المقالات

15 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس إمرأة لوط

«ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح» مقدمة لست أظن أن هناك نصبًا تذكاريًا أعجب أو أغرب أو أصدق أو أقدم من جثمان امرأة انتصب في الطريق وتجمد على هيئة عمود ملح، وكانت المرأة كما نعلم امرأة لوط منذ قرابة أربعة آلاف عام ما بين سدوم وعمورة وصوغر على مشارف البحر الميت في فلسطين!! والنصب التذكارية تهز في العادة وجدان الإنسان، وتثير فيه أعمق المشاعر، وأصدق الأحاسيس وأقوى الانفعالات، وهل يمكن أن يقف الإنسان مثلاً من نصب الثلاثمائة اسبرطي الذين سقطوا في معركة ترمبولي ويقرأ المكتوب: أيها المسافرون أذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعًا لقوانينها المقدسة، دون أن يحيي بإعجاب الجنود الأبطال الذين وقفوا في وجه الغزاة على هذا النحو المثير الرهيب! وهل يمكن أن نرى مئات أو آلاف النصب الموزعة هنا وهناك في أرجاء الأرض على مر التاريخ، وهيو تحكي ما لا ينتهي من قصص المغامرات والبطولات والمآسي والأمجاد بين بني البشر دون أن تتعلم وتتحكم وتتعظ! على أنه وإن كانت بعض صور المسخ أو الغفلة أو التزييف أو ما أشبه تلحق بالكثير من هذه النصب فتكون أشبه بما تخيله الكاتب الساخر المعروف برنارد شو، عندما صور انجلترا، وقد اختارت جثة واحد من المشوهين تمامًا في الحرب ودفنته في تكريم لائق في قبر الجندي المجهول وشادت له النصب الخاص بذلك، ولدهشة الانجليز وجدوه يتكلم اللغة الألمانية، اذا كان واحداً من الجنود الألمان الذين سقطوا قتلى بين الإنجليز،... إلا أننا في قصة اليوم سنسمع الشهادة الحقة، من يسوع المسيح نفسه عندما قال: اذكروا امرأة لوط!!... ومن الغريب أن الانسان لا يحتاج للذهاب إلى البحر الميت ليرى هذا النصب التذكاري العجيب، اذا أنه ينتصب في العادة في كل مكان وزمان، في صورة أي إنسان تأتيه الظروف الطيبة في باديء الأمر، فيتعلق بها، ويسير معها ولكنه لا يلبث أن يتحول عنها منجذبًا وراء باطل هنا أو غرور هناك، وقد أحب المسيح الشاب الغني الذي سار أول الأمر على أروع ما يكون المثال، إلا أنه ودعه آخر الأمر بالنظرة الباكية الحزينة لأنه كان ذا أموال كثيرة وقفت كالعثرة الكأداء في مجده الأبدي!!...، وعاشت امرأة لوط لتكون الصورة عينها، لمن بدأ حسنًا ولم تقطع الشوط كله، فصارت عبرة، تروي، وستروي حتى تنتهي الأرض وما عليها، عندما يأتي المسيح في مجيئة الثاني العظيم العتيد!!.. وها نحن نتابع قصتها فيما يلي: المرأة والبداءات الحسنة لا يذكر الكتاب المقدس شيئًا عن حياة هذه المرأة قبل أن تتزوج لوطا، لكن الرأي الراجح أنها لم تكن من أهل سدوم وعمورة، وأنها جاءت مع لوط من أور الكلدانيين لأن لوطا قضى في سدوم وعمورة ما يقرب من عشرين عامًا، وهذه المدة لا يمكن أن تكون كافية ليتزوج فيها وينجب، ويصاهر، ويبقى معه في بيته أصغر ابنتين غير متزوجتين، وتصلحان للحياة الزوجية، اذن فهذه المرأة جاءت مع إبراهيم وسارة ولوط، فهي أحد أعضاء القافلة العظيمة المقدسة التي خرجت من أور الكلدانيين، تنشد غاية من أعظم الغايات التي وضعت أمام الإنسان في الأرض، ولم يكن خروج إبراهيم من أور الكلدانيين بدافع الظن أو الوهم أو الخيال، بل على العكس كان مدفوعًا برؤيا حقيقية مجيدة أو كما يقول استفانوس: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فيما بين النهرين».. وما من شك بأن هذه الرؤيا، لم تسيطر على إبراهيم وحده، بل استولت على الذين كانوا معه، ومن بينهم امرأة لوط، فالمرأة بهذا المعنى، كانت تنتسب إلى عائلة، لا شبهة في أنه لم يكن هناك على ظهر الأرض في ذلك الوقت من هو أسمى منها وأعظم وأقدس، فاذا تصورناها نهرا مثل هذا المنبع الصافي الرقراق، كان لنا أن نتصور المجرى يندفع في جلال وفخامة وعظمة، قل أن يكون لها نظير ومثيل، ومن المتصور جدًا أن المرأة استمعت مع لوط زوجها إلى الكثير من التعاليم من أبينا إبراهيم، بل ومن المتصور أيضًا أنها أخذت الكثير من مباديء سارة في تقديم المحرقات وعواطفها، هذا إلى جانب شركتها، كواحدة من العائلة في تقديم المحرقات والذبائح التي كان يقدمها ابراهيم على المذبح أمام الله، كانت المرأة أذن ذات بداءات واضحة في الرؤيا والإيمان والتعليم والعبادة والخدمة والحق. المرأة والتجارب الزاحفة على أنه إلى جانب هذه كلها، كانت هناك سلسلة من التجارب تزحف على قلب المرأة، وتأخذ سبيلها إلى هناك، لتسكن وتبقى وتتأصل وتتزعزع، ولعل أول هذه التجارب، تجربة الحسد، اذ ترى إبراهيم ينمو في كل شيء، ويتضاءل لوط إلى جانبه، ولا يكاد يظهر أو يبين فثروة إبراهيم، ومركزه، ومجده، وعظمته لا تكاد في تصورها، تعطي لابن أخيه شيئًا من هذا القبيل، ومهما أخذ لوط فانه يقع على الدوام في الظل، أو الظلام، مما لا تستطيع تقبله أو تصوره على الإطلاق، وويل للإنسان اذا بدأ قصته بالحسد، اذ تختل فيه كل الموازين ويخشى أنه لا يستطيع أن يحكم على شيء واحد حكماً صادقًا سليمًا، فاذا قيل لها إن إبراهيم، هو الأب، وهو الأصل، وهو الذي جاء بلوط، ولم يأت لوط به، وانه صاحب الفضل على لوط في كل شيء! فانها ترفض هذا المنطق، ولا تعترف بأصل أو فضل، بل لعلها ترى العكس، على اعتبار أن إبراهيم شيخ مسن، وأن لوط هو الأصغر، وأن أمامه الحياة والدنيا والمستقبل، وهو الأجدر بأن يأخذ كل شيء دون منازع، والحسد اذا بدأ في النفس، لا يبقي هناك وحده بل يجر وراءه كثيرًا من الرذائل والمفاسد! وقد جر إلى نفس هذه المرأة وزوجها رذيلة الطمع التي أوجدت المخاصمة بين رعاة مواشي إبراهيم ورعاة مواشي لوط، ولم تكن عين لوط وحدها هي التي رأت كل دائرة الأردن أن جميعها سقي كجنة الرب كأرض مصر، بل لعل لوطا أطل على الأرض، من خلال عيني زوجته أو على الأقل وجد منها كل تشجيع ومساعدة لنقل خيامهما إلى سدوم، بهدف الوصول إلى الثروة التي ان لم تكن أعظم من ثروة إبراهيم، فلا يمكن أن تكون أقل بحال من الأحوال، وقد صدق الكتاب عندما ربط بين الطمع وعبادة الأوثان في قول الرسول بولس: «الطمع الذي هو عبادة الأوثان» وقد كان من الصعب أو المستحيل على هذه المرأة أن تعبد الله، عبادة قوية صادقة خالصة، وتعبد في الوقت نفسه المال، أو تخدم السيدين معًا، وهي في الواقع واحدة من ذلك الصف الطويل في ركب البشرية الذي تم فيه القول: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!»... ويوم أكثرت قطعانها السارحة في أرض سدوم، قلت رؤياها لله، أو كانت هذه القطعان بمثابة الغيمة الكبيرة في سماء الشركة بينها وبين الله، والطامعون في العادة لا يقفون عند حد ولا يقبلون أن يكون المال هو الشيء الوحيد، فقد كانت المرأة تطمع في شيء آخر، المجد والشهرة والمركز العالمي، وهي لهذا لا تقبل أن تقف على أبواب سدوم، بل لابد أن تدخل داخل أسوارها، وهي لا تقف في الطرف من سدوم، بل لابد أن يكون بيتها في أفضل مكان هناك، وقد تم للمرأة ما طلبت اذ ظلت وراء زوجها تدفعه خطوة فخطوة، حتى أصبح يجلس في باب سدوم، وهذا لا يمكن أن يفعله أحد الا اذا كان عمدة سدوم أو حاكمها كما يعتقد الكثيرون من الشراح، تفسيرًا للقول الذي ذكره أهلها عنه: «جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكمًا» كانت المرأة تطرب غاية الطرب، لمن يناديها بزوجة العمدة أو زوجة الحاكم في سدوم، وعلى استعداد أن تدفع الثمن الذي يدفعه الباحثون عن الشهرة والمجد العالمي، ألا ويل للإنسان من هذه الضربة القاسية التي يدفعها من حق وحياة وكرامة وسلام على قرعات كاذبة من الطبل الأجوف بين الناس، ويوم فعل الحسد والطمع والبحث عن الثروة والشهرة عمله في قلب امرأة لوط، لم تعد تفكر في مبدأ، أو تهتز لخطأ، أو تفزع لرذيلة، فلا بأس على بناتها أن يتزوجن أشر الناس ولا بأس على زوجها أن يغلب من سيرة الأردياء، ويعذب نفسه كل يوم بأعمالهم الآثمة، ولا بأس عليها أن تأكل وتشرب وتعيش في مثل هذا المجتمع، ولا يمكن أن ترجع قط إلى خيام إبراهيم على مقربة منها، وما لها وهذه الخيام البدوية، وهي تعيش حياة أكثر رفاهية، وكيف تقبل الخيمة، وقد ألفت البيت المريح، وكيف تسكن إلى حياة البادية، وقد عرفت أبهاء القصور وعظمتها،... أليس هذا ما يفعله ملايين الناس، الذين يقيسون الحياة بمقاييس مادية بحتة، ويذهبون إلى سدوم، مادام يمكن أن يملكوا بيتًا عصريًا وسيارة ورصيدًا في بنك، ويأخذوا بكل وسائل الترف والترفية، التي تخطر على بال إنسان، أما الأخلاق أو المباديء أو المثل، فلا شأن لهم بها، اذ كانت لا تملك أن تعطيهم لقمة دسمة، وفراشًا ناعمًا، وحياة وثيرة، وعيشًا هنيئًا كما يحلمون، ويحلم إنسان العالم على الدوام على هذه الأرض!!. وهل رأيت بعد هذا كله كيف زحف الحسد، والطمع، وحب الشهرة، والمركز، وحياة الترف إلى قلب هذه المرأة، التي لم تدخل إلى سدوم لتسكن فيها فحسب، بل دخلت سدوم بأكملها في قلبها، وأصبحت هي وسدوم شيئًا واحداً في الطبيعة والمصير!! المرأة والخسارة الفادحة وما أكثر ما توالت على المرأة وزوجها وبيتها من خسائر فادحة في مدينة سدوم، ولعل أولى هذه الخسائر كانت الراحة المفقودة، لقد أخذت كل شيء، ولكنها مع ذلك لم تأخذ الراحة، ألم يقل الرسول بطرس عن لوط: «مغلوبًا من سيرة الأردياء، في الدعارة اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة».. أو في لغة أخرى أن لوطا لم يعرف الراحة قط في يوم من الأيام في المدينة الشريرة التي انتقل إليها، وهو يظن أنه سيسعد ويستريح، وكيف يمكن أن يسعد من يستبدل أحلى الترانيم بأشر الأغاني، ولغة البركة بأقسى اللعنات، وصلاة الحمد بأنين التذمر!... أن سدوم وعمورة ومدن الدائرة، لم تكن تعرف في يوم من الأيام إلا الصراخ والآنين والألم والتعاسة والشقاء، في قلب ما تتصور أنه الضحك والترنم والبهجة، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، ولذا لا عجب أن يقول الله لإبراهيم «إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا....» إن سلم الراحة على الدوام له ثلاث درجات متصاعدة، الدرجة الأولى، درجة الماديات، حيث يأخذ الإنسان حظه المادي في الأرض، وأعلى منها الدرجة الأدبية، حيث يرتفع الإنسان فوق المادة إلى عالم الأدبيات والمعنويات من كرامة وعزة واعتبار وفضيلة وشرف وما أشبه، والدرجة الأعلى والأسمى، الدرجة الروحية، حيث يسير في شركة أسمى وأعلى من كل ما تقدم الأرض، وحيث يأخذ أجنحة النسور، ليعلو على كل أجواء الدنيا الخانقة القاتلة، ويوم يفقد الإنسان ما هو أعلى من درجات، لن تسعفه الدرجة الدنيا بالراحة، مهما أخذ فيها واتسع وملك! كما أن امرأة لوط خسرت شيئاً آخر، إذ خسرت عظة الملائكة، ويبدو أن الله أرسل لها هذه العظة، بعد إن فقدت عظات زوجها كل أثر في حياتها، اذ يبدو أنها كانت تنظر إلى كلماته ونصائحه، كما نظر أصهاره إلى ما قال، وكان كمازح في أعينهم، وشاء الله أن يرسل لها ملاكين يعظانها، عن الخراب الوشيك الرهيب الذي سيقع على المدينة، ولكن تأثير العظة كان وقتيًا وإلى لحظات، فما أسرع ما فقدت الرسالة تأثيرها، وما فعله الملاكان عند بابها بضرب السدوميين بالعمى، وهي مثل كثيرين الذين يمكن أن يقال لهم عند ما تخلو حياتهم من زيت النعمة: لو أننا نتكلم بألسنة الناس والملائكة، فما أنتم بسامعين أو منصتين لأن حياتكم منزعة بالماديات، وآذانكم مشغولة، عن سماع رسالة الحياة، بضجيج هذا العالم وصراخه!! وجاء في أثر هذا ايضًا، خسارة أولادها الذين بقوا في سدوم، وبناتها وأصهارها، والعار الذي لحق بالخارجتين من المدينة أيضًا، وهي خسارة أقسى وأشر، من كل خسارة مادية، وقد يستطيع الإنسان أن يعوض في المدى البعيد أو القريب كل خسارة مادية، ولكنه يعجز أبدًا عن تعويض خسارة الأرواح الضائعة في الحياة الحاضرة أو العتيدة أيضًا، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه، أو ماذا يعطي فداء عن نفسه! على أنه من المثير حقًا، أن المرأة فقدت إلى جانب هذا كله ما سعت وشقت وتعبت في الحصول عليه، إذ فقدت الثروة بأكملها، والشهرة بأكملها، والنفوذ بأكملها، لقد تحول كل شيء أطلالا وأنقاضًا، سعى إليها اليوم والغربان وبنات وآوي، ومن المؤكد أنها لم تجد شيئًا الا الدمار والخراب، وآخر الكل فقدت المرأة نفسها، وسواء كان هذا بسبب الشك الذي ربما تسرب إليها، آذ قطعت شوطًا طويلاً بعيداً عن المدينة، دون أن يحدث هذا الانقلاب الذي حدث عن شروق الشمس في الصباح، أو لأنها أمتلأت بالحزن والحنان والأسى، على ما تركته هناك في المدينة من أحياء وأموال، أو لأنها لم تستطع أن تدرك للحياة معنى بعد أن فقدت كل شيء، سواء كان الشك أو الحنان أو اليأس، أو جميعها مجتمعة معًا، فان المرأة لم تنتفع على الإطلاق بما سارته من شوط طال أو قصر في طريق الخلاص، وتساوت مع أهل سدوم، رغم البداءات الحسنة في سيرها، من أور الكلدانيين، وفي صحبة إبراهيم وفي خروجها مع زوجها، وبنتيها والملاكين، فيما يشبه الركض على الطريق! وكل هذا لأنها نسيت ما ينبغي أن يعلمه الكل من أن الشوط ينتهي بصوغر، وأن المتخلف الذي يتراجع في الدقائق الأخيرة عن الوصول إلى صوغر، ستلحقه الكارثة والضياع والخراب، ولا فرق بين الاثنين، ما دام كلاهما لم يخرج بعد من دائرة الأرض التي دمرتها الخطية وقلبها الله! هل لنا بعد ذلك كله، أن نذكر أن المرأة، وقد أفزعت ولاشك زوجها وبنتيها، وهي تتحول فيما يشبه الصاعقة أمام عيونهم، إلى عمود ملح، يرنو بعينين فقدتا النور والضياء، إلِى مدينة سدوم، هل لنا أن نذكر، بأنها قد جعلت بهذا المعنى عبرة لجميع الأجيال، كما أضحت سدوم وعمورة سواء بسواء، وأنها ستبقى هكذا حتى يأتي المسيح حسب قوله الصادق الأمين المبارك «هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط...»!.
المزيد
14 أبريل 2021

الحرية أهميتها، أنواعها، ضوابطها

لقد خلق الله الإنسان حرًا. وبالحرية ميزه عن مخلوقات أخري كثيرة. وقد تغني الناس بالحرية. فقال أحد أدباء الغرب: 'لو انك فقدت كل شيء، ما عدا الحرية، فأنت لا تزال غنيًا'. وتجاه الحرية، يقف ذلك السؤال الشهير:'هل الإنسان مسير أم مخير؟' وواضح أن الإنسان مخير في كل ما يفعله. ولكي لا ينحرف بحريته فيخطئ، زوده الله بالعقل الذي ينير أمامه الطريق، وأيضًا بالضمير لكي يميز بين الخير والشر. كما زوده كذلك بالوصية الإلهية لكي يلتزم بها في كل تصرفات حياته.والدليل علي حرية الإنسان، إن الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه، وان لم يكن حرا، فكيف يلتزم بوصايا الله؟! وما لزوم أمور عديدة ينهاه الله عنها، إن لم تكن له حرية إرادة؟ وإلا انطبق عليه قول الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء كذلك فإن ارتكاب الخطيئة دليل علي أن الإنسان مخير.. لأن الله لا يسير أحدا في طريق خاطئ.. إنما المخطئ يرتكب الخطأ عن طريق اختياره له وأيضًا أن لم تكن هناك حرية، فلا حساب إذن ولا دينونة في الآخرة ولا ثواب ولا عقاب. الإنسان إذن مخير لا مسير.. فهل هو مخير في كل شيء؟ طبعا لم يكن أي شخص مخيرًا من جهة البلد الذي ولد فيه، ولا من جهة الجنس الذي ينتمي إليه. ولم يكن مخيرًا في نوع شكله وملامحه، وفي فصيلة دمه، وفي كثير من المواهب التي أعطيت له، أو التي حرم منها.. لم يكن مخيرا في نشأته، ولا في اختيار أسرته، ولا فيما ورثه عن تلك الأسرة من دم ومن عقل، وأمور اجتماعية ولكنه علي الرغم من كل هذا هو مخير في تصرفاته، ومخير في أن يصلح بقدر الإمكان من مستوي نشأته، كما في تغيير مستواه في أمور عديدة. هنا ونسأل: هل الإنسان حر في أحلامه؟ وللإجابة علي هذا السؤال، نقول أن هناك أنواعًا من الأحلام فقد توجد أحلام عبارة عن إعلان من الله، مثل الأحلام التي فسرها يوسف الصديق لفرعون. وهناك أحلام أخرى عبارة عن حروب من الشياطين. وهذان النوعان لا إرادة للإنسان فيهما ولا حرية، وبالتالي لا مسئولية. غير أن هناك أحلامًا ناتجة عما يخزنه كل شخص في عقله الباطن من شهوات أو رغبات أو أفكار أو مخاوف.. وما تجمعه الحواس من نظر وسمع.. وهذه قد تظهر له بصورة أحلام. ويبدو أنه لا حرية للإنسان فيها. ولكنها ناتجة عن حرية سابقة، فيما خزنه لنفسه.. وهي لا تدخل في نطاق الأمور الإرادية، إنما في شبه الإرادية أو نصف الإرادية. وعليه مسئولية تجاهها، علي الأقل من جهة الأسباب التي أوصلتها إليه.ولهذا، فإن كان الإنسان أمينا علي نفسه وروحياته أثناء الصحو، ستكون أحلامه أمينة له أثناء نومه. ضوابط الحرية وحدودها: إن الإنسان فيما هو مخير فيما يفعل، لكنه ليس مخيرا بطريقة مطلقة، إنما تحد من حريته أمور مهمة تنطبق علي الكل.فله أن يستخدم حريته، بحيث لا يعتدي علي حريات الآخرين وحقوقهم، فلا تستخدم الحرية في إهانة الغير، ولا في السب والقذف، ولا أن تبني راحته علي تعب الآخرين. وليس هو حرًا في استخدام العنف ضد غيره.وهو أيضا حر في حدود الالتزام بالنظام العام، والالتزام بالآداب العامة، وبقوانين البلد الذي يعيش. مثال ذلك فإنه في أكثر البلاد تمسكًا بالحرية، لا يستطيع أحد أن يكسر قواعد المرور وإشاراته، ويقول: أنا حر أفعل ما أشاء! هو أيضا حر في حدود وصايا الله، فلا يعصاها ويسلك حسب هواه. وهكذا فإن المؤمنين بالحرية، ينادون بالحرية المنضبطة، وليس بالحرية المطلقة.ولهذا، فإن الذي يتجاوز حدود حريته، ولا يلتزم بالوضع السليم، فإن القانون يلزمه بذلك، والعقوبة تردعه.. بل أن حرية الإنسان ينبغي ضبطها منذ الصغر. وهنا يبرز لزوم التربية والتعليم. ويقوم واجب الأسرة في ضبط حرية الطفل، بحكمة، حتى لا ينحرف. ثم واجب المدرسة أيضا في تعليم الطلبة قواعد الحرية وحدودها وضوابطها. كذلك ليس الإنسان حرًا في إيذاء نفسه: فلا يقع الإنسان في إدمان الخمر أو المخدرات أو التدخين، ويتلف صحته وإرادته، ويضيع ماله فيما يضره. ويقول أنا حر!.. كلا، ليس هو حرا فيما يجلب له الأذى. فصحته وديعة في يديه، لا يملكها وحده، بل يملكها أيضا المجتمع الذي رباه ورعاه، والذي هو مكلف بخدمته وأداء واجبه نحوه.. كذلك ليس الإنسان حرًا في أن يقتل نفسه، أي ينتحر بطريقة ما. فحياته ليست ملكا له وحده. كما انه ليس حرا في كسر وصية الله القائلة 'لا تقتل'. والتي تنطبق أيضا عليه من جهة نفسه كما من جهة غيره. أنواع الحرية: في نطاق الحرية المنضبطة، توجد أنواع من الحرية، منها الحرية الشخصية، حرية الإرادة، وحرية الفكر، وحرية إبداء الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية العقيدة، والحرية السياسية. فالإنسان من حقه أن يفكر بحرية كما يشاء. ولكن بضوابط: فليس من حريته أن يسرح في أفكار ظالمة، أو في أفكار نجسة، وان كانت قوانين الدولة لا تردعه من جهة هذا الفكر، فإن الضمير يوبخه، ويأمره أن يضبط فكره حتى لا يدنس نفسه.. ثم هل في حريته أن يعتنق فكرا هداما؟! وان اختار بحريته هذا الفكر، فليس من حقه أن ينشره. وإلا فإنه يؤذي المجتمع الذي يعيش فيه. وهنا من حق الدولة أن تضبط الأفكار الهدامة التي تبلبل أذهان الناس وتقود تصرفاتهم في اتجاه ضار.الإنسان له حرية العقيدة، من جهة الدين والتدين، وما يتبع ذلك من حرية العبادة.وقد تمادي البعض في هذه الحرية، حتى وصلوا في بعض البلاد إلي الإلحاد. كما وصلوا إلى كثير من الانحرافات العقيدية وإلي تشويش أذهان الآخرين، ونشر الشكوك في الثوابت من الأمور الإيمانية. وتجرأ بعضهم في بلاد الغرب إلي مطالبتهم بعدم تدريس الدين، لأنه لا يوافق معتقداتهم. كذلك وصل بهم الأمر إلي الشذوذ الجنسي والمطالبة باعتماد قانون من الدولة. وبعض الدول سمحت لهم بهذا كما في كندا. كما ضغطوا علي بعض الهيئات الدينية لاعتماد الشذوذ. وطالبوا لأنفسهم بحقوق كشواذ أما عن الحرية السياسية فللإنسان الحق في اختيار النهج السياسي الذي يوافقه، والحزب السياسي الذي يستريح لمبادئه.كما أن له حق الانتخاب وحق الترشيح في حدود القانون. ولكن الحرية السياسية ينبغي أن تكون منضبطة أيضًا. فلا ينضم أحد إلي نهج سياسي مدمر، ولا ينضم إلي حزب متمرد علي النظام، يثير الشقاق ويدعو إلي التخريب وإلي محاولة قلب نظام الحكم.وفي نطاق الحرية السياسية، تدخل حرية الصحافة وحرية النشر والمفروض في هذه الحرية أن تكون منضبطة أيضًا، بحيث لا تكون أداة تشهير بالناس، وسب البعض وقذفهم بحجة حرية الرأي. ولا يجوز للصحافة أن تخرج من الناحية الموضوعية إلي النواحي الشخصية، التي تمس أعراض الناس وسمعتهم وأمورهم الشخصية إن الحرية سلاح ذو حدين، فهي نافعة ولازمة أن سارت في طريق سليم. وإلا إذا انحرفت فإنها تضر الإنسان ومن حوله. الحرية الحقيقية: ختاما ما هي الحرية الحقيقية؟ ذلك لأن هناك بعض الناس يسمون أنفسهم أي متحررين، وهم يسيرون حسب هواهم في طريق خاطئ، يتحررون فيه من القيم والثوابت..! أما الحرية الحقيقية، فهي أن يتحرر الإنسان من كل فكر خاطئ، ومن كل طبع رديء، ومن كل شهوة منحرفة، ومن كل خطيئة مثل هذا الإنسان إذا منح الحرية فإنه سيسلك فيها بأسلوب سليم نافع له ولغيره لذلك علي طالب الحرية، أن يتحرر أولا من الداخل.. وبهذا يمكنه أن يستخدم الحرية للخير. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 أبريل 2021

قوة الإرادة

تقوية الإرادة من الفوائد المهمة التي يساعدنا الصوم على اقتناءها، والتي تُسْتَفَاد من الصوم.. والصوم من أهم التدريبات التي نأخذها في حياتنا لِتَقوية الإرادة.. فبعض الأشخاص تكون نِيَّتهم حسنة ويريدون أن يفعلوا أفعالًا جيدة، ولكن لضعف إرادتهم لا يستطيعون اتخاذ القرار. وقد يكونون أشخاصًا مُعتدلين وذو وقار وهيبة، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار لصالِحهم أو لصالِح الآخرين.. فهذا عيب في الشخصية، وهو ضعف الإرادة. ولذلك عَلَّمتنا الكنيسة أن الصوم تدريب روحي لِتَقوية الإرادة، فالأمس كنا نأكل ونشرب كل ما نشتهي ولا نمنع أنفسنا عن شيء، ولكن بحلول الصوم واندماجنا فيه نستطيع أن نقول للفم: "سوف لا تَذُق هذا الطعام فترة من الزمن". وأُخاطِب حاسة الشَّم التي تَشِم وتَشْتَهي المأكولات المُحَبَّبة قائِلًا: "سوف لا أعطيكي ما تشتهينه". وسوف أَتَحَكَّم في نظري الذي يَتَلَهَّف على رؤية المأكولات والمشروبات الشهية وأقول لعيناي: "سوف لا أعطيكي ما تَشْتَهينَهُ". فدائِمًا الشهوة تَلِد خطية: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (رسالة يعقوب 1: 15).وهنا تبدأ إرادة الإنسان أن تَتَقَوَّى رويدًا رويدًا حتى يصل الإنسان إلى أن يصبح صاحِب قرار قوي دون تَرَدُّد، يستطيع أن يُفَكِّر ويَتَغَلَّب على الصِّعاب ويتخطَّى كل المعوقات، بِحُسن تفكيره واتخاذه القرار المُناسِب في الوقت المناسب. ولا نَحِد الكلام هنا عن ملاذ الجسد من مأكولات ومشروبات، فالمُحارَبات كثيرة، ولا تُحصى فتعالى بنا ننظر أيها الحبيب عن تجارب السيد المسيح المُعْلَنة على الجبل، وكيف تَصَدَّى لها بكل قوة، لِيُعَلِّمنا كيف نَقِف أمام حِيَل إبليس ومُحارَباتهُ المُتَعَدِّدة فِعندما يجوع الجسد يكون الفِكر مُنْشَغِل بكيف آكُل، ومتى، ونوعية الطعام، وغير ذلك من الأفكار الكثيرة.. فَمَع جوع الجسد يكون مُتَلَهِّفًا للغِذاء، وقد يَصِل الإنسان إلى عدم التمييز بين الأكل الضار أو المُفيد، فهو مُهْتَم بِسَدّ الجوع بشبع أيًّا كان هذا الأكل. وهنا تَبْرُز إرادة الإنسان: هل هي قوية أم ضعيفة؟ هل يُحْسِن الاختيار، أم يأكُل ما يَضُرّهُ أكثر من الجوع.. "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا" (إنجيل متى 4: 2) حسب طبيعته الناسوتية، ولكنه كان قوي الإرادة أمام حَرْب الشيطان عندما خاطَبهُ حسب طبيعتهُ اللاهوتية: "فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا»" (إنجيل متى 4: 3)، فكان رد السيد المسيح عليه بكل قوة لِيُعَلِّمنا أن ليس غِذاء الجسد هو الذي يُحيي الإنسان، ولكن كلمة الله الحية هي التي تُحيي الروح والجسد أيضًا: ".. لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (سفر التثنية 8: 3؛ إنجيل متى 4: 4؛ إنجيل لوقا 4: 4)،وهكذا انتصر على شهوة الجسد.وهكذا في التجربة الثانية التي وُجِّهَت إلى شهوة العيون والامتلاك والعَظَمة عندما أخذه ".. وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»" (إنجيل متى 4: 5-7). نجِدهُ بقوة إرادته انتصر على شهوة العيون.وفي التجربة الثالثة أخذه لِيُريه مجد العالَم: ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (إنجيل متى 4: 8-10). وهكذا انتصر السيد المسيح مُمَثِّلًا للبشرية كلها على تَعَظُّم المعيشة ومجد العالَم الفاني.إذًا، فلنأخُذ هذه التجارب وكيفية النُّصرة عليها مَثَلًا حيًّا لنا في حياتنا لنستطيع أن نُقَوِّي إرادتنا الضعيفة، ونقف أمام خَديعة الشيطان المُسْتَمِرًّة، ونقلع عن الخطية المُسَيطِرة علينا بقوة السيد المسيح الذي صام عنَّا ليعطينا مِثالًا لكي نَتبع خطواته. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
12 أبريل 2021

إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السادس من الصوم المقدس المزمـور: «1خَاصِـمْ يَـا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَـاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. 2أَمْسِـكْ مِجَنًّا وَتُـرْساً وَانْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي» (مز 35: 2،1). الإنجيل: «1وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عِنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2فَأْجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: ”أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ. 4أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ“» (لو 13: 1-5). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: لقد أعطى الرب يسوع، في إنجيل قدَّاس هذا الصباح، مَثَلَيْن للكوارث التي يُفَاجأ ب‍ها الناس: أولاً: الكوارث الاجتماعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: صِدَامٌ دموي بين الجليليين وجنود الرومان داخل الهيكل، حتى اختلط دم الذبائح بدم مُقدِّميها.ويتبعها كل الكوارث التي يتسبَّب فيها الإنسان نتيجة سوء تفاهُم أو تعدٍّ على حقوق، أو ابتزاز ونَهْب، أو كراهية فئوية أو جنسية أو عِرْقيَّة أو دينية أو استعمارية؛ وهي التي يقع تحتها المظاهرات وما ينشأ عنها، والحروب وما ينشأ عنها، والاضطهادات وما ينشأ عنها. ثانياً: الكوارث الطبيعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: سقوط بُرْج على الناس الذين فيه وموت‍هم.ويتبعها كل الكوارث التي تنشأ من الطبيعة، ولا دَخْل للإنسان فيها، كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفيضانات وكـل مـا ينشأ عنها، من اختفاء قارات ومُدن وبيوت وأبراج، وحرائق؛ وكذلك الأوبئة والأمراض والجفاف وتعدِّي الحيوانات. وجهة نظر المسيح فيها عموماً: لم يشأ المسيح أن يدخل في تفاصيل هذه الكوارث، ولكنه أعطى قانونه في أسباب‍ها وكيفية تلافيها: 1. فهو أولاً يرتفع بأسباب‍ها الظاهرة المحدودة، فلا ينسب سببها إلى خطيةٍ ما من جانب المنكوبين، وكأن‍هم أكثر خطية من الذين نَجَوْا أو الذين لم يلحقهم الأذى: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِـنْ كُـلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 2). كذلك الذين قتلهم البُرْج الساقط: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 4). 2. إنذار: الكوارث موجَّهة كإنذارٍ للذين نَجَوْا، وللباقين أيضاً. هذا واضحٌ من قول المسيح: «بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». أي إنَّ الكارثة عظة تُوجِّهنا للتوبة. هذا في أحكام الله وقوانينه التي تتحكَّم في مصائر الناس. إذن، فعليك إذا تواجَهْتَ مع كارثةٍ، فلا تبحث عن سببها ونتائجها؛ بل أول ما يجب أن يخطُر ببالك أن‍ها إنذارٌ، وهذه عظةٌ لك. فإنْ لم تَتُبْ، فسوف ت‍هلك كذلك. 3. ردُّ فعل: ولكن هناك في هذه العظة والإنذار ما يفيد تماماً أنَّ هذه الكارثة هي نتيجة خطية، وبقوله: ”إنَّ الذين ماتوا لم يكونوا أكثر خطيةً من الباقين“، يُوضِّح أنَّ سبب الكارثة هو خطية الذين ماتوا وخطية الذين نَجَوْا على السواء؛ بمعنى أنَّ الكارثة هي ردُّ فعل لخطية الجماعة كلها.إذن، الكارثة الصغرى التي حدثت هي إنذارٌ لكارثة أكبر قادمة. هذا قانونٌ إلهي سارٍ منذ البدء: فمعروفٌ أنَّ الطوفان كان ردَّ فعل مُباشر لازدياد خطايا البشر بصورةٍ تعدَّت حدودها المسموحة من الله، كأنَّ الله عنده حدودٌ لمستوى الخطية وكثرت‍ها؛ هذا بصورةٍ عامة. كذلك، وبصورةٍ محدودة، خاصة من حيث نوع الخطية. فإنَّ هذا حدث أيضاً في مدينة سدوم وعمورة، إذ تسبَّبت خطية مُضاجعة الذكور وحدها بحَرْق المدينة بأَسْرها. وهي التي نسمع عنها في هذه الأيام، والتي نتج عنها مرض ”الإيدز“. هنا وَضْع سوابق مُطبَّقة، فهي قوانين إلهية مُطبَّقة عن سوابق واضحة جداً ومُسجَّلة من حيث الكَمِّ ومن حيث النوع. 4. هلاكٌ مُعَدٌّ مربوطٌ بالتوبة أو عدمها: ولكن قول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو 13: 3)، إن‍ها نبـوءة واضحة، أنَّ هناك هلاكاً قادماً بسبب الخطية، ولكن مجيء هذا الهلاك القادم مشروطٌ: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا». أي إنَّ الهلاك ال‍مُعدَّ يمكن للتوبة أن ترفعه وتتجاوزه، كما حدث لأهل نينوى، فتوبتهم رَفَعَت عنهم الهلاك ال‍مُعدَّ لهم!! 5. هلاكٌ للجميع: ولكن في قوله: «جميعكم»، يُوضِّح المسيح أنَّ الهلاك القادم خطيرٌ بل ومُريعٌ؛ فهو سيشمل ”الجميع“. وهذا ما تمَّ بالفعل بعد كلام المسيح هذا بأربعين سنة تماماً، عندما اكتسح الرومان أورشليم وهدموها على مَنْ فيها، بأسوارها وأبراجها، حرقوا هيكلها، وذبحوا كل الكهنة الذين تجمَّعوا وان‍همكوا في تقديم الذبائح، واختلط دم الذبائح بدم مُقدِّمي الذبائح، وعلى نفس المذبح، وأُخلِيَت البلاد من جميع سُكَّان‍ها!! فتمَّت النبوَّة بالحرف الواحد.هنا الذي يضمن شدَّة تنفيذ القانون، هـو الرحمة مع القُدرة. فقُدرة الله لان‍هائية في السَّحْق وفي الرحمة معاً. والاثنان واقفان مقابل بعضهما البعض، والواحدة منهما قادرة على تعطيل الأخرى. 6. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أنَّ الكارثتين المذكورتين في هذا الإنجيل، واللتين جعلهما المسيح إنذاراً لِمَا هو آتٍ، قد تَمَّتا بالفعل على المستوى الجماعي؛ إذ ت‍هدَّمت الأسوار بأبراجها على مَن فيها، وذُبِحَ الكهنة مع ذبائحهم.وهكذا اتَّضح، وعلى المستوى التاريخي، أنَّ إنذار المسيح تمَّ بالفعل وعلى نفس مستوى النموذج الذي استخدمه المسيح. 7. التوبة تُغيِّر قضاء الله: ثم إذا بدأنا نحسب قَصْد المسيح من تعليمه وتقديمه لهذا القانون، يتَّضح لنا أنه لم يكن إنذاراً ت‍هديديـاً؛ بل كـان بمثابة رجاءٍ وحثٍّ على التوبة. المسيح يرى الحاضر، ويرى القادم، ويرى وسيلة الخلاص من القضاء الذي سيتحتَّم وقوعه. فهنا تظهر التوبة أمامنا بجلاءٍ، كقوةٍ عُظمى قادرة أن تُغيِّر قضاء الله وقانونه المحتوم.لذلك إذا عُدنـا مرَّة أخرى لقول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ»، نراه يكشف، بصِـدْقٍ، كيف أعطى للإنسـان حـقَّ ”الفيتـو“ (أي ”توقيف“) الأحكام والقوانين الحتمية.فالتوبة هي، في حقيقتها، التجاءٌ إلى الله نفسه صاحب القضاء والحُكْم والقانون، وهو نفسه الذي في يده سُلطان رَفْع الخطية التي تستوجب القضاء والحُكْم، وعلى أساسها يستمدُّ القانون سلطانه.والعجيب في شأن الله، كقاضٍ عادلٍ، أنـه أَلزم نفسه تجاه الإنسان. فإذا تاب إليه الإنسان حقّاً، فإنه يستحقُّ ويستوجب العفو المطلق.هنا ترتفع قيمة التوبـة في عينَي أيِّ إنسانٍ، لكي تبلغ إلى قامة الله في قُدرتـه على تنفيذ الحُكْم، وفي نفس الوقت قُدرتـه على رَفْع الحُكْم؛ حيث استمرار الخطية تجعله يُنفِّذ الحُكْم، والتوبة تجعله يلغي الحُكْم. 8. عشرة في كلِّ مدينة: ولكن أغرب ما في كلِّ أحكام الله وقوانينه وقضائه، أنه لا يُلْزِم نفسه ولا يُلْزِم الإنسان بأن يتوجَّب توبـة جميع الخطاة، بل إنه لكي يعفو عن مدينةٍ بأَسْرها صَدَر ضدها الحُكْم بالحرق والإبادة، يكفي أن يتوب عنها عشرة أشخاص أتقياء فقط. هذا أعلنه الله في حديثه مع إبراهيم أبي الآبـاء، وبحوارٍ صادق معه، إذ استطاع إبراهيم أن يكشف - في قانون أحكام الله - كيف أنـه يكتفي بعشرة فقط في مدينةٍ كبيرة يتوبون ويصلُّون عن المدينة كلها، لكي يصدر الحُكْم بالعفو الجماعي (تك 18: 32). 9. مطلوبٌ فدائيون عن كلِّ العالم: من هذا نفهم أنَّ خلاص مدينة وخلاص أُمَّة وخلاص العالم، مُتوقِّفٌ على جماعاتٍ فدائية تُكرِّس حيات‍ها الخاصة للصلاة والتقوى والتوبة عن نفسها وعن الآخرين. فإن أنتم تنبهتُم، تعرفون ما هي مسئوليتكم.روح القانون الإلهي العام الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله إنَّ رَبْط المسيح الهلاكَ الناتج من الكوارث الاجتماعية والكوارث الطبيعية على السواء بتوبة الإنسان، يكشف بوضوح روح القانون الإلهي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله، والذي يقوم على اتِّجاهَيْن: 1 - إن ازدياد مُعدَّل الخطية هو حدُّ القانون السلبي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والعالم. 2 - وإنَّ الشقَّ الطبيعي في العالم، بكلِّ حركاته وثوراته، مربوطٌ بالشقِّ الروحي للإنسان. والقديس بولس الرسول يُؤمِّن على ذلك بقوله: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رو 8: 23،22).فالطبيعة كلها تحت أصابع الله، ونحن بخضوعنا تحت أصابع الله، نحفظ الطبيعة مـن الهلاك. فالشقُّ الطبيعي في العالم، الذي ينذهل العالم من جبروته، والفناء الذي قد يحصل للعالم من جراء خطية الإنسان؛ كلاهما مُرتبطٌ بشدَّةٍ بالشقِّ الروحي للإنسان. أربعة مبادئ أساسية: والآن يمكن أن نستخلص المبادئ الآتية من إنجيل قدَّاس هذا اليوم: 1. إنَّ وراء كل كارثة، خطية تسبَّبت فيها. 2. وإنَّ كل خطية يتبعها كارثة كنتيجة حتمية. 3. وإنَّ كل كارثة هي، بحدِّ ذات‍ها، إنذارٌ للتوبة. 4. وإنَّ التوبة تُوقِفُ حدوث الكارثة. ذلك بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الشعب أو المدينة أو العالم، وبحسب نسبة معلومة لدى الله وحده.كما يمكننا أن نفهم، بالوعي المسيحي، ما يجري الآن حولنا: أ - فإنَّ ما يُعانيه الإنسان المسيحي، فوق أنه يدخل حتماً في قانون: «... أَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (أع 14: 22)، و«فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يو 16: 33)؛ إلاَّ أنه بالنسبة لإنجيل اليوم، فإنه يَستعلِن لنا سرّاً آخر من أسرار مواجهة العنف، وما يتأتَّى بسببه من كوارث، على ضوء ما واجهه المسيح من آلامٍ وصَلْبٍ وموتٍ. فكما حَمَل المسيح خطايا العالم في جسده، وتحمَّل آلام الإنسان عامةً واحتملها في نفسه، بل كما وهو في أَوْج محنة الآلام والصَّلْب، فقد طلب من الآب السماوي أن يغفر خطايا أعدائه وصالبيه ليرفع غضب الله عنهم. ب - هكذا أصبح منهجنا المسيحي يُحتِّم علينا أن نَعتَبِر أنَّ الآلام والأوجاع التي يُعانيها المسيحيون الأتقياء، هي على مستوى الفديـة، يَفْدون ب‍ها بـلادهم؛ وإذ يتحمَّلون‍ها بشُكرٍ، يرفعون ب‍ها غضب الله عن مُضطهدي‍هم.إذن، فالمنهج المسيحي مؤسَّسٌ على حقيقتين: الأولى: حتمية احتمال الألم. الثانية: حتمية الصَّفْح عن ال‍مُسيئين، ليس هذا فحسب؛ بل والإحسان إليهم، وطلب رَفْع غضب الله عنهم. ألَم يَقُل المسيح: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (مت 5: 13)! فالملح يذوب ليُعطي مذاقاً لحياةٍ الآخرين والعالم. ألَم يَقُل أيضاً: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ» (مت 5: 14)! والنور يحترق ليُضيء على الآخرين وفي العالم. + «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44). صـلاة: + ”«يَـا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ» (لو 23: 34). لا تجعل صليـبي وحياتي سبباً لدينـونتهم، أبداً يا رب. أنا مصلوبٌ من أجلهم. اغفر لهم“. هذا هـو الشقُّ الثاني الذي يحكمنا كمسيحيين في هـذا البلد. إنَّ الذين يتألَّمون من كلِّ اضطهادٍ وضيـق، حتى إلى سَفْك الـدم؛ إنمـا يحملون، لا ذنبهم، ولكـن ذنـب الذيـن يضطهدون‍هم، ويطلبون مـن الله لهم الغفـران والرحمـة، حتى لا يغضب الله عليهم. نحـن فدائيون، نفدي الذين يضطهدوننا، ونفدي مدينتنا وبلادنا، لئلا يشملها العقاب! ما أصعب الصليب! ما أمَرَّ الصليب! ولكن، مـا أعظم الصليب! إذ ليس في كـلِّ مـا يُعْرَض على الإنسان مـن كرامـةٍ ومجدٍ ما يُساوي حَمْل الصليب؛ لا على الصدور، بل على الأكتاف حتى السقوط تحته!! ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 أبريل 2021

أحد المخلع الأحد الخامس من الصوم الكبير تشديد الإيمان

ارتباط فصول القراءات: تشديد الإيمان تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "تشديد الإيمان" أي تشديده لقوى المؤمنين الروحية، ففي إنجيل العشية يعد المخلص بإنصاف الصارخين إليه منهم كما أنصف قاضى الظلم الأرملة، وفي إنجيل باكر يعدهم بملكوته كما انتزع الكرم من الكرامين الأردياء وأعطاه لآخرين يؤدون إليه الثمر في أوانه، ويبين في إنجيل القداس أنه يشدد قواهم كما شدد أوصال المخلع المطروح عند بركة بيت صيدا مدة ثمان وثلاثين سنة فبرئ وحمل سريره ومشى، وفي إنجيل المساء يغفر لهم خطاياهم كما غفرها للمفلوج المدلى من السقف وأبرأه. ويوصيهم الرسول بولس في فصل البولس المقروء بوجوب الثبات على الإيمان في الضيقات كما أوصى بذلك أهل تسالونيكي، ويحثهم بطرس في الكاثوليكون على ضرورة إتباع القداسة حتى مجيء المسيح ثانية، أما الإبركسيس فيهيب بهم أن يتحملوا المحاكمة في سبيل الإيمان كما تحملها بولس حين قدم أمام الملك أغريباس. البولس من (2 تسالونيكي 2: 1 – 17) 1 ثم نسألكم أيها الأخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إلي أن لا تتزعزعوا سريعًا عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضرلا يخدعنكم أحد على طريقة ما لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولًا ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلها أو معبودًا حتى انه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا والآن تعلمون ما يُحتجز حتى يستعلن في وقته لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يُحجز الآن وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الأخوة المحبوبون من الرب أن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح فاثبتوا إذًا أيها الأخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا وربنا نفسه يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبنا وأعطانا عزاءً أبديًا ورجاءً صالحًا بالنعمة يعزي قلوبكم ويثبتكم في كل كلام وعمل صالح إنسان الخطية موضوع "إنسان الخطية" يعتبر إحدى النبوات الرئيسية في العهد الجديد، ومع هذا إذ كتب عنه الرسول لم يقصد به الكشف عن أحداث مستقبلية بقدر ما أراد تحقيق أهداف عملية، لذا ختمه بالحديث عن "الثبوت في الرب" ليدخل بعد ذلك في القسم الثالث من الرسالة الخاصة بالوصايا العملية. 1. الارتداد أولًا "ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعًا عن ذهنكم،ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا، أي أن يوم المسيح قد حضر" [1-2]. يطلب الرسول بولس من أهل تسالونيكي ألا يكون ذهنهم مرتاعًا كسفينة تلعب بها الأمواج العنيفة، وذلك من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا فيه ومعه في ذلك اليوم العظيم، ظانين أن اليوم قد حضر. يلزمهم ألا ينحرفوا بروح أي بنبوات كاذبة أو إعلانات باطلة، ولا بكلمة أي بإساءة تفسير كلماته حين كان يكرز في وسطهم، ولا برسالة كأنها منه أي إساءة فهم رسالته السابقة، أو قبولهم رسالة مدسوسة ليست صادرة عنه، أو قبول الاثنين معًا، أي إساءة فهم رسالته وقبول رسالة مزيفة.إنه يوصي المؤمنين ألا يسيروا وراء الأمواج العنيفة التي تنادي بأن يوم المسيح قد حضر، فإنه يلزم أن يسبقه الارتداد، ويستعلن إنسان الخطية مثير الارتداد، إذ يقول:"لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولًا، ويستعلن إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله" [3-4]. شغل موضوع "إنسان الخطية" كتابات الكنيسة الأولى والعصور الوسطى وأيضًا اللاهوتيين المحدثين، فقد قارنوا بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المتأله (ص 11)، وما جاء في سفر الرؤيا عن النبي الكذّاب والوحشين البرّي والبحري (رؤ20,19,16,13)، وما تعرض له القديس يوحنا الحبيب في رسائله عن ضد المسيح.تحدث القديس يوستين الشهيد في القرن الثاني عن إنسان الخطية بكونه إنسان الارتداد الذي ينطق بما هو ضد العليّ، ويتجاسر بارتكاب أعمال شريرة ضد المسيحيين.وقد ساد في القرون الأولى اعتقاد أن هذا الإنسان يظهر بعد زوال الدولة الرومانية، فيتطلّعون إلى الإمبراطورية كقوة مقاومة لظهوره. لهذا يقول العلامة ترتليان: [أي عائق له إلا الدولة الرومانية، فإنه سيظهر الارتداد كمقاوم للمسيح.] كما يقول: [نلتزم نحن المسيحيون بالصلاة من أجل الأباطرة واستقرار الإمبراطورية استقرارًا كاملًا، فإننا نعرف أن القوة المرعبة التي تهدد العالم يعوقها وجود الإمبراطورية الرومانية، هذه القوة التي لا نريدها فنصلي أن يؤجل اللَّه ظهورها. بهذا تظهر إرادتنا الصالحة لدوام الدولة الرومانية.]ورأى فريق من الآباء أنه يظهر بعض الأشخاص مقاومين للحق، ضد المسيح يكونون مثالًا ورمزًا لضد المسيح الحقيقي الذي يظهر في أواخر الدهور، فيتطلع القديس كبريانوس إلى أنطيخوس أبيفانيوس كمثال لضد المسيح، بينما يتطلع القديس يوحنا ذهبي الفم إلى نيرون هكذا بكونه حسب نفسه إلهًا.أما في القرون الوسطى فقد اهتم كثير من اللاهوتيين الغربيين بموضوع "ضد المسيح"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فتطلع بعض مقاومي السلطان الكنسي في أوربا إلى الكرسي البابوي كضد المسيح. يقول الأب برنارد: [صار خدام المسيح خدامًا لضد المسيح، وجلس وحش الرؤيا على كرسي القديس بطرس.] غير أن كثير من اللاهوتيين البروتستانت رفضوا هذا الرأي، مؤكدين أن ضد المسيح ليس نظامًا معينًا بل هو إنسان معين يظهر في أواخر الدهور قبل مجيء السيد المسيح الأخير. بين السيد المسيح وضد المسيح أولًا: يقول الرسول "يستعلن إنسان الخطية" [3]. فكما جاء السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد، الذي فيه يتشخص كمال البرّ الإلهي، من يقتنيه إنما يقتني برّ الله فيه، هكذا يأتي إنسان الخطية فتتشخص فيه الخطية، يبث روح الشر في أتباعه ويقاوم كل برّ حقيقيٍ. ثانيًا: يدعى "ابن الهلاك" [3]. إن كان الشيطان قد هلك باعتزاله الله سرّ حياة الخليقة كلها، ويتم كمال هلاكه في يوم الرب العظيم، فإن عمله الرئيسي هو إفساد خليقة الله وإهلاكها، بل ويبث فيها سمته، فيصيرون محبين لهلاك الآخرين، وكأن أتباعه يحملون صورته ويكونون على مثاله، كما يحمل المؤمنون صورة الله ويسلكون على مثاله.لقد حمل يهوذا الخائن هذا اللقب "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، الذي ملك عليه الشيطان، ونحن نحمل لقب "أبناء الله" إذ يملك الله فينا وعلينا، مخلصًا إيّانا من الهلاك. ثالثًا: إنسان الخطية هو إنسان حقيقي لبسه الشيطان ليعمل فيه بكل طاقته حتى إن أمكن أن يضل حتى المختارين (مت 24: 24)، والسيد المسيح هو ابن الله الذي صار إنسانًا حقيقيًا بتجسده، يحمل طبيعتنا لكي يفديها، فيرد الضالين حاسبًا إيًاهم إخوة أصاغر له خلال ذبيحة الصليب التي قدمها عنا. لقد صار واحدًا منا ليقدم الفدية باسمنا ولحسابنا. رابعًا: دُعي "المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا" [4]. إذ يقيم نفسه إلهًا يقاوم الله ويثير البشرية ضد ملكوته، بقدر ما يظهر إنسان الخطية في كبرياء، ناسبًا لنفسه ما ليس له نجد السيد المسيح، الواحد مع الآب في تواضع يخضع بالطاعة الكاملة للآب حتى الموت موت الصليب. إنه يخلي ذاته محققًا في نفسه كل طاعة (عب5: 8) وكل تسليم للإرادة، لنحسب نحن فيه أبناء الطاعة ونسترد ما خسرناه خلال كبريائنا وعصياننا.لقد لاحظ القديس إيريناؤس أن ضد المسيح في كبريائه لا يقدر أن يرتفع على اللَّه، وإنما على كل ما يدعى إلهًا، مع أنه بالحقيقة ليس هكذا. والعجيب أن اليهود يرفضون السيد المسيح الذي جاء يتحدث عن الآب طالبًا مجده مع أنه واحد مع الآب ويقبلون ضد المسيح الذي يأتي ليتحدث عن نفسه طالبًا ما لذاته لا ما لله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إذ يعلن الرب عن ذاك الذي يطلب مجد نفسه لا مجد الآب (يو 7: 18) يقول لليهود: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" (يو 5: 43) لقد أعلن لهم أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي يطلب مجد نفسه منتفخًا، وهو ليس بصادق ولا ثابت، وإنما بالتأكيد هالك. أما ربنا يسوع المسيح فأظهر لنا نفسه مثالًا عظيمًا للتواضع، فمع كونه بلا شك مساويًا للآب.. لكنه يطلب مجد الآب لا مجد نفسه.] أما سرً قبول اليهود لضد المسيح فهو تفكيرهم المادي وتفسيرهم الحرفي للنبوات. خامسًا: يحدد الرسول بولس "هيكل الله" كمركز عمل المقاوم، حيث يجلس فيه مظهرًا نفسه إلهًا [4]. ماذا يقصد بالهيكل؟ يرى القديسان إيريناؤس وكيرلس الكبير أن ضد المسيح يقوم بتجديد الهيكل اليهودي في أورشليم كمركز لعمله. ويرى القديسون يوحنا ذهبي الفم وأغسطينوس وجيروم والأب ثيؤدوث أنه يتربع في هيكل الكنيسة المسيحية. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [إنه يجلس في هيكل الرب ليس فقط في أورشليم، وإنما في كل كنيسة.] وهذا ما أخطرة علينا والذي ينبهنا أن نفيق من غفلتنا التي نحيا فيها.على أي الأحوال إن كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليكرس كل قلب كهيكلٍ مقدس للثالوث القدوس، وخلال هذا التقديس يعود للهيكل الإلهي قدسيته، فإن ضد المسيح يأتي ليهدم القلوب، ويفسد الهيكل القائم فيها، مغتصبًا إيّاها لحسابه، كما يفسد كنائس الرب ويضطهدها. سادسًا: يقول الرسول عنه: "الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا" [9-10].كأن الشيطان يعلن مملكته ببث طاقاته فيه للتضليل والانحراف عن الحق حتى يدخل بالبشرية إلى مملكة ظلمة الباطل. أما السيد المسيح فقد جاء ليعمل بقوة لاهوته ليدخل بهم إليه فينعمون بنور الحق. إنه يقدم لهم روحه القدوس الذي يرشد إلى كل الحق وينطلق بالمؤمنين إلى الأسرار السماوية.سيحاول إنسان الخطية التشبه بالسيد المسيح فيعمل "بكل قوة وبآيات وعجائب" [9]، لكن جميعها "كاذبة"، لأنها من صنع إبليس المخادع، الذي يدعى "الكذّاب وأبو الكذّاب"، أما السيد فكان يصنعها بروح الحق خلال حبه لبني البشر وترفقه بهم. الأول في كبرياء يبرز قوته الوهمية والمؤقتة، أما السيد المسيح فيعمل بروح التواضع ليحملنا بالحب إلى مملكته النورانية.واستخدام ابن الخطية للقوات والآيات، وأيضًا ممارسة الأشرار لها، يجعلها ليست هدفًا يبحث عنه المؤمن، ولا معيارًا لصلاح الإنسان أو سلوكه بالحق. فالإيمان المسيحي لم يقم على القوات والآيات، فإن كان السيد المسيح قد قدّم آيات بلا حصر وقوات لم يسبق أن يسمع عنها بني البشر، لكنه قدّمها مجرد علامة حب وتحنن نحو البشر، مقدمًا نفسه آية لهم وسرّ حياة وقوة قيامة! عندما سُئل السيد أن يصنع آية أعلن أنه يقدم موته ودفنه وقيامته الأمور التي أعلنت رمزيًا في يونان النبي آية للبشرية. عمله الخلاصي للبشرية هو الآية التي يلزم أن تشغل كل الفكر وتمتص كل المشاعر والأحاسيس! بين إنسان الخطية والملك المضطهد لكي تبرز صورة إنسان الخطية كما سجلها لنا الرسول بولس نقارن بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المضطهد: أولًا: عمل إنسان الخطية هو إثارة حركة الارتداد عن الإيمان، فلا يترك المؤمنون الإيمان فحسب وإنما يقاومون الحق، ويقفون ضد اللَّه نفسه، ويعلن دانيال النبي عمل الملك المضطهد ككاسر العهد المقدس، إذ يقول: "فييأس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس ويعمل ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" (دا 11: 30). ثانيًا: يجلس إنسان الخطية في هيكل الله كإله، ويقوم الملك المضطهد بتدنيس الموضع المقدس: "تقوم منه أذرع وتنجس المقدس الحصين" (دا 11: 31). ثالثًا: يقاوم إنسان الخطية كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا [4]، ويقف الملك المضطهد ضد الله، أو كما يقول دانيال النبي: "ويفعل الملك كإرادته، ويرتفع ويتعظم على كل إله، ويتكلم بأمورٍ عجيبة على إله الآلهة" (دا 11: 36).هكذا يظهر أن ما ورد في سفر دانيال (ص 11) عن الملك المضطهد إنما يعني "إنسان الخطية" الذي يتحدث عنه الرسول بولس في أكثر وضوح. إنسان الخطية كما أعلنه الرسول لعل الصورة الخاصة بإنسان الخطية قد وضحت الآن، فظهر أنه إنسان حقيقي يظهر قبيل مجيء السيد المسيح، ليقيم نفسه إلهًا، فيقاوم الكنيسة المسيحية، كضربة نهائية من قبل الشيطان قبل أن يحتضر بإعلان ملكوت الله الأبدي.والآن نشرح عبارات الرسول بولس عنه فيما عدا ما تعرضنا له في الصفحات السابقة:لقد طالبهم الرسول ألا ينخدعوا على طريقة ما، فلا يظنوا أن مجيء السيد المسيح الأخير قد حضر، وإنما يلزم أولًا أن يأتي الارتداد [3]، وقد دعاه بالارتداد، إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم، المرتفع [3-4] الأثيم [8]. يقول الرسول: "أما تذكرون إني وأنا بعد عندكم، كنت أقول لكم هذا" [5].يظهر من هذا القول أن الرسول سبق فحدثهم عن إنسان الخطية حين كان حاضرًا عندهم يكرز بالإنجيل، مع أن فترة كرازته كانت قليلة للغاية، ربما عدة أسابيع أو على الأكثر بعض الأشهر. وكأن الحديث عن مجيء إنسان الخطية المقاوم يمثل جزءًا لا يتجزأ من كلمة الكرازة. ففي الوقت الذي فيه يعلن الكارز عن بركة التمتع بالخلاص في استحقاقات الدم المقدس يلهب شوق السامعين لمجيء المخلص بقصد التمتع بشركة الأمجاد معه وفيه. لكن هذه العطية ليست بدون أتعاب أو آلام، وإنما يوجد الشيطان المضلل عبر العصور والذي يكتِّل كل طاقاته في الأيام الأخيرة بقصد إفساد النفوس. إذن، الحديث عن إنسان الخطية مرتبط بالإنجيل المقدس، تحدث عنه السيد المسيح نفسه، قائلًا: "حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا، لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت 24: 23 -25). ورأينا القديس يوحنا يتحدث في رسائله عن ضد المسيح، وفي سفر الرؤيا عن الوحشين البحري والبرّي (رؤ 13) وعن النبي الكذّاب (رؤ 16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10)."والآن تعلمون ما يحجز حتى يستعلن في وقته، لأن سرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يحجز الآن" [6-7].كأنه يقول لهم بأنه إذ كان حاضرًا عندهم أخبرهم عنه موضحًا أن الإعلان عنه محتجز، أي أن ظهوره يتأخر إلى الوقت المناسب. إن سرّ الإثم يعمل الآن بطريقة خفيّة، لكنه حين يأتي زمان إنسان الخطية يُنزع الحاجز ليظهر الشيطان بكل طاقاته مجاوبًا الحق علانية. بظهور إنسان الخطية وإثارة الحرب ضد الحق تحسب كل مقاومة سابقة مهما اشتدت أنها مقاومة خفية! إن بشاعة ما يفعله ضد المسيح علانية تتضاءل أمامه كل أعمال الشيطان السابقة.شدة الهجوم الذي يشنّه إنسان الخطية تجعل البعض ينظر إليه أنه الشيطان بعينه.ربما تثير فينا كلمات الرسول بولس السابقة [6-7] التساؤلات التالية:ما هو هذا الحاجز الذي يعوق استعلان إنسان الخطية؟ ولماذا كتب الرسول بأسلوب غامض؟وكيف يرفع من الوسط؟ يجيب القديس يوحنا ذهبي الفم بأن في عصره ساد رأيان: الرأي الأول: الحاجز هو الروح القدس الذي يعوق قيام إنسان الخطية حتى يحل الوقت المحدد. هذا الرأي يرفضه القديس يوحنا ذهبي الفم. الرأي الثاني: أن الحاجز هو "الدولة الرومانية" التي تقف عائقًا عن ظهوره. وقد قبل القديس هذا الرأي متطلعًا إلى نبوة دانيال التي يفسرها هكذا: أن الدولة البابلية قامت على أنقاض بني مادي، وقام الفرس على أنقاض بابل، والمكدونيون (الدولة اليونانية) على أنقاض سابقتها، والرومانية على أنقاض اليونانية، وأخيرًا يأتي ضد المسيح ليملك على العالم عوض الدولة الرومانية، ويكون ذلك قبل مجيء المسيح يسوع ربنا ليملك على كنيسته في السماوات إلى الأبد. ففي رأيه أن الرسول أخفى ما هو الحاجز لكي لا يثير الإمبراطور الروماني ضد الكنيسة بكونها تتنبأ عن نهاية الدولة الرومانية وحلول ضد المسيح مكانها.ويمكننا أيضًا تفسير "إنسان الخطية" هنا بالأفكار الإلحادية والفلسفات المضادة للحق، فإنه إذ يسمح الله بها في العالم، تدخل هذه الأفكار والفلسفات في حرب ضد الحق الإنجيلي لكي تحتل القلب "هيكل الله" وتتربع فيه عوض الإيمان. هذه هي سمة العصر الحديث، حيث تقوم هذه الأفكار المتشامخة كإله يسيطر على القلب.والأمر الذي لا يمكن تجاهله هو ظهور شاب هندي يدَّعي الألوهية، هذا الشخص نجح في السيطرة علي عقول الكثيرين حتى اعتقدوا أنه هو الإله.يمكننا أن نقول أن "إنسان الخطية" يظهر في أكثر من صورة ليغتصب الهيكل المقدس بحيلٍ كثيرة. لذلك أكد السيد المسيح أنه سيظهر مسحاء كذبة كثيرون (مت 24). أخيرًا، يليق بنا أن نعرض أحد الآراء اللاهوتية الخاصة حيث ينظر إلى المحتجز هنا على أنه كنيسة الأمم التي تحجز حتى تكمل، أما رفع الحاجز من الوسط فيعني عند أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم مع عريسها لكي يأتي الارتداد ويستعلن إنسان الخطية. عندئذ يقبل اليهود الإيمان في آخر الأزمنة كقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26). يؤكد أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم قبل الارتداد مستندين على قول السيد المسيح: "حينئذ يكون اثنان في الحقل، يؤخذ الواحد ويترك الآخر، اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى" (مت 24: 40-41).لكن هذا الرأي لا يقبله كثير من اللاهوتيين، للأسباب التالية: أولًا: القول بأن الاختطاف يتحقق قبل مجيء السيد المسيح الأخير، بل وقبل ظهور إنسان الخطية إنما يعني ظهور السيد ثلاث دفعات: أولًا عند تجسده لتتميم الخلاص على الصليب، والثاني قبل ظهور إنسان الخطية لاختطاف كنيسة الأمم، والثالث للدينونة.لقد اهتم البعض بهذه العقيدة حتى لقّبوا أنفسهم بالأدفنتست أي المجيئيين، مع أنه يليق ألا تقوم عقيدة أساسية هكذا على مجرد تفسير شخصي لنص أو نصّين من الكتاب المقدس، بينما في عشرات المرات يتحدث الكتاب المقدس عن مجيء السيد المسيح بكونه المجيء الأخير، وللدينونة العامة النهائية. ثانيًا: إن كان اليهود يقبلون الإيمان بالسيد المسيح عند دخول ملء الأمم، فهذا لا يعني انعزالهم ككنيسة مستقلة أو جماعة مستقلة، إنما يصيرون أعضاء متفاعلة معًا في الجسد الواحد. هذا ولا يمكننا أن نقول بأن الكنيسة كما هي الآن كنيسة الأمم. فإن كان كثيرون من اليهود قد رفضوا الإيمان، لكن كثيرين منهم أيضًا قبلوه وكرزوا به، واندمج المسيحيون سواء من أصل أممي أو يهودي معًا كقول الرسول: "لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 26-28). ثالثًا: إن كان الاختطاف لكنيسة الأمم يتحقق قبل ظهور إنسان الخطية، فمن هم الذين يقاومهم إنسان الخطية؟ هل اليهود؟ وكيف يقبلون الإيمان والكنيسة مختطفة؟ إن سفر الرؤيا يروي لنا الحرب المريرة التي ستعانيها الكنيسة في أيام ضد المسيح، هذه التي سبق فأنبأ بها حزقيال النبي. رابعًا: لو أن كنيسة الأمم تُختطف قبل يوم الدينونة، فهل تعود مرة أخرى في اليوم الأخير؟ إن كان الكتاب يروي لنا اليوم الأخير حيث يظهر فيه فئتان: جماعة الراقدين في الرب الذين يقومون، وجماعة الأحياء الذين يختطفون في ذلك الحين (1 تس 4: 13-18)، فمن أي فئة تكون كنيسة الأمم المختطفة؟ إنهم بلا شك ليسوا براقدين لأنهم اختطفوا أحياء، ولا هم بالأحياء في ذلك الحين إذ يكون الأحياء هم اليهود الذين قبلوا الإيمان بعد اختطاف كنيسة الأمم! فلو صح تفسيرهم لظهرت فئات ثلاث: الراقدون في الرب، المختطفون أي كنيسة الأمم المختطفة، الأحياء من كنيسة اليهود، وهذا أمر لا يتفق والفكر الإنجيلي. خامسًا: إن كان أصحاب هذا الرأي يعتمدون على قول السيد أنه يؤخذ الواحد ويترك الآخر (مت 24: 40-41)، فهذا حديث رمزي يكشف عن تمتع الإنسان الروحي بالانطلاق إلى السيد المسيح في مجده ليكون معه في الميراث، بينما يبقى الآخر كمن في مكانه أي في حرمانه من التمتع بالمجد الأبدي. هذا هو أسلوب السيد نفسه حين يلتقي مع البشرية. فإنه يقول للأشرار "إني لا أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت 7: 23)، مؤكدًا ذلك في أكثر من موضع (لو 13: 25-27؛ مت 25: 12). فهل يختفي هؤلاء عن معرفة الله؟ يستحيل لكنه لا يعرفهم كأولاد له أو أحباء وورثة للمجد! لقد أراد السيد بقوله يؤخذ الواحد ويترك الآخر تأكيد عنصر المفاجأة في الدينونة، فينعم الواحد بالميراث، ويحرم الآخر منه، دون أن تكون له بعد فرصة لاستدراك الأمر. مزمور إنجيل القداس ترنيمة نصرة وفرح من الواضح أن هذا المزمور يكشف عن أسباب إضافية لتهليل الأبرار وفرحهم في الرب. دعوة للتسبيح اختتم المزمور السابق بالحث على التسبيح لله بفرح وبهجة وافتخار، الآن يفتتح المزمور بذات الدعوة، مقدمًا المرتل أسبابًا إضافية كبواعث للتسبيح. " ابتهجوا أيها الصديقون بالرب، للمستقيمين ينبغي التسبيح. اعترفوا للرب بقيثار، وبقيثارة ذات عشرة أوتار رتلوا له. سبحوا له تسبيحا جديدا؛ ورتلوا له حسنا بتهليل، لأن كلمة الرب مستقيمة وكل صنعه بالأمانة، يحب البر والعدل.امتلأت الأرض من رحمة الرب، بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها" [1 – 6]. 1 – يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة للفعل "ابتهجوا" هي في الأصل تعنى: "ارقصوا فرحًا"، وهو تعبير قوى جدًا عن التهليل الحي، حيث يهتز كيان الإنسان الداخلى طربًا من أجل اللقاء مع الله، كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد (2 صم 6: 14)، وكما ارتكض (رقص) الجنين في أحشاء القديسة أليصابات عند زيارة القديسة مريم لها.هذا التسبيح أو رقص الكيان الداخلى هو هبة إلهية كثمر للروح القدس الواهب الفرح. 2 – سر البهجة أو التسبيح هو الرب: "ابتهجوا.. بالرب"؛ نفرح به لا بذواتنا، نفرح بحضرته لا ببركاته الزمنية. 3 – "للمستقيمين ينبغي التسبيح": إن كان التسبيح هو هبة إلهية، عطية الروح القدس للمؤمنين ليمارسوا الحياة السماوية المفرحة، فإنه في نفس الوقت التزام، إذ يليق بالمؤمن الذي يمارس الحياة التقوية أن يتمتع بامتيازه، فيسبح الله كملاك متهلل. إنجيل القداس من يوحنا 5: 1 – 18 وبعد هذا كان عيد لليهود فصعد يسوع إلى أورشليم وفي أورشليم عند باب الضان بركة يقال لها بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة في هذه كان مضطجعًا جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولًا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة هذا رآه يسوع مضطجعًا وعلم أن له زمانًا كثيرًا فقال له أتريد أن تبرأأجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر قال له يسوع قم احمل سريرك وامش فحالًا برئ الإنسان وحمل سريره ومشى وكان في ذلك اليوم سبت فقال اليهود للذي شفي انه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك أجابهم أن الذي أبراني هو قال لي احمل سريرك وامش فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل وقال له ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك اشر فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضًا أن الله أبوه معادلًا نفسه بالله. أحد المخلع (أحد الوحيد) شفاء مريض بيت حسدا (يو 5: 1 – 18) في هذا الأصحاح نجد لقاء بين السيد المسيح، الطبيب السماوي، ومريض بيت حسدا الذي عانى من الفالج 38 عامًا. وهو طبيب فريد يسعى نحو المريض دون أن يطلبه، وإن كان لا يشفيه قسرًا بل يسأله: "أتريد أن تبرأ". التقي به عند بيت حسدا التي كان لها خمسة أروقة، إشارة إلى كتب موسى الخمسة، أو إلى الناموس. فالناموس يفضح الخطية، ويؤكد لنا المرض، والحاجة إلى طبيب سماوي قادر أن يعالج.ابرز الطبيب ما في المريض من سمات صالحة، فقد اتسم بالوداعة. فعندما سأله السيد: "أتريد أن تبرأ" لم يثر، بل في وداعة عجيبة أجابه. "يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر". (7) من يسقط في مرضٍ مدة طويلة غالبًا ما يُصاب بأتعاب عجيبة، تزداد مع تزايد فترة المرض. أما هنا فنراه وديعًا للغاية. هذا وعندما قال له السيد "قم احمل سريرك وأمشِ" (8)، آمن وللحال قام ومشى وحمل سريره. إنه ملقي عند البركة منذ قبل ميلاد السيد المسيح بالجسد، وربما لم يسمع عنه، فقد كاد أن يصير محرومًا من لقاء الأقارب والأصدقاء بعد كل هذا الزمن من المرض. ومع هذا لم يحاور السيد كيف يقوم، وكيف يقدر أن يمشي دفعة واحدة، ويحمل سريره؟ قد عجزت الذراع البشرية عن شفاء هذا المفلوج المُلقى عند البركة لمدة 38 عامًا. تدخل السيد المسيح سائلًا إياه: أتريد أن تبرأ؟ لقد وهبه حياة جديدة في بيت حسدا التي تعني "بيت الرحمة".لم ترد هذه المعجزة في الأناجيل الثلاثة الأخرى، لأن يوحنا اهتم بالمعجزات التي تمت في أورشليم بينما اهتم الإنجيليون الآخرون بما تم في الجليل. "وبعد هذا كان عيد لليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم، وفي أورشليم عند باب الضان بركة، يقال لها بالعبرانية بيت حسدا، لها خمسة أروقة " (يو 5: 1-2).إذ حل العيد، فمع إقامة السيد المسيح في الجليل إلا أنه صعد إلى أورشليم، لم يرد أن يستثنى نفسه مادام قد قبل أن يصير ابن الإنسان الخاضع للناموس، وهو في هذا يقدم لنا نفسه مثالًا للاهتمام بالعبادة الجماعية، حتى وإن مارسها الكثيرون في شكلية بلا روح."باب الضأن" الأرجح أن هذا الباب سمى كذلك، لأن الكهنة كانوا يغسلون غنم الذبائح ويأتون بها إلى الهيكل..تشير البركة إلى المعمودية حيث يتمتع المؤمنون بالولادة الجديدة والشفاء من الخطية.تحريك الماء يحمل معنى أن مياه البركة أشبه بمياه جارية، كمياه المعمودية، التي يعمل الروح فيها فيولد الإنسان ميلادًا روحيًا كما أعلن السيد المسيح لنيقوديموس، وتشير إلى عطية السيد المسيح كقول السيد للسامرية، أن من يشرب من هذا الماء لا يعطش. " في هذه كان مضطجعا جمهور كثير، من مرضى وعمى وعرج وعسم، يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكا كان ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء، فمن نزل أولا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه " (يو 5: 3 – 4).يرى البعض أن هذا الملاك لم يكن ينزل في البركة يوميًا، وإنما في مواسم معينة، خاصة في الأعياد الثلاثة الكبرى، وأن هذا العمل من قبل الله ليؤكد للشعب أنهم وإن كانوا قد حرموا من الأنبياء وعمل المعجزات فإن الله لن ينساهم، وهو مهتم بهم. " وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة " (يو 5: 5).الصحة وزنة يلزمنا أن نستخدمها ما دامت في أيدينا، ونقدم ذبيحة شكر لله عليها.السيد المسيح كان بإمكانه أن يشفى جميع مرضى بيت حسدا، ولكن ما يشغله بالأكثر الشفاء الأبدي، حيث تتمجد النفوس ومعها الأجساد..إن شفاء هذا المريض يفتح عيون الكل لينظروا شخص المسيا، ويتمتع الكل بالإيمان لكي يتمجدوا أبديًا.هذه البركة وتلك المياه تبدو أنها تشير إلى الشعب اليهودي (رؤ 17: 15).. تلك المياه، أي الشعب، قد أغلق عليه في أسفار موسى الخمسة، أي الخمسة أروقة، لكن هذه الأسفار تحضر المرضى ولا تشفيهم، لأن الناموس يدين الخطاة ولا يبرئهم، لذلك فإن الحرف بدون النعمة يجعل الناس مذنبين، هؤلاء الذين إذ يعترفون يخلصون. (غلاطية 3: 21 – 22).عاش هذا المريض 38 سنة ولم يشفى لأن كمال البر في الـ40، والسيد المسيح صام عنا أربعون يومًا، وصام إيليا وموسى أربعين يومًا، لذا استحقا أن يظهرا مع المسيح على الجبل! "هذا رآه يسوع مضطجعا، وعلم أن له زمانا كثيرا، فقال له: أتريد أن تبرأ؟" (يو 5: 6).إذ جاء السيد المسيح إلى أورشليم لم يزر قصور الأغنياء بل المستشفيات، ليقدم حبًا وحنوًا نحو المرضى، فقد جاء إلى العالم من أجل المحتاجين والمرضى، ولعل السيد ركز عينيه على ذلك المريض، لأنه كان أقدمهم، عانى أكثر من غيره من المرض والحرمان:.. "أجابه المريض: يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آت، ينزل قدامى آخر " (يو 5: 7)يظهر من كلام هذا المفلوج وداعته، فإنه إذ يلقى إنسان على فراشه كل هذه السنوات غالبًا ما يكون ثائرًا، يعانى من متاعب نفسية وعصبية، ومع هذا لم ينفعل ويرد على السيد المسيح مثلًا قائلًا: " كيف تسألني إن كنت أريد أن أبرأ..؟ اشتكى المريض من عدم وجود أصدقاء يساعدونه، فإنه حتى الذين نالوا الشفاء انشغلوا بأقربائهم وأصدقائهم، ولم يوجد واحد من بينهم يهتم بهذا المسكين، كما اشتكى من عجزه في منافسة الآخرين لكي يلقى بنفسه أولًا في البركة إذ كانوا كثيرون يسبقونه. "قال له يسوع: قم احمل سريرك وأمش " (يو 5: 8).قدم له السيد الشفاء بطريقة لم تخطر على فكره، وهي ليس بإلقائه في البركة متى تحرك الماء، وإنما بكلمة تصدر من فمه الإلهي، أمر بسلطان فشفى المريض.فقد اعتاد السيد أن يترك علامات بعد المعجزة لكي يتذكر شعبه أعمال محبته، فعندما أشبع الجموع أمر بجمع الكسر، وعندما حول الماء خمرا طلب من الخدام أن يقدموا للمتكئين، وعندما شفى البرص أمرهم أن يذهبوا إلى الكهنة ليشهدوا بشفائهم، هنا يطلب من المريض أن يحمل السرير الذي حمله أثناء مرضه.طلب منه حمل السرير ليطمئن أن شفاؤه كامل، وأنه لم ينل القوة الجسدية تدريجيًا بل بكلمة الله وأمره فورًا. إنها صرخة المخلص على الصليب وهو يتطلع إلى الكنيسة كلها عبر الأجيال منذ آدم إلى آخر الدهور، لكي تقوم وتتحرك وتدخل إلى حضن الأب، بيتها السماوي. يطالبها بحمل سريرها الذي هو شركة الصليب معه، لا كثقل على ظهرها، بل كعرش يحملها، ومجد ينسكب عليها " فحالا بريء الإنسان، وحمل سريره ومشى، وكان في ذلك اليوم سبت " (يو 5: 9) لماذا أمر السيد هذا الشخص أن يحمل سريره في يوم السبت وقد منع الناموس هذه الأعمال، خاصة حمل الأمور الثقيلة ؟ (خر 20: 8). (1) أظهر السيد أن اليهود قد أساءوا فهم السبت، فمارسوه بطريقة حرفية بلا فهم روحي سليم، خاصة لمجد الله ونفع الإنسان. (2) ليؤكد للحاضرين أنه رب السبت (مت 12: 8)، كل الأيام هي له دون تمييز بين سبت وغير سبت، فيها يعمل عمل الأب بلا انقطاع. (3) بحمله السرير في وسط العاصمة الدينية ووسط الجمهور القادم للعيد يشد أنظار الشعب لبحث الأمر، والتعرف على محبة المسيح لشعبه، واهتمامه بسلامتهم الروحية والجسدية أكثر من التنفيذ الحرفي للناموس. (4) في هذا الأمر اختبار لمدى طاعة المريض لذاك الذي يشفيه، وإيمانه به. "بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل، وقال له: ها أنت قد برئت فلا تخطيء أيضا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14).إذ شعر الرجل بحنو الله عليه ذهب إلى الهيكل ربما ليقدم الشكر لله على شفائه، غالبًا حدث هذا في نفس يوم شفائه.التقى السيد المسيح بالمريض في الهيكل، ربما إذ اتهموه باحتقاره يوم السبت جاء إلى الهيكل ليؤكد تقديسه ليوم السبت، وانشغاله بالعبادة الجماعية في ذلك اليوم. لقد جاء خصيصًا ليهب البصيرة الروحية، مع علمه بأن أعداء كثيرين يطلبون قتله.أوضح له السيد المسيح أنه عالم بأسرار الماضي: "لا تخطيء أيضًا" موضحًا أن خطيئته السابقة كانت السبب في مرضه الطويل المدى، يحذر السيد من الخطية التي تسحبه إلى مستشفى بركة بيت حسدا ليقضى بها 38 عامًا، بل إلى جهنم لكي يغلق عليه أبديًا في حرمان من المجد السماوي وعذاب مع عدو الخير إبليس.إنه لأمر بسيط أن نقتنى شيئًا، لكن الأعظم أن نستطيع الحفاظ عليه.. سليمان وشاول وكثيرون إذ لم يسيروا للنهاية في طريق الرب لم يستطيعوا أن يحفظوا النعمة التي وهبت لهم، عندما ينسحب تلميذ المسيح منها، تنسحب أيضًا نعمة المسيح منه. فليعطنا السيد المسيح روح الإيمان والثقة في عمله الإلهي ومحبته لنا وسعيه لخلاصنا، ونؤمن أنه هو الطبيب الحقيقي الذي لنفوسنا وأجسادنا وأرواحنا، وهو الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون الذي له كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة من الآن وإلي الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
10 أبريل 2021

إنجيل عشية الأحد الخامس من الصوم الكبير(لو 18: 1– 8)

وقال لهم أيضًا مثلاً في أنه ينبغي أن يُصلى كل حين ولا يمل. قائلاً: "كان في مدينة قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا. وكان في تلك المدينة أرملة. وكانت تأتي إليه قائلة: انصفني من خصمي!. وكان لا يشاء إلى زمان. ولكن بعد ذلك قال في نفسه: وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنسانًا، فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني، أنصفها، لئلا تأتي دائمًا فتقمعني!". وقال الرب: "اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه. الصارخين إليه نهارًا وليلاً، وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم: إنه ينصفهم سريعًا! ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟". إنجيل القداس : شفاء الرجل المريض الراقد 38 سنة بجوار بركة بيت حسدا. إنجيل العشية : قاضي الظلم عنصر الزمن بالنسبة للإنسان يساوي الشيء الكثير ولكن في تدبير المسيح لكل شيء تحت السماء وقت... وميعاد وموسم... فهو ينضج الثمار في حينها ويعطي كل شيء في حينه الحسن. فبعد 38 سنة أشرق المسيح على هذا المريض البائس شبه اليائس وقال له: "أتريد أن تبرأ". لما وجد بصيصًا من إرادة شفاه بعد طول انتظار... فكثيرًا ما يأتي المسيح في الهزيع الرابع... ولكن مجيئه يكون كإشراق النور بعد طول ظلام وظلمة. ويهتف الإنسان هل يوجد رجاء؟... هل ربنا مازال يسمع الصلاة؟... هل؟ وأسئلة كثيرة. ولكن بمثل قاضي الظلم يلقي الرب ضوءًا على أن الله مستعد دائمًا ومستجيب دائمًا وهو يعطي أكثر مما نسأل. ولكن قال عن قاضي الظلم لم يكن يشأ إلى زمن، ولكنه عاد فأنصفها وقضى حاجتها لأجل لجاجتها. قال الرب يسوع: "اسمعوا ما يقول قاضي الظلم... أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً وهو متمهل عليهم. نعم أقول لكم أنه ينصفهم سريعًا". والحق يقال إن المسيح تكلم عن النقيض ولكن مع هذا النقيض كشف لنا عن مكنونات أسرار الله وقلبه نحونا. فالقاضي الظالم لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، التجأت إليه الأرملة فهل يقارن بالآب السماوي الحنون الذي نطرح أمامه توسلنا وهو كليّ الحب والحنان. والقاضي لا يربطه بالأرملة رباط ما. أما نحن فنلجأ إلى أبينا السماوي ونسكب توسلنا لديه بدالة البنين وثقة أعطاها لنا المسيح في شخصه. والقاضي ظالم لا يعرف العدل. أما ربنا فهو الحق والعدل ذاته وعدله رحيم ورحمته عادلة، لا يقرب إليه الظلم وليس عنده تغير أو شبه ظل يدور... ساكن في النور الذي لا يُدنى منه. والقاضي لا يشاء أن يسمع، أما مسرة ربنا ولذته في أن يسمع لنا فهو سامع الصلاة الذي إليه يأتي كل بشر. لم يعط القاضي الظالم المرأة الأرملة أذنًا صاغية بل كان كأنه لا يسمع ولا يرى... إلى أن ضج من لجاجتها، أما ربنا فهو يسمع حتى أنات القلوب ويقول: "من أجل شفاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب أصنع الخلاص علانية"... فهو مصغ لتنهد البائسين!!. لكن الأمر كما شرح المسيح أن الله "متمهل". صراخ المساكين داخل إلى قدام رب الصباؤوت. و مختارو الله الذين يسبحونه النهار والليل ويسألونه يسمع تضرعهم ويخلصهم ولا يتغاضى عن طلبتهم. إما أن يتمهل عليهم فهذه حكمة عالية عن فهم البشر، وإدراكهم. ولكن الثابت عندنا أنه يتمهل لأجل خيرنا ومصلحتنا. تمهّل على إبراهيم أبي الآباء ولكن بالنهاية أعطاه النسل الموعود به الذي فيه تتبارك جميع قبائل الأرض. وكانت صلوات إبراهيم قد بلغت مسامع القدير منذ البدء، وحين قال له إبراهيم "ماذا تعطيني؟" قال له الرب: "لا تخف أنا ترس لك... أنا أجرك العظيم جدًا". وتمهل على حنة أم صموئيل وحين جاء الوقت أنعم عليها بصموئيل النبي الذي صار نبيًا للرب وهو بعد صبي صغير. وتمهل على زكريا و اليصابات ولكن في الوقت المعيّن أرسل له جبرائيل رئيس الملائكة قائلاً: "طلبتك سُمعت". فالطلبة تُسمع حين نرفع قلوبنا إلى فوق وفي حال سؤال الصلاة ندخل طلبتنا إلى القدير. ولكن يوجد ميعاد وميقات للتنفيذ وحين يحل الميعاد تكمل الطلبة. هذا ما يتوازى مع الـ 38 سنة التي ظل فيها هذا الإنسان راقدًا... وليس له إنسان وقد حطم المرض ليس أعضاء جسده فقط بل وحتى نفسه أيضًا. ولكن منتظري الرب يجدون قوة... ولا يخزى منتظروه. لذلك يجب أن نركز رجاءنا في المسيح. مع المسيح لا مكان لليأس، ومهما تأخر لكنه حتى في الهزيع الرابع يأتي... ومتى جاء ينحسر المرض وتهرب الأوجاع. فإن كان الرب يتمهل علينا... ولكن لنتمسك بالرجاء كمرساة مؤتمنة للنفس وثابتة. كيف نطلب وماذا نطلب؟ نطلب بإيمان... لنطلب أولاً ملكوت الله وبره... لنطلب بحسب مشيئته الله وإرادته. قال الرسول يعقوب: "تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون رديًا"، وقال الرب: "إلى الآن لم تسألوا شيئًا باسمي... اطلبوا تأخذوا لكي يكون فرحكم كاملاً". وحين نطلب... نطلب بلا ملل... "صلوا ولا تملوا". ولتكن طلبتنا برجاء وثقة أنه مهما طلبنا ننال "كل ما تطلبونه في الصلاة آمنوا أنكم تنالونه". ونحن نطلب باسم يسوع متمسكين بوعوده "كل ما تسألونه من الآب باسمي يعطيكم إياه". ولسنا نطلب بحسب استحقاقنا ولكن من أجل احتياجنا وأمامنا هذه المرأة الأرملة وكيف نالت طلبتها. لذلك نطلب بلجاجة وبإلحاح عالمين أنه ليس لنا آخر سواء وأنه لا سبيل للحصول على النعمة التي تنقصنا سوى سؤال الصلاة والطلب والإلحاح... ونحن لا نكف عن الصلاة حتى نأخذ. لأننا نعرف أنه لا يتركنا نجرب فوق ما نحتمل بل يعطي مع التجربة المنفذ. المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
09 أبريل 2021

الجمعة الخامسة من الصوم الكبير: قصاص الإيمان

ارتباط فصول القراءات: قصاص الإيمان تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قصاص الإيمان" أي الهلاك الذي يحل بمن لا يؤمنون، فالنبوة الأولى تتكلم عن قيود الله للمؤمنين كما أوصى الشعب الإسرائيلي قديمًا إذا ما دخلوا أرض الموعد أن يهدموا الأصنام، ويذبحوا في موضع خاص، ويمتنعوا عن أكل الدم، والثانية عن إثبات قوة الإيمان لهم كما أثبتها إيليا لأرملة صرفة صيدا بإقامة إبنها من الموت ؛ والثالثة عن تحذيرهم من الآلهة الغريبة وعبادتها التي يسميها الكتاب زنا كما أوصى الحكيم في سفر الأمثال بضرورة الابتعاد عن الزانية. أما تسمية عبادة الآلهة الغريبة زنا فورد في مواضع كثيرة من الكتاب منها وصية الله لبنى إسرائيل ألا يزوجوا أولادهم من بنات يعبدون آلهة غريبة حتى لا " يجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن " (خر 34: 16)، ووصيته لهم أيضا أن يقدموا ذبائحهم عند باب الخيمة ولا يذبحوها "للتيوس التي هم يزنون وراءها" (لا 17: 7)، وكذلك شكواه منهم حينما عبدوا الآلهة الغريبة أيام القضاة وفيها يقول " ولقضائهم لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها" (قض 2: 17)؛ والنبوة الرابعة تتكلم عن مواعيده لهم كما وعدهم على لسان إشعياء بأن يكون معهم فلا يمسهم سوء ؛ والخامسة عن تحذيره لهم من البر الذاتي كما حنق اليهود على أيوب وأصدقائه لاعتقادهم في برهم الذاتي. ويعدهم المخلص في إنجيل باكر بملكوته إن حفظوا وصاياه كقوله لأحد الكتبة الذي أقر بأن أولى الوصايا هي محبة الله من كل القلب "لست بعيدًا عن ملكوت الله"، ويتوعدهم في إنجيل القداس بالهلاك إن لم يؤمنوا به كما توعد اليهود بقوله إنهم إن لم يؤمنوا به يموتون في خطيتهم. ويبين لهم الرسول في البولس أن الله يؤدبهم ليمنحهم ثمر البر للسلام؛ ويعزيهم بطرس الرسول في الكاثوليكون مناشدًا من يتألم منهم أن يستودع نفسه للخالق مستمرًا على مباشرة الخير ؛ ويوصى الإبركسيس الرعاة بوجوب افتقادهم دائمًا كما قرر بولس وبرنابا ضرورة ذلك. البولس من عبرانيين 12: 5 – 16 وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين يا ابني لا تحتقر تاديب الرب ولا تخر اذا وبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل إبن يقبله إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين فاي إبن لا يؤدبه أبوه ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون ثم قد كان لنا أباء اجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم افلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا لأن اولئك ادبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم واما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته ولكن كل تاديب في الحاضر لا يرى انه للفرح بل للحزن واما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلع وإصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفى اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى احد الرب ملاحظين لئلا يخيب احد من نعمة الله لئلا يطلع اصل مرارة ويصنع انزعاجا فيتنجس به كثيرون لئلا يكون احد زانيًا او مستبيحًا كعيسو الذي لأجل اكلة واحدة باع بكوريته الجهاد لما كان "كهنوت المسيح" هو الموضوع الرئيسي لهذه الرسالة، حيث يقدم لنا الرسول السيد المسيح بكونه رئيس الكهنة الأعظم، جالسًا عن يمين الآب في السماء بكونها قدس الأقداس، يشفع فينا بدمه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه، فقد ختم حديثه مؤكدًا أن هذه الشفاعة العجيبة لا توهب للمتكاسلين والمتراخين. لهذا بعد أن حدثنا عن الإيمان مقدمًا لنا أمثلة حية لرجال الإيمان، صار يحدثنا حديثًا مباشرًا عن التزامنا الحيّ، الذي بدونه لن ننعم بعمل السيد المسيح الكفاري. 1. الجهاد وسحابة الشهود "لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ" [١].إذ يحيط بنا الضعف فيمثل ثقلًا على النفس، تهاجمنا الخطية من كل جانب، لهذا يليق بنا أن نجاهد بغير انقطاع متطلعين إلى سحابة الشهود المحيطة بنا فنتمثل بهم في شهادتهم للحق. هذه السحابة هي "لنا" ليس فقط كمثالٍ نقتدي به لكنها "لنا" تسندنا بالصلاة لحسابنا.يشبه الرسول القديسين بالسحابة لأنها مرتفعة إلى فوق، تتحول إلى مطرٍ لتروي الأرض. هكذا المؤمن الحقيقي يحيا في السماويات لكنه لا يتجاهل النفوس الضعيفة الملتصقة بالأرض والتي لها طبيعة التراب، إنما يصلي من أجلها لكي يستخدمه الله كمطر يروي الأرض بالبركات العلوية، فتأتي بثمر روحي كثير.حينما يتحدث السيد المسيح عن مجيئه الأخير يؤكد أنه سيأتي على السحاب، وكأنه يأتي الرب جالسًا في قديسيه، السحاب الروحي المحيط به والحامل إياه. لنحيا كسحاب يطلب السماويات، دون تجاهل للأرض فنحمل ربنا يسوع فينا ونعلنه من يومٍ إلى يوم حتى يتجلى فينا بالكمال يوم مجيئه الأخير!لكي تكون لنا شركة مع "السحابة من الشهود" التي لم يستطع الرسول أن يحدد قياسها، قائلًا: "مقدار هذه"، ولكي نصير نحن أنفسنا جزءًا لا يتجزأ من هذه السحابة الإلهية يلزمنا أن "ِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا"، الأمور التي تفسد طبيعتنا وتحرمنا من التمتع بالخلقة الجديدة التي صارت لنا في المعمودية. ففي سفر إشعياء يتحدث النبي عن السيد المسيح القادم من مصر على سحابة خفيفة وسريعة (١٩: ١ - الترجمة السبعينية)، هذه التي تشير إلى السيدة العذراء عند هروبها إلى مصر حاملة السيد المسيح في حضنها، كما يقول القديس كيرلس الكبير، وفي نفس الوقت تشير إلى كل نفسٍ نقية وورعة تحمل يسوعها في داخلها وتسير به كسحابة سريعة خفيفة، لا يهدم ثقل الخطية طبيعتها ويعوق مسيرتها. 2. الجهاد والتأمل في آلام المسيح "لْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ، لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ" [١-٣].إن كانت شهادة القديسين هي عون لنا في جهادنا، نمتثل بهم وننتفع بصلواتهم، مقاومين كمن في حلبة صراع لنلقي عنا كل ثقل أرضي وخطية محيطة بنا لنرتفع مع السحابة الإلهية إلى فوق، ويكون لنا شرف حمل الرب في داخلنا. فإن آلام السيد المسيح من أجلنا حتى الموت موت الصليب هي ينبوع نعم إلهية تسندنا في هذا الجهاد؛ دعا الرسول السيد المسيح "رئيس الإيمان ومكمله"، فهو قائد المؤمنين في طريق الكمال الوعر، يدخل بهم إلى نفسه، لكي يعبر بهم من مجدٍ إلى مجد، فينعمون بالكمال أمام الآب خلال إتحادهم به.فآلام الصليب لا تُحتمل، وخزيه مرّ، لكنه في عيني السيد المسيح هو موضوع سرور وفرح، إذ يراه الطريق الذي به يحملنا إلى قيامته، ليجلسنا معه وفيه عن يمين العرش الإلهي. بالمسيح يسوع ربنا نفرح بالألم -بالرغم من مرارته القاسية- إذ نرى طريق الأقداس مفتوحًا أمامنا. احتمل السيد آلامه من أجلنا نحن الخطاة وليس من أجل نفسه، فكم بالحري يليق بنا أن نقبلها من أجل نفوسنا، خاصة وأننا نتقبلها في المسيح المتألم! 3. الجهاد حتى النهاية "لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ" [٤]. لم يقدم لنا الرسول هذه الوصية الخاصة بالجهاد الروحي حتى النهاية إلاَّ بعد أن قدم لنا أمثلة عملية وحية لمؤمنين مجاهدين من آباء بطاركة وأنبياء وقضاه وملوك، وأوضح لنا إمكانية الجهاد، إذ نحن محاطون بسحابة الشهود العاملين معنا، وفوق الكل أوضح عمل السيد المسيح المصلوب في حياتنا. لقد قبل الآلام بسرور مستهينًا بخزي الصليب، الأمر الذي يجعل جهادنا الروحي حتى الموت مقبولًا ومفرحًا. 4. قبول التأديب الإلهي مادمنا أولاد الله، فإن الله يسمح لنا بالتجارب والضيقات أثناء الجهاد على الأرض، لا للانتقام ولا للدينونة وإنما لمساندتنا. فهو يعيننا لا بلطفه بنا فحسب خلال الترفق، وإنما أيضًا بتأديبنا لأجل نفعنا الروحي. فالضيقة بالنسبة للمؤمن الحقيقي المجاهد قانونيًا هي علامة حية لاهتمام الله به من أجل بنيانه."وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُزْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ" [٤-٦].يقارن الرسول بين التأديب الذي نخضع له من آبائنا في الجسد والتأديب الذي يقع علينا من أبينا السماوي موضحًا النقاط التالية: أولًا: أن التأديب يُعطي للآباء الجسديين مهابتهم، فالطفل يهاب والده بكونه المُرَبِّي الحازم؛ "ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟" [٩]. هنا يؤكد الرسول عنصرًا هامًا وهو "المخافة الأبوية" فإننا وإن كنا أبناء الله، بذل الله أبونا ابنه الوحيد فدية عنا، وارتفع الابن عن يمينه ليشفع فينا، هذا يبعث فينا الدالة القوية لدى الله، فإن التأديب يهب الابن مخافة نحو أبيه تمتزج بالدالة، حتى لا تتحول الدالة إلى استهتار. لكن شتان بين المخافة التي تنطلق في قلب الابن والمخافة الممتزجة بالرعب في قلب الأجير أو العبد. الابن يخاف أباه لئلا يجرح مشاعره ويسيء إلى أبوته، أما الأجير فيخاف لئلا يُحرم من الأجرة، والعبد يخاف من العقاب. ثانيًا: آباؤنا الجسديون يؤدبوننا أيامًا قليلة حسب استحسانهم [١٠]، مشتاقين أن يروننا ناجحين في هذا الزمان الحاضر، نحقق أمنياتهم الزمنية فينا، أما الله فيؤدب لهدف أعظم: لأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته. هذه هي غاية تأديبه لنا، إذ يود أن يرانا شركاء في حياته المجيدة، نحمل سماته فينا، نتشبه به. هذه هي غاية الله من الإنسان، أن يراه كابن يحمل صورة أبيه. ثالثًا: " كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ" [١١]. فالابن يئن تحت ألم التأديب، لكن متى بلغ النضوج أدرك أن التأديب هو سرّ نجاحه وبهجة قلبه الأكيدة. هكذا تأديب الله لنا يقدم لنا في البداية نوعًا من الحزن، لكنه في نفس الوقت يهب ثمر برّ السلام. به ندخل إلى برّ المسيح المجاني فيمتلئ قلبنا سلامًا فائقًا. 5- مساندة الآخرين أحد العناصر الهامة في الجهاد الروحي هو مساندة الأعضاء بعضها لبعض، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالحياة مع الله وإن كانت تمثل علاقة شخصية خفية بين الله والمؤمن لكن ليس في فردية منعزلة، إنما هي حياة شركة بين الله وكنيسته الواحدة. كل عضو يسند أخاه في الرب، لكي يتشدد الكل معًا كعروسٍ واحدة. يقول الرسول: "لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ" [١٢]. ويعلق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلًا: [ليس شيء يجعل البشر ينهزمون سريعًا في التجارب وينهارون مثل العزلة، فإن العدو لا يقلق في سبيهم وأسرهم كفرادى.] الآخرون بالنسبة لك كما يشبههم الرسول هم الأيدي والركب، فإنك لا تستطيع أن تقاوم العدو الشرير إبليس إن كانت الأيدي مسترخية والركب مخلعة، فكل مساندة من جانبك لأخيك إنما هي مساندة لك أنت شخصيًا لأنه يمثل يديك وركبك! لهذا لا عجب إن ضعف الرسول بولس مع كل ضعيف، والتهب قلبه محترقًا مع عثرة كل إنسان، ويفرح ويتهلل مع توبة الغير!تقويم الأيادي المسترخية والركب المخلعة لا يكون بمساندة الآخرين بالكلمات النظرية وإنما بالحياة العملية الداخلية والسلوك الروحي الحيّ، إذ يكمل الرسول قائلًا: "اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ. مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" [١٤-١٥].هنا يركز الرسول على سمتين هامتين في الجهاد، تسندان النفس وتعينا الآخرين، هما إتباع السلام مع الجميع والتمتع بالحياة المقدسة. 6. الناموس القديم والملكوت الجديد إذ أراد الرسول تأكيد فاعلية وصية العهد الجديد وبركات الملكوت الجديد قارن بين طريق استلام الناموس في العهد القديم على يديّ موسى النبي على جبل سيناء وتقبل الكلمة الإلهي ذاته في العهد الجديد. أولًا: عندما تسلم موسى الناموس اضطرم الجبل الملموس بالنار بطريقة مادية واضحة وظلام وحدثت زوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات، الأمر الذي جعل الشعب يستعفي من السماع لله مباشرة، ولم يكن ممكنًا حتى للحيوانات أن تقترب من الجبل وإلا رُجمت أو رُميت بالسهام دون أن يلمسها أحد! هكذا كانت العلاقة بين الله والإنسان مرعبة وغامضة، أما في العهد الجديد فلا نرى شيئًا من هذا إذ التحم كلمة الله بنا خلال تجسده فلم يعد هناك رعب ولا غموض. هذه الأمور التي ظهرت مع استلام الناموس تكشف عن سماته؛ فالنار تشير إلى عقاب العصاة الرهيب، والضباب والظلام علامة الغموض وعدم الكشف عن الحق في كماله وإنما خلال الظل والرمز. ثانيًا: لم تقف حالة الرعب عند الشعب وإنما مست موسى النبي نفسه، إذ "قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!" [٢١]. أما الآن فالكلمة قريبة منا، في داخل القلب، إذ دخل "الكلمة الإلهي" في حياتنا، وصار له مسكنًا فينا. ثالثًا: عند استلام الشريعة الموسوية كان الشعب في البرية عند سفح الجبل، وكأن الناموس قد عجز عن أن يقدم للشعب الحياة السماوية المرتفعة، ويدخل بهم إلى أورشليم العليا، أرض الموعد. أما في العهد الجديد، فدخل بنا كلمة الله إلى السماوات عينها، وجعل منا محفل ملائكة: "بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ" [٢٢-24]. إنجيل القداس من يوحنا 8: 21 – 27 قال لهم يسوع ايضا انا امضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال اليهود العله يقتل نفسه حتى يقول حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال لهم انتم من اسفل اما انا فمن فوق انتم من هذا العالم اما انا فلست من هذا العالم فقلت لكم انكم تموتون في خطاياكم لانكم ان لم تؤمنوا اني انا هو تموتون في خطاياكم فقالوا له من انت فقال لهم يسوع انا من البدء ما اكلمكم ايضا به ان لي اشياء كثيرة اتكلم واحكم بها من نحوكم لكن الذي ارسلني هو حق وانا ما سمعته منه فهذا اقوله للعالم ولم يفهموا انه كان يقول لهم عن الاب "قال لهم يسوع أيضًا:أنا امضي وستطلبونني،وتموتون في خطيتكم، حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". (21)يقدم السيد المسيح تحذيرًا لغير المؤمنين، بأن جحودهم يدفعهم إلى الهلاك الأبدي. وكما يقدم السيد كلمات النعمة المشجعة لصغار النفوس، يقدم تحذيرات مرعبة للجاحدين قبل فوات الأوان. وكما قال: "يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا" (لو ٧: ٣٢). هكذا كثيرًا ما يفتح الرب باب الرجاء بالكلمات الطيبة اللطيفة، كما يستخدم التحذيرات الشديدة ليحفظهم من السقوط أو يقوموا مما سقطوا فيه."أنا أمضي": لقد طلبوا منه أن يمضي عنهم، فإنهم لا يطلبونه، ولا يريدون أن يسمعوا كلماته. وها هو يخبرهم أنه سيمضي، وبمضيه عنهم لا يجدون الحياة بل يموتون في خطيتهم. حين يحل بهم الضيق يطلبون عون المسيا المرفوض منهم والذي صلبوه فلا يجدونه حسب هواهم. يرفضونه ليطلبوا مسحاء كذبة لا يقدمون الحياة بل الغضب الإلهي."خطيتكم" جاء في اليونانية بالمفرد لا الجمع، إذ يركز على خطية الجحود ورفض السيد المسيح. هذا ويلاحظ أن الإنجيلي يوحنا قد ركز أنظارنا على السيد المسيح كمخلص العالم كرر أكثر من غيره من الإنجيليين فعل "يموت" واسم "خطية". فذكر فعل "يموت" ٢٨ مرة بينما ورد في متى ٥ مرات، ومرقس ٩ مرات، ولوقا ١٠ مرات، ولم ترد بهذه الكثرة في أي سفر في العهد الجديد، إنما جاء في الرسالة إلى رومية ٢٣ مرة. أما كلمة "خطية" فوردت ١٧ مرة في هذا الإنجيل بينما وردت ٧ مرات في متى، ٦ مرات في مرقس، و١١ مرة في لوقا. ومع هذا فإن الإنجيلي يوحنا لم يهدف إلى تركيز أنظارنا على الخطية وما تثمره من موت، وإنما مع خطورة الخطية القاتلة يركز على ساحق الخطية بصليبه لكي نعيش بروح النصرة والغلبة، ونمارس الحياة الجديدة عوض الموت الروحي. "تموتون في خطاياكم" (٢١). إن أخذت بالمعنى العادي الواضح أن الخطاة سيموتون في خطاياهم، وأما الأبرار ففي برهم. لكن إن أُخذ تعبير "ستموتون" بخصوص الموت لعدو المسيح (١كو ١٥: ٢٦) حيث أن من يموت يرتكب "خطية تقود إلى الموت" (١ يو ٥: ١٦)، فمن الواضح أن الذين وُجهت إليهم هذه الكلمات لم يكونوا قد ماتوا بعد. ربما تسأل كيف أن الذين لم يؤمنوا وهم أحياء سيموتون في وقتٍ ما. يجيب أحدهم ويقول إنهم إلى ذلك الحين لم يؤمنوا، ولم يخطئوا للموت، والذين لم تأتِ بعد إليهم الكلمة لم يرتكبوا خطية الموت. إنهم أحياء يعانون من المرض في نفوسهم، وهذا المرض ليس للموت (يو ١١: ٤).. لنهتم ألا يصيبنا "مرض للموت"، فمرضنا يمكن أن يُشفى (بالتوبة)، وهو متميز عن المرض الذي لا يُمكن شفائه (بالإصرار على عدم التوبة).لنقارن عبارة حزقيال: "النفس التي تخطئ تموت" (حز ١٨: ٢٠) بالقول: "ستموتون في خطاياكم"، لأن الخطية هي موت النفس. لست أظن أن هذا صحيح لكل خطية بل للخطية التي يقول عنها يوحنا أنها للموت (١ يو ٥: ١٦).إن كانت الخطية مرضًا خطيرَا يصيب الإنسان كله، نفسه وجسده، فقد ملَّكت الموت عليه. غير أنه إذ جاء كلمة الله المتجسد طبيبًا للنفس والجسد ميّز بين نوعين من الخطية أو نوعين من المرض. يوجد مرض ليس للموت (يو ١١: ٤)، بل لمجد الله، وذلك بالنفس التي تقبل كلمة الله، وتخرج من قبر الفساد، وتتمتع بحل الأربطة والشهادة للقائم من الأموات واهب القيامة. ويوجد مرض للموت مثل الذي يتحدث عنه السيد مع بعض السامعين له قائلًا إنه يطلبونه وسيموتون في خطاياهم، هذين الذين يصرون أن يبقوا في العصيان حتى يوم رقادهم، هؤلاء يرتكبون الخطية التي تقود للموت (١ يو ٥: ١٦).يقول: "أنا أمضي وستطلبونني" (21) ليس عن شوقٍ إلى، بل عن كراهية، لأنه بعد تحركه بعيدًا عن الرؤية البشرية طلبه كل من الذين أبغضوه والذين أحبّوه. الأولون بروح الاضطهاد، والآخرون بالرغبة في اقتنائه.من الخطأ ألا تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها التلاميذ، ومن الخطأ أن تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها اليهود. لآن هؤلاء الناس يطلبونه بقلب منحرف. ماذا أضاف؟ "تطلبونني" -ليس لأنكم تطلبونني للخير- لذلك "تموتون في خطيتكم". هذا يحدث من طلب المسيح بطريقة خاطئة ليموتوا في خطيتهم، خطية الكراهية للمسيح، ذاك الذي وحده يمكن أن يوجد فيه الخلاص. فإنه بينما الذين لهم رجاء في الله لا يردوا الشر بالشر هؤلاء يردون الخير بالشر."فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (22)حين قال قبلًا هذا ظنوا أنه يذهب إلى ولايات يونانية ليكرز بين اليهود الذين في الشتات، أما هنا فأدركوا أنه يتحدث عن موته. لقد حسبوه ليس فقط كواحدٍ منهم، بل أشر منهم لأنه ينتحر يأسًا."حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" (٢٢).. فإنه حين يموت أحد في خطيته لا يقدر أن يذهب حيث يذهب يسوع، إذ لا يقدر ميت أن يتبع يسوع. "لأن الأموات لا يسبحونك يا رب، ولا الهابطين في الهاوية، بل نحن الأحياء نحمدك يا رب" (مز ١١٣: ٢٥ - ٢٦).وقد ظهر سلطانه في أنه يموت بإرادته الحرة تاركًا الجسم خلفه من العبارة: "أمضي أنا".ربما جاء في التقاليد (اليهودية) عن المسيح أنه يولد في بيت لحم، وأنه يقوم من سبط يهوذا حسب التفاسير السليمة للكلمات النبوية؛ وأيضًا في التقاليد بخصوص موته أنه ينتزع نفسه من الحياة بالوسيلة التي قلناها. ويبدو أن اليهود عرفوا أن الذي يرحل هكذا يذهب إلى موضع لا يمكن أن يذهب إليه حتى الذين يفهمون هذه الأمور. لذلك لم يتحدثوا بطريقة حرفية عندما قالوا: "ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (٢٢)..على أي الأحوال أظن قد قالوا هذا عن خبث ما قد بلغ إليهم بالتقليد عن موت المسيح. وعوض أن يمجدوا ذاك الذي يرحل من الحياة بهذه الطريقة قالوا: "ألعله يقتل نفسه؟" "فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم". (23) فحسب الحكمة البشرية لا يقدر أحد أن يقرر مصير حياته إذا أنهاها بيده، لهذا حسبوه يتكلم عن موته بقيامه بالانتحار. ولعلهم أشاعوا هذا ليشوهوا صورته أمام الشعب، إذ يعتبر الانتحار جريمة يعاقب عليها الناموس، بكونه سفك دم إنسان: "أطلب أنا دمكم لأنفسكم" (تك ٩: ٥). تبقى صورة أخيتوفل المنتحر (٢صم ١٧: ٢٣) مثلًا خطيرًا للحياة الفاسدة. حقًا لقد قبل شمشون أن يموت بيديه مقابل الآلاف من الوثنيين الذين ماتوا معه، لكن الانتحار في ذهن الشعب هو خطية اليأس التي عقوبتها نار جهنم. وقد أشار إلى ذلك يوسيفوس المؤرخ، حتى قال بأنه يلزم دفن أجساد الأعداء فورًا، أما المنتحرون فتبقى أجسادهم بلا دفن حتى الغروب كنوعٍ من العقوبة. وذكر يوسيفوس أنه في بعض الأمم كانت تقطع الأيدي اليمنى للمنتحرين لأنها تجرأت وفصلت الجسم عن النفس، هكذا تنفصل هي عن الجسد.هذا هو الفكر اليهودي في عصر السيد المسيح، وكان الانتحار من الخطايا المعارضة تمامًا لأفكار كثير من الفلاسفة اليونانيين الذين يرون في الانتحار عملًا بطوليًا يستحق المديح، حيث ينهي الإنسان الحياة الزمنية بثقلها ليتمتع بحياة مكرمة ممتدة! يقدم لهم السيد المسيح علة عدم معرفتهم لشخصه وطبيعته، وعدم إدراكهم من أين جاء وإلى أين يذهب، وهو اختلاف طبيعتهم عن طبيعته. كأنه يقول لهم: أنتم قادرون أن تمارسوا القتل حتى لأنفسكم لأنكم من أسفل، وليس لله شيء فيكم. أنتم من أسفل، أرضيون، جسديون، شيطانيون.هم من الأرض ترابيون، وهو من السماء، الخالق غير المحدود. لهذا فهم في حاجة إلى إدراك لاهوته والإيمان به. "لأنكم إن لم تؤمنوا أنا هو، تموتون في خطاياكم" (٢٤). "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (٢٣).إذ كيف يمكن أن يكون من العالم ذاك الذي به خُلق العالم؟ كل من هم من العالم جاءوا بعد العالم، لأن العالم سبقهم، ولهذا فالإنسان هو من العالم.حيث كان المسيح قبل العالم، ولم يكن قبل المسيح شيء ما، لأنه "في البدء كان الكلمة، وكل شيء به كان" (يو ١: ١، ٣)، لذلك فهو من ذاك الذي هو فوق.. من الآب نفسه. ليس من هو فوق الله الذي ولد الكلمة مساويًا له، وشريك معه في الأزلية، الابن الوحيد في غير زمنٍ، والذي وضع أساس الزمن."فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم، لأنكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم". (24) يقول القديس يوحنا ذهبي الفم جاء لهذا السبب: لينزع الخطية عن العالم، وإن كان من المستحيل للبشر أن ينزعوها بطريق آخر سوى بالغسل، فالحاجة إلى أن الذي يؤمن يلزمه ألا يرحل من العالم وبه الإنسان العتيق، مادام الشخص الذي لا يذبح بالإيمان الإنسان العتيق ويدفنه يموت وفيه (الإنسان العتيق) ويذهب إلى الموضع يعاقب عن خطاياه السابقة."فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به". (25)جاءت إجابته على سؤالهم هكذا: "أنا هو البدء Arche"، كما تكلمت معكم في العهد القديم، لم أتغير. من البدء قيل أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥). إنه موضوع إيمان الآباء البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب). إنه هو وسيط العهد، موضوع نبوات الأنبياء. من بدء خدمته أعلن لهم أنه ابن الله، وخبز الحياة. لماذا يكررون السؤال وقد سبق الإجابة عليه مرارًا وتكرارًا، وقد أخبرهم أنه مخلص العالم. لقد سألوه: من أنت يا من تهددنا بهذه الطريقة؟ أي سلطان لك علينا؟"إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذي أرسلني هو حق، وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم". (26)يعلن السيد أنه قادر أن يفضحهم لأنه عالم بالخفيات، يعرف كبرياءهم وطمعهم ورياءهم وشرورهم وبغضهم للنور وحسدهم ضد الحق مع جحودهم وعدم إيمانهم وما سيفعلونه به. ما قيل عنكم بالأنبياء هو حق. لكنه ليس الآن وقت للدينونة بل للخلاص.هنا يعلمنا السيد المسيح أنه ليس كل ما نعرفه، خاصة عن شرور الآخرين، نقوله. إنما نطلب توبة الناس ورجوعهم إلى الحق والتمتع بالشركة مع الله."ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب". (27) إذ أعمى الشيطان بصيرتهم، وظنوه أنه يتحدث عن أب جسداني في الجليل، وليس عن الآب أبيه."فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي". (28)إذ يمتلئ شرهم بصلبه، عندئذ يدركون أنهم صلبوا رب المجد، وذلك خلال العلامات التي تحدث أثناء الصلب والقيامة وما بعد قيامته.كانت ذبيحة المحرقة تُدعى "رفع"، وفي كثير من طقوس التقدمات والذبائح ترفع الذبيحة إلى أعلى، وتُحرك أمام الرب. هكذا رُفع السيد المسيح على الصليب. وفي القداس الإلهي إذ يختار الكاهن الحمل يُدعى هذا الطقس "رفع الحمل". وبالفعل يضعه في لفافة ويرفعه على جبينه وهو يصلي: "مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس".يستخدم الكتاب المقدس كلمة "يرفع" لتعني أحيانًا "يمجد" كما استخدمها بطرس الرسول في عظته في يوم العنصرة: "وإذ ارتفع بيمين الله" (أع ٢: ٣٣)، والرسول بولس: "لذلك رفعه الله أيضًا" (في ٢: ٩). وفي العهد القديم قال يوسف: "في ثلاثة أيام أيضًا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك" (تك ٤٠: ١٣).وتُستخدم الكلمة أيضًا لتعني الهوان والموت، كما قال يوسف: "في ثلاثة أيام يرفع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة" (تك ١٤: ١٩)."والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". (29)إن كانوا قد نالوا سلطانًا ليقتلوه فهذا لا يعني أن الآب فارقه. فهو دائمًا معه، لا ينفصلان، وما يفعله الابن إنما يرضي الآب، وهو أن يبذل نفسه من أجل خلاص العالم.يقول القديس أغسطينوس عن "الذي أرسلني هو معي" (٢٩).. هذه المساواة في الوجود "دائمًا"، ليس من بداية معينة وما بعدها، بل بدون بداية وبلا نهاية. لأن الميلاد الإلهي ليس له بداية في زمنٍ حيث أن الزمن نفسه خلقه الابن الوحيد."وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون". (30)بينما تعثر الفريسيون والكتبة في كلماته وتعاليمه آمن كثيرون من الشعب به. فالشمس التي تجفف الطين هي بعينها التي تجعل الشمع يذوب. قدمت كلماته رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت.فليعطنا الرب أن نؤمن به إيمان حقيقي لتكون لنا الحياة الأبدية ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
08 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس المرأة الشونمية

وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة... مقدمة تختلف مقاييس الناس اختلافا بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم، ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور: من هي الشونمية لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم، وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه، وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!.. الشونمية ومظاهر عظمتها وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها بوضوح فيما يلي: عظمة التقوى رغم الحرمان من السهل على الإنسان أن يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله.. عظمة الخدمة دون انتظار الأجر ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على ظهر هذه الأرض!!.. عظمة السلام رغم وقوع الكارثة على أن المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه، وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع! هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام. الشونمية وجزاؤها المبارك كانت الشونمية، وهي تأخذ جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج، وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها، وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال السبع السنوات من المجاعة القاسية.أيتها الشونمية العظيمة! هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
المزيد
07 أبريل 2021

العمل الإيجابي البناء

ما أجمل وأعمق ذلك المثل الصيني الذي يقول:'بدلًا من أن تلعنوا الظلام، أضيئوا شمعة'.حقًا، إن مجرد لعن الظلام لا ينقذ أحدًا من ظلمته. ولكن الظلام ينقشع من تلقاء ذاته، بعمل ايجابي هو نشر النور، ولو علي الأقل بإضاءة شمعة وهكذا في أي مجتمع قد توجد أخطاء أو نقائص أو مشاكل. وإذا بمحبي الإصلاح يتجهون إلي اتجاهين: احدهما يضج ويصيح لكي يفضح هذه الأخطاء، أو انه يبكي بسببها وينوح وينعي الخير الذي ضاع أما الاتجاه الآخر، فهو العمل الايجابي الذي يكتب صفحة جديدة ناصعة في تاريخ المجتمع، في هدوء وفي قوة.. وهذا هو الأكثر ثباتًا وتفهمًا.اثنان ينظران نارا تشتعل في مبني.. فيقيم احدهما ضجة بسبب هذا الحريق.. أما الآخر ففي ايجابية يبذل كل الجهد في إطفاء النار اثنان يمران بشاطئ البحر.. وإذا بشخص في خطر يكاد يشرف علي الغرق.. فيظل احدهما يوبخه: كيف ينزل إلي البحر وهو لا يجيد السباحة؟! أما الآخر فينزل بسرعة لكي ينقذ ذلك الإنسان من الغرق.. وفي كل ذلك يبدو الفرق بين المنشغل بالسلبيات وبين العمل الايجابي البناء غالبية الناس يركزون جهدهم الإصلاحي في أن يلعنوا الفساد.. و هذا أمر سهل يقدر عليه كل احد. ولكن من بين كل هؤلاء من يهتم بشرح الأسلوب العملي الايجابي للقضاء علي الفساد. سهل جدًا أن توبخ فكرة خاطئة. ولكن الأصلح ايجابيًا أن تقدم الفكرة الصائبة، وتشرح أسلوب تنفيذها أتذكر وأنا شاب صغير أنه كان لي زميل في الدراسة يسرف في التدخين.. فأخذت أنصحه كثيرًا، وأحدثه عن مضار التدخين الذي فيه يفقد صحته وإرادته وماله.. وإذا بهذا الزميل يقول لي 'لا تتعب نفسك كثيرًا في الشرح.. فأنا بالخبرة أعرف أضرار التدخين أكثر منك ولكن المشكلة هي كيف يمكنني أن أتخلص عمليا من هذه العادة؟!نعم، إن الحديث عن الأخطاء سهل. أما العمل علي علاج تلك الأخطاء، فهو العمل الايجابي البناء.. والكلام الموجع ليس هو الذي يصلح الأخطاء.. إنما تصلحها الخطة الايجابية العملية الممكنة التنفيذ.كذلك هناك فرق بين شرح الخطأ للوقاية منه، وبين الحديث عن الأخطاء للتشهير بالمخطئين بأسلوب لا يصلحهم بل يثيرهم.هناك فرق جوهري بين الفأس التي تقلب الأرض لزراعتها، و الفأس التي تضرب في البناء لتهدمه..! ما أسهل الإدانة والشجب بإمكان كل شخص أن يدين وأن يشجب.. أما المساهمة الإيجابية في الإصلاح، فهي العمل النافع.. النقد سهل.. وقد يكون النقض أيضًا سهلًا إن كاتبا بسيطا يمكنه أن ينقد قصيدة لشاعر مشهور.. ولكن هذا الناقد ربما لا يستطيع أن يكتب بيتًا واحدًا من الشعر! وكثيرون من الذين يستهزئون بعمل غيرهم، هم أنفسهم لا يعملون! قد يدعي القدرة علي العوم أولئك الذين يقفون علي الشاطئ..فإن نزلوا إلي البحر وسط أمواجه حينئذ يختبر ادعاؤهم. إن السلبيات قد تهدم.. أما الايجابيات فهي التي تبني.. والهدم عمل سهل.. أما البناء فيحتاج إلي مهارة ووقت.. يستطيع شخص بقنبلة أن يهدم في لحظات عمارة شاهقة.. ولكن بناء أية عمارة يحتاج إلي هندسة وفن ومدي زمني.. وهذا البناء عمل انفع وابقي.وكما أن نقد الأخطاء لا يصححها، ولا التشهير بها يصلحها.. كذلك الحزن علي المشاكل لا يحلها.. بل يحلها العمل الايجابي.إن الحزن علي المريض لا يشفيه من مرضه.. إنما يكون الشفاء عن طريق وصف العلاج وتقديم الدواء.والحزن بسبب انتشار الجهل أو الأمية لا يفيد شيئًا، بل النافع هو نشر التعليم ومحو الأمية.ويوسف الصديق لم يحزن من فرعون علي سنوات الجوع القادمة. إنما قدم الحل الايجابي وهو تخزين القمح ليكون تموينا لسد احتياجات تلك السنوات. وكان هذا هو النافع عمليا.والمعروف أن كثيرين قد بكوا وحزنوا بسبب تجريف بعض الأراضي الزراعية واستخدامها في إقامة المباني. ولكن الحزن لم يحل تلك المشكلة.. إنما كان حلها بالعمل الايجابي الفعال، الذي تمثل في مشروع تعمير الصحاري واستصلاح الأراضي وحفر الآبار، وما نتج عنه من إضافة مئات الآلاف من الأفدنة إلي الرقعة الزراعية في بلادنا، مع ما صاحب ذلك من أعمال التنمية.كذلك إن كنا ذاهبين إلي مكان ما، ووجدنا قناة أو مجري من الماء يعوقنا عن الوصول: هل الحزن في هذه الحالة ينفعنا؟! أم أن الذي ينفعنا هو إقامة جسر نصل به إلي المكان الذي نريده؟هذا هو العمل الايجابي الذي يلزمنا في كل أمور حياتنا، أكثر من الضجيج والنقد والشجب والسخرية.والذين سجلت أسماؤهم في التاريخ، هم الذين انشغلوا بالعمل الايجابي البناء ، قد نجحوا فيه.ولعل أولهم في تاريخ مصر هو الملك مينا الذي وحد القطرين وانشأ أول مملكة مصرية في عهد الفراعنة.ونحن نذكر بالخير كل الذين ساهموا في العمل البناء في تاريخ مصر الحديث. ومن بينهم طلعت حرب الذي ساهم في بناء اقتصاد مصر، وأسس البنوك والشركات. وسعد زغلول الذي جاهد حتى صدر دستور سنة 1923 وقاسم أمين الذي جاهد لتحرير المرأة.. وأحمد لطفي السيد الذي عمل لإنشاء الجامعة، وغيرهم من البنائين المهرة.إن العمل الايجابي هو دائما العمل المفيد، وهو المقبول من الجميع، ولا يعترض عليه احد.هناك مؤرخون كتبوا التاريخ.. ولكن أعظم منهم من صنع التاريخ.. صناع التاريخ لا يمكن نسيانهم، سواء في مجال السياسة أو العلم.. قد يكتب المؤرخون عن استقلال الهند بعد خضوعها فترة للاحتلال البريطاني.. أما صانع هذا التاريخ فهو المهاتما غاندي الزعيم الروحي للهند، الذي لم يقم إطلاقًا بإيذاء احد. إنما بالعمل الايجابي البناء، أوصل الهند إلي الاستقلال، وصارت لها حكومة وطنية وبرلمان.كذلك لا يستطيع التاريخ أن ينسي برايل، الذي استطاع أن يخترع طريقة الكتابة علي البارز، للمكفوفين يستطيعون بها القراءة والكتابة.. وأيضًا كل الذين قاموا بعمل ايجابي بناء في مجال الطب والدواء لا يمكن أن ينساهم التاريخ.ونحن نري في مجتمعنا بعض مشاكل لا يمكن أن يحلها الصياح ولا الضجيج ولا التشهير.. إنما تحتاج إلي عمل ايجابي بناء هناك مشاكل اقتصادية. مشاكل تختص بالبطالة وبارتفاع الأسعار. كذلك مشكلة التضخم السكاني، ومشكلة الدروس الخصوصية ومشكلة الإثارة ومشكلة الجمع بين الانضباط والحريات ومشاكل أخرى اجتماعية وسياسية وفكرية كيف يمكن حلها جميعًا بطريقة عملية وحضارية في نفس الوقت؟بحيث نتعاون جميعا في الحل، بغير صراع واصطدام إن مشكلة البطالة مثلًا: لا يمكن أن تحلها مهاجمة المسئولين في الحكومات المتتابعة. فكيف تحل؟لو كنت أنت أيها القارئ رئيسًا للدولة أو رئيسًا للحكومة، فماذا كنت ستفعل عمليا؟ ماذا تقترح للحل؟علي أن يكون الحل يمكن تنفيذه، ومضمونة نتائجه عمليًا وعلميًا.. هل نطرح السؤال، ونتلقى الإجابات ونصنفها ونحللها؟هل نقيم ندوات لبحث موضوع البطالة من ندوات أخرى لبحث باقي المشكلات؟ نعم، ما الحل الايجابي العملي البناء؟ قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل