المقالات

26 فبراير 2021

الباب المفتوح

«مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يع4: 17). إذن ليسَتْ الخطيّة هي فقط التعدِّي وكَسر وصايا الرب. فكثيرًا ما يُبرّر الإنسان نفسه أنّه لا يكذب ولا يحلف ولا يسرق ولا يزني، وحسنًا أن يكون الإنسان هكذا.. ولكن هل تَعلَم أنّ التقصير في فِعل الخير يُحسَب خطيّة؟ هذا القول الإلهي، يضعنا أمام مبدأ روحي غاية في الأهمّيّة من جهة العمل الإيجابي. ليس الامتناع عن السلبيّات شيئًا يدعو إلى الافتخار أو التباهي، فإن كُنّا قد نلنا النعمة وصِرنا أولاد الله، فأي ثمر ينبغي أن نثمر قال القديس بولس عن هذه الأمور إنّها كانت ثمر الطبيعة القديمة الساقطة، وهي التي سلكنا فيها قَبلاً متسكّعين في الخطايا والنجاسات، الأمور التي نستحي منها الآن، التي ذِكرها أيضًا قبيح. أمّا الآن فلكم حياة مقدسة كأعضاء جسد المسيح، ولكم ثمر الحياة الأبدية.قول الرب في القديم أنّ كلّ شجرة تُثمِرُ كجنسها (تك1: 11) هذا قانون إلهي. فإن كُنّا قد قُطِعنا من شجرة البشرية الساقطة وطُعمنا في الكرمة الحقيقيّة، وصِرنا أغصانًا فيها، فثمر حياتنا لابد أن يكون من نِتاج الكرمة الرب يسوع قال: «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو15: 1، 2). لذلك نقول إن ثبَتنا في الكرمة الحقيقيّة نأتي بثمر ويدوم ثمرنا، وتصير ثمار الطبيعة القديمة من كلّ أنواع الخطايا غريبة عنا.. نستحي منها، ويستحيل على طبيعتنا الجديدة المولودة من الله أن تتصالح معها «هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟» (يع3: 12). لذلك نُكرِّر ونقول إن خَلَتْ حياتنا من ثمر الشرور والخطايا فهذا أمر طبيعي للثابتين في جسد المسيح الذي هو الكنيسة.ورجوعًا إلى الآية أنّ «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ»، يتوجَّب علينا أن نعي بإدراك روحي أنّ فِعل الخير والصلاح، من تقديم المحبة وإنكار الذات وبذلها من أجل الآخر، والخدمة بجميع أنواعها، وأعمال المساعدة والمعونة والاحتمال والغفران... إلى آخر كلّ الفضائل المسيحية التى رأيناها في سِيَر القديسين.. بحسب ما أعطَتْ النعمة كلّ واحد مِن مواهب واحسانات، فمَن يعرف أن يعمل شيئًا مِن هذه ولا يفعل فقد صار بلا ثمر، وهذا وصفه الروح بأنّه خطية. فإن وضعَتْ النعمة أمامنا فُرصة لعمل الخير فلنسرِع وننتهز الفُرصة كقول الرسول: «لاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غل6: 9). وأيضًا «مُسْرعِينَ إلَى حِفْظِ وَحْدانَّية الروُّحِ برِبَاطِ الصُّلحِ الكَاملِ» (أف4: 3). «هَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا» (رؤ3: 8). النعمة دائمًا تجعل أمامنا بابًا مفتوحًا للدخول وللتحصيل على نعمة أكثر. قد توجَد أبواب مقفولة دوننا، وهذه نحاول أحيانًا الدخول فيها، وإذ نفشل نصاب بالإحباط واليأس أحيانًا مِن كَثرة المحاولات وتكرار الفشل.دَعْ عنكَ الأبواب المغلقة لا ترتبك بها ولا تيأس. خُذْ مثلاً داود النبي والملك.. كان قد اشتهى من كلّ كيانه أن يبني بيتًا للرب، يضع فيه تابوت العهد وتكون فيه الذبائح والتسبيح، بدلاً من كون التابوت موجودًا في خيمة، ولكنّ الرب قال لداود: أنت لا تبني الهيكل.. لأنّك رجل حروب وقد سفكتَ دماء لقد انسدّ هذا الباب الذي اشتهى داود أن يدخل فيه، وصار من المستحيل أن يعمل أو يكمل هذا الأمر. وكُنّا نتصوّر أنْ يلتمس داود لنفسه الأعذار.. ما دام الأمر كذلك، وما دام الرب قد حرمني من هذه النعمة، فماذا عساي أن أفعل؟ على العكس من ذلك وجدنا داود قد انصرف إلى العمل نحو ذات الغرض من الأبواب الأخرى.. إذ جهّز كلّ ما يلزم لبناء الهيكل من ذهب وفضة وأخشاب.. إلى آخره. لم يقف عاجزًا أمام باب مغلق، بل بإيجابٍ استطاع أن يَعمل ويَعمل.. وسلّم سليمان ابنه كلّ ما يلزم للبناء، بل وسلّمه كلّ المقاسات والتفاصيل والأوزان وأراه المثال كاملاً قائلاً: «قَدْ أَفْهَمَنِي الرَّبُّ كُلَّ ذلِكَ بِالْكِتَابَةِ بِيَدِهِ عَلَيَّ (1أخ28: 19). تأمَّل أيضًا في حياة القديس بولس الرسول لمّا ألقوه في السجن، ماذا يفعل هذا الكارز العظيم الذي طاف العالم يبشّر بالمسيح. لقد تقيّدتْ حرّيّته بين جدران السجن. وكان من الطبيعي أن يجد لنفسه كلّ العذر في أن لا يفعل شيئًا ويستسلم للأمر الواقع، ويقول للرب إن كنتَ تريدني أن أخدم أخرجني من هذا الحبس، لأني أنا هنا عاجز أن أفعل شيئًا.. لقد كان أمام باب مغلق!! ولكنّه بالروح تجاوز هذا الباب المُغلَق وانفتح له باب عظيم فعّال، فعكف يكتب رسائله المملوءة من النعمة والحكمة إلى جميع الكنائس، بل وإلى كلّ أجيال الكنيسة في كلّ مكان وزمان.والعجيب أنّ رسالته إلى أهل أفسس، التي يسمّيها الدارسون للكتاب المقدس أنها أعلى وأعمق ما كتبه الروح القدس في العهدين. هذه الرسالة كتبها القديس بولس وهو في السجن لم يقف عاجزًا بائسًا ويائسًا أمام باب مقفول، بل تجاوَزَهُ إلى الأبواب المفتوحة توجَد أمور لا يستطيع الإنسان أن يعمل فيها شيئًا، ولكن تَجِدُ أمورًا يستطيع الإنسان بالنعمة أن يعمل فيها ما أجمل هذا المثال الموضوع أمامنا. إنّه وإن كانت أمورٌ لا نستطيع أن نعمل شيئًا فيها. فهناك أمور أخرى كثيرة نستطيع بالنعمة أن نكمّلها لمجد المسيح وانتشار ملكوته.تفكّر يا أخي في قول الرسول: «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» وقُلْ بالنعمة «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).اعملْ في القليل الذي أمامك.. واعملْ بالإمكانيات البسيطة التي لك، وتبصَّرْ في الفُرَص التي تُهيئُها النعمة، ولا تَنظرْ كثيرًا إلى الباب المُغلَق أو إلى الأمور التي يصعُب أن تتجاوَزها. والرب معك. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
25 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس يونان

" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة "" يون 1: 2 " مقدمة نظر الصبى الزنجى الصغير، إلى المدرس الأبيض وسأله: هل كان المسيح أبيض اللون؟.. وقال المدرس: أعتقد ذلك.. ولكن لماذا تسأل هذا السؤال أيها الصبى!!؟ أجاب: إذاً فهو لم يأت لنا نحن السود!!؟.. ووقف المدرس هنيهة متأملا قبل أن يقول: أظن يابنى أن شمس فلسطين قد لوحته، إذ أنه جاء إلى العالم كله، للأسود والأبيض، ولجميع الأجناس لأنه يحب الجميع كان يونان النبى أول مرسل قديم أرسله اللّه إلى الأمم، وقال بروفسور كورنل عن سفره: « لقد قرأت كتاب يونان ما لا يقل عن مائة مرة، وينبغى أن أعترف جهاراً، دون أن أخجل من ضعفى، إننى ما تناولت هذا الكتاب العجيب أو تحدثت عنه دون أن تنهمر الدموع من عينى، ودون أن تسرع نبضات قلبى، فهذا السفر الصغير من أعمق وأعظم ما كتب على الإطلاق، وإنى أقول لكل إنسان يقترب منه: اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة.فمن هو يونان صاحب هذا السفر، وما هى الرسالة التى أوكلت إليه، وحاول التملص منها، ثم اضطر إلى قبولها وأتت بثمر لم يكن ينتظره أو يرجوه وكان هو والرسالة موضوع حنان اللّه وشفقته!!؟؟. دعنا نراه الآن فيما يلى: يونان ومن هو!!؟ لا نكاد نعرف عن يونان سوى بضع عبارات وردت عنه فى العهد القديم والجديد، وبعض التقاليد اليهودية غير الثابتة، وهذه وتلك قد تعطينا ضوءاً كافياً، لنعرف أنه يونان بن أمتاى، من جت حافر الواقعة فى سبط زبولون والتى تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من مدينة الناصرة، والكلمة يونان معناها حماقة « وأمتاى » تعنى حقيقة، وإن كان جيروم يعتقد أن الاسم يونان يعنى « حزين ». وهناك تقاليد متعددة عنه، فالبعض يقول إنه ابن أرملة صرفة صيدا الذى أقامه إيليا من الموت، والبعض الآخر يقول إنه النبى الذى أرسله أليشع ليمسح ياهو بن نمشى، بينما اعتقد آخرون أنه زوج الشونمية التى كانت تضيف أليشع، وأيا كان هو، فإن الثابت أنه تنبأ فى عصر يربعام الثانى، ومن المرجح أنه بدأ نبوته فى أوائل حكم هذا الملك أو عام 785 ق.م.، ويعتقد البعض أنه ذهب إلى نينوى حوالى 763 ق.م. وقد بدأ يونان رحلته وهو هارب من مدينته إلى يافا، الميناء الواقع على بعد اثنين وثلاثين ميلا جنوبى قيصرية، وإلى الشمال الغربى من أورشليم، والتى يقال إنها أقدم مدن فلسطين على الإطلاق، وقد اتجه بالسفينة غرباً إلى ترشيش القريبة من جبل طارق فى أسبانيا، ثم رجع إلى نينوى عاصمة الدولة الأشورية العظيمة، والتى كانت من أعظم وأجمل المدن التى عرفها التاريخ القديم والتى كان محيط دائراتها، عندما ذهب إليها يونان، ستين ميلا أو يزيد، وقد بنيت على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وعلى بعد ستمائه ميل من الخليج الفارسى، وقد كشفت الحفريات الحديثة عما كان لها من مجد ضائع، وعز دارس، ذهب فى بطن الأيام وأحشاء القرون. يونان والقصد الإلهى يكاد إجماع الشراح ينعقد على أنه ليس فى أسفار العهد القديم كله سفر استطاع أن يتجاوز التزمت اليهودى، ويعلن عن محبة اللّه، وأبوته لليهود والأمم، كهذا السفر الصغير الذى لا يتجاوز ثمانى وأربعين آية، ولذا لا عجب أن يرى فيه تشارلس ريد الروائى، أنه أجمل قصة كتبت على الإطلاق، ولا عجب أن تكون هذه القصة سبباً فى مجئ القديس كبريانوس إلى المسيح! والقصة تكشف عن قصد اللّه الثابت والمجيد فى إنقاذ نينوى، والتى كان يبلغ عدد سكانها فى أيام يونان ما يزيد على ستمائة ألف نسمة إذ كان بها من الأطفال الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً (اثنى عشرة ربوة) وكانت مطوقة بسور عظيم يسهل على أربع عربات أن تجرى متجاوره فوقه، أما داخلها فقد كان متسعاً يذخر بالترع والقنوات والميادين، والحدائق والقصور والتماثيل والسلع، والمجوهرات والذخائر والكنوز!!..ولعله مما يسترعى الملاحظة والانتباه، أن اللّه، لكى يثبت قصده، كشف عن هذا القصد: « فأرسل ريحاً شديدة » « فأعد حوتاً عظيماً » « فأعد الرب الإله يقطينة » « ثم أعد اللّه دودة ». (يونان 1: 2 و17، 4: 6 و7) وهل وقفنا لنتأمل الفعل « فأرسل » والفعل الذى كرر ثلاث مرات: « أعد » لقد استخدم اللّه الريح، والحوت، واليقطينة، والدودة، على النحو العجيب المثير لإثبات قصده، أو فى لغة أخرى، أن اللّه كان وراء الطبيعة، والحيوان الضخم، والنبتة الصغيرة، والدودة الحقيرة، لكى يؤكد استخدامه لكل شئ، وهو يثبت قصده عندما تمرد يونان على الرحلة، وبدأ فى الاتجاه العكسى لها، أرسل اللّه له الريح الشديدة العاتية، لتعيده إلى الرسالة التى يلزم أن يؤديها، ويونان كان كموسى، وإرميا، إذ لم يقبل على الرسالة بقلب راغب، واستعداد كامل، كما فعل إشعياء، وهو يقول: « ها أنذا إرسلنى »، (إش 6: 8) وكثيراً ما يرسل اللّه ريحه الشديدة على سفينة حياتنا، وقد تكون هذا الريح فشلا أو ضيقاً، أو اضطراباً أو إفلاساً، أو ما أشبه، حتى تعود هذه السفينة مرة أخرى من ترشيش التى نزمع الذهاب إليها، إلى نينوى التى نرفض أن نتجه إليها،... ومع أن اللّه غضب على يونان، إلا أنه فى الغضب يذكر الرحمة، وقد أعد اللّه لذلك حوتاً عظيماً،... ولم يكن هذا الحوت مصادفة أو خيالا أو رمزاً، كما يزعم النقاد الذين علت القصة فوق إدراكهم، فتصوروها شيئاً يصعب تصديقه، وكان يكفيهم تماماً أن يشير المسيح يسوع سيدنا إلى هذه القصة كواقعة وحقيقة تعتبر صورة أو مثالا لما سيحدث معه هو فى القبر بعد الصليب،.. ولا يستطيع أحد أن يتصور أن المسيح يجعل من قصة رمزية أو خيالية، شبهاً أو رمزاً لقصته هو فى القبر قبل القيامة،... ولو صح هذا، لتحولت قصة المسيح بدورها رمزاً أو خيالاً، وليس موتاً أو صليباً حقيقياً، ألم يقل: «هذا الجيل شرير. يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل » (لو 11: 92 و03)؟؟. فإذا كان اليهود قد قبلوا هذه القصة مرغمين وأوردها يوسيفوس المؤرخ اليهودى كواقعة تاريخية فى كتاب الآثار، وإذا كانت توبة نينوى لم تكن مجرد خيال أو تصور بل حقيقة واقعة، فإنه يحق لنا أن نورد ما قاله أحد الشراح اللاهوتيين: « إن ديان المستقبل، وهو يتحدث إلى أولئك الذين سيقفون يوما أمام كرسيه، محذراً، كان لابد أن يعطيهم صورة حقيقية مثالا لحقيقتهم، وهم ماثلون أمامه، ويستحيل أن يعطيهم صورة رمزية، لما سيكونون عليه عندما يمثلون أمام عرشه العظيم، فى يوم القضاء الأبدى، كواقعة حقيقية »... فإذا أضفنا أن مصدر الصعوبة القائمة عند من لا يقبلون القصة، ويعتبرونها حلماً حلم به يونان أو أسطورة ألحقت بالكتاب، وهو ما يستحيل على أهل نينوى قبوله كآية تردهم إلى اللّه، ما لم يكن حقيقة ماثلة أمام عيونهم، إن مصدر الصعوبة راجع إلى أنه لا يعقل أن هناك حوتاً يستطيع أن يبلغ يونان، فى بطنه ليستقر ثلاثة أيام ليال، وأنه شئ، يتجاوز تفكيرهم وخيالهم،... وقد أطلق النقد الأعلى هذا الاتهام المردود والذى تصدى له كثيرون من علماء علم الأحياء، والذين قالوا إن هناك نوعاً من الحيتان يمكنه أن يبتلع رجلاً مهما كان حجمه، والحوت كما نعلم يختلف عن غيره من الأسماك، وهو أشبه بالغواصة التى صنعها الإنسان ليبقى تحت الماء أسابيع وأياماً،... وإذا أمكن أن يصنع الإنسان شيئاً من هذا القبيل، فإنه يحسن بنا أن نذكر التعبير الكتابى كما أشار واحد من المفسرين: « فاعد اللّه حوتاً عظيماً »... واللّه لن يعجز على أسلوب عادى أو خارج أن يعد ذلك،... وقد كان أهل نينوى يؤمنون، على ما يعلق هنرى كلاى ترامبل، بخلائق تخرج من البحر نصفها إنسان والنصف الآخر سمكة،... ومع ما فى هذا الخيال من خرافة،... إلا أنه من السهل أن تأتيهم رسالة من إنسان قذف به الحوت إلى الشاطئ على النحو العجيب الذى صنعه اللّه آية لهم، ليرجعوا عن شرورهم، ويتوبوا عن خطاياهم،.. وقد أدرك يونان أنها رحمة اللّه وليس غضبه، أن يحفظه فى بطن الحوت ليصلى صلاته ويرجع هو، إلى رسالته العتيدة إلى نينوى وإلى جانب ذلك لا ننسى أن اللّه « أعد يقطينة » وهنا نتحول إلى منظر آخر، من الحوت الضخم إلى اليقطينة الصغيرة، ونتحول من رحمة اللّه تجاه الإنسان الغريق إلى ابتسامة اللّه تجاه النفس المغمومة، كان الحر اللافح خارج يونان وداخله، وهو يجلس على مشارف المدينة، وقد امتلأ غيظاً وغضباً وغماً، وأعد اللّه له اليقطينة ليخرجه من هذا الغم المستولى عليه،... وما أكثر ما يفعل اللّه معنا هكذا عندما تستولى علينا الوساوس والهموم، فيرسل اللّه ابتسامته التى تأتى إلينا مفاجأة، وعلى وجه لم تكن نتوقعه،.. قالت سيدة عجوز للرئيس ابراهام لنكولن فى أدق أوقات الحرب الأهلية: « لا تفزع اللّه معك، ونحن نصلى لأجلك، ولن تهزم »... وفرح الرئيس بهذه الكلمات البسيطة التى أخرجته من هوة اليأس العميق الذى وصل إليه!!.. كان الصبى على أعتاب اليأس، عندما رسب فى الامتحان، وكانت قريته كلها تتكلم عن رسوبه، غير أن الراعى التقى به ووضع يده على كتفه، وقال له: أنا أعلم أنك ستنجح!!... وكانت هذه الكلمات هى التى عبرت به الخط الفاصل بين الفشل والنجاح فى تاريخه كله!!.. حاول صموئيل جونسون - وهو شاب فقير - أن يلفت أنظار أحد اللوردات الإنجليز إليه دون جدوى، لكنه لما أصبح كاتباً إنجليزياً عظيماً، أرسل إليه هذا اللورد خطاب تهنئة،.. ورد جونسون يقول: لقد جاءت هذه التحيات ياسيدى متأخرة، لقد كنت فى حاجة إلى كلمة صغيرة واحدة منها فى أيام التعب والفشل والمأساة!!.. لم ينس اللّه أن يعد يقطينة ليونان!!.. على أن اللّه مع ذلك، أعد دودة لتقضى على هذا الفرح بسرعة غريبة،... وذلك لأن اللّه أبصر فى الفرح نوعاً من الأنانية، كانت اليقطينة شيئاً يشبه شجر اللبلاب الذى لا قيمة له، وكان يونان أنانياً بفرحه، فهو يفزع ليقطينة ضاعت دون أن يبالى بمدينة عظيمة تتعرض للضياع!!... كان قصد اللّه ثابتاً وأكيداً فى إنقاذ نينوى!!.. يونان والتمرد الشخصى كيف تكلم اللّه إلى يونان، وبأية صورة جاء هذا الكلام!!. نحن لا نعلم، غير أننا ندرك أن يونان تحول إلى بركان من الثورة، وتمرد على الرسالة، هل يرجع تمرده إلى شئ فيه، أم شئ فى المدينة نفسها، أم إلى شئ فى اللّه تعالى؟ … يعتقد البعض أن الرسالة فى حد ذاتها كانت لا تتجاوب مع طبيعة يونان، فيونان واسمه « حمامة » وهو أدنى إلى طباع الحمام ووداعته، ليس من السهل عليه أن يتحدث بلغة الزجر والشدة والانقلاب، … قد يكون من السهل على الإنسان أن يتحدث بالناعمات، ويردد ما هو مطلوب أو منسجم مع آذان سامعيه، لكن من أصعب الأشياء وأقساها وأشدها وقعاً على النفس أن يقف منهم – وهو وديع هادئ مسالم – متحدثاً بالعنف والإنذار والتهديد!! على أن البعض الآخر يعتقد أن يونان تمرد على الرسالة، لأنه بطبعه يكره هذه المدينة، وهى مدينة وثنية تتربص ببلاده وشعبه بالغزو والفتح، وهو كرجل إسرائيلى وطنى يهمه أن تزول نينوى من الوجود، لا أن تبقى …!! … ويرى غيرهم أن الأمر يرجع، أكثر من ذلك، إلى يقين يونان فى اللّه، إذ أبصر من وراء ندائه القاسى على المدينة بالانقلاب، نداء آخر بالرجوع والتوبة، وخاف هو أن تتوب المدينة وترجع، فيعفو اللّه ويسامح، إذ هو « إله رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر ».. " يونان 4: 2 " وهو لا يريد لنينوى هذا!!.. يونان والهروب العكسى إن قصة يونان لا تتحدث عن نينوى فحسب، لكنها - أكثر من ذلك - تكشف عن إحسان اللّه ومعاملته لخدامه حتى فى لحظات الضعف التمرد!!.. وقصة الرجل، فى هروبه، تكشف عن بعض الوقائع المثيرة،.. لعل أولها أن الأجرة الجاهزة، أو السفينة المقلعة، ليست بالضرورة دليل العناية أو الموافقة الإلهية،... إن عناية اللّه لا يجوز تفسيرها بالمظهر السطحى الساذج، لعمل يعلم الإنسان تماماً أنه فى الاتجاه العكسى لإرادة اللّه، ولا يجوز لإنسان أن يندفع فى رغبة ما تتمشى مع هواه، ويبصر بعض خطواتها سهلة أو هينة يسيرة، فيعتقد أن هذا هو الجواب المؤكد من اللّه بالموافقة على العمل بصرف النظر عن طبيعته وفحواه،... وما أكثر ما يرتبط الناس ببعض الصور الساذجة أو الخرافية، معتقدين أنها إرادة اللّه، واللّه منها براء،... يتصور بعض المؤمنين أنهم بمجرد أن يفتح الكتاب المقدس، ويضعوا يدهم على آية أو صفحة معينة، فإن هذه الآية أو الصفحة - ستكون - قطعاً - الصوت الإلهى الذى يلزم أن يأخذوا به وينفذوه، وبعض الناس قد يتوهمون هذا الصوت فى حلم جاءهم فى المنام، أو فى رسالة جاءت إليهم من آخر،.. فيأخذون السفينة إلى ترشيش، وهم مطلوبون فى نينوى!! على أن الأمر الثانى.. أن الهروب العكسى قد لا يضر بنا وحدنا، بل قد يضر أيضاً بالآخرين الذين قد تجمعنا معهم سفينة الحياة، وذلك لأن هروب يونان كاد أن يؤدى " لا بحياته هو " بل بحياة الملاحين الذين كانوا فى السفينة معه أيضاً!!... ومع أن اللّه، عادة، يحاسب كل إنسان على حدة، وبخطاياه، دون أن يمتد هذا إلى غيره، لكن السفينة التى تحملنا معا تتعرض للضياع، لأن فرداً فيها قد يكون فى الاتجاه العكسى لطريق اللّه، فالقائد فى الأمة والراعى فى الكنيسة، ورب البيت فى الأسرة، والصديق فى المجتمع، يرتبطون بلا فكاك مع من يجتمعون معهم فى سفينة واحدة،... ومصيرهم يدور وجوداً أو عدماً، مع الرابطة الواحدة فى السفينة الواحدة،... وإذا نظرنا إلى الأمر من الجانب المنير، فإننا نعلم أن وجود بولس فى السفينة التى أقلعت إلى روما، كان السبب فى إنقاذ جميع الركاب وعددهم مائتان وستة وسبعون، « لأنه وقف بى هذه الليلة ملاك الإله الذى أنا له والذى أعبده قائلا: لا تخف يابولس ينبغى لك أن تقف أمام قيصر، هوذا قد وهبك اللّه جميع المسافرين معك. لذلك سروا أيها الرجال لأنى أومن باللهّ أنه يكون هكذا كما قيل لى » " أع 27: 23 - 25 "... وثالثاً: إننا قد نصل فى الهروب إلى درجة التثقل بالنوم العميق حتى يأتينا التوبيخ من أهل العالم كما وبخ رئيس النوتية يونان!!.. وأنها لمأساة محزنة لكثيرين من أبناء اللّه فى سقطاتهم، عندما يفعلون مالا يفعله أبناء العالم أنفسهم، ويقف المرء متعجباً: كيف يمكن أن ينحدر المؤمن فى بعض لحظات الزمن، إلى مالا يسقط فيه العالمى، بدافع من الشهامة أو المروءة أو الرجولة أو ما أشبه من صفات أدبية تتملكه وتستولى عليه؟!!.. ألا تتعجب إذ يأخذ إبراهيم درسه من فرعون أولا، وأبيمالك ثانياً؟ ويأخذ اسحق نفس الدرس، لأن الأب أو الإبن لم يعط الصورة الصحيحة الكاملة عن سارة أو رفقة باعتبارها زوجته، ولولا حماية اللّه لحدث الضرر الذى كان لا يمكن تجنبه!!.. يونان والإعياء النفسى دفع اللّه يونان إلى بطن الحوت، وهناك صلى: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب » " يونان 2: 7 " وهذه هى نقطة التحول أو الرجوع فى قصة الرجل،... لقد أدرك ضعفه الكامل أمام الريح الشديدة التى لم تفلح كل الجهود فى مواجهتها، وإعيائه الكامل فى بطن الحوت،... لقد كان حراً طليقاً كما يريد اللّه لأبنائه أن يكونوا، أحراراً يسيرون فى خدمة اللّه، دون إكراه أو ضغط، ولكننا ما أكثر ما نسئ استخدام هذه الحرية، فيظهر اللّه اضطراراً إلى أن يأخذها منا، حتى نثوب إلى رشدنا - وكان يونان محتاجاً إلى الإعياء النفسى الكامل حتى يتعلم كيف يعود إلى إلهه ويذكر! على أن هذا الإعياء لم يكن فى فقدان الحرية فحسب، بل، أكثر من ذلك فى ضياع الصحة أو القوة،... لست أعلم كم كانت كمية العشب التى التفت برأسه، وكيف حاول أن يكافحها حتى بدأ كما لو أنه أوشك أن يختنق، وإذ به يذكر الرب،... وما أكثر ما ذكر أبناء اللّه إلههم وهم فى العجز الصحى أو فى سرير المرض. أو فى شدة العلة، أو فى قسوة الداء!!.. وأكثر من ذلك، لقد أصاب يونان الإعياء عندما سقط فى الوحدة والعزلة القاسية، فلا يوجد من يتحدث معه أو يخاطبه فى بطن الحوت، سوى اللّه الذى بقى له، عندما انقطع من أرض الأحياء،... ولعلنا نسأل هنا: ما الداعى إلى ذكر الرب، وما الفائدة من ذلك!!؟ وقد أطبق عليه الحوت وغاص هو معه فى المياه العميقة،... لقد ذكره لأكثر من سبب.. أولا: لأن اللّه أرحم مما كان يصور أو يتخيل،... لو أن اللّه قضى عليه بالموت غرقاً، لما نسب إلى اللّه أدنى لوم، بل كان اللّه عادلا لو فعل ذلك،.. لكنه اكتشف أن اللّه العادل هو أيضاً أرحم الراحمين، لقد أدرك أن سجنه فى بطن الحوت هو الرحمة بعينها، والعناية التى تعلو على كل فهم أو خيال،... لقد تبين أن الحوت تحول بقدرة القادر على كل شئ، إلى فلك آخر كالذى أدخل اللّه فيه نوحاً وأغلق عليه، ليحميه من الهلاك والغرق!!.. وكم يغلق اللّه علينا، ولا يتركنا للحماقة والضياع، عندما يرانا نسعى إلى حتفنا بظلفنا!... ثانياً: لقد أدرك يونان ان اللّه ليس أرحم فحسب، بل هو أكرم وأطيب من أن يدخل معه فى نوع من المؤاخذه أو الحساب،... لقد كان مجئ الابن الضال إلى أبيه كافياً لأن يستبدل هوانه وجوعه وذله وحاجته بالترحيب والإكرام والعطاء السخى، دون مراجعة أو حساب عما فعل أو أساء،.. وظهر اللّه إلى جانب هذا كله، عندما أمر الحوت بأن يقذف يونان إلى البر،... لقد ظن يونان كما يبدو من صلاته أن انتهى إلى الأبد: « نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض على إلى الإبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتى أيها الرب إلهى »... " يونان 2: 6 ". ثالثاً: ولكن اللّه إلى جانب أنه أرحم، وأكرم، هو أيضاً أقدر فلا حدود لقوته وقدرته،أما كيف استطاع يونان وهو فى العمق فى قلب البحار أن يذكر الرب،... فإنه ذكره بأمرين عظيمين قريبين إليه أينما يذهب أو يجئ،... لقد ذكره بالإيمان، وما الإيمان إلا تحول النفس والمشاعر والإرادة تجاه اللّه،... وما أجمل أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة فى شتى الظروف المحيطة به « أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » " مز 137: 7 - 10 ". أما الصلاة فقد كانت من جوف الحوت، وصلاة المتضايق لا يشترط أن تكون فى هيكل أو معبد، أو مع جماعة من الناس يشاركون فى العبادة أو التضرع،... بل يمكن أن تكون فى أعماق البحار أو فى أعلى الجبال، يمكن أن تكون فى السجن أو الأتون، إنها فى المكان الذى يوجد فيه الإنسان إن كارها أو راضياً، لأن اللّه فى كل مكان: « اطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب » " إش 55: 6 " ونحن لا نعلم هل استطاع يونان أن يصلى وقفاً أو راكعاً أو منبطحاً على ظهره أو بطنه،... لا يهم الصورة التى يظهر فيها المصلى، إنما المهم أن يكون راكع النفس، منحنى المشاعر، منبطح التسليم، واللّه سيسمعه طالما يتجه فى إعياء النفس بروح الصلاة،... هل كان يصرخ فى الصلاة، هل كان يصلى بصوت يسمع، أم كان يتمتم بشفتيه،... إن الصوت فى حد ذاته يتساوى أمام إذن اللّه، التى تسمع الصوت الصارخ، أو المتمتم، أو الهامس على حد سواء، طالما تخرج صرخة النفس من الأعماق أمام اللّه!!.. لقد صرخ يونان من بطن الحوت واستمع اللّه إلى صراخ نفسه!.. يونان والعودة إلى الرسالة عاد يونان إلى الرسالة التى هرب منها، وذهب إلى نينوى، لا ليعلن لها فحسب، بل للأجيال كلها - الحقائق العظيمة التالية:- أولا: إن أبوة اللّه ومحبته وإشفاقه، لا تقف عند حدود اليهود فقط، بل تمتد إلى جميع الناس، إذ الكل خليقته وأبناؤه وذريته،... كان يونان من الحماقة حتى كان يهرب من امتيازه الأعظم فى كل التاريخ، إذ أنه هو المرسل الأول إلى الأمم، أو فى لغة أخرى، أبو المرسلين القدامى والمحدثين فى كل التاريخ... كان وليم كيرى رائد المرسلين فى التاريخ الحديث، وكان شاباً إسكافياً فقيراً لا يملك مالا أو نقوداً أو علماً، ومع ذلك فقد امتلأ قلبه حباً وغيرة على تبشير العالم الوثنى، وقد تحدث فى ذلك الشأن إلى بعض رجال الدين، فلم يجد منها تأييداً أو معونة، بل وجد على العكس تعطيلا وتحقيراً ومقاومة، كان يضع فى دكانه خريطة العالم وقد كتب عليها: « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » " يو 3: 16 "... كان يحمل معه الكتاب المقدس وكتاب « الأجرومية » "علم النحو والصرف "، وقد تعلم عدة لغات وذهب إلى الهند. وعندما نذكر أنه فتح الباب أمام جيش المرسلين فى التاريخ الحديث، علينا أن نذكر يونان المرسل الأول فى كل التاريخ، إلى نينوى!! كان يونان وهو لا يدرى أول من تعلم الدرس أنه لا فرق عند اللّه بين اليونانى واليهودى والعبد والحر، والذكر والأنثى، والأسود والأبيض - أو كما قال الرسول بطرس فى بيت كرنيليوس: « بالحق أنا أجد أن اللّه لا يقبل الوجوه بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده » " أع 10: 34 و35 "أشرنا فى دراسة سابقة إلى دكتور أجرى الذى عاش يدافع عن الملونين ويهاجم التفرقة العنصرية، ولم يكن يضيق بلونه الأسود، بل قال: لو ذهبت إلى السماء وهناك سألنى اللّه عما إذا كنت أرغب فى العودة إلى الأرض كرجل أبيض فإنى أجيبه: إن عندى عملا كرجل أسود أكثر مما يستطيع رجل أبيض أن يؤديه، أرجوك أن ترسلنى ثانياً أسود حتى يمكنى أن أؤدى عملى ». ثانيا: تعلم يونان ما كان يجهل أو مالم يكن يعلم حق العلم، أن النفس البشرية غالية جداً عند اللّه،: « الذى يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون » " 1 تى 2: 4 ".. وأنه إذا كان يونان قد خرج بيقطينة ظللته، ولكنها إذ ذوت وهى بنت ليلة ولدت، وبنت ليلة ضاعت، فامتلأ غيظاً وهماً وقلقاً، فكيف يكون الأمر بالنسبة لقلب اللّه، كخالق، وهو يرى مدينة عظيمة تهوى إلى قاع الهاوية والجحيم؟... آه! لو نعلم كم يتألم قلب اللّه على النفوس الضائعة، لعشنا حياتنا كلها، ولا هم لنا إلا إنقاذ النفوس الهالكة،... لا لأنها خليقة اللّه فحسب، بل، أكثر من ذلك، لأن المسيح مات من أجلها على هضبة الجلجثة!!.. والأمر الثالث الذى أدركه يونان، هو بركة الألم فى الحياة، لقد أعاده الألم إلى اللّه والرسالة التى هم بأن يهرب منها،... وجاءت نينوى إلى التوبة عندما هددت بالانقلاب!!... ومع أنه شئ محزن وتعس أن يلجأ اللّه إلى أسلوب الشدة مع الإنسان، وكان من الممكن أن يستمع إلى نداءاته الكثيرة بالخير والبركة والجود والمراحم،... لكنها الصفة فى النفس البشرية، التى تجعل اللّه يرحم الإنسان بالتأديب والتهديد والآلام، وربما نعمة فى نعمة طويت.. الأمر الرابع: أن التوبة الشاملة الصادقة ميسورة لأى شعب أو فرد أو جنس، متى اتجه إلى اللّه من كل قلبه وفكره، حتى كانت توبته عملية بالرجوع عن الطرق الرديئة والظلم الذى فى يديه، وأنه ليس فى حاجة إلى كهانة أو وساطة أو شروط، ماخلا الاتجاه إلى اللّه الحى الحقيقى!!.. على أن القصة تعلمنا آخر الأمر غرابة النفس البشرية، وقد تكون من أفضل النفوس على الأرض، إذ هى النفس السريعة التذبذب، الغريبة الأطوار، تفرح وتكتئب، وتتسع وتضيق، دون فاصل زمنى، وتغتاظ مرات كثيرة بالصواب،... ومن الغريب أن نجاح يونان كان فشلا فى تصوره، وأن وقوفه فى وجه الكارثة، كان كارثته الشديدة،... والسر الحقيقى كما ذكر كلفن، أن يونان كان مهتماً بالذات أكثر من اهتمامه بخلاص المدينة أو مجد اللّه!!.كان يونان، كما دعاه الكسندر هويت، الأخ الأكبر الذى غضب لمجئ أخيه، ولم يرد أن يدخل البيت، فخرج أبوه يطلب إليه الدخول... فى الحقيقة أن رجاءنا دائماً فى خلاص النفوس لا يرجع إلينا، بل يرجع إلى قصد اللّه الأبدى ومحبته التى لا تتغير ولا تتبدل!!..
المزيد
24 فبراير 2021

تأملات في سفر يونان النبي

إن سفر يونان النبي مملوء بالتأملات الروحية الجميلة ، نعرض لهذا السفر من الناحية الروحية البحتة وليس من جهة الجدل اللاهوتي سبيلنا هو الاستفادة وليس النقاش. نريد أن نأخذ من هذا السفر الجميل دروسا نافعة لحياتنا، نستفيد من عمل الله ، ومن فضائل الناس ، ومن أخطائهم وما أجمل ما فعلته الكنيسة إذ اختارت هذا السفر ليكون مقدمة للصوم الكبير ، يسبقه بأسبوعين ، بقصة جميلة للتوبة ، وللصوم حتى نستقبل أيام الأربعين المقدسة بقلب نقى ملتصق بالرب والعجيب أن كثيرين من الذين يدرسون سفر يونان ، يركزون على أهل نينوى وصومهم وينسون ركاب السفينة ، وينسون يونان النبي ومشكلته . فماذا كانت مشكلة يونان ؟ مشكلة يونان إن الله في سفر يونان النبي، يريد أن يعرّفنا حقيقة هامة هي أن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا ، بل هم أشخاص "تحت الآلام مثلنا" يع 5 : 17.. لهم ضعفاتهم ولهم نقائصهم وعيوبهم، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط . كل ما في الأمر أن نعمة الله عملت فيهم، وأعطتهم قوة ليست هي قوتهم وإنما هي قوة الروح القدس العامل في ضعفهم ، لكي يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول ( 2 كو 4 : 7 )وقد كان يونان النبي من "ضعفاء العالم" الذين اختارهم الرب ليخزي بهم الأقوياء ( 1 كو 1 : 27 ) . كانت له عيوبه، وكانت له فضائله. وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه، وعمل به، وعمل فيه، وعمل معه.. وأقامه نبيا قديسا عظيما لا نستحق التراب الذي يدوسه بقدميه؛ لكي يرينا بهذا أيضا أنه يمكن أن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا، كما عمل مع يونان من قبل.. سقطات فى هروب يونان:- سنرى بعضا من ضعف يونان في موقفه من دعوة الرب.. يقول الكتاب : "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليخرج إلى ترشيش من وجه الرب، فنزل إلى يافا، فوجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب"وهنا نرى يونان النبي وقد سقط في عدة أخطاء.. كانت السقطة الأولى له هي المخالفة والعصيان:- لم يستطع أن يطيع الرب في هذا الأمر، وهو النبي الذي ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلى طاعة الرب . عندما نقع في المخالفة ، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين . واضعين أمامنا قول الرسول: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون أيضا مثلهم .." ( عب 13 : 3 ) على أن سقطة المخالفة التي وقع فيها يونان، كانت تخفي وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هي الكبرياء ممثلة في الاعتزاز بكلمته، وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذي دفعه إلى العصيان، وحقا إن خطية يمكن أن تقود إلى خطية أخرى، في سلسلة متلاحمة الحلقات.. كان يونان يعلم أن الله رحيم ورؤوف، وأنه لا بد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت. وهنا سبب المشكلة! وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيما ويعفو؟ يضيرني الشيء الكثير : سأقول للناس كلمة، وكلمتي ستنزل إلى الأرض!.. إلى هذا الحد كان يونان متمركزا حول ذاته! من يستطع أن ينكر ذاته في سبيل خلاص الناس. كانت هيبته وكرامته وكلمته، أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها..! كان لا مانع عنده من أن يعمل مع الرب، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيبة كلمته.. من أجل هذا هرب من وجه الرب، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التي تهز كبرياءه وكان صريحا مع الرب في كشف ما بداخل القلب، إذ قال لله فيما بعد عندما عاتبه: وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل في ثناياه خطية أخرى هي الجهل وعدم الإيمان.. هذا الذي يهرب من الرب، إلى أين يهرب، والرب موجود في كل مكان؟!صدق داود النبي حينما قال للرب: " أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟.. ( مز 139 : 7 – 10 ).. أما يونان فكان مثل جده آدم الذي ظن أنه يختفي من وجه الرب وراء الشجر.. حقا إن الخطية تطفئ في الإنسان نور المعرفة، وتنسيه حتى البديهيات! وجد يونان في يافا سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها.. العجيب أن الخطيئة كلفته مالا وجهدا. دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته.. أما النعمة فننالها مجانا.. عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر خسارة مزدوجة: خسر ماله، وخسر أيضا طاعته ونقاوته العجيب أن الله استخدم عصيان يونان للخير. حقا إن الله يمكنه أن يستخدم كل شيء لمجد اسمه.. اللــه يستخدم الكل!! لقد عصى يونان أمر الرب، وهرب راكبا السفينة، ولكن الله الذي "يخرج من الآكل أكلا ومن الجافي حلاوة" ( قض 14 : 14 )، الله الذي يستطيع أن يحول الشر إلى خير، استطاع أيضا أن يستخدم عصيان يونان.. إن كان بسبب طاعة يونان يمكن أن يخلص أهل نينوى، فإنه بعصيان يونان يمكن أن يخلص أهل السفينة!!.. وكأن الله يقول له: هل تظن يا يونان أنك قد هربت مني؟ كلا . أنا سأرسلك إلى ركاب السفينة، ليس كنبي، ولا كمبشر، ولا كصوت صارخ يدعو الناس إلى التوبة، وإنما كمذنب وخاطئ وسبب إشكال وتعب للآخرين، وبهذه الصورة سأخلصهم بواسطتك!! هل ركبت البحر في هروبك يا يونان؟ إذن فقد دخلت في دائرة مشيئتي أيضا.. لأنني أملك البحر كما أملك البر، كلاهما من صنع يدي. وأمواج البحر ومياهه وحيتانه تطيعني أكثر منك كما سترى!! طاعة المخلوقات غير العاقلة:- لقد أخجل الرب يونان النبي بطاعة أهل نينوى، وببر أهل السفينة وإيمانهم.. إلا أنه أيضا أخجله بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة. ومن الجميل أننا نرى كل هؤلاء في إرساليات إلهية وفى مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله. فما هي هذه الكائنات غير العاقلة التي كانت عناصر نافعة في إتمام المشيئة الإلهية؟ "فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر، فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر" ( 1 : 4 ).. لقد أدت الريح واجبها، وكانت رسولا من الرب، قادت الناس إلى الصلاة، فصرخ كل واحد إلى إلهه وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها في أول القصة، كذلك أدت مهمة أخرى في آخر القصة، إذ يقول الكتاب: " وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة، فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت.." ( 4 : 8 ) في سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب، الوحيد الذي لم يكن مطيعا هو الإنسان العاقل، يونان ... الذي منحه الله حرية إرادة يمكنه بها أن يخالفه!.. هكذا الإنسان، أما باقي الكائنات فلا تعرف غير الطاعة. على أنه لم يكن كل إنسان غير مطيع في سفر يونان، بل كل الناس أطاعوا، ما عدا يونان؛ النبــى!! ولم يهرب يونان من المهمة إشفاقا على نينوى من الهلاك، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك.. لم يتشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع في سدوم. بل إنه حزن واغتاظ واغتم غما شديدا، ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة، كل ذلك لأن الله لم يتمم إنذاره ويهلك المدينة! أراد الله للبحر أن يهيج فهاج، وأراد له أن يهدأ بعد إلقاء يونان فيه فهدأ.. ما أعجب الطبيعة المطيعة التي لا تعصى لله أمرا، كالإنسان وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكي ينفذ جزءا من الخطة الإلهية، كذلك أمر الدودة البسيطة أن تضرب اليقطينة فيبست.. ما أعجب هذا.. أن نرى حتى الدودة تكون جزءا من العمل الإلهي المقدس الكامل.. حقا ما أجمل قول الكتاب: " انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار" متى 18 : 10 ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء وندرك نحن أيضا عمق عبارة "لتكن مشيئتك" في حياتنا وحياة الناس. هذه العبارة التي فشل يونان في ممارستها، ولم يستطع أن يصل إليها إلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله، وعقوبات، وإقناعات.. أخيرا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية. بحارة أمميــــون كانوا أفضل من النبي:- ما أعجب أهل هذه السفينة التي ركبها يونان.. حقا كانوا أممين، ومع ذلك كانت لهم فضائل عجيبة فاقوا بها النبي العظيم. وفيهم تحقق قول الرب: "ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتى بتلك أيضا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد" ( يو 10 : 16 ) يذكرني أهل هذه السفينة بكرنيليوس قائد المائة، الذي كان في مظهره رجلا أمميا بعيدا عن رعوية الله، ولكنه كان في حقيقته رجلا تقيا خائفا الله هو وجميع بيته!.. لعله تدبير الهي أن ينزل يونان في هذه السفينة بالذات، من أجله ومن أجل هذه السفينة.. لم يشأ الله أن يمضي إلى كورة بعيدة. فضائل أهل السفينة:- أول صفة جميلة في بحارة هذه السفينة أنهم كانوا رجال صلاة.. يقول الكتاب: "فخاف الملاحون، وصرخوا كل واحد إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم" ( 1 : 5 ).نلاحظ هنا أنهم لجأوا إلى الله قبل تنفيذهم ما تتطلبه الحكمة البشرية لإنقاذ الموقف. صلوا أولا ثم ألقوا الأمتعة ليخففوا عن السفينة.. كان كل بحارة السفينة وركابها يصلون، والوحيد الذي لم يكن يصلي في ذلك الوقت هو نبي الله يونان!! وحتى بعد أن أيقظوه، لم يقل الكتاب أنه قام وصلى! إنه موقف مخجل حقا.. عجيب حقا هو الرب إذ يبكت أحد أنبيائه برجل أممي: "مالك نائما".. ما هذا الكسل والتراخي واللامبالاة؟! ألا تقوم وتصلي كباقي الناس؟ "قم اصرخ إلى إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك" كيف خالف الله، وكسر وصيته وهرب منه، واستطاع أن ينام نوما ثقيلا؟! لا بد أن ضميره كان قد نام أيضا، نوما ثقيلا، مثله.. صفة جميلة ثانية نجدها في أهل السفينة أنهم كانوا يبحثون عن الله.. لم يقولوا ليونان في تعصب لديانتهم "قم اصرخ إلى إلهنا"، وإنما قالوا له: "قم اصرخ إلى إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك".. وهذا يدل على أنهم كانوا يبحثون عن الله.. صفة جميلة ثالثة وهى أنهم كانوا رجال بساطة وإيمان.. لم يكتفوا بالصلاة، وإنما أيضا ألقوا قرعة.. في تقواهم كانوا يشمئزون من بشاعة الخطية ويشعرون أنها سبب البلايا التي تحيق بالإنسان .. كانوا أيضا أشخاصا عادلين لا يحكمون على أحد بسرعة، بل اتصفوا بطول الأناة وبالفحص وإرضاء الضمير.. أما يونان فاعترف لهم وقال: "أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر، وبمجرد سماعهم ذلك الكلام خافوا خوفا عظيما.. هل إلهك يا يونان هو إله البحر والبر؟ نحن الآن في البحر، إذن فنحن في يد إلهك أنت.. ونحن نريد الوصول إلى البر.. وإلهك هو إله البر أيضا، كما هو إله البحر، إذن فنحن في يديه!!.. لذلك خافوا ووبخوه قائلين: "لماذا فعلت هذا ؟!".. وللمرة الثانية يبَكَّت النبي العظيم من الأمميين وكما كان ركاب السفينة عادلين، كانوا أيضا في منتهى الرحمة والشفقة كانوا يوقنون أنه مذنب ويستحق الموت، ومع ذلك لم يكن سهلا على هؤلاء القوم الرحماء، أن يميتوا إنسانا حتى لو كان هو السبب في ضياع متاعهم وأملاكهم وتهديد حياتهم بالخطر قال لهم يونان: "خذوني واطرحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم، لأني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم".. لقد بذلوا كل جهدهم لإنقاذ الرجل الخاطئ من الموت، ولكن دون جدوى. كانت مشيئة الرب أن يلقى يونان في البحر.. وهكذا أسقط في أيديهم.. ولكن لكي يريحوا ضمائرهم، صرخوا إلى الرب وقالوا: "آه يارب، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل. ولا تجعل علينا دما بريئا، لأنك أنت يارب فعلت كما شئت"وإذ تحققوا أن هذه هي مشيئة الله، وأنهم لا يستطيعون أن يقفوا ضد مشيئته، "أخذوا يونان وطرحوه في البحر، فوقف البحر عن هيجانه" من كل ما سبق يتضح أن هؤلاء البحارة كان لهم ضمير حساس نقي، وأنهم أرادوا بكل حرص أن يقفوا أمام ضميرهم بلا لوم كانت لهؤلاء الناس قلوب مستعدة لعمل الله فيها: كانوا يتلمسون إرادة الله لتنفيذها. ولما وقف هيجان البحر بإلقاء يونان فيه، تأكدوا من وجود الله في الأمر، فآمنوا بالرب، وذبحوا له ذبيحة، ونذروا له نذورا.. وفى إيمانهم بالرب لم يؤمنوا فقط أنه هو الرب، وإنما بتقديمهم للذبيحة أعلنوا أيضا إيمانهم بالدم والكفارة!! وهكذا كسب الله المعركة الأولى، وتمم خلاص أهل السفينة بعصيان يونان.. وبقيت في خطة الله للخلاص مسألتان مهمتان أخريان: وهما خلاص أهل نينوى، وخلاص يونان نفسه.. وهو ما تممه الله بحكمته ومحبته وطول أناته كما ترى عزيزي القارئ من قراءتك لباقي السفر. قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
23 فبراير 2021

آية يونان النبي

38:12 "حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً". بنوع من برود الأعصاب وعدم الاكتراث، بعد الذي سمعوه من المسيح يطلبون أن يروا آية. وكأنهم لم يروا شفاء الأعمى الأخرس أو بقية المعجزات. ولكن هذا في الحقيقة يُخفي عدم الإيمان وعدم الثقة معاً به وبأعماله، وما هذا الطلب إلاَّ نوعاً من التجربة. وكأنما يكرهون أن يسمعوا تعاليمه ويودُّون لو يسكت ليتسلَّوا بعمل آية. "نريد أن نرى منك آية (من السماء)": لم يعتبروا الأشفية ولا إخراج الشياطين آية، بل أرادوا آية "منك" أي شخصية تخص ذاتك ويكون مصدرها السماء، حتى نتعرَّف عليك بحسب ادعائك أنك أتيت من الله. وهذا فيه كثير من الصدق، لذلك ردَّ عليهم المسيح ردًّا صادقاً حقيقياً مُقنعاً، غير أنهم لم يفهموه بل كان يستحيل أن يفهموه، ولكن لا بد أن يفهموه! 39:12و40 "فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ". ابتدأ المسيح بوصف الجيل الذي يطلب آية من السماء، أنه جيل فاسق وشرير، بمعنى أنه خرج عن علاقته الأمينة بالله كما تخرج الزانية عن علاقتها بزوجها. وليس ذلك فقط ولكنه جيل يمارس الخروج عن ناموس الحياة الخاضعة لله. وهذا هو الشر عين الشر. والآن فقد صار حالهم كحال أهل نينوى الذين أرسل الله لهم يونان: "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتَّاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها لأنه قد صعد شرُّهم أمامي" (يون 1: 1و2)، "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى" (يون 4:3). واعتبر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي ينقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظلَّ في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا سيصير المسيح وإنما في باطن الأرض. وهذه هي معجزة الخلاص، لأن بموت المسيح وبقائه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ تمَّت ذبيحة الكفَّارة ومات المسيح بالجسد، أي بالبشرية التي فيه، وهكذا كفَّر عن خطايا البشرية، وقام بالجسد أي البشرية المفتداة للمصالحة مع الله. لذلك احتُسِبَت الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ في القبر أنها معجزة الجيل الفاسق الشرير - العظمى - لأن بهذه المعجزة الفائقة أُكمِلَت كل المعجزات وتمَّ استعلان المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبة. وطبعاً قال المسيح هذا وهم لا يدرون ما يقول، ولكن كان لازماً جداً أن يرد المسيح على طلبهم، لأنه يبدو أنه كان طلباً صادراً عن رغبة الفهم والمعرفة، إذ لم تكفِهم معجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، وهذا حق. فهذه المعجزات جميعاً لا تكفي لكي تحدِّد شخصية المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل. وهكذا أراح المسيح ضميره بأن قال لهم الحق الذي سيفهمونه فيما بعد، حتى وإن طال الزمن حتى الآن!! أمَّا تعليقنا على الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ فهي هكذا: النهار الأول أخذ ضمناً الليل السابق عليه، لأن اليوم اليهودي يُحسب من الغروب إلى الغروب، وأي جزء من النهار أو الليل يُحسب يوماً كاملاً، والمسيح استودع جسده في القبر قبل الغروب ثم دخل ليل اليوم الثاني، وهكذا يُحسب ما قبل الغروب يوماً كاملاً بليلته السابقة.فأول يوم هو يوم الجمعة لأنه حُسب له في القبر لأنه دُفن قبل الغروب + (ليلة السبت صابح السبت + نهار السبت = اليوم الثاني) + (ليلة الأحد صابح الأحد + الفجر = اليوم الثالث). 41:12و42 " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكَمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!" أمَّا الآية التي طلبوها فقد قالها لهم ليرضي قلبه وضميره، أمَّا أعمالهم التي يعملونها فهي أنهم لم يسمعوا لا ليوحنا المعمدان ليتوبوا معترفين بخطاياهم ويعتمدوا، ليصيروا قادرين أن يسمعوا للمسيح ويفهموا حتى ينالوا معمودية الروح وسر الملكوت؛ ولا هم سمعوا لنداء المسيح حتى إذا قبلوه غُفرت خطاياهم وتُركت آثامهم. بل قالوا على يوحنا إن به شيطاناً وقالوا على المسيح إنه بشيطان يُخرج الشياطين. وكأن خلفية معرفتهم وفهمهم هي على أساس الشيطان، لينسبوا إليه كل الأعمال حتى الحق. وهنا يواجههم المسيح بالمصير الأسود أن رجال نينوى بل ونساءهم وأطفالهم سيقفون في الدينونة يفتخرون عليهم أنهم تابوا بمناداة يونان النبي. أمَّا هُم فلا للمعمدان اعترفوا وندموا، ولا للمسيح تابوا. فصارت دينونتهم فضيحة لحكمة إسرائيل ومهزأة لأولاد إبراهيم.وزاد المسيح بملكة التيمن أنها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، أمَّا هم فقد داسوا أقوال الله على فم المسيح وأهانوها. فالذي كالوه للمسيح أشكالاً وألواناً من المراجعة والصدام والمَعْيَرة والإهانة والتهديد بالموت، بل والتعذيب قبل الصليب وعليه، سيصبح يوماً منظراً لكل العالم وهم واقفون يُسألون عنه وقد خرست أفواههم. وهكذا يا إخوة كل مَنْ لم يعمل للدينونة حساباً!! 43:12-45 " إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ".آخر ما يمكن أن يكشفه المسيح عن هؤلاء المتزعمين لجيل الكتبة والفرِّيسيين، وآخر ما كنَّا نظن أن نفتكر به. فالمسيح يوضِّح هنا سر كل الأمور التي عُرضت علينا والتي ستُعرض من جهة أعمال هؤلاء الحكماء والفهماء اليهود مع رؤساء كهنتهم وكهنتهم وشيوخ الشعب المتضافرين معهم، الذين ظهروا في النهاية عصبة واحدة متحدة قلباً وفكراً ونطقاً: "اصلبه اصلبه". فنحن كنَّا مذهولين من أعمالهم العدائية مع المسيح. لماذا؟ لماذا هذا الصدود المجاني؟ لماذا هذه المقاومة العلنية التي أضعفت إيمان الشعب؟ لماذا هذا الهجوم الفاجر ومحاولة القتل مراراً؟ ولكن عند الصليب انكشف المشهد الأخير عن قتلة محترفين وأعداء للحق والصدق والرحمة والعدل!! والآن فقط وهنا وفي هذه الآية فهمنا سر رؤساء هذا الشعب الذين نكَّدوا على الشعب هذه القرون كلها، والله طالب خلاصهم وطالب ودّهم. يُرسل لهم الأنبياء جماعة وراء جماعة من خيرة رجال النعمة والعظماء حقًّا، أنبياء تفتخر بهم البشرية، ويزيِّنون تاريخ الله مع الإنسان. قاوموهم واضطهدوهم وقتلوهم ثم زيَّنوا قبورهم وجعلوها مزارات. ولكن بقيادة هؤلاء الرؤساء والمعلِّمين والربيين قادوا الشعب من عصيان إلى عصيان، وما كُنَّا ندري أنه لهذا الحد يبلغ بهم فجور العصيان والتمرُّد على الله، مَنْ كان يصدِّق؟ هوذا الآن نصدِّق، فقد كرروا تمرُّدهم هذه المرَّة على ابنه الوحيد الذي أرسله الله يطلب ودّهم ويطالب بالثمر، ثمر آلاف السنين تعزية ومعونة ونعمة وسخاء ومجداً لهذا الشعب الجاحد.والآن عرفنا، ومِنْ هذه الآية، أن الشيطان كان هو الذي يقودهم ويعلِّمهم أصول التمرُّد ويسوقهم أمامه لعبادة الأصنام والشياطين والنجاسة، لكي يغيظ الله بواسطتهم وقد نجح أعظم نجاح. ولمَّا جاء الابن أذاقه المرار بواسطة حكماء هذا الشعب وعلمائه وكتبته وكهنته الذين ورثوا مع الختانة الخيانة، الخيانة لعهد الله وكلامه ووصاياه، واجتمعوا على الابن الوحيد فهزأوا به ومرَّروا حياته ثم قتلوه!وجيل يسلِّم جيلاً حتى صارت عدد الشياطين الساكنة فيهم سبعة شياطين مضافة إلى الواحد، وكلَّها أشرّ منه، هؤلاء طلبوا آية فكانت آية الصليب!حنَّان، قيافا، شيوخ الشعب، كتبة، فريسيُّون، ناموسيُّون، هيرودسيُّون، سنهدرين، مشيخة الشعب، خُدَّام، كلها قِناعات لبسها الشيطان بعدما فرَّق الأدوار على الأبرار الكاذبين، وخرجوا بمظاهرة دينية رائعة يهدِّدون بيلاطس، وخاف بيلاطس طبعاً. اصلبوه أنتم!! لا ليست لنا عادة أن نقتل أحداً!! اقتله أنت. فسلَّمه إليهم فقتلوه!! "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة." (لو 53:22) 46:12-50 " وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِلقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَواتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي". جيِّد من القديس متى أن يأتي إلينا هنا بأخبار الأُم الطاهرة والتلاميذ الأتقياء لنشتَمَّ رائحتهم العطرة ونَبِلَّ ريقنا بعد أن نشّفه لنا هؤلاء الكتبة والفريسيُّون ونزحوا علينا روائحهم الكريهة! مسكينة هذه الأُم المباركة القديسة زينة البشرية نبيَّة العهد الجديد وعزاء الأتقياء - جاءت تسأل عن ابنها! هي تعرف سرّه وتعرف سرّها، ولكن استودعت الكل قلبها وانتظرت ماذا ستكشف عنه الأيام. لا تستطيع أن تسير في الشوارع وحدها فجاءت تستند على أهل يوسف. لم تكن تطلب إلاَّ أن تراه فرأته من بُعد وارتاح قلبها وعادت.أمَّا هو فقد وجدها فرصة أن يعرِّفنا بالعائلة الكبيرة التي اتسعت لتضمنا. وهنا يكشف المسيح سر احتوائه للكنيسة الجديدة، كيف تآخى هو مع البشرية عندما صار بـِكْرَها بالتجسُّد، وكيف اتحدوا به في موته وقيامته، وكيف سلَّمنا جسده المقام من الموت لنصير فيه كلنا أعضاءً من لحمه وعظامه. وبالبداية وبالنهاية هي إرادة الآب السماوي التي صنعت منَّا كنيسة حيَّة واحدة إلهية. آباء وأُمهات وإخوة وأخوات، عجنة واحدة مقدَّسة، باكورة من خلائقه، أحبَّ أن يكون فيها هو الرأس فكان، وأحبنا أن نكون فيه الجسد فأعطانا!! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 فبراير 2021

يونان النبي

ونحن فى صوم يونان‏, ‏أو صوم نينوى‏, ‏أود أن أحدثكم اليوم عن شخصية يونان ومشكلته‏ إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله‏. ‏ويونان النبي كان إنسانا تحت الآلام مثلنا‏. ‏وكانت ذاته تتعبه‏. ‏ونود في هذا المقال أن نتأمل صراع ذاته مع الله‏ الذي يريد أن يسير في طريق الله‏, ‏ينبغي أن ينكر ذاته‏, ‏يجحدها وينساها‏, ‏ولا يضع أمامه سوي الله وحده‏. ‏ومشكلة يونان النبي أن ذاته كانت بارزة ومهمة في طريق كرازته‏. ‏وكانت تقف حائلا بينه وبين وصية الله‏, ‏ولعله كثيرا ما كان يفكر في نفسه هكذا‏: ‏ما موقفي كنبي‏, ‏وكرامتي‏, ‏وكلمتي‏, ‏وفكرة الناس عني؟؟ وماذا أفعل إذا اصطدمت كرامتي بطريقة الله في العمل؟ ولم يستطع يونان أن ينتصر علي ذاته‏ كلفه الله بالذهاب إلي نينوي‏, ‏والمناداة بهلاكها‏.. ‏وكانت نينوى عاصمة كبيرة فيها أكثر من‏ 120000‏ نسمة‏ ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاطئة جدا‏, ‏وتستحق الهلاك فعلا‏. ‏ولكن يونان أخذ يفكر في الموضوع‏: ‏سأنادي علي المدينة بالهلاك‏, ‏ثم تتوب‏, ‏ويتراءف الله عليها فلا تهلك‏.ثم تسقط كلمتي‏, ‏ويكون الله قد ضيع كرامتي علي مذبح رحمته ومغفرته‏. ‏فالأفضل أن أبعد عن طريقه المضيع للكرامة‏!!‏ وهكذا وجد سفينة ذاهبة إلي ترشيش‏, ‏فنزل فيها وهرب‏. ‏لم يكن يونان من النوع الذي يطيع تلقائيا‏. ‏إنما كان يناقش أوامر الله الصادرة إليه‏, ‏ويري هل توافق شخصيته وذاته أم لا‏ ليس كذلك الملائكة‏. ‏إنهم يطيعون بغير مناقشة‏, ‏وبغير تردد‏. ‏إن الله كلي الحكمة‏, ‏وهم مجرد منفذين لمشيئته‏, ‏وليسوا شركاء له في التدبير حتي يناقشوا أو يعترضوا‏ سواء كان الأمر رحمة أو قصاصا‏, ‏يطيع الملائكة بلا نقاش‏: ‏يأمر الله أحدهم أن يذهب ليسد أفواه الأسود منقذا دانيال‏, ‏فيطيع‏. ‏وبنفس الطاعة يذهب الملاك الذي يأمره الرب بقتل جميع أبكار مصر‏. ‏ملائكة يأمرهم الله بإنقاذ بطرس من السجن‏, ‏أو بإنقاذ بولس‏, ‏أو بإنقاذ لوط‏, ‏أو بافتقاد هاجر‏, ‏فيطيعون‏. ‏وبنفس الطاعة ينفذ أمره الملائكة الذين يبوقون بالأبواق في سفر الرؤيا فتنزل الويلات علي الأرض تحطمها تحطيما‏. ‏لا يقولون عفوا يارب‏, ‏أشفق وأرحم‏, ‏وأبعدنا عن هذه المهمة‏. ‏وظيفتهم هي التنفيذ‏, ‏وليس التدبير أو التفكير‏. ‏إنهم متواضعون‏, ‏لا يعتبرون أنفسهم أحن علي الناس من الله خالقهم‏.يذكرنا هذا بقوانين الأحوال الشخصية‏, ‏ومنع الطلاق إلا لعلة الزنا‏, ‏وعبارات الحنو التي يدافع البعض عن زواج المطلقات‏, ‏كأنهم أكثر حبا وعطفا وحنانا من المسيح الذي وضع الوصية‏ أما نحن فوظيفتنا هي التنفيذ وليس المناقشة‏. ‏لا نريد أن نعمل مثل يونان‏, ‏الذي تلقي الأمر من الله‏, ‏فناقشه ثم رأي الحكمة في مخالفته‏.. ‏وهكذا استقل سفينة ليهرب من الرب‏! ‏مسكين هذا الإنسان الذي يظن أنه يقدر علي الهروب من الله‏! ‏تري إلي أين يهرب؟‏!‏ مهما هربت من الوصية ستجدها تطاردك حيثما كنت‏. ‏ترن في أذنيك وتدور في عقلك‏, ‏وتزعج ضميرك‏ إن كلمة الرب قوية وفعالة‏, ‏ومثل سيف ذي حدين‏, ‏وتستطيع أن تخترق القلب والعقل‏, ‏وتدوي في أرجاء الإنسان‏.‏هرب يونان إلي ترشيش‏, ‏ونسي أن الله موجود في ترشيش أيضا‏. ‏وركب السفينة وهو يعلم أن الله هو إله البحر‏, ‏كما أنه إله البر أيضا‏. ‏ولم يشأ الله أن يصل يونان إلي ترشيش‏, ‏وإنما أمسكه في البحر‏, ‏وهيج الأمواج عليه وعلي السفينة كلها‏.. ‏والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا‏. ‏لا أيقظه الموج‏, ‏ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء‏, ‏ولا صوت ضميره‏!!‏ نام يونان‏, ‏لم يهتم بمشيئة الله وأمره‏, ‏ولم يهتم بنينوي وهلاكها أو خلاصها‏, ‏ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته‏.. ‏لكنه تمركز حول ذاته‏, ‏وشعر أنه حافظ علي كرامته فنام نوما ثقيلا‏ هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله‏: ‏به ينقذ ركاب السفينة جسديا وروحيا‏, ‏وينقذ مشيئته من جهة نينوي وخلاصها‏, ‏وينقذ نفس هذا النبي الهارب‏, ‏ويعلمه الطاعة والحكمة‏. ‏مستبقيا أياه في خدمته بطول أناة عجيبة‏, ‏علي الرغم من كل أخطائه ومخالفته‏ ومن هم جنودك يارب الذين ستستخدمهم في عمليات الإنقاذ الكبري هذه؟ يجيب الرب عمليا‏: ‏ عندي الموج‏, ‏والرياح‏, ‏والبحر‏, ‏والحوت‏, ‏والشمس‏, ‏والدودة‏, ‏واليقظة‏.. ‏إن كانت خليقتي العاقلة لم تطعني‏, ‏فسابكتها بالجمادات والحيوانات‏.وهكذا أمر الله الرياح‏, ‏فهاج البحر‏, ‏وهاجت أمواجه‏, ‏وصدمت السفينة حتي كادت تنقلب‏. ‏وازداد هيجان البحر‏, ‏لأن أمر الرب كان لابد أن ينفذ وبكل سرعة‏, ‏وبكل دقة‏.‏ وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين‏.. ‏وبذلوا كل جهدهم الفني‏, ‏وصلوا كل واحد إلي إلهه وألقوا قرعا ليعرفوا بسبب من كانت تلك البلية‏, ‏فأصابت القرعة يونان‏.‏الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة‏, ‏كان يونان‏. ‏وحتي بعد أن نبهه أو وبخه رئيس النوتية‏, ‏لم يلجأ إلي الصلاة‏. ‏كأن عناده أكبر من الخطر المحيط به‏ حاول البحارة إنقاذ يونان بكافة الطرق فلم يستطعوا‏. ‏واعترف يونان أنه خائف من الله الذي صنع البحر والبر‏!! ‏إن كنت خائفا منه حقا‏, ‏نفذ مشيئته‏. ‏ما معني أن تخافه وتبقي مخالفا؟ ولكن كبرياء يونان كانت ما تزال تسيطر عليه‏. ‏إن الإنسان إذا تعلق بذاته وكرامته‏, ‏يمكن أن يضحي في سبيل ذلك بكل شئ‏.. ‏كان يونان يدرك الحق‏, ‏ومع ذلك تمسك بالمخالفة‏, ‏من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء‏, ‏فتحولت إلي عناد‏.. ‏قالوا له‏: ‏ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟‏. ‏فأجابهم‏: ‏خذوني واطرحوني في البحر وهنا أقف متعجبا‏!!‏ علي الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية‏, ‏لم يرجع يونان‏. ‏لم يقل أخطأت يارب في هروبي‏, ‏سأطيع وأذهب إلي نينوي‏.. ‏فضل أن يلقي في البحر‏, ‏ولا يقول أخطأت‏..!‏ لم يستعطف الله‏. ‏لم يعتذر عن هروبه‏. ‏لم يعد بالذهاب‏. ‏لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله‏. ‏إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته‏!! ‏وهكذا القوة في البحر‏ أما مشيئة الله فكانت لابد أن تنقذ‏. ‏هل تظن يا يونان أنك ستعاند الله وتنجح؟‏! ‏هيهات‏, ‏لابد أن تذهب مهما هربت‏, ‏ومهما غضبت‏. ‏أن الله سينفذ مشيئته سواء أطعت أم عصيت‏, ‏ذهبت أم هربت‏ ألقي يونان في البحر‏, ‏وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان‏.يا يونان‏, ‏صعب عليك أن ترفس مناخس‏. ‏إن شئت فبقدميك تصل إلي نينوي‏. ‏وإن لم تنشأ فستصل بالبحر والموج والحوت‏. ‏بالأمر‏, ‏إن لم يكن بالقلب‏.‏وفي جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة‏, ‏ففكر في حاله‏. ‏إنه في وضع لا هو حياة‏, ‏ولا هو موت‏. ‏وعليه أن يتفاهم مع الله‏, ‏فبدأ يصلي‏. ‏إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها‏, ‏وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقي في هذا الوضع‏. ‏فاتخذ موقف العتاب‏, ‏وقال‏: ‏دعوت من ضيقي الرب‏, ‏فاستجابني‏.. ‏لأنك طرحتني في العمق‏.. ‏طردت من أمام عينيك‏.‏ من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق‏, ‏ولم يطرحه في العمق‏, ‏ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب‏.‏هو الذي أوقع نفسه في الضيقة‏, ‏ثم شكا منها‏, ‏ونسب تعبه إلي الله‏.. ‏ولكن النقطة البيضاء، هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت‏. ‏فآمن أن صلاته ستُستَجاب‏, ‏وقال للرب‏: ‏أعود أنظر هيكل قدسك‏. ‏آمن أنه حتي لو كان في جوف الحوت‏, ‏فلابد سيخرج منه ويري هيكل الرب‏.‏أتت هذه القضية الكبري بمفعولها‏. ‏ونجح الحوت في مهمته‏. ‏والظاهر أن يونان نذر نذرا بأنه إن خرج من جوف الحوت‏, ‏سيذهب نينوي لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك‏, ‏وأوفي بما نظرته‏ 2: 9. ‏أي نذر تراه غير هذا؟‏! ‏ثم إنه لما قذفه الحوت إلي البر‏, ‏وصدر إليه زمر الرب ثانية‏, ‏نفذ نذره‏, ‏وذهب إلي نينوي‏ ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرا‏, ‏وليس بقلبه راضيا‏. ‏ذهب من أجل الطاعة‏, ‏وليس عن اقتناع‏.‏بلغ الرسالة إلي الناس‏. ‏ونجحت الرسالة روحيا‏.. ‏وتاب أهل نينوي وتذللوا أمام الرب‏, ‏وصاموا‏, ‏وصلوا‏. ‏وقبل الرب توبتهم‏, ‏ولم يهلك المدينة‏. ‏ورأي النبي أن كلمته قد سقطت‏, ‏ولم تهلك المدينة فاغتاظ‏.‏وكان غيظ يونان دليلا علي الذاتية التي لم يتخلص منها‏.‏ما كان يجوز إطلاقا إن يغتاظ النبي لخلاص أكثر من‏ 120000‏ نسمة‏, ‏قد رجعوا إلي الله بالتوبة وقلب منسحق‏, ‏لأن الكتاب يقول‏: ‏يكون هناك فرحا في السماء بخاطئ واحد يتوب‏. ‏لا شك إذن أنه قد كان هناك فرحا عظيما جدا في السماء بخلاص أهل نينوي‏. ‏ولكن يونان لم يشارك في هذا الفرح من أجل ذاتيته‏. ‏كما أن الابن الأكبر لم يشارك في الفرح برجوع أخيه الصغير وفي الحفل الذي أقيم له لأجل ذاتيته أيضا لو‏ 15.‏ في كل هذا لم تكن مشيئة يونان موافقة لمشيئة الله‏ ولم يكتف يونان بهذا‏, ‏بل عاتب الله‏, ‏وبرر ذاته‏, ‏وظن أن الحق في جانبه‏. ‏فصلي إلي الله وقال‏: ‏آه يارب‏, ‏أليس هذا كلامي إذا كنت بعد في أرضي‏. ‏لذلك بادرت بالهرب إلي ترشيش‏, ‏لإني علمت أنك إله رؤوف ورحيم‏ 4: 2.‏ كيف صلي‏, ‏وهو في تلك الحالة القلبية الخاطئة المغتاظة؟ وكيف تكلم كما لو كان مجنيا عليه وقال‏: ‏آه يارب؟ وكيف ظن الحق في جانبه قائلا‏: ‏أليس هذا كلامي وكيف برر‏ ‏هروبه قائلا‏: ‏لذلك بادرت بالهرب‏.. ‏لم يقل ذلك في شعور بالندم أو الانسحاق‏, ‏بل شعور من له حق‏, ‏وقد رضي بالتعب صابرا‏!‏ عجيب هو الإنسان حينما يجامل نفسه علي حساب الحق‏! ‏ويرفض الاعتراف بالخطأ مهما كانت أخطاؤه واضحة‏!!‏ علي أن الله استخدم في علاجه أربعة أمثلة من مخلوقاته غير العاقلة التي كلفت بمهام صعبة‏, ‏وأدتها علي أكمل وجه‏, ‏دون نقاش‏: ‏الأمواج‏ التي لطمت السفينة حتي كادت تغرق‏, ‏الحوت الذي بلع يونان‏, ‏الشمس التي ضربت رأسه فذبل‏, ‏الدودة التي أكلت اليقطينة‏ أما يونان فجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها‏. ‏كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة يونان؟‏!!‏ وأعطاه الله درسا من كل تلك الكائنات غير العاقلة التي كانت أكثر تنفيذا لمشيئته من هذا النبي العظيم‏, ‏الذي لم يتركه الرب بل هداه إلي طريقه‏, ‏بركة صلواته فلتكن مع جميعنا‏ إن قصة يونان النبي وتوبة أهل نينوي‏, ‏إنما تقدم لنا تأملات كثيرة‏ لقد دخل شعب نينوي في التاريخ‏, ‏ولم تكن لهم مظاهر عظمة تدعو إلي ذلك علي الإطلاق‏ كانوا شعبا أمميا لا يعرف الله‏. ‏وكانوا في حالة من الجهل لا يعرفون يمينهم من شمالهم يون‏ 4: 11.وكانوا أيضا خطاة تلزمهم التوبة‏ ولكن الذي سجل اسمهم‏, ‏وخلد قصتهم في الكتاب المقدس‏, ‏هو إنهم تابوا‏ وقال عنهم السيد المسيح إنهم سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل‏, ‏لأنهم تابوا بمناداة يونان متي‏ 12: 41.. ‏ومما أعطي لتوبة أهل نينوي أهمة في التاريخ‏, ‏إنها كانت توبة جادة وسريعة وقوية‏. ‏كما انها شملت الشعب كله من الملك إلي عامة الناس‏. ‏واستطاعت هذه التوبة أن تكسب رضا الله‏, ‏بل ودفاعه عن هؤلاء التائبين‏ كثيرون سجل التاريخ أسماءهم بسبب أعمال عظيمة قاموا بها‏, ‏أو بسبب نبوغ أو ذكاء خاص‏, ‏أو ارتفاع في حياة الروح‏, ‏أو قدرة علي إتيان المعجزات‏, ‏أو ما منحهم الله إياه من مواهب‏ أما نينوي فنالت شهرتها بالتوبة‏ وكلما نذكر نينوي‏, ‏نذكر هذه التوبة‏, ‏لكي ما نقتدي بها في حياتنا‏..‏هناك نوعيات من التوبة لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها‏, ‏بخاصة إذا كانت تلك التوبة نقطة تحول في الحياة‏, ‏ولا رجعة فيها‏. ‏وما بعدها يختلف تماما عن حياة الخطية الأولي. قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
21 فبراير 2021

قداس الموعوظين

س: لماذا سمي بقداس الموعوظين: هل لأنه خاص بالموعوظين فقط؟ الإجابة لا، لكن لأن هذا هو الجزء الذي يحضره الموعوظين، لكن هو للكل، ليتورجية الموعوظين هو لكل المؤمنين والموعوظين لكن هو الجزء المسموح للموعوظين بحضوره، فلا نقول إنه يخص الموعوظين فقط. ما هي ليتورجية الموعوظين: تشمل القراءات: البولس، الكاثوليكون، الإبركسيس``Pra[ic ، السنكسار cuna[arion، المزمور، الإنجيل والعظة. وفي مرحلة من المراحل كان هناك فقط ليتورجية الموعوظين وهي قراءات فقط وفي فترة أخري أضيف إليها الأواشي التي هي الثلاث أواشي الكبار: السلامة والآباء والاجتماعات وسميت بالكبار لأن طلبتها كبيرة نقول فيها صلوات كثيرة: هذه الكائنة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها ثم يكمل " كل الشعوب وكل القطعان باركهم.. إلخ.".وكان الشماس بعد الأواشي يقول "أنصتوا بحكمة الله يا رب ارم بالحقيقة" وكان الشماس يقول هذا لأنه كان الموعوظين يخرجون فكان يقصد بهذا أن ينصتوا ثم يقال قانون الإيمان.وفي فترة ثالثة أضيفت صلاة الصلح باعتبار أن الموعوظين تصالحهم الكنيسة مع الله ولذلك لما نقول علي ليتورجية الموعوظين تشمل هذه الثلاثة أجزاء. ليتورجية الموعوظين تشمل الجزء التعليمي والثلاثة أواشي الكبار وجزء صلاة الصلح، كل هذا نسميه ما قبل الأنافورا anavora، والأنافورا هي لحظة رفع الابروسفارين procverin. وهي كلمة يونانية معناها رفع القرابين. وسميت ليتورجية باعتبار أنها خدمة، خدمة لهؤلاء الذين يدخلون إلى الإيمان، فهي خدمة تقدمها الكنيسة خصيصًا لهم، والحقيقة فيها صلوات تقرأ أثناء القراءات لكي يفتح الله آذان وأذهان الموعوظين لكي يفهموا ما يقال.أحد الآباء يقول: "في قداس الموعوظين تخطب النفس للرب يسوع"، لذلك بولس الرسول يقول: "لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" لهذا هو يعطيها نفسه، فالكنيسة هي عروس المسيح. لقاءنا مع المسيح في الأفخارستيا، سيناكسيس تعبير يطلق علي القداس وهو التفاف المؤمنين حو الكنيسة المقدسة والأب "ديكس" أطلق علي القداس لفظ سيناكسيس، سماه منفصل ومتصل، متصل أي الجزء الخاص بالموعوظين أو الذي يحضره الموعوظين غير مرتبط ببعض مثل القداس الغريغوري والقداس الباسيلي، غير القداس الكيرلسي الذي عمله القديس مرقس الرسول وأضاف إليه أشياء القديس كيرلس عمود الدين، نجد أنه كل الأواشي قبل التقديس فكل الصلوات وكل القراءات كلها منفصلة تمامًا عن صلب القداس التي هي التقديس والتأسيس والقسمة والتناول. فالسيناكسيس المتصل يعني القداس كله، والمنفصل يجعل الجزء الخاص بقداس الموعوظين ودورات البخور كلها كانت تكون لوحدها، إن جاز هذا التعبير مثل في الصوم الكبير بعض الكنائس والأديرة ترفع بخور باكر بعد التسبحة ثم بعد الظهر الساعة 1، 2 يصلون القداس فكانت الكنيسة تفعل ذلك مع الموعوظين، تجعل الصلوات والقراءات ودورات البخور كل هذا لوحدة ثم في وقت لاحق يكون الجزء الخاص بالمؤمنين فقط: تقديم الحمل صلوات الافخارستيا – التقديس – القسمة – التناول.في الوقت الذي عمل فيه تقسيمة الأب "ديكس" كانت صلاة الصلح من ضمن صلوات المؤمنين ولم يكن أضيف إلى ليتورجية الموعوظين، ومن هنا هذا المسمى جاء السيناكسيز المتصل، المتصل الذي هو يكون كله مع بعض، تشبيه آخر الذي يرفع بخور باكر والقداس بعده مباشرة والسيناكسيز المنفصل مثل نظام الصوم الكبير رفع بخور لوحدة والتقديس لوحدة، لذلك كان هناك القراءات وعظه الأب الأسقف للموعوظين ثم ينصرف الموعوظين بعد الأواشي، ثم يبدأون تقدمة الحمل مع صلاة الصلح مع صلوات الإفخارستيا ثم التقديس والقسمة والتناول. وكلمة سيناكسيز أي الكل مجتمع حول الإفخارستيا.كنيسة إسكندرية لأن كان فيها موعوظين كثيرين لهذا قداسها عمل بنظام السيناكسيز المنفصل ولو أنه الآن متصل. نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها عن القداس الإلهي في اللاهوت الطقسي القبطي
المزيد
20 فبراير 2021

المقالة السادسة والعشرون في من سقط بسبب الغفلة ويحتج بالخطأ

أيها الأخ إذا اشتهيت سيرة العبادة فقد آثرة عملاً حسناً إن حفظته إلي النهاية، فق إذاً وأصغِ إلي ذاتك مثل حكيم مثل عابد لا كغيره فليس صراعنا بإزاء لحم ودم بل بإزاء الرؤساء والرئاسات نحو السلطات، بإزاء ضابطي عالم ظلمة الدهر، بإزاء جنود الخبث المصارعين في السماء فُقْ إذاً إلي النهاية لكي لا تنغلب من قبل رقادك وعدم الإصغاء لذاتك فتقول بجهالة قد أفضيت إلي رتبة عابد وما وجدت هناك طريق خلاص فلماذا أيها الأخ تنكر نعمة الرب، لِمَ تستهجن سيرة العبادة لعلك تشاء أن تنتفع بغير أن تتوجع من أجل نفسك بل تنخدع لشهواتك وللذات الأفكار وتحتج بسيرة العبادة لأنك لو حفظت وصايا الرب وأحببت تقواه لكان حفظ نفسك، فأولاً إنك لم تحفظ قانون سيرة العبادة ورقدت في صلواتك الجامعة، أحببت أن تسلك مجانياً واحتقرت من هم أعظم منك قدراً، أحببت استعلاء الرأي أكثر، أبعدت الحمية، ولازمت كثرة الأكل، السهر لم تحبه، أحببت كثرة النوم الذي لا يشبع منه، الطهارة لم تحبها وأحببت الدنس، الطاعة لم تؤثرها وأحببت عدم الطاعة، الغضب والسخط لم تبغضهما وأحببت المحك والحقد، السكوت والصلاة ما أحببتهما وأحببت الصراخ واللعن والحلف، الظلافة والورع لم تحفظهما وأحببت المزاح مع الضاحكين، الصمت والتقويم ما أحببتهما وأحببت اكثار الكلام والاغتياب، عدم القنية ما آثرتها وأحببت احتشاد الفضة، النسك والتعب لم تحبهما وأحببت التنعم والبطر، العمل بيديك لم تؤثره وآثرت البطالة، أكثر السلامة ما أثرتها وأحببت الشرور بالإنقلاب الردئ، التوجع للمحزونين لم تملكه وأحببت أن تكون فظاً وغير متوجع لأحد، لم تؤثر أن تحتمل حزناً وتعييراً من أجل الرب وتقت إلي الجلوس الأول والمدائح الباطلة، محبة اللـه وخشيته لم تحفظهما أما الإزدراء به ومقت الأخوة فأحببتهما أكثر، وماذا أقول أيضاً: أبغضت المناقب السمائية وأحببت الأشياء الأرضية وتحتج بسيرة العبادة. أما عرفت أنه مكتوب أن الرب يبيد كافة المتكلمين بالكذب، وأيضاً لا تتكلموا علي اللـه ظلماً فإن اللـه هو القاضي. أرايت أيها الأخ ان مناهي العلة ليست من آخرين، عد إلي ذاتك وأرجع إلي الرب بكل قلبك فإنه لا يريد موت الخاطئ مثل ما يشاء أن يرجع فيحيى لأن الرب يشاء أن الكل يخلصون لأنه صالح، أجُرحت ! تقدر أن تبرأ. أَسقطت ! قم. لا تبذل ذاتك إلي الهلاك فإن المخلص نفسه قال إن الأصحاء لا يحتاجون طبيباً بل أسواء الحال، وما جئت لأخلص الصديقين لكن الخطاة، فلهذا أيها الأخ تفهم فأشير عليك: أجلس في السكوت وأحضر بين عينيك خشية الرب وأجمع أفكارك، أجلس كقاضٍ وتأمل عبور الزمان الماضي منذ أقبلت إلي العبادة لكي ما تعرف الأمر الذي صار لك سبباً لمثل هذا العزم وأوسم في قلبك المضرة والسبب ومن أين أتتك هذه الخسارة وأصنع بإزائها الجهاد لأن التاجر إن وقع بين اللصوص أو إن غرق مركبه أو ضاع وسقه فلا ينسى الموضع الذي ضاع فيه الوسق وإن عرض بعد مدة طويلة أن يجتاز بذلك الموضع يتحرز كثيراً ليعبر فيه فلنشابه التجار بل نتحكم أكثر منهم. أولئك إنما أضاعوا غنى بالياً فلا ينسوا الموضع، وأما نحن فقد أضعنا غنى لا يبلى ونضجع، فمنذ الآن أجلس في خلوة وأجمع أفكارك وأفحص روحك نهاراً وليلاً لتعرف مثل هذه الخسارة، هذا الإنعكاس لئلا تكون منذ الإبتداء قد أقتنيت دالة والدالة عكست فكرك المتدين حسناً وأفسدت عاداتك وجعلتك غير مستحي ولا خجلان لئلا يكون الضرر قد أتاك من قبل أكثارك الكلام لئلا تكون العلة صارت من هيام البطن، من عدم الطاعة، من اشتهاء أحوال مختلفة، من حجة الخدمة والضجر، فإذا عرفت السبب فأقطع الدالة والوقاحة بالتورع لا تخجل أن تدعى مرائياً من المخالفين لوصايا الرب لأن من البين أنهم ما أحضروا ذكر المراياه لتتمجد بل لتخجل من ذلك وتصير وقحاً عادم الخجل وغريباً من العزم المقسط، لأن الذين يدعون بالمتورعين مرائين، فيقول السيد: أيها المرائي أنتزع أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر أن تخرج القذاء من عين أخيك لا تخجل من التعيير فتعتاد عدم الأدب فإن الذين لا أدب لهم يلتقيهم الموت لأنه إن كان قلبنا لا يلومنا فلنا دالة قدام اللـه، وأيضاً إن عيرتم باسم الرب فأنتم مغبوطون فإن روح المجد وروح اللـه يستريح عليكم فلا يتألم أحدكم مثل قاتل أو كلص أو كرقيب غريب فإن تألمت كمسيحي فلا تخجل فإن اللـه يتمجد بهذا الاسم. فمنذ الآن أهرب من الدالة والضحك فإنهما لا يوافقان نفسك، وكذلك شره البطن أقمعه بالحمية، ومحبة الفضة بالنسك والزهد في القنية، وكثرة الكلام بالصمت، والضجر بالصبر، وصغر النفس بذكر الخيرات المنتظرة، وعدم الطاعة بالتواضع. وإن كان العدو الماقت الخير قد أنشأ لك الشر فأحفظ نفسك فيما بعد نقياً ولا تشارك خطايا أجنبية وعلي حسب رأيي أعتقد أن مبدأ الشرور صار لك من الدالة وهذه جعلتك لا تخجل، فلذلك يقول: الطوبى للرجل الذي يتقي كل شئ من أجل التورع، أي ربح في العالم أيها الأخ وأي صلاح يمنح الذين يحبونه إذا أخذ إنسان امرأة فذلك بدء الهم، أو ولد أبناً فذلك اهتمام آخر، أو ولد آخر فذلك اهتمام آخر أكثر، وإذا مات أحدهما فيخلف لوالديه نوحاً، وإن لحقت الحي صعوبة يتوجعان من أجله أكثر من المائت، إذا وافت إلي الرجل ساعة الوفاة فشر عليه من موته ان يحسب حزن قرينته ويتركها أرملة وأولاده يتامى، وهذا كله أيها العابد عتقك منها نير الرب الصالح فكيف تؤثر أن تميل إلي الأشياء القديمة، فلا تيأس من نفسك ولا تقل لا أستطيع أن أخلص، حب خشية اللـه من كل نفسك وهي تشفيك وتبرئ جراحاتك، وتحفظك في المستقبل غير مجروح لأنها بقدر ما أحبت نفسك تقوى اللـه لا تقع في فخ المحال بل تكون كالنسر الطائر إلي العلو وإن هجعت بعد هذا فإن النفس بمخافة اللـه تهدم الفضائل الشامخ علوها ويلعب بها الذين أسفل ويغطون عينيها ويستاقونها كداً إلي آلام الهوان مثل ثور معلق بنير، فلذلك أيها الأخوة لنهتم بخلاصنا، لنهتم بساعة الوفاه، ولنمقت الأمور الأرضية لأن هذه كلها تبقي هنا، هذه لا تنفعنا في ساعة شدتنا حين نتضرع أن نترك وليس من يستجيب. ويلي ويلي ما هي ساعة الموت حين لا يسافر الأب مع ولده، ولا الأم ترافق أبنتها، ولا المرأة رجلها، ولا الأخ يرافق أخاه، سوى عمل كل واحد مهما عمل إن صالحاً وإن خبيثاً، فمنذ الآن فلنتقدم فنرسل أعمالاً صالحة حتى إذا انصرفنا يستقبلنا في مدينة القديسين، إن شئت أن تنجح فأقتنِ الملك صديقاً لك هنا لأنه بمقدار ما تخدمه هنا يمنحك المرتبة وبقدر ما تكرمه هنا يكرمك هناك لأنه كتب: إني أشرف الذين يمدحونني ومن يتهاون بي يهان، أكرمه بكل نفسك ليؤهلك لإكرام القديسين. في أي شئ يجب أن تقتنيه، قدم له ذهباً فضة، إذا رأيت عرياناً فألبسه، غريباً فآوه، فإن لم يكن لك شئ من هذه فقدم له ما هو أكرم نوعاً من الذهب والفضة أمانة، محبة، حمية، صبراً، تواضعاً، طول روح، إتقاء الاغتياب، أحفظ عينيك لئلا تبصر ضلالاً، ويديك ألا يعملا ظلماً، وأعطف رجليك من الطريق الردئ، عزِ صغيري الأنفس، توجع للمرضى، أعطي العطشان قدح ماء بارد، أعطي الجائع كسرة خبز مما لك، مما وهبها لك قدم له، لأن مخلصنا لم يطرح فلسي الأرملة، وماذا طلب إيليا النبي من الأرملة أليس ماء قليل في إناء وكسرة خبز، وقيل قام إيليا ومضى إلي صارفة صيدا ودنا من باب المدينة فإذا بامرأة أرملة تجمع حطباً فهتف إيليا وراءها وقال: ائتي لي بيديك كسرة خبز، أتعرف أيها الحبيب بماذا كان الأنبياء يغتذون بقليل من ماء ويسير من خبز وهذا بعد ضيقة من الجوع لأنه كان لهم كافة الحرص في الخيرات المعدة لهم في السموات. يا أخوتي لنحب طريق القديسين وما دام لنا وقت فلنجعله ثمراً حسناً للتوبة، لا تضيع وقتاً موافقاً للتوبة ولا تتنزه في خيالات هذا العالم ولا ترتبط مع الناس السائرين بعدم خشية اللـه ولا تنافس أعمال المتهاونين بخلاصهم كما يأمرنا الرسول القائل: إن الأحاديث الرديئة تفسد العادات الصالحة. وفي فصل آخر يقول: يا بني أتخذ مشورتي ولا تتركها بل أحفظها لك في حياتك، لا تذهب في طرق المنافقين ولا تغاير طرق الأثمة، في أي موضع نزلوا معسكرين لا تمضي هناك، حد عنهم فإنهم لا يرقدون قبل أن يعملوا الشر قد سلب نومهم فلا يرقدون، الذين يأكلون خبز النفاق ويسكرون بخمر تجارة الشريعة، أما طريق الصديقين فتتلألأ بالنور هم يسلكونها ويضيئون إلي أن يلمع النهار. ويقول أيضاً: لا تصر رفيق إنسان غضوب، ولا تساكن صديقاً سخوطاً لئلا تتعلم شيئاً من طريقه فتأخذ لنفسك وهقاً. وفي فصل آخر يقول: أطلب إليكم يا أخوتي أن تترقبوا الذين يصنعون الشقاقات والشكوك بخلاف التعليم الذي تعلمتموه وأجنحوا عنهم فإن مثل هؤلاء لا يعبدون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالألفاظ الصالحة وبالتبريكات يخدعون قلوب ذوي الدعة. فلنهرب إذاً من الطريقة العريضة المؤدية إلي الهلاك ولنتوقن إلي الطريقة الضيقة المؤدية إلي الحياة الخالدة، فلنتوجع هنا بالاختيار قبل أن نتوجع هناك كارهين، ولنبغض العالم والسيرة العائلية، ولنصنعن لنا طرقاً مستقيمة، فلنحب الحرص ولنكن ملتهبين وغالين بالروح لدى اللـه، فلنبكين ههنا باختيارنا لنستعطف اللـه فينجينا من البكاءِ وقعقعة الأسنانِ، ولنحب النوح فإنه وصية الرب لأنه هو قال: الطوبى للنائحين الآن فإنهم يعزون، ولنخطر ببالنا يا أخوتي الأحباء أمر النواتية الذين يسيرون في البحر أية معاطب يحتملونها محاربين البحر ويجوزون معظم الأمواج فمتي ما أكمل أحدهم الوقت الذي أئتجر فيه لا يحفل بالمعاطب التي أحتملها محارباً للبحر من أجل الفرح لأنه أخذ كمال أجرته بل ويصير أوفر نشاطاً في سير البحر، فأولئك إذا أكملوا طريقهم يضطرون أن يعودوا إليها. أما نحو يا أخوتي الأحباء إن بلغنا حسناً إلي كمال الجهاد المنصوب لنا فليس لنا أمر يضطرنا أن نستعمل هذا السعي نفسه لأن هذا غير ممكن فالجهاد يا أخوتي قليل وعطية الثواب لا توصف، فلنستفق في عمل الرب بكل قلبنا وقوتنا ما دام لنا وقت وكما أن مواهبه لا ندم يخامرها والدعوة التي للقديسين هي هكذا وعكسها ما أعد للمضادين منذ القديم فلذلك الطوبى للإنسان المتقي الرب فإنه سيأخذ منه الإكليل المعد للذين أحبوه.وله كل مجد إلي أبد الدهور آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
19 فبراير 2021

العمل الذي أعطيتني قد أكملته

هكذا قال ربنا يسوع لأبيه الصالح.. لأنّه هو الكامل الذي أكمل كلّ شيء. وهكذا كان حتّى إلى الصليب حيث صرخ قائلاً: :«قَدْ أُكْمِلَ». (يو19: 30) هذا هو الحق الذي يجب أن يكون فينا سواء في خدمتنا أو سائر أعمالنا، لابد أنّنا بنعمته نقول له: «الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ» (يو17: 4). كثيراً ما يجوز علينا الفكر إنّنا قد أنجزنا جزءًا كبيرًا وهذا يكفي، ولكن يظلّ السؤال هل أكملت العمل؟ نقول كلّ شيء على ما يرام، لقد قاربنا النهاية وهذا عظيم إنّ الذين يجرون في السباق إن لم يَصِلوا إلى خط النهاية لا يُعتبَرون شيئًا. حتّى لو كانوا على بعد أمتار قليلة. فَكِّر في الأمر جيّدًا.. ماذا عهد الله إليك مِن عمل؟ ألا تَذكُر قول المسيح في المَثَل حين قال الأب لابنه: «يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي» (مت21: 28) لقد أرسلَنا الله كلّ واحد إلى عمله، إلى إرساليته.. وحدّد له الزمان والمكان، فوجودنا له غاية عُظمى وإرسالية مُحدّدة. ويجب أن نراجع أنفسنا، ونقول هل أكملتُ العمل؟ هل أقدر أن أقول قد أُكمل؟ ماذا نجاوب ديَّاننا؟ وهَبْ أنّني أدركت أني على وَشَك الخروج من هذا العالم، فهل أنا مستعد أن أعطي جوابًا؟ أم أقول لقد أكملتُ مُعظم العمل ولكنّي كنت أحتاج إلى وقت أكثر إن لم يكتمل العمل فلا يكون له قيمة، تخيل أعمال الفنانين الموهوبين: رسامين أو نحاتين ولم تُكتمل اللوحات أو التماثيل، هل تحوز على إعجاب أو رضى؟ أو طبيب مُعالج يكتفى بجزء من العلاج مهما كان كبيرًا.. هل يَرضى عنه أحد؟ أو قائد سيارة أو طائرة يقول لقد بلغنا تسعين فى المائة من المسافة وهذا يكفي.. هل هذا يُعقل؟! ما بالك إذن وأعمال الله الموكّلة إلينا؟ الأمر يحتاج إلى جدّيّة وأمانة وصبر كثير، يجب أن نكمل توبتنا التي هي أغلى ما في الوجود، أنصاف الحلول لا تنفع!! قال أحد الآباء: لو أنّ عصفورًا مربوطًا بعشرين خيطًا، فإن قُطِعَتْ معظم الخيوط، وبَقِيَ واحدٌ فقط، فهل هذا يُطلق العصفور حرًّا؟ إنّ خيطًا واحدًا فقط كفيل بأن يُفقِده حُرّيّته. هكذا إن قدّمنا توبة، وجاهدنا أن نقتلِع جذور الخطايا والآثام، ونُقلِع عن عاداتنا القديمة والأعمال والأقوال الباطلة، ونغير سيرتنا، ونتقدّم في مسيرتنا، كلّ هذا جيّد وممدوح، ولكن إن أبقينا جِذرًا واحدًا، أو تهاوَننا مع صغيرة، فإنّنا سوف نعاني من نموّها ونرتد إلى سيرتنا الأولى لذلك يجب أن نقول: قد أُكمل. وأن يكون جهادنا «حَتَّى الدَّمِ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ» (عب12: 4). أنصاف الحلول أو الرضى بانجاز الجزء الأكبر من العمل هذا لا يُعني الكمال قال القديس بولس: «قَدْ حَفِظْتُ الإِيمَانَ... أَكْمَلْتُ السَّعْيَ» (2تي4: 7). لأنّه كان دائمًا تَوَّاقًا راكضًا نحو الجَعالة، ولم يكتفِ أبدًا بما ناله.. ويقول: «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً» (في3: 12)، وكان ينسى ما هو وراء ممتدًّا فيما هو قدام. «إِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا» (رو13: 11).. من الواجب أن تزيدنا الأيام تَقَدُّمًا وجِدّة روحيّة، وأن تكون حواسنا قد تدرّبت على التمييز بسبب طول الزمان، ونكون قد بلغنا زمن الإثمار. فهل هذا هكذا؟! الكمال يعني الانتهاء من العمل على الوجه الأكمل لا بحسب قياس الناس، بل بحسب قياس المسيح. «لأنّ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ» (2كو10: 18). تأمّل جيّدًا في الوزنات التي أُعطِيَت لك من يد المسيح لكي تتاجر فيها وتربَح، وتأمّل النصيب والأجر السماوي للعبد الأمين الذي تاجَرَ فربح، إن كان في الخمس الوزنات أو الوزنتين. وأسأل نفسك بصدق وتدقيق، هل أكملت العمل؟! إن كانت وزنات الوقت والسنين أو الزوجة والبنين، أو المقتنيات وما هو بين أيدينا كمِلكنا، أو الإمكانيات الذهنية والعقلية أو الكفاءات والمهارات، أو الأهل والأصدقاء، أم العمل في العالم، أو.. أو إلى آخر هذه الأمور التي تحيط بنا في الحياة اليومية. في الواقع أنت لك دور فعَّال في كلّ هذا، إذ سمح الله لك أن تتلامس مع كلّ شيء أحاط بك، ومع أي إنسان يتعامل معك.. إذا أنت أظهرتَ له استعلان المسيح الذي يُظهِر بك للناس حبّه ورحمته وغفرانه وطول أناته. وبالأعمال الحسنة يَرى الناس الله فيك ويمجّدونه ولكن قبل كلّ شيء يبقى السؤال: هل أكملتَ العمل؟! وأقول «مَا دَامَ الْوَقْتُ يُدْعَى الْيَوْمَ» (عب3: 13)، فالفرصة أمامك، وما لم تَبْلُغْه بالأمس جاهد اليوم فيه متفاديًا الأخطاء التي عطّلت العمل، ومواظبًا على طلب المعونة الإلهية لتتميم عمل الله، ومتأكّدًا أنّه «إنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ» (مز127: 1) «لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِينا أَنْ نُرِيد وَأَنْ نعْمَل مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 13). المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
18 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس أليشع

" وأمسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبياً عوضاً عنك "2مل 19: 16 مقدمة كان السؤال الذى طرحه جورج ماتيسون فى حديثه عن أليشع، هو: ماهو الفرق بينه وبين إيليا وهو يكاد يكون نسخة منه!!؟ لقد كانت حياة الاثنين نغمة موسيقية واحدة، ربما كان الأخير فيها هو القرار الأضعف صوتاً والأبطأ قياساً،... ألم يضرب إيليا نهر الأردن، وهكذا فعل أليشع!!؟ ألم يصعد إيليا إلى جبل الكرمل، وهكذا صعد الآخر!!؟... ألم تسبب كلمات إيليا مأساة دموية، وهكذا كانت كلمات أليشع!!؟ ألم تتجه الأنظار إلى إيليا فى المجاعة، وكذلك اتجهت أيضاً إلى أليشع!!؟ ألم يفض إيليا بالخير على أرملة، وكذلك فعل أليشع!!؟ ألم يقم إيليا ابن الأرملة، وألم يفعل أليشع الشئ نفسه مع ابن الشونمية!!؟ … ألم ينقل إيليا الخير إلى ما وراء اليهودية، فيما فعله مع أرملة صرفة صيدا، وكذلك فعل أليشع عندما شفى نعمان السريانى!!؟... وألم يحدث حتى فى اللحظات الأخيرة أن كانت الصيحة واحدة إذ صاح أليشع، وهو يرى إيليا صاعداً فى مركبته السماوية: " يا أبى يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها "؟؟... وألم يبك يوآش ملك إسرائيل على وجه أليشع فى مرضه الذى مات به وهو يقول: " يا أبى يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها "؟؟... " 2مل 13: 14 " وعند صعود إيليا إلى السماء، طرح الرداء وتركه لأليشع، ولبس التلميذ رداء معلمه، فهل لم يكن هناك فرق بين الاثنين!!... نعم، كان هناك الفرق الكبير، لقد كان أليشع أهدأ وأرق وألطف!!؟ أو فى لغة أخرى كما يراه ما تيسون، كان أليشع هو إيليا، ولكن بعد أن عاد من جبل حوريب مستمعاً إلى الصوت المنخفض الخفيف، وحلت هبات النسيم مكان الزوبعة العاتية، وجاءت خضرة المروج أثر الجبال المسنمة، وحل أليشع برسالته المتحدة فى الروح، والمختلفة فى الأسلوب، محل رسالة إيليا، ومن هنا كان الفارق بين الرجلين. فكانت الرسالة اللاحقة متممة للسابقة ومتكاملة معها ومن هنا يحق لنا أن نرى أليشع من النواحى التالية: أليشع ودعوته عندما ذهب إيليا إلى جبل اللّه حوريب، لم يكن يعلم أن اللّه سيتحدث إليه هناك عن ثلاثة أسماء سيدعوها لخدمته، وتنفيذ إرادته، فهو سيدعو أليشع بن شافاط ليحل محل إيليا، وسيدعو حزائيل ملكاً على آرام، وسيدعو ياهو بن نمشى ملكاً على إسرائيل،... وأدرك إيليا أن اللّه متسلط فى مملكة الناس، وأنه يدعو الأنبياء والملوك وكل ذى سلطان وفقاً لمشيئته العليا وإراداته الكاملة، وأنه يسيطر على الخير والشر فى كل مكان وزمان،... وبينما كان إيليا نائماً تحت الرتمة، وقد استبد به اليأس، وطوحت به الضيقات والآلام، كان هناك شاب عظيم يعده اللّه فى آبل محولة (مروج الرقص) ويجهزه للخدمة المقدسة...، وهكذا يتغير الناس، ويبقى اللّه، ومع أن أليشع حمل رداء إيليا وحل محله، إلا أنه ثمة فروق بين الاثنين،... كان إيليا - كما ذكرنا فى الحديث عنه - من بلاد جبلية، وكان أليشع من أرض زراعية كان إيليا أشبه بالمعمدان، يحيا حياة الخشونة والصلابة والشدة والعنف والرعد القاصف، وكان أليشع أدنى إلى حياة المسيح فى الرقة والعطف والجود والإحسان، كان إيليا لا يأكل ولا يشرب، وكان أليشع يأكل ويشرب، كان الأول يعيش فى الجبال أو العزلة، وكان الثانى يعيش فى المجتمعات، وبين الناس،... ومع ذلك فقد كان الاثنان من روح واحدة فى السمو والرفعة وعزة النفس، كان الرداء الذى يحتويهما واحداً، وعندما يطرح هذا الرداء على أليشع، فهو يترك ثروته الواسعة، ويذبح فدان البقر، ويضع يده على المحراث الخالد، ولم يعد للمال سلطان على نفسه وهو يأبى أن يقبل من نعمان السريانى هدية تقدر بما يعادل خمسين ألفاً من الجنيهات، ولا يخرج لمقابلته إذا هو أعلى من المال ومن نعمان ومن العالم كله،... لقد ذهب إيليا وطرح الرداء عليه، ومد الشاب بصره، فرأى كل شئ يتغير، وهو يستبدل محراث أبيه، بمحراث أخلد وأعظم،... ويستبدل حقل أبيه بحقل أوسع وأكبر، حقل الخدمة العظيم والأكمل والأجل،... ومنذ ذلك التاريخ ولمدة خمسين عاماً عاشها فى الخدمة، لم يتراجع قط عن محراثه العظيم، ولم ينظر إلى الوراء، حتى بكاه يوآش ملك إسرائيل: " يا أبى يا أبى يا مركبة إسرائيل وفرسانها "... ومن الملاحظ أن هناك فرقاً كبيراً بين قول أليشع: " دعنى أقبل أبى وأمى وأسير وراءك " " 1 مل 19: 20 "... وقول الشاب الذى دعاه المسيح: " إئذن لى أن أمضى أولا وأدفن أبى " " مت 8: 21 "... كان أليشع يريد أن يلقى على أبيه قبلة الوداع، فهو مع وفائه لأبيه يريد أن يرسل إليه تحيته الأخيرة، ولكل ما يمكن أن يرث عن هذا الأب،... أما الآخر فلم يكن أبوه قد مات حتى يدفنه، ولكنه أراد أن يؤجل الخدمة، حتى يموت أبوه، ويدفنه، ثم يذهب بعد ذلك لعمل اللّه، كما أن هناك فرقاً عظيماً بينه وبين القائل: " أتبعك ياسيد، ولكن ائذن لى أن أودع الذين فى بيتى " " لو 9: 61 "... وهذا الفرق واضح فى أن أليشع حرق المحراث الذى كان يحرث عليه دون أدنى تردد، كأنما ينسف جميع الكبارى التى تربطه بالعالم، وهو يضع يده على محراث اللّه العظيم الذي دعى إليه!!... ولم يمنعه إيليا عن أن يودع أبويه، وقد تركه ليقبل أو يرفض،.. وما أسرع ما عاد إلى أبيه الروحى، بعد الوداع والقبلة لأبيه فى الجسد!!... أليشع وبرهان دعوته وقف بنو الأنبياء على الجانب الآخر من الأردن، وينظرون إلى أليشع ممزق الثياب يحمل رداء إيليا، وأذا بهم يرونه يفعل مثل ما فعله معلمه، فيلف الرداء ويضرب به الماء، وإذا بالنهر ينفلق، ويعبر أليشع، ويأتى بنو الأنبياء ليسجدوا له إلى الأرض فى انحناء الاعتراف واليقين بأنه أخذ مكان إيليا، ومع أنه كان شاباً نظيرهم أو أكثر منهم قليلا، لكنهم مع ذلك رأوا برهان النبوة، فى الرداء، وفيما فعل، وفيما أخذ من سلطان مماثل لسلطان معلمه العظيم، والنبوة ليست ادعاء يضيفه الإنسان على نفسه، فما أكثر الأنبياء الكذبة، الذين يحاولون أن يلبسوا رداء السابقين، دون أن تكون لهم قوتهم وسلطانهم، وسيكشفهم رداء النبوة، ويظهرهم على الملأ، ويظهر مدى ما فى ادعائهم من زيف أمام الأردن الممتلئ بالماء، والذى لا يستطيعون أن يشقوا طريقهم فيه، وإذا كان من الملاحظ أن أليشع يختلف فى شخصيته عن إيليا، لكن الرداء واحد للاثنين،... لأن اللّه الواحد سيد الاثنين، ومحركهما، ودافعهما فى الحياة والخدمة، ومن ثم فإن أليشع يضرب الماء صائحاً: " أين هو الرب إله إيليا؟ "... " 2 مل 2: 14 " أو فى لغة أخرى - أنه يشق الطريق مستنداً إلى ذات الإله الذى عاش فى ظله إيليا وصنع قواته ومعجزاته، وهو يسير على نفس الدرب مهما اختلفت الظروف، وتلونت الحياة، وتغيرت الأوضاع، لكن اللّه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، ليس عنده تغيير أو ظل دوران،... وما أجملها من ثقة وما أروعه من يقين!!، أن نستند إلى إله آبائنا، وأن نأخذ من اختباراتهم عظة وعبرة وفى الوقت عينه تتجدد وتتكرر اختباراتنا نحن، دون أن تقف عند ماضى السابقين،.رأى أليشع المركبة النارية التى حملت معلمه إلى السماء، وأيقن أنه ذهب إلى المكان العظيم العتيد أن يبلغه المتوجون المنتصرون من المؤمنين، ولكن بنى الأنبياء ألحوا عليه أن يفتشوا فى الجبال أو الأودية، لعل روح اللّه يكون قد طرحه فى واحد منها، ومع أن أليشع لم يقتنع بمنطقهم، إلا أنه كما يقول جورج ماثيسون لم يجبرهم على الاقتناع برأيه، أو يلزمهم بهذا الرأى حتى يصلوا إليه بأنفسهم. ومن اللازم أن نتعلم ألا نلوى أيدى الآخرين، أو نكرههم على قبول رأينا. قد يطول بحثهم عن الحقيقة، التى وصلنا إليها، ولكن من الأفضل أن ندعهم يكتشفون لأنفسهم ما وصلنا إليه، حتى نستطيع أن نقول لهم ما قاله اليشع بعد تفتيشهم ثلاثة أيام دون أن يصلوا إلى النتيجة التى تصوروها: " أما قلت لكم لا تذهبوا!؟ "... " 2 مل 2: 18 "وقد ظهر برهان الدعوة من واقعتين أخريين مختلفتين تماماً، الأولى من تحويل النبع الردئ إلى نبع عذب، عند مدينة أريحا، وأريحا مدينة النخل والرياض والزهور، ومع جمال المدينة وخصب الأرض حولها، إلا أن مشكلتها الكبرى كانت فى الينبوع الردئ المر الذى كان يمدها بالماء، وإذا جاء بنوا الأنبياء وأهلها إلى أليشع، طلب صحناً جديداً، لم يكن قد وضع فيه شئ، حتى يمكن أن يقال إنه سر التغير فى ماء الينبوع، ووضع فيه ملحاً، والملح أساساً، فى المفهوم الدينى، للتنقية والتطهير، وإن كانت إضافته إلى الماء، ليتحول الماء العذب، هى أشبه الأشياء بوضع الطين على عينى الأعمى ليبصر، الأمر الذى فعله المسيح،... لكى تظهر يد اللّه فى الحالين، وهى تغير الأمور إلى العكس بالقدرة العلوية العجيبة، وما أن وضع أليشع الملح فى الماء، ودعا باسم الرب، حتى تحول النبع الردئ إلى واحد من أعذب الينابيع التى يقول الكثيرون إنه باق إلى الآن باسم " نبع السلطان " على مقربة من أريحا!!... كانت هذه من أولى معجزات أليشع، وهى - بالأحرى - رمز لرسالته، الرسالة التى تبدأ بالينبوع، قبل أن يغترف الإنسان من المجرى، ورسالة اللّه تحول أولا وقبل كل شئ النبع الردئ إلى نبع حلو صاف عذب جميل، والقلب الذى كان يخرج فى الأصل فساداً وشراً، عندما تستولى عليه النعمة الإلهية،... هذا القلب يتدفق بثمر الروح القدس: " محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف " " غل 5: 22 " كانت معجزات أليشع، التى سنتأمل فيها فيما بعد، رمزاً لإحسان اللّه وجوده من الجوانب المتعددة للحياة البشرية،... ولكن على رأس المعجزات وأولها، بدأ أليشع بالنبع الذى أضحى حلواً جميلا صافياً رقراقاً!!.على أنه من الجهة الأخرى وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الرسالة الإلهية رائحة حياة لحياة، فهى فى الوقت نفسه رائحة موت لموت، وهنا نتحول من البركة إلى اللعنة، ومن النبع الصافى إلى المأساة القاسية، ومن الملاحظ أن أليشع تحرك فمه باللعنة مرتين شهريرتين: المرة الأولى للصبية الذين سخروا منه فى بيت إيل، والمرة الثانية عندما لعن جيحزى بعدما أخذ - كذباً - بعض عطايا نعمان السريانى، ومع ذلك فالفرق بين اللعنتين واضح، أما بالنسبة للصبية، فإن اللعنة كانت إعلاناً عن غضب اللّه على هؤلاء الساخرين العابثين، أما بالنسبة لجيحزى فقد كانت طلباً محدداً أن يلصق به وبنسله برص نعمان السريانى، للأسلوب الشرير المتعمد الذى يعطى صورة خاطئة عن مفهوم الخلاص المجانى لإنسان وثنى، دعاه أليشع إلى الخلاص من برص الخطية وإثمها وفسادها وشرها!!.. على أنه فى الوقت نفسه، من واجبنا ألا نحكم على عمل أليشع فى نور العهد الجديد كما يقول بعض المفسرين، لئلا نستمع إلى قول السيد وهو يتحدث إلى تلميذيه اللذين أرادا محاكاة أسلوب إيليا....... فقال لهما على الفور: " من أى روح أنتما؟!! " لو 9: 55 " لقد لعن أليشع الأولاد، الذين أطلق عليهم الكتاب " صبيان صغار " والكلمة فى الأصل العبرى هى التى استخدمها سليمان وهو يصلى إلى اللّه فى جبعون، بعد أن أصبح ملكاً " فتى صغير " كان هؤلاء الصبيان فى سن الشباب، وهم من بيت إيل المكان الذي حلم فيه يعقوب حلمه العظيم، وبنى مذبحه، ومع ذلك فإن يربعام أقام فيه العجل الذهبى، وعبد الناس الآلهة الوثنية، ولعل هؤلاء الشباب، رأوا أليشع، وهو يلبس رداء إيليا، مع الفارق بين شعر إيليا الطويل، وشعر أليشع القصير ولربما كان الأخير أصلع الرأس فعلاً وإذ رأوه، وسمعوا قصة صعود إيليا التى لم يصدقوها، وأرادوا أن يسخروا من إيليا، وأليشع، ومن اللّه نفسه، فقالوا له: اصعد يا أقرع؟؟!!.. " 2مل 2: 23 " اصعد كما صعد إيليا إلى السماء فى مركبة من نار!!.. وإذا كان الأثينيون قد حكموا - كما يقول جورج ماثيسون - على غلام أثينى بالإعدام لأنه فقأ عينى طائر السمان، ورأى القضاة فيه قسوة غير مألوفة، ربما تتحول لو عاش بين الناس، إلى قسوة يفقأ معها عيون البشر، فإن أليشع، وهو يلعن هؤلاء الصبيان كان يرى فيهم وفى تجديفهم ما رآه الأثينيون فى ذلك الغلام، ومن ثم لعنهم على ما وصلوا إليه من إثم وفجور وارتداد وشر!!.. وقد صادق اللّه على اللعنة، فخرجت دبتان من الوعر لتفتك باثنين وأربعين منهم!!... فإذا كان الينبوع العذب يمثل جانب اللطف الإلهى، لمن يريد أن يتمتع بالمراحم السماوية، فإن مصرع الأولاد يمثل الصرامة لمن لا يريد أن يعتبر، وحقاً: " مخيف هو الوقوع فى يدى اللّه الحى!!.." "عب 10: 31"0 أليشع ومعجزات الإحسان كانت حياة أليشع حافلة بمعجزات المساعدة والإحسان، إذ كان - كما صوره دكتور ماكرتنى - صورة للراعى الأمين الذى ينتقل بين الرعية، ليمد يد العون لأرملة تعسة، أو صديق منكوب، أو محتاج معوز، وسنترك الحديث عن مساعدته لنعمان السريانى، عندما نفرد لذلك حديثاً خاصاً تالياً، ونمر الآن مروراً سريعاً بألوان المساعدات الأخرى، والتى تبدأ بمساعدة الأرملة التى مات زوجها، وجاء المرابى ليأخذ ولديها وفاء لدين لا تملك دفعه،... ومع أننا لا نعرف من هو زوج هذه الأرملة، إلا أن بعض التقاليد تقول إنه عوبدياً، والذى عال مائة من بنى الأنبياء فى أيام إيليا، ولو صح هذا التقليد فإننا أمام كارثة مضاعفة، كارثة بيت هوى من مجده وعزه إلى الفقر المدقع والحاجة القاسية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الدائن المرابى أراد أن يأخذ الولدين وفاء وسداداً للدين المطلوب، ومن صرخة المرأة إلى أليشع، يقفز أمامنا السؤال: هل حدث هذا لرجل كان عبداً للّه ويخاف اللّه، لأنه استدان، وأغرق نفسه فى الدين من أجل عمل اللّه!؟؟.. وهل يكون هذا هو الجزاء!!؟ وهل يتخلى اللّه عن مثل هذا الإنسان أو بيته!!؟... والاختبار الصادق: "كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً!!؟ " مز 37: 25 " على أية حال كان هذا هو المأزق الذى وقعت فيه الأرملة!!؟ وكان من الطبيعى أن تلجأ إلى رجل اللّه، إذ هو أول من يخطر على البال أو بتعبير أدق، أول إنسان يفترض أنه يواجه المشكلة أو يشارك فيها!!؟... ترى هل يعرف خدام اللّه، هذه الحقيقة؟ أو بالأحرى هل يمارسون خدمتهم بهذا الإحساس العميق بالواجب والتبعة، دون أدنى تردد أو تراجع؟،... على أية حال لقد قاد رجل اللّه الجميع لحل المشكلة، فلم ينفرد بحلها، إذ أعطى كل واحد نصيبه فيها، فالمرأة لا ينبغى أن تقف متفرجة على الحل، بل لابد أن تساهم فيه بجهدها، وجهد ولديها معها، ولابد أن تستخدم دهنة زيتها فى مواجهة المشكلة،.. وإنه لمن أعظم الأساليب وأجملها، أن نعلم الذين يواجهون المشاكل، كيف يشتركون هم بأنفسهم فى حلها، مهما يكن مجهودهم يسيراً أو محدوداً،.. كما لابد من مساندة الآخرين من أصدقاء أو جيران أو مساعدين، واستخدام أوعيتهم وأوانيهم، وكلما اشترك الآخرون فى الجهد أو عانوا فيه، كلما كان الحل أكثر سهولة وأعظم يسراً،... على أن لب حل المشكلة، هو الاتجاه إلى اللّه، ووضعها بين يديه، وذلك بالإيمان به صديقاً وشريكاً فى الوصول إلى الحل العظيم،... ومن العجيب أن اللّه على استعداد أن يضيق أو يوسع فى الحل، على قدر ما لنا من إيمان ضيق أو واسع، لقد طلب أليشع من المرأة أن تكثر من الأوعية، ولا تقلل منها، واستمر الزيت يسيل، حتى لم يعد هناك وعاء بعد، ولم يتوقف حتى قال لها ابنها: " لا يوجد بعد وعاء " 2 مل 4: 6 "... وسددت المرأة الدين، وبقى لها ما عاشت به مع ولديها زمناً طويلا،... وهكذا يتدخل اللّه، على قدر ما نعطيه فرصة التدخل فى حل مشاكلنا وسد احتياجاتنا!!.وإذ نتحول من قصة الأرملة الفقيرة، إلى الشونمية العظيمة، نتحول إلى مشكلة أخرى أعمق أثراً وأبعد امتداداً،.. لم يكن للشونمية ابن يتعرض للضياع بسبب الدين أو الضيق أو الحاجة، بل لم يكن لها ابن أصلا، إذ كانت المرأة عاقراً،... كانت تملك مالا ولم تكن تملك ولداً، وهذه - قصة الدنيا على الدوام، تسخو من جانب، وتحرم من الجانب الآخر، فالفقير يمتلئ بيته من الأولاد، وقد يحسد الغنى على ما يملك من مال،... فى الوقت الذى يتمنى فيه كثيرون من الأغنياء أن يحرموا من وافر أحوالهم ليجدوا خلفاً يعقبهم، أو ابناً يمد فى ذكرهم، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه: تأتى الرياح بمالا تشتهى السفن.على أن الشونمية - مع ذلك - لم تكن المرأة المتمردة، أو المتذمرة على حظها من الحياة، أو نصيبها من الدنيا، إذ كانت قانعة بما قسم اللّه لها، راضية بمشيئته، مستسلمة لإرادته، وكانت تشرب، فى عمق، من نهر الشركة مع اللّه،... وكان بيتها هو البيت المفضل لأليشع، كلما جاء إلى شونم أو مر بها، وقد وجد إكراماً من المرأة، حتى أنها أقامت له عليه خاصة به، حتى إذا جاء يميل إليها!!... وإذا كان إبراهيم قد أضاف الملائكة، وهو لا يدرى، وكان ثمرة الضيافة الوعد بإسحق، فإن هذه المرأة أخذت بركات الضيافة الموعود بها من اللّه،.. لقد أراد أليشع أن يرد بعض الدين الذى فى عنقه تجاه هذه المرأة، وهو رجل معروف للملك ولرئيس الجيش، ولعله يستطيع أن يخدمها إذا كان لها من حاجة عند أحدهما،.. والمؤمن ينبغى أن يبذل جهده وساطته من أجل أخيه المؤمن، إذا كان ثمة حاجة يستطيع أن يعينه عليها، ولا ضير البتة من هذه الوساطة، بل إنه فى الواقع يكون مقصراً، إذا رأى أحداً من اخوته المؤمنين فى ضيق أو حاجة دون أن يقدم على مساعدته ومعونته،... ولكن المرأة كانت من النوع المحبوب والمسالم، فليس ثمة مشكلة من هذا القبيل،... كانت مشكلة المرأة، وعلى وجه الخصوص فى تقاليدنا الشرقية، أنها بلا ولد، والأمر الذى يصل - كما ذكرت أيضاً إليصابات - إلى حد العار!!.. " لو 1: 25 " وكان وعد أليشع أن العاقر ستحتضن إبناً بمرور العام، وجاء الابن،... وأصبح كالمشعل المضئ فى جنبات البيت، وكان يجرى بين البيت والحقل، قرة عين لأبويه،... حتى أصيب بضربة شمس قضت عليه فى الحال،... وكان السؤال الذى قفز أمام ذهن المرأة، وطرحته فيما بعد أمام أليشع فيما معناه: ألم يكن من الأفضل أن لا يوجد الولد أصلا، من أن يأتى ثم يرحل على هذه السرعة المفاجئة!!؟ وهل الأفضل أن لا يوجد الأمل فى الحياة، مهما يكن حلواً أو عزيزاً أو مطلوباً!!؟ أم أن يأتى ويلوح للإنسان كشعاع عظيم رائع من الضوء، ثم لا يلبث أن يذهب ويتبدد ليترك وراءه الدنيا غارقة فى الظلام!!؟.. كانت تلك هى المشكلة وكان هذا هو المأزق... ولم يكن هناك إلا الحل الواحد، الذى أدركته الشونمية، وأدركه أليشع، وكانا ولا شك يعرفان ما فعل إيليا مع ابن أرملة صيدا عندما مات، وأعاده مرة أخرى إلى الحياة،... قالت المرأة لزوجها الذى تساءل: لماذا تذهب إلى رجل اللّه فى غير ميعاد، فلا رأس شهر أو سبت؟ وقالت لجيحزى المسرع بأمر من أليشع الذى رآها من فوق جبل الكرمل، ليسألها عن سر مجيئها المفاجئ؟!... قالت كلمة واحدة فى الحالين: سلام!!.. وكان من المستحيل أن يصل إليها السلام دون أن تواجه مشكلتها بدون الإيمان بقدرة اللّه وإحسانه وجوده وحبه وحنانه!!... لم ترض المرأة أن يذهب جيحزى وهو يحمل عكاز أليشع، إذ أن هناك - كما قال أحدهم - فرقاً بالغاً فيمن هو الرجل الممسك بالعكاز، أهو النبى أم جيحزى؟ إذ أن الشئ الأعظم فى العظة هو الواعظ الذى يعظ بها، وإذا كان الملك الفرنسى قد قال: " أنا الدولة "، وكان جباراً طاغية، فإنه فى المعنى الأصح والأدق، يمكن للواعظ أن يقول: " أنا العظة "، والمعلم " أنا الدرس"،.... وما كان للمرأة أن تأتمن جيحزى، حتى ولو حمل عكاز أليشع،.. والمعجزات العظيمة تحتاج إلى مؤمنين عظماء!!... لقد أعطى أليشع - بالإيمان باللّه - الولد مرتين إلى أمه، المرة الأولى بالميلاد والمرة الثانية بالإقامة من الأموات!!.فإذا تحولنا إلى المعجزة التى واجه بها أليشع الطعام المسموم، عندما كان يعلم فى الجلجال بنى الأنبياء، وذهب واحد منهم ليلتقط بقولا فوجد يقطيناً برياً وضعوه فى القدر مع الطعام، ولم يلبثوا أن صرخوا: " فى القدر موت يا رجل اللّه، " " 2 مل: 40 "، وإذا بأليشع يضع الدقيق فى القدر، فكأنه لم يكن شئ ردئ فى القدر،... وما أكثر ما تتكرر هذه الواقعة بالمعنى الروحى فى التعاليم الفاسدة التى يتناولها الإنسان كطعام الحياة، وهو يظن أنه يأكل الدسم، ثم لا يلبث أن ترتفع صرخته: " فى القدر موت يا رجل اللّه "!!... حتى يأخذ خبز المسيح فى دقيق الإنجيل النقى، وكأنه لم يكن شئ ردئ فى القدر،... فإذا أضفنا إلى هذه المعجزة بركة الرب فى خبز الباكورة الذى حمله رجل إلى أليشع، وكان عشرين رغيفاً من شعير وسويقاً فى جرابه، وإذ فزع خادم أليشع من أن يضع هذا أمام مائة رجل، وقال: " هل أجعل هذا أمام مائة رجل؟ فقال: أعط الشعب فيأكلوا لأنه هكذا قال الرب، يأكلون ويفضل عنهم، فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم حسب قول الرب " " 2 مل 4: 43 "... وهل نذكر الفارق البعيد بين عشرين رغيفاً وسويقاً من الفريك أمام مائة رجل،... وبين خمسة أرغفة وسمكتين أمام خمسة الاف ماعدا النساء والأولاد، بين أليشع والمسيح له المجد؟؟!!.فإذا تركنا هذه المعجزات جميعاً، إلى الفأس العارية التى كان يستخدمها واحد من بنى الأنبياء، وهم يجهزون مكاناً ليقيموا فيه على مقربة من الأردن، وسقط الحديد فى الماء، وخرج الشاب إلى أليشع، إذ أنه كان قد استعار الفأس، ولابد أن يردها، ورمى أليشع قطعة من الخشب، فطفا الحديد على الماء،... ومع أنه يعنينا هنا أن نتحدث عن رقة أليشع البالغة التى تهتم بأن تساعد المستعير على رد العارية، مع أنه كان من الممكن الاعتذار بما حدث،. غير أن أليشع يشجعنا على رد المستعار مهما كانت قيمته صغيرة أو كبيرة وفاء للأمانة، التى يجب أن تكون من أوضح صفاتنا وسلوكنا كمؤمنين،... على أن الأمر الأعظم هو فى الحديد الطافى على الماء، والذى يشير فى المغزى الروحى إلى انتصار النعمة الإلهية على من أغرقتهم آثام الخطية، وشرورها وفجورها، أو همومها ومتاعبها وآلامها، وأنه مهما تكن الظروف، فإن رسالتنا الدائمة أن ننفذ الغرقى، وأن نرفعهم فوق خطاياهم أو متاعبهم إذا ما وجهنا أنظارهم إلى الخشبة العظمى التى علق عليها يسوع المسيح على هضبة الجلجثة!!.. أليشع والقوى الحارسة وكم نحتاج أن نتأمل أليشع مع غلامه فى دوثان، لنرى الفارق بين البصيرة، والبصر، وبين المؤمن المدرب على الشركة المتعمقة مع اللّه، والحديث الإيمان الذى لم يدخل إلى العمق فى الحياة الروحية!!... نام أليشع وغلامه فى تلك الليلة فى دوثان، ولا نعلم ما الذى أيقظ الغلام فى الصباح الباكر ليرى المدينة الصغيرة محاصرة بجيش ثقيل للأراميين،.. كان أليشع كرجل وطنى يحب بلاده، قد دأب على تنبيه ملك إسرائيل فى حربه مع الأراميين إلى مواقعهم ومواطن الخطر التى يمكن أن يهاجموا منها، إلى درجة أن ملك آرام ظن أن هناك خيانة ضده بين قواده وأتباعه، ولكن واحد منهم بين له السر الكامن فى أليشع، وفى قدرته على الكشف عن سرائر الملك وأعماله،... وسمع الملك أن أليشع فى دوثان، فأرسل مركباته وفرسانه وجيشاً ثقيلا وحاصر المدينة ليلا،.. ولعل النظرة الدقيقة إلى الخطر الذى أحاط بأليشع، يمكن أن تعطى صورة لفداحته، وأكثر من ذلك، إلى صورته النمطية المشابهة فى حياة الناس، فالخطر شئ قد يفاجئ الإنسان الهادئ الوادع الذى يستيقظ بين عشية وضحاها، ليرى كل شئ قد انقلب رأساً على عقب،... لقد نام أليشع فى الليلة السابقة دون أن يخشى شيئاً أو يفزع من خطر، وها هو الآن يرى الخطر حقيقة ماثلة أمام عينيه، إن الزمن قلب، والحياة متغيرة، ولا أمان لإنسان فى أى زمان أو مكان من أن تأتيه الأخطار من هذا الجانب أو ذاك، دون أدنى توقع أو استعداد،... وكان الخطر - أكثر من ذلك - هو خطر الإنسان الذى لا يدرى مؤامرات الآخرين ضده، فهو ينام هادئاً ساكناً، لا يعلم أن المؤامرات تحاك ضده فى الظلام،... وما أكثر ما يقع المؤمنون فى فخاخ لا يلبثون أن يجدوا أنفسهم مطوقين بها من كل جانب، يدرون أو لا يدرون، وتذهب كل حيطة فى خبر كان كما يقولون،... على أن الأمر الأقسى والأشد، هو أن الخطر حدث بكيفية لا يمكن الإفلات منها أو دفعها،.. لقد طوقت المدينة بجيش ثقيل جداً ولا سبيل حسب النظرة البشرية إلى الدفاع أو الخلاص من القوة المحاصرة!!.. ولأجل هذا فزع الغلام جداً، ووصاح: " آه يا سيدى، كيف نعمل!!؟ " 2 مل 6: 15 "... ولم يفزع أليشع مثل الغلام، وصلى إلى اللّه ليفتح عينى الغلام، ويرى الجيش الحارس المرسل من اللّه للنجدة!!... وهذا الجيش يتميز بسمات أساسية، إذ هو أولا وقبل كل شئ الجيش الحقيقى. فى قصة الإلياذة والأوديسة - لمن قرأها - وفى سائر كتابات الإغريق والرومان والمصريين نرى الخيال الوثنى وهو يتحدث عن تلك الآلهة التى كانت ترف على الناس وتمنحهم المعونة والقوة والمساعدة، فتأتى مثلا مينرفا إلى تليماك بن أودسيوس وتثير فيه حماسة البحث عن أبيه، وتضفى عليه المهابة والجلال إزاء أعدائه، بل تسخر له الريح والهواء والناس، وتحفظه من الأعادى. هذا هو الخيال الوثنى، أما كتاب اللّه الصادق فيرينا أن اللّه يرسل جيشاً حقيقياً من الملائكة المرسلين لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص،.فالجيش الذى رآه أليشع وغلامه لم يكن صورة خيالية أملاها الوهم، بل حقيقة لم يرها الغلام إلا بعد أن فتحت عيناه،.. ولعله من اللازم أن ننبه ههنا، إلى الحقيقة - التى كثيراً ما ينساها الإنسان - وهى أن المنظور فى الحياة، هو أقل الأشياء، وأن الإنسان عن طريق العدسات المكبرة أو المخترعات المختلفة، أمكنه أن ينفذ ببصره إلى ما لم يكن يراه من قبل،... فإذا وضعنا هذه القاعدة، فإننا نعلم - فى المعنى الروحى - أن هناك عالماً خفياً أعظم وأوسع وأرهب وأقدر من كل عالم مرئى منظور ومعروف بين الناس،... وأن البصر لا يستطيع أن يصل إلى هذا العالم أو ينفذ إليه، وأن البصيرة الروحية، هى التى يمكن أن تراه، وهذه البصيرة هى التى فتحت عينا الغلام عليها ليرى الجبل مملوءاً خيلا ومركبات اللّه حول أليشع،... من الواضح أن هذا الجيش غير المنظور أقوى من كل جيش أرضى منظورة، بل هو أقوى من جيوش الأرض مجتمعة معاً، ويكفى أن قبضة ملاك واحد قضت فى ليلة واحدة على مائة وخمسة وثمانين ألفاً من جنود سنحاريب،.. " 2 مل 19: 35 " وقد كان هذا الجيش هو الجيش الحارث، فإذا كان جيش آرام قد أحاط بدوثان، ودوثان هذه مدينة فوق تل، وقد أحاط بها معسكر ملك آرام فى السهل، ووجد الغلام عندما فتحت عيناه، أية قوة تقف بينه وبين الجيش الأرامى،... جيش آخر من نار ولا يستطيع جيش آرام أن يبلغه أو يبلغ أليشع ما لم يقتحم هذا السور من نار!!.. حقاً إن " ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم... " مز 34: 7 " وهذا الجيش جاء إلى أليشع وظهر له، وهو يؤدى واجبه الموضوع عليه إزاء بلاده وشعبه،... وعندما نؤدى الواجب المطلوب منا، سنجد ملائكة الله تساعدنا وتساندنا... كان أبتلتيتوس الرواقى يقول: ضع غرضاً نبيلا أمامك واذكر اللّه وسر إلى الأمام ولا تخف. وعندما أحاط الخطر بأليشع أحاطت به القوى الإلهية الحارسة، ويالها من قوى مباركة تسهر علينا سواء ندرى أو لاندرى!! كان استونول جاكسون من أعظم القواد الذين أنجبتهم أمريكا، وقد قيل عنه أنه لم يكن يخاف على الإطلاق أى إنسان أو أى عدو، وقد حارب جاكسون مرات متعددة فى ظروف من أقسى الظروف التى تمر بقائد، وقد حدث عندما كان قائداً لجيوش الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية - وكانت الحرب فى أدق مرحلة من مراحلها - أن أرسل إلى راعى كنيسته رسالة ظنها أهل المدينة متعلقة بأنباء القتال، ولذا قرأها الراعى بصوت عال ليجد القائد يقول له: " ياراعى العزيز لقد تذكرت اليوم أن المطلوب للعمل المرسلى فى الخارج قد جاء ميعاده، وها أنا أرسله لكم، وآمل أن يأتى اليوم عندما تنتهى هذه الحرب، ويفوز الجانب الواقف إلى جانب الحق، أن نذهب جميعاً إلى العمل الرئيسى فى الحياة الذى هو خلاص نفوس الناس " وصف أليشع فى الكتاب تسعة وعشرين مرة بأنه رجل اللّه، وقد كان حقاً الرجل الذى عاش ببصيرته الروحية يحمل رداء إيليا، وهو الوحيد بين جميع الأنبياء والقديسين الذين امتدت معجزاتهم إلى ما وراء حياتهم، إذ مس ميت عظامه فى قبره عندما طرحه حاملوه على عجلة خوفاً من غزاة موآب، فقام وركض وراءهم " 2 مل 13: 21 ". وكان هو مثل إيليا يحق له أن يوصف بالقول: مركبة إسرائيل وفرسانها، أو ذلك الجيش العظيم العرمرم الذى يصنعه اللّه من فرد، لمجده العظيم فى الحياة وبين الناس!!.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل