارة البارعة، وأخرج بنات موآب يرقصن ويلعبن أمام شعب الله، ويقتدنه إلى ما ذبح للأوثان، وللزنا،.. وغبط بلعام بهذه البراعة، فهو لم يقل شيئاً إلا الذي قاله الله له،.. وهو لم يخرج عن وصيته أو يتجاوز قوله،.. وفي الوقت عينه قال كل شيء يرضي بالاق بن صفور، ويعطيه أقرب طريق إلى قتل الشعب والقضاء عليه!!.. كان واعظاً بارعاً ألقى عظته باسم الله، وأخذ الثمن من الشيطان!!.. خطورة العدو الخبيث هذا هو الرجل الذي كان بهذه المشورة القاتلة، أخطر أعداء شعب الله، والتاريخ ينظر إليه كواحد من أخبث القتلة وأشدهم ضراوة.وهكذا عرفه الفكر اليهودي، إذ قال موسى في سفر التثنية وهو يتحدث عن الموآبيين: "ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور آرام النهرين لكي يلعنك ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك" (تث 23: 4 5). وقال يشوع: "وقام بالاق بن صفور ملك موآب وحارب إسرائيل وأرسل ودعا بلعام بن بعور لكي يلعنكم ولم أشأ أن أسمع لبلعام فبارككم بركة وأنقذتكم من يده"(يش 24: 9 10).. وكان المسيحيون في مطلع التاريخ المسيحي يرونه في كل تعليم خبيث يمزج الحق بالباطل، والسم بالدسم، كما جاء في سفر الرؤيا عن الذين يتمسكون: "بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا"(رؤ2: 14).. وهو الرجل الذي حار فيه أوغسطينوس وچيروم، فالأول كان يعرفه الإنسان الذي يستخدم الدين طمعاً في الكسب، والثاني الذي كان يراه أشبه بسقطة النبي القديم في بيت إيل، الذي قتله الأسد بجوار حماره!! ورغم أن الرجل أعطى أعظم النبوات وأبرعها، لكن التاريخ الكنسي لم يذكره قط صديقاً للكنيسة، بل عدواً قاسياً خطراً، كما ذكر النبوة التي جاءت على لسان قيافا، وكانت من أعظم النبوات عن المسيح: "فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد"(يو11/ 4951).. ومع ذلك فإن التاريخ لم ير في قيافا صديقاً للكنيسة، بل عدواً من أقسى أعدائها. بلعام ومصرعه ومصرع بلعام عظة بالغة لمن يريد أن يتعظ ويتعلم، لقد جائته نهايته بأسرع مما كان يتصور أو يحلم، إذ لم يمت في بيته وأرضه، بل مات في أرض غريبة، أرض المديانيين، ولا يعلم أحد على وجه التحقيق لماذا كان هناك.. يظن البعض أن المديانيين دعوه كما دعاه بالاق ملك موآب، وأنه وقد استمرأ الدعوة الأولى وحلوانها، فقد ذهب إلى الثانية ليضاعف الحلوان ويكثر الثروة ولم يدر أن هناك نهايته ومصرعه، إذ قتله الإسرائيليون مع ملوك مديان،.. كانت الطريق الأولى ورطة أمامه، وبقيت له الحياة مع ورطة الطريق،.. لكنه عند تكرار الأمر لم يجد في الغالب ملاكاً يقف في طريقه، أو حماراً يزحم قدمه،.. لقد رأى الطريق رحب إلى الهلاك، والنهاية أسرع مما كان يظن،.. وإنها حكمة الله العجيبة، إذ أنه قبل أن يقضي على الحياة، يضيق الطريق ويزحم القدم، لعل الإنسان يثوب إلى رشده ويرجع، أيها الخاطئ، قد يزحم الله قدمك بالخسارة، أو الضيق، أو الشدة، أو المعاناة أو التعب من كل جانب، فإذا لم تنتبه، فقد يفسح أمامك، ويوسع الطريق، ولكن إلى الهاوية والهلاك وأنت لا تدري!!..ومن المؤسف أن الرجل الذي وعظ بسحر البلاغة وروعة البيان، كان في حاجة إلى العظة القاسية من الحمار الأعجم الذي نطق بصوت إنسان،.. وهكذا كان الرجل الحكيم في عصره غبياً إلى الدرجة التي يحتاج فيها إلى عظة حمار: "إذ منع حماقة النبي حمار أعجم".. وإذا كانوا قد قالوا إن الإنسان قد يأخذ الحكمة من أفواه المجانين، فليس بعيداً عن الله، أن يعلم الحكيم الذي هوى بشره إلى الحماقة، على لسان حمار!!..وفي الحقيقة أن بلعام بن بعور الذي لم تفده عظة الحمار، والذي بلغ من الحماقة ما لا يبلغه الحيوان نفسه، كان لابد أن يموت موت أحمق، ولقد مات أشنع ميتة وأقساها، إذ لم يعش ليستفيد من إكرام بالاق بن صفور الموآبي، أو من ملوك مديان أوى وراقم وصور وحور ورابع الخمسة الذين قتلوا فوق قتلاهم، وقتل معهم بلعام بن بعور (عد 31: 8)، وذهب الرجل إلى مصيره التعس دون أن يأخذ شيئاً من ذهب بالاق أو فضته معه،.. وهو يذكرنا بالحقيقة القاسية إن ثوب الكفن لا جيوب له، وأن الكرامة المزعومة ستذهب أدراج الرياح، وأنه ليس ذهب بالاق أو المديانيين أو الأرض، يمكن أن يساوي خسارة نفس عرفت الحق الإلهي يوماً ما وغنت به، ولكنها لم تلبث أن لفظته وخرجت عليه: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه!!".كان على بلعام أن يعلم أن الرجل الذي يتمنى: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم.. لا يمكن أن يتحقق له ذلك ما لم يقل أيضاً: "لتحيا نفسي حياة الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم". وإذ لم يحيي الرجل هذه الحياة، لم يحقق الأمنية التي طافت بذهنه في لحظة سمو واتضاع" وذهب الرجل ليحقق قولاً آخر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!
المزيد
14 يوليو 2021

العنف المُنَفِّر والمدمِّر

لا يستريح أحد إلي العنف، حتى من الطبيعة إن كانت عنيفة: إنها مخيفة تلك الأعاصير العنيفة التي تغرق مدنا وتشرد سكانها، وكذلك السيول العنيفة التي تجرف أمامها كل معالم الحياة. وأيضًا الزلازل التي تهز الأرض وتهدم بيوتا. والبراكين التي تحرق وتدمر.. بل ما أشدها رعبًا تلك الأمواج الصاخبة من بحر هائج تهدد السفن وركابها بالغرق. ومثلها الحرائق العنيفة التي تتلف وتميت.أيضا عنيفة جدا تلك الأمراض التي يقف أمامها الطب عاجزًا كل ما يستطيعه أن يسكن بعض الآلام القاسية التي تنتج عنها، دون أن يجد لها علاجًا..! كل هذه أنواع عنف من الطبيعة. وكلها غير مقبولة. وماذا تراه يصنع الإنسان تجاهها؟! ولكن هناك نوعا آخر من العنف قد يصدر من جانب البشر أنفسهم. فما هو؟ لعل أبرزه العنف في الاعتداء. وهو علي أنواع ودرجات: عنف قد يبدأ بالإهانة والضرب، وقد يصل إلي القتل، أو ما يعرف باسم التصفية الجسدية. وربما يشمل ألوانًا من التعذيب، تخرج عن نطاق المشاعر الإنسانية، ولا تتفق مع أبسط أنواع الرحمة. وقد يتعرض له الأبرياء بلا سبب.. وهذا ما يسمي الإرهاب. ومن ضحاياه الأفراد أو الجماعات. والعنف عموما هو سلوك منفر، ولا يتفق مع الوداعة واللطف. ولا مع حسن التعامل بين الناس، ولا مع فضيلة السلام التي يدعو إليها الدين، والتي هي لازمة لسلامة المجتمع.. والعنف لا يتفق أيضًا مع المحبة التي تربط بين الناس. وفي ظلها يعيش كل شخص آمنا لا يخشي شرًا من أحد. وقد ينتج العنف عن أسباب عديدة، ربما في مقدمتها قساوة الطبع، أو التهور أو اللامبالاة بمشاعر الآخرين ومصائرهم.. فالشخص القاسي يكون عنيفًا: ليس فقط في تصرفاته وتعامله مع غيره. بل حتى ملامح وجهه يظهر فيها العنف، في نظرات عينيه، وفي لهجة صوته، وفي أسلوب تخاطبه.والشخص العنيف قد يظهر عنفه في كلامه الجارح العنيف الذي لا يحترم فيه أحدًا. بل يكون مستعدًا للاحتكاك بغيره لأتفه الأسباب أو لغير ما سبب! ولقد صدق الشاعر حينما قال عن مثل هذا: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير أما عن العنف الناتج عن تهور ولا مبالاة: فمن أمثلته كثير من حوادث المرور، التي في بعضها يهجم سائق عربة نقل طائش علي سيارة خاصة أو علي أتوبيس، وتكون نتيجة طيشه ولامبالاته قتل بعض الركاب أو إصابة بعضهم بإصابات خطرة.. وهذا السائق نفسه قد يلقي حتفه.. وكل ذلك بسبب عنفه في قيادة عربته، وعدم مبالاته بأرواح الناس. وقد يقول البعض انه عنف غير مقصود. ولكن نتائجه عنيفة حتى لو كانت غير مقصودة.. وهذا الأمر قد يتكرر أيضا في بعض حوادث القطارات عن إهمال. هناك عنف آخر يحدث نتيجة للخصومة والعداوة: ليست كل عداوة فيها عنف. فربما تقتصر علي مشاعر من الكراهية وتقف عند هذا الحد. ولكن عنف العداوة يظهر في الرغبة في الانتقام، أو في تدمير العدو بأية الطرق.. إما بتشويه سمعته، أو بتدبير بعض المؤامرات ضده. أو الشماتة به والفرح بسقوطه. وهنا تكون مشاعر الخصومة عنيفة جدًا.وقد يظهر عنف الخصومة، حينما يرفض الطرف العنيف كل محاولات الصلح التي تبذل لإرجاع العلاقة بينه وبين الطرف الآخر. وأحيانا يكون العنف في العتاب، إذا قبل أحد الخصمين عتابًا: المفروض في العتاب انه تقريب لذات البين بين الطرفين، والوصول إلي التفاهم ثم إلي الصلح.. ولكن بعض أنواع العتاب تكون عنيفة جدًا، لدرجة أنها تعقد الأمور بالأكثر، وتجعل الهوة بين الطرفين أكثر اتساعًا. وقد صدق الشاعر حينما قال: ودع العتاب فرب شر كان أوله العتاب لذلك إن أردت أن تعاتب، فكن لطيفًا في عتابك.. وليكون قصدك هو الصلح، وليس تبرئة نفسك وإظهار خطأ الطرف الآخر. ولا تستخدم في عتابك عبارات قاسية أو اتهامات. هناك عنف آخر في طريقة التربية في محيط الأسرة إذ انه بفهم خاطئ، قد يظن الأب انه يكون حازما في تربية أولاده، وذلك بالتضييق عليهم في كل شيء في دخولهم وخروجهم ومعاملاتهم.. وتتعب ابنته مثلا من هذه القسوة، وتهرب من البيت، لتلقي بنفسها في أي صدر حنون يعوضها بشفقته عن قسوة أبيها. وهكذا يحصد الأب نتيجة عنفه..! أو قد يحاول أحد والديها أن يرغمها علي الزواج من قريب لها لا تحبه. فتهرب من إتمام هذا الزواج الذي يراد إتمامه عنفًا، أو قد تقبل مرغمة وتحيا تعيسة تندب حظها وقد يحدث عنف آخر في محيط التربية بين أستاذ قاس وتلاميذه، فيكرهونه ويكرهون علمه بسبب معاملته القاسية.وقد يكون عنف الزوج في معاملة زوجته، سببًا في أن تطلب الطلاق أو الخلع، هاربة من هذا الزواج الذي لم تعد تطيقه. أو قد ينتهي الأمر بجريمة للتخلص من الزوج، مثلما طلعت علينا الأخبار في بعض الجرائد. حقًا، إن العنف كثيرًا ما يولد عنفا مضادا في الجانب الآخر. علي أن العنف قد يوجد كذلك في محيط الإدارة والوظائف. مثال ذلك مدير يعاقب أحد الموظفين بطرده أو فصله فصلا تعسفيا، غير مبال بمصير هذا الموظف بعد فصله، وبخاصة إن لم يكن له مورد رزق آخر..! إن الفصل من الوظيفة هو أعنف عقوبة بالنسبة إلي موظف.. وهناك عقوبات كثيرة أخري يمكن أن يلجأ إليها رئيس العمل، دون أن يلجأ إلي قطع رزق إنسان تحت إدارته والطرد من العمل يولد إحساسًا عنيفا بالظلم. وربما لا يقدر هذا المطرود أو المفصول أن يقف ضد رئيسه في المحاكم! ونفس الإحساس بالظلم يشعر به من يرفض المسئولون تعيينه أو ترقيته، علي الرغم من أن كفاءته تؤهله لذلك. ولكنه العنف! وقد يتطور الأمر بهذا المظلوم إلي اليأس، ويجره اليأس إلي أخطاء أخري.. واليأس شعور طاغ عنيف ونتائجه عنيفة والعنف يظهر كذلك في بعض الثورات الدموية العنيفة وقد حكي لنا التاريخ أمثلة منها، وما تبعتها من محاكمات ومن مقاصل وإعدام. ولعل ما فعله روبسبير Robespierre بعد الثورة الفرنسية The French Revolution مثل لذلك.. وكذلك ما فعلته الثورة الشيوعية حينما قامت في روسيا وأحيانا لا يكون عنف الثورات فيما تسفكه من دماء، إنما قد يكون أيضا في قوانين عنيفة، يقصد بها حماية الثورة وتثبيتها والعنف كما يوجد عند الأفراد، يوجد أيضا عند شعوب عنيفة، لا تعالج مصالحها إلا بالعنف. ويوجد أيضا عند أصحاب ما يسمونه بالطبع الناري. كما يوجد كذلك في أفلام العنف وتأثيرها ولا يفوتني في هذا المجال أن أذكر عنف العادات وسيطرتها، وعنف الإدمان وما يرغم عليه المدمنين من أخطاء كذلك عنف الفكر إذا سيطر. وأعنف الأفكار سيطرة هو فكر الإلحاد، لأن الشيطان بكل عنفه يدفع إليه. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 يوليو 2021

المسيحية والاستشهاد

إن قصة الاستشهاد هي قصة المسيحية كلها.. فالاستشهاد والمسيحية صديقين متلازمين لا يفترقان عن بعضهما فالاستشهاد هو قصة الكرازة بالإنجيل في كل العالم لأن الإيمان المسيحي كان ينتشر في كل مكان، وكانت جذوره تدب في أعماق البشرية.. فكان يمتد في المسكونة طولًا وعرضًا وعمقًا، وذلك بشهادة الدم أكثر من الوعظ والتعليم فنجد مُعلِّمينا الكبار بطرس وبولس كليهما استشهد من أجل انتشار الإيمان: الأول مصلوبًا منكس الرأس، والآخر بحد السيف، ونالا إكليل الشهادة من أجل تمسكهم بالسيد المسيح وهذا هو الفكر السامي في الكرازة والتبشير في المسيحية.. أن المبشر والكارز هو الذي يستشهد من أجل الإيمان، وليس مَنْ لا يؤمن بالدين هو الذي تقطع رقبته فلم تعرف البشرية في كل عصورها شهداء مثل شهداء المسيحية.. من حيث شجاعتهم وإيمانهم ووداعتهم وشجاعتهم واحتمالهم وجدّهم وفرحهم بالاستشهاد.. فنجدهم يعانقون الموت في فرح وهدوء ووداعة عجيبة تزهل مَنْ يعذبونهم ومضطهديهم!! مما يجعلهم في آخر هذه المرحلة الأليمة يؤمنون بالسيد المسيح الذي يعبده النصارى، عندما يرون إيمانهم وجدّهم واحتمالهم للعذابات لآخر نَفَس!! فقد وجدنا "إريانوس" أشرس الولاة الذين قاموا بالتفنن في تعذيب المسيحيين، وكل مَنْ احتاروا في أمره أوصلوه إلى إريانوس القاسي القلب.. فتارة يعذبهم بالهنبازين، وتارة بالحرق، وتارة بتعليقهم على ساري المركب، وتارة أخرى بتمشيط أجسادهم ثم وضعهم في جير حي.. وتبارى في أنواع التعذيب. وأخيرًا نجد إريانوس هذا يؤمن بالسيد المسيح بل ينال إكليل الشهادة من أجل إيمانه!! يا ترى ما هو السبب في ذلك؟! وما الذي جعل الشهداء يحتملون هذا العذاب؟ لقد نظروا إلى العالم نظرة وقتية.. فهذا العالم الفاني لا يُقاس بالحياة الأبدية التي سوف يحيون فيها.. وذلك لأنهم عاشوا الإنجيل وتعاليم الآباء الرسل.. "لأنَّ خِفَّةَ ضيقَتِنا الوَقتيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فأكثَرَ ثِقَلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلَى الأشياءِ التي تُرَى، بل إلَى التي لا تُرَى. لأنَّ التي تُرَى وقتيَّةٌ، وأمّا التي لا تُرَى فأبديَّةٌ" (2كو4: 17-18). وقد عاشوا حياة الغربة على الأرض، وشعروا أنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.. فالنزيل أو الغريب لا يمكنه أن يمتلك شيئًا إلاَّ في وطنه وفي أرضه.. "أيُّها الأحِبّاءُ، أطلُبُ إلَيكُمْ كغُرَباءَ ونُزَلاءَ، أنْ تمتَنِعوا عن الشَّهَواتِ الجَسَديَّةِ التي تُحارِبُ النَّفسَ" (1بط2: 11) إن حياتنا على الأرض مهما طالت فلا بد أن نرجع إلى وطننا السماوي مستقرنا الأخير بيتنا الأصلي، وإلى ميراثنا المحفوظ لنا في السموات.. وهذا ما أكّده لنا مُعلِّمنا بولس عندما قال: "في الإيمانِ ماتَ هؤُلاءِ أجمَعونَ، وهُم لم يَنالوا المَواعيدَ، بل مِنْ بَعيدٍ نَظَروها وصَدَّقوها وحَيَّوْها، وأقَرّوا بأنَّهُمْ غُرَباءُ ونُزَلاءُ علَى الأرضِ" (عب11: 13) وقد شعروا أن هذا العالم قد وُضع في الشرير، وأن الحياة فيه كلها حزن وألم وضيق.. ولكن هذا الضيق والألم سرعان ما سوف يتحول إلى فرح، عندما نصل إلى السماء.. وهذا ما قاله السيد المسيح له المجد: "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ. أنتُمْ ستَحزَنونَ، ولكن حُزنَكُمْ يتحَوَّلُ إلَى فرَحٍ" (يو16: 20).ولمعرفتهم أيضًا أن نهاية ضيقات وأحزان وآلام هذا العالم الذي نعيش فيه سوف تؤول إلى مجد عظيم في السماء.. ولذلك صبروا واحتملوا الآلام مُفضلين الضيقات الأرضية التي تؤهلهم إلى المجد السماوي الذي لا يوصف.. عاملين بما ذكره مُعلِّمنا بولس الرسول: "صادِقَةٌ هي الكلِمَةُ: أنَّهُ إنْ كُنّا قد مُتنا معهُ فسَنَحيا أيضًا معهُ. إنْ كُنّا نَصبِرُ فسَنَملِكُ أيضًا معهُ" (2تي2: 11-12). "فإني أحسِبُ أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رو8: 18) ولذلك زهدوا كل شيء في أيديهم وفي العالم، عائشين حياة التجرد والاختلاء من كل ممتلكات العالم، سائرين على خُطى بولس الرسول الذي قال: "لأنَّنا لم نَدخُلِ العالَمَ بشَيءٍ، وواضِحٌ أنَّنا لا نَقدِرُ أنْ نَخرُجَ مِنهُ بشَيءٍ. فإنْ كانَ لنا قوتٌ وكِسوَةٌ، فلنَكتَفِ بهِما" (1تي6: 7-8).. وذلك لأن مُعلِّمنا بولس اعتبر أن الغنى هو غنى الروح وليس الجسد.. (أي الغنى الروحي وليس الجسدي) لذلك اشتهوا أن ينطلقوا من الجسد لكي يكونوا مع المسيح.. "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في1: 23). وما شجعهم على هذا هو قول السيد المسيح: " في بَيتِ أبي مَنازِلُ كثيرَةٌ، وإلاَّ فإني كُنتُ قد قُلتُ لكُمْ. أنا أمضي لأُعِدَّ لكُمْ مَكانًا، وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا" (يو14: 2-3).من أجل هذا اشتهى آباءنا القديسين الاستشهاد.. لأنه هو الذي يُؤهلهم لهذا اللقاء مع عريسهم السمائي،وقد فعلوا كل ذلك من محبتهم العجيبة للسيد المسيح، مُفضلين الحياة معه عن سواه، واضعين أمام أعينهم الآية القائلة: "مَنْ أحَبَّ أبًا أو أُمًّا أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني، ومَنْ أحَبَّ ابنًا أو ابنَةً أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني" (مت10: 37).. فكانت حياتهم في الجسد وليست للجسد، وحياتهم في العالم وليست للعالم.. عاشوا في العالم دون أن يعيش العالم في داخلهم وفي قلبهم.. لذلك أحبوا الموت أفضل من الحياة في الخطية.. سفكوا دمائهم من أجل محبتهم في الملك المسيح الذي بذل نفسه على عود الصليب من أجلهم. فيا إلهنا الصالح.. الذي أعنت آباءنا الشهداء على احتمال الآلام والعذابات من أجل تمسكهم باسمك المبارك أعنَّا نحن أيضًا لكي نستطيع أن نشهد لاسمك القدوس المبارك ونقدم للكل مَثلًا حيًا للإنسان الذي يشهد للمسيح في كل مكان ليروا أعمالنا الصالحة فيمجدوك أنت الذي لك كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل