المقالات

28 مارس 2021

أحد الابن الشاطر: الأحد الثالث من الصوم الكبير: قبول التوبة

ارتباط قراءات الفصول: قبول التوبة تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قبول التوبة"، ففي إنجيل العشية يحذر المخلص المؤمنين مما يخرج من الفم فينجس الإنسان، وفي إنجيل باكر يبين لهم أن الذين يختارون منهم قليلون، ويصرح في إنجيل القداس أنه يقبل توبة التائبين، ويقرر في إنجيل المساء أنه يصعد أنفسهم من الجحيم.ويوصيهم الرسول في البولس أن يكونوا متسعين لقبول التائبين والصفح عنهم، وينبههم يعقوب في الكاثوليكون إلى ضرورة ضبط لسانهم حين يرشدون هؤلاء التائبين، ويحضهم الإبركسيس على ألا يثيروا بتعليمهم الشغب كما دافع بولس بذلك عن نفسه أمام الوالي. البولس من (2 كو 6: 2 – 13) لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك وفي يوم خلاص أعنتك هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تلام الخدمة بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار بمجد وهوان بصيت رديء وصيت حسن كمضلين ونحن صادقون كمجهولين ونحن معروفون كمائتين وها نحن نحيا كمؤدبين ونحن غير مقتولين كحزانى ونحن دائمًا فرحون كفقراء ونحن نغني كثيرين كان لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون قلبنا متسع لستم متضيقين فينا بل متضيقين في أحشائكم فجزاء لذلك أقول كما لأولادي كونوا انتم أيضا متسعين "لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك، وفي يوم خلاص أعنتك. هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص"[2]يقول اللَّه في إشعياء النبي: "في وقت القبول استحيتك، وفي يوم الخلاص أعدتك، فأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري" (إش ٨:٤٩). وقد اقتبسها الرسول عن الترجمة السبعينية. ما هو الوقت المقبول؟ مجيء المسيا هو وقت مسرة اللَّه ومراحمه الذي يتوقعه كل المؤمنين. ويوم الخلاص هو اليوم الذي فيه يقبل الإنسان خلاص اللَّه بالصليب ويتجاوب معه.كأن الرسول يقول ما قد تنبأ عنه إشعياء النبي واشتهاه مؤمنو العهد القديم قد تحقق الآن. لقد صالحنا مع الآب، وسلم التلاميذ والرسل كلمة المصالحة خلال ذبيحة المسيح، إذ به تمت المغفرة عن الخطايا ونلنا فيضًا من النعمة الإلهية. بهذا صار الرسل يعملون معًا مع اللَّه، ويقبلون نعمة اللَّه ليس باطلًا. "الآن" هو ملكنا، هو وقت مقبول ويوم خلاص، أما "غدًا" فليس في أيدينا ولسنا ندرك ما سنكون عليه إن أجّلنا قبول عمل اللَّه الخلاصي. اليوم وقت لقبول الروح القدس الذي يكشف جراحاتنا الخفية، وينير أعيننا لإدراك خطورة مرضنا الروحي، لكي يحملنا إلى الطبيب السماوي، فيهبنا غنى نعمته المجّانية الواهبة برّه الإلهي العجيب عِوض ضعفنا. ويقدم لنا خبرة عربون عدم الفساد، ونتمتع بقيامة النفس لكي يشاركها الجسد فيما بعد قيامتها ومجدها الأبدي. هذا هو يوم الخلاص، الوقت المقبول قبل أن تعبر من هذه الحياة فنجد الباب مغلقًا. + يقول الرسول: "الآن وقت مقبول، الآن يوم الخلاص".عن ذلك اليوم يقول القديس باسيليوس الكبير:[هذا هو وقت التوبة، أما الحياة المقبلة فهي للمكافأة. الآن هو وقت للاحتمال، وعندئذ سيكون يوم التعزية.الآن اللَّه هو المعين للرجوع عن الطريق الشرير، عندئذ سيسأل بمهابة دون أن يخطئ عن الأفكار والكلمات والأعمال التي للبشرية.الآن نتمتع بطول أناة، عندئذ سنعرف قضاءه العادل عندما نقوم، البعض في عقوبة لا تنتهي، والآخرون إلى حياة أبدية، فيتقبل كل واحدٍ جزاءً حسب أعماله.إذ يلتقي الإنسان باللَّه مخلصه يتأسف على الزمن الذي ضاع منه.] بلا عثرة "ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة" [3] فإيمان الرسول بولس وغيرته المتقدة وعمله الدائم من أجل خلاص نفسه والآخرين لم تدع مجالًا قط للعثرة. فقد كان الرسول بولس حريصًا كل الحرص ألا يعثر اليهود أو الأمم، فقد مات المسيح من أجل الكل. حينما يتحدث عن الناموس يحرص على تأكيد إنه صالح، وأنه لا يأخذ موقف المقاومة للناموس وإنما للحرف القاتل. وفي نفس الوقت لكي يربح الأمم يؤكد إنه لا حاجة للفرائض والتطهيرات الحرفية والرمزية. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم:- + لقد تركنا (الرب) هنا لنكون أنوارًا، لنعلم الآخرين، لنكون خميرة، نسلك كملائكة بين البشر، كرجالٍ مع أولادهم، كروحيين مع أناس طبيعيين فينتفعون منا، ونكون بذار تخرج ثمارًا.لا حاجة للكلمات مادامت حياتنا تضئ! لا حاجة للمعلمين ما دمنا نظهر أعمالًا! ما كان يوجد وثني لو كنا مسيحيين بحق! لو أننا نحفظ وصايا المسيح، ونحتمل الألم، ونسمح للغير أن يستفيدوا منا، إذ نُشتم فنُبَارك، نعامل معاملة سيئة فنصنع خيرًا، لما بقي أحد بعد متوحشًا ولا يرجع إلى الصلاح. + ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال! + لماذا هذا الكبرياء؟ لأنك تعلم بالكلام! ما أسهل ترديد الكلمات! علمني بحياتك هذا أفضل. + نحن محتاجون إلى سلوك حسن لا إلى لغة منمقة إلى الفضيلة لا إلى الخطابة الفذة، إلى الأعمال لا إلى الكلام! جهاده "بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام اللَّه، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات" [4] يكمل الرسول حديثه مظهرًا أنه هو وشركاءه في الخدمة يبذلون كل الجهد من أجل تحقيق خدمة المصالحة، مهما كلفتهم من ثمنٍ أو جهدٍ. ليس فقط يتحاشون أية عثرة، وإنما يعملون كي يظهروا خدامًا حقيقيين للَّه.يمدح القديس يوحنا الذهبي الفم الرسول بولس فيقول:[آه لو أعطيت أن ألقى بنفسي على جسد بولس، والتصق بقبره وأتطلع إلى تراب ذلك الجسد الذي أكمل نقائص (شدائد) المسيح، وحمل السمات وبذر الإنجيل في كل موضع؟! نعم! تراب ذلك الجسد الذي تكلم المسيح خلاله! يا لسروري أن أنظر تراب العينين اللتين عميتا بالمجد ثم استردتا بصيرتهما مرة أخري من أجل خلاص العالم! هاتان العينان اللتان وهما بعد في الجسد استحقتا معاينة المسيح! رأتا الأمور الأرضية وفي نفسي لم تنظراها رأتا الأمور التي لا ترى..أود لو أتطلع إلى تراب قدميه اللتين جابتا المسكونة بلا كلل.]ويقول مار اسحق السرياني: + دعى الرسول الطوباوي ذلك عطية علانية متى كان الإنسان مستعدًا في الإيمان أن يتألم من أجل رجائه في اللَّه. إنه يقول: "لقد وُهب لكم من اللَّه لا أن تؤمنوا بالمسيح فحسب، وإنما أن تتألموا أيضًا من أجله" (في 29:1).كما كتب القديس بطرس في رسالته: "إن كنتم تتألمون من أجل البر فطوباكم فإنكم تصيرون شركاء في آلام المسيح" (1 بط 14:3؛ 13:4). لذلك عندما تكون في طريق سهل ومتعة لا تفرح، وعندما تحل ضيقة عليك لا تكن متجهّم الوجه، ولا تحسب هذا كأمرٍ غريب عن طريق اللَّه. لأن طريق اللَّه قد طُرق بواسطة كل الأعمار وخلال كل الأجيال، خلال الصليب والموت. من أين أتيت بفكرة أن الأحزان التي بالطريق لا تخص الطريق؟ ألا ترغب في أن تتبع خطوات القديسين؟ أتودّ أن تسافر بطريق خاص من عندك ليس فيه ألم؟ الطريق إلى اللَّه هو صليب يومي. لا يصعد أحد إلى السماء بالطريق السهل. نحن نعلم إلى أين يقود الطريق السهل.ويستكمل القديس بولس الرسول كلامه فيقول:"كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين" [9] كان الذين يَبغضون الرسول بولس ومن معه يحسبون أن ما يحل بهم من ضيقات يومية هو ثمرة شرورهم، لكن هؤلاء الخدام إذ يكرزون بالكلمة يختبرون كل يوم قوة قيامة المسيح المبهجة في الضيقات."كمجهولين ونحن معروفون": وهنا كأن بولس الرسول يريد أن يقول لنا: قد يستخف الناس بالكارز ويحسبونه مجهولًا لا كيان له. بلا مركز مرموق في المجتمع، بينما السماء عينها تمجده. كان الرسول بولس ورفقاؤه غير معروفين للأشرار بينما كانوا معروفين تمامًا للمؤمنين المقدسين في الرب. كأننا نكرز خفية في خوف وخجل بينما نحن نشهد لخلاصنا علانية أينما وُجدنا، لا نفعل شيئًا في الخفاء. "كمائتين وها نحن نحيا" وذلك خلال المخاطر المستمرة والاضطهادات والأتعاب حيث نعاني من ميتات كثيرة، لكننا في هذا كله نختبر الحياة الجديدة المقامة كعطية توهب لنا خلال الشركة مع المسيح غالب الموت.ويستكمل الرسول بولس حديثه فيقول:"كحزانى، ونحن دائمًا فرحون، كفقراء، ونحن نُغني كثيرين، كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء" [10] + "كحزانى ونحن دائما فرحون": في كل الظروف وبالرغم من كل الاضطهادات والشدائد نبدو كحزانى لكن الفرح لا يفارقنا، لأننا نتمتع بتهليل الغلبة والنصرة: فقد غلبنا ونغلب ونبقى بالنعمة الإلهية غالبون. تعزيات الروح القدس وسط الضيق لا تفارقنا. + "كفقراء ونحن نغني كثيرين": يُحتقر الكارز كفقيرٍ لا يقتني شيئًا من هذا العالم بينما يقدم للقلوب الفارغة من فيض غنى مخازن المسيح. ليس له فضة ولا ذهب، ولا بيوت وأراضٍ لكنه يقدم ملك السماء والأرض الذي في أعماقه ليتمتع الكثيرون به ويشبعون. + "كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء": في المظهر لا نملك شيئًا، في الأعماق نتمتع بكنوز النعمة الفائقة، وشركة المجد الداخلي، وعربون ميراث الملكوت الأبدي! الإنجيل من لو 15: 11 – 32 وقال إنسان كان له ابنان فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال فقسم لهما معيشته وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف فلما انفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير وكان يشتهي أن يملا بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطه احد فرجع إلى نفسه وقال كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا أقوم واذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه وإذ كان لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله فقال له الابن يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا فقال الأب لعبيده اخرجوا الحلة الأولى والبسوه واجعلوا خاتما في يده وحذاء في رجليه وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح لان ابني هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد فابتدأوا يفرحون وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما فغضب ولم يرد أن يدخل فخرج أبوه يطلب إليه فأجاب وقال لأبيه ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن فقال له يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لان أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد مثل الابن الضال (مثل الابن الشاطر) (لو 15: 11 – 32).يدعى " مثل الابن الضال " أو " مثل الابن الشاطر " أو " مثل الأب المحب "لأنه بقدر ما يكشف عن جفاف قلب الابن الهارب من وجه أبيه المحب يشتاق الأب إلى عودته ليستقبله بالقبلات دون عتاب أو جرح لمشاعره، بينما وقف أخوه خارجًا في تذمر من أجل محبة الأب له." إنسان كان له ابنان، فقال أصغرهما لأبيه يا أبى أعطني القسم الذي يصيبني من المال، فقسم لهما معيشته، وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله بعيش مسرف " (لو 15: 11 – 13). المثل الذي بين أيدينا يقدم صورة مرة لعلاقة الإنسان بأخيه فيظهر الأخ الأكبر رغم ما يبدو عليه من تعقل وأمانة في العمل لكنه لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه الراجع إلى بيت الآب، بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن الراجع إليه.إن ظهور ابنين في المثل يكشف عن أمور كثيرة منها: لا يمكن الحكم على أحد ما دام لا يزال في طريق الجهاد، فقد ظهر الأصغر في بدء حياته إنسانًا محبا للملذات،.. لكنه يرجع بالتوبة إلى الأحضان الأبوية ليظهر لابسًا الثوب الجديد وخاتم البنوة وحذاء في قدميه ومتمتعًا بالوليمة في بيت أبيه، أما الآخر فقد بدأ حياته إنسانًا لطيفًا في معاملاته،.. لكنه يختم حياته بالوقوف خارجًا ينتقد أباه على حبه ويغلق قلبه نحو أخيه فيفقد سلامه الداخلى وفرحه ليعيش بقلب مناقض لقلب أبيه.كان الابن الأصغر متجاسرًا إذ طلب نصيبه من الميراث ووالده لا يزال حيا، أراد أن يتمتع بنصيبه بخروجه خارج بيت أبيه، حاسبًا الارتباط ببيت أبيه هو مذلة وعبودية وقيد يجب التحرر منه ليعيش حسب إرادته الذاتية وهواه، فإذا به ينفق ماله في عيش مسرف.إن الشخص المسيحي الساقط في البر الذاتي هو أبشع من الأممي (غير المؤمنين) ومن اليهودي الذي بسبب كبرياءه لم يتمتع بالخلاص الأبدي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأن المسيحي يتمتع ببركات جديدة وعطايا إلهية فائقة يستغلها للشر، على أي الأحوال يفتح ربنا يسوع خلال هذا المثل أبواب الرجاء للجميع، لا يزال الله ينتظرنا فاتحًا ذراعيه ليتقبلنا كأولاد له نعود إلى بيت أبينا.نعود إلى الابن الضال لنراه هاربًا من بيت أبيه، حاسبًا في هذا تمتعًا بالحرية، إن من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه، وما هذه الكورة البعيدة التي سافر إليها سوى " الأنا "، فينطلق الإنسان في كمال حريته بغباوة من الحياة السماوية، التي هي " الحب " إلى الأنانية حيث يتقوقع الإنسان حول ذاته، فيصير كمن هو في كورة بعيدة. "فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج" ع 14.إذ تهرب النفس من الله مصدر الشبع وكنز الحكمة تجد نفسها قد دخلت إلى حالة فراغ داخلي فتكون كمن في " مجاعة ".خلقت النفس البشرية على صورة الله ومثاله، لن تشبع إلا به بكونه الأصل، العالم كله بإغراءاته والجسد بشهواته والحياة الزمنية بكل أحداثها لن تملأ فراغ النفس التي تتطلب ذاك اللانهائي يملأها. " فمضى وألتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله، ليرعى خنازير، وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد " ع 15، 16.يبدو أن هذا الرجل يشير إلى رئيس هذا العالم، وقد ذهب هذا الابن إلى حقوله (حقول الخنازير)، وفيها يرعى الخنازير التي طلبت الشياطين أن تدخل فيها فاندفعت إلى جرف هذا العالم (مت 8: 32) هذه الخنازير تعيش على النفايات والنتانة.الخاطئ لا هم له سوى أن يملأ بطنه، الطعام المناسب لهم هو الخرنوب الفارغ في الداخل ولين في الخارج، " فلم يعطه أحد " إذ لا يمكن لأحد غير الله أن يهب الحياة. "فرجع إلى نفسه، وقال: كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا ؟! أقوم وأذهب إلى أبى.. " ع 17، 18.هذا هو طريق التوبة: " رجع إلى نفسه "، ماذا يعنى هذا؟ ليتنا نميز بين" الذات "وحب الإنسان لنفسه بمعنى حبه لخلاصها، هذا ما أكده السيد المسيح حين أعلن من يهلك نفسه يخلصها.فرجوع الإنسان إلى نفسه يحتاج إلى عمل إلهي ينير بصيرة الإنسان الداخلية ليكتشف فقره التام بل وموته وفي نفس الوقت يدرك عمل الله الخلاصي ومحبته له فيمتلئ رجاء."وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك أبنا، اجعلني كأحد أجراءك.. " ع 18، 19 ونلاحظ هنا أن الروح القدس الذي يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء في الله واهب القيامة من الأموات، لكن بروح الاتضاع يهبنا أن نعترف بخطايانا، فالابن الضال بثقة يقول " يا أبى "، وبروح الاتضاع يعلن أنه مخطئ وغير مستحق للبنوة طالبًا قبوله كأجير. "أخطأت إلى السماء وقدامك".. هذا هو الاعتراف الأول.. قدام سيد الرحمة، أمام ديان الخطية.عندما يلوم الإنسان نفسه يخفف ثقل ضلاله، ويقطع عنه حدة الاتهام.. إننا لا نخسر شيئًا عندما نعترف بما معروف لديه. "فقام وجاء إلى أبيه" ع 20 إذ رجع الابن الشارد بذهنه إلى بيت أبيه أدرك أن المسافة مهما طالت بينه وبين أبيه لا تمثل عائقا. جذبته أبوة أبيه وسحبت ذهنه ليجد طريق العودة ليس طويلًا ولا مستحيلًا، فقام منطلقًا أيضًا بالعمل، سائرًا نحو أبيه، وكأنه يسمع صوت النبي زكريا هكذا قال رب الجنود: ارجعوا إلى يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود " (زك 1: 3)." وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن، وركض، ووقع على عنقه وقبله، فقال له الابن: يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنًا، فقال أبوه: أخرجوا الحلة الأولى.. " ع 20 – 22.يكشف هذا المثل عن أبوة الله الحانية، فإنه وإن كان لا يلزم الإنسان بالرجوع إليه، لكنه إذ يراه من بعيد منطلقًا نحوه يركض هو مسرعًا لا ليعاتبه أو يوبخه وإنما ليقع على عنقه ويقبله.. إنه ينصت لاعتراف ابنه المخطئ لكنه لا يسمح له بالمذلة، فلا يتركه يقول: " اجعلني كأحد أجراءك "، إنما يطلب له ثوب الابن وخاتمه، مكرمًا إياه في بيته! " فقال الأب لعبيده: أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده، وحذاء في رجليه، وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوجد، فابتدأوا يفرحون " ع 22 – 24.أن الأب لا يوجه حديثه لابنه الراجع بل لعبيده، أو وكلائه، فإن كان التائب هو الذي جاء متوسلًا لكنه ينال الإجابة لا خلال كلمات موجهة إليه، وإنما خلال أعمال الرحمة التي تقدم له.إن هؤلاء العبيد هم الأرواح الخادمة، والملائكة، فالحلة الأولى هي الكرامة التي فقدها آدم، وهي ثوب الحكمة التي بها غطى الرسل عرى جسدهم، وبها يكتسي كل إنسان.الخاتم الذي في اليد هو عربون الروح القدس،وهو صك الإيمان الصادق وختم الحق.الحذاء في القدمين هما الاستعداد للبشارة بالإنجيل كي لا تمس الأرضيات هذه الأمور الثلاثة (الثوب، الخاتم، الحذاء) قدمها السيد المسيح للبشرية الخاطئة، ليقيم منها أبناء الله الحي، الذين يرتدون ثوب العرس اللائق بالوليمة السماوية، ويحملون خاتم البنوة، ويسترون أرجلهم ويحفظونها من أتربة هذا العالم ودنسه أثناء عبورهم خلال كلمة الكرازة.ما هو العجل المثمن الذي قدم في الوليمة ليأكل الكل ويشبعوا ويفرحوا سوى الرب يسوع، الذي دعى هكذا مقدمًا جسده الذي بلا عيب ذبيحة، وسمى "المُسَمَّن" بسبب غناه وتكلفته إذ قادر على خلاص العالم كله.إن كان الابن قد أسلم جسده ذبيحة من أجل خلاص البشرية، والآب قد فرح وتهلل من أجل هذا العمل المفرح وطالب السمائيين أن يتقدموا لينظروا ويفرحوا بالإنسان القائم إلى الحياة السماوية بعد موته إلا أن الابن الأكبر الذي يشير إلى المتكبرين من اليهود قد وقف خارجًا لا يريد أن يدخل ويفرح مع الكل، إذ يقول السيد المسيح."وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا، فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما. فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك، وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي، ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن.فقال له: يا بنى أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد " ع 25 – 32.يُعلِّق القديس أمبروسيوس على تصرف هذا الابن الأكبر، قائلًا:[دين الابن الأكبر، لأنه جاء من الحقل. هنا الحقل يشير إلى الاهتمام بأعمال الأرض والجهل بأعمال روح الله (1 كو 2: 11).اشتكى لأنه لم يُعط جديًا ليذبحه، مع أن حمل الله قد ذُبح لغفران الخطايا، لا لذة الجسد.يطلب الحاسد جديًا ليذبحه، بينما يشتهي البار أن يُذبح من أجل حمل الله! بسبب الحسد أصيب الأكبر بشيخوخة (روحيَّة) مبكرة، وقد ظل خارجًا بسبب عدم محبَّته. الغيرة (الشرِّيرة) التي فاض بها قلبه طردته خارجًا! إنه أحد الذين لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم، بينما ينتقدون القذى التي في الآخرين.إنه يغضب، لأن الغير ينال غفرانًا ونعمة! يا لعدم احتمال جنود الشر الروحيَّة، إذ لا تطيق أن تسمع ترانيم الفرح وتلاوة المزامير! وهنا يشير الابنان إلى شعبين، الأصغر يمثل الأمم، والأكبر إسرائيل الذي يحسد الآخر من أجل تمتعه بالبركات الأبديَّة. احتج اليهود عندما دخل المسيح ليأكل عند الأمم، لذا طلبوا جديًا كتقدَّمة أثيمة مكروهة.يطلب اليهودي الجدي (باراباس)، والمسيحي يطلب حملًا (المسيح)، لذلك أطلق لليهود بارباس وقدَّم لنا المسيح ذبيحة. حل بهم منذ ذلك الحين فساد الإثم بينما نلنا نحن غفران الخطايا يشير الابن الأكبر للفرِّيسي الذي برر ذاته في صلاته المملوءة غرورًا، هذا الذي حسب نفسه أنه لم يكسر وصيَّة الله مطلقًا، بممارسته لحرف الناموس (18: 11). بقسوة اتهم أخاه أنه بدد ميراث أبيه مع الزواني، مع أنه كان يجب أن يحترس في كلماته لأن الرب يسوع جاء لأجل العشارين والزواني.لم يُطرد الابن الأكبر، إنما وقف على الباب ولم يرد أن يدخل، إذ لم يقبل إرادة الله التي دعت الأمم للإيمان، بهذا صار الابن عبدًا، "لأن العبد لا يعرف إرادة سيِّده" (يو 10: 14)، وعندما عرفها غار وصار معذبًا من أجل سعادة الكنيسة، وبقي هو خارجًا. مع هذا أراد الأب المحب أن يخلصه، إذ قال له: "أنت معي في كل حين".. يا حبذا لو أبطلت حسدك، "كل ما هو لي فهو لك"، فإذ لك أسرار العهد القديم كيهودي، وتنال أسرار العهد الجديد إن اعتمدت أيضًا.] + الآن إذ كان أخوه الأكبر في الحقل وقد جاء إلى البيت سمع صوت موسيقى ورقصًا، فدعى أحد العبيد وسأله ما عسى أن يكون هذا. الابن الأكبر يُفهم بكونه الشعب اليهودي الذي كان في الحقل يخدم الله لأجل التمتع بممتلكات أرضية. ففي العهد القديم على وجه الخصوص كانت السعادة الأرضية وعدًا لمن يعبد الله.جاء إلى البيت وسمع موسيقى. الصوت المتناغم معًا يُسمى موسيقى، لأنه حينما يتفق كل الذين يخدمون الله في محبَّة يتممون قول الرسول: "أطلب إليكم أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا" (1 كو 1: 10) حينما يصير المسيحيون هكذا يبعثون موسيقى، أي صوتًا متناغمًا يسرّ الله، ويتحقَّق فيهم المكتوب: "كان لهم قلب واحد ونفس واحدة" (راجع أع 4: 32). لقد سأل أحد العبيد، أي قرأ أحد الأنبياء.. إشعياء أو إرميا أو دانيال، إذ كرز الكل بمجيء المسيح وبالفرح من أجل مصالحة الأمم.قال له العبد: "أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن" [27]، فغضب ولم يرد أن يدخل [28].غضبه هذا يعني مقاومة الشعب اليهودي لخلاص الأمم. حقًا فإنهم إلى هذا اليوم في غيرة من الكنيسة يقاومونها. أما الحقيقة التاليَّة هي أن الأب "خرج يطلب إليه" [28] ربَّما تعني أنه في نهاية العالم سيقبل كل اليهود الإيمان خلال رحمة الله، كقول الرسول بولس: "إلى أن يخلص ملئ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26) بقوله: "قط لم أتجاوز وصيتك" [29] عني أن اليهود بدوا كمن عبدوا الله الواحد، وعندما اشتكى: "وجديًا لم تعطني قط" تُفهم عن المسيح. فإن المسيح وهو حمل الله دين كجدي بواسطة اليهود، أي دين كخاطئ. لهذا فالمسيح بالنسبة لنا هو حمل، وبالنسبة لهم هو جدي. الذين اعتقدوا أنه خاطئ وليس بارًا لم يستحقوا التمتع بوليمة جدي مذبوح أو حمل كذبيحة.عندما قال الأب: "أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك" [31] يعني بذلك عبادة الله الواحد وكتابات العهد القديم والأنبياء الأمور التي بالتأكيد تخص الله وقد بقيت مع اليهود على الدوام.فليعطنا الله أن نحيا حياة التوبة لنرجع إلى حضن أبونا السماوي قائلين له "أخطأت في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أدعي لك ابنًا بل اجعلني كأحد أجرائك أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
27 مارس 2021

عشية الاحد الثالث من الصوم الكبيرمت 10:15-20

ثم دعا الجمع وقال لهم: "اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينخس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان"،. حينئذ تقدم تلاميذه وقالوا له: "أتعلم أن الفريسين لما سمعوا القول نفروا؟ " فأجاب وقال: "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. اتركوهم. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة". فأجاب بطرس وقال له: "فسر لنا هذا المثل". فقال يسوع: "هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟ وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان". اختار الآباء معلمو الكنيسة هذا الفصل من الإنجيل ليقرأ فى عشية الأحد الثالث تمهيداً لإنجيل القداس.. فقد بكَّت الرب الكتبة والفريسين الذين داسوا الوصية "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ" (مت 15 : 4). وأبطلوها بفتوى أنه ممكن للإنسان أن يتبرع بقيمة ما يعطيه لأبيه يتبرع به للهيكل ويتحلل من أن يعول أبيه وأمه أو يكرمهما. وهكذا أعاد الرب – واضع الوصية - هيبتها ومفعولها الذى يجب أن يكون لها ككلمة الله. والواقع أن رباط البنوة والأبوة هو غاية قصد المسيح، فإما طاعة وخضوع للأب أو خروج عن الطاعة. على أن فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً والدخول إلى سرها تتوقف عليه الحياة كلها. فكل منا ابن لأبيه وقد مارسنا حياة البنوة وعشناها والذين صاروا أباء لأبناء أدركوا ما هى الأبوة. فمن جهة البنوة فكل إنسان مارسها نحو أبيه فيعرف ما عليه كإبن وكيف يرضى الأب. والعجيب جداً أن هذا الرباط لا يمكن وصفه بالكلام ولا باللسان. هل يستطيع أحد أن يعبر عما فى قلبه نحو أبيه أو يصف ما يربطه مع أبيه من مشاعر؟ يستحيل لأن الشعور الحقيقى للإبن أن أباه هو مصدر حياته، لقد أخذ حياته ووجوده فى العالم من أبيه، فهو الأصل. كلمة أب كلمة سريانية معناها أصل. فالإبن مرتبط بأبيه برباط حياة.. حياة من حياة. فهى ليست علاقة رئيس بمرؤوس، أوسيد وعبد، أو مدير وموظف، إنها صلة أب بإبن. لذلك ما يعمله الإبن الحكيم الخاضع لأبيه لا يعمله حباً فى أجر، حاشا، فالإبن يعمل مسرة أبيه ولا يطمع فى أجر أو ثواب لأن كل ما للأب له.. إنه إبنه. ولا يعمل إرادة أبيه خوفاً من عقاب.. فهذا شأن العبيد بل كل مسرة الإبن تكمن فى تكميل مشيئة أبيه وحفظ كلامه.. لا توجد راحة للإبن الفطِن إذا كسر كلمة أبيه أو خالف وصيته.. نفسه تصير فى حزن لا ترتاح حتى يكمل مشيئة أبيه. "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ»، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ" (أف 6 : 2). هكذا يطلب منا الرب نحو أباء أجسادنا.. فكم بالحرى أبوكم الذى فى السموات. لقد قالها الرب فى القديم: "إِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا... فَأَيْنَ هَيْبَتِي" (ملاخى 1 : 6) وصايا الآب ليست ثقيلة الأباء الخُطاة يعرفون أن يعطوا أولادهم عطايا جيدة.. فكم بالحرى الآب السماوى. لا يوجد أب فى الوجود يوصى أولاده وصايا تضر بمصلحتهم.. أو تؤذيهم أو تكون ثقيلة عليهم. إن كل وصايا الإنجيل.. هى كلمات الأب لأبنائه.. تحوى كل الحب وكل النصح للحياة.. كلها فى مصلحتنا وكلها لراحتنا وحفظنا. لا توجد وصية ثقيلة.. وصاياه ليست ثقيلة.. نير المسيح هيّن. هلم نأخذ الإنجيل بفهم.. إنه كلام الأب لإبنه.. من يرفض كلمة أبيه ووصاياه ويترك بيته لا يجنى سوى التعب والهم والضياع.. وحتى خرنوب الخنازير لا يجده. اكرم أباك بحفظ وصاياه. اكرم الرب من كل قلبك لأنه يعرف مكنونات قلبك + لا حياة ولا راحة ولا سلام لك بعيدأ عن حضن أبيك ولا شبع لنفسك بعيداً عن مائدة غنى المسيح. + الرجوع والتوبة معناها أن الإنسان عاد إلى طاعة أبيه بعد زمن جهالة وعصيان.. وعرف أن وصايا أبيه ليس كما ظن أنها قيود وعبودية. + إن عقوبة عدم إكرام الأب كانت الموت بدون رحمة "مَنْ شَتَمَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً" (خر 21 : 17). كانت ترجمه كل الجماعة إن كان إبناً معتنفاً لا يكرم أباه. فماذا نقول عن من يهين الآب السماوى ولا يكرمه فى حياته، بل يكسر وصاياه ويستهين بحبه ولا يعمل له حساباً فى حياته؟ ترى ماذا يكون لمن يحتقر حب الآب السماوى ويخرج على طاعته ويطلب أن يحيا لذاته فى كورة بعيدة.. وتحلو له حياة الخطايا.. + وماذا نقول عن الذين يكرمونه بشفتيه كقول اشعياء وقلبهم مبتعد عنه بعيداً. + وماذا عن الذين يحفظون كلام الناس ويعملون حساب للناس ولكنهم داسوا وصاياه.. ولكن على كل حال قلب الآب نحونا وحنانه الإلهى يغلب تجبرنا ويجذبنا من كل الكورة البعيدة. هو ينظر وينتظر رجوعنا، ففرحه برجوعنا لا يوصف.. عيناه ترقبان خطانا ونحن نقترب إليه.. وينتظر اللحظة التى فيها سيركض لاستقبالنا ويضمنا مرة أخرى إلى صدره ليشفى ارتدادنا.. ويخلع عنا ثوب نجاساتنا ليلبسنا الحلة الأولى.. فهل نرجع إليه؟ "لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ" (مت 15 : 11). كثيراً ما يقول البعض كلمة المسيح هذه عن الصوم ولكن لم يكن حديث الرب عن الصوم بل عن الأكل بأيدى غير مغسولة. وكان الفريسيون يعترضون أن تلاميذ الرب يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم وهم بذلك يكسرون تقليد الشيوخ. فغار الكتبة والفريسيون على كسر تقليد الشيوخ بينما أصابتهم البلادة حينما كسرت وصايا الله. وهذا ما نفعله كثيراً حينما نغار على أشياء كثيرة أصبحت ذات اهتمام كبير فى حياتنا.. بينما لا نتحرك ساكناً حينما نكسر وصايا المسيح أو نتهاون.. لا نغار على الفضيلة بقدر غيرتنا على بعض عاداتنا أو تقاليدنا أو العرف السائد بين الناس. لتكن وصية المسيح هى الشغل الشاغل، وهى تأتى دائما قبل كل شئ وأول الأهتمامات.. ولكن حين تحيَّز الكتبة والفريسيون وتغصبوا للتقاليد التافهة أكثر مما انحازوا لوصايا الله أصابهم عمى القلب وفقدوا التمييز.. لذلك قال الرب عنهم "هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ" (مت 15 : 14). لقد أغمضوا عيونهم عن الحق وقادوا الناس بعيداً جداً حتى أسقطوهم فى حفرة الهلاك. (عن كتاب: تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد) المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
26 مارس 2021

الجمعة الثالثة من الصوم الكبير: أمان التوبة

ارتباط فصول القراءات: أمان التوبة تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "أمان التوبة" أي حياة الأمان من عدوان الشيطان التي يحياها التائبون ؛ فالنبوة الأولى تتكلم عن أمانة الله معهم كما أدخل بنى إسرائيل أرض الموعد من أجل آبائهم، والثانية عن نصرته لهم على أعدائهم كما نصر داود على شاول، والثالثة عن تحذيرهم من الكبرياء كما حذر إشعياء إسرائيل، والرابعة عن تنفيرهم من الشر كما بين أليفاز لأيوب ذلك، والخامسة عن وصاياه لهم كما أوصى يشوع بن سيراخ. ويتكلم إنجيل باكر عن إقامة الله لهم يوم الدين كما ورد في مسألة المرأة ذات الأزواج السبعة، وإنجيل القداس عن تأمينه لهم كما فعل مع الأخرس الذي أخرج منه الشيطان. أما رسالة البولس فتتحدث عن طمأنينتهم كما أطاع إبراهيم الله وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب، والكاثوليكون عن ضرورة ثباتهم في الإيمان كما أوصاهم بذلك يهوذا الرسول، والإبركسيس عن تقوية الله لهم في شدائدهم كما وقف ببولس ليلًا وقواه. النبوات.. (تثنية 9، 10) الإصحاح التاسع بماذا يتبرر الشعب ؟ في الإصحاح السابق ركز موسى النبي على تأكيد أن ما يتمتع به الشعب من بركات ليس هو ثمر برهم الذاتي، إنما هو عطية مجانية من قبل الله الذي يشتهى أن يدخل معهم في ميثاق. يدخل بهم إلى القفر لكي يدركوا قفر طبيعتهم الداخلية. ويبعث إليهم موسى قائدًا ليعلن أنه مهتم بهم، يحملهم إليه شخصيًا. إنه أمين في مواعيده بالرغم من عدم أمانتهم. وفي هذا الإصحاح أوضح أن الله أقام عهده مع شعبه ليسكب فيض بركاته، لا لأجل بر الإنسان الذاتي [1 – 6]، بل من أجل أمانة الله في وعوده.فالله في أمانته قدم لشعبه الشريعة، بينما عبد الشعب العجل الذهبي [7 – 21]. لم يقف موسى النبي في سلبية أمام هذا الجرم العظيم، بل يشفع في شعب الله مذكرًا إياه بالوعود الإلهية [22 – 29]. وهنا نري شعب الله يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة وهذا ما أحزن قلب موسى أن الشعب في أقدس اللحظات التي كان الله فيها يتحدث مع موسى مقدما شريعته له التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية ؛ كان موسى صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلة لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماء، وكان الجبل يدخن بالنار في حوريب ؛ وإذا بالشعب يزوغ عن الحق، وفي عناد وصلابة رقبة يصب عجلًا ذهبيا يتعبد له. في الموضع الذي فيه استلموا الشريعة، كسروها وفي نفس لحظات استلامها. بينما كانت عيونهم لا زالت تنظر الجبل متقد نارًا لم تلن قلوبهم، بل صبوا العجل الذهبي بسبكه في نار متقدة (يا للعجب علي ذلك!!!) + كان موسى في أمجد لحظات عمره على الأرض، إذ كان على قمة الجبل يتمتع برؤية ظل مجد الله، ويتسلم الشريعة التي سجلها الله على لوحين ونحتها كما بنار إلهية، وقد اهتز الجبل كله وامتلأ دخانا وضبابا. توقع عند نزوله أن يرى الشعب كله، رجالًا ونساءً، أطفالًا وشيوخًا لا يشغلهم شيء سوى استلام الشريعة. ظن أنه يرى عيونهم شاخصة نحو قمة الجبل، نسوا أكلهم وشربهم ونومهم في وسط هذا المجد العظيم. لكن نفسه تحطمت تمامًا إذ عوض النار الإلهية طلبوا من رئيس الكهنة أن يوقد نارًا يلقون فيها الحلي الذهبية ليصب لهم عجلًا مسبوكًا يكون لهم إلهًا. الذهب الذي سمح لهم الله أن يأخذوه من المصريين عوض سنوات ذلهم وعبوديتهم قدموه للعبادة الوثنية لإغاظة الله مخلصهم. غنى عطايا الله لشعبه لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجمًا اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم. البولس من عب 11: 1 – 8 واما الايمان فهو الثقة بما يرجى والايقان بامور لا ترى فانه في هذا شهد للقدماء بالايمان نفهم ان العالمين اتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر بالايمان قدم هابيل لله ذبيحة افضل من قايين فبه شهد له انه بار اذ شهد الله لقرابينه وبه وان مات يتكلم بعد بالايمان نقل اخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لان الله نقله اذ قبل نقله شهد له بانه قد ارضى الله ولكن بدون ايمان لا يمكن ارضاؤه لانه يجب ان الذي ياتي الى الله يؤمن بانه موجود وانه يجازي الذين يطلبونه بالايمان نوح لما اوحي اليه عن امور لم تر بعد خاف فبنى فلكا لخلاص بيته فبه دان العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الايمان بالايمان ابراهيم لما دعي اطاع ان يخرج الى المكان الذي كان عتيدا ان ياخذه ميراثا فخرج وهو لا يعلم الى اين ياتي يعتبر هذا الأصحاح تطبيقًا عمليًا من واقع رجال العهد القديم المؤمنين، فبعد أن تحدث الرسول عن السيد المسيح كرئيس الكهنة الذي فتح الأقداس السماوية، مقارنًا بين خدمة الكهنوت اللاوي والكهنوت الجديد، يؤكد ضرورة الإيمان كطريق للتمتع بهذه المقادس السماوية المفتوحة للبشرية كلها في المسيح يسوع. ما هو الإيمان؟ "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [١-٢].الإيمان هو الثقة بالمقدسات الإلهية غير المنظورة كحقائق واقعة وحاضرة، فيحيا الإنسان في يقين من جهة الأمور غير المنظورة ولا ملموسة بالحواس.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الإيمان هو رؤية واضحة للأمور وتأكد كامل من جهة غير المنظورات كأنها من المنظورات.] [وسأوضح الأمر بأمثلة.. فقد قال الرب أن من يترك أبًا أو أمًا أو إخوة أو أخوات يصير له أباء وأمهات، فنرى ذلك القول أنه يتحقق فعلًا. وأيضًا إذ يقول: "في العالم يكون لكم ضيق لكن ثقوا (افرحوا) أنا قد غلبت العالم" (يو ١٦: ٣٣)، بمعنى أنه لا يغلبك أحد، هذا يدركه (المؤمن) أنه حقيقة واقعة. وأيضًا عندما يقول أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة (مت ١٦: ١٨) حتى وإن كانت مُضطهدة، وأنه لا يستطيع أحد أن يوقف الكرازة، يدرك أن هذه النبوة حقيقة واقعة مع أن هذا قيل في وقت كان يصعب فيها تصديقها.] بالإيمان قبلنا وصايا الله الصعبة ومواعيده التي يبرهن على صدقها لا بكلمات وإنما بخبرة عملية عند ممارستها. بالإيمان نسلكها ونتقبل مواعيدها التي تبدو غير معقولة لكننا نكتشف صدقها خلال الخبرة. لهذا [يتطلب الإيمان نفسًا نشطة ومملوءة غيرة، تسمو فوق الأمور الحسية وتعبر فوق كل تعقلات بشرية، فإنه لا يمكن أن تصير مؤمنة إن لم ترتفع فوق العادات العامة التي للعالم.] ولما كان الرسول يتحدث إلى مسيحيين من أصل عبراني لهذا قال: "فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [٢]؛ وكأنه يقول لهم إن هذا الأمر ليس بغريبٍ عنكم، فقد اختبره آباؤكم. تاريخهم العبراني هو خير شاهد لحياة الإيمان. كأن الرسول يضع أمامهم أسفار العهد القديم ليتصفح معهم حياة الإيمان كما عاشتها كنيسة العهد القديم.لقد بدأ العهد القديم بإعلان الله كخالق "بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ" [٣].فإن رجال العهد الجديد لا يستطيعوا أن يتقبلوا السيد المسيح "كلمة الله المتجسد" كمخلص ومجدد طبيعتهم الداخلية بروحه القدوس، ما لم يتقبلوا الأساس الأول أن الله هو الخالق بكلمته. فالكلمة الذي يخلق هو وحده يقدر أن يجدد الخلقة بعد أن فسدت.وعن ذلك يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [الله صالح، أو بالحري الصلاح في جوهره.. خلق كل شيء من العدم بكلمته الذاتية، يسوع المسيح ربنا.]وبه أيضًا جدد الخلقة وخلصها ويرى أيضًا في هذه العبارة الرسولية أن الله هو الخالق ليس من يبلغ قياسه، كائن قبل كل الدهور، به جاء الزمن وينتقل بولس الرسول من الأساس الأول للإيمان بكلمة الله الخالق الأزلي، إلى أمثلة عملية لرجاء الإيمان في العهد القديم، وكأن إيمان الكنيسة ما هو إلاَّ امتداد لرجال الكنيسة الأولى قبل التجسد. ولعله ذكر هذه الأمثال لأن الرسول بولس -كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم- أراد أن يعلن لهم أن العبرانيين قد بدأوا حياتهم مع الله بالإيمان خلال أشكال مختلفة، لكن للأسف كملوا في ضعف بقلوب فاترة في الإيمان.وقد لاحظ القديس أثناسيوس الرسولي الذي قضى أغلب حياته الرعوية في جهاد من أجل الإيمان المستقيم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وغالبًا ما كان يضطر أن يترك كرسيه ويهرب من الأريوسيين الذين صمموا على قتله، أن الجهاد من أجل الإيمان لا يقل عن الاستشهاد. وأن رجال الإيمان الذين ذكرهم الرسول هنا غالبيتهم لم يستشهدوا لكنهم عاشوا رجال إيمان. يقول القديس: [لا تقوم تزكية الشهيد على مجرد رفضه للتبخير للأوثان وإنما على رفضه إنكار الإيمان، فإن هذا يمثل شهادة واضحة عن الضمير الصالح. هذا ولا يُدان فقط الذين ينجرفون إلى عبادة الأوثان كغرباء وإنما يُدان أيضًا الذين يخونوا الإيمان.] كما يمتدح الإيمان قائلًا: [إبراهيم الأب البطريرك قد قبل الإكليل ليس لأنه تألم حتى الموت، وإنما لأنه آمن بالله، وأيضًا القديسون الذين ذكرهم بولس من جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والبقية لم يتكملوا بسفك دمائهم، إنما تبرروا بالإيمان، إذ كانوا مستعدين أن يحتملوا الموت من أجل التقوى نحو الله.]وقدم بولس الرسول الأمثلة التالية من عظماء المؤمنين والمؤمنات نذكر بعضهم علي سبيل المثال: أ. هابيل إنه المثل الأول لرجال الإيمان، لا يقوم على أساس حياته الخاصة وإنما يقول الرسول "بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!" [٤]لقد شهد الله ببره ليس لأفضلية حياته أو أعماله الخاصة عما لقايين، وإنما لأفضلية ذبيحته عن قرابين قايين. لقد قدم قايين من ثمرات الأرض قربانًا، لكن الله اشتم رائحة الرضا في الذبيحة الدموية التي لهابيل. كانت تحمل رائحة السيد المسيح على الصليب وظلالها. هذا هو أساس إيماننا أن كلمة الله الخالق يجددنا نحن خليقته خلال الدم الثمين، فنقدم حياتنا ذبيحة حب خلال إتحادنا بالذبيح الحق، بهذا نصير كهابيل الذي صار هو نفسه كذبيحة وهو مرفوض من أخيه.كأن الرسول يحدث المسيحيين العبرانيين المطرودين من الهيكل، أنهم قد صاروا كهابيل المرفوض من أخيه من أجل الذبيحة المقبولة لدى الله الآب، ذبيحة السيد المسيح. لهذا وإن حاول إخوتهم أن ينهوا حياتهم لكن صوتهم يبقى مدويًا، وشهادتهم لا يمكن كتمانها بالموت، ولا للزمن أن يحطمها. لا يزال صوت هابيل عاليًا يعلن عن قبول الله ذبيحته الدموية، ويبقى صوت المؤمنين المرذولين والمضطهدين صارخًا يشهد للحق بغير انقطاع. ب. أخنوخ: "بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ" [٥]. إن كان هابيل بإيمانه أعلن عن سرّ ذبيحة المسيح المقبولة عنده، وقبولنا الموت معه كل يوم، فإن حياة أخنوخ حملت بالإيمان صورة حية للكنيسة السماوية الفائقة، والتي تعلو فوق الحياة البشرية الطبيعية، تشهد لسيرتها أمام العالم، لهذا ينقلها الرب إليه لتحيا معه شريكة في أمجاده. يقول الرسول: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده".بالإيمان نتمتع بالحياة السماوية كأعضاء في كنيسة الله المقبولة لدى عريسها،"وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" [٦].ليت قلبنا يكون بحق كأخنوخ يؤمن بالله فيُنقل إلى فوق لينتظر المجازاة للذين يطلبونه، التي هي بحق إقتناء ربنا يسوع. هذه هي مكافأة النفس التي تطلبه.. إنها تناله وتوجد معه في سماواته وأمجاده الأبدية في حضن الآب السماوي. ج. نوح: إن كان هابيل يعلن في إيمانه الذبيحة الفريدة التي لا تصمت قط عن الشهادة للحق فينا، وأخنوخ يمثل الكنيسة المرتفعة إلى عريسها لكي تحيا في السماويات عبر وجودها بالجسد على الأرض، فإن نوحًا يمثل إيمانه إدانة العالم الذي رفض الدخول في الفلك، فإنه لا خلاص خارج الفلك، ولا تمتع بالحياة الجديدة إلا من خلال مياه المعمودية. "بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ" [٧]. إن كانت الكنيسة تتمتع بالخلاص في الصليب كما في فلك نوح وسط مياه المعمودية، فإن هذا الخلاص إنما يدين العالم.لقد اعتاد الآباء أن يقيموا الكنيسة غالبًا على شكل فلك نوح علامة العبور من العالم القديم إلى الحياة الجديدة.. د. إبراهيم: قدم كل أب من الآباء جانبًا من جوانب الإيمان، هابيل قدم الجانب الإلهي وهو تقديم الذبيحة المقدسة، أي تقديم حمل الله، وأخنوخ كشف عن طبيعة الكنيسة المؤمنة ألا وهو الجانب السماوي، ونوح أعلن أنه لا خلاص خارج الكنيسة المقدسة، أما إبراهيم فقدم الجانب العملي للإيمان وهو الطاعة لله بجانب جوانب متفاعلة معًا. لقد آمن إبراهيم أب الآباء عمليًا فترك الملموسات والمنظورات في ثقة في وعود الله التي لم تكن ملموسة ولا منظورة. فيقول الرسول:"بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" [٨-١٠].لقد أطاع أن يخرج الذي كان عتيدًا أن يتمتع بالميراث، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب. الإيمان هو الذي قاده! لم يسمع من قبل عن أمثلة إيمانية حيَّة يقتدي بها إلاَّ ما قد تسلمه بالتقليد عن هابيل وأخنوخ ونوح، ليس بين يديه كتاب مقدس ولا شريعة مستلمة ولا من يرشده أو نبي أو كاهن، لكن الإيمان أنار له الطريق؛ وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبوه أمميًا وعابد وثن، ولم يسمع أنبياء ولا عرف أين يذهب.] بالإيمان لم ينل أرض موعد، لكنه وثق أن نسله يرث الأرض التي يسير عليها كغريبٍ هو وابنه إسحق وحفيده يعقوب، وكان غير مضطرب وبلا هم، متأكدًا من تحقيق مواعيد الله في الأجيال القادمة الخارجة من صلبه. الإيمان بالوطن السماوي: إذ طُرد المؤمنون من الهيكل اليهودي وحرموا من ممارسة العبادة الجماعية مع إخوتهم، فإن الرسول يرفع أعينهم إلى هيكل آخر سماوي وعبادة على مستوى ملائكي، ليدركوا أن ما فقدوه من منظورات لا يقارن أمام ما يتمتعون به في عالم غير المنظورات. هذا ليس بأمر خيالي، إنما هو حياة إيمانية تمثل امتدادًا للحياة التي عاشها آباؤهم، محتملين الحرمان من الكثير، لينعموا بالمواعيد السماوية. يقول الرسول: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَنًا. فَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. وَلَكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذَلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً" [١٣-١٦].هكذا يؤكد الرسول أن رجال العهد القديم، ليس كما يظن البعض قد وضعوا رجاءهم في مواعيد زمنية، وإنما رأوا الوطن السماوي والمواعيد الأبدية مختفية وراء المواعيد الزمنية. لقد تطلعوا بالإيمان إلى وعود الله الأبدية فصدقوها بالإيمان وحيّوها بالعمل الجاد للتمتع بها ولهيب قلبهم الذي لا ينقطع في الشوق إليها. لقد أحسوا أمام هذه الوعود أنهم بحق هم غرباء ينتظرون العبور إلى وطنهم السماوي للتمتع بها، ليس من أمر زمني -مهما كانت قدرته- يستحق أن يسحب القلب إلى الوراء نحو الأرضيات. ولذلك يشتهي رجال الإيمان وطنهم السماوي، لهذا يُسر الله بهم، فيدعى إلههم لأنه أعد لهم المدينة السماوية التي فيها يجتمعون معه ويسكن هو في وسطهم إلى الأبد، يفرح بأولاده ويفرحون بأبيهم السماوي. رجال الإيمان: إذ قطع الرسول حديثه عن أمثلة من رجال الإيمان ليؤكد غايتهم وهو التمتع بالوطن السماوي عاد ليعطي أمثلة من رجال ونساء العهد القديم"بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ" [٢٢]. سمع يوسف الوعد الإلهي لجده إبراهيم فآمن أن الله لن يترك شعبه متغربًا، لهذا بالإيمان أوصى بعظامه عند الخروج إعلانًا عن شوقه للدخول إلى مواعيد الله خلال عظامه اليابسة. كان يوسف في مصر يعيش في مجدٍ، بكونه الرجل الثاني بعد فرعون، لكن القصر لم يشغله عن الوعد الإلهي، مشتركًا بالإيمان مع الشعب في الخروج خلال النية، كرمز للخروج من عبودية الخطية إلى الحياة الجديدة في المسيا المخلص. والدا موسى: "بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ" [٢٣]. لم ينسَ الرسول عند حديثه عن موسى النبي كرجل إيمان عظيم أن يبرز أولًا إيمان والديه. لقد قدم الرسول لنا والدين كمثالٍ بين أمثلة الإيمان حتى ندرك خطورة دور الأسرة في الحياة الإيمانية وعمل الوالدين الجسديين مع الأب الروحي في تهيئة الأجيال المؤمنة بحق. هذا أيضًا أبرزه الرسول حين كتب إلى تلميذه تيموثاوس يقول له: "أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولًا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكن موقن أنه فيك أيضًا" (٢ تي ١: ٥).لقد ظهر إيمان والدي موسى في إخفائهما الطفل ثلاثة أشهر، "لأنهما رأيا الصبي جميلًا"، وكما يقول الشماس اسطفانوس: "كان جميلًا جدًا". ماذا رأيا في وجهه إلاَّ انعكاس مجد السيد المسيح المقام من الأموات. فقد كان الطفل تحت حكم الموت، لأن فرعون طلب قتل كل الأطفال الذكور، لكن الوالدين استبقياه بإيمان أن جمالًا داخليًا يكمن فيه. لقد بقى ثلاثة شهور، ونحن نعلم أن رقم ٣ يشير إلى القيامة (حيث قام السيد في اليوم الثالث)، ليظهر بعد الشهور الثلاثة على وجه المياه، مقدسًا المياه لتهب المؤمن قوة القيامة معه لقد كان موسى جميلًا في أعينهما، لذا احتفظا به ثلاثة أشهر، وهكذا بالإيمان نحمل في داخلنا لا موسى بل ربه، مدركين أنه "أبرع جمالًا من بني البشرية"، نخفيه فينا ثلاثة أشهر حتى ننعم بالقيامة معه، فلا نوجد محمولين على مياه النهر بل على البحر الزجاجي في أورشليم العليا. يشوع: "بِالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا، بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ" [٣٠]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالتأكيد لا تستطيع أصوات الأبواق أن تسقط الحجارة (التي للأسوار).. لكن الإيمان يقدر أن يفعل كل شيء.] راحاب الزانية: "بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ" [٣١].ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك، قائلًا[من العار أن تظهر في عدم إيمان أكثر من زانية! لقد سمعت ما رواه الرجلان وآمنت! وكانت النتيجة هلاك الكل بينما حُفظت وحدها من الهلاك. لم تقل في نفسها: أني أبقى مع أصدقائي الكثيرين، ولا قالت: هل أنا أكثر حكمة من هؤلاء الرجال العقلاء الذين لا يؤمنون، وأنا أؤمن؟! لم تقل شيئًا من هذا بل آمنت بما سيحدث وما سيعانيه (الكنعانيون).] إنجيل القداس.. لوقا 11: 14 – 26 وكان يخرج شيطانا وكان ذلك اخرس فلما اخرج الشيطان تكلم الاخرس فتعجب الجموع واما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين واخرون طلبوا منه اية من السماء يجربونه فعلم افكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وبيت منقسم على بيت يسقط فان كان الشيطان ايضا ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته لانكم تقولون اني ببعلزبول اخرج الشياطين فان كنت انا ببعلزبول اخرج الشياطين فابناؤكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم ولكن ان كنت باصبع الله اخرج الشياطين فقد اقبل عليكم ملكوت الله حينما يحفظ القوي داره متسلحا تكون امواله في امان ولكن متى جاء من هو اقوى منه فانه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق متى خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة واذ لا يجد يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه فياتي ويجده مكنوسا مزينا ثم يذهب وياخذ سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير اواخر ذلك الانسان اشر من أوائله وحدة الروح (اتِّهامه ببعلزبول) إن كانت صداقتنا مع الله تقوم على الصلاة بلجاجة، فإن هذه الصلاة يلزم أن تسندها وحدة الروح. فالله في صداقته معنا يريدنا أن نسلك معًا بالروح الواحد، وذلك بعمل روحه القدُّوس واهب الشركة والوحدانيَّة. لهذا يحدِّثنا الإنجيلي لوقا عن إبراء من به شيطان أخرس، وقد أخرجه السيِّد فأتُهم بأنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين. وجد السيِّد بهذا الاتهام فرصته لتأكيد الحاجة إلى وحدة الروح بلا انقسام، وذلك بعمل روحه واهب الشركة. + لقد أثارت معجزة إخراج الشيطان الأخرس دهشة الجماهير وإعجابهم، الأمر الذي أثار قومًا غالبًا من الفرِّيسيِّين، وإذ امتلأوا حِقدًا وحسدًا لم يقدروا أن ينكروا المعجزة، لكنهم اِتَّهموا السيِّد أنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين يخرج الشيَّاطين.فـ"بعلزبول" هي الصيغة الآرامية للكلمة: "بعل زبوب"، أي إله الذباب عند العقرونيِّين (2 مل 1: 3)، الذين كانوا يعتقدون أن فيه القدرة على طرد الذباب من المنازل. وتشكَّك البعض في أمره، فطلبوا آية من السماء، ليتأكَّدوا أن ما يفعله بقوَّة سماويَّة إلهيَّة وليس بطريق شيطاني، فكانوا يتوقَّعون أن يُنزِل نارًا من السماء كما فعل إيليَّا، ولم يدركوا أن الذي في وسطهم هو السماوي الذي بتنازله حل في وسطهم كواحد منهم. + لم يستجب لطلبتهم فيرسل نارًا من السماء لإِفنائهم، إذ طلبوا آية من السماء، بل إنتهر يوحنا ويعقوب تلميذيه حين سألاه أن يطلبا نارًا لحرق قرية بالسامرَّة رفضته (لو 9: 54). وإنما في طول أناة أجابهم، لا ليُفحِمهم وإنما ليرُدهم إلى الحق، غير متراجعٍ عن حبُّه حتى لمقاوميه، باذلًا حياته فدية عن الجميع. لهذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اِحتمل كل هذه الأمور لكي نسلك على أثر خطواته، ونحتمل هذه السخريات التي تقلق أكثر من أي توبيخ.] + جاءت إجابة السيد المسيح لمقاوميه كالعادة ليست دفاعًا عن نفسه بقدر ما هي لبنيان نفوسهم وإصلاح حياتهم، وقد حملت الإجابة جانبين: أ. الجانب السلبي، وهو أنه لا ينقسم عدو الخير على نفسه وإلا هلكت مملكته. وهنا يسألنا ألا ننقسم نحن على أنفسنا، سواء على مستوى الممالك أو مستوى العائلات، إذ يقول"كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وبيت منقسم على بيت يسقط، فإن كان الشيطان أيضًا ينقسم على ذاته،فكيف تثبت مملكته؟ لأنكم تقولون إني ببعلزبول أخرج الشيَّاطين؟" [17-18]. ب. الجانب الإيجابي، فيه يعلن فاعليَّة الروح القدس الذي هو واحد معه في اللاهوت، إذ يعمل بروحه القدُّوس وقوَّته، ويدعوه إصبع الله. في هذا يدعونا الرب ليس فقط ألا نسلك بروح الانقسام على أنفسنا أو على مستوى العائلات أو الكنائس، وإنما أن نقبل روح الله الذي هو روح الشركة عاملًا فينا بقوَّة، لبنيان ملكوت الله. إنه يقول"إن كنتُ أنا ببعلزبول أخرج الشيَّاطين، فأبناؤكم بمن يُخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنتُ بإصبع الله أُخرج الشيَّاطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [19-20].لا يكفي أن نرفض روح الانقسام حتى لا نهلك، وإنما يليق بنا أن نقبل روحه عاملًا فينا، لكي يقبل علينا ملكوته في داخلنا بقوَّة!ويسمي السيد المسيح الروح القدس "إصبع الله"، ربَّما لأن الإنسان صاحب السلطان حين يشير بإصبعه يتحقَّق كل ما يريده، وكأن الآب والابن يعملان بروحهما القدُّوس كما بالإصبع. وعن هذا الإصبع يقول القدِّيس كيرلس الإسكندري [يدعى الروح القدس إصبع الله لهذا السبب. قيل عن الابن أنه يد الله وذراعه (مز 98: 1)، به يعمل الآب كل شيء. ولما كان الإصبع غير منفصل عن اليد بل بالطبيعة هو جزء منها، هكذا (مع الفارق) الروح القدس متَّحد مع الابن، وخلاله يعمل الابن كل شيء.]هذا والأصابع مع اختلاف مواضعها وأحجامها وأطوالها تعمل معًا بلا اِنقسام، فتشير إلى تنوُّع الخدمات أو المواهب والروح واحد. كقول الرسول بولس: "فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد، وأنواع خِدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل، ولكنه لكل واحد يعطي إظهار الروح للمنفعة" (1 كو 12: 4-7).ومن هنا ننتقل إلى: من هم أبناؤهم الذين يُخرجون الشيَّاطين ويكونون قضاة عليهم، إلا جماعة من التلاميذ البسطاء، الذين هم من الأُمّة اليهوديَّة يعيشون ببساطة قلب بينهم، وأُميُون، يُخرجون الشيَّاطين بقوَّة وسلطان، فيدينون بهذا كل اِتهام يوجِّهه الفرِّيسيُّون والكتبة ضد سلطان السيد المسيح. وعن ذلك يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [كان التلاميذ الطوباويُون يهودًا، وأبناء لليهود حسب الجسد، وقد نالوا سلطانًا من المسيح باستدعاء هذه الكلمات: "باسم يسوع المسيح". فإن بولس أيضًا مرَّة أمر الروح النجس بسلطان رسولي: "أنا آمرك باسم يسوع أن تخرج منها" (أع 16: 18). فإن كان أبناؤكم -كما يقول- باسمي يطئون بأقدامهم على بعلزبول باِنتهارهم أتباعه (شيَّاطينه) وإخراجهم من الساكنين فيهم، أفليس واضح أنه تجديف بجهل عظيم أن تتَّهمونني بأني أحمل سلطان بعلزبول؟ أنتم الآن متَّهمون خلال إيمان أبنائكم.]وينتقل السيد المسيح من إظهار أنه يخرج الشيَّاطين بروحه القدُّوس (إصبع الله) إلى السلطان الذي وهبه لتلاميذه الذين هم أبناء اليهود، ليجذب أنظارهم وأفكارهم من المناقشات الغبيَّة التي يُثيرونها خلال حقدهم وحسدهم إلى التطلُّع نحو السلطان الجديد الذي وُهب للتلاميذ خلاله، وإلى الإمكانيَّة التي صارت للبشريَّة خلال السيد المسيح. فما يفعله المسيح يسوع ربَّنا ليس اِستعراضًا لقوَّته الإلهيَّة وإنما هو رصيد يقدِّمه لحساب مملكته في قلوبنا، أي لحساب كنيسته التي في داخلنا، لذلك يقول: "فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [20]. بمعنى آخر يوَد إن يقول لهم: عوض إن تتَّهموني بأن أعمل بقوَّة بعلزبول تمتَّعوا بسلطاني الذي أهبه للبشر لتحطيم بعلزبول وطرد أرواحه الشرِّيرة من النفوس والأجساد المحطَّمة. في هذا يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [يقول: إن كنتٌ كإنسان قد صرتُ مثلكم، وأخرج الشيَّاطين بروح الله، فقد نالت الطبيعة البشريَّة فيّ أولًا الملكوت الإلهي، إذ صارت ممجَّدة بكسر سلطان الشيطان واِنتهار الأرواح الدنسة، هذا هو معنى الكلمات: "أقبل عليكم ملكوت الله". لكن اليهود لم يفهموا تدبير الابن الوحيد في الجسد، وأنه كان يجب عليهم بالحري إن يتأمَّلوا أن الابن الوحيد الجنس، كلمة الله قد صار جسدًا دون أن يتغيَّر عما هو عليه، ممجِّدًا طبيعة الإنسان، إذ لم يستنكف أن يأخذ حقارتها لكي يُضفي عليها غناه هو.] +إذ نالت البشريَّة في المسيح يسوع سلطانًا بروحه القدُّوس وأعلن عن ملكوت الله فيها، فإنه لم يعد هناك مجال لمملكة الظلمة التي سادت زمانًا، والتي تملَّكت بشراسةٍ وعنفٍ وسلطانٍ خلال ضعفنا. لقد جاء القوي الذي يحطِّم من ظن في نفسه قويًا وأعطيناه الفرصة زمانًا ليسيطر علينا، إذ يقول السيد المسيح: "حينما يحفظ القوي داره متسلِّحًا تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه، فإنه يغلبه، وينزع منه سلاحه الكامل الذي اتكل عليه، ويوزِّع غنائمه" [21-22].هكذا يقدِّم لنا العمل المسياني في حياتنا بمثل إنسانٍ قوي متسلِّح في داره، تملك على القلب والعالم كدارٍ له، أسلحته الخبث والدهاء، لكن جاء المسيَّا الأقوى، سلاحه الحب والبذل يحطِّم بالحق الباطل، وبالحب الخبث، وبالنور الظلمة، فيطرد من استعمر القلب وملك على العالم، ساحبًا منه الغنائم. هكذا يوضِّح السيِّد أنه لا هوادة بين النور والظلمة، ولا اِتِّفاق بين المسيح وبليعال. + وبعد أن قدَّم السيد المسيح هذا المثل، قال هذا المبدأ: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق" [23]. هنا يبرز السيد المسيح خطورة الحياة السلبيَّة التي خلالها يظن الإنسان أنه يقف في منتصف الطريق. فإن السيد المسيح يقدِّم طريقين لا ثالث لهما: النور أو الظلمة، مملكة الله أو إبليس. من كان يعمل بروح بعلزبول لا يطرد الشيَّاطين لحساب مملكة الله، إنما ينحني لمملكة الظلمة، وهكذا من يحمل روح الله لا يقبل إلا أن يعمل لحساب مملكة الله. وكأنه يطالبهم بمراجعة أنفسهم ليعرفوا بالحق أين هو مركزهم؟ هل هم معه يعملون على الجمع لحسابه، أو ضدُّه يعملون على تشتيت النفوس؟ كأنه يقول لهم قد جئت لأجمع أبناء الله فيّ، هؤلاء الذين شتَّتهم العدو إبليس، فالشيطان لا يعمل معي، بل يود تشتيت من أجمعهم، فهل تطلبونني لتعملوا للجمع أم تطلبونه فتقومون بالتشتيت؟ وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إنه يقول: جئت لأخلِّص كل إنسان من يدّ الشيطان، لأنقذهم من خبثه الذي اِصطادهم به، لأحرِّر المأسورين، وأُشرق نورًا على الذين في الظلمة، أُقيم الساقطين وأشفي منكسري القلوب، وأجمع أبناء الله المشتَّتين. وأما الشيطان فهو ليس معي، بل عليّ. بالعكس هو ضدِّي، إذ يتجاسر ليشتِّت الذين أجمعهم وأخلِّصهم. كيف إذن يمكن لذاك الذي يقاومني ويبُث شروره ضد غاياتي أن يعطيني سلطانًا ضدُّه؟ أليس من الغباوة إن تتخيَّلوا هذا؟]فليعطينا الرب أن نسلك بالإيمان ونحياه ونظهره في حياتنا وألا نترك للشيطان أي مكان في قلوبنا أو حياتنا لنعيش مع المسيح وله كل أيام حياتنا ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
25 مارس 2021

الصوم عقيديًا

هبت على الكنيسة رياح تعاليم غريبة ولكن المسيح الذي اقتنى كنيسته بالدم الكريم قال للريح "اسكت إنكم. فسكت الريح وصار هدوء عظيم" (مر 4: 39)، ومازال المبتدعون والهراطقة والطوائف التي ارتدت عن الإيمان المسلم لنا مرة بالإنجيل (مت 24: 11 وتسا 2: 3).. ينكرون الصوم غير محتملين التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكمة مسامعهم مقاومين الحق الإلهي الكتابي، يجب علينا أن نصحو لهم نعرض عنهم لأنهم إخوة كذبة يندسون بيننا لخداعنا (غلا 2: 4) مستمسكين بالتعاليم التي تعلمناها (2 تسا 2: 2، 2 تيمو 4: 3) ولكي نحفظ وديعة الإيمان التي تسلمناها، من أجل خلاص أنفسنا وخلاص الذين نخدمهم وخصوصا في المناطق الشعبية النى نخدمها والتي تنتشر فيها هذه الأفكار المسمومة، لابد لنا أن نرجع إلى كلمة "كيريجما" الكتاب المقدس لأن كنيستنا كنيسة إنجيلية، وجميع عقائدها تستمد أصالتها ونقاوتها من الإنجيل، إنجيل خلاصنا الذي به نقاوم ونغلب المعاندين (أف 1: 13). * عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية * أصوام جماعية * الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين) * عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية الجنس الشرير من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (مت 17: 21). صوم الأربعين صوم كنسي رئيسي رسمه وصامه السيد المسيح (مت 4: 2). ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائيين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين (مت 6: 16). الأصل في الصوم هو الانقطاع وذلك في معجزة إشباع الأربعة آلاف (مت 15: 32). لكن ستأتي ساعة أيام يرفع العريس عنهم حينئذ يصومون (مت 9: 16). الصوم سيرة ملائكية (مر 1: 2). وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين يخورون في الطريق (مر 8: 3). الصوم موضوع من قبل رب المجد يسوع (مر 2: 20). الصوم في الكنيسة الأولى (أع 13: 3). الصوم والبركات الروحية (أع 9: 9). وفى الصوم نظهر كخدام لله (1كو 6: 5). ويتذرع البعض في إنكارهم للصوم بقول بولس الرسول:- "إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان.. آمرين أن يمتنع عن أطعمة خلقها الله".وفى الواقع هذا لا يشير إطلاقًا إلى بطلان الصوم بل يشير إلى بدع نادى بها بعض الهراطقة تدعى نجاسة بعض الأطعمة وتحريم الزواج.. مانعين عن بعض الأطعمة، ألا أنها ليست محرمة أو نجسة، بل القصد من الامتناع عنها قمع الجسد وإذلاله وترويضه وإخضاعه للروح والسيطرة عليه بالإمساك عن بعض الأطعمة (1كو 9: 27). * أصوام جماعية ونجد أن الشعب صام كله في أيام الملكة إستير (إس 4: 3)، وصام الشعب بنداء عزرا الكاهن (عز 8: 21)،وكذلك في أيام نحميا (نح 9: 1)، وصام الشعب أيام يهوشافاط (2 أي 20: 3)، وصام الشعب أيام يهوياقيم بن يوشيا (أر 36: 9). وكذا أيام يوئيل النبي (3: 5)، وأيام يونان النبي (يون 3). * الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين) صام موسى النبي (خر 40: 28)، وإيليا النبي (1 مل 19: 8)، وداود النبي (مز 35: 13 & مز 69: 10 & مز 109: 24 & 2 صم 12: 16). وصام دانيال النبي (دا 9: 3)، وصام حزقيال النبي أيضا (حز 4: 9). وصام نحميا النبي (نح 1: 3)، وكذا عزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21). وعن صوم بطرس الرسول (أع 10: 9). الصوم فعل روحاني وجهاد ممدوح (1كو 9: 27). صوم بولس الرسول (2كو 11: 27). وأوصى الرب الإله أدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها (تك 2: 16). وكان موسى هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء (خر 34: 28). وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة في يابيش وصاموا سبعة أيام (1 صم 31: 13). فسأل داود الله من أجل الصبي وصام داود صوما وبات مضطجعًا على الأرض (2صم 12: 16). ونادوا يصوم واجلسوا نابوت في رأس الشعب (1 مل 21: 9). وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة (عز 8: 21). اجتمع بنو إسرائيل بالصوم وعليهم مسوح وتراب (نح 9: 1). كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب (أس 4: 3). أذللت بالصوم نفسي (مز 35: 13). وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عارًا على (مز 69: 10). ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمى هزل عن سمن (مز 109: 24). أليس هذا صوما اختاره حل قيود الشر (أش 58: 3-7). في بيت الرب في يوم الصوم (أر 36: 6). فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبا بالصلوة والتضرعات والمسح والرماد (دا 10: 3). هكذا قال رب الجنود أن صوم الشعر الرابع والخامس والسابع والعاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة فأحبوا الحق والسلام (زك 8: 18). وحنة النبية (لو 2: 27)، وبطرس الرسول (2كو 11: 27 & 2كو 6: 5 & أع 14: 23)، وكرنيليوس (أع 10: 30) كلهم صاموا. ورب المجد يسوع نفسه صام عنا أربعين يومًا بسر لا ينطق به وأوصى بالصوم (حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون) (مت 9: 10). القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد
24 مارس 2021

تداريب أثناء الصوم

ما هي تداريب الصوم؟ مادام الصوم فترة روحية مقدسة ، يهدف فيه الصائم إلي نموه لالروحي ، أذن يليق أن يضع أمامه بعض التداريب روحية ، لكي يحول بها هذه الرغبات الروحية إلي حياة عملية . فما هي هذه التداريب ؟ تختلف التداريب الروحية من شخص إلي أخر . وذلك بحسب احتياج كل إنسان . سواء كانت هذه التداريب تشمل مقاومة نقط ضعف معينه في حياة الصائم ، أو تشمل فضائل معينة تنقصه ، أو اشتياقات روحية تجول في قلبه . وهكذا تختلف في الشخص الواحد حسب احتياجه . فما يحتاج إليه إنسان في وقت ، غير ما يحتاجه في وقت آخر . وذلك حسب حروبه من جهة ، وحسب درجة نموه من جهة أخري . المهم أن توجد التداريب ، حتى يشعر الصائم أنه يضع هدفا خاصاً أمامه أثناء الصوم يحاسب نفسه عليه ، ويتابع تنفيذه ، وحتي بنتيجة واضحة من صومه بالإضافة إلي الفضائل العامة للصوم . وما سنتحدث عنه الآن ، هو مجرد أمثلة . وليضع كل إنسان ما يناسبه من تداريب أثناء صومه . وليكن ذلك تحت إشراف أب اعترافه بقدر الإمكان . تداريب خاصة بالصوم:- والغرض منها ان يكون الصوم سليماً ، نامياً في نوعيته . ومنها تداريب خاصة بضبط النفس : وقد تشمل منع الصائم لنفسه من أكل أصناف معينة يشتهيها . سواء كلن ذلك منعاً كلياً طوال فترة الصوم ، أو منعاً جزئياً خلال فترة محددة أو يوم معين . أو كان ذلك المنع عن طريق الإقلاقل من الكمية ، أو عدم طلب صنف معين بالذات . وقد تشمل تداريب ضبط النفس : فترة الإنقطاع وتحديدها و النمو فيها . والبعض يلجأ إلي نظام التدريج حتى خلال الصوم الواحد . فالصوم الكبير يشمل ثمانية أسابيع ، قد يتدرج الصائم أثناءها في درجة نسكه وانقطاعه عن الطعام . ويشمل ضبط النفس يوم الرفاع ، يوم العيد أيضاً ، فلا يكون الأكل فيهما علي مستوي التسيب بلا ضابط . كذلك ضبط النفس يشمل أيضاً عنصر الجوع . وقد يكون التداريب خاصة بالفضائل المصاحبة للصوم . وبهذا تشمل النواحي الروحية في الصوم كضبط النفس عموماً خارج نطاق الأكل ، والسيطرة علي الجسد عموماً ، والامتناع عن كل شهواته الجسدية ، وكل الترفيهات الخاصة بالحواس . وتداريب السهر ، وتدريب البعد عن الكماليات . وكذلك التداريب الخاصة بما في الصوم تذلل وانسحاق أمام الله ، وما فيه أيضاً من زهد ، يتسع نطاقه بالتدريج . تداريب خاصة بالتوبة:- لأن الصوم هو بلا شك فترة توبة . وتداريب التوبة كثيرة نذكر منها : التركيز علي نقطة الضعيف أو الخطية المحبوبة . وكل إنسان يعرف تماماً ما هي الخطية التي يضعف أمامها ، ويتكرر سقوطه فيها ، وتتكرر في غالبية اعترافاته . فليتخذ هذه الخطايا مجالاً للتداريب علي تركها أثناء الصوم . وهكذا يكون صوماً مقدساً حقاً . وقد يتدرب الصائم علي ترك عادة ما . مثل مدمن التدخين الذي يتدرب في الصوم علي ترك التدخين . أو المدمن مشروباً معيناً ، أصبح عادة مسيطرة لا يستطيع تركها ، كمن يدمن شرب الشاي و القهوة مثلاً . أو الذي يصبح التفرج علي التلفزيون عادة عنده تضيع وقته وتؤثر علي قيامه بمسؤلياته . كل ذلك وأمثاله تكون فترة الصوم تدريباً علي تركه . وقد يتدرب علي تركه خطية كالغضب أو الإدانة . وهي من الخطايا المشهورة التي يقع فيها كثيرون . وربما تشمل التداريب مجموعة من خطايا اللسان تعود الإنسان السقوط فيها ، فيدرب نفسه في الصوم علي التخلص منها واحدة فواحدة . وما أسهل أن يضع أمامه آيات خاصة بالخطية . فمثلاً يذكر نفسه كلما وقع في خطية النرفزة يقول الكتاب " لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله "( يع 1:2) . ويكرر هذه الآية بكثرة كل يوم ، وبخاصة في المواقف التي يحاربه الغضب فيها . ويبكت نفسه قائلاً ماذا أستفيد من صومي ، إن أن كنت فيه أغضب ولا أصنع بر الله ؟! أو أن كان واقعاً في أية خطية من خطايا اللسان ، يضع أمامه قول الكتاب " كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس ، سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين " ( مت 12: 36) . ويقول لنفسه في عتاب : ماذا أستفيد إن صمت صوماً فيه كل ضبط النفس ، ثم لم أضبط لساني وقلت لأخي يا أحمق ، وأصبحت بذلك مستحقاً لنار جهنم ( مت 5: 22) . وكلما تجوع وتشتهي الأكل ، بكت نفسك . وقل لها : حينما تتركن هذه الخطية ، سوف أسمح لك بالأكل . هوذا الكتاب يقول " إن الذي لا يعمل لا يأكل " ( 2تس 3:10) . وأنت لم تعملي عمل التوبة اللائق بالصوم ، أو اللائق بقلب هو مسكن الله . وبخ نفسك وقل لها : ما فائدة امتناعي عن الأكل ، أن كنت لم أمتنع بعد عن هذه الخطية التي تفصلني عن الله ، ولا تنفعني صومي كله . خذ نقطة الضعف التي فيك ، واجعلها موضوع صلواتك وجهادك خلال هذا الصوم . ركز عليها التركيز كله ، من جهة الحرص و التدقيق ، ومن جهة مقاومة هذه الخطية . واسكب نفسك أمام الله ، وقل له : نجني يارب من هذه الخطية . أنا معترف بأنني ضعيف في هذه النقطة بالذات ، ولن أنتصر عليها بدون معونة منك أنت . إرحم يارب ضعفي وعجزي . لأ أريد أن أنتهي من هذا الصوم ، قبل أنت تنتهي هذه الخطية من حياتي . أجمع آيات الكتاب الخاصة وضعها أمامك ، لتتلوها باستمرار . لتكن فترة الصوم هذه هي فترة صراع لك مع الله ، لتنال منه قوة تنتصر بها علي خطاياك . درب نفسك خلال الصوم علي هذا الصراع . وقل : مادام الصوم يخرج الشياطين حسب قول الرب ، فليته يخرج مني خطاياي مادام هو مع الصلاة يخرج الشياطين . تداريب الاعتكاف و الصمت:- يقول الكتاب " قدسوا صوماً ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1:14) . ضع هذه الآية أمامك ودرب نفسك علي الاعتكاف . والمقصود بالاعتكاف ، أنه اعتكاف مع الله . لأن هناك من يعتكفون في بيوتهم ، دون أي عمل روحي ، بل قد يعتكفون مع الراديو أو التلفزيون أو المجلات ، أو في أحاديث مع اهل البيت …! أو يعتكفون مع الأفكار الخاطئة ، ليس هذه هو الاعتكاف . إنما الاعتكاف يكون من أجل عمل روحي تعمله في مخدعك عليك مع الله . تعتكف مع الكتاب ، مع سير القديسين ، مع المطانيات ، مع الصلاة . إن كان لك برنامج روحي ، ستحب الاعتكاف . وإن استفدت فائدة روحية من اعتكافك ، ستستمر في هذا الاعتكاف ، وتشعر أنه بركة لك من الله . لذلك اجلس إلي نفسك . وضع هذا البرنامج ، واعتكف لأجل تنفيذه . وحاول أن تستغني عن صداقاتك وترفيهاتك خلال هذه الفترة ، التي سيكون فيها الله هو صديقك الحقيقي . درب نفسك أنك تستغني عن الحكايات و الدردشة والكلام الذي لا يفيد ، وحينئذ ستقدر أن تعتكف وتعمل مع الله . وإن لم تستطيع أن تعتكف طول الصوم ، فهناك حلول أسهل : أستخدم تدريب " بعض الأيام المغلقة ". أي حدد لنفسك أياما معينة لا تخرج فيها من بيتك ، وتكون قد نظمت مشغولياتك وزياراتك ، بحيث تعتكف في هذه الأيام المغلقة . ويمكن ان تبدأ بيوم واحد مغلق في الأسبوع ، ثم يومين ، ثم تنمو أكثر … ولكن ماذا تفعل إن لم تستطيع أن تغلق علي نفسك مع الله ؟ إن لم تستطيعوا أن تغلقوا أبوابكم خلال الصوم ، فعلي الأقل إغلقوا أفواهكم عن الكلام الباطل . فحديثنا مع الناس ، ما أسهل ان يعطل حديثنا مع الله . وكما قال أحد الآباء " الإنسان الكثير الكلام ، إعلم أنه فارغ من الداخل "… أي فارغ من العمل الروحي داخل القلب ، فلا صلاة ولا تأمل ولا تلاوات روحية … إن تدريب الخلوة والإعتكاف ، سيساعدكم علي الصمت . والصمت سيخلصكم من أخطاء السان ، كما أنه يعطيكم فرصة للعمل الداخلي ، عمل الروح … ولكن ماذا إذن ، أن كان الصائم لا يستطيع الاعتكاف الكامل ، ولا الأيام المغلقة ، ماذا يفعل ؟ هناك تدريب آخر هو : تدريب مقاومة الوقت الضائع : هناك إنسان مشكلته الأولي ضياع وقته . وقته تافه في عينيه . يضيع أوقاته دون أن يستفيد . هذه هي خطيته الأولي . ونتيجة لإضاعة الوقت ، لا صلاة ، ولا قراءة ،ولا أي فكر روحي . ونتيجة لهذا أيضاً : الفتور الروحي ، وربما الوقوع في الخطية . هذا يقول لنفسه : أريد خلال الصوم أن أدرب نفسي علي مقاومة الوقت الضائع ، وعلي الاستفادة من وقتي . وكيف ذلك ؟ توفر الوقت الضائع في الكلام مع الناس ، والوقت الضائع في المقابلات والزيارات ، وفي المناقشات التي لا تفيد ، والوقت الضائع في قراءة الجرائد والمجلات و التعليق علي ما فيها . وكذلك الضائع في الاستماع إلي الراديو و التلفزيون ، وفي سائر الترفيهات التي يمكن الاستغناء عنها ، وتحويل وقتها إلي عمل روحي مع الله كل إنسان يعرف أين يضيع وقته . ويعرف بالتالي كيف يمكن أن ينقذ هذا الوقت كجزء من حياته ، ويستفيد به . ليكن هذا تدريباً لنا خلال الصوم بإذن الله … وهذا التدريب يساعدنا علي تدريب آخر هو : صوم اللسان :- قال مار اسحق " صوم اللسان خير من صوم الفم " . إن عرفت هذا درب نفسك علي الصمت علي قدر إمكانك . وإن لم تستطيع ، استخدم هذه التداريب الثلاثة : I- عدم البدء بالحديث إلا لضرورة . II- الإجابة المختصرة . ج- إشغل فكرك بعمل روحي ، يساعدك علي الصمت . تداريب التذلل و الانسحاق:- أيام الصوم هي أيام انسحاق وتذلل أمام الله ، لذلك درب نفسك علي ذلك حتي تصل نفسك إلي التراب والرماد . وذلك عن طريق التداريب الآتية : I- أبعد عن محبة المديح ، وعن كلام الافتخار ومديح النفس . II- أستخدم كلام الانسحاق في صلواتك ، مثل ترديدك لمزمور " يارب لا تبكتني بغضبك ، ولا تؤذبني بسخطك "( مز 6) . ج- إذا جعت ، أو جلست لتأكل ، قبل لنفسك " أنا لا أستحق الطعام بسبب خطاياي ، لأني فعلت كذا كذا … أنا لست أصوم عن قداسة ، وإنما عن مذلة داخل نفسي ". حاق ، مهما وضعوا أمامه من مشتهيات ، لا يجد رغبة في الأكل . وأن ضغط عليه الجوع ، يقول لنفسه : تب أولاً ، حينئذ يمكنك أن تأكل … وان وجد نفسه ما يزال في خطأ ، يبكت ذاته قائلاً : هل هذا هو الصوم مقبول أمام الله ؟! هل هذا تقديس للصوم ؟! د- أيام الصوم فرصة صالحة للأعتراف وتبكيت الذات أمام الله ، وأمام أب الاعتراف . وداخل نفسك . إنها فترة صراحة مع النفس ، ومحاسبة للنفس ، وتوبيخ وتأديب لها . أحرص فيها أن تجلب اللوم علي ذاتك . وأهرب من كل تبرير للنفس في أية خطية ، مهما سهلت التبريرات . هـ - أدخل في تداريب الإتضاع ، وهي كثيرة جداً . ونود أن نقدم لك في ذلك كتابا؟ً خاصاً إن شاء الله . قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب روحانية الصوم وللحديث بقية
المزيد
23 مارس 2021

رُجُوعٌ إلىَ بَيْتِ الآبِ

تضع الكنيسة إنجيل الابن الضال ضمن عبادة الصوم الكبير؛ لأن الصوم دعوة ومنهج للاقتداء بالمسيح مخلصنا كي نتبعه ونأخذ حياته لنا، حتى ننجو ونظفر ونُخرس خصمنا بالصوم والصلاة... لذلك كان تدبير الصوم قانونًا جماعيًا لكل أعضاء جسد الكنيسة... مثلما الرأس. ففِعل الصوم فعل إلهي ومُلزم في الاقتداء به، نتعلمه من السيد الرب كباكورة وكسابق من أجلنا، لأنه صار مثلنا لكي نصير مثله، نسير وراءه ونكون له تلاميذ مؤمنين بالأعمال التي عملها؛ نعملها من أجل اسمه ونثبت معه في تجاربه كي يُثبِّت هو لنا ملكوتًا؛ فنسير مسيرة صومنا كاملة؛ ولا نقف عند مظهر الصوم؛ بل نعود إلى حياة الفردوس. لقد خُلقنا لكي نحيا في الفردوس؛ بيت الآب؛ ولكي يكون لنا شركة شخصية حقيقية معه؛ لأنه أعطانا نعمة لأجل أن نعيش في رتبة ودالة البنين، إلا أننا بسقوطنا وابتعادنا انتقلنا من الفضيلة أصلنا الأول؛ وانحدرنا إلى الخطية والنفي للكورة البعيدة... الخطية هي الأحدث؛ هي العصيان والابتعاد والمشيئة الذاتية؛ هي الخطية الجدّية؛ بل وكل خطية؛ تؤدي بنا إلى فقدان شركة الاتحاد بالله. فالابتعاد عن الله هو الموت؛ وبعيدًا عن الله نكون أمواتًا بالذنوب والخطايا، حياتنا تافهة مُشرَّدة عارية من النعمة وفاقدة لنموذج جمالها الأصلي، تتمرغ من الشياطين حيث الخنازير والروث والخرنوب... مسجونة في سجن الفناء والفساد. لكن رجوعنا إلى الكنيسة؛ فردوسنا وبيتنا الروحي يزرع فينا قمح التعقل وكرمة الخلاص بعد القحط والحرمان. لقد عاد الابن الضال بعد أن ترك عنفه وعناده واعتداده... عاد بعد أن تطاول على أبيه وطالبه بالميراث؛ بينما هو بعد حي. عاد بعد أن بدد وزناته وطاقاته... غير أمين فيما في يديه من نِعم ومواهب؛ لكنه رجع بالتوبة إلى الأحضان الأبوية؛ ليظهر لابسًا الحُلة الجديدة وخاتم البنوّة؛ متمتعًا بالوليمة المجانية في بيت أبيه؛ وبالصورة الأولى الملوكية التي طمستها الأهواء والخطايا وطريقة عيش الكورة البعيدة... إنه ليس بالقليل؛ لأنه ابن ووارث لنور النعمة الدائمة؛ لذلك قبله أبوه وفتش عليه وعانقه وحمله إلى كنيسته؛ التي هي بيته ومستشفاه؛ ليشفيه بمراهم وأدوية الخلاص... يحمله على منكبيه التي هي ذراعا صليبه؛ حيث وُضعت خطايانا على الخشبة المُحيية؛ ففرحت الملائكة والطغمات بخلاصنا... رفعنا ليس من تراب الأرض؛ بل من تحت الأرض؛ من أسافل الجحيم والانحطاط؛ ليردنا إلى بهجة خلاصه مع بقية شعبه؛ لأننا موضع عنايته؛ منتمين إليه وهو الذي يُعيدنا إلى شركته الأبوية برجاء حي لا ينقطع. عاد الابن الضال بعد أن خرج من بيت أبيه؛ حاسبًا أن حريته في إرادته المنحرفة التي أوصلته إلى الجوع الكياني وعبودية المذلة، وبعد أن بدد حياته ووزناته بعيش مُسرف؛ واستغلها في الشر وفي معاشرة طريق الأشرار... بدد كرامته الروحية كإبن؛ ولازم الأُجَراء والغرباء؛ وكان معهم تحت نير؛ جاحدًا نعمة البنوة المجانية؛ تاركًا بيت الآب... وهكذا كل من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه؛ إذ لا خلاص لأحد خارجها؛ وهي البيت والميناء والحظيرة والمستشفى والفُلك الحقيقي؛ مَن يبقى خارجها هو خارج مُعسكر المسيح. عندما يسافر كل ابن ضال إلى الكورة البعيدة؛ إنما يترك بغباوة الحياة السماوية؛ يهرب من الله ويتركه منفصلاً عن مشيئته؛ متكلاً على ذاته؛ متغربًا عن إخوته؛ رعية وأهل بيت الله؛ حيث الفراغ والخواء والاكتئاب ومرارة الحسرة؛ حيث مجاعة الأعمال الصالحة والسلام والمسرة التي من السموات... والابتعاد عن النور والحق والماء والخبز والحياة وكنوز الحكمة والعلم والخيرات السماوية... فهناك تكون شهوات أطعمة الخنازير والخرنوب مع أولئك الذين آلهتهم بطونهم. لكننا عندما نحاكم أنفسنا ونرجع إليها ذلك لأننا تركناها؛ لذا نرجع إليها؛ نرجع إلى عقولنا؛ بعيدًا عن التمزق والذهن المرفوض؛ نلوم أنفسنا ونراجعها؛ فنرجع إلى حالتنا الأولى التي سقطنا منها؛ نعود من الهلاك إلى الوجود ومن المنفىَ والاغتراب إلى المسكن... من الحرمان إلى الوفرة؛ من الخِنزيرية والشهوانية إلى القداسة والكمال. من اليُتم والموت إلى الأبوة والحياة. نرجع إلى أنفسنا مدركين الشرور التي نرتكبها؛ ونبكتها على خطاياها؛ ونقف على حقيقة ضعفنا وذلنا ومسكنتنا؛ التي أسقطتنا من رتبتنا إلى أحطّ الدرجات؛ وعندئذٍ نتطلّع إلى غنىَ ومجد وخلاص أبينا السماوي؛ واثقين أنه يهبنا البركات ويقبلنا لا كعبيد وأجراء؛ بل كأبناء وورثة؛ حتى ولو رجعنا في الهزيع الأخير مع أصحاب الساعة الحادية عشرة... يدفع لنا ذات الأجر؛ ويهب لنا ذات الحياة؛ ولا يشاء هلاكنا جوعًا وعوزًا ومهانة... لكنه يُعيدنا من المنافي ويُدخلنا إلى منازله الكثيرة؛ ما دُمنا قد قمنا لنرجع إليه (أقوم وأرجع إلى أبي). فمشاركتنا وتجاوبنا في المسيرة يهبنا القيام من سقطتنا ويُدخلنا إلى سر معرفته من قوة إلى قوة ومن مجد وراء مجد؛ ومن نعمة فوق نعمة؛ لأن الغمر ينادي غمرًا؛ معترفين بخطايانا "يا أبي أخطأتُ إلى السماء وقدامك ولستُ مستحقًا بعد أن أُدعىَ لك ابنًا؛ اجعلني كأحد أجرائك" (لو ١٩:١٨)؛ لأن كل من يتوب ويعترف هكذا يُحسب مستحقًا لأكثر مما يطلب.. ويقبله الآب لا كأجير ولا كغريب؛ بل كإبن يُعيده إلى الحياة كما من الموت؛ ويحسبه أهلاً للوليمة وللثوب السابق النفيس... بدلاً من الفساد يلبس ثوب عدم الفساد؛ وبدل الجوع يُطعمه العجل المسمَّن؛ وبدل السفر البعيد يُسكنه مواضع الراحة ويترقب عودته ويكسي عُريه؛ ويزين قُبحه بخاتم المجد. إن احتياجنا للتوبة والخلاص تقابلها محبة الآب السماوي؛ الذي غلبته محبته وتحننه؛ لأنها طبيعته... أبوته لا تقهرنا ولا تُلزمنا بالرجوع؛ لكنها تقبلنا متى أردنا ومتى رجعنا... يرانا ويركض نحونا مسرعًا... يقبلنا ما دمنا نُقبل إليه تائبين ومعترفين بزلاتنا. لا يرفضنا ولا يوبخنا ولا يحسبنا كأجراء؛ بل يكرمنا كأبناء ويعانقنا ويُقيمنا في بيته ويفك نير خطايانا ويمنحنا عطاياه الأبوية: الحُلة الأولى؛ وخاتم اليد؛ وحذاء الأرجل؛ والعجل المسمَّن في وليمة دسمة مُحاطة بالملائكة وفرح السمائيين. فبالرغم من أننا عندما ضللنا لم يعُد لنا أي أحقية شرعية ولا أي نصيب عند أبينا بعد أن تركناه وانفصلنا عنه بجفاء وجفاف؛ وبعد أن جرّدنا أنفسنا من كل مشروعية؛ وبعد أن بذرنا كل ما يخصنا؛ واحتقرنا بنوّتنا لله؛ وشوهنا صورة واسم وكرامة البنوة؛ إلا أنه يقبلنا ولا يتركنا نهلك جوعًا؛ حالما نأتي إليه وندخل إلى وليمة مصالحته في سفينة النجاة. هناك نخلع الرداء المُميت وفساد الطين لنلبس الحُلة التي أمر الآب أن نلبسها؛ تلك الحلة الروحية الأصلية؛ التي هي لُباس العُرس المصنوعة من نار الروح القدس والمنسوجة من الماء التطهيرية؛ فنتزين ونُولد من جديد؛ من رحم الكنيسة؛ وكاننا نأخذ حياة من أم بيولوچية؛ بعد أن تركنا ظلمة الكآبة المثلثة التي لليأس والجهل العقيم... ونقتني خاتم عُربون الشركة والعهد الروحي والتبنّي... ونجعل الحذاء في أرجلنا كقوة؛ حتى لا يجدنا الشرير حُفاة فيضربنا بسهامه؛ بل ندوس عليه تحت الأقدام؛ حاذين أرجلنا باستعداد إنجيل السلام؛ ثم نتقدم إلى الوليمة المسمَّنة لنأكل ونفرح بدواء وقُوت الخلود؛ فتمتلئ أفواهنا فرحًا من قبل تناولنا من الأسرار غير المائتة؛ بانضمامنا إلى الجسد الإلهي وشركة الملائكة في تسبيح مُفرح مقترن بالحياة المقدسة التي فيها تسبق حياتنا أفواهنا؛ بتكميلنا للشركة مع الثالوث القدوس؛ الذي يعيد تشكيلنا لنسترجع جمال بنوتنا الأصلي؛ وشبهنا الإلهي؛ ويختم فينا حضوره الفائق (صورة السمائي)؛ وبكل ما أعدده وأنعم به علينا نحن الأطفال الصغار الذين لكنيسته المقدسة. لقد نقش أبونا السماوي أسماءنا على كف يده؛ وجعل لكل واحد منا مكانًا محفوظًا عنده؛ يسعى وراءنا كراعٍ يرعىَ قطيعه؛ وبذراعه يجمع حملانه؛ وفي حضنه يحملنا ويقود المرضعات... يفتشنا عناية ويودعنا الحظيرة؛ يحملنا على كتفيه بصليبه؛ حتى يسهل علينا وعورة الطريق... صانعًا لنا وليمة فاخرة مقدمًا فيها نفسه وعطاياه؛ لنشبع ونفرح؛ فرجوعنا وتوبتنا هو عيد؛ وهو فرحة للسماء والأرض؛ ولولا صليبك يا ربنا؛ ما صار لنا عودة وقبول وحياة من بعد موت (كان ميتًا فعاش)... تركض وراءنا طافرًا على الجبال قافزًا على التلال... تتطلع من وراء الكوى وقد امتلأ رأسك من الطل ومن ندى الليل؛ وعند رجوعنا إليك تترك لنا ما علينا؛ بعد أن بددنا كل شيء؛ وتقبلنا بعد أن أدرنا لك ظهورنا؛ وتعيدنا إلى رتبتنا ومركزنا الأول بمقتضى رحمتك يا محب البشر الصالح. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
22 مارس 2021

العين البسيطة(1)

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من الصوم المقدس (لو 11: 33-36) بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القداس: إنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن موضوع هام جداً، ويُعتَبَر من أخطر المواضيع التي تُقابِل الإنسان الروحي في جهاده الروحي، وهو موضوع: ”العين البسيطة“. هذا الموضوع هو معيارٌ مسيحيٌّ من الدرجة الأولى، وهو يُعتَبَر امتيازاً عالياً للإنسان الروحي، ولذلك فهو يهمُّنا للغاية. في إنجيل القديس متى يُزيد الموضوع توضيحاً، إذ يقول قبل آية العين البسيطة: «لأنه حيث يكون كن‍زُك هناك يكون قلبُكَ أيضاً» (مت 6: 21)، ثم يُكمِل ويقول: «سراجُ الجسد هو العين، فإنْ كانت عينُك بسيطة فجسدُك كلُّه يكون نَيِّراً. وإن كانت عينُك شريرة فجسدك كلُّه يكون مُظْلِماً» (مت 6: 23،22). وفي الحقيقة، إذا أخذنا هذا التشبيه الذي ذَكَرَه الرب يسوع عن العين، كما أَخَذَه كثيرٌ جداً من الشُّرَّاح على أنه يعني ”العين الجسدية“، يكون الموضوع خارج السياق الذي قصده الرب يسوع. ولكن سوف نرى في شرحنا ما الذي يقصده الرب من كلمة: ”عينك“. عمل العين وليس شكلها أو صفاتها: الاتجاه الأول: أوضحه الرب يسوع، عندما لم يذكر ”عينَيْن“، بل قال: ”عين“ واحدة، بالمفرد. معنى هذا أنَّ الرب يقصد الاتجاه ناحية عمل ”العين“، وليس شكلها أو صفاتها. الاتجاه الثاني: لقد ذَكَر الرب كلمة ”بسيطة“. وفي اللغة اليونـانية كلمة ”بسيطة“ ?????? تعني معاني قوية جداً، ولكن ولا معنى منها ينطبق على الجسد. + فعلى سبيل المثال، أحـد أهم هذه المعاني، أنها ”مُفردة“ ??????، ولكي نُزيدها إيضاحـاً فهي بـاللغة الإنجليزية single ”مُفرد“. ومعنى ذلك أنَّ العين هنا لا تحتمل معنى التركيب أو التعقيد أو الثنائية؛ بمعنى أنها لا يمكن أن تنقسم بين رؤيتَيْن. + المعنى الثاني لكلمة ”بسيطة“ ??????، أنهـا تعني ”مستقيمة“ باتجاهٍ إلى الأمام، وبالتالي فهي لا تحتمل معنى التعريج ما بين اليمين واليسار. وهذا المعنى نقرأه كثيراً في آيات الإنجيل. + المعنى الثالث أنَّ كلمة ”بسيطة“ ??????، تعني ”الصحة“ أي بـاللغة الإنجليزية healthy. وهذه الكلمة تعني أنها ليست ”مريضة“، وليس بها أية معوِّقات للرؤية. + المعنى الرابع لكلمة ”بسيطة“ أنها ”مكشوفة“ plain، أي ليس بهـا شيءٌ مختبئ أو متواري عن الأنظار. والآن، إذا أخذنا كل هذه المعاني لكلمة ”بسيطة“، فهي: single: ”مُفردة“، ”مستقيمة“. clear: ”واضحة“، ”صافية“. healthy: ”صحيحة“، ”سليمة“. Plain: ”مكشوفة“، ”غير متوارية“. إذا تمعنَّا في كل هذه الصفات، نجد أنها لا تنطبق عل العين الجسدية. وإذا انتبهنا للتعبيرات اللاهوتية عن طبيعة الله، نجد أنها ”بسيطة“ غير مُركَّبة. فهي تُعبِّر عن الطبيعة الروحية وليست الطبيعة الجسدية. إذن، كلمة ”بسيطة“ وكلمة ”عين“ (بالمفرد) تُعطينا المفتاح للشرح. فإذا لم نعثر على هذا المفتاح، فسنحاول أن نُطبِّق الكلام على العين الجسدية، وهنا ننحرف عن السياق الذي قصده الرب يسوع ونتوه. فإذا انحصرنا في نطاق الجسد، فما هو القصد من العين الجسدية البسيطة؟ وما هو معنى العين الجسدية الشريرة؟ فإنَّ الشر، ليس هو من الخارج، وإنما يصدر من الداخل! ومن هذا المنطلق يتضح أنَّ المسيح كان يقصد ”العين الروحية“. ومن هنا نبتدئ نفهم بداية شرح الآية. ما هو القصد من العين الروحية البسيطة؟ فالقصد من العين الروحية، وبالمواصفات التي ذكرناها آنفاً، أنَّ الرب يقصد ”البصيرة“ وليس ”الإبصار“. ”البصيرة“ هي الإدراك الروحي للحق. فالإنسان الذي عنده ”بصيرة“، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يُدرك الحقَّ ويُميِّز بينه وبين الباطل؛ أما كلمة ”يُبصر“، فإنها تعني أن يرى الإنسان ظواهر الأشياء. فالعين التي يقصدها المسيح هنا هي مركز البصيرة وليس الإبصار. والحق الذي يُدركه مَن لديه البصيرة، بالمفهوم الإلهي، وكذلك بالمفهوم الإنجيلي، هـو ”النور“، والباطل هو ”الظلمة“. فمركز البصيرة هنا يُدرِك الحق على أساس النور الإلهي. عندما يُذكَر ”النور“، فهنا يستقرُّ على شخص الرب يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12). فللوقت تبتدئ العين تظهر أنها مركز لإدراك كل هذه الحقائق التي تستقرُّ في الرب يسوع المسيح. فالعين البسيطة، هي العين الروحية التي انفتحت على المسيح وعلى الحياة الأبدية. أما العين الشريرة، فهي عين روحية أيضاً، ولكنها انفتحت على الشرِّ. لأن العين الروحية عموماً هي من مُسلَّمات وهبات الله، وبها تُدرِك الطبيعةُ البشرية الحقَّ؛ وهي إما تنفتح على المسيح أو تنفتح على الخطيـة، وعلى ضوء ذلك تـأتي مُحاسبة الرب للإنسان. فـإذا انفتحت العين الروحيـة على الخطيـة والشر، أَظْلَمَتْ؛ وإذا انفتحت على المسيح، استنارتْ. وهذا الكلام واضحٌ جداً. نعود مرة أخرى لشرح أوضح لكلمة ”بسيطة“ ??????: + single ”مُفردة“: أي لا تقبل غير رؤية واحدة، أي لا تقبل غير شخص المسيح، ولا تقبل أبداً أي بديل له. + straight ”مستقيمة“: أي تتَّجه نحو المسيح، ولا تميل ناحية اليمين أو ناحية اليسار. لا تحتمل التعريج أو الانثناء، بمعنى لا يُعطِّل اتجاهها إلى الأمام أي مُعوِّق أو عاكس. + healthy ”صحيحة“: أي ليست مريضة بأهواء وغوايات جسدية، وهي تستطيع بكل قوَّتها أن ترى المسيح. + clear ”صافية“: أي لا يشوبها شائبة، بمعنى قدرتها على صحة الرؤية بجلاء. وبالتالي فهي قادرة على الرؤية بدون تشويش، فلا تدخلها أو تتداخَل معها شوائب عالمية. + plain ”مكشوفة“، ”صريحة“: أي لا تُخفي شيئاً، ولا يختفي شيءٌ عنها. فهي عينٌ واضحة. فهذه العين الروحية التي منحنا إيَّاها الله، هي العين التي تنفتح على المسيح. معنى أنَّ المسيح ”فَتَحَ ذهن التلاميذ ليفهموا الكُتُب“؟ المسيح يريـد أن يضع العين في وضعها الصحيح. ولذلك فالمعيار الذي وضعه الرب يسوع معيارٌ عالٍ جداً: «ليس أحدٌ يُوقِدُ سراجاً ويضعه في خِفْيةٍ، ولا تحت المكيال، بل على المنارة» (لو 11: 33)، أي يضعه في أعلى مكان بالبيت، معنى ذلك أن الرب يتكلَّم عن العين الروحية. فموقع العين الروحية، عند المسيح، هو في أعلى مرتبة بالنسبة للإنسان، وهي أهم عضو من أعضاء الإنسان. وهنا يأتي تركيز المسيح عليها في فَهم كل الإنجيل: «حينئذٍ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45). ما معنى: ”فَتَحَ ذهنهم“؟ أي أنَّ العين الروحية انفتحت على الحق، ودخلها نور المسيح، أي الحق، فانكشف لها كل شيء عن المسيح. ولذلك كَشَفَ المسيح مقدار أهمية العين الروحية، ولذلك وضعها في أعلى مرتبة للإنسان، تماماً مثل السراج الذي يوضَع على المنارة في أعلى مكان في البيت. فإذا كانت هذه العين مستقيمة أو صحيحة، فإن نور المسيح، النور الإلهي، يدخل من خلالها إلى داخل أعماق الإنسان. فالعين الصافية، غير المريضة، المستقيمة؛ لا تقبل شيئاً غير المسيح، وهي ذات اتِّجاهٍ مستقيم نحو المسيح. ولذلك فإنَّ الشعاع الإلهي، شعاع الحق، النور الحقيقي، يدخلها بدون عائقٍ، فتُنير كل ما في البيت، تُنير كل ما في الإنسان. معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ «ولا يُوقِدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيُضيء لجميع الذين في البيت» (مت 5: 15). فما معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ معناه: إنه يُضيء كل ما في الإنسان! عندما تكون العين الروحية بسيطة، حينئذٍ تُنير الفكر، القلب، الضمير، العواطف، المشاعر؛ وهي الأعضاء الداخلية غير المنظورة للإنسان. فيبتدئ نور المسيح بالحق، يُنير ما بداخل الإنسان، وذلك بدخول كلمة الإنجيل إلى القلب، بالقراءة الواعية، بالفهم الروحي. وحينئذٍ يستنير كل البيت، بمفهوم أنَّ «جسدك كلُّه يكون نَيِّراً». وهنا نبتدئ بشرح معنى العين الجسدية. العين الجسدية أي من الجسد؛ ولكن العين الروحية ليست من الجسد. فإذا كانت العين الروحية سليمة؛ فـإنَّ نور الله، أو نور المسيح، أو المسيح، سيدخل؛ فيُضيء كل أعضاء الإنسان المنظورة (الجسدية) وغير المنظورة (الروحية). أولاً فإنَّ نـور المسيح يُنير الفكر والضمير والعواطف والمشاعر والقلب، ثم بعد ذلك بالضرورة يُنير الجسد كله، كما قال بولس الرسول: «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخُذُ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا!» (1كو 6: 15)، وأيضاً: «ولا تُقدِّموا أعضاءكم آلاتِ إثمٍ للخطية... بل قدِّموا... أعضاءكم آلاتِ برٍّ لله» (رو 6: 13). لـذلك إذا دخـل النور الإلهي إلى داخـل الإنسان، فإنـه ليس فقط يُنير أعماق الإنسان، بـل وتَستنير بـه أعضاء الجسد أيضاً. فهذا النور الروحي، نور المسيح الفائق الفعالية، إذا دخل الإنسان، عـن صحةٍ؛ يستقرُّ في الجسد أيضاً، ويُنيره، ويُميت الخطية الكائنـة في الأعضاء. وكـذلك يُطهِّر الفكر والقلب والضمير مـن الأعمال الميتـة. هـذا هو مفهوم العين الروحية البسيطة. التأمُّل في الله: إذا كانت العين الروحية سليمة ليس بها أي مرض، فسيتطلَّع الإنسان إلى ما هو فوق. فطالما كانت العين الروحية صحيحة ومستقيمة وليس فيها تعتيم، فإن النور الإلهي يدخلها وينفذ فيها ويُنيرها، فيكون نظرها دائماً إلى ما هو فوق: «بنورك، يا رب، نُعاين النور» (مز 36: 9). فالنور الإلهي إذا دخل إلى أعماق الإنسان، سينعكس على كل ما هو ظاهر أو خارج، فيحدث ما يُسمِّيه المتصوِّفون: ”التحديق“، وما يُطلِق عليه الروحيون: ”التأمُّل“، أو ما يُطلَق عليه ”التحديق في النور الإلهي“. أي التحديق في ”الحق“، أي في ”طبيعة المسيح“. فالإنسان الذي دخله شعاع النور، من خلال العين الروحية، يستطيع أن ينفُذ هو أيضاً - من خلال العين الروحية السليمة - لينظر ويتأمَّل في الله. وكلما تأمَّلنا في الله، كلما انسكب فينا النور بصورةٍ أقوى. فهنا التحديق في نور الله، في الحق الإلهي، في شخص يسوع المسيح؛ يُزيد العين جلاءً، ويُزيد أعماق الإنسان استنارةً. الذين يتأمَّلون في الروحانيات، إذا كنتم قد جرَّبتم هذا، فإنه يحدث لهم في بداية الطريق صُراخ، لماذا؟ لأن بمجرَّد أن يتأمَّل الإنسان في الحقِّ أو في النور أو في المسيح؛ ترتد العين الروحية. فالتحديق أو التأمُّل في النور الإلهي، يستغرق ثوانٍ، ثم ترتد العين عن التحديق أو التأمُّل. ولماذا يرتدُّ الإنسان، أو العين الروحية، عن الرؤيا أو التحديق؟ لأن العين ليست مستقيمة كما ينبغي، ولذلك فهي تحتاج إلى تطهير وتنقية. ولذلك مداومة الإنسان على النُّسك والعبادة وقراءة الكتاب المقدس والاطِّلاع على الكتب الروحية وأقوال الآباء؛ يجعل العين الروحية صافية نقية. وعندما يزداد تحديق العين الروحية في الحق الإلهي، وتزداد فترات التأمُّل في آية من الآيات، أو في صفة من صفات الله؛ عندئذ يتركَّز الذهن مع القلب مع المشاعر مع الفكر، في الحق الإلهي، فيما هو فوق. ويستمر هذا التحديق أو التأمُّل لفترةٍ من الفترات، يعود بعدها الإنسان بغنيمةٍ روحية، ولا يعود فارغاً أبداً. فكلَّما تأمَّلنا أكثر، ودام تأمُّلنا في الحق الإلهي أكثر؛ كلما أَخَذَت العين الروحية قـوةً للتحديق في النور الإلهي، واقتنت صفاتٍ روحية جديدة.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
21 مارس 2021

أحد التجربة: الأحد الثاني من الصوم الكبير: نصرة الجهاد

ارتباط قراءات الفصول: نصرة الجهاد تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "نصرة الجهاد"، أي نصرة المخلص للمؤمنين الحقيقيين على تجارب الشيطان التي يتعرضون لها، فالأناجيل الأربعة لهذا اليوم تذكر موضوع تجربة الشيطان للمخلص في البرية، وكل منها يراد به إبراز معنى من المعاني الجليلة التي تتصل بهذا الموضوع. فإنجيل العشية يحث فيه المخلص المؤمنين المجربين على التوبة عن الخطايا التي توقع في التجارب، والأناجيل الثلاثة الباقية يراد بكل منها الإشارة إلى تجربة من التجارب الثلاث التي جرب بها الشيطان المخلص وهي شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة التي ذكرها يوحنا في رسالته (1 يو 2: 16). فإنجيل باكر يتكلم عن حفظ المخلص للمجربين، والإشارة فيه هي إلى تجربة الشيطان له بشهوة تعظم المعيشة وذلك بقوله له "اطرح نفسك من هنا إلى أسفل" ورده على ذلك قائلًا "قيل لا تجرب الرب إلهك". وإنجيل القداس يتكلم عن معونته لهم والإشارة فيه هي إلى تجربته له بشهوة العيون بقوله له "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" ورده على ذلك قائلًا "مكتوب للرب إلهك تسجد". وإنجيل المساء يتكلم عن نجاته لهم والإشارة فيه هي إلى تجربته له بشهوة الجسد بقوله له "قل لهذا الحجر أن يصير خبزًا" ورده على ذلك قائلًا " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ". ويحذر بولس الرسول المؤمنين في رسالته من إعثار الأخوة بشهوة الجسد التي هي الأكل والشرب وما إليهما، ويوصيهم يعقوب في الكاثوليكون بعدم إعثارهم بشهوة العيون بمحاباة الأغنياء، ويشير الإبركسيس إلى شهوة تعظم المعيشة التي تتمثل في الخلاف في الرأي الذي قام بين الفريسيين والصدوقيين حول خطاب بولس. مزمور عشية.. + حسن بالذين قد سبقوا بزلة الخطايا أن يرجعوا بالتوبة إلى الله لأنه ليس دواء آخر ينفع لشفاء الأوجاع التي سببتها الخطية سوى التوبة إلى الله. وكما أن محبة الطبيب نافعة للمرضى إذا واظبوا على التردد عليه كذلك تعين النفس السقيمة بالخطية مواظبتها على طرق باب رحمة الله. +هذا المزمور يعرفنا بخطية داود وتوبته العظيمة التي يجب أن تكون مثالًا يحتذي به لكل من يخطئ وهو من أهم مزامير التوبة السبعة وهي 6، 32، 38، 51، 102، 130، 143. + للخطية عقابان أحدهما سماوي وهذا يتغاضى عنه الرب عندما نتوب، والآخر أرضى وهذا لابد منه. 1 – " ارحمني يا الله حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك امح معاصي.." – ويقول" قلبا نقيًا أخلق في يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي ". + إن كل ما خلقه الله هو طاهر وجيد وحسن جدًا، فقلب الإنسان مخلوق إلهي حسن فكيف يغيره الله ؟؟ إن النبي لا يقصد أن يخلق الله له قلب لحمى غير ذلك الموجود فيه ولكن يخلق له نقاوة جديدة في قلبه ويطهره من الأفكار النجسة التي نجسته وعوجت مسلكه.أما الروح المستقيم هنا فهو الضمير كما يقول الكتاب المقدس (إنه لا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه).. + ويطلب داود نائبًا عن كل واحد منا طلبة في غاية الأهمية وهي "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه منى" + إن العبد يعتبر صرف وجه سيده عنه خسارة عظيمة وكذلك الابن إذا صرف أبوه نظره عنه بعدم إعطائه المشورة والإرشاد، وأيضا الجندي إذا أقصاه الملك من عمله. + وأما الله فإذا طرح الإنسان من نظره يكون ذلك هلاكًا له وإبادة لأن الله هو سيدنا وأبونا وملكنا وخالقنا وكل ما يوافق لوجودنا وخلاصنا فهو علته وسببه. + وصرف وجه الله عن الإنسان هو أن ينزع منه الروح القدس، أعنى المِنَح التي أعطاها له لما نفخ في وجهه وصيره ذا حياة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقد قال ربنا له المجد عن الذين كانوا في عهد نوح [لا يدين (لا يلبث) روحي في الإنسان لأنه بشر] (تك 6: 3). فالروح القدس هو موهبة الله كما نفخ ربنا في رسله القديسين وقال لهم: "اقبلوا الروح القدس" (يو 20: 22). وبه أعطاهم موهبة الحل والربط لخطايا البشر. الكاثوليكون من يع 2: 1 – 13 يا أخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهي ودخل أيضا فقير بلباس وسخ فنظرتم إلى اللابس اللباس البهي وقلتم له أجلس أنت هنا حسنًا وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة اسمعوا يا أخوتي الأحباء أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه وأما أنتم فاهنتم الفقير أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلى المحاكم أما هم يجدفون على اسم الحسن الذي دعي به عليكم فإن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب تحب قريبك كنفسك فحسنا تفعلون ولكن إن كنتم تحابون تفعلون خطية موبخين من الناموس كمتعدين لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل لأن الذي قال لا تزن قال أيضًا لا تقتل فإن لم تزن ولكن قتلت فقد صرت متعديًا الناموس هكذا تكلموا وهكذا افعلوا كعتيدين أن تحاكموا بناموس الحرية لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة والرحمة تفتخر على الحكم هنا يبرز يعقوب الرسول أهمية الإيمان والأعمال بعدما تحدث الرسول عن موقفنا كأبناء لله عابدين بالحق، بدأ يوجه النظر في هذا الأصحاح إلى أهمية الأعمال للإيمان: 1. الإيمان والمحاباة بين العابدين "يا أخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة" [1] يلقب الرسول ربنا يسوع المسيح بـ"رب المجد" لكي يرفع أنظار المؤمنين إلى المجد السماوي الحقيقي، فلا يحابون الناس على أساس الغنى والكرامة والمجد زمني، بل يحبون الكل كإخوة لهم ميراث أبدي مرتبطون بإيمان الرب.خلال هذه الإخوّة يوجه لهم الحديث قائلًا: "يا إخوتي"، مُظهِرًا أنه لا يوجد تحيز ولا محاباة بل الكل أعضاء لجسدٍ واحدٍ. هذا هو الإيمان الحي العامل.فالإيمان يلزم ترجمته عمليًا في عمل المحبة الذي يجعلنا نحب الجميع بلا تمييز أو محاباة. وقد كشف الرسول عن علامة المحاباة وخطورتها قائلًا:"فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ،ودخل أيضًا فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس اللباس البهيّ، وقلتم له اجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس تحت موطئ قدميَّ"[2 – 3]. كيف لا تكون هناك محاباة بين العابدين إن حدث هذا التمييز؟ ١. تمييز الغني بالقول له "اجلس أنت هنا حسنًا".لم يقل الرسول "إن دخل إلى مجمعكم غني" بل "إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ" أي إنسان عليه علامات الغنى والكبرياء. إذ كان بعض الرجال الأغنياء يلبسون خواتم ذهبيّة كثيرة ويهتمون باللباس البهيّ الفاخر لنوال الكرامة والمجد الزمني. ويكشف الرسول عن روح المحاباة ليس فقط في تقديم الأغنياء في أماكن خاصة في أماكن العبادة، بل يقول "ونظرتم إلى الملابس.." أي أعطيتم لهم أهميّة. ولم يقل "دخل إلى كنيستكم" بل "إلى مجمعكم"، وربما هذا للتوبيخ إذ لا يليق هذا التحيز بالكنيسة. ٢. احتقار الفقير بأمره بالوقوف أو الجلوس عند أقدام الغني يقول القديس أمبروسيوس: [ما هو النفع الذي يعود عليك بتكريمك (محاباتك) للغني؟ هل لأنه أكثر استعدادًا لإبقاء محبة الآخرين له؟ فنقدم المعروف لمن نتوقع منهم أنهم سيوافوننا عنه. إنه يلزمنا أن نفكر بالأكثر فيما يخص الضعفاء والمحتاجين لأننا بسبب هؤلاء نترجى الجزاء من الرب يسوع، الذي في مثال وليمة العرس (لو ١٤: ١٢-١٣) قدّم لنا صورة عامة للفضيلة. فقد طلب منا أن نقدم أعمالنا بالأكثر لمن ليس في قدرتهم ردها لنا.] وخطورة التمييز بين الأغنياء والفقراء هي: أولًا: تضاد الله المهتم بالفقراء"فهل لا ترتابون في الأمر وتصيرون قضاة أفكار شريرة. اسمعوا يا إخوتي الأحباء،أمَا اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه، وأمَّا أنتم فأهنتم الفقير" [4 – 5]وكأن الرسول يقول: هل يحتاج الأمر إلى تفسير أو توضيح؟ أمَا تحكم عليكم ضمائركم في داخلكم من جهة أفكاركم الشريرة هذه؟ وكما يقول القديس أمبروسيوس: [إن كان ملكوت الله للمساكين فمن هو أغنى منهم؟]وكما يقول القديس أغسطينوس: [الجميع عند الله متساوون، إنما تسمو منزلة كل واحد منهم حسب إيمانه وليس حسب أمواله.]هكذا لا يميز الله بيننا حسب غنانا، بل أعطى اهتمامًا بالفقراء من أجل مذلتهم، واعتبر كل إهانة تلحق بهم مُوَجَّهَة ضده، لهذا ينصحنا الكتاب المقدس قائلًا: "من قدم ذبيحة من مال المساكين فهو كمن يذبح الابن أمام أبيه" (سي ٣٤: ٢٤). من أجل هذا تقف الكنيسة نصيرة للمساكين، موبخة الأغنياء الظالمين. ثانيًا: كثير من المشاكل يسببها الأغنياء: "أليس الأغنياء يتسلطون عليكم؟ وهم يجرونكم إلى المحاكم! أمَّا هم يُجَدِّفون على الاسم الحسن الذي دُعِيَ به عليكم!" [6 – 7]كأن الرسول يقول: لماذا تحابون الأغنياء مع أن أغلب المشاكل تنبعث منهم؟ تطلَّعوا فإن الأمم الوثنيين قَبِلوا الكلمة بإيمانٍ وفرحٍ (أع ١٣: ٤٨)، بينما ثار اليهود الأغنياء ماديًا وأغنياء في الاعتداد بالذات وحب الكرامة الزمنيّة ضد الإيمان، إذ يقول سفر الأعمال "ولكن اليهود حركوا النساء الشريفات ووجوه المدينة وأثاروا اضطهادًا على بولس وبرنابا وأخرجوهما من تخومهم" (13: 50).وظاهر من قول الرسول "يتسلطون عليكم" إن احترامهم وتملقهم ومحاباتهم للأغنياء لا يقوم على أساس الحب والاحترام بل التملق والمداهنة. ثالثًا: تملقهم ينافي الناموس "فإن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب،تحب قريبك كنفسك فحسنًا تفعلون. ولكن إن كنتم تُحابون تفعلون خطيّة، مُوَبَّخين من الناموس كَمُتَعَدِّين" [8 – 9] فلو أن تكريمهم نابع عن الحب لكان في ذلك تكميل للناموس الملوكي، وكان عملهم هذا حسنًا جدًا. لكن إذ الدافع هو المحاباة، لذلك فقد انحرفوا وتعدوا الناموس، وصار عملهم خطيّة.يقول القديس أغسطينوس: [يقول الرسول: المحبة هي تكميل الناموس. فإذا وجدنا المحبة ماذا نحتاج بعد! وإذا خسرنا المحبة أي ربح يمكننا أن نجنيه؟ لنتمسك بوصية الرب (يو ١٥: ١٢) بأن نحب بعضنا بعضًا وبهذا نُنَفِّذْ كل الوصايا.]إذن فلنحرص على حفظ الوصيّة أي محبة القريب حتى لا نكسر الناموس."لأن من حفظ الناموس، وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل.لأن الذي قال لا تزن،ِ قال أيضًا لا تقتل.فإن لم تزنِ ولكن قتلت فقد صرت متعديًا الناموس" [10 – 11] يثير هذا النص تساؤلًا: هل كل الخطايا متشابهة، فمن يقتل عمدًا كمن يكذب عن إكراه؟ لقد كتب القديس أغسطينوس رسالة إلى القديس چيروم يشرح له فيها هذا النص وقد أوضح فيها: 1. أن الخطايا بالعمد مثل القتل عمدًا ليس كالهفوات التي تصدر عن ضعفٍ بشريٍ أو بغير إرادةٍ أو عن جهلٍ. غير أن جميع الخطايا عقابها الموت الأبدي، وجميع الخطايا لا يمكن التطهير منها إلاَّ بدم السيد المسيح. 2. يقصد الرسول بهذا النص أن خطيّة "عدم المحبة" والاستهانة بالفقير ومحاباتنا للأغنياء، تجعلنا نكسر الناموس كله. رابعًا: احتقار الفقراء يفقدنا الرحمة "هكذا تكلموا وهكذا افعلوا كعتيدين أن تُحاكَموا بناموس الحريّة. لأن الحُكْم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة.والرحمة تفتخر على الحُكْم" [12 – 13] "هكذا تكلموا وهكذا افعلوا" أي ليكن هو موضوع كرازتكم وموضوع سلوككم أن تصنعوا الرحمة مع إخوتكم فتنالوا رحمة يوم الدين. فإذ نُحاكَم بناموس الحريّة هكذا لا نتمتع بالتحرر الأبدي من الكثير ما لم نعتق إخوتنا مما هو قليل وزمني، ولا ننتفع بمراحم الله غير المحدودة ما لم نترفق بإخوتنا فيما هو محدود. إنجيل القداس.. متى 4: 1 – 11 ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرًا فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ثم آخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك قال له يسوع مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ثم آخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا واراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لي حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه أحد التجربة: "ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس.." (مت 4: 1). "ثم" أي عقب عماد مخلصنا الرب يسوع، "أصعد يسوع"، هناك عدة عوامل اشتركت في إصعاد يسوع إلى البرية لم تذكر.وأول هذه العوامل هي مسرة الله الآب في أن ينزل ابنه إلى العالم متجسدًا ليتألم بكل صنوف الآلام والتجارب ليخلص العالم، إذ ترنمت الملائكة ليلة ميلاد ابنه قائلة: " وبالناس المسرة "، والعامل الثاني هو مسرة الابن نفسه كقول الرسول: "يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي" (عب 12: 2).والعامل الثالث هو أن يكون مجربًا مثلنا كما يقول الرسول: "من ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء لكي يكون رحيمًا ورئيس كهنة أمينًا في ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب، لأنه فيما هو قد تألم يقدر أن يعين المجربين" (عب 2: 17، 18).كل هذه العوامل دفعت الرب يسوع لأن يصعد إلى البرية بقيادة الروح القدس لمحاربة الشيطان وكسر شوكته وتخليص البشر الذين سباهم يوم كسر آدم وغلبه في الجنة، أما المقصود بالروح هنا فهو الروح القدس. " فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا " (مت 4: 2). صام مخلصنا كما صام موسى وإيليا، ولكنه لم يكن صومًا لكباح شهوة لأنه "أخذ كل ما لنا ما عدا الخطية" – "قدوس بلا شر انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات"، ليس بحاجة إلى شفافية تساعده على الاتصال بالله لأنه هو والآب واحد وليس فيه ما يفصل بينه وبين أبيه، لأنه في كل حين يعمل إرادة أبيه.ولكنه صام لأنه "يجب أن يكمل كل بر".. صام مخلصنا وبصومه أكمل كل بر لأنه بصومه هذا في البرية في حربه مع الشيطان قد أكمل ما عجز البشر عن صوم نظيره، إذ صام الصوم الذي اختاره الله كما قال قديمًا بلسان إشعياء النبي: " أليس هذا صومًا اختاره.." (أش 58: 6).صام المسيح ليجرب من إبليس فكسره في البرية ودحره دحورًا كمقدمة لكسرته النهائية على الصليب: "ومحى الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه " (كو 2: 15). يسوع يجرب: ومع أن الرب يسوع كان طاهرًا قدوسًا ولم تكن له أفكار الخطية لتقوم في قلبه، فقد جربه الشيطان. ولكن جاءه إبليس من الخارج لأنه لم يجد فيه شيئًا من الداخل كقوله له المجد "رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء " (يو 14: 30). فعبرت تجارب إبليس على سطح نفسه الطاهرة، ولكنها كانت تجارب حقيقية، لأنه جاع مثلنا، وبرغم أنه قد أحس بشهية الأكل إلا أنه أخضع الشهية لقوة إرادته المقدسة.وكما أن صعود المسيح إلى البرية كان جزءًا رئيسيًا من عمله العظيم الذي جاء لأجله، فإن تجربة المسيح كانت جزءًا من تواضعه وآلامه.."فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت 4: 3).لما رأى الشيطان أن هجماته السرية مدة أربعين يومًا قد صدها الرب يسوع بقوته الفائقة دون أن يلين أمامها أو يميل معها إذ هو صخر الدهور الأبدي، راح يجمع كل أدوات حربه: "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة" (1 يو 2: 16). تلك الأسلحة التي هاجم بها آدم الأول في الجنة وانتصر بها عليه فكبله بقيود الإثم مستعبدًا إياه وذريته معه، وهي الأسلحة التي لا يزال يحارب بها أولاد آدم إلى يومنا هذا. السلاح الأول: الذي تقدم به إلى ربنا يسوع بصفته آدم الثاني كان شهوة الجسد " إن كنت أبن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا " هذا هو الطعم الذي دس فيه خطية الشك والارتياب في أمانة الله وصدق مواعيده وعنايته، خطية عدم انتظار مشورة الله، وعدم الاتكال عليه، خطية الاعتماد على الذات، هذه الخطايا قد لفها الخبيث في غلاف تكاد العين البشرية المجردة أن لا تراه، هو الحرف " إن " وهو كلمة شك يريد بها زعزعة ثقة المسيح في كونه ابن الله وتشكيكه في صوت الآب الذي سمعه عند المعمودية يعلن:" هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت".رفض يسوع هذه المشورة المناقضة لقول الله الصريح: " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 8: 3)." ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، فقال له يسوع مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك " (مت 4: 5 – 7).كثرت آراء المفسرين في كيف أخذ إبليس الرب يسوع، ولكن إذا علمنا أن الشيطان روح، والأرواح تحمل البشر وتخطفهم لا فرق بين أنبياء ومبشرين كما ورد في سفر الملوك الثاني (ص 2: 16) أن بنى الأنبياء قالوا لإليشع تلميذ إيليا عن معلمه: "لئلا يكون قد حمله روح الرب". وقال حزقيال النبي: " ثم حملني روح.. فحملني الروح وأخذني" (حز 3: 12، 14). وإذا قيل كيف الروح النجس يحمل المسيح القدوس ؟ نقول: أما سمح المسيح لليهود الأشرار الذين قال لهم يومًا ما " أنتم من أب وهو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا " سمح لهم أن يأخذوه ويسوقوه ويدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة للمحاكمة! فكما سمح لهؤلاء هكذا سمح للشيطان أن يأخذه أو يحمله لإكمال تجاربه التي انتصر فيها عليه وكسره وأنقذ البشر الذين أسرهم تحت عبوديته.يلاحظ هنا أن الشيطان لما رأى الرب يسوع قد صده بآية من الكتاب راح هو الآخر يقدم غواية أخرى عن طريق الكتاب، فقال: " مكتوب أنه يوصى ملائكته " متخذًا من الكتاب الذي جعل لهداية الناس وسيلة للغواية والتضليل كما يلاحظ أيضًا أن إبليس لم يكتف بأن يضع النص الكتابي في غير موضعه، بل راح يحذف ويهمل إهمالًا خطيرًا بعض النص الذي أورده من المزمور (91: 11، 12) وهو: " لأنه يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك ". أما الشيطان فحذف منه عبارة " في كل طرقك " أي الطرق المميزة والمبينة من الله كقوله: " أعلمك أرشدك الطريق التي تسلكها " (مز 32: 8) " الطريق الصالح " (أر 6: 16) " طريق الحق " (مز 119: 30).رأى يسوع أعماق الشيطان فلم يشأ أن يجيبه إلى طلبه ويمتحن أمانة الله بدون داع ولا مسوغ، لأنه مادام هناك طريق للنزول بسهولة، فلماذا يطرح نفسه ويصنع معجزة، والمعجزة لا تكون إلا عند العجز عن النزول، كاليوم الذي أمسكه فيه أهل مدينته وأرادوا أن يطرحوه من على الجبل، فجاز بينهم وانطلق.فلو فعل المسيح ما طلبه الشيطان، لما كان عمله إظهارًا لقوة إيمانه، بل كان مظهرا من مظاهر التعدي على وصية الله القائلة: " لا تجرب الرب إلهك ".إن يسوع لم يرد أن ديانته تنتشر بوسائل مادية بل بقوة الروح القدس.لذلك رد يسوع كيد الشيطان في نحره بتصحيح النص الذي نقله محرفًا، وتطبيقه تطبيقا يتفق مع وصية الله القائلة: " لا تجرب الرب إلهك " وراح يشهره سلاحًا في وجه الشيطان. "ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 8 – 9). كانت هذه التجربة الأخيرة أقوى التجارب الثلاثة وأخطرها، لأن إبليس عندها قد خلع ثيابه الخداعة وظهر كحقيقته الشيطانية، وأعلن قصده الأثيم جهارًا، معترفًا بأنه رئيس هذا العالم وأن بيده كل سلطان في ممالك العالم القائمة على الفساد الكلى. كما أنه يرى في يسوع ملكا متوجا من الله. لسنا بحاجة إلى السؤال عن الكيفية التي استحضر بها الشيطان جميع ممالك العالم أمام السيد المسيح، ونحن الآن نعيش في الدش والفضائيات التي تستحضر في لمحة من جميع قارات العالم الأصوات والمناظر وتجعلها تحت سمع وبصر الناس، فإذا كان البشر قد اكتشفوا واخترعوا ذلك فكم وكم يكون الشيطان رئيس هذا العالم ورئيس الهواء الواقف على ما في عناصر الطبيعة من قوة وتأثير!.وبعد أن أرى الشيطان جميع ممالك العالم لربنا يسوع راح يقدمها له عطية مجانية ليغنيه عن الجهاد والآلام التي كان مزمعًا أن يكابدها له المجد واعدًا إياه أن يضع صولجان الملك في يده وينقل إليه التكليف – حق التملك الذي له على ممالك العالم وكل مجدها، في لحظة بثمن زهيد جدًا كما يراه الخبيث لا يكلف أكثر من أن يخر ساجدًا أمامه."أذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " (مت 4: 10) لقد طلب الشيطان في التجربتين الأولى والثانية من ربنا يسوع برهانًا على قوته الإلهية بقوله:" إن كنت ابن الله "، فلم يجبه مخلصنا بالطريقة التي طلب بها، ولكن في التجربة الثالثة أعطاه البرهان على أنه ابن الله بطريقة شعر بها الشيطان في ذاته عندما قال له: " اذهب يا شيطان للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " فشعر الشيطان في الحال أنه واقف أمام من يعرف أعماقه أعماق الهاوية، أمام من لا يختفي عنه عمل الإثم، شعر بقوة الأمر الصادر له من فم مخلصنا تدفعه إلى أعماق الجحيم دفعًا، ظل شاعرًا بتأثيرها وخطرها حتى إذا ما رآه مارًا في الطريق ذات يوم صرخ قائلا: "آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أجئت قبل الوقت لتعذبنا"! "ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت 4: 11).إن ترك إبليس للسيد المسيح كان فرارًا وانكسارًا واعترافًا بعظمة المسيح وجبروته.ولكن ابتعاد الشيطان كان إلى حين، كما يقول القديس لوقا: " فارقه إلى حين " لأن الحرب قد تكررت مرارا وخاصة في اليوم الأخير من حياة المسيح المقدسة على الأرض."جاءت ملائكة فصارت تخدمه" بعد أن انتصر على الشيطان، جاءت الملائكة في الوقت الصحيح والحين المناسب وليس كما طلب الشيطان، فلما رفض المسيح العمل بمشورة الشيطان جاءت الملائكة وصارت تخدمه. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
20 مارس 2021

إنجيل عشية الأحد الثاني من الصوم الكبير

مر12:1-15 وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وكان هناك في البرية أربعين يوما يجرب من الشيطان. وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه.وبعدها أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت االله ويقول: "قد كمل الزمان واقترب ملكوت االله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". التجربة على الجبل الأحد الثاني هو أحد التجربة بحسب ما رتب آباء الكنيسة وفيه يقرأ إنجيل التجربة على الجبل، لما صام المسيح عنا أربعين نهارا وأربعين ليلة وقد أورد الإنجيليون مار متى ومار لوقا عينات من هذه التجارب تجربة الخبز وتجربة مجد العالم وتجربة إلقاء المسيح نفسه من على جناح الهيكل وقد صرعه المسيح في كل تجاربه وكسر شوكته عنا واستخلص لنا بصومه المقدس نصرة على جميع سهام الشرير الملتهبة نارا. ولكن إنجيل العشية بحسب ما كتبه القديس مرقس البشير قد اختزل تجربة المسيح وأوردها في آية واحدة "أن الروح أخرجه إلى البرية ليجرب من إبليس أربعين يوما وكان مع الوحوش وكانت الملائكة تخدمه". وإذ أحجم مارمرقس عن أن يدخلنا إلى تفاصيل التجارب وطبيعتها وهو يكتب بالروح القدس فهذا معناه أن الأمر يفوق حدود العقل والإدراك البشري، فالعدو رئيس هذا العالم هو روح الظلمة الكذاب وأبو الكذاب المعاند والمقاوم الله، شرس غاية الشراسة وقد كان من البدء قتالاً للناس. فبأي كيفية حارب القدوس وإلى أي مدى كانت هذه الحرب وتلك التجارب وما هي طبيعتها وما هي أعماقها، فهذه أمور تعلو إدراكنا وتتجاوز معرفتنا الضعيفة . ولكن لأن المسيح صام عنا ومن أجلنا، ولم يفعل شيئًا إلا لحسابنا فبكل تأكيد أن ما خرج به المسيح منتصرا على كل تجارب العدو كان لحسابنا بل أعطاه المسيح لنا وأجزل لنا العطاء. ونحن نقترب إلى سجله مارمرقس تلمس فيه نصيبنا لأن المسيح وهو متحد بطبيعتنا البشرية، صام بها وحارب بها وانتصر بها لحسابنا ومن أجلنا. أولاً: فإن قيل إن الروح اقتاد فأعلم أنه قد تسجل لنا هذا ميراثًا في المسيح، وقد نم هذا بعد المعمودية مباشرة حين جاء صوت الآب من السماء شاهدا "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"، وحين حل الروح عليه بهيئة جسمية كاملة بشكل حمامة. فصار فيما بعد أن الذين ينقادون بروح االله، فأولئك هم أبناء االله. فبدءا بمعموديتنا حين ينادي أننا صرنا أولاد االله وحين نقبل نعمة البنوة إذ نتحد مع المسيح بشبه موته وننال نعمة الروح المعزي الحال فينا والساكن فينا حينئذ يتسلم الروح القدس قيادتنا.فالذي يقتاد بروح االله فقد ختم أن االله أبوه وهو ابن االله. الروح هو الذي يرشد إلى جميع الحق، يعلم وينصح ويعزي ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها ويأخذ مما للمسيح ويعطينا ويذكرنا بكل ما قاله السيد، وهويبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، ويفحص كل شيء حتى أعماق االله.فإن كان الإنسان ينقاد بالروح في العمل والكلام ويسلك بالروح ولا يطفيء الروح ولا يحزن الروح،ويكون مراضيا للروح مادام في طريق الحياة يسلك. يصير الإنسان محمولاً منقادا بروح االله وحسبما يسير الروح يسير. ثانيا: وهنا تأتي التجارب ويتقدم المجرب لأن التجارب في حياة أولاد االله حتمية ولا مفر لأن العدو متربص ويوم أن ننحاز إلى المسيح فقد أعلنا الحرب عليه. إن بداية معموديتنا أننا جحدنا الشيطان وكل قواته الشريرة وكل نجاساته وكل حيله الردية والمضلة.فبعد أن خرج الشعب مع موسى من أرض العبودية واعتمدوا جميعهم في البحر الأحمر صارت الحرب مع عماليق. فالحرب بعد أن استعلن المسيح ابن االله بصوت الآب وحلول الروح صارت الحرب والتجارب وانتصب المجرب للصراع.إذن التجربة نتيجة طبيعية لالتصاقنا بالمسيح واتحادنا معه ودخولنا إلى شركة معـه وفيـه بـالروح القدس. لم تخل حياة أحد من القديسين على مر العصور من التجارب، فتش في حياة القديسين جميعـا، هـل خلت حياة أحدهم من التجارب؟ "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يضطهدون". فالرسل الأطهار كم قاسوا من التجارب والتشريد والحبس والسجون الاضطهادات والضيقات والأحزان... شيء مهول ولكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. وهكذا الشهداء والأبرار الصديقون والنساء سكان البراري ورجال الإيمان والآباء، كم قاسوا وحملوا الصليب وتجربوا وطافوا معتازين مذلين مكروهين من العالم مجربين.ولكن الذي يحلو لنا أن نتفكر فيه أن النصرة في المسيح وبالمسيح شيء أكيد لا يقرب منه الشك. فالمسيح سحق الشيطان وأذل فخره، ورجع الشيطان مكسورا مهانًا مذلولاً خائبا. فالتمسك بالمسيح والحياة فيه، يزكي فينا الشعور بالنصرة ووعد المسيح قائم أنه أعطانا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو الشرير.وهكذا ندرك أنه مهما طالت التجارب وتنوعت ومهما بدا أن الشيطان متقوٍ علينا ولكن الغلبة النهائية هي لحساب المسيح. وما بناه الشيطان في سنين وسنين يهدمه المسيح بكلمة، لأن ابن االله قد جاء لكي ينقض أعمال إبليس.وهكذا يدخل أبناء االله التجارب وهم حاملون للنصرة في داخلهم كتلميذ يدخل الامتحان ونتيجة الامتحان والفوز في جيبه. "ثقوا أنا قد غلبت العالم "، "وخرج غالبا ولكي يغلب". وهذا الشعور في القديسين هوالذي قادهم إلى الاتضاع الحقيقي، لأنهم أدركوا أن النصرة ليست بقوتهم ولا بذراع البشر، ولا اعتمدوا على عملهم ولا على قدرتهم بل على االله وحده. فكان إذا انتصروا على الشيطان وأذلوا فخره، كانوا يزدادون اتضاعا وإنكارا لذواتهم ويزدادون ثقة في الذي يقويهم "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني "، "أنا ما أنا ولكن نعمة االله التي معي". ثالثًا: كان مع الوحش في الواقع أن المسيح استعاد لنا صورتنا الأولى ومجدنا الأول وأعادنا إلى الفردوس حيث كانت الوحوش أليفة صديقة للإنسان من غير أذى... فلما سقطنا من رتبتنا صارت العداوة واستعلن الطبع الوحشي في حيوانات البرية. فإن كان بالفعل قد استؤنست الوحوش وخضعت للقديسين في المسيح، مثل ما نرى في أيقونة مارمرقس وكيف أن الأسد تحت رجليه، والقديس بولس الرسول نفض وحش الثعبان في النار ولم يتأذ بشيء، والقديس برسوم العريان عاش مع ثعبان كبير والبابا زخارياس لما أُلق تي للسباع لم ؤذه مثل دانيال في جب الأسود. هذا هو زمن المسيح يرعى الأسد مع الخروف... وهذا هو قول المسيح "أرسلكم كحملان في وسط ذئاب".في المسيح يسوع، وفي صوم المسيح عنا، تذلل الطبع الوحشي. على أن ليس المسيحي هو الذي يخضع وحوش الأرض مثل مروضي الوحوش بل هناك في إنساننا العتيق ما يماثل الوحوش في طباعها مثل الغضب والاحتداد والعنف والانتقام والشراسة والمكر والخبث ومحبة الزنى والأنانية... كلها طباع حيوانية وحشية. ويمكننا بالمسيح وبشركة صومه أن نصير مع الوحوش بغير أذى. لقد تذلل الطبع الوحشي، فلم تعد هذه الطبائع الوحشية تسود علينا، بل على العكس صرنا بالروح نُميت أعمال الجسد ونخضع أجسادنا ونستعبدها كقول الرسول . رابعا: صارت الملائكة تخدمه صوم المسيح أدخلنا إلى هذه الشركة الروحية مع الملائكة... صارت الملائكة بالنسبة لنا أرواحا خادمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص.صحبة الملائكة في الصوم هي الحياة السماوية بكل ما تعني. كأن الإنسان الصائم مع المسيح برغم التجارب الكائنة يشعر أنه يحيا حياة ملائكية سماوية. ويحيا معانا من القوات السماوية، مثلما أعلن الملاك إيليا النبي حينما صام أربعين نهارا فقد أيقظه من نومه وأطعمه، فسار بقوة هذه الأكلة أربعين يوما.إنها أسرار مخفية عن الحكماء ولكنها تعلن للبسطاء وأنقياء القلب. المتنيح القمص لوقا سيداروس (عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل