المقالات
03 أبريل 2021
إنجيل عشية الأحد الرابع من الصوم الكبير
لو22:12-31
وقال لتلاميذه: "من أجل هذا أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون.الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس.تأملوا الغربان: أنها لا نزرع ولا تحصد، وليس لهـا مخدع ولا مخزن، واالله يقيتها. كم أنتم بالحرى أفضل من الطيور! ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحد؟ فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر، فلماذا تهتمون بالبواقي؟ تـأملوا الزنـابق
كيف تنمو: لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويطرح غدا في التنور يلبسه االله هكذا، فكم بالحرى يلبسكم أنـت يـا قليلي الإيمان؟ لا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا، فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا ملكوت االله، وهذه كلها تزاد لكم .
الطعام الباقي الذي للحياة الأبدية
في إنجيل القداس يتقابل الرب يسوع مع المرأة السامرية بينما يذهب التلاميذ ليبتاعوا طعامـا ولمـا
عادوا إليه وطلبوا قائلين: "يا معلم كل"... فقال لهم "لي طعام آخر لستم تعرفونه... طعامي أن أعمل مشـيئة الذي أرسلني وأتمم عمله"... ويتساءل التلاميذ في براءة "ألعل أحدا قد أتاه بطعام؟، إذ لم يكونوا بعد يـدركون كمال تدبيره الإلهي.لذلك يجيء إنجيل العشية كمقدمة لهذا الحوار وهو يبين قصد المسيح ويكشف عن الاهتمام بالطعـام الباقي الذي للحياة الأبدية. فقول الرب لتلاميذه هنا "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون"... عنـدما نقرئـه بإنجيـل السامرية يأخذ كما معناه الإلهي.الحياة أفضل من الطعام... يأعن الحياة الأبدية التي لا تستمد وجودها ولا قوتها مـن هـذا الطعـامالبائد.
يوجد طعام آخر... هل ذقته؟
لقد شغل طعام هذا العالم قلب الإنسان وعقله من يوم أن وطأت قدماه أرض الشقاء لكي يفلحها بعرق
الجبين وصار كل سعيه محصورا في الحصول على قوت الجسد وبسبب لعنة الخطية صارت تنبت له شـوكًا وحسكًا يوخز الجسد فيئن مدى الحياة.وقد دعا الرب يسوع هذا الطعام... الطعام البائد... بالمقارنة بالطعام الباقي الذي للحياة الأبدية.وفي التجربة على الجبل عندما قال المجرب للرب، قل لهذه الحجارة أن تصير خبزا، ضاربا سهمه نحو جسد الرب الجائع... فكان أن الرب رد سهمه إليه وأخرج الرب من كنف المقلاع درة من سفر التثنيـة كانت مخزونة لليوم والساعة وهي المكتوب "أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فـم الله". فارتزت في جبين العدو الشرير فسقط صريعا كجليات في القديم.لقد جاء الوقت الذي فيه يقدم المسيح للبشرية الجائعة خبز الحياة الأبدية لكـي يأكلـه الإنسـان ولا يموت... إنه طعام آخر... غير الذي يعرفه الناس. الخبز النازل من السماء لكي يأكله الإنسان ولا يمـوت...ليس هذا الخبز سوى المسيح نفسه... المأكل الحقيقي هو جسده الذي بذله عنا.
المسيح طلب من السامرية أن يشرب وكان وقت الساعة السادسة وقت الصليب الذي كان حاضرا في
المسيح... لأن المسيح غير زمني، فليس عنده مستقبل ولا ماضي بل هو أزلي أبدي حاضر دائما فكان
الصليب ماثلاً في ذلك الساعة السادسة. ووقتها على الصليب أظهر عطشه مرة أخـرى وقـال "أنـا
عطشان" ولما قدموا له خلاً ليشرب لم يرد أن يشرب لأنهم لم يفهموا أن عطش المسيح لا يرويه مـاء
هذا العالم، وجوع المسيح لا يشبعه خبز هذا العالم.قال اللص على الصليب للمسيح "اذكرني" وكانت يد المسيح ممدودة إليه وهو معلق إلى جانبه، وحين صلى اللص يطلب الخلاص ارتاح قلب يسوع وارتوى إذ وجد ثمار دمه المبذول لأجل الخطاة... كان اللـص أول من ارتمى تحت قدمي الصليب ليفيض عليه رشاش الدم الإلهي... هذه كانت أول ثمرة... تشـبع قلـب يسوع وتروي عطشه... يا للسرور الذي كان موضوعا أمامه وهو على الصليب!. وهكذا السامرية لم تعطـه ليشرب من ماء بئر، بل حينما مد يده وأخرجها من عمق بئر الخطايا وظلمـة ماضـيها... ارتـوت نفسـه وارتاحت إلى خليقته الجديدة إذ رأى أنها وهي مفدية بدمه صارت حسنة جدا جدا.تُرى متى يبطل اهتمامنا بالطعام البائد وإن كان هذا كثيرا نقول تُرى متى نهتم بالطعام الآخر ونسعى إليه وما هو مقدار سعينا نحوه؟.
وأين العرق الجديد للخبز الجديد؟ أين أتعابنا وسهرنا وكدنا في طلب خبز الحياة؟.
قال الرب للرسل: "ارفعوا عيونكم... الحقول ابيضت للحصاد". ظاهرا حقول القمح هي خبز الجسد،
ولكن المسيح يتكلم عن الحصاد الكثير. وقلة الفعلة، وينقل الذهن إلى حبات حنطة الحياة الجديدة التـي
تلدها حبة الحنطة التي ماتت وأتت بثمر كثير... كان باكورة هذا الحصاد هي السامرية.لقد حان أوان قطافها... ووقعت في يد المسيح. نفوس كثيرة تحتاج كلمة... نفوس كثيـرة جـاهزة للخلاص.اطلبوا إلى رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده، فالحصاد كثير جدا.إن الوقت والجهد الذي نبذله من أجل خبز الحياة ضئيل جدا جدا إذا ما قورن بما نبذله من أجل لقمة العيش وخبز الجسد .أين ما علمنا إياه الرب في الصلاة أن نطلب خبز الغد (خبز الحياة الأبدية لأننا لا نعرف لنـا غـدا سوى حياتنا في المسيح إلى الأبد). لكي يعطيه لنا اليوم نذوقه ونتمتع به ونتغذى عليه كمن يحيا الحياة الأبدية وهو بعد على الأرض.لا يفهم هذا على أنه تقليل من شأن الجهاد والعمل في العالم بحسب ما أعطى االله، وزنات لكل واحـد إن كان للطالب في جهاده في دراسته أو عامل في عمله أو موظف في وظيفته أو مزارع في زراعـة أو أم في تربية أولادها. وكل هذه أعمال واجبة وممدوحة نؤديها بالأمانة المسيحية في كـل إخـلاص ونجني ثمرها ونشكر االله على عمله معنا وسنده إيانا. لكن الرب ينبه الذهن إلى عدم الهم وعدم القلـق التي تعمل بها هذه الأعمال "لا تهتموا... لا تقلقوا". لأن من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد علـى قامتـه ذراعا واحدة؟ يستحيل فالهم علاوة على أنه لا يغير شيئًا فهو مؤذٍ للنفس "الهم في قلب الرجل يحنـي ظهره" (أمثال). والاهتمام تدبير أما الهم فهو عدم اتكال على االله.والأمر الثاني هو تحويل مركز اهتمامنا من الأرضيات إلى السماويات ومن خبز الجسد وضرورياته إلى خبز الحياة الأبدية والسعي الدائم نحوه. ففيما نحن نمارس أعمالنا اليومية يكون شغل قلبنـا هـو
سماوي.
تدريب:
تدرب على أكل الكلمة الإلهية "وجد كلامك فأكلته" قال الرب لحزقيال حين عرض عليه الكلمة الإلهية مكتوبة في درج كتاب قال له: "كُل مـا تجـده،فأكله فصار في فمه كالعسل حلاوة". تدريب على التلذذ بأكل الكلمة الحية... فتحيا بها كطعام يومي.
تدرب على التناول بوعي روحي وإدراك وحاسة مقدسة ومذاقة روحية... لا تنسى أنك أخذت المسيح
نصيبك وحين تأكله أقضي اليوم كله متأملاً فيه، كيف أعطانا جسده لنأكله... الأمـر الـذي تشـتهي
الملائكة أن تطلع عليه. كرر قول المسيح "لي طعام آخر" مرات كثيرة في اليوم ليدفعك للسعي نحو الحياة الفضلى والشبع بما هو نازل من فوق .
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
02 أبريل 2021
الجمعة الرابعة من الصوم الكبير: الإيمان بالإنجيل
ارتباط فصول القراءات:
الإيمان بالإنجيل
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الإيمان بالإنجيل"، فالنبوة الأولى تتكلم عن وجوب الإيمان به كما أوصى الرب بنى إسرائيل بحفظ شريعته، والثانية عن بركات الله للمؤمنين به كما وعد بذلك المساكين من بنى إسرائيل، والثالثة عن إهلاكه لمحتقريه كما توعد بذلك الشرير في يوم الدين، والرابعة عن تمجد الله في المؤمنين به كما تمجد في دانيال حين وجد سالما في جب الأسود.
ويتكلم إنجيل باكر عن قوة المؤمنين بالإنجيل في طرد الشياطين من الناس كما انتهر المخلص الشيطان من الرجل في المجمع، وإنجيل القداس عن استجابة الله لصلواتهم كما استجاب المخلص لصراخ المرأة الكنعانية وشفى ابنتها.ويحثهم الرسول في البولس على ضرورة الاعتراف به، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بضرورة الثبات فيه، ويهيب بهم الإبركسيس أن ينادوا به بين الأمم.
النبوات (تث 10: 12 – 11: 28)
غنى عطايا الله لهم
لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجما اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.
الإصحاح الحادي عشر من سفر تثنية
أيامنا كأيام السماء
تحدث في الإصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه، غير مشير إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الالتصاق به والاستماع لكلماته، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفسًا التي نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء في الكثرة.وفي هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهي أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [21]. هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا، فنتمتع ببركات الطاعة، أي التمتع بأيام السماء على الأرض، عوض السقوط تحت لعنة العصيان، أي الانحدار إلى أيام الجحيم.إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [1 – 7]، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلى الصلاح والعطاء [8 – 25] ليختبر الحياة السماوية. الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [26 – 32].
البولس من العبرانيين (عب 13: 7 – 16)
محبة الرعاة:
"اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ، فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" [٧].لنذكر الآباء الرعاة الذين يختفون وراء كلمة الله، فيشهدون لا بما لهم بل بالكلمة الإلهي المعلن في كرازتهم وفي سلوكهم. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أي نوع من الإقتداء هو هذا؟ بالحق نتمثل بما هو صالح فيهم. إذ يقول: "انظروا حياتهم، فتمثلوا بإيمانهم". فإن الإيمان إنما يعلن في الحياة النقية.]
الهروب من الهرطقات
"يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [٨-٩].إذ أراد أن يوصيهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه ابن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا انحراف.إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا، ولا يزال يعمل لحسابنا، ويبقى عاملًا إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي، وإنما كدنسٍ يلزم الامتناع عنها كما يدنسون الزواج. فيقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [٩].حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية، مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام.
التألم مع السيد المسيح
انتقل بهم الرسول من عدم الانسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الانشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس!
لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [١٠-١١].وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة وارتفع إلى السماوات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرموا من سرّ الإفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقيقية التي وهبها السيد لمؤمنيه.هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه، ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم. "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [١٢-١٣].فإن كان هؤلاء العبرانيون قد طردهم مجلس السنهدرين كمرتدين، لا يخجلوا، فقد سبق أن طُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه، ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.وعن ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا.] بخروجه كمذنبٍ صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا، نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.ويستكمل لسان العطر بولس كلامه فيذكر ضرورة فعل الخير قائلًا "وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [١٦].كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي.
إنجيل القداس من متى 15: 21 – 31
ثم خرج يسوع من هناك وانصرف الى نواحي صور وصيدا واذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا فاجاب وقال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا إمراة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت إبنتها من تلك الساعة ثم انتقل يسوع من هناك وجاء الى جانب بحر الجليل وصعد الى الجبل وجلس هناك فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج وعمي وخرس وشل واخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون والشل يصحون والعرج يمشون والعمي يبصرون ومجدوا إله إسرائيل
لقاء مع الكنعانيّة
إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس -الكتبة والفرّيسيّون- بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.بينما انهمك اليهود -في أشخاص قادتهم- في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها."وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة: ارحمني يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا" [22].لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!
حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23].. لماذا؟
أولًا: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.
ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.
ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. ولذلك نجد القديس أغسطينوس يقول: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.]كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).] "فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا.فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟
يجيب القديس أغسطينوس علي هذا التساؤل قائلًا: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!]كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلًا: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]لقد أكمل السيّد حديثه، قائلًا: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27].
وهنا يقول القديس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا.. فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!.. إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان".. لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالًا أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.
انجذاب البسطاء إليه
مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس إلخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.فليعطنا الرب إيمان المرأة الكنعانية لكي نسمع من فمه الطاهر عظيم هو إيمانك ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
01 أبريل 2021
ما بين الروح والجسد
الكثير منَّا يكون اهتمامه الأول وشغله الشاغل هو (الجسد)، وكل متطلباته واحتياجاته.. يغذي الجسد ويربيه، ويهتم به، ويهتم بالحالة الصحية، والمظهر العام... وغيره.وفي وسط المشغولية ننسي الروح تبدأ المعادلة العكسية في الوضوح الجسد يقوى ويقوى.. والروح تضعف وتضعف.الجسد يزدهر والروح تذبل.الجسد يكون صحيحًا.. والروح تصبح مريضة ويصبح كل اهتمامنا بالجسد وتُهمَل الروح نهائيًا.في حين أننا نجد مُعلِّمنا بولس الرسول يتكلم كلامًا صريحًا عن الروح والجسد فيقول"فإنَّكُمْ إنَّما دُعيتُمْ للحُريَّةِ أيُّها الإخوَةُ. غَيرَ أنَّهُ لا تُصَيروا الحُريَّةَ فُرصَةً للجَسَدِ، بل بالمَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكُمْ بَعضًا" (غل5: 13). ثم يقول أيضًا: "وإنَّما أقولُ: اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَملوا شَهوةَ الجَسَدِ. لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ، حتَّى تفعَلونَ ما لا تُريدونَ" (غل5: 16-17).دائمًا الجسد يشتهي ضد الروح.. خذوا مثلًا:
الصوم
حينما يأتي علينا وقت الصوم.. نجد الجسد يشتكي باستمرار.. وإذا كنَّا لم نستطيع أن نلّجمه من قبل.. يشتكي ويعترض على الصوم.. ويبدأ الجسد بأعراض الضعف والهزل وعدم التركيز!! وذلك لأنه لا يريد أن يصوم.. لا يريد أي ممارسات روحية.. يهمه الأكل الكثير.. فهو في صراع مع الروح.. يريد أن يقوى على الروح لأنه إذا قويت الروح فسوف تقوده وهو لا يريد ذلك نجد الإنسان يعترض على الصوم ويقول إن أصوامنا كثيرة جدًا.. هذه الأصوام سوف تضعف جسدنا.. سوف لا يقدر على تأدية رسالته.. أنا محتاج أن يكون جسدي قوي لكي أستطيع أن أحيا وأتحرك وأمارس كل متطلبات الحياة.هذه هي النظرة البشرية العادية التي تشفق على الجسد!!
ولكن الإنسان الذي يسلك حسب الروح لا يهمه الجسد.. هذا الجسد هو صورة لكي نعيش بها فترة على الأرض، وهذه الفترة يكون هدفنا هو نمو الروح، لكي نصل للعِشرة مع الله، ونعمل أعمال تزكيتنا للملكوت.. وليس أن يصبح بالنسبة لنا معطل أساسي للروح وللحياة الروحية كلها.إذا اهتممنا بالجسد بطريقة زائدة عن المطلوب.. فسوف تضعف الروح، ونصبح أناسًا جسدانيين لا روح لهم.. فمُعلِّمنا بولس الرسول تيقظ لهذه النقطة وقال"أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بَعدَ ما كرَزتُ للآخَرينَ لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفوضًا" (1كو9: 27).وعاد وقال لنا أيضًا في رسالة غلاطية "وأعمالُ الجَسَدِ ظاهِرَةٌ، التي هي: زِنىً، عَهارَةٌ، نَجاسَةٌ، دَعارَةٌ، عِبادَةُ الأوثانِ، سِحرٌ، عَداوَةٌ، خِصامٌ، غَيرَةٌ، سخَطٌ، تحَزُّبٌ، شِقاقٌ، بدعَةٌ، حَسَدٌ، قَتلٌ، سُكرٌ، بَطَرٌ، وأمثالُ هذِهِ التي أسبِقُ فأقولُ لكُمْ عنها كما سبَقتُ فقُلتُ أيضًا: إنَّ الذينَ يَفعَلونَ مِثلَ هذِهِ لا يَرِثونَ ملكوتَ اللهِ" (غل5: 19-21).نلاحظ أن مُعلِّمنا بولس الرسول ذكر لنا ستة عشر عمل (خطية) من أعمال الجسد وقال: "وأمثال هذه".. أي أن أعمال مسيئة للجسد أخرى يعملها الجسد.من منَّا مستيقظ لهذه الخطايا؟
وهل كل منَّا يحرص أن تكون روحه هي التي تقود جسده أم العكس؟
إذا كان العكس.. فسوف نجني ثمرة مُرّة.. وهي أعمال الجسد هذه التي سوف تبعدنا عن الله وعن العِشرة معه لأنه (لا يجتمع النور مع الظلمة) إن تقييمنا للروح هو الذي يُحدد طريقنا في الحياة.. "لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ" (غل5: 17)
من منَّا يريد أن يحيا في سلاسل الجسد وظلمة الحياة،ولا يريد أن يسلك في النور؟
نحن كلنا نتفق في مبدأ أن: "إذا قوي الجسد ضعفت الروح".. فماذا يكون اهتمامنا بالجسد؟ هو الاهتمام الأول (كيف يأكل.. كيف يشرب.. كيف يعالج.. كيف يلبس....)، نوفي له كل رغباته، وكأنه شخص آخر يقف أمامنا،ودائمًا يطالب بجميع حقوقه ونحن لا نملك إلاَّ أن نقول في كل طلب: "حاضر سوف أوفيك إياه.. إنني لا أستطيع أن أمنع عنك أي طلب تطلبه" إذا وصلنا إلى هذه المرحلة فسوف نحيا كجسديين وليس كروحين تعالوا بنا نسمع مُعلِّمنا بولس الرسول وهو يقول لنا "اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَمّلوا شَهوةَ الجَسَدِ" (غل5: 16) "ولكن الذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ" (غل5: 24) "إنْ كُنّا نَعيشُ بالرّوحِ، فلنَسلُكْ أيضًا بحَسَبِ الرّوحِ" (غل5: 25) "لأنَّ مَنْ يَزرَعُ لجَسَدِهِ فمِنَ الجَسَدِ يَحصُدُ فسادًا، ومَنْ يَزرَعُ للرّوحِ فمِنَ الرّوحِ يَحصُدُ حياةً أبديَّةً" (غل 6: 8) هيا بنا نراجع أنفسنا جميعًا مَنْ الذي يغلب علينا: الروح أم الجسد؟!
كيف نحيا حياتنا الحالية على الأرض؟
هل نعيش حسب الروح أم حسب الجسد؟
ليتنا جميعًا نسلك بالروح فلا نكمل شهوة الجسد.. نعيش في حياة روحية.. نتمتع بالسيد المسيح.. نمارس الممارسات الروحية عن حب وليس عن تغصب.. يصبح فكرنا روحي وليس جسدي.. ولا يتحول خوفنا على جسدنا أن يأتي وقت يقف الجسد ومتطلباته ضد الروح ويعطلها.. إلى أن نصل إلى أن نهمل الروح ويقوى الجسد بكل ممارسة الخاطئة.ربنا يعطينا جميعًا أن نحيا حسب الروح وليس حسب الجسد..ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة.من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
31 مارس 2021
تداريب أثناء الصوم 2
تداريب الحفظ:-
يمكن أن تتخذ فترة الصوم مجالاً أيضاً للحفظ : حفظ آيات ، وحفظ مزامير وحفظ فصول من الإنجيل ، وحفظ ألحان وتراتيل
أ- خذ مثلاً تدريباً لحفظ العظة علي الجبل . وتشمل 111 آية . لو انك حفظت كل يوم 3 آيات ، تنتهي منها في 37 يوماً .
ب- أحفظ مثلاً قطع الأجبية ، وتشمل 36 قطعة ( غير الستار ) ، فلو حفظت كل يوم قطعة ، يمكنك الانتهاء منها في 36 يوماً .
ج- أحفظ تحاليل الساعات ، وتشمل 8 تحاليل . ويمكن أيضاً القطع المشتركة في كل الصلوات مثل الثلاثة فكقديسات ، وصلاة الشكر ، والمزمور الخمسين وختام كل صلاة ، مع بعض القطع التي تنفرد بها صلاة باكر أو صلاة النوم .
د- ‘حفظ ما يمكنك من مزامير الساعات ، ويمكن البدء بمزامير قصيرة
هـ - أحفظ آيات مختارة من الكتاب ، وحبذا لو كانت بشواهدها . فلو أنك حفظت كل يوم ثلاث آيات ، لأمكنك أن تحفظ في الصوم الكبير وحده 150 آية في كل عام …
و- تحفظ آيات تشمل معاني معينة ، او آيات علي كل سر من أسرار الكنيسة ، أو آياتخاصة بعقائد ، أو خاصة بكل فضيلة من الفضائل .
ز- يمكن أن تحفظ خلال الصوم فصولاً مشهورة في الكتاب المقدس ، مثل ( 1كو 13) الخاص بالمحبة ، أو ( رو12) وهو مجموعة آيات ذهبية خاصة بفضائل عديدة ، وكذلك ( 1 تس 5:12-23) ، ( أف 6: 10-18) الخاص بالحروب الروحية ، و ( في 3: 7-14) … وما يشبه ذلك من الفصول المختارة في الكتاب .
ح- ما تحفظة من آيات أتخذه مجالاً للتأمل الروحي ، غذاء لنفسك خلال الصوم . ويمكن أن تتخذه مجالاً للتطبيق العملي .
أثناء
ط- ما تحفظه من صلوات ومزامير ، ردده باستمرار ، لكي تضيفا إلي صلواتك اليومية .
ي- كذلك ضع لك برنامجاًً في حفظ الألحان و التسابيح . وهكذا تجد أمامك جدولا روحيا ، تشعر فيه بقيمة وقتك وأهميته ، فتحرص عليه لكي تستخدمه فيما ينفعك .
تداريب الصلاة:-
أهتم في أيام الصوم أن تزيد برنامج صلواتك . فلا تقتصر علي صلوات الجبية أو الوضح العادي لك في الصلاة . وإنما نضع أمامك التداريب الآتية ، لتستخدمها حسب إمكانياتك :
1- تدريب الصلاة في الطريق :
يمكن أن تكون سائراً في الطريق ، وقلبك منشغل مع الله ، إما بمزمور ، أو بصلاة خاصة ، أو بصلوات قصيرة ترفع بها قلبك إلي الله ، كأن تقول له : يارب أغفر لي ، لا تحسب علي آثامي . ارحمني يارب كعظيم رحمتك . نجني يارب من ضعفاتي ، أعطني قوة . أجعلها يارب أيام مباركة ، بارك أيام هذا الصوم أعطني يارب فترة أقضيها معك . أربط يارب قلبي بك . إملأني يارب من محبتك أعطني يارب نعمة ، أعطني معونة ، أعطني يارب حياة مقدسة ،أعطني قلباً نقياً. إغسلني يارب فأبيض أكثر من الثلج . يارب نقني . يارب نجني . أحفظني من كل شر . أشترك في العمل معي . كرحمتك يارب ولا كخطاياي … درب نفسك علي أمثال هذه الصلوات ، وانت في الطريق ، أو وانت في طرق المواصلات . المهم أن تشغل قلبك بالله … وهناك أيضا :
2- تدريب الصلاة وسط الناس :
سواء كنت في اجتماع ، أو مع أصدقائك أو مع أفراد الأسرة ، أو وسط الناس في أي مكان ، أرفع قلبك إلي الله بأية عبارة . وهكذا تكون ساكتاً . وقلبك يشتغل من الداخل ، في شركة مع الروح القدس . لأن الإنسان الصامت يمكن أن يكون مخزناً لأسرار الله . وكما يقول الشيخ الروحاني " سكت لسانك ، لكي يتكلم قلبك …"
3- تدريب الصلاة أثناء العمل :
العمل اليدوي يساعد كثيراً علي امتزاجه بالصلاة ، كما كان آباؤنا في عمل أيديهم . وهكذا يختلف عن الأعمال اليدوية التي يقوم بها أهل العالم . وحتى لو كان عملك فكرياً بحتاً ، بين الحين والآخر أرفع قلبك إلي الله ولو بصلاة قصيرة جداً كأن تقول : اشتقت إليك يارب . لا أريد أن أتغرب كثيراً عنك . إجعلني أعمل من أجلك . بارك كل ما أعمله . أحبك يارب من قلبي وأشتاق إليك . أسبح أسمك القدوس أثناء عملي . حلو أسمك ومبارك ، في أفواه قديسيك . أشكرك يارب من كل قلبي . كن معي . أشترك في العمل معي … لا تجعل العمل يفصلني عن الصلة الدائمة بك . لا شئ يفصلني عن محبة المسيح …
4- تدريب التأمل في الصلوات :
خذ صلوات المزامير مثلاً ، وباقي صلوات الأجبية ، مجالاً لتأملك الروحي وهكذا عندما تصليها يكون ذلك بعمق . وكذلك صلوات القداس و التسبحة حتى يكون لها تأثيرها في قلبك عندما تسمعها .
5- تدريب الاستمرار في الصلاة :
درب نفسك علي انه كلما تجد صلاتك قاربت علي الانتهاء ، حاول أن تطليها بعض الوقت ، ولو دقيقتين . المهم أنك لا تسرع بالانتهاء من الصلاة والانصراف من حضرة الله . قاوم نفسك واستمر ولو قليلاً جداً . ثم استأذن الرب واختم صلاتك .
6- تداريب نقاوة الصلاة وروحانيتها :
وهي تداريب كثيرة جداً . منها الصلاة بفهم ، وبعمق ، وبحرارة ورغبة والصلاة باتضاع وانسحاق . والصلاة بلا طياشة بلا سرحان . وان لم تستطيع ذلك أدخل في التدريب التالي وهو:
7- تدريب الصلاة لأجل الصلاة :
قيل لمار أسحق " كيف نتعلم الصلاة ؟" فقال " بالصلاة " … ولا شك أن الصلاة - كأي عمل روحي - هي عطية صالحة نازلة من فوق من عند أبي الأنوار "( يع 1: 17) . فاطلبها التلاميذ قائلين " علمنا يارب ان نصلي " ( لو 11:1) . قل له : أعطني يارب أن أصلي . أعطني خلوة حلوه معك . أعطني الحب الذي أحبك به فأصلي . أعطني الحرارة التي في الصلاة . وأعطني الدموع و الخشوع . أنا يارب لا اعلم كيف أصلي فعلمني . وأمنحني المشاعر اللائقة بالصلاة . وتحدث أنت معي يارب فأحدثك …
8- تدريب الصلاة لأجل الآخرين :
لا تكن صلاتك في الصوم من اجل نفسك فقط . إنما تدرب أيضاً علي الصلاة من أجل الآخرين . كم من أناس طلبوا إليك أن تصلي لأجلهم ، ولم تفعل . تذكر ذلك في الصوم . كم من أشخاص تشعر بحاجتهم تشعر بحاجتهم إلي الصلاة ، لأنهم في مشكلة ، أو في ضيقة ، أو مرض ، أوهم محتاجون من أجل حياتهم الروحية . صل من أجل هؤلاء ، ومن أجل الذين رقدوا … صل من أجل الكنيسة ،، ومن أجل سلامه البلد ، ومن أجل الخير العام ، ومن أجل الذين لا يعرفون الله ، من أجل الملحدين والمستهترين وغير المؤمنين . صل لأجل ملكوت الله علي الأرض . إنه تدريب جميل ان تصلي لأجل غيرك . وبوجه خاص :
9-تدريب الصلاة لأجل المسيئين :
إنه آمر إلهي أكثر من كونه تدريباً ، إذ يقول الرب " صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم "( مت 5:44) . إنها فرصة أن تدرب نفسك علي تنفيذ هذه الوصية أثناء الصوم . صل ان يغفر الله لهؤلاء المسيئين ، وأن ينقذهم مما هم فيه . وصل من أجل محبتهم لك ومحبتك لهم ، حتى لا يتغير قلبك من جهتهم بسبب إساءتهم لك . أطلب لهم الخير . وصل ان ينقذك الرب من إدانتهم في فكرك أو أمام الناس . طبيعي أنك تصلي لأجل أحبائك . والأجمل ان تصلي لأجل هؤلاء . قل له : أحفظهم يارب . خلصهم . أغفر لهم . أعطني نعمة في أعينهم واعطني ان أحبهم كسائر أحبائي . أجعل قلبي من جهتهم قلبي نقياً من جهتهم . 10-تداريب أخري للصلاة :
أ- درب نفسك علي التبكير في الصلاة ، وان يكون الله هو أول من تكلمه في يومك ، ولو بعبارة قصيرة . أشكرك يارب . أجعله يارب يوماً مباركاً . أعطني يوماً مقدساً أرضيك فيه …
ب- درب نفسك علي ترديد صلوات القديسين . أبحث عنها وصل بها ( صلوات الأنبياء موجودة في الكتاب وفي طقس سبت النور )
ج- أقرأ الكتب التي تعطيك حرارة روحية وتجعلك بحرارة .
د- صل قبل كل عمل ، وقبل كل زيارة ومقابلة .
تداريب وسائط روحية أخرى:-
1- درب نفسك علي القراءات الروحية :
القراءات الدينية كثيرة ، ولا تدخل تحت حصر . ولكن أيام الصوم المقدسة - كفترة عبادة - لا يكون التركيز فيها علي الكتب التي تزيد معلوماتك ومعارفك ، إنما اهتم بالكتب الروحية التي تلهب قلبك بمحبة الله ، وتشغلك بحرارة تقودك إلي الصلاة ، وتحثك حثاً علي التوبة ونقاوة الحياة . بمثل هذه الكتب تهتم . وأنت ادري بالقراءات التي تؤثر فيك روحياً … اما باقي الدينية ، فلست أمنعك عنها ولكنها في الصوم لها الدرجة الثانية . اما الأولوية فللكتب الروحية وسير القديسين .
2- درب نفسك أيضاً علي التراتيل والألحان .
وبخاصة التراتيل والألحان التي لها روح الصلاة ، وتشعر فيها انك تخاطب الله والتي ترتلها من قلبك وروحك ، وقد مست مشاعرك وأثرت في قلبك . ويمكن أن تحفظ هذه الترانيم التي تؤثر فيك وترددها في أي وقت
3- درب نفسك أيضاً علي المطانيات .
أن أهملتها في أوقات أخري ، أحرص أن تمارسها أثناء الصوم ,.
تداريب على فضائل معينة:-
يمكن الاستفادة من المشاعر الروحية العميقة خلال فترة الصوم ، ليتدرب الصائم خلالها علي أية فضيله يشتاق إليها قلبه كان يدرب نفسه علي التسامح ، او الاحتمال ، او الهدوء ، أو الأمانة في العمل ، أو الدقة في كل شئ ، أو النظام الخ ولو أنك خرجت من كل صوم ، وقد أتقنت إحدى الفضائل ، فإن هذا لا شك ربح روحي كبير ,
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب روحانية الصوم
المزيد
30 مارس 2021
حِوَارُ السَّامِرِيَّةِ
كان حوار المسيح مع السامرية اختبارًا لأحضان الله المفتوحة مع كل إنسان؛ اختبار للقاء مع كل أحد مهما كان أصله وجنسه وسيرته؛ اختبار البحث عن الخروف الضال والدرهم المفقود.. في لقاء يتخطىَ القيود والحدود والموانع والأجناس. فقد جاء السيد ليلقي بذرة الإيمان الحي في تربة السامرة التي تقبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات خلال لقائه مع السامرية؛ إذ كان لا بُد له أن يجتاز السامرة عطشانًا إلى مائها كعطشه على الصليب من أجل خلاص العالم كله.
أتى المسيح بنفسه متجسدًا متخليًا عن مجده الإلهي؛ ليقيم موتى الذنوب والخطايا؛ وليخلص العالم كله؛ وقد تعب من السفر والمشي من أجل التفتيش على كل نفس. واليوم سعى من أجل نفس المرأة السامرية؛ وهو في تدبيره الصالح يُعد لنا ولكل ضال ولكل سامرية ولكل مخلع ولكل مولود أعمى أجمل الاختبارات والبركات والتعزيات. سعى إلى كل من تركوه من أجل شهوات العالم... سعى في طلب الضال وتعب كأب حقيقي مع كل ساقط؛ ليربطه بالأدوية المؤدية إلى الحياة.. تعب وهو مريح التعابىَ. وعطش وهو يُنبوع الماء الحي. وجلس عند البئر وهو نهر الحياة الوحيد.. ترك خدمة أورشليم حيث الهيكل والمجد وكراسي التعليم؛ ليذهب ويفتش ويتعب بحثًا عن النفس البعيدة. وكما أنه استراح على الصليب في وقت الظهيرة وحمل أتعابنا وآثامنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية واجتاز المعصرة وحده.. هكذا مشى وتعب اليوم من أجل نفس واحدة... فرحلته وتعبه وجلوسه هو الجسد الذي أخذه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وطعامه الحقيقي في أن يتمم مشيئة الآب في خلاص النفوس.. فبينما السامرة فرغ ماؤها؛ فرغت قانا من الخمر.. فالأولى أعوزها سر الفرح؛ والثانية أعوزها سر الحياة، ولا فرح ولا حياة من دون خلاصه الثمين..
لم يكن مجيء السامرية عند البئر مجرد مصادفة؛ بل هو تدبير إلهي من أجل خلاص نفسها، إنه تدبير من يصنع الأمور المقضي بها على الأرض، وقد اشتمل هذا التدبير الإلهي تدبير الزمن في وقت الساعة السادسة ليكون وقتًا مقبولاً ووقت خلاص، وفي تدبير المكان ليكون عند البئر حيث ماء يُنبوع الحياة والتقديس والتجديد بالمعمودية.. فلم يكن تدبير الرب لخلاص السامرية سوى صورة لتدبيره الإلهي لخلاص البشرية؛ لأنه في ملء الزمان جاء ابن الإنسان وأخلى نفسه وظهر لنا بالظهور المُحيي... جاء إلى الخطاة وقرع بابهم وصرخ على الصليب أنا عطشان (أعطني لأشرب)؛ إذ أن عطشه لا إلى ماء بل إلى خلاص النفوس... أتى كمحتاج يمد ذراعه طول النهار؛ ليدعونا إلى ملكوت محبته؛ بينما نحن لا نعلم عطيته لنا؛ وأنه ليس ماءًا يروي ظمأ الجسد؛ بل ماءًا حياً لحياة أبدية... عطيته لنا ذبيحة ومائدة رتبها لنا المنّان أمام مضايقينا. عطيته لنا كلمته الحية في بشارة الخلاص المفرحة. عطيته لنا أن نكون أبناء وورثة ورعية مع القديسين. عطيته صارت لنا به لنتخطى كل الصعاب؛ فلا دلو ولا أعماق ولا قصور في الإمكانيات ولا مقاييس تحُول دون بلوغنا تطهير ضميرنا من الأعمال الميتة.
لقد بدأ المسيح حديثه مع السامرية (واقف على الباب أقرع) رؤ ٢٠:٣؛ طالبًا إليها أن تعطيه ليشرب (أعطني لأشرب = يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي) أم ٢٦:٢٣.. فإذ بالحديث يتحول بأن تطلب هي إليه أن يعطيها لتشرب. فمسكين هو من يعتقد في جهله أن الرب هو المحتاج إليه.. ومسكين هو من يتعلل بالدلو والبئر ويصنع الحواجز بينه وبين المسيح (لم تكن أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك). مسكين هو من يظن أن الرب محتاج إلى خدمته أو إلى دوره أو إلى عشوره وتقدماته.. إنه ملء الملء لا يزيد ولن ينقص.. نحن المحتاجون إلى ماء الحياة لنحيا ولا نعطش. فإن كانت ماديات العالم وأموره تروي ظمأ الإنسان إلى حين؛ إلا أنها لا تروي عطشه العميق إلى الأبد... الله وحده هو الذي يملأ كيان الإنسان؛ فبه نحيا ونوجد ونتحرك؛ وحتى ولو عملنا كل البر من أجل اسمه فنحن عبيد بطّالون.
لقد كشف المسيح للسامرية عن نفسه كي تذهب وتدعو زوجها؛ لأنه قبل أن يعطينا ماء الحياة؛ لا بد أن نقر بخطايانا معترفين بها تائبين عنها؛ وعندئذ نرتوي بماء الحياة.. لقد رأى المسيح السامرية أمامه ميتة كلعازر الميت الذي أنتن في القبر؛ وكان لا بد له أن يقيمها من خطاياها ويمنحها ماء الحياة؛ وهو العالِم بكل أسرارها الخفية؛ لكنه لم ينهرها ولم يشهّر بها؛ بل مدح الحسن الذي فيها لأنها حسنًا قالت الصدق... إنه يُخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة؛ لم يفضح شرها وزناها؛ لكنه بارك قولاً واحدًا اعتبره صدقًا.. إنه طبيب الرحمة والتحنن الذي لا يخرجنا خارجًا؛ بل يتأنى على كل فتيلة مدخنة وقصبة مرضوضة.
إن قولك يا رب محسوب حسابه؛ فقد كلمت السامرية سبع كلمات بميزان العد والتصنيف؛ بلا زيادة ولا نقصان؛ وكلماتك محسوبة ومقننة في سُباعيات: سبع تطويبات في العظة على الجبل، وسبعة توسلات في الصلاة الربانية، وسبع كلمات على الصليب، وسبع رسائل يقولها الروح للكنائس؛ إنها سهام سباعياتك المحكمة الوزن والعد؛ فإسمح أن نسمع وننصت بحكمة لندرك ما أدركتنا لأجله ونشرب ماء تقديسك الحي الذي للحياة الأبدية؛ ماؤك الجاري كاليُنبوع؛ تمنحه لنا بسخاء أكثر مما نطلب أو نفتكر؛ لأنه فوق كل شيء وأنت الذي تسند المُعيَ بكلمة؛ وتمنحنا ماء التنقية والتطهير والفهم والراحة؛ وتسقينا من ماء الدسم والنعمة وفطنة الحكمة؛ وتصيّر الساقية نهرًا؛ والنهر بحرًا وغمرًا..
فما السامرية إلا أنا وأنت؛ وقد سعيت إلينا يا مسيحنا... تعبت وعطشت نحو الساعة السادسة من النهار لأجلنا. فهل نعلم الآن ما هي عطيتك لنا؟! وهل تيقنّا عن من هو الذي يكلمنا ويتحدث إلينا؟! وهل عرفنا الذي استعلن نفسه لنا كمخلص وفادٍ؛ وفتح عيوننا لنرى احتياجنا الحتمي له؛ لا كسيد ولا كنبي؛ بل كرئيس خلاصنا؟؟!! هل شربنا ماءه الفياض الحي المجاني والمُروي؟؟!! إنه اليوم قد صار لنا يُنبوعًا نشرب منه فلا نعطش إلى الأبد؛ وهو يوردنا إليه لكي تجري من بطوننا أنهار ماء حي؛ فتملأ الأواني والينابيع وتفيض بجداول النعم الحسنة؛ حيث ينابيع الخلاص والنهر الصافي ومياه الفرح؛ محسوبين مع الساجدين الحقيقيين لآلامه بالروح والحق؛ لأن الذي يكلمنا هو... وقد قال لنا كل ما فعلنا.. فلنذهب إذن لنبشر به ونخبر بكم صنع بنا ورحمنا.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
29 مارس 2021
حديث خاص مع أبناء النور(1)
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس
المزمـور: «16أَمَّـا أَنَـا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. 17مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي» (مز 55: 17،16).
الإنجيل: «1وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:”كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ“» (لو 16: 1-9).
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
حديث اليوم، حديث المسيح الخاص مع أبناء النور، ولكنه يتكلَّم بحزم: «أَعطِ حساب وكالتك»، «وأنـا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلْم، حتى إذا فَنيتُم يقبلونكم في المظال الأبديَّـة».
ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا المَثَل جيِّداً إلاَّ إذا تَم ضمُّه لمجموعة الأَمثلة التي على شاكلته، فتكون أربعة أمثلة:
المثل الأول: الغَني ولعازر (لو 16: 19-31):
معيار هذا المثل: ارتباط الحياة بعد الموت بالحياة الأبدية ارتباطاً شديداً، على أساس الفعل، فقد أَورد المثل، الفعل ونتيجة الفعل. فما نعمله على الأرض، تَظهر نتيجته في الحياة الأخرى، هذا ما يُوضِّحه مَثَل الغَني ولعازر. فالغَني كان مُتنعِّماً، وكان يلبس الأَرْجُوان والبَزَّ. الأرجوان هو القطيفة الحمراء، وهو يُلبَس في الشتاء؛ والبَزُّ هو الحرير، ويُلبَس في الصيف. فالغَني كان يتنعَّم كل يوم مُترفِّهاً، والتنعُّم والتَّرفُّه هو فوق طاقة الإنسان العادي أو المتوسط.
وأمام باب دار الغَني طُرِحَ مسكين اسمه لعازر، «مضروباً بالقُرُوح، ويشتهي أن يشبع من الفُتات الساقط من مائدة الغَني». هنا المسيح يرفع الحجاب مرةً واحدة، ويُظهِر هذين الوضعَيْن في السماء: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغَني أيضاً ودُفِنَ (وهو يتعذَّب في اللهيب)». طبعاً اللهيب هنا هو لهيب الضمير. وكان الغَني يتوسَّل لأبينا إبراهيم أن يُرسِل لعازر ليَبُلَّ طَرَف إصبعه بماءٍ ويُبرِّد لسانه، وهو نفس الإصبع الذي كان لعازر في حياته البائسة ينبش به القمامة ليعثر على كِسْرة خُبز.
المثل الثاني: الغَني الغَبي (لو 12: 16-21):
معيار هذا المثل: إمَّا أن تكنز في الأرض، أو تكنز في السماء. فهذا الغَني قال: «أَهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نَفْسُ لكِ خيراتٌ كثيرة، موضوعةٌ لسنين كثيرة. استريحي وكُـلي واشربي وافرحي». فقـد عَمِلَ لحساب الأرض، ولم يعمل لحساب ما هو فوق، أي السماء. وفي أيامنا هذه، مِثْل إنسانٍٍ وجد أنَّ أسهمه في شركةٍ ما لم تَعُد تربح كثيراً، فسحب هذه الأسهم ووضعها في شركةٍ أخرى تُعطي أرباحاً أكثر، حتى لو كان القائمون على هذه الشركة هم من النَّصَّابين. ولكننا نسمع المسيح يُعقِّب على هذا المثل بقوله: «هكذا الذي يَكْنِزُ لنفسه وليس هو غنيّاً لله» (لو 12: 21).
المثل الثالث: الابن الضال (لو 15: 11-32):
معيار هذا المثل: إنسانٌ قادرٌ أن يُعوِّض عن الخسارة المُريعة التي لحقت به وأتلفت حياته في آخر لحظة، بأن يتوب ويرجع إلى أبيه، إلى الله. ونقرأ في المثل أن الأب عندما رأى ابنه آتياً وهو لم يَزَل بعيداً، «تحنَّن وركض ووقع على عُنقه وقبَّله»، وأعاده مرَّةً أخرى إلى رُتبة البنوَّة، وفَرِح به وصنع له وليمة، كما فرحت به السماء أيضاً، لأن هذا الابن «كان ميِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 24).
+ هذا المثل يسند المثَلَيْن السابقَيْن. فهذا الابن «بذَّر ماله بعيشٍ مُسرف». فهو قد أَخَذَ الميراث الذي لأبيه وهو ما يزال حيّاً، وبَذَّره. ونحن عندما نُحوِّل هذه المفهومات إلى الحياة الروحية، نفهم أن هذا الميراث هو لله. فهذا الابن بَذَّر هذه الأموال وأتلفها، وكما قال الابن الأكبر لأبيه: «لَمَّا جاء ابنك هذا الذي أَكَلَ معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العِجْل المُسمَّن». فهذا الإتلاف هو إتلافٌ للجسد والروح. ولكن عندما انحطَّ هذا الابن إلى الحضيض، حتى أنه كان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله»، ولم يُعطِه أحد، وانحدر إلى مستوى الخنازير وهي في نظر اليهود ”نجسة“؛ قام من سقطته، ورجع إلى نفسه، وعاد إلى أبيه منكسراً نادماً. ففرِحَ به أبوه، كما فرحت به السماء. وكانت توبته أثمن من كل مقتنيات أبيه.
+ وإذا وضعنا هذه الأمثلة الثلاثة بجانب بعضها البعض، نجد أنَّ هذا التعليم الذي علَّمه المسيح بأمثالٍ كان ردّاً على كلام بطرس الرسول الذي قال للرب: «ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟» (لو 19: 27). هنا المقارنة بين ما للأرض وما للسماء! ولذلك كان ردُّ المسيح على بطرس الرسول: «كلُّ مَن ترك... يأخذ مئة ضعف (هنا على الأرض) ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29).
+ كما يمكن أن نضع هذه الأمثلة بجانب مَثَل الوزنات والمتاجرة الذي قاله الرب يسوع (مت 25: 14-30). فهذا، إذن، هو قانون ملكوت السموات: القانون الذي يربط الأرض بالسماء، الذي يربط الحياة الحاضرة بالحياة المستقبلة، الذي يربط المال بالروح، الذي يربط الحياة حسب الجسد بالحياة حسب الروح (انظر رو 8: 12-17). المقارنة بين محبة العالم ومحبة الله، ظهرت بوضوح في مَثَل الوزنات، إذ أُعطِيَت وزنات لكل واحد على قَدْر طاقته. فكل مَن تاجر بهذه الوزنات وربح، قال له سيِّده: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. اُدْخُل إلى فرح سيِّدك». أمَّا العبد البطَّال الذي لم يُتاجر بالوزنة، فقال سيِّده: «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان».
+ وأيضاً لو أضفنا إلى هذه الأمثلة، مَثَل: اللؤلوة الكثيرة الثمن، الذي باع التاجر كل ما كان له واشتراها (مت 13: 46،45)؛ فنجد أن هذه مُقايضة جميلة جداً. فكل هذه الأمثلة هامة جداً في حياتنا المسيحية بحسب القانون الذي سيُحاسب به المسيح كل واحد مِنَّا.
المثل الرابع: وكيل الظلم (لو 16: 1-9):
معيار هذا المثل: الله يُعطينا الحياة التي فيها فُرص. الحياة فيها فُرص، فلابد لنا أن ننتهز هذه الفُرَص ونعمل المقايضة: نبيع الفاني الذي نقتنيه هنا، على أساس الأمثلة التي أوردناها سالفاً؛ ونقتني ما لا يَفْنَى والباقي إلى الأبد. فهذا المَثَل هو عملية مُقايضة، مُقايضة الفاني بالباقي. فالسيِّد «مَدَحَ وكيل الظُّلم إذ بحكمةٍ فعل»، وهي حكمة أهل العالم، حكمة مال الظُّلم، حكمة السلوك حسب الجسد. فالمسيح وضع نفسه في هذا المَثَل أنه هو السيِّد القدوس، وأنَّ كل ما وهبه لنا من مال وصحة وعافية وعينين وأُذنين وجسد ووقت وعقل ومعرفة للمواهب - جسدية وروحية - هذه كلها تُعتَبَر أمانات أودعها فينا ولنا؛ وهو صاحب هذه الأمانات كلها. أمَّا كل واحد مِنَّا، فهو وكيل على هذه الأمانات.
فوكيل الظلم - في المَثَل الذي قاله الرب - بدَّد وبذَّر أموال سيِّده، مع أنها ليست مِلْكاً له، لأن هذا الوكيل عَلِمَ أن سيِّده سيأخذ منه الوكالة، وهو ”لا يستطيع أن ينقب (يسرق) ويستحي أن يستعطي (يتسوَّل)“؛ فكيف - بمفهومه - يستطيع الحياة والأَكل والشُّرب، وهو لا يملك شيئاً؟ فهذا الوكيل اختلس أموال هذا السيِّد، على الورق فقط، «ودعا كل واحد من مَديوني سيِّده، وقال للأول: كم عليك لسيِّدي؟ فقـال: مئـة بثِّ زيت (معيار للسوائل). فقال له: خُـذ صكَّك واجلس عاجلاً واكتُب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كُرِّ قمح (مكيال للحبوب). فقال له: خُذْ صكَّك واكتُب ثمانين» (لو 16: 5-7).
+ «فمدح السيِّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل». المسيح هنا يُريد أن يقول: ”أنا أُريدكم أن تحوزوا هذه الذهنية، سواء في المال أو الصحة أو كل ما تمتلكونه. فهذه كلها في الأصل ليست مِِلْككم، وأنا صاحب كل هذه الأمانات التي سلَّمتها لكم. فقدِّم أموالك للخير، وأنا أُعوِّضها لك مائة ضعف. ابذل صحَّتك من أجل الآخرين، وأنا أُعيدها لك أقوى وأفضل مما كانت“، كما يقول بولس الرسول: «أمَّا أنـا فبكل سرورٍ أُنْفِقُ وأُنْفَقُ لأجل أنفسكم» (2كو 12: 15). ”أُنفِق“ أي ”أُقدِّم ما عندي“؛ و”أُنفَق“ أي ”أموت من أجلكم“.
+ وهكذا كـأنَّ المسيح يقول لك: ”ابذل صحَّتك من أجل راحة الآخرين، ولا تخف، فإنني سأُعطيك هنا أجمل وأحسن منها مائة ضعف، ومعها هناك الحياة الأبدية. فكل ما تبذله لحسابي هنا، سأُضيفه أنا لحسابك هناك في الأبدية. أمَّا إن بدَّدتها لحسابك هنا، فقد أضعتها منك هناك إلى الأبد“.
هذا المثل دقيقٌ جداً، وهو يُحيِّر النفس، ولا يمكن فهمه إلاَّ على هذا الأساس: إنَّ كل ما عندك من مال وصحة وأب وأُم وأخ وأُخت وامرأة وأولاد... إلخ، كل هذه ليست مِلْكاً لك، وإنما هي مِلْكٌ للمسيح، وهو الذي يهبها لك. فإن ترك الإنسان كل هذه من أجل المسيح، يُعطيه هنا مائة ضعف، وهناك يهبه الحياة الأبدية في السماء. وإذا قدَّم الإنسان عواطفه، تلك التي تربطه بأهله وبالعالم، حُبّاً في المسيح؛ سيهبه المسيح ما هو أقوى منها، سيهبه عواطف أرقى بكثير مما قدَّمه، تنطلق إلى العواطف الروحية.
في الحقيقة، فإنَّ مَثَل وكيل الظلم قائمٌ على هذه الفكرة: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم»، لأن «أبناء هذا الدَّهر أَحْكَم من أبناء النور في جيلهم». وذلك لأن أبناء الظلمة، يأخذون المال التافه الذي مآله إلى الفناء ويتمتَّعون به، ويعملون لهم به أصدقاء؛ بينما أنتم أولاد النور يُمكنكم أن تستغلوا هذا المال وتكسبوا به أصدقاء، ومن خلاله تفوزون بالحياة الأبدية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَوْصِ الأغنياء في الدَّهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنَى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتَّمتُّع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياءَ في العطاء، كُرماءَ في التوزيع، مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 6: 17-19).
+ مـا معنى ”أسخياء في العطاء“؟ أي أن يُعطي الإنسان للآخرين بلا حدود، وعند الاقتصاديين هذا ”تبديد“؛ ولكن المسيح يُحرِّض على هذا طالما للخير ولمساعدة الآخرين: «المُعطي فبسخاء» (رو 12: 18)، «المُعطي المسرور يُحِبُّه الله» (2كو 9: 7). فمَن يكون هذا الإنسان الذي يُعطي وبسرور؟ هو الإنسان الذي يشعر أن هذا المال ليس مِلْكه، بل هو أمينٌ عليه فقط. ولذلك نجد أنَّ الإنسان الذي بلغ هذا الإحساس لا يُبالي أبداً بالأرقام؛ بل يَحسِب هذه الأموال أنها مِلكٌ للربِّ، وهو عندما يهبها للمحتاجين، فهو يردُّها إلى صاحبها، أي إلى المسيح. وبالرغم من أن الآخرين يحسبون ذلك الإنسان الذي يُبدِّد أمواله معتوهاً، وينال منهم السخرية؛ إلاَّ أنه يَعتَبِر هذه الأموال مِلْكاً للمسيح، وهو المسئول عنها، وهو الذي يقول له: ”بِعْ، واعطِ بسخاء وبسرور“، هـذه هي ذهنية وكيل الظلم. ومـن أروع الأمثلة للحياة المسيحية: التصرُّف في كلِّ ما في الحياة على مستوى أنها ليست مِلْكاً لنا.
مال الظلم:
”مـال الظلم“: ”الظلم“ بـاللغة اليونـانية ++++++، يعني: ”غير صالح“، ”غير بـار“؛ أمَّا +++++++ فتعني: ”صالح“، ”بار“. وهـذا يعني أنَّ ”مال الظلم“ هو ”مالٌ لا يَمُتُّ للبرِّ بِصِلَة“. ومعروفٌ أنَّ «محبة المال أصل لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10). ولكن مال الظلم هذا، المال البطَّال، عندما نُبدِّده ونوزِّعه لحساب المسيح يتحوَّل إلى مالِ برٍّ، ينتقل إلى الحياة الأبدية. ونحن نعلم أنَّ «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، وأنَّ «الوقت (الزمن) منذ الآن مُقصَّر» (1كو 7: 29)، فهو زمنٌ شرير، وأيام شريرة. ولكن عندما نأخذ هذه الأيام التي تُعتَبَر شريرة، ونستغلها في الصلاة والسجود؛ عندئذ يتحوَّل هذا الزمن المُقصَّر الشرير إلى خلود داخلك، يتحوَّل هذا الزمن الرديء فيك إلى حياةٍ أبدية، وإلى خلود لروحك. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أُعطِيَ له حق تحويل الزمن إلى خلود.
فالدقيقة التي تُصلِّيها تتحوَّل فيك إلى خلود، وإلى حياة أبدية في داخلك. إذا صلَّيتَ كل يوم، لا يبقى هذا اليوم كما هو في هذا الزمان الرديء، وإنما يتحوَّل لحساب الله، فيصير ألف سنة في الحياة الأبدية. أمَّا إذا صلَّيتَ سنة في حساب هذا الزمان، فستكون هذه السنة هي الأبدية بعينها بالنسبة لك، بالرغم أنَّ الأبدية ليس فيها أرقام أو أعداد. كلُّ شيء في هذا العالم فانٍ، ولكن المُقايضة تُحوِّل هذا الفاني إلى خالد، إلى حياةٍ أبدية. وهكذا فإنَّ الرب يسوع استطاع أن يُحوِّل هذا العالم المُتغيِّر إلى عالم أبدي. وهو قادرٌ أن يُحوِّل كل ما فيك، مِمَّا لا تتصوَّره، إلى مجدٍ، وإلى حياةٍ أبدية. وأنت نفسك تحوز صداقة مع الملائكة وأرواح الأبرار المُقدَّسين في السماء.
«اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم»:
مَن هم أصدقاؤنا؟ هم الأرواح المُبرَّرة في السماء. فعندما تنتقل من هذا العالم، فسوف تستقبلك الملائكة والأرواح البارَّة بالأحضان؛ لماذا؟ لأنك بذلتَ صحتك من أجل الآخرين، وقدَّمت المال للمحتاجين، وكل ذلك لحساب المسيح؛ فتكون النتيجة أنَّ أولئك الذين خدمتهم هنا على الأرض، يستقبلونك هناك في الأبدية بالفرح والتهليل. وهـذا هـو قانـون المقايضة: ترابٌ بمجدٍ، ملاليم بجواهرَ سمائية.
مقدار السعادة والغبطة التي يذوقها الإنسان حينما يبتدئ في التبديد والبَذْل لحساب الله، يحوزها من هنا في هذا العالم. فمهما حصلتَ على تكريمات ومُجاملات وأموال وأرباح وأشياء خاصة لك، فكل هذه لا يمكن أن تُقارَن بالإحساس الداخلي الرائع عندما توزِّع وتبذل كـل ما عندك لحساب المسيح ولخدمة الآخريـن.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
28 مارس 2021
أحد الابن الشاطر: الأحد الثالث من الصوم الكبير: قبول التوبة
ارتباط قراءات الفصول:
قبول التوبة
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قبول التوبة"، ففي إنجيل العشية يحذر المخلص المؤمنين مما يخرج من الفم فينجس الإنسان، وفي إنجيل باكر يبين لهم أن الذين يختارون منهم قليلون، ويصرح في إنجيل القداس أنه يقبل توبة التائبين، ويقرر في إنجيل المساء أنه يصعد أنفسهم من الجحيم.ويوصيهم الرسول في البولس أن يكونوا متسعين لقبول التائبين والصفح عنهم، وينبههم يعقوب في الكاثوليكون إلى ضرورة ضبط لسانهم حين يرشدون هؤلاء التائبين، ويحضهم الإبركسيس على ألا يثيروا بتعليمهم الشغب كما دافع بولس بذلك عن نفسه أمام الوالي.
البولس من (2 كو 6: 2 – 13)
لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك وفي يوم خلاص أعنتك هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تلام الخدمة بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام
في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار بمجد وهوان بصيت رديء وصيت حسن كمضلين ونحن صادقون كمجهولين ونحن معروفون كمائتين وها نحن نحيا كمؤدبين ونحن غير مقتولين كحزانى ونحن دائمًا فرحون كفقراء ونحن نغني كثيرين كان لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون قلبنا متسع لستم متضيقين فينا بل متضيقين في أحشائكم فجزاء لذلك أقول كما لأولادي كونوا انتم أيضا متسعين
"لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك، وفي يوم خلاص أعنتك. هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص"[2]يقول اللَّه في إشعياء النبي: "في وقت القبول استحيتك، وفي يوم الخلاص أعدتك، فأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري" (إش ٨:٤٩). وقد اقتبسها الرسول عن الترجمة السبعينية.
ما هو الوقت المقبول؟ مجيء المسيا هو وقت مسرة اللَّه ومراحمه الذي يتوقعه كل المؤمنين. ويوم الخلاص هو اليوم الذي فيه يقبل الإنسان خلاص اللَّه بالصليب ويتجاوب معه.كأن الرسول يقول ما قد تنبأ عنه إشعياء النبي واشتهاه مؤمنو العهد القديم قد تحقق الآن. لقد صالحنا مع الآب، وسلم التلاميذ والرسل كلمة المصالحة خلال ذبيحة المسيح، إذ به تمت المغفرة عن الخطايا ونلنا فيضًا من النعمة الإلهية. بهذا صار الرسل يعملون معًا مع اللَّه، ويقبلون نعمة اللَّه ليس باطلًا.
"الآن" هو ملكنا، هو وقت مقبول ويوم خلاص، أما "غدًا" فليس في أيدينا ولسنا ندرك ما سنكون عليه إن أجّلنا قبول عمل اللَّه الخلاصي.
اليوم وقت لقبول الروح القدس الذي يكشف جراحاتنا الخفية، وينير أعيننا لإدراك خطورة مرضنا الروحي، لكي يحملنا إلى الطبيب السماوي، فيهبنا غنى نعمته المجّانية الواهبة برّه الإلهي العجيب عِوض ضعفنا. ويقدم لنا خبرة عربون عدم الفساد، ونتمتع بقيامة النفس لكي يشاركها الجسد فيما بعد قيامتها ومجدها الأبدي. هذا هو يوم الخلاص، الوقت المقبول قبل أن تعبر من هذه الحياة فنجد الباب مغلقًا.
+ يقول الرسول: "الآن وقت مقبول، الآن يوم الخلاص".عن ذلك اليوم يقول القديس باسيليوس الكبير:[هذا هو وقت التوبة، أما الحياة المقبلة فهي للمكافأة. الآن هو وقت للاحتمال، وعندئذ سيكون يوم التعزية.الآن اللَّه هو المعين للرجوع عن الطريق الشرير، عندئذ سيسأل بمهابة دون أن يخطئ عن الأفكار والكلمات والأعمال التي للبشرية.الآن نتمتع بطول أناة، عندئذ سنعرف قضاءه العادل عندما نقوم، البعض في عقوبة لا تنتهي، والآخرون إلى حياة أبدية، فيتقبل كل واحدٍ جزاءً حسب أعماله.إذ يلتقي الإنسان باللَّه مخلصه يتأسف على الزمن الذي ضاع منه.]
بلا عثرة
"ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة" [3]
فإيمان الرسول بولس وغيرته المتقدة وعمله الدائم من أجل خلاص نفسه والآخرين لم تدع مجالًا قط للعثرة. فقد كان الرسول بولس حريصًا كل الحرص ألا يعثر اليهود أو الأمم، فقد مات المسيح من أجل الكل. حينما يتحدث عن الناموس يحرص على تأكيد إنه صالح، وأنه لا يأخذ موقف المقاومة للناموس وإنما للحرف القاتل. وفي نفس الوقت لكي يربح الأمم يؤكد إنه لا حاجة للفرائض والتطهيرات الحرفية والرمزية.
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم:-
+ لقد تركنا (الرب) هنا لنكون أنوارًا، لنعلم الآخرين، لنكون خميرة، نسلك كملائكة بين البشر، كرجالٍ مع أولادهم، كروحيين مع أناس طبيعيين فينتفعون منا، ونكون بذار تخرج ثمارًا.لا حاجة للكلمات مادامت حياتنا تضئ! لا حاجة للمعلمين ما دمنا نظهر أعمالًا! ما كان يوجد وثني لو كنا مسيحيين بحق!
لو أننا نحفظ وصايا المسيح، ونحتمل الألم، ونسمح للغير أن يستفيدوا منا، إذ نُشتم فنُبَارك، نعامل معاملة سيئة فنصنع خيرًا، لما بقي أحد بعد متوحشًا ولا يرجع إلى الصلاح.
+ ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال!
+ لماذا هذا الكبرياء؟ لأنك تعلم بالكلام! ما أسهل ترديد الكلمات! علمني بحياتك هذا أفضل.
+ نحن محتاجون إلى سلوك حسن لا إلى لغة منمقة إلى الفضيلة لا إلى الخطابة الفذة، إلى الأعمال لا إلى الكلام!
جهاده
"بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام اللَّه، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات" [4]
يكمل الرسول حديثه مظهرًا أنه هو وشركاءه في الخدمة يبذلون كل الجهد من أجل تحقيق خدمة المصالحة، مهما كلفتهم من ثمنٍ أو جهدٍ. ليس فقط يتحاشون أية عثرة، وإنما يعملون كي يظهروا خدامًا حقيقيين للَّه.يمدح القديس يوحنا الذهبي الفم الرسول بولس فيقول:[آه لو أعطيت أن ألقى بنفسي على جسد بولس، والتصق بقبره وأتطلع إلى تراب ذلك الجسد الذي أكمل نقائص (شدائد) المسيح، وحمل السمات وبذر الإنجيل في كل موضع؟! نعم! تراب ذلك الجسد الذي تكلم المسيح خلاله!
يا لسروري أن أنظر تراب العينين اللتين عميتا بالمجد ثم استردتا بصيرتهما مرة أخري من أجل خلاص العالم! هاتان العينان اللتان وهما بعد في الجسد استحقتا معاينة المسيح! رأتا الأمور الأرضية وفي نفسي لم تنظراها رأتا الأمور التي لا ترى..أود لو أتطلع إلى تراب قدميه اللتين جابتا المسكونة بلا كلل.]ويقول مار اسحق السرياني:
+ دعى الرسول الطوباوي ذلك عطية علانية متى كان الإنسان مستعدًا في الإيمان أن يتألم من أجل رجائه في اللَّه. إنه يقول: "لقد وُهب لكم من اللَّه لا أن تؤمنوا بالمسيح فحسب، وإنما أن تتألموا أيضًا من أجله" (في 29:1).كما كتب القديس بطرس في رسالته: "إن كنتم تتألمون من أجل البر فطوباكم فإنكم تصيرون شركاء في آلام المسيح" (1 بط 14:3؛ 13:4). لذلك عندما تكون في طريق سهل ومتعة لا تفرح، وعندما تحل ضيقة عليك لا تكن متجهّم الوجه، ولا تحسب هذا كأمرٍ غريب عن طريق اللَّه. لأن طريق اللَّه قد طُرق بواسطة كل الأعمار وخلال كل الأجيال، خلال الصليب والموت. من أين أتيت بفكرة أن الأحزان التي بالطريق لا تخص الطريق؟ ألا ترغب في أن تتبع خطوات القديسين؟ أتودّ أن تسافر بطريق خاص من عندك ليس فيه ألم؟
الطريق إلى اللَّه هو صليب يومي. لا يصعد أحد إلى السماء بالطريق السهل. نحن نعلم إلى أين يقود الطريق السهل.ويستكمل القديس بولس الرسول كلامه فيقول:"كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين" [9]
كان الذين يَبغضون الرسول بولس ومن معه يحسبون أن ما يحل بهم من ضيقات يومية هو ثمرة شرورهم، لكن هؤلاء الخدام إذ يكرزون بالكلمة يختبرون كل يوم قوة قيامة المسيح المبهجة في الضيقات."كمجهولين ونحن معروفون": وهنا كأن بولس الرسول يريد أن يقول لنا: قد يستخف الناس بالكارز ويحسبونه مجهولًا لا كيان له. بلا مركز مرموق في المجتمع، بينما السماء عينها تمجده. كان الرسول بولس ورفقاؤه غير معروفين للأشرار بينما كانوا معروفين تمامًا للمؤمنين المقدسين في الرب.
كأننا نكرز خفية في خوف وخجل بينما نحن نشهد لخلاصنا علانية أينما وُجدنا، لا نفعل شيئًا في الخفاء.
"كمائتين وها نحن نحيا" وذلك خلال المخاطر المستمرة والاضطهادات والأتعاب حيث نعاني من ميتات كثيرة، لكننا في هذا كله نختبر الحياة الجديدة المقامة كعطية توهب لنا خلال الشركة مع المسيح غالب الموت.ويستكمل الرسول بولس حديثه فيقول:"كحزانى، ونحن دائمًا فرحون، كفقراء، ونحن نُغني كثيرين، كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء" [10]
+ "كحزانى ونحن دائما فرحون": في كل الظروف وبالرغم من كل الاضطهادات والشدائد نبدو كحزانى لكن الفرح لا يفارقنا، لأننا نتمتع بتهليل الغلبة والنصرة: فقد غلبنا ونغلب ونبقى بالنعمة الإلهية غالبون. تعزيات الروح القدس وسط الضيق لا تفارقنا.
+ "كفقراء ونحن نغني كثيرين": يُحتقر الكارز كفقيرٍ لا يقتني شيئًا من هذا العالم بينما يقدم للقلوب الفارغة من فيض غنى مخازن المسيح. ليس له فضة ولا ذهب، ولا بيوت وأراضٍ لكنه يقدم ملك السماء والأرض الذي في أعماقه ليتمتع الكثيرون به ويشبعون.
+ "كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء": في المظهر لا نملك شيئًا، في الأعماق نتمتع بكنوز النعمة الفائقة، وشركة المجد الداخلي، وعربون ميراث الملكوت الأبدي!
الإنجيل من لو 15: 11 – 32
وقال إنسان كان له ابنان فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال فقسم لهما معيشته وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف فلما انفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير وكان يشتهي أن يملا بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطه احد فرجع إلى نفسه وقال كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا أقوم واذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه وإذ كان لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله فقال له الابن يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا فقال الأب لعبيده اخرجوا الحلة الأولى والبسوه واجعلوا خاتما في يده وحذاء في رجليه وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح لان ابني هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد فابتدأوا يفرحون وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما فغضب ولم يرد أن يدخل فخرج أبوه يطلب إليه فأجاب وقال لأبيه ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن فقال له يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لان أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد مثل الابن الضال (مثل الابن الشاطر) (لو 15: 11 – 32).يدعى " مثل الابن الضال " أو " مثل الابن الشاطر " أو " مثل الأب المحب "لأنه بقدر ما يكشف عن جفاف قلب الابن الهارب من وجه أبيه المحب يشتاق الأب إلى عودته ليستقبله بالقبلات دون عتاب أو جرح لمشاعره، بينما وقف أخوه خارجًا في تذمر من أجل محبة الأب له." إنسان كان له ابنان، فقال أصغرهما لأبيه يا أبى أعطني القسم الذي يصيبني من المال، فقسم لهما معيشته، وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله بعيش مسرف " (لو 15: 11 – 13).
المثل الذي بين أيدينا يقدم صورة مرة لعلاقة الإنسان بأخيه فيظهر الأخ الأكبر رغم ما يبدو عليه من تعقل وأمانة في العمل لكنه لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه الراجع إلى بيت الآب، بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن الراجع إليه.إن ظهور ابنين في المثل يكشف عن أمور كثيرة منها: لا يمكن الحكم على أحد ما دام لا يزال في طريق الجهاد، فقد ظهر الأصغر في بدء حياته إنسانًا محبا للملذات،.. لكنه يرجع بالتوبة إلى الأحضان الأبوية ليظهر لابسًا الثوب الجديد وخاتم البنوة وحذاء في قدميه ومتمتعًا بالوليمة في بيت أبيه، أما الآخر فقد بدأ حياته إنسانًا لطيفًا في معاملاته،.. لكنه يختم حياته بالوقوف خارجًا ينتقد أباه على حبه ويغلق قلبه نحو أخيه فيفقد سلامه الداخلى وفرحه ليعيش بقلب مناقض لقلب أبيه.كان الابن الأصغر متجاسرًا إذ طلب نصيبه من الميراث ووالده لا يزال حيا، أراد أن يتمتع بنصيبه بخروجه خارج بيت أبيه، حاسبًا الارتباط ببيت أبيه هو مذلة وعبودية وقيد يجب التحرر منه ليعيش حسب إرادته الذاتية وهواه، فإذا به ينفق ماله في عيش مسرف.إن الشخص المسيحي الساقط في البر الذاتي هو أبشع من الأممي (غير المؤمنين) ومن اليهودي الذي بسبب كبرياءه لم يتمتع بالخلاص الأبدي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأن المسيحي يتمتع ببركات جديدة وعطايا إلهية فائقة يستغلها للشر، على أي الأحوال يفتح ربنا يسوع خلال هذا المثل أبواب الرجاء للجميع، لا يزال الله ينتظرنا فاتحًا ذراعيه ليتقبلنا كأولاد له نعود إلى بيت أبينا.نعود إلى الابن الضال لنراه هاربًا من بيت أبيه، حاسبًا في هذا تمتعًا بالحرية، إن من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه، وما هذه الكورة البعيدة التي سافر إليها سوى " الأنا "، فينطلق الإنسان في كمال حريته بغباوة من الحياة السماوية، التي هي " الحب " إلى الأنانية حيث يتقوقع الإنسان حول ذاته، فيصير كمن هو في كورة بعيدة.
"فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج" ع 14.إذ تهرب النفس من الله مصدر الشبع وكنز الحكمة تجد نفسها قد دخلت إلى حالة فراغ داخلي فتكون كمن في " مجاعة ".خلقت النفس البشرية على صورة الله ومثاله، لن تشبع إلا به بكونه الأصل، العالم كله بإغراءاته والجسد بشهواته والحياة الزمنية بكل أحداثها لن تملأ فراغ النفس التي تتطلب ذاك اللانهائي يملأها.
" فمضى وألتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله، ليرعى خنازير، وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد " ع 15، 16.يبدو أن هذا الرجل يشير إلى رئيس هذا العالم، وقد ذهب هذا الابن إلى حقوله (حقول الخنازير)، وفيها يرعى الخنازير التي طلبت الشياطين أن تدخل فيها فاندفعت إلى جرف هذا العالم (مت 8: 32) هذه الخنازير تعيش على النفايات والنتانة.الخاطئ لا هم له سوى أن يملأ بطنه، الطعام المناسب لهم هو الخرنوب الفارغ في الداخل ولين في الخارج، " فلم يعطه أحد " إذ لا يمكن لأحد غير الله أن يهب الحياة.
"فرجع إلى نفسه، وقال: كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا ؟! أقوم وأذهب إلى أبى.. " ع 17، 18.هذا هو طريق التوبة: " رجع إلى نفسه "، ماذا يعنى هذا؟
ليتنا نميز بين" الذات "وحب الإنسان لنفسه بمعنى حبه لخلاصها، هذا ما أكده السيد المسيح حين أعلن من يهلك نفسه يخلصها.فرجوع الإنسان إلى نفسه يحتاج إلى عمل إلهي ينير بصيرة الإنسان الداخلية ليكتشف فقره التام بل وموته وفي نفس الوقت يدرك عمل الله الخلاصي ومحبته له فيمتلئ رجاء."وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك أبنا، اجعلني كأحد أجراءك.. " ع 18، 19
ونلاحظ هنا أن الروح القدس الذي يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء في الله واهب القيامة من الأموات، لكن بروح الاتضاع يهبنا أن نعترف بخطايانا، فالابن الضال بثقة يقول " يا أبى "، وبروح الاتضاع يعلن أنه مخطئ وغير مستحق للبنوة طالبًا قبوله كأجير.
"أخطأت إلى السماء وقدامك".. هذا هو الاعتراف الأول.. قدام سيد الرحمة، أمام ديان الخطية.عندما يلوم الإنسان نفسه يخفف ثقل ضلاله، ويقطع عنه حدة الاتهام.. إننا لا نخسر شيئًا عندما نعترف بما معروف لديه.
"فقام وجاء إلى أبيه" ع 20
إذ رجع الابن الشارد بذهنه إلى بيت أبيه أدرك أن المسافة مهما طالت بينه وبين أبيه لا تمثل عائقا. جذبته أبوة أبيه وسحبت ذهنه ليجد طريق العودة ليس طويلًا ولا مستحيلًا، فقام منطلقًا أيضًا بالعمل، سائرًا نحو أبيه، وكأنه يسمع صوت النبي زكريا هكذا قال رب الجنود: ارجعوا إلى يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود " (زك 1: 3)." وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن، وركض، ووقع على عنقه وقبله، فقال له الابن: يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنًا، فقال أبوه: أخرجوا الحلة الأولى.. " ع 20 – 22.يكشف هذا المثل عن أبوة الله الحانية، فإنه وإن كان لا يلزم الإنسان بالرجوع إليه، لكنه إذ يراه من بعيد منطلقًا نحوه يركض هو مسرعًا لا ليعاتبه أو يوبخه وإنما ليقع على عنقه ويقبله.. إنه ينصت لاعتراف ابنه المخطئ لكنه لا يسمح له بالمذلة، فلا يتركه يقول: " اجعلني كأحد أجراءك "، إنما يطلب له ثوب الابن وخاتمه، مكرمًا إياه في بيته!
" فقال الأب لعبيده: أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده، وحذاء في رجليه، وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوجد، فابتدأوا يفرحون " ع 22 – 24.أن الأب لا يوجه حديثه لابنه الراجع بل لعبيده، أو وكلائه، فإن كان التائب هو الذي جاء متوسلًا لكنه ينال الإجابة لا خلال كلمات موجهة إليه، وإنما خلال أعمال الرحمة التي تقدم له.إن هؤلاء العبيد هم الأرواح الخادمة، والملائكة، فالحلة الأولى هي الكرامة التي فقدها آدم، وهي ثوب الحكمة التي بها غطى الرسل عرى جسدهم، وبها يكتسي كل إنسان.الخاتم الذي في اليد هو عربون الروح القدس،وهو صك الإيمان الصادق وختم الحق.الحذاء في القدمين هما الاستعداد للبشارة بالإنجيل كي لا تمس الأرضيات هذه الأمور الثلاثة (الثوب، الخاتم، الحذاء) قدمها السيد المسيح للبشرية الخاطئة، ليقيم منها أبناء الله الحي، الذين يرتدون ثوب العرس اللائق بالوليمة السماوية، ويحملون خاتم البنوة، ويسترون أرجلهم ويحفظونها من أتربة هذا العالم ودنسه أثناء عبورهم خلال كلمة الكرازة.ما هو العجل المثمن الذي قدم في الوليمة ليأكل الكل ويشبعوا ويفرحوا سوى الرب يسوع، الذي دعى هكذا مقدمًا جسده الذي بلا عيب ذبيحة، وسمى "المُسَمَّن" بسبب غناه وتكلفته إذ قادر على خلاص العالم كله.إن كان الابن قد أسلم جسده ذبيحة من أجل خلاص البشرية، والآب قد فرح وتهلل من أجل هذا العمل المفرح وطالب السمائيين أن يتقدموا لينظروا ويفرحوا بالإنسان القائم إلى الحياة السماوية بعد موته إلا أن الابن الأكبر الذي يشير إلى المتكبرين من اليهود قد وقف خارجًا لا يريد أن يدخل ويفرح مع الكل، إذ يقول السيد المسيح."وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا، فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما. فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك، وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي، ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن.فقال له: يا بنى أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد " ع 25 – 32.يُعلِّق القديس أمبروسيوس على تصرف هذا الابن الأكبر، قائلًا:[دين الابن الأكبر، لأنه جاء من الحقل. هنا الحقل يشير إلى الاهتمام بأعمال الأرض والجهل بأعمال روح الله (1 كو 2: 11).اشتكى لأنه لم يُعط جديًا ليذبحه، مع أن حمل الله قد ذُبح لغفران الخطايا، لا لذة الجسد.يطلب الحاسد جديًا ليذبحه، بينما يشتهي البار أن يُذبح من أجل حمل الله!
بسبب الحسد أصيب الأكبر بشيخوخة (روحيَّة) مبكرة، وقد ظل خارجًا بسبب عدم محبَّته. الغيرة (الشرِّيرة) التي فاض بها قلبه طردته خارجًا!
إنه أحد الذين لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم، بينما ينتقدون القذى التي في الآخرين.إنه يغضب، لأن الغير ينال غفرانًا ونعمة!
يا لعدم احتمال جنود الشر الروحيَّة، إذ لا تطيق أن تسمع ترانيم الفرح وتلاوة المزامير! وهنا يشير الابنان إلى شعبين، الأصغر يمثل الأمم، والأكبر إسرائيل الذي يحسد الآخر من أجل تمتعه بالبركات الأبديَّة. احتج اليهود عندما دخل المسيح ليأكل عند الأمم، لذا طلبوا جديًا كتقدَّمة أثيمة مكروهة.يطلب اليهودي الجدي (باراباس)، والمسيحي يطلب حملًا (المسيح)، لذلك أطلق لليهود بارباس وقدَّم لنا المسيح ذبيحة. حل بهم منذ ذلك الحين فساد الإثم بينما نلنا نحن غفران الخطايا يشير الابن الأكبر للفرِّيسي الذي برر ذاته في صلاته المملوءة غرورًا، هذا الذي حسب نفسه أنه لم يكسر وصيَّة الله مطلقًا، بممارسته لحرف الناموس (18: 11). بقسوة اتهم أخاه أنه بدد ميراث أبيه مع الزواني، مع أنه كان يجب أن يحترس في كلماته لأن الرب يسوع جاء لأجل العشارين والزواني.لم يُطرد الابن الأكبر، إنما وقف على الباب ولم يرد أن يدخل، إذ لم يقبل إرادة الله التي دعت الأمم للإيمان، بهذا صار الابن عبدًا، "لأن العبد لا يعرف إرادة سيِّده" (يو 10: 14)، وعندما عرفها غار وصار معذبًا من أجل سعادة الكنيسة، وبقي هو خارجًا. مع هذا أراد الأب المحب أن يخلصه، إذ قال له: "أنت معي في كل حين".. يا حبذا لو أبطلت حسدك، "كل ما هو لي فهو لك"، فإذ لك أسرار العهد القديم كيهودي، وتنال أسرار العهد الجديد إن اعتمدت أيضًا.]
+ الآن إذ كان أخوه الأكبر في الحقل وقد جاء إلى البيت سمع صوت موسيقى ورقصًا، فدعى أحد العبيد وسأله ما عسى أن يكون هذا. الابن الأكبر يُفهم بكونه الشعب اليهودي الذي كان في الحقل يخدم الله لأجل التمتع بممتلكات أرضية. ففي العهد القديم على وجه الخصوص كانت السعادة الأرضية وعدًا لمن يعبد الله.جاء إلى البيت وسمع موسيقى. الصوت المتناغم معًا يُسمى موسيقى، لأنه حينما يتفق كل الذين يخدمون الله في محبَّة يتممون قول الرسول: "أطلب إليكم أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا" (1 كو 1: 10) حينما يصير المسيحيون هكذا يبعثون موسيقى، أي صوتًا متناغمًا يسرّ الله، ويتحقَّق فيهم المكتوب: "كان لهم قلب واحد ونفس واحدة" (راجع أع 4: 32).
لقد سأل أحد العبيد، أي قرأ أحد الأنبياء.. إشعياء أو إرميا أو دانيال، إذ كرز الكل بمجيء المسيح وبالفرح من أجل مصالحة الأمم.قال له العبد: "أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن" [27]، فغضب ولم يرد أن يدخل [28].غضبه هذا يعني مقاومة الشعب اليهودي لخلاص الأمم. حقًا فإنهم إلى هذا اليوم في غيرة من الكنيسة يقاومونها.
أما الحقيقة التاليَّة هي أن الأب "خرج يطلب إليه" [28] ربَّما تعني أنه في نهاية العالم سيقبل كل اليهود الإيمان خلال رحمة الله، كقول الرسول بولس: "إلى أن يخلص ملئ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26) بقوله: "قط لم أتجاوز وصيتك" [29] عني أن اليهود بدوا كمن عبدوا الله الواحد، وعندما اشتكى: "وجديًا لم تعطني قط" تُفهم عن المسيح. فإن المسيح وهو حمل الله دين كجدي بواسطة اليهود، أي دين كخاطئ. لهذا فالمسيح بالنسبة لنا هو حمل، وبالنسبة لهم هو جدي. الذين اعتقدوا أنه خاطئ وليس بارًا لم يستحقوا التمتع بوليمة جدي مذبوح أو حمل كذبيحة.عندما قال الأب: "أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك" [31] يعني بذلك عبادة الله الواحد وكتابات العهد القديم والأنبياء الأمور التي بالتأكيد تخص الله وقد بقيت مع اليهود على الدوام.فليعطنا الله أن نحيا حياة التوبة لنرجع إلى حضن أبونا السماوي قائلين له "أخطأت في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أدعي لك ابنًا بل اجعلني كأحد أجرائك أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
27 مارس 2021
عشية الاحد الثالث من الصوم الكبيرمت 10:15-20
ثم دعا الجمع وقال لهم: "اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينخس الإنسان، بل ما يخرج
من الفم هذا ينجس الإنسان"،. حينئذ تقدم تلاميذه وقالوا له: "أتعلم أن الفريسين لما سمعوا القول نفروا؟ " فأجاب وقال: "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. اتركوهم. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة". فأجاب بطرس وقال له: "فسر لنا هذا المثل". فقال يسوع: "هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟ وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان".
اختار الآباء معلمو الكنيسة هذا الفصل من الإنجيل ليقرأ فى عشية الأحد الثالث تمهيداً لإنجيل القداس.. فقد بكَّت الرب الكتبة والفريسين الذين داسوا الوصية "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ" (مت 15 : 4). وأبطلوها بفتوى أنه ممكن للإنسان أن يتبرع بقيمة ما يعطيه لأبيه يتبرع به للهيكل ويتحلل من أن يعول أبيه وأمه أو يكرمهما.
وهكذا أعاد الرب – واضع الوصية - هيبتها ومفعولها الذى يجب أن يكون لها ككلمة الله. والواقع أن رباط البنوة والأبوة هو غاية قصد المسيح، فإما طاعة وخضوع للأب أو خروج عن الطاعة. على أن فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً والدخول إلى سرها تتوقف عليه الحياة كلها. فكل منا ابن لأبيه وقد مارسنا حياة البنوة وعشناها والذين صاروا أباء لأبناء أدركوا ما هى الأبوة. فمن جهة البنوة فكل إنسان مارسها نحو أبيه فيعرف ما عليه كإبن وكيف يرضى الأب.
والعجيب جداً أن هذا الرباط لا يمكن وصفه بالكلام ولا باللسان. هل يستطيع أحد أن يعبر عما فى قلبه نحو أبيه أو يصف ما يربطه مع أبيه من مشاعر؟ يستحيل لأن الشعور الحقيقى للإبن أن أباه هو مصدر حياته، لقد أخذ حياته ووجوده فى العالم من أبيه، فهو الأصل.
كلمة أب كلمة سريانية معناها أصل. فالإبن مرتبط بأبيه برباط حياة.. حياة من حياة.
فهى ليست علاقة رئيس بمرؤوس، أوسيد وعبد، أو مدير وموظف، إنها صلة أب بإبن. لذلك ما يعمله الإبن الحكيم الخاضع لأبيه لا يعمله حباً فى أجر، حاشا، فالإبن يعمل مسرة أبيه ولا يطمع فى أجر أو ثواب لأن كل ما للأب له.. إنه إبنه. ولا يعمل إرادة أبيه خوفاً من عقاب.. فهذا شأن العبيد بل كل مسرة الإبن تكمن فى تكميل مشيئة أبيه وحفظ كلامه.. لا توجد راحة للإبن الفطِن إذا كسر كلمة أبيه أو خالف وصيته.. نفسه تصير فى حزن لا ترتاح حتى يكمل مشيئة أبيه.
"أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ»، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ" (أف 6 : 2). هكذا يطلب منا الرب نحو أباء أجسادنا.. فكم بالحرى أبوكم الذى فى السموات. لقد قالها الرب فى القديم: "إِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا... فَأَيْنَ هَيْبَتِي" (ملاخى 1 : 6)
وصايا الآب ليست ثقيلة
الأباء الخُطاة يعرفون أن يعطوا أولادهم عطايا جيدة.. فكم بالحرى الآب السماوى. لا يوجد أب فى الوجود يوصى أولاده وصايا تضر بمصلحتهم.. أو تؤذيهم أو تكون ثقيلة عليهم. إن كل وصايا الإنجيل.. هى كلمات الأب لأبنائه.. تحوى كل الحب وكل النصح للحياة.. كلها فى مصلحتنا وكلها لراحتنا وحفظنا.
لا توجد وصية ثقيلة.. وصاياه ليست ثقيلة.. نير المسيح هيّن. هلم نأخذ الإنجيل بفهم.. إنه كلام الأب لإبنه.. من يرفض كلمة أبيه ووصاياه ويترك بيته لا يجنى سوى التعب والهم والضياع.. وحتى خرنوب الخنازير لا يجده.
اكرم أباك بحفظ وصاياه. اكرم الرب من كل قلبك لأنه يعرف مكنونات قلبك
+ لا حياة ولا راحة ولا سلام لك بعيدأ عن حضن أبيك ولا شبع لنفسك بعيداً عن مائدة غنى المسيح.
+ الرجوع والتوبة معناها أن الإنسان عاد إلى طاعة أبيه بعد زمن جهالة وعصيان.. وعرف أن وصايا أبيه ليس كما ظن أنها قيود وعبودية.
+ إن عقوبة عدم إكرام الأب كانت الموت بدون رحمة "مَنْ شَتَمَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً" (خر 21 : 17). كانت ترجمه كل الجماعة إن كان إبناً معتنفاً لا يكرم أباه. فماذا نقول عن من يهين الآب السماوى ولا يكرمه فى حياته، بل يكسر وصاياه ويستهين بحبه ولا يعمل له حساباً فى حياته؟ ترى ماذا يكون لمن يحتقر حب الآب السماوى ويخرج على طاعته ويطلب أن يحيا لذاته فى كورة بعيدة.. وتحلو له حياة الخطايا..
+ وماذا نقول عن الذين يكرمونه بشفتيه كقول اشعياء وقلبهم مبتعد عنه بعيداً.
+ وماذا عن الذين يحفظون كلام الناس ويعملون حساب للناس ولكنهم داسوا وصاياه.. ولكن على كل حال قلب الآب نحونا وحنانه الإلهى يغلب تجبرنا ويجذبنا من كل الكورة البعيدة. هو ينظر وينتظر رجوعنا، ففرحه برجوعنا لا يوصف.. عيناه ترقبان خطانا ونحن نقترب إليه.. وينتظر اللحظة التى فيها سيركض لاستقبالنا ويضمنا مرة أخرى إلى صدره ليشفى ارتدادنا.. ويخلع عنا ثوب نجاساتنا ليلبسنا الحلة الأولى.. فهل نرجع إليه؟
"لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ" (مت 15 : 11).
كثيراً ما يقول البعض كلمة المسيح هذه عن الصوم ولكن لم يكن حديث الرب عن الصوم بل عن الأكل بأيدى غير مغسولة. وكان الفريسيون يعترضون أن تلاميذ الرب يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم وهم بذلك يكسرون تقليد الشيوخ. فغار الكتبة والفريسيون على كسر تقليد الشيوخ بينما أصابتهم البلادة حينما كسرت وصايا الله.
وهذا ما نفعله كثيراً حينما نغار على أشياء كثيرة أصبحت ذات اهتمام كبير فى حياتنا.. بينما لا نتحرك ساكناً حينما نكسر وصايا المسيح أو نتهاون.. لا نغار على الفضيلة بقدر غيرتنا على بعض عاداتنا أو تقاليدنا أو العرف السائد بين الناس. لتكن وصية المسيح هى الشغل الشاغل، وهى تأتى دائما قبل كل شئ وأول الأهتمامات..
ولكن حين تحيَّز الكتبة والفريسيون وتغصبوا للتقاليد التافهة أكثر مما انحازوا لوصايا الله أصابهم عمى القلب وفقدوا التمييز.. لذلك قال الرب عنهم "هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ" (مت 15 : 14). لقد أغمضوا عيونهم عن الحق وقادوا الناس بعيداً جداً حتى أسقطوهم فى حفرة الهلاك.
(عن كتاب: تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
26 مارس 2021
الجمعة الثالثة من الصوم الكبير: أمان التوبة
ارتباط فصول القراءات:
أمان التوبة
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "أمان التوبة" أي حياة الأمان من عدوان الشيطان التي يحياها التائبون ؛ فالنبوة الأولى تتكلم عن أمانة الله معهم كما أدخل بنى إسرائيل أرض الموعد من أجل آبائهم، والثانية عن نصرته لهم على أعدائهم كما نصر داود على شاول، والثالثة عن تحذيرهم من الكبرياء كما حذر إشعياء إسرائيل، والرابعة عن تنفيرهم من الشر كما بين أليفاز لأيوب ذلك، والخامسة عن وصاياه لهم كما أوصى يشوع بن سيراخ.
ويتكلم إنجيل باكر عن إقامة الله لهم يوم الدين كما ورد في مسألة المرأة ذات الأزواج السبعة، وإنجيل القداس عن تأمينه لهم كما فعل مع الأخرس الذي أخرج منه الشيطان.
أما رسالة البولس فتتحدث عن طمأنينتهم كما أطاع إبراهيم الله وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب، والكاثوليكون عن ضرورة ثباتهم في الإيمان كما أوصاهم بذلك يهوذا الرسول، والإبركسيس عن تقوية الله لهم في شدائدهم كما وقف ببولس ليلًا وقواه.
النبوات.. (تثنية 9، 10)
الإصحاح التاسع
بماذا يتبرر الشعب ؟
في الإصحاح السابق ركز موسى النبي على تأكيد أن ما يتمتع به الشعب من بركات ليس هو ثمر برهم الذاتي، إنما هو عطية مجانية من قبل الله الذي يشتهى أن يدخل معهم في ميثاق. يدخل بهم إلى القفر لكي يدركوا قفر طبيعتهم الداخلية. ويبعث إليهم موسى قائدًا ليعلن أنه مهتم بهم، يحملهم إليه شخصيًا.
إنه أمين في مواعيده بالرغم من عدم أمانتهم. وفي هذا الإصحاح أوضح أن الله أقام عهده مع شعبه ليسكب فيض بركاته، لا لأجل بر الإنسان الذاتي [1 – 6]، بل من أجل أمانة الله في وعوده.فالله في أمانته قدم لشعبه الشريعة، بينما عبد الشعب العجل الذهبي [7 – 21]. لم يقف موسى النبي في سلبية أمام هذا الجرم العظيم، بل يشفع في شعب الله مذكرًا إياه بالوعود الإلهية [22 – 29].
وهنا نري شعب الله يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة
وهذا ما أحزن قلب موسى أن الشعب في أقدس اللحظات التي كان الله فيها يتحدث مع موسى مقدما شريعته له التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية ؛ كان موسى صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلة لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماء، وكان الجبل يدخن بالنار في حوريب ؛ وإذا بالشعب يزوغ عن الحق، وفي عناد وصلابة رقبة يصب عجلًا ذهبيا يتعبد له.
في الموضع الذي فيه استلموا الشريعة، كسروها وفي نفس لحظات استلامها. بينما كانت عيونهم لا زالت تنظر الجبل متقد نارًا لم تلن قلوبهم، بل صبوا العجل الذهبي بسبكه في نار متقدة (يا للعجب علي ذلك!!!)
+ كان موسى في أمجد لحظات عمره على الأرض، إذ كان على قمة الجبل يتمتع برؤية ظل مجد الله، ويتسلم الشريعة التي سجلها الله على لوحين ونحتها كما بنار إلهية، وقد اهتز الجبل كله وامتلأ دخانا وضبابا. توقع عند نزوله أن يرى الشعب كله، رجالًا ونساءً، أطفالًا وشيوخًا لا يشغلهم شيء سوى استلام الشريعة. ظن أنه يرى عيونهم شاخصة نحو قمة الجبل، نسوا أكلهم وشربهم ونومهم في وسط هذا المجد العظيم. لكن نفسه تحطمت تمامًا إذ عوض النار الإلهية طلبوا من رئيس الكهنة أن يوقد نارًا يلقون فيها الحلي الذهبية ليصب لهم عجلًا مسبوكًا يكون لهم إلهًا.
الذهب الذي سمح لهم الله أن يأخذوه من المصريين عوض سنوات ذلهم وعبوديتهم قدموه للعبادة الوثنية لإغاظة الله مخلصهم.
غنى عطايا الله لشعبه
لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجمًا اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.
البولس من عب 11: 1 – 8
واما الايمان فهو الثقة بما يرجى والايقان بامور لا ترى فانه في هذا شهد للقدماء بالايمان نفهم ان العالمين اتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر بالايمان قدم هابيل لله ذبيحة افضل من قايين فبه شهد له انه بار اذ شهد الله لقرابينه وبه وان مات يتكلم بعد بالايمان نقل اخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لان الله نقله اذ قبل نقله شهد له بانه قد ارضى الله ولكن بدون ايمان لا يمكن ارضاؤه لانه يجب ان الذي ياتي الى الله يؤمن بانه موجود وانه يجازي الذين يطلبونه بالايمان نوح لما اوحي اليه عن امور لم تر بعد خاف فبنى فلكا لخلاص بيته فبه دان العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الايمان بالايمان ابراهيم لما دعي اطاع ان يخرج الى المكان الذي كان عتيدا ان ياخذه ميراثا فخرج وهو لا يعلم الى اين ياتي يعتبر هذا الأصحاح تطبيقًا عمليًا من واقع رجال العهد القديم المؤمنين، فبعد أن تحدث الرسول عن السيد المسيح كرئيس الكهنة الذي فتح الأقداس السماوية، مقارنًا بين خدمة الكهنوت اللاوي والكهنوت الجديد، يؤكد ضرورة الإيمان كطريق للتمتع بهذه المقادس السماوية المفتوحة للبشرية كلها في المسيح يسوع.
ما هو الإيمان؟
"وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [١-٢].الإيمان هو الثقة بالمقدسات الإلهية غير المنظورة كحقائق واقعة وحاضرة، فيحيا الإنسان في يقين من جهة الأمور غير المنظورة ولا ملموسة بالحواس.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الإيمان هو رؤية واضحة للأمور وتأكد كامل من جهة غير المنظورات كأنها من المنظورات.] [وسأوضح الأمر بأمثلة.. فقد قال الرب أن من يترك أبًا أو أمًا أو إخوة أو أخوات يصير له أباء وأمهات، فنرى ذلك القول أنه يتحقق فعلًا. وأيضًا إذ يقول: "في العالم يكون لكم ضيق لكن ثقوا (افرحوا) أنا قد غلبت العالم" (يو ١٦: ٣٣)، بمعنى أنه لا يغلبك أحد، هذا يدركه (المؤمن) أنه حقيقة واقعة. وأيضًا عندما يقول أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة (مت ١٦: ١٨) حتى وإن كانت مُضطهدة، وأنه لا يستطيع أحد أن يوقف الكرازة، يدرك أن هذه النبوة حقيقة واقعة مع أن هذا قيل في وقت كان يصعب فيها تصديقها.] بالإيمان قبلنا وصايا الله الصعبة ومواعيده التي يبرهن على صدقها لا بكلمات وإنما بخبرة عملية عند ممارستها. بالإيمان نسلكها ونتقبل مواعيدها التي تبدو غير معقولة لكننا نكتشف صدقها خلال الخبرة. لهذا [يتطلب الإيمان نفسًا نشطة ومملوءة غيرة، تسمو فوق الأمور الحسية وتعبر فوق كل تعقلات بشرية، فإنه لا يمكن أن تصير مؤمنة إن لم ترتفع فوق العادات العامة التي للعالم.] ولما كان الرسول يتحدث إلى مسيحيين من أصل عبراني لهذا قال: "فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [٢]؛ وكأنه يقول لهم إن هذا الأمر ليس بغريبٍ عنكم، فقد اختبره آباؤكم. تاريخهم العبراني هو خير شاهد لحياة الإيمان. كأن الرسول يضع أمامهم أسفار العهد القديم ليتصفح معهم حياة الإيمان كما عاشتها كنيسة العهد القديم.لقد بدأ العهد القديم بإعلان الله كخالق "بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ" [٣].فإن رجال العهد الجديد لا يستطيعوا أن يتقبلوا السيد المسيح "كلمة الله المتجسد" كمخلص ومجدد طبيعتهم الداخلية بروحه القدوس، ما لم يتقبلوا الأساس الأول أن الله هو الخالق بكلمته. فالكلمة الذي يخلق هو وحده يقدر أن يجدد الخلقة بعد أن فسدت.وعن ذلك يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [الله صالح، أو بالحري الصلاح في جوهره.. خلق كل شيء من العدم بكلمته الذاتية، يسوع المسيح ربنا.]وبه أيضًا جدد الخلقة وخلصها ويرى أيضًا في هذه العبارة الرسولية أن الله هو الخالق ليس من يبلغ قياسه، كائن قبل كل الدهور، به جاء الزمن وينتقل بولس الرسول من الأساس الأول للإيمان بكلمة الله الخالق الأزلي، إلى أمثلة عملية لرجاء الإيمان في العهد القديم، وكأن إيمان الكنيسة ما هو إلاَّ امتداد لرجال الكنيسة الأولى قبل التجسد. ولعله ذكر هذه الأمثال لأن الرسول بولس -كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم- أراد أن يعلن لهم أن العبرانيين قد بدأوا حياتهم مع الله بالإيمان خلال أشكال مختلفة، لكن للأسف كملوا في ضعف بقلوب فاترة في الإيمان.وقد لاحظ القديس أثناسيوس الرسولي الذي قضى أغلب حياته الرعوية في جهاد من أجل الإيمان المستقيم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وغالبًا ما كان يضطر أن يترك كرسيه ويهرب من الأريوسيين الذين صمموا على قتله، أن الجهاد من أجل الإيمان لا يقل عن الاستشهاد. وأن رجال الإيمان الذين ذكرهم الرسول هنا غالبيتهم لم يستشهدوا لكنهم عاشوا رجال إيمان. يقول القديس: [لا تقوم تزكية الشهيد على مجرد رفضه للتبخير للأوثان وإنما على رفضه إنكار الإيمان، فإن هذا يمثل شهادة واضحة عن الضمير الصالح. هذا ولا يُدان فقط الذين ينجرفون إلى عبادة الأوثان كغرباء وإنما يُدان أيضًا الذين يخونوا الإيمان.] كما يمتدح الإيمان قائلًا: [إبراهيم الأب البطريرك قد قبل الإكليل ليس لأنه تألم حتى الموت، وإنما لأنه آمن بالله، وأيضًا القديسون الذين ذكرهم بولس من جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والبقية لم يتكملوا بسفك دمائهم، إنما تبرروا بالإيمان، إذ كانوا مستعدين أن يحتملوا الموت من أجل التقوى نحو الله.]وقدم بولس الرسول الأمثلة التالية من عظماء المؤمنين والمؤمنات نذكر بعضهم علي سبيل المثال:
أ. هابيل
إنه المثل الأول لرجال الإيمان، لا يقوم على أساس حياته الخاصة وإنما يقول الرسول "بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!" [٤]لقد شهد الله ببره ليس لأفضلية حياته أو أعماله الخاصة عما لقايين، وإنما لأفضلية ذبيحته عن قرابين قايين. لقد قدم قايين من ثمرات الأرض قربانًا، لكن الله اشتم رائحة الرضا في الذبيحة الدموية التي لهابيل. كانت تحمل رائحة السيد المسيح على الصليب وظلالها. هذا هو أساس إيماننا أن كلمة الله الخالق يجددنا نحن خليقته خلال الدم الثمين، فنقدم حياتنا ذبيحة حب خلال إتحادنا بالذبيح الحق، بهذا نصير كهابيل الذي صار هو نفسه كذبيحة وهو مرفوض من أخيه.كأن الرسول يحدث المسيحيين العبرانيين المطرودين من الهيكل، أنهم قد صاروا كهابيل المرفوض من أخيه من أجل الذبيحة المقبولة لدى الله الآب، ذبيحة السيد المسيح. لهذا وإن حاول إخوتهم أن ينهوا حياتهم لكن صوتهم يبقى مدويًا، وشهادتهم لا يمكن كتمانها بالموت، ولا للزمن أن يحطمها. لا يزال صوت هابيل عاليًا يعلن عن قبول الله ذبيحته الدموية، ويبقى صوت المؤمنين المرذولين والمضطهدين صارخًا يشهد للحق بغير انقطاع.
ب. أخنوخ:
"بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ" [٥]. إن كان هابيل بإيمانه أعلن عن سرّ ذبيحة المسيح المقبولة عنده، وقبولنا الموت معه كل يوم، فإن حياة أخنوخ حملت بالإيمان صورة حية للكنيسة السماوية الفائقة، والتي تعلو فوق الحياة البشرية الطبيعية، تشهد لسيرتها أمام العالم، لهذا ينقلها الرب إليه لتحيا معه شريكة في أمجاده. يقول الرسول: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده".بالإيمان نتمتع بالحياة السماوية كأعضاء في كنيسة الله المقبولة لدى عريسها،"وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" [٦].ليت قلبنا يكون بحق كأخنوخ يؤمن بالله فيُنقل إلى فوق لينتظر المجازاة للذين يطلبونه، التي هي بحق إقتناء ربنا يسوع. هذه هي مكافأة النفس التي تطلبه.. إنها تناله وتوجد معه في سماواته وأمجاده الأبدية في حضن الآب السماوي.
ج. نوح:
إن كان هابيل يعلن في إيمانه الذبيحة الفريدة التي لا تصمت قط عن الشهادة للحق فينا، وأخنوخ يمثل الكنيسة المرتفعة إلى عريسها لكي تحيا في السماويات عبر وجودها بالجسد على الأرض، فإن نوحًا يمثل إيمانه إدانة العالم الذي رفض الدخول في الفلك، فإنه لا خلاص خارج الفلك، ولا تمتع بالحياة الجديدة إلا من خلال مياه المعمودية. "بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ" [٧]. إن كانت الكنيسة تتمتع بالخلاص في الصليب كما في فلك نوح وسط مياه المعمودية، فإن هذا الخلاص إنما يدين العالم.لقد اعتاد الآباء أن يقيموا الكنيسة غالبًا على شكل فلك نوح علامة العبور من العالم القديم إلى الحياة الجديدة..
د. إبراهيم:
قدم كل أب من الآباء جانبًا من جوانب الإيمان، هابيل قدم الجانب الإلهي وهو تقديم الذبيحة المقدسة، أي تقديم حمل الله، وأخنوخ كشف عن طبيعة الكنيسة المؤمنة ألا وهو الجانب السماوي، ونوح أعلن أنه لا خلاص خارج الكنيسة المقدسة، أما إبراهيم فقدم الجانب العملي للإيمان وهو الطاعة لله بجانب جوانب متفاعلة معًا. لقد آمن إبراهيم أب الآباء عمليًا فترك الملموسات والمنظورات في ثقة في وعود الله التي لم تكن ملموسة ولا منظورة. فيقول الرسول:"بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" [٨-١٠].لقد أطاع أن يخرج الذي كان عتيدًا أن يتمتع بالميراث، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب. الإيمان هو الذي قاده! لم يسمع من قبل عن أمثلة إيمانية حيَّة يقتدي بها إلاَّ ما قد تسلمه بالتقليد عن هابيل وأخنوخ ونوح، ليس بين يديه كتاب مقدس ولا شريعة مستلمة ولا من يرشده أو نبي أو كاهن، لكن الإيمان أنار له الطريق؛ وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبوه أمميًا وعابد وثن، ولم يسمع أنبياء ولا عرف أين يذهب.] بالإيمان لم ينل أرض موعد، لكنه وثق أن نسله يرث الأرض التي يسير عليها كغريبٍ هو وابنه إسحق وحفيده يعقوب، وكان غير مضطرب وبلا هم، متأكدًا من تحقيق مواعيد الله في الأجيال القادمة الخارجة من صلبه.
الإيمان بالوطن السماوي:
إذ طُرد المؤمنون من الهيكل اليهودي وحرموا من ممارسة العبادة الجماعية مع إخوتهم، فإن الرسول يرفع أعينهم إلى هيكل آخر سماوي وعبادة على مستوى ملائكي، ليدركوا أن ما فقدوه من منظورات لا يقارن أمام ما يتمتعون به في عالم غير المنظورات. هذا ليس بأمر خيالي، إنما هو حياة إيمانية تمثل امتدادًا للحياة التي عاشها آباؤهم، محتملين الحرمان من الكثير، لينعموا بالمواعيد السماوية. يقول الرسول: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَنًا. فَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. وَلَكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذَلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً" [١٣-١٦].هكذا يؤكد الرسول أن رجال العهد القديم، ليس كما يظن البعض قد وضعوا رجاءهم في مواعيد زمنية، وإنما رأوا الوطن السماوي والمواعيد الأبدية مختفية وراء المواعيد الزمنية. لقد تطلعوا بالإيمان إلى وعود الله الأبدية فصدقوها بالإيمان وحيّوها بالعمل الجاد للتمتع بها ولهيب قلبهم الذي لا ينقطع في الشوق إليها. لقد أحسوا أمام هذه الوعود أنهم بحق هم غرباء ينتظرون العبور إلى وطنهم السماوي للتمتع بها، ليس من أمر زمني -مهما كانت قدرته- يستحق أن يسحب القلب إلى الوراء نحو الأرضيات. ولذلك يشتهي رجال الإيمان وطنهم السماوي، لهذا يُسر الله بهم، فيدعى إلههم لأنه أعد لهم المدينة السماوية التي فيها يجتمعون معه ويسكن هو في وسطهم إلى الأبد، يفرح بأولاده ويفرحون بأبيهم السماوي.
رجال الإيمان:
إذ قطع الرسول حديثه عن أمثلة من رجال الإيمان ليؤكد غايتهم وهو التمتع بالوطن السماوي عاد ليعطي أمثلة من رجال ونساء العهد القديم"بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ" [٢٢]. سمع يوسف الوعد الإلهي لجده إبراهيم فآمن أن الله لن يترك شعبه متغربًا، لهذا بالإيمان أوصى بعظامه عند الخروج إعلانًا عن شوقه للدخول إلى مواعيد الله خلال عظامه اليابسة. كان يوسف في مصر يعيش في مجدٍ، بكونه الرجل الثاني بعد فرعون، لكن القصر لم يشغله عن الوعد الإلهي، مشتركًا بالإيمان مع الشعب في الخروج خلال النية، كرمز للخروج من عبودية الخطية إلى الحياة الجديدة في المسيا المخلص.
والدا موسى:
"بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ" [٢٣]. لم ينسَ الرسول عند حديثه عن موسى النبي كرجل إيمان عظيم أن يبرز أولًا إيمان والديه. لقد قدم الرسول لنا والدين كمثالٍ بين أمثلة الإيمان حتى ندرك خطورة دور الأسرة في الحياة الإيمانية وعمل الوالدين الجسديين مع الأب الروحي في تهيئة الأجيال المؤمنة بحق. هذا أيضًا أبرزه الرسول حين كتب إلى تلميذه تيموثاوس يقول له: "أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولًا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكن موقن أنه فيك أيضًا" (٢ تي ١: ٥).لقد ظهر إيمان والدي موسى في إخفائهما الطفل ثلاثة أشهر، "لأنهما رأيا الصبي جميلًا"، وكما يقول الشماس اسطفانوس: "كان جميلًا جدًا". ماذا رأيا في وجهه إلاَّ انعكاس مجد السيد المسيح المقام من الأموات. فقد كان الطفل تحت حكم الموت، لأن فرعون طلب قتل كل الأطفال الذكور، لكن الوالدين استبقياه بإيمان أن جمالًا داخليًا يكمن فيه. لقد بقى ثلاثة شهور، ونحن نعلم أن رقم ٣ يشير إلى القيامة (حيث قام السيد في اليوم الثالث)، ليظهر بعد الشهور الثلاثة على وجه المياه، مقدسًا المياه لتهب المؤمن قوة القيامة معه لقد كان موسى جميلًا في أعينهما، لذا احتفظا به ثلاثة أشهر، وهكذا بالإيمان نحمل في داخلنا لا موسى بل ربه، مدركين أنه "أبرع جمالًا من بني البشرية"، نخفيه فينا ثلاثة أشهر حتى ننعم بالقيامة معه، فلا نوجد محمولين على مياه النهر بل على البحر الزجاجي في أورشليم العليا.
يشوع:
"بِالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا، بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ" [٣٠]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالتأكيد لا تستطيع أصوات الأبواق أن تسقط الحجارة (التي للأسوار).. لكن الإيمان يقدر أن يفعل كل شيء.]
راحاب الزانية:
"بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ" [٣١].ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك، قائلًا[من العار أن تظهر في عدم إيمان أكثر من زانية! لقد سمعت ما رواه الرجلان وآمنت! وكانت النتيجة هلاك الكل بينما حُفظت وحدها من الهلاك. لم تقل في نفسها: أني أبقى مع أصدقائي الكثيرين، ولا قالت: هل أنا أكثر حكمة من هؤلاء الرجال العقلاء الذين لا يؤمنون، وأنا أؤمن؟! لم تقل شيئًا من هذا بل آمنت بما سيحدث وما سيعانيه (الكنعانيون).]
إنجيل القداس.. لوقا 11: 14 – 26
وكان يخرج شيطانا وكان ذلك اخرس فلما اخرج الشيطان تكلم الاخرس فتعجب الجموع واما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين واخرون طلبوا منه اية من السماء يجربونه فعلم افكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وبيت منقسم على بيت يسقط فان كان الشيطان ايضا ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته لانكم تقولون اني ببعلزبول اخرج الشياطين فان كنت انا ببعلزبول اخرج الشياطين فابناؤكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم ولكن ان كنت باصبع الله اخرج الشياطين فقد اقبل عليكم ملكوت الله حينما يحفظ القوي داره متسلحا تكون امواله في امان ولكن متى جاء من هو اقوى منه فانه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق متى خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة واذ لا يجد يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه فياتي ويجده مكنوسا مزينا ثم يذهب وياخذ سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير اواخر ذلك الانسان اشر من أوائله
وحدة الروح (اتِّهامه ببعلزبول)
إن كانت صداقتنا مع الله تقوم على الصلاة بلجاجة، فإن هذه الصلاة يلزم أن تسندها وحدة الروح. فالله في صداقته معنا يريدنا أن نسلك معًا بالروح الواحد، وذلك بعمل روحه القدُّوس واهب الشركة والوحدانيَّة. لهذا يحدِّثنا الإنجيلي لوقا عن إبراء من به شيطان أخرس، وقد أخرجه السيِّد فأتُهم بأنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين. وجد السيِّد بهذا الاتهام فرصته لتأكيد الحاجة إلى وحدة الروح بلا انقسام، وذلك بعمل روحه واهب الشركة.
+ لقد أثارت معجزة إخراج الشيطان الأخرس دهشة الجماهير وإعجابهم، الأمر الذي أثار قومًا غالبًا من الفرِّيسيِّين، وإذ امتلأوا حِقدًا وحسدًا لم يقدروا أن ينكروا المعجزة، لكنهم اِتَّهموا السيِّد أنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين يخرج الشيَّاطين.فـ"بعلزبول" هي الصيغة الآرامية للكلمة: "بعل زبوب"، أي إله الذباب عند العقرونيِّين (2 مل 1: 3)، الذين كانوا يعتقدون أن فيه القدرة على طرد الذباب من المنازل. وتشكَّك البعض في أمره، فطلبوا آية من السماء، ليتأكَّدوا أن ما يفعله بقوَّة سماويَّة إلهيَّة وليس بطريق شيطاني، فكانوا يتوقَّعون أن يُنزِل نارًا من السماء كما فعل إيليَّا، ولم يدركوا أن الذي في وسطهم هو السماوي الذي بتنازله حل في وسطهم كواحد منهم.
+ لم يستجب لطلبتهم فيرسل نارًا من السماء لإِفنائهم، إذ طلبوا آية من السماء، بل إنتهر يوحنا ويعقوب تلميذيه حين سألاه أن يطلبا نارًا لحرق قرية بالسامرَّة رفضته (لو 9: 54). وإنما في طول أناة أجابهم، لا ليُفحِمهم وإنما ليرُدهم إلى الحق، غير متراجعٍ عن حبُّه حتى لمقاوميه، باذلًا حياته فدية عن الجميع. لهذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اِحتمل كل هذه الأمور لكي نسلك على أثر خطواته، ونحتمل هذه السخريات التي تقلق أكثر من أي توبيخ.]
+ جاءت إجابة السيد المسيح لمقاوميه كالعادة ليست دفاعًا عن نفسه بقدر ما هي لبنيان نفوسهم وإصلاح حياتهم، وقد حملت الإجابة جانبين:
أ. الجانب السلبي، وهو أنه لا ينقسم عدو الخير على نفسه وإلا هلكت مملكته. وهنا يسألنا ألا ننقسم نحن على أنفسنا، سواء على مستوى الممالك أو مستوى العائلات، إذ يقول"كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وبيت منقسم على بيت يسقط، فإن كان الشيطان أيضًا ينقسم على ذاته،فكيف تثبت مملكته؟ لأنكم تقولون إني ببعلزبول أخرج الشيَّاطين؟" [17-18].
ب. الجانب الإيجابي، فيه يعلن فاعليَّة الروح القدس الذي هو واحد معه في اللاهوت، إذ يعمل بروحه القدُّوس وقوَّته، ويدعوه إصبع الله. في هذا يدعونا الرب ليس فقط ألا نسلك بروح الانقسام على أنفسنا أو على مستوى العائلات أو الكنائس، وإنما أن نقبل روح الله الذي هو روح الشركة عاملًا فينا بقوَّة، لبنيان ملكوت الله. إنه يقول"إن كنتُ أنا ببعلزبول أخرج الشيَّاطين، فأبناؤكم بمن يُخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنتُ بإصبع الله أُخرج الشيَّاطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [19-20].لا يكفي أن نرفض روح الانقسام حتى لا نهلك، وإنما يليق بنا أن نقبل روحه عاملًا فينا، لكي يقبل علينا ملكوته في داخلنا بقوَّة!ويسمي السيد المسيح الروح القدس "إصبع الله"، ربَّما لأن الإنسان صاحب السلطان حين يشير بإصبعه يتحقَّق كل ما يريده، وكأن الآب والابن يعملان بروحهما القدُّوس كما بالإصبع. وعن هذا الإصبع يقول القدِّيس كيرلس الإسكندري [يدعى الروح القدس إصبع الله لهذا السبب. قيل عن الابن أنه يد الله وذراعه (مز 98: 1)، به يعمل الآب كل شيء. ولما كان الإصبع غير منفصل عن اليد بل بالطبيعة هو جزء منها، هكذا (مع الفارق) الروح القدس متَّحد مع الابن، وخلاله يعمل الابن كل شيء.]هذا والأصابع مع اختلاف مواضعها وأحجامها وأطوالها تعمل معًا بلا اِنقسام، فتشير إلى تنوُّع الخدمات أو المواهب والروح واحد. كقول الرسول بولس: "فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد، وأنواع خِدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل، ولكنه لكل واحد يعطي إظهار الروح للمنفعة" (1 كو 12: 4-7).ومن هنا ننتقل إلى: من هم أبناؤهم الذين يُخرجون الشيَّاطين ويكونون قضاة عليهم، إلا جماعة من التلاميذ البسطاء، الذين هم من الأُمّة اليهوديَّة يعيشون ببساطة قلب بينهم، وأُميُون، يُخرجون الشيَّاطين بقوَّة وسلطان، فيدينون بهذا كل اِتهام يوجِّهه الفرِّيسيُّون والكتبة ضد سلطان السيد المسيح. وعن ذلك يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [كان التلاميذ الطوباويُون يهودًا، وأبناء لليهود حسب الجسد، وقد نالوا سلطانًا من المسيح باستدعاء هذه الكلمات: "باسم يسوع المسيح". فإن بولس أيضًا مرَّة أمر الروح النجس بسلطان رسولي: "أنا آمرك باسم يسوع أن تخرج منها" (أع 16: 18). فإن كان أبناؤكم -كما يقول- باسمي يطئون بأقدامهم على بعلزبول باِنتهارهم أتباعه (شيَّاطينه) وإخراجهم من الساكنين فيهم، أفليس واضح أنه تجديف بجهل عظيم أن تتَّهمونني بأني أحمل سلطان بعلزبول؟ أنتم الآن متَّهمون خلال إيمان أبنائكم.]وينتقل السيد المسيح من إظهار أنه يخرج الشيَّاطين بروحه القدُّوس (إصبع الله) إلى السلطان الذي وهبه لتلاميذه الذين هم أبناء اليهود، ليجذب أنظارهم وأفكارهم من المناقشات الغبيَّة التي يُثيرونها خلال حقدهم وحسدهم إلى التطلُّع نحو السلطان الجديد الذي وُهب للتلاميذ خلاله، وإلى الإمكانيَّة التي صارت للبشريَّة خلال السيد المسيح. فما يفعله المسيح يسوع ربَّنا ليس اِستعراضًا لقوَّته الإلهيَّة وإنما هو رصيد يقدِّمه لحساب مملكته في قلوبنا، أي لحساب كنيسته التي في داخلنا، لذلك يقول: "فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [20]. بمعنى آخر يوَد إن يقول لهم: عوض إن تتَّهموني بأن أعمل بقوَّة بعلزبول تمتَّعوا بسلطاني الذي أهبه للبشر لتحطيم بعلزبول وطرد أرواحه الشرِّيرة من النفوس والأجساد المحطَّمة. في هذا يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [يقول: إن كنتٌ كإنسان قد صرتُ مثلكم، وأخرج الشيَّاطين بروح الله، فقد نالت الطبيعة البشريَّة فيّ أولًا الملكوت الإلهي، إذ صارت ممجَّدة بكسر سلطان الشيطان واِنتهار الأرواح الدنسة، هذا هو معنى الكلمات: "أقبل عليكم ملكوت الله". لكن اليهود لم يفهموا تدبير الابن الوحيد في الجسد، وأنه كان يجب عليهم بالحري إن يتأمَّلوا أن الابن الوحيد الجنس، كلمة الله قد صار جسدًا دون أن يتغيَّر عما هو عليه، ممجِّدًا طبيعة الإنسان، إذ لم يستنكف أن يأخذ حقارتها لكي يُضفي عليها غناه هو.]
+إذ نالت البشريَّة في المسيح يسوع سلطانًا بروحه القدُّوس وأعلن عن ملكوت الله فيها، فإنه لم يعد هناك مجال لمملكة الظلمة التي سادت زمانًا، والتي تملَّكت بشراسةٍ وعنفٍ وسلطانٍ خلال ضعفنا. لقد جاء القوي الذي يحطِّم من ظن في نفسه قويًا وأعطيناه الفرصة زمانًا ليسيطر علينا، إذ يقول السيد المسيح: "حينما يحفظ القوي داره متسلِّحًا تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه، فإنه يغلبه، وينزع منه سلاحه الكامل الذي اتكل عليه، ويوزِّع غنائمه" [21-22].هكذا يقدِّم لنا العمل المسياني في حياتنا بمثل إنسانٍ قوي متسلِّح في داره، تملك على القلب والعالم كدارٍ له، أسلحته الخبث والدهاء، لكن جاء المسيَّا الأقوى، سلاحه الحب والبذل يحطِّم بالحق الباطل، وبالحب الخبث، وبالنور الظلمة، فيطرد من استعمر القلب وملك على العالم، ساحبًا منه الغنائم. هكذا يوضِّح السيِّد أنه لا هوادة بين النور والظلمة، ولا اِتِّفاق بين المسيح وبليعال.
+ وبعد أن قدَّم السيد المسيح هذا المثل، قال هذا المبدأ: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق" [23]. هنا يبرز السيد المسيح خطورة الحياة السلبيَّة التي خلالها يظن الإنسان أنه يقف في منتصف الطريق. فإن السيد المسيح يقدِّم طريقين لا ثالث لهما: النور أو الظلمة، مملكة الله أو إبليس. من كان يعمل بروح بعلزبول لا يطرد الشيَّاطين لحساب مملكة الله، إنما ينحني لمملكة الظلمة، وهكذا من يحمل روح الله لا يقبل إلا أن يعمل لحساب مملكة الله. وكأنه يطالبهم بمراجعة أنفسهم ليعرفوا بالحق أين هو مركزهم؟ هل هم معه يعملون على الجمع لحسابه، أو ضدُّه يعملون على تشتيت النفوس؟
كأنه يقول لهم قد جئت لأجمع أبناء الله فيّ، هؤلاء الذين شتَّتهم العدو إبليس، فالشيطان لا يعمل معي، بل يود تشتيت من أجمعهم، فهل تطلبونني لتعملوا للجمع أم تطلبونه فتقومون بالتشتيت؟ وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إنه يقول: جئت لأخلِّص كل إنسان من يدّ الشيطان، لأنقذهم من خبثه الذي اِصطادهم به، لأحرِّر المأسورين، وأُشرق نورًا على الذين في الظلمة، أُقيم الساقطين وأشفي منكسري القلوب، وأجمع أبناء الله المشتَّتين. وأما الشيطان فهو ليس معي، بل عليّ. بالعكس هو ضدِّي، إذ يتجاسر ليشتِّت الذين أجمعهم وأخلِّصهم. كيف إذن يمكن لذاك الذي يقاومني ويبُث شروره ضد غاياتي أن يعطيني سلطانًا ضدُّه؟ أليس من الغباوة إن تتخيَّلوا هذا؟]فليعطينا الرب أن نسلك بالإيمان ونحياه ونظهره في حياتنا وألا نترك للشيطان أي مكان في قلوبنا أو حياتنا لنعيش مع المسيح وله كل أيام حياتنا ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد