المقالات

04 نوفمبر 2019

فلسَي الأرملة

إنها قصة عجيبة حدثت فى وجود الرب يسوع فى الهيكل: "جاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع. فدعا تلاميذه وقال لهم: الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12 42- 44) والأسئلة التى قد تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الواقعة المؤثرة هى كما يلى أولاً: كيف تتبرع أرملة فقيرة فى خزانة بيت الرب وهى تحتاج إلى مساعدة؟ ثانياً: كيف تتبرع بكل ما عندها، كل معيشتها. مع أن الناموس طالبها بالعشور فقط؟! ثالثاً: لماذا سمح السيد المسيح لهذه الأرملة أن تفعل ذلك، ثم تخرج وليس معها ما تقتات به وهى أرملة فقيرة؟! رابعاً: لماذا لم يأمر تلاميذه بمنحها مبلغاً من المال لمساعدتها بعد أن صارت لا تملك شيئاً بل "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)؟ إن القصة قد بدأت هكذا "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقى الجمع نحاساً فى الخزانة. وكان أغنياء كثيرون يلقون كثيراً فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع" (مر12: 41، 42)أراد السيد المسيح أن يلقن تلاميذه درساً فى العطاء، وأن يعطيهم فكرة عن مقاييسه التى تختلف عن مقاييس عامة البشرأراد أن يفهموا أن قيمة عمل الإنسان فى نظره لا تتوقف على حجم هذا العمل، ولكن على المشاعر والدوافع التى تقترن به، وأن كل فضيلة تخلو من الحب والاتضاع لا تحسب فضيلة عند الله لاشك أن هذه الأرملة قد امتلأ قلبها بمحبة الله ولهذا أعطت كل ما عندها، كل معيشتها. وبالفعل عاشت الوصية التى تقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" (مت22: 37)وفى تواضعها لم تخجل من أن تضع قدر ضئيل جداً من المال فى وسط الأغنياء الذين يملكون الكثير ووضعوا نقوداً كثيرة. لقد عرضت نفسها لسخرية واحتقار الآخرين، ولكن دافع الحب عندها جعلها تقدم أقصى ما عندها حتى ولو بدا ضئيلاً فى أعين الآخرين لقد عاشت هذه المرأة الوصية بغض النظر عن حالتها الشخصية فبالرغم من فقرها الشديد إلا أنها أرادت أن تنال بركة العطاء وتقديم العشور. ولكن ماذا تكون عشورها؟!.. ربما لا توجد عملة متاحة من النقود تساوى عشر الفلسين. وحتى لو وُجدت فإنها أرادت أن تقدم تكريماً لرب الجنود يتخطى الحد الأدنى للعطاء وهو العشور.. لذلك "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)، ولسان حالها يقول {اقبل يا رب تقدمتى المتواضعة التى لا تليق بجلالك.. ولكن هذا هو كل ما عندى}0 موقف السيد المسيح كان عطاء هذه المرأة عظيماً جداً فى عينى الرب لذلك لم يعترضها ولم يمنعها ولم يجرح مشاعرها بأن يمنحها صدقة فى ذلك التوقيت بالذات كانت الملائكة تسبح بتسابيح البركة وكان المشهد عظيماً إهتزت له أعتاب السماء على مثال سلم يعقوب حاضراً بملائكته الأطهار صاعدين ونازلين وسجّل الإنجيل المقدس هذا المشهد العجيب ليكون عبرة للكنيسة فى جميع الأجيال إنها أنشودة حب ابتهج لها قلب السيد المسيح وأراد أن يلفت أنظار تلاميذه ليقفوا مبهورين أمام هذا المشهد العظيم الذى كان حضوره فيه هو مصدر جلاله وعظمته وخرجت الأرملة الفقيرة بكل وقار القداسة، محاطة بجماهير الملائكة الذين اجتذبهم حب هذه المرأة وتواضعها إن هذه الأرملة الفقيرة التى كانت غنية بمحبتها وتواضعها هى رمز للكنيسة التى ترملت بعد خروجها من الفردوس وقال لها الرب بفم اشعياء النبى "لا تخافى لأنك لا تخزين. ولا تخجلى لأنك لا تستحين. فإنك تنسين خزى صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لأن بعلك هو صانعك رب الحنود اسمه ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى. لأنه كإمرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك لحظة، وبإحسان أبدى سأرحمك قال وليّك الرب.." (أش54: 4-8) لاشك أن الرب قد أحسن كثيراً إلى هذه المرأة الأرملة الفقيرة بعد خروجها من الهيكل وتولاها بعنايته بعد أن قدّمت له كل ما عندها.. كل معيشتها وهكذا أيضاً الكنيسة من خلال القديسة مريم العذراء قد قدّمت كل ما عندها بكل الحب والاتضاع جسداً وروحاً إنسانياً عاقلاً إتخذه الرب ناسوتاً كاملاً من العذراء مريم ليدخل به مع البشرية فى عهد جديد. وكان هذا الجسد والروح الإنسانى اللذين إتخذهما الرب هو ما يرمز إليه فلسَي الأرملة اللذان لهما أعظم قيمة فى عينى الرب "ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة" (مر12: 43) وهكذا نسمع الرب يقول هذه الأنشودة الشعرية بفم اشعياء النبى "أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية: هأنذا أبنى بالإثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك وأجعل شُرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيراً" (أش54: 11- 13) بعد ميلاد الرب البتولى من العذراء مريم بفعل الروح القدس، صار السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها. وليس للعذراء مريم فقط بل للكنيسة كلها كان السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها كما نقول فى أوشية الإنجيل {لأنك أنت هو حياتنا كلنا}وجاء يوم الفداء وقدّمت العذراء مريم راضية على الصليب ابنها الوحيد ناسوتياً، وقدّمت الكنيسة كل ما عندها، كل معيشتها فى خزانة الرب.. وقبل الآب تقدمة البشرية إليه، التى هى نفسها عطية الآب للبشرية.. وكانت أعظم تقدمة.. وكان سلم يعقوب.. وكان رضى الآب نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير السيدة العفيفة دميانة بلقاس
المزيد
03 نوفمبر 2019

ملابس رئيس الكهنة ج5

وَصْف الجُبَّة :- ﴿ وَتَصْنَعُ جُبَّةَ الرِّدَاءِ كُلَّهَا مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ . وَتَكُونُ فَتْحَةُ رَأْسِهَا فِي وَسَطِهَا . وَيَكُونُ لِفَتْحَتِهَا حَاشِيَةٌ حَوَالَيْهَا صَنْعَةَ الْحَائِكِ . كَفَتْحَةِ الدِّرْعِ يَكُونُ لَهَا . لاَ تُشَقُّ ﴾ ( خر 28 : 31 – 32 ) الجُبَّة ثَوْب وَاسِعْ طَوِيلٌ يَصِل إِلَى القَدَمَيْن بِدُون أكْمَام وَتَنْتَهِي أذْيَالُه بِرُّمَانَات مِنْ أسْمَانْجُونِي وَأُرْجُوَان وَقِرْمِز وَجَلاَجِل مِنْ الذَّهَبْ الخَالِص وَتُسَمَّى " جُبَّة الرِّدَاء "لأِنَّ الرِّدَاء يُلْبَس فَوْقَهَا وَكَانَتْ كُلَّهَا مِنْ أسْمَانْجُونِي " أزْرَق سَمَاوِي " إِشَارَة إِلَى الصِفَة السَّمَاوِيَّة لِرَئِيس الْكَهَنَة الَّتِي تَتَنَاسَبْ مَعَ رِسَالِة الكَهَنُوت إِذْ كَانَ لاَبُدْ أنْ يَتَحَلَّى بِالصِفَات السَّمَاوِيَّة لأِنَّهُ خَادِم الأُمور السَّمَاوِيَّة بَلْ قِيلَ عَنْ رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الأعْظَمْ أنَّهُ إِجْتَازَ السَّموَات وَصَارَ أعْلَى مِنَ السَّموَات ( عب 7 : 26 ) وَجُبَّة الرِّدَاء يَلْبِسْهَا رَئِيسُ الْكَهَنَة تَحْتَ الرِّدَاء مُبَاشَرَةً وَكَأنَّهَا تُشِير إِلَى طَبِيعِة الكَاهِن الدَّاخِلِيَّة حَيْثُ الفِكْر السَّمَاوِي الَّذِي يَتَأصَّل فِي الدَّاخِل فَنَجِدُه يُقَدِّم السَّمَاء المُعَاشَة دَاخِلِياً لَيْسَ مُجَرَّدٌ مَادَّة لِلوَعْظ وَلكِنَّهَا تَمْلأ قَلْبُه وَفِكْرُه وَكُلَّ أحْشَائُه وَكَانَتْ قِطْعَة وَاحِدَة مَنْسُوجَة كُلَّهَا مِنْ فَوْق لاَ تُشَقّ وَعَدَم شَقَّهَا إِشَارَة إِلَى أنَّ السَّمَاوِي فِي طَبِيعَتِهِ غِير مُنْقَسِمْ فِي كَمَالُه وَهذَا مَا يُرِيدْ أنْ يُعَلِّمْنَا إِيَّاه رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الأعْظَم أنْ تَكُون أفْكَارْنَا وَمَشَاعِرْنَا وَاتِجَاهَاتْنَا تُعَبِّر عَنْ أشْوَاق سَمَاوِيَّة غِير مُنْقَسِمَة فَنُقَدِّم كُلَّ القَلْب وَالقَلْب الوَاحِدٌ ( Single Heart ) فِي مَحَبِّتُه وَمَخَافَتُه . شَقّ الجُبَّة :- فَتْحَة وَحَاشِيَة :- وَكَانَ لِفَتْحَتِهَا حَاشِيَة حَوَالِيهَا صَنْعِة الحَائِك لِتَكُون قَوِيَّة حَتَّى أنَّهَا تُشَبَّه بِفَتْحِة الدِّرْع وَالدِّرْع مِنْ أدَوَات الحَرْب إِذْ تُوضَعْ بِهَا حَوَاشَي مَتِينَة لِتَقْوِيَتْهَا وَكَأنَّ مَلاَبِس رَئِيسُ الْكَهَنَة هِيَ كَالأسْلِحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُعَلِّمْنَا بُولِس الرَّسُول الدِّرْع ( الجُبَّة ) الخُوذَة ( الْعَمَامَة ) المَنْطِقَة إِنَّهَا تُعَبِّر عَنْ حَالِة الإِسْتِعْدَادٌ الكَامِل لِلدُخُول فِي الحَرْب مَعَ أجْنَادٌ الشَّر الرُّوحِيَّة وَهكَذَا لاَ تُوْجَدٌ أيَّة قُوَّة تَسْتَطِيعْ أنْ تُؤَثِّر عَلَى تِلْكَ الجُبَّة الكَهَنُوتِيَّة المَتِينَة فَلاَ تَتَمَزَق بِسَبَبْ لِبْس الجُبَّة وَخَلْعِهَا إِذْ كَانَ مَحْظُوراً تَمْزِيق هذِهِ الجُبَّة .. وَكَانَتْ عَاقِبَة هذَا الأمر المَوْت . لاَ تَشُّقُوا ثِيَابَكُمْ :- هكَذَا نَجِدٌ فِي سِفْر اللاَّوِيِّين ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِهَارُون وَأَلِعَازَارَ وَإِيثَامَارَ ابْنَيْهِ لاَ تَكْشِفُوا رُؤُوسَكُمْ وَلاَ تَشُقُّوا ثِيَابَكُمْ لِئَلاَّ تَمُوتُوا وَيُسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ ﴾ ( لا 10 : 6 ) وَهُنَا نَجِدٌ إِبْدَاع الوَحْي الإِلهِي فِي تَحْقِيقٌ قَصْدٌ الله مِنْ إِنْتِهَاء مُمَارَسَة كَهَنُوت العَهْد القَدِيم رَأيْنَا أنَّ قِيَافَا رَئِيسُ الْكَهَنَة رُبَّمَا دُونَ أنْ يَشْعُر أثْنَاء مُحَاكَمِة رَبَّنَا يَسُوع يَشُقٌ جُبَّتَهُ ( مر 14 : 63 ) .. فَكَانَ إِعْلاَناً عَلَى أنَّ قِيَافَا لَمْ يَعُدٌ رَئِيسُ الْكَهَنَة .. وَكَأنَّهُ يُشِير إِلَى قِيَام كَهَنُوت آخَر جَدِيد عِوَض هذَا المَحْكُوم عَلَيْهِ بِالمَوْت لأِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ المَكْتُوب ﴿ لاَ تَشُقُّوا ثِيَابَكُمْ لِئَلاَّ تَمُوتُوا ﴾ .. فَجَاءَ يَسُوع رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الحَقِيقِي الَّذِي لَمْ تُشَقٌ ثِيَابُه .. إِذْ هُوَ حَي كُلَّ حِينٍ .. وَسُنُوهُ لاَ تَفْنَى وَكَهَنُوتُه لاَ يَنْتَهِي .. وَأتَى لَنَا بِكَنِيسَتَهُ المُقَدَّسَة الَّتِي هِيَ عَرُوسُه الحَقَّانِيَّة الَّتِي تَحْمِل صِفَاتُه فَنَجِدٌ أنَّ كَنِيسَتُه أهَمْ مَا يُمَيِزُهَا أنَّهَا وَاحِدَة وَحِيدَة .. إِنَّهَا تُمَثِّل ثَوْب يَسُوع الَّذِي قِيلَ عَنْهُ ﴿ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ ﴾ ( يو 19 : 23 ) . رُمَّانَات وَجَلاَجِل :- وَضْع الرُّمَانَات وَالجَلاَجِل :- ﴿ وَتَصْنَعُ عَلَى أَذْيَالِهَا رُمَّانَاتٍ مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ وَأَرْجَُوَانٍ وَقِرْمِزٍ . عَلَى أَذْيَالِهَا حَوَالَيْهَا وَجَلاَجِلَ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَهَا حَوَالَيْهَا . جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً عَلَى أَذْيَالِ الْجُبَّةِ حَوَالَيْهَا . فَتَكُونُ عَلَى هَارُون لِلْخِدْمَةِ لِيُسْمَعَ صَوْتُهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ أَمَامَ الرَّبِّ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ ﴾ ( خر 28 : 33 – 35 ) .. وَالجُبَّة تُوضَعْ عَلَى أذْيَالُهَا رُمَّانَات وَهيَ عِبَارَة عَنْ كُرَات صَغِيرَة مَصْنُوعَة مِنْ خُيُوط مَجْدُولَة مُلَوَنَة بِذَات الألْوَان البَدِيعَة الَّتِي لِلرِّدَاء .. وَجَلاَجِل أي أجْرَاس صَغِيرَة مِنْ الذَّهَبْ وَكَانَتْ الرُّمَانَات وَالجَلاَجِل تُوضَعْ بِالتَّوَالِي حَوَالَي ذَيْل الجُبَّة .. وَيُقَال أنَّ عَدَد كُلٍّ مِنْهَا كَانَ إِثْنَيْنِ وَسَبْعِين . رَمْز الرُّمَانَات :- وَهُنَا نَتَعَجَّبْ لِمَاذَا يَهْتَمْ الله بِهذِهِ التَّفَاصِيل الدَّقِيقَة وَالعَجِيبَة .. إِلَى أي شَيْءٍ تَرْمُز الرُّمَانَات وَجَلاَجِل الذَّهَب ؟ الرُّمَان مَذْكُور فِي الكِتَاب المُقَدَّس بِصِفَة خَاصَّة كَثَمَر لأِرْض المَوْعِد وَهذَا مَا يُدْرِكَهُ الشَّعْب جَيِّداً .. وَحِينَ أرْسَلَ مُوسَى النَّبِي جَوَاسِيس إِلَى أرْض المَوْعِد أحْضَرُوا مَعَهُمْ ثَمَر الرُّمَان .. ﴿ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَانِ وَالتِّينِ ﴾ ( عد 13 : 23 ) .. وَمِنْ المَعْرُوف أيْضاً عَنْ الأرْض الجَيِّدَة الَّتِي أدْخَلَهُمْ الرَّبَّ إِلَيْهَا أنَّهَا ﴿ أَرْضِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَكَرْمٍ وَتِينٍ وَرُمَّانٍ . أَرْضِ زَيْتُونِ زَيْتٍ وَعَسَلٍ ﴾ ( تث 8 : 8 ) .وَالمُلاَحَظْ أنَّ هذِهِ الثِّمَار لاَ تُذْكَر عَنْ أرْض مِصْر بَلْ يُذْكَر ﴿ الْقُِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ ﴾ ( عد 11 : 5 ) .. وَهيَ ثِمَار تَظْهَر عَلَى سَطْح الأرْض مُبَاشَرَةً أوْ فِي بَاطِنْهَا .. فَطَعَام مِصْر مِنْ مَصَادِر أرْضِيَّة مُنْخَفِضَة .. بَيْنَمَا ثَمَر الأرْض المُقَدَّسَة مُرْتَفِعْ فَوْقَ الأرْض .. يَنْضُج فِي الهَوَاء النَقِي وَالرُّمَان يُشِير إِلَى الحَيَاة المُثْمِرَة العَامِلَة يَحْتَوِي عَلَى حَبَّات صَغِيرَة يُحِيطُ بِهَا سَائِل أحْمَر حُلْو المَذَاق قَدْ تُشِير إِلَى مَفْعُول دَمٌ الذَّبَائِح فِي حَيَاة الخَاطِئ وَبِالتَّالِي تَرْمُز إِلَى دَمٌ الْمَسِيح الَّذِي أعْطَى حَيَاة لِكُلَّ العَالَمْ . رَمْز الجَلاَجِل الذَّهَبِيَّة : تُشِير لِلتَّسْبِيح وَالكِرَازَة الَّتِي يَسْمَعْهَا العَالَمْ .. وَرَئِيسُ الْكَهَنَة حِينَ يُصَلِّي وَيُسَبِّح يَسْمَعَهُ الشَّعْب وَيُصَلِّي وَرَاءَهُ فَلاَ يَمُوْت .. وَهكَذَا فَمَنْ يَحْيَا سَمَاوِيّاً يَكُون لَهُ ثَمَر يِفَرَّح الله ( رُمَّانَات ) وَتَسْبِيح وَكِرَازَة فَيُنْقِذ أُلُوف مِنْ مُوْت مُحَقَّقٌ . إِقْتِرَان الرُّمَانْ بِالجَلاَجِل : الرُّمَانَات مِنْ أسْمَانْجُونِي وَأُرْجُوَان وَقِرْمِز وَبُوصٌ مَبْرُومٌ .. إِنَّهَا تُعَبِّر عَنْ ثِمَار نَقِيَّة صَادِرَة مِنْ إِنْسَان سَمَاوِي .. وَبَيْنَ كُلُّ رُمَّانَتَيْن هُنَاكَ جِلْجِل ذَهَبْ فَكَانَ الصَوْت الذَّهَبِي يَقْتَرِنْ بِالثَمَر الشَهِي وَإِقْتِرَان الرُّمَان بِالأَجْرَاس إِشَارَة إِلَى إِقْتِرَان السُلُوك بِالشِّهَادَة .. وَالشَّهَادَة بِالحَيَاة فَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى خِدْمِة رَبَّ المَجْد يَسُوع نَجِدٌ أنَّ كُلَّ مَا عَلَّمَ بِهِ عَمَلَ بِهِ .. فِي الحُبْ .. وَالإِتِضَاع وَالبَذْل .. وَالصُّوم وَالصَّلاَة وَالسَّهَر هكَذَا وَجَدْنَا رُمَّان مُتَفِقٌ مَعَ جَلاَجِل .. وَهكَذَا يَجِبْ فِي أوْلاَدٌ الله أنْ يَقْتَرِن كَلاَمَهُمْ بِأفْعَالِهِمْ وَإِلاَّ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْل أبُونَا إِسْحَق لِيَعْقُوب ﴿ الصَّوْتُ صَوْتُ يَعْقُوبَ وَلكِنَّ الْيَدَيْنِ يَدَا عِيسُو ﴾ ( تك 27 : 22 ) .. وَ" اليَدَيْن " تُشِير إِلَى الأعْمَال .. فَلْنَحْرِص عَلَى ألاَّ نَحْيَا هذَا التَنَاقُض .. بَلْ لِيَكُنْ لَنَا صَوْت يَعْقُوب وَأيْضاً يَدَيّ يَعْقُوب ( رُمَّان وَجَلاَجِل ) . رَنِينْ القَدَاسَة وَالسَّلاَم : وَسَبَقٌ أنْ ذَكَرْنَا أنَّ رَئِيسُ الْكَهَنَة لاَ يَدْخُل بِهذِهِ المَلاَبِس إِلَى قُدْس الأقْدَاس بَلْ كَانَ يَدْخُل لِيَرُش الدَّمٌ يَوْم الكَّفَّارَة العَظِيمْ لاَبِساً ثِيَاب كِتَّان فَقَطْ وَلَيْسَ ثِيَاب المَجْد وَالبَهَاء وَبِذلِك لَمْ تَكُنْ هُنَاك جَلاَجِل دَاخِل قُدْس الأقْدَاس وَمِنْ هُنَا فَالإِعْتِقَادٌ السَائِدٌ بِأنَّ هذِهِ الجَلاَجِل لِيَطْمَئِنْ الشَّعْب أنَّ رَئِيسُ الْكَهَنَة لاَ يَزَال حَيّاً هُوَ إِعْتِقَادٌ خَاطِئ بَلْ بِحَسَبْ النَّص ﴿ لِيُسْمَعَ صَوْتُهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ أَمَامَ الرَّبِّ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ ﴾ ( خر 28 : 35 ) .. أي أنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْت الجَلاَجِل أمَام الله فَإِنَّهُ يَمُوْت وَلَيْسَ لِكَيْ يَعْلَمْ الشَّعْب أنَّهُ لَمْ يَمُتْ .. وَهكَذَا كَانَ هَارُون يُزَوَدٌ بِتِلْكَ الجَلاَجِل الذَّهَبِيَّة الَّتِي تُعْطِي رَنِيناً إِلَهِيّاً عَذْباً عِنْدَمَا يَدْخُل إِلَى القُدْس .. فَلاَ يَكُون صَوْت خَطَوَاتُه كَصَوْت إِنْسَانٍ عَادٍ بَلْ يُعَبِّر عَنْ سُلُوك سَمَاوِي لِئَلاَّ يَمُوْت .. وَهكَذَا فِي خُرُوجِهِ إِلَى المَحَلَّة كَانَتْ خَطَوَاتُه تُعْلِنْ نَفْس الحَقّ فَيَكُون سُلُوكُه مُبَارَكاً فِيهِ رَنِينْ القَدَاسَة وَالسَّلاَم وَيُعَلِّقٌ العَلاَّمَة أُورِيچَانُوس عَلَى عَمَل هذِهِ الجَلاَجِل قَائِلاً .. ﴿ هذِهِ الجَلاَجِل الَّتِي يَنْبَغِي أنْ تُعْطِي صَوْتاً كُلَّ حِين كَانَتْ مُثَبَتَة حَوْل ذِيل جُبَّتِهِ وَالغَرْض مِنْ ذلِك كَمَا أظُنْ هُوَ أنَّهُ يَنْبَغِي ألاَّ تَصْمُتُوا قَطٌ عَنْ الكَلاَم عَنْ الأيَّام الأخِيرَة وَالدَّيْنُونَة .. بَلْ يَلْزَم أنْ تُذِيعُوا دَائِماً هذِهِ الأُمور .. وَبِهذَا يَصِير إِنْسَانَكُمْ الدَّاخِلَي مُزَيَناً مِثْلَ رَئِيسُ الْكَهَنَة الَّذِي يُمْكِنَهُ أنْ يَدْخُل لَيْسَ فَقَطْ إِلَى القُدْس بَلْ أيْضاً إِلَى قُدْس الأقْدَاس .. وَهكَذَا يَقْدِر أنْ يَقْتَرِبْ مِنْ كُرْسِي الرَّحْمَة حَيْثُ الشَّارُوبِيم وَحَيْثُ يَتَرَاءَى لَهُ الله وَيُكَلِّمَهُ .. وَقَدْ يَكُون القُدْس هُوَ تِلْكَ الأشْيَاء الَّتِي يُمْكِنْ الحُصُول عَلَيْهَا فِي الزَّمَنْ الحَاضِر بِالسُلُوك المُقَدَّس فِي العَالَمْ الحَاضِر .. أمَّا قُدْس الأقْدَاس الَّذِي يَدْخُلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَة مَرَّة وَاحِدَة فَقَطْ فَهُوَ الطَّرِيقٌ إِلَى السَّمَاء حَيْثُ كُرْسِي الرَّحْمَة وَالكَارُوبَيْنِ قَائِمَيْن .. حَيْثُ يُمْكِنْ أنْ يُسْتَعْلَنْ الله لأِنْقِيَاء القُلُوب ﴾ . ثَمَر الرُّوح : وَالْمَسِيح حِينَ دَخَلَ لِلسَّمَاء حَلَّ الرُّوح القُدُس فِي دَاخِلْنَا فَكَانَ صَوْت كِرَازِة الرُّسُلٌ الذَّهَبِي وَكَانَ حُلُول الرُّوح القُدُس فَكَانَتْ الحَيَاة لِلعَالَمْ وَثِمَار حُلُول الرُّوح القُدُس فِينَا .. وَلاَحِظْ أنَّ لُونْ عَصِير الرُّمَان الأحْمَر الَّذِي سَبَقٌ وَتَكَلَّمْنَا عَنْهُ إِشَارَة لِدَمٌ الْمَسِيح الَّذِي سُفِكَ مِنْ أجْل شَعْبِهِ .. فَأرَادَ شَعْبُ الْمَسِيح أنْ يَسْفِكُوا دِمَائِهِمْ حُبّاً لأِجْلِهِ .. فَهُوَ عَصِير الحُبْ .. وَكَثِيراً مَا نَجِدٌ الرُّمَان وَالكُرُوم فِي الكِتَاب المُقَدَّس يُخْبِرَان عَنْ ثِمَار مَحَبِّة الله .. فَنَجِدٌ مُنَاجَاة لِعَرُوس النَّشِيد ﴿ هَلْ أَقْعَلَ الْكرْمُ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَانُ ﴾( نش 6 : 11 ) .. وَأيْضاً يَقْتَرِن عَصِيرَهُمَا مَعاً .. ﴿ أَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي ﴾( نش 8 : 2 ) .. هذِهِ هِيَ الثِّمَار الَّتِي تُبْهِجُ قَلْبَ الحَبِيبْ .. وَهيَ تَرْمُز إِلَى ثَمَر الرُّوح الَّذِي هُوَ ﴿ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ ﴾ ( غل 5 : 22 – 23 ) .. وَكَأنَّ هذِهِ الثِّمَار مُجْتَمِعَة مُرْتَبِطَة مَعاً كَمَا فِي عَنْقُودٌ وَاحِدٌ وَلِذلِك تُسَمَّى ثَمَر الرُّوح وَلَيْسَ ثِمَار الرُّوح . صُوْت الكِرَازَة وَالثَّمَر : وَهكَذَا نَجِدٌ أنَّهُ فِي صَوْت الكِرَازَة نَجِدٌ رَنِينْ الفَرَحٌ الَّذِي لاَبُدْ أنْ يَقْتَرِن بِالثَّمَر المُفْرِح ( الرُّمَان ) أرَادَ الله أنْ يَذْكُر جِلْجِل ذَهَبْ وَرُمَّانَة بِهذَا التَّرْتِيبْ الإِلَهِي فَكَأنَّ الشِّهَادَة الصَّحِيحَة لِحَقَائِق الإِنْجِيل لاَبُدْ أنْ تُنْشِئ فِينَا أثْمَاراً صَالِحَة لِمَجْدِهِ وَخِدْمَتِهِ .. مِنْ هُنَا نَرَى أنَّ صَوْت الرُّوح القُدُس أوَّلاً وَنَتِيجِة الإِسْتِجَابَة ثِمَار مُفْرِحَة وَهذَا مَا رَأيْنَاهُ يَحْدُث مَعَ الأبَاء الرُّسُلٌ الأطْهَار حِينَ سُمِعَ صَوْت الجَلاَجِل فِي يَوْم الخَمْسِين فِي الشِّهَادَة الَّتِي أعْطَاهَا رُوح الله عَلَى أفْوَاه الرُّسُلٌ وَكَانَتْ تِلْكَ الشِّهَادَة مُقْتَرِنَة أيْضاً بِثَمَر الرُّوح فِي حَيَاة وَسُلُوك الَّذِينَ آمَنُوا بِوَاسِطَة تِلْكَ الشِّهَادَة .. فَنَجِدٌ أنَّ كِرَازِة الأبَاء الرُّسُلٌ أي صَوْت جَلاَجِلْهُمْ بَلَغَتْ إِلَى أقَاصِي الأرْض لِمَجْد الله وَنَشْر مَلَكُوتُه .. فَأتَتْ بِثِمَار كَثِيرَة وَلاَزَالَتْ الكَنِيسَة تَدُق أجْرَاسُهَا عَلَى الدَوَام رَمْزاً لِعَدَمٌ سُكُوت الْكَهَنَة عَنْ الكِرَازَة وَالتَّحَدُّث عَنْ التَوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الله . الجُبَّة رِدَاء المُلُوك :- وَنُلاَحِظْ أنَّ الجُبَّة كَانَتْ أيْضاً مِنْ مَلاَبِس المُلُوك ( 1أخ 15 : 27 ) وَهذَا يُؤَكِّدْ أنَّ الله أرَادَ أنْ يَجْعَل مَقَام رَئِيسُ الْكَهَنَة فِي مَقَام المُلُوك وَالرُّؤَسَاء .. وَهذَا الأمر لاَ يَتَحَقَّقٌ بِدَرَجَة مُطْلَقَة إِلاَّ فِي الْمَسِيح .. فَهُوَ فِي ذَاتُه المَلِك وَالكَاهِن فَهُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ سِبْط يَهُوذَا ( يَخُص المُلُوك ) وَأيْضاً عَلَى رُتْبِة مَلْكِي صَادِق ( الكَهَنُوت ) .. إِذْ لَهُ المَجْدٌ المُلُوكِي وَلَهُ أيْضاً القَلْب الكَهَنُوتِي . القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك الاسكندرية عن كتاب مَلاَبِس رَئِيس الكَهَنَة
المزيد
02 نوفمبر 2019

إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!! على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!.. إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.. إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،.. هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!.. فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً".. كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى.. لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!.. لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
01 نوفمبر 2019

مكانة الكتاب المقدس في التعليم الكنسي

في الآونة الأخيرة أُثيرت بعض الموضوعات الخاصة بالتعليم. ودائمًا نقول إن حياة الكنيسة القبطية تسير على قدمين، القدم الأول اسمه التعليم، والقدم الثاني اسمه التكريس. لذلك التعليم له المجال الأول، مثلما نطلق على السيد المسيح "المعلم الصالح" وأول شيء نتعلمه في الكنيسة هو مصادر التعليم في الكنيسة والمراجع الرئيسية والأساسية، وهي تشبة مثلثًا في قمته الكتاب المقدس، والنقطتان التاليتان هما: (1) الليتوجيات والأسرار التي حُفِظت فيها الصلوات ووُضِعت فيها الإيمانيات، (2) والنقطة الثانية أقوال وشروحات الآباء. أولاً: الكتاب المقدس «اليومَ، إنْ سمِعتُمْ صوتَهُ (في الإنجيل)، فلا تُقَسّوا قُلوبَكُمْ...» (العِبرانيّينَ 3: 15). هناك صيحات في العالم الآن تتكلم على الإنجيل وتقلّل من قدره، وتدّعي أن الإنجيل به حكايات غير حقيقية وخيالية، به عبارات غير مرغوبة، وهناك أسفار قديمة الفكر، وهناك من يشوه معاني بعض الآيات... الخ. سوف نتكلم عن مكانة الكتاب المقدس في التعليم، لنفهم وضعية الكتاب المقدس وعمله في حياتنا كلنا. هناك ثلاث عبارات هامة... العبارة الأولى للقديس جيروم: "إن جهلنا بالكتاب هو جهلنا بالمسيح"، أي أن الذي لا يعرف الكتاب المقدس لا يعرف المسيح، فالكتاب المقدس وثيقة تقدم لنا من هو شخص المخلّص، من هو المسيح. هناك من يجهل الإنجيل ولا يعيش في الإنجيل، يعيش في فكره الخاص، وكما قال بولس الرسول "سمو الحكمة البشرية"، وعلى قدر معرفتك بالإنجيل على قدر معرفتك بالسيد المسيح. العبارة الثانية للقديس أغسطينوس: "الكتاب المقدس هو فم المسيح"، ولا يستطيع أحد أن يقلّل من قدر سلطة الكتاب المقدس في التعليم. الكتاب المقدس كما هو من سفر التكوين لسفر الرؤيا، كل أسفاره قانونية، وكل كلمة في هي من فم المسيح. العبارة الثالثة القديس يوحنا ذهبي الفم: "عدم معرفة الكتب المقدسة هو علّة كل الخطايا". لماذا يعيش الناس في الخطية؟ لأن الإنجيل لا يعيش بداخلهم، «فلنَجتَهِدْ أنْ نَدخُلَ تِلكَ الرّاحَةَ(التي هي في لإنجيل)، لئَلّا يَسقُطَ أحَدٌ في عِبرَةِ العِصيانِ هذِهِ عَينِها» (العِبرانيّينَ 4: 11)، أي أن يعصى الإنسان كلمة الرب وينساها ولا يعطيها قدسيتها واحترامها.. وبعدها يقول الرسول: «لأنَّ كلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وفَعّالَةٌ وأمضَى مِنْ كُلِّ سيفٍ ذي حَدَّينِ، وخارِقَةٌ إلَى مَفرَقِ النَّفسِ والرّوحِ والمَفاصِلِ والمِخاخِ، ومُمَيِّزَةٌ أفكارَ القَلبِ ونيّاتِهِ» (العِبرانيّينَ 4: 12)... اعرف هذه الثلاث عبارات. لدينا جميعًا الإنجيل، ونحن في زمن يتوفر فيه الإنجيل بكل الأشكال والأحجام. فيما مضى كان الإنجيل غير متوفر في كل مكان، وقبل اختراع الطباعة كان الكتاب المقدس يُنسَخ في سنوات، أمّا الآن فهو متاح للجميع بكل الصور. المستويات الثلاثة للإنجيل في التعليم: ١- القراءة في الكتاب المقدس هي اكتشاف أن تكتشف المعنى والكلمة والعمق الذي يدخلك فيه الكتاب. أول مستوى أن تعيش في الكتاب، أنك تكتشف وتعرف، تكتشف النص والكلمة والمعنى وربط الآيات، وآخر آية في الكتاب المقدس هي «آمينَ. تعالَ أيُّها الرَّبُّ يَسوعُ» (رؤيا 22: 10).. مع كل كلمة تقرأها ليقل قلبك "آمينَ. تعالَ أيُّها الرَّبُّ يَسوعُ.. أريد أن أراك يا رب في نص الإنجيل". ويُقال أننا بينما نقرأ الإنجيل فنحن نبحث على الكلمة في وسط الكلمات، نبحث عن المسيح بين كلمات الإنجيل، تقرأ النص لأكثر من مرة لتكتشف أعماقه، وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "الكتاب المقدس منجم لآلئ". اقرأ الإنجيل وعلى قدر أمانتك يكشف لك الله لآلئ. عندما تقرأ الإنجيل أنت تتنفس أنفاس الله، لأن الكتاب المقدس مكتوب بالوحي الإلهي من خلال الرسل والأنبياء المسوقين بالروح القدس، وأنت تتنفس كاتبه. أنت تتقابل مع من وضع الكتاب المقدس مباشرةً، وهذا الاكتشاف يحتاج إلى دراسة لتفهم، وهناك الكثير من الكتب تساعدك على الفهم، وسوف يكون شيئًا مخجلًا أن تقف أمام السيد المسيح وأنت تجهل الكتاب. 2- القراءة صلاة يجب أن تصلّي قبل القراءة وبعدها، وما تقرأه حوِّله إلى مادة صلاة. القراءة صلاة... وما نقرأه يعطينا مادة صلاة. القداس والتسبحة والليتورجيات عبارة عن آيات من الإنجيل. إذا أردت أن تعيش الإنجيل وتُعلّم به يجب أن يكون بالنسبة لك صلاة، والصلاة هي التي سوف تجعلك تفهم. يقول المرنم عن الإنسان البار إنه «في ناموسِهِ يَلهَجُ نهارًا وليلًا» (مزمور 1: 2)، أي أن كلمة الله في حياته وفي قلبه. صلِّ لكي تفهم الكتاب أكثر. 3- القراءة حياة حياتك تكون بحسب الإنجيل.. الضلع الثالث هو أن تعيش الكتاب، فالكتاب المقدس ليس كتابًا نظريًا، بل يجب أن تعيشه. هناك من يربّي أولاده كما يسمع، وهناك من يربي أولاده بالإنجيل، وتُسمّى تربية النعمة «فقط عيشوا كما يَحِقُّ لإنجيلِ المَسيحِ» (فيلبي 1: 27). الكتاب المقدس متجدد في كل يوم، ويصلح لكل الأزمان، هو كتاب خلاص، ولذلك عندما نشرح العقيدة أو الإيمان أو الطقس أو المعرفة في الكنيسة، يجب أن تكون معتمده على الإنجيل أولاً، ثم يأتي بعده شروحات الآباء. وإذا شرحت العقيدة من خلال الكتاب المقدس هذا يكفي جدًا، لأن الكتاب وُجِّه لكل البشر. في سفر الرؤيا يقول: «طوبَى للّذي يَقرأُ ولِلّذينَ يَسمَعونَ أقوالَ النُّبوَّةِ، ويَحفَظونَ ما هو مَكتوبٌ فيها، لأنَّ الوقتَ قريبٌ» (رؤيا يوحَنا 1: 3). من ضعفات هذا الزمان أن الناس انشغلت بدراسات في مجالات كثيرة وليس في الإنجيل، لذلك ضعوا الكتاب المقدس أمامكم قبل كل شيء، اقرأ واسمع واحفظ الإنجيل، وحفظك للإنجيل ينقّي ويطهّر قلبك من أفكار وشرور كثيرة، وعندما تحفظ سوف تشبع من كلمة الله (اقرأ- اسمع – احفظ – اشبع – استعد ). الكتاب المقدس ينطبق عليه آيات كثيرة منهم «تكلَّمْ يا رَبُّ لأنَّ عَبدَكَ سامِعٌ» (1صموئيل 3: 9)، اجعلها أمامك عندما تقرأ الكتاب المقدس، فقد يكلمك الله وأنت مشغول ولا تسمعه. ومن العبارات الجميلة «لا أُطلِقُكَ إنْ لَمْ تُبارِكني» (تكوين 32: 26)، وبعد القرأة تشعر بالتعزية «نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا.وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ.خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا أَشْهي مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ» (مزمور 19). الكتاب المقدس له المكانه الأولى في التعليم، وهو المرجع الأول والأساسي. نحتاج باستمرار أن نقرأ الكتاب ونكتشف ونصلي ونفهم ونعيش لتصير حياتنا كلها بحسب الكتاب المقدس. ضع الكتاب المقدس دائمًا أمامك، علّم بيتك كيف يقرأ الإنجيل، ضع أمامك خطة بمشورة أب اعترافك لتعرف طريقك وتعيش فيه. يعطينا الله أن نكون في هذه الكلمة المقدسة ثابتين على الدوام، لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. قداسة البابا المعظم الانبا تواضروس الثانى
المزيد
31 أكتوبر 2019

التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سفر التكوين ج5

11- وبين اصحاح 5 : 32 " و كان نوح ابن خمس مئة سنة و ولد نوح ساما و حاما و يافث" و اصحاح11 : 10 "هذه مواليد سام لما كان سام ابن مئة سنة ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين".ففى الاول (وكان نوح ابن 500 سنه وولد نوح ساما وحاما ويافث) وفى الثانى (لما كان سام ابن مائه سنه ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين) مع ان الطوفان حصل اذ كان نوح ابن 600 سنه (تك 7 : 11) فنجيب لا يفهم من قوله (ولد نوح ساما وحاما ويافث) ان ساما كان الاكبر لانه لا عبره بتقديم الاسماء فذكر ساما الاول باعتباره سيكون ابا لابراهيم واسرائيل وداود والمسيح وفى اصحاح10 ذكرت المواليد الثلاثه فذكر اولا يافث عد 2 وثانيا حام عد 6 وثالثا عد 21 فاذا لا عبره من تقديم الاسماء وتاخيرها. ويفهم من (تك : 21) ان اكبر اولاد نوح يافث ومن (تك 9: 24) ان اصغر اولاد حام. فاذا يكون سام الابن الثانى. وقول الكتاب (وكان نوح ابن 500 سنه وولد نوح ساما ويافث) اى لم كان ابن 500 سنه ابتدا ان يلد اولاده فولد اولا يافث سنه 500 وسام سنه 501 ثم ولد سام ابنه ارفكشاد لما كان عمره 100 سنه اى فى منتصف السنه 101 فيكون انه ولده بعد الطوفان بسنتين، باعتبار ان السنه التى ولد فيها هو والسنه التى ولد فيها ابنه تتوسطهما 100 سنه التى جاء بعدها الطوفان لما كان نوح ابن 500 سنه. 12- وبين اصحاح 6: 3 "فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الى الابد لزيغانه هو بشر و تكون ايامه مئة و عشرين سنة".وص 11: 10 الخ ففى الاول قال الله عن الانسان : (وتكون ايامه مائه وعشرين سنه) وفى الثانى ان اناسا كثيرون عاشوا اكثرمن ذلك بعد هذا القول. فنجيب ان الله كان عازما على اهلاك الانسان بالطوفان بشره لم يشا ان يهلكه حالا بعد التانى عليه وحدد مده ذلك التانى 120 سنه فلم يقصد ان عمر الانسان سيكون 120 سنه بل ان الطوفان لا ياتى لهلاك البشر حينئذ الا بعد 120 سنه وبعد ذلك ينجو التائب من الهلاك وتهلك كل نفس عاصيه. واذا اعترض بانه ذكر فى تك 5 : 32 ان نوحا كان ابن 500 سنه ثم ان الطوفان جاء وعمره 600 سنه فيكون الفرق هو 100 لا 120 فنجيب. لا ريب ان قول الرب عن الانسان (وتكون ايامه 120 سنه) كان قبل ان يبلغ عمر نوح 500 سنه. وان كان قيل فى اصحاح5 : 32 (وكان نوح ابن 500 سنه) قبل ان يقول الرب عن الانسان (وتكون ايامه 120 سنه) الا اننا نجزم ان القول الثانى قيل قبل الاول لان اصحاح 5 خصص كله للمواليد، من عدد 1- 5 كان قبل ان يبلغ نوح السنهالـ500 من ميلاده لان الكلام من اصحاح 6 : 1الىص 7 : 9 تاريخ لمائه وعشرين سنه وكل ما قيل فى اصحاح 5 : 32 من ان عمر نوح كان 500 سنه حين ابتدا ان يلد بنيه من المحتمل جدا ان الانذار بالطوفان حصل قبله. 13- وبين اصحاح 6 : 9 " هذه مواليد نوح كان نوح رجلا بارا كاملا في اجياله و سار نوح مع الله".ورو 3 : 10 " كما هو مكتوب انه ليس بار و لا واحد". ففى الاول قيل (وكان نوح رجلا بارا) وفى الثانى (ليس بارا ولا واحد) فنجيب ان القولين صادقان لان الاول يقصد ان نوحا كان بارا بالنسبه لاهل جيله، بينما الثانى يقصد انه فى الحقيقه ليس بار ولا واحد، لاستيلاء النقص على الجميع بالنسبه لكمال الله غير المتناهى. 14- وبين اصحاح 6 : 19 و20 "و من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل الى الفلك لاستبقائها معك تكون ذكرا و انثى.من الطيور كاجناسها و من البهائم كاجناسها و من كل دبابات الارض كاجناسها اثنين من كل تدخل اليك لاستبقائها".وص 7 : 2 و3 "من جميع البهائم الطاهرة تاخذ معك سبعة سبعة ذكرا و انثى و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و انثى.و من طيور السماء ايضا سبعة سبعة ذكرا و انثى لاستبقاء نسل على وجه كل الارض".ففى الاول قيل ان الله امر نوحا ان ياخذ من كل ذى جسد اثنين ذكرا وانثى من الطيور كاجناسها ومن البهائم كاجناسها، وفى الثانى ان الله امره ان ياخذ من البهائم الطاهره سبعه ذكرا وانثى ومن البهائم التى ليست بطاهره اثنين ذكر وانثى. فنجيب ان الامر الاول اجمالى والثانى تفصيلى. ولا مجال للاعتراض لان الامر باخذ سبعه عقب الامر باخذ اثنين. المتنيح القس منسى يوحنا عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
30 أكتوبر 2019

مفهوم الطموح

الطموح الطموح هو الرغبة فى الازدياد ، والتطلع باستمرار إلى قدام هو حالة إنسان لا يكتفى ، ولا يحب أن يقف عند حد فهل هذا خطأ أم صواب ؟ هل هو وضع روحى أم غير روحى ، طبيعى أم غير طبيعى ؟ يستمر فيه الإنسان أم يقاومه ؟ إنه سؤال هام نجيب عليه الآن ، من حيث نوعية الطموح واتجاه مساره الطموح هو شئ طبيعى جزء من طبيعة الإنسان فكيف ذلك ؟ نقول إن الإنسان قد خلق على صورة الله ومثاله 0 والله غير محدود فكيف يكون الإنسان على صورة الله فى هذه الصفة بالذات ، بينما الله هو الوحيد غير المحدود ؟ الإجابة هى لقد وجد الله فى الإنسان اشتياقا إلى غير المحدود مادام الإنسان لا يمكن أنت يكون غير محدود فى ذاته ، لأن هذه صفة الله وحده ، لذلك أصبحت عدم المحدودية يمكن أن تكون فى رغباته وفى طموحاته كلما يصل إلى وضع ، يشتاق إلى ما هو لأعلى ، وما هو أفضل ، فى النطاق المسموح به لإنسانيته ، بحيث ( لا يرتئى فوق ما ينبغى بل يرتئى إلى التعقل ) (رو 12 : 3 ) مادام الإنسان على صورة الله ، إذن فالطموح شئ طبيعى ولكن يختلف الطموح من شخص لآخر وحسب نوع الطموح عليه بأنه خير أو شر لكى تمتلئوا إلى كل ملء الله ) ( أف 4 : 18 : 19 ) صدقونى يا أخوتى أننى أقف مبهوتا ومنذهلا ، أمام هذه العبارة الأخيرة ( لكى تمتلئوا إلى كل ملء الله ) 0 ! مادام طريق الكمال طويلا جدا إلى هذا الحد ، وإلى هذا المفهوم العميق ، إذن ينبغى علينا أن لا نسير فيه ببطء أو تكاسل ، بل نستمع إلى القديس المختبر وهو يقول ( أركضوا لكى تنالوا 00 )( 1كو 19 : 24 ) ويطبق هذا على نفسه فيقول ( إذن أنا أركض هكذا ) ( 1كو 9 : 26 ) عجبا على هذا القديس ، الذى كان مازال يركض ، حتى بعد أن صعد إلى السماء الثالثة الطموح المقدس إذن هو طموح روحى نحو الهدف الروحى ، وبأسلوب روحى ومع ذلك هناك طموح آخر ، عالمى وخاطئ ، فما هو ؟ الطموح الخاطئ إنه طموح مركز على الذات ، ولأهداف عالمية ، وربما بوسائل خاطئة مثل الطموح فى الغنى ، فى اللذة ، فى الشهوة ، فى المال ، فى الألقاب ، فى العظمة فى المجد الباطل ، وما أشبه مثال ذلك الغنى الغبى هذا الذى ( أخصبت كورته ) فقال ( أهدم مخازنى ، وابنى أعظم منها ، وأجمع هناك جميع غلاتى وخيراتى 0 وأقول لنفسى : يا نفسى لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة 0 استريحى وكلى وأشربي وأفرحي ) ( لو 12 : 18 ، 19 ) وهكذا كان مركزا فى المادة وحول ذاته 0 ولم تدخل علاقته بالله فى طموحه لذلك سمع ذلك الحكم الإلهى ( يا غبى ، فى هذه الليلة ، تؤخذ نفسك منك 0 فهذه التى أعددتها ، لمن تكون ؟! ) ( لو 12 : 20 ) مثال آخر هو سليمان الحكيم كانت طموحاته فى العظمة والرفاهية ، وفى اللذة والنساء 0 وهكذا قال عن نفسه ( عظمت عملى 0 بنيت لنفسى بيوتا ، غرست لنفسى كروما ، عملت لنفسى جنات وفراديس قنيت عبيدا وجوارى جمعت لنفسى أيضا فضة وذهبا ، وخصوصيات الملوك والبلدان 0 اتخذت لنفسى مغنين 0ومغنيات ، وكل تنعمات البشر سيدة وسيدات 0 فعظمت وازدادت أكثر من جميع الذين كانوا قبلى فى أورشليم ومهما اشتهته عيناى لم أمسكه عنهما ) ( جا 2 : 4 – 10 ) وماذا كانت نتيجة كل هذه الطموحات العالمية ؟‍ يقول سليمان ( ثم التفت أنا إلى كل أعمالى التى عملتها يداى ، وإلى التعب الذى تعبته فى عمله ، فإذ الكل باطل وقبض الريح ، ولا منفعة تحت الشمس ) ( جا 2 : 11 ) نعم ، هذا هو الطموح العالمى الباطل 00 وكيف أنه قاد سليمان إلى الخطية وإلى عقوبة الله 0 وقال عنه الوحى الإلهى ( إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى 0 ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه ) ( 1مل 11 : 4 ) من الطموحات العالمية أيضا : الذين بنوا برج بابل أرادوا العظمة والعلو 0 وقالوا ( هلم نبن لأنفسنا مدينة ، وبرجا رأسه فى السماء ونصنع لأنفسنا إسما ) ( تك 11 : 4 ) فكانت النتيجة أن الله بلبل ألسنتهم ، وبددهم على وجه الأرض( تك 11 : 7 ، 8 ) لأن الله لم يوافق على هذا الطموح الممتزج بحب العظمة والكبرياء ولكن أسوا طموح ، كان طموح الشيطان ‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!هذا الذى كان ملاكا ورئيس ملائكة ، هذا الذى لقبه الكتاب بالكاروب المنبسط المظلل 0 وكان كاملا فى طرقه يوم خلق ( حز 28 : 14 ، 15 ) وعلى الرغم من سقوطه استمر فى طموحاته الشريرة حتى وصل به الأمر أنه من على جبل التجربة قال للسيد المسيح له المجد ، وهو يشير إلى جميع ممالك الأرض ومجدها ( أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لى ) ( مت 4 : 8 ، 9 ) فانتهره الرب قائلا أذهب يا شيطان واستمر فى طموحاته ، يريد أن ينافس الله ، ويضل الأمم الذين فى أربع زوايا الأرض ( رؤ 20 : 8 ) ويسبب الارتداد العظيم الذى يسبق المجئ الثانى ( 2تس 3 ، 9 ) وبنفس هذا الطموح الخاطئ عمل على إسقاط أبوينا الأولين ، فى الإغراء على الأكل من شجرة معرفة الخير والشر ، قائلا ( تصيران مثل الله عارفين الخير والشر ) ( تك 3 : 5 )هناك نوع من الطموح يمتزج بالغرور غرور سابق للطموح ، وغرور لاحق له أما عن الغرور السابق ، فهو أن يظن الشخص فى نفسه فوق ما يستطيع ويرتئى فوق ما ينبغى ( رو 12 : 2 ) وربما يقفز إلى درجات روحية فوق إمكانياته ، فلا يحسن منها شيئا بل يهبط إلى أسفل 0 أو يطمح إلى مسئوليات فوق قدراته فيفشل وإن نجح فى شئ ، يلحقه غرور آخر فيطلب المزيد إن كثير من القادة السياسين أضاعهم الطموح الزائد فى الاتساع ومواصلة الانتصار ، حتى انتهوا إلى الفشل والضياع ، مثلما حدث لهتلر ولنابوليون أيضا إن شهوة الاتساع والامتداد كثيرا ما أتعبت الطامحين وأوصلتهم إلى الطمع وعدم الاكتفاء 0 كما يقول سليمان الحكيم ( كل الأنهار تجرى إلى البحر ، والبحر ليس بملآن ) ( جا 1 : 7 ) وأيضا ( العين لا تشبع من النظر ، والأذن لا تمتلئ من السمع ) وهكذا تجد كثيرا من المحاربين بالطموح العالمى ، نفوسهم فى تعب مهما نالوا ومهما أخذوا بسبب الإتساع والطمع التى لا يشبعها شئ 0 الفرق بين النوعين:- الطموح الخاطئ كلما يصل ينتفخ ويتكبر أما الطموح الروحى ، فيفرح بالرب فى إتضاع إن عمل الإثنان فى المجال الدينى 0 فصاحب الطموح الخاطئ يحب أن يصل إلى مواهب الروح التى ينال بها مجدا من الناس 0 أما صاحب الطموح الروحى ، فيسعى إلى نوال ثمار الروح ( غل 5 : 22 ، 23 ) التى يتمتع فيها بمحبة الله وبالفضائل الخفية إنه يجاهد فى الروحيات لا ليفتخر بما وصل إليه ، بل لأنه لذة روحية فى الالتصاق بالرب 0 وكلما يزداد إتضاعا ، عارفا أن طريق الكمال لا يزال بعيدا 0 وينظر إلى المثل العليا فى حياة القديسين ، فيرى أنه لم يفعل شيئا ! ومهما وصل طموحه يتذكر قول الرب ( متى فعلتم كل ما أمرتم به ، فقولوا إننا عبيد بطالون ) ( لو 17 : 10 ) لذلك فإن قديسين كثيرين وصلوا إلى مستويات عالية جدا ، ومع ذلك كانوا يبكون على خطاياهم 0 لأنهم كانوا فى طموحهم الروحى ، كانوا فى طموحهم الروحى ، كانوا يرون درجات أعلى وأعلى ، لم يصلوا إليها بعد إن المقاييس تتغير بين الروحيين وأهل العالم فى طموحهم الذى عنده طموح عالمى يحب مثلا أن يزداد فى الغنى ، وتكثر أمواله وأرصدته يوما بعد يوما حتى أنه يصاب بالتجلى أما الإنسان الروحى ، فإن طموحه هو فى توزيع ماله على الفقراء ، حتى يكون له كنز فى السماء الإنسان الذى عنده طموح عالمى ، يجب أن يكون الأول باستمرار ، بل الوحيد ويحب المتكئات الأولى 0 أما الإنسان الروحى فإن طموحه فى أن يكتسب فضيلة الإتضاع ، وأن يأخذ المتكأ الأخير ويضع أمامه قول الرسول ( مقدمين بعضكم بعضا فى الكرامة ) ( رو 12 : 10 ) وهكذا يجتهد أن يكون آخر الكل وخادما للكل ( مر 9 : 35 ) وهكذا يتحول إلى إنسان خدوم ، يحب الخدمة وينمو فيها 0 ويحبه كل الناس لخدمته لهم الطموح العالمى ينافس الناس ليحل محلهم أما الطموح الروحى فيساعدهم على الوصول إنه لا يزاحم الناس فى طريق الحياة ، بل بمحبته يفسح الطريق لهم ليسيروا 0 إنه من كل قلبه يريد أن يصل إلى الله 0 ولكنه فى طموحه يحب أن يسبق غيره ، أو أن يعطل غيره ليصل قبله لما يشوع بن نون رأى اثنين يتنبآن ، أراد أن يردعهما ، حيث أن النبوة هى لمعلمه موسى النبى 0 فوبخه موسى بقوله ( هل تغار لى أنت يا ليت كل الشعب كانوا أنبياء ، إذا جعل الرب روحه عليهم ) ( عد 11 : 26 – 29 ) الذى عنده طموح روحى يهدف أن يصل إلى قمة الروحيات ، من أجل محبته لله ، ولكنه لا يفكر أبدأ أن يسبق غيره ، أو ينافس غيره ، أو يتفوق عليه فى الروحيات الطموح الذى يريد التفوق على الغير ، هذا قد انتصرت عليه الذات إن طريق الله يتسع لجميعنا ، وقمم الروحيات معروضة على الكل 0 والنعمة مستعدة أن تساعد كل أحد على الوصول 0 فلماذا التنافس والتزاحم إذن فى طريق الطموح ، بينما فيه متسع للجميع ؟! أتريد فى طموحك أن تنتصر على غيرك فى الروحيات ؟! لماذا ؟! وهل فى هذا الإنتصار ، تجد روح المحبة التى تسعى إليها فى طموحك ؟!أما طموح الإنسان الذى لا يحب فقط أن يكون الأول ، وإنما الوحيد فهو بلا شك طموح شرير لأنه فى طموحه ، لا يريد لغيره الخير 0 وهذا شر 0 إنه طموح قد انحرف ، وتحول إلى محبة الذات أو تحول إلى الأنانية الطموح الروحى يسعى إلى الأرتفاع فوق مستويات معينة ، وليس فوق أشخاص معينين فمن الجائز أن ترتفع فوق أشخاص معينين ، ويبقى مستواك منخفضا 0 كما أن رغبة الأرتفاع فوق الغير ، قد تعصف بك إلى نطاق الحسد والغيرة ، مما يتعارض مع روح المحبة الحقيقية 0 وتظل ترقب هذا الذى ينافسك ، وقد تفرح بفشله لأن هذا يعطيك فرصة التفوق عليه 0 وهكذا تفقد نقاوة قلبك إسع إلى الامتياز ، وليس إلى الأنتصار على الغير 0 وإن صرت الأول ، فهذا حسن جدا 0 وإن لم تصر 0 فلا تحسد من صار الأول ، بل افرح بتفوقه الإنسان الروحى طموحه فى أن ينتصر على نفسه ، لا على الآخرين وليكن هدفك من السعى إلى الكمال هو إرضاء الله وليس المجد الباطل إنها وصية إلهية أن تصير كاملا ( مت 5 : 48 ) فإن صرت هكذا ، تفرح بإرضاء الله الذى نفذت وصيته 0 ويكون فرحا بغير افتخار ، وبغير مقارنة بالآخرين الإنسان الروحى فى الطموح ، ينمو باستمرار فالنمو صفة عملية للطموح 0 ولكنه فى نفس الوقت يفرح حينما يرى غيره ينمو أيضا الطموح الروحى ينمو فى الروحيات : فى الصلاة ، فى التأمل ، فى معرفة الله ، فى محبته ، فى خدمته ، فى محبة الآخرين وكلها ليست مجالا للتنافس إذا صلى ، يحب أن ينمو فى الصلاة من جهة الوقت الذى يقضيه مع الله ، ومن جهة ما فى الصلاة من حرارة ومن عمق وتأمل ، ومن حب وإيمان وهكذا مع باقى الفضائل باستمرار يمتد إلى قدام أما غير الطموح ، فقد يتوقف عند وضع معين ، ويتجمد وهذا التوقف قد يؤدى إلى الفتور وفى الحياة العملية ينبغى أن يكون الإنسان طموحا يهدف إلى النجاح فى كل ما تمتد إيه يده ، كما قيل عن يوسف الصديق إنه كان رجلا ناجحا 0 وكان الرب معه 0 وكل ما كان يصنع ، كان الرب ينجحه بيده ( تك 39 : 2 ، 3 ) وهناك ولعل البعض يسأل هل يتناقص الطموح مع القناعة ؟‍‍‍! كلا فالقناعة تكون فى الماديات ، والطموح فى الروحيات ويتمشى الإثنان معا 0 يقويان بعضهما البعض يسأل البعض كيف يكون طموحى نحو الكمال ، بينما الكمال لله وحده 0 فأقول له المطلوب منك هو الكمال النسبى ، وليس الكمال المطلق وإن لم تصل إلى الكمال ، فعلى الأقل أن ينمو ويجدك الله سائرا فى الطريق ، متقدما كل يوم كن كالشجرة التى كل يوم تنمو فالصديق كالنخلة يعلو ولا تجعل طموحك فى أمانتك فى عملك ، يعطل طموحك فى روحياتك 0 مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث عن كتاب عشرة مفاهيم
المزيد
29 أكتوبر 2019

المسيح في سفر التكوين - المسيح في حياة أبينا اسحق

إن ربنا يسوع المسيح حاضر بوضوح في حياة آباء وأنبياء العهد القديم، فهو فوق الزمان، وهو خالق الجميع وهو الفادي الذي جاء في ملء الزمان ليُخلصنا من خطايانا بصليبه المقدس وقد أراد الله أن يُمهد لتجسده الطاهربأن أرسل إلينا النبوات والرموز، بل والأشخاص الذين يتجلى فيهم تمهيداً لمجيئه بالحقيقة بالجسد لنرى ونؤمن وفي قصة حياة أبينا اسحق تقابلنا (سابقاً) مع قصة تقديمه ذبيحة كرمز لتقديم السيد المسيح الابن الوحيد المحبوب ذبيحة عن خطايانا، وعودة اسحق حياً هي رمز لقيامة السيد المسيح من الأموات وهناك موقف آخر في حياة أبينا اسحق يتجلى فيها ربنا يسوع بوضوح وهي قصة اختيار زوجة لاسحق:- إبراهيم الأب استدعى أليعازر الدمشقي كبير بيته المستولي على كل ما كان له، وأرسله ليخطُب عروساً لابنه اسحق إنها رمز للآب السماوي الذي أرسل الروح القدس، ليخطُب الكنيسة عروساً للمسيح الابن"لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2)استحلف إبراهيم أليعازر بأن وضع يده تحت فخذ إبراهيم.. وهي إشارة إلى القسم باسم نسل إبراهيم أي المسيح وهو نفس الأمر الذي عمله أبونا يعقوب مع ابنه يوسف (راجع تك47: 29) وتنبأ إبراهيم لأليعازر بأن الله "يُرسل ملاكه أمامك، فتأخذ زوجة لابني من هناك" (تك24: 7) وهي تشبه النبوة التي قيلت عن يوحنا المعمدان السابق للمسيح "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي، الذي يهيئ طريقك قدامك" (مر1: 2) إن يوحنا المعمدان هو الملاك صديق العريس، الذي جاء أمامه ليهيئ الطريق، لتقبل العروس أن تتحد به "مَنْ له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كمل" (يو3: 29) "أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه، ومضى وجميع خيرات مولاه في يده" (تك24: 10)، وكأنه الملاك جبرائيل الذي جاء إلى العذراء مريم، حاملاً خيرات الآب السماوي في يده، مُعلناً إياها في عشر كلمات:- (1) سلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة. (2) الرب معكِ. (3) مُباركة أنتِ في النساء. (4) لا تخافي يا مريم. (5) لأنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله. (6) ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. (7) هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعي. (8) ويُعطيه الرب الإله كرس داود أبيه. (9) ويملِك على بيت يعقوب إلى الأبد. (10) ولا يكون لمُلكه نهاية. (لو1: 28-33) "وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء" (تك24: 11) لقد تقابل أليعازر مع رفقة عند بئر الماء وقت المساء، وبئر الماء هو رمز للمعمودية، التي يتقابل عندها الروح القدس مع النفس المنتخبة كعروس للمسيح.. ووقت المساء يشير إلى وقت صلب ربنا يسوع المسيح، وساعة خروج روحه الطاهرة ليد الآب السماوي وهناك ارتباط عميق بين المعمودية وصليب المسيح وخطبة الكنيسة فالمعمودية هي دفن مع المسيح، وخطبة الكنيسة مرتبطة بعهد الدم "إنك عريس دم لي" (خر4: 25) كانت رفقة فتاة "حسنة المنظر جداً، وعذراء لم يعرفها رجل. فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك24: 16) وهي ترمز للكنيسة المجيدة، التي لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل هي مُقدسة وبلا عيب(راجع أف5: 27) وكانت "جرتها على كتفها" (تك24: 15)إشارة إلى استعداد الكنيسة للخدمة، ونزول رفقة إلى العين وطلوعها إشارة إلى اغتسال الكنيسة بالمعمودية وبدم المسيح "لكي يُقدسها، مُطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة" (أف5: 26) لم تكن رفقة حاملة جرتها فقط بل كانت مستعدة أن تخدم خدمة الميل الثاني "فقالت اشرب يا سيدي. وأسرعت وأنزلت جرتها على يدها وسقته. ولما فرغت من سقيه قالت أستقي لجمالك أيضاً حتى تفرغ من الشرب. فأسرعت وأفرغت جرتها في المسقاة، وركضت أيضاً إلى البئر لتستقي، فاستقت لكل جماله" (تك24: 18-20) إنها مثال للكنيسة المستعدة أن تبذل كل الجهد من أجل خدمة الناس، متشبهة بعريسها القدوس محب البشر الصالح سأل أليعازر الفتاة "هل في بيت أبيكِ مكان لنا لنبيت؟" (تك24: 23) وكأن الروح القدس يسأل النفس هل يوجد عندك مكاناً لأبيت فيه؟ "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو14: 23)، "هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤ3: 20) إن الروح القدس يبحث عن مكان فينا لسكنى المسيح، لأنه عندما تجسد "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو2: 7) لقد كانت رفقة مستعدة لاستقبال الغرباء بفيض الكرم "قالت له عندنا تبن وعلف كثير، ومكان لتبيتوا أيضاً" (تك24: 25)، "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب13: 2) عندما أراد أهل رفقة أن يستضيفوا أليعازر أياماً أخرى "فقال لهم لا تعوقوني والرب قد أنجح طريقي. اصرفوني لأذهب إلى سيدي" (تك24: 56) وكأن الروح القدس ينبهنا ألا نتعوق بأمور العالم عن الانطلاق إلى الاتحاد بالمسيح إن الروح القدس يسعد بالنفس النشيطة، التي إذا جاءها في زيارة نعمة لينبهها تقوم معه في الحال لتذهب إلى العريس وتتحد به لماذا نتعوق والرب قد أنجح طريقنا؟ لم يكن من اللائق أن تذهب رفقة مع أليعازر دون موافقتها "فدعوا رفقة وقالوا لها هل تذهبين مع هذا الرجل؟ فقالت أذهب" (تك24: 58) وهكذا أيضًا لابد للنفس أن تعلن عن رغبتها وموافقتها للارتباط بالمسيح إن الله يحترم حرية الإرادة الإنسانية ويكرس الحب وليس القهرإننا نأتي إليه بكامل الحب والرغبة، ونتمسك به مهما كانت المعوقات "مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ (رو8: 35) مرة أخرى تلتقي رفقة عند البئر "بئر لحَي رُئي" (تك24: 62), ولكن هذه المرة مع اسحق العريس الحقيقي كمثل التقاء الكنيسة مع المسيح عند المعمودية كان اسحق قد خرج ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء إنها اللحظة التي يتقابل فيها المسيح مع الكنيسة على الصليب عند المساء، وهو يتأمل الحقل المقدس، الذي زرعه بدمه الطاهر، لينبت منه الكرمة الحقيقية الكنيسة التي المسيح فيها أصل وجذر ورأس، ونحن أغصان، والآب هو الكرّام"أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرَّام" (يو15: 1)، "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو15: 5) إن المسيح يتقابل مع النفس عند إقبال المساء، لكي يحول المساء إلى صباح، والظلمة إلى نور، والخطية إلى بر "وسكن اسحق عند بئر لحَي رُئي" (تك25: 11).. إن المسيح يسكن في المعمودية، ليقابل كل نفس، ويطهرها فتدخل معه في شركة وعشرة وعضوية مقدسة إن الأب القديس اسحق هو رمز جميل لربنا يسوع المسيح الابن الوحيد المحبوب المطيع الذبيح والقائم من الأموات. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
28 أكتوبر 2019

«بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لو21: 19)

قال السيد المسيح لتلاميذه: «بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لو21: 19). وقال معلمنا يعقوب الرسول: «وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ» (يع1: 4)، وقال أيضًا: «هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يع 5: 11). ويقول معلمنا بولس الرسول: «لْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عب12: 1)، ويقول إن المحبة «تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (1كو13: 7). وفي سفر الرؤيا يقول «هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ. هُنَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ» (رؤ14: 12).إن الصبر يحتاج إلى إيمان بعمل الله، والصبر يعطي فرصة للرب أن يعمل «أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا» (أف3: 20). والصبر في التعامل يمنع تصعيد المشاكل، وكذلك يعطي فرصة للطرف الآخر لمراجعة النفس. وعلينا أن نصبر على احتمال الآلام والتجارب ومحاربات الشياطين.التجارب نوعان: النوع الأول هو الآلام والضيقات التي يسمح الله بها لإختبار محبة القديسين، والنوع الثاني هو الخطايا التي نطلب في الصلاة الربانية ونقول «وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ» (مت6: 13). الآلام نحتملها بصبر أما التجارب الشريرة فنرفضها ونحارب فيها طالبين معونة الله لكي يتمجد الله باقتنائنا حياة القداسة كقول معلمنا بطرس الرسول «هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. وَلِهَذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً» (2بط1: 4-7)، ويكمل «لِذَلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَنْ تَزِلُّوا أَبَدًا. لأَنَّهُ هَكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ» (2بط1: 10، 11).الصبر يلزم في احتمال الآلام والصعاب التي تُختبَر بها محبتنا للرب وتُختبًر ثقتنا في الجزاء الأخروي.الشيطان يشتكي ضد القديسين أمام الرب مثلما قال: «هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟» (أي1: 9). والسؤال هنا هل نحن نعبد الله لأنه يغمرنا بالخيرات أم لأننا نحبه ونعترف بفضله لأنه هو الذي أعطانا نعمة الوجود كما أنه وفَّي دين الخطايا التي علينا بدم الصليب؟هل نعرف قيمة الوجود مع الله في شركة الحب؟ ومعروف طبعًا أن المحبة تُختبر بالألم. والمسيح نفسه أعطانا مثالًا لمحبته لنا بالآلام التي احتملها من أجل خلاصنا. إذا كان المسيح هو رأس الكنيسة والكنيسة هي جسده الاعتباري فلا يمكن أن نتصور جسدًا متنعمًا تحت رأس مكلل بالشوك! ولكن معلمنا بولس الرسول قال: «أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رو8: 18). وقال أيضًا: «كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا» (2كو1: 5). ولكن من جانب آخر توجد تعزيات للصابرين حتى في وسط آلامهم. كشهداء صاحبت آلامهم معجزات ورؤى وإعلانات سمائية فلم ينهزموا أمام نيران التعذيب، بل صاحبت شهادتهم معجزات شفاء باهرة جذبت الكثيرين إلى إعلان إيمانهم بإله هؤلاء الشهداء. هناك فرق شاسع بين أفراح العالم وتعزيات الروح القدس. وقال السيد المسيح لتلاميذه: «إنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ» (يو16: 20). نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير السيدة العفيفة دميانة بلقاس
المزيد
27 أكتوبر 2019

ملابس رئيس الكهنة ج4

ثَالِثاً الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ ﴿ وَتَجْعَلُ فِي صُدْرَةِ الْقَضَاءِ الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ لِتَكُونَ عَلَى قَلْبِ هَارُون عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ الرَّبِّ . فَيَحْمِلُ هَارُون قَضَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَلْبِهِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِماً ﴾ ( خر 28 : 30 ) . وَصْف الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ :- كَانَ الله يُعْلِنْ بِهُمَا مَقَاصِدَهُ وَإِرَادَتَهُ فَيُقَدِّم المَشُورَة الإِلَهِيَّة بِوَاسِتَطْهُمَا وَلاَ يُعْرَفْ بِالضَّبْط طَبِيعِة الأُورِيم وَالتُّمِّيم وَلكِنَّنَا سَوْفَ نَسْتَعْرِض عِدِّة إِجْتِهَادَات مِنْهَا :- أنَّهُمَا حَجَرَيْنِ كَرِيمَيْنِ أحَدُهُمَا مَصْقُول وَالآخَر غِير مَصْقُول لِيَدُل الوَاحِدٌ عَلَى الإِيجَاب وَالآخَر عَلَى السَلْب أوْ أنَّهُمَا قِطْعَتَيْنِ مِنْ الذَّهَبْ أوْ المَاس مَكْتُوب عَلَى إِحْدَاهُمَا " نَعَمْ " وَالأُخْرَى " لا " أوْ أنَّ نُورا كَانَ يَسْطَعْ عَلَيْهُمَا فِي حَالِة الإِيجَاب وَقِيلَ أيْضاً أنَّهُمَا مَادَّتَان غَيْر مَعْرُوف نَوْعِيَتَهُمَا أعْطَاهُمَا الله لِمُوسَى وَمَتَى وَضَعْهُمَا الحَبْر الأعْظَمْ فِي الصَدْرَة أُعْلِنَتْ لَهُ إِرَادِة الله بِصَوْتٍ مَسْمُوع وَيَقُول البَعْض أنَّ الأحْجَار الكَرِيمَة الَّتِي تُوضَعْ عَلَى الصَدْرَة هِيَ نَفْسَهَا تُعَبِّر عَنْ الأُورِيم وَالتُّمِّيم حِينَمَا يَسْطَعْ عَلَيْهَا أنْوَار القُدْس بِوَاسِطَة ضَوْءاً بَاهِراً يَتَألَّقٌ مِنْهَا وَقِيلَ أيْضاً أنَّهُمَا حَجَرَيْن كَرِيمَيْنِ وُضِعَا دَاخِل الجُزْء المَثْنِي مِنْ الصَدْرَة وَأكْثَر الأرَاء قَبُولاً هُوَ أنَّ الأُورِيم وَالتُّمِّيم كَانَا قِطْعَتَيْنِ مُقَدَّسَتَيْنِ تَدُل إِحْدَاهُمَا عَلَى الإِيجَاب وَالرِّضَا أوْ التَّأيِيدْ وَتَدُل الأُخْرَى عَلَى الإِجَابَة بِالسَلْب أوْ عَدَمٌ التَّأيِيدْ . لُغْز الأُورِيم وَالتُّمِيم :- وَهُنَا نَكْتَشِفْ أنَّ الوَحْي لَمْ يُرِدٌ أنْ يُعْطِي شَرْحاً وَافِياً لِطَبِيعِة الأُورِيم وَالتُّمِّيم فَمِنْ الألْيَقٌ أنْ نَصْمُتْ حَيْثُ يَصْمُتْ الله وَلاَ نُنْكِر أنَّنَا الآنْ نَعْلَمُ بَعْضَ العِلْم وَلكِنَّنَا سَنَعْرِفْ الكُلَّ مَتَى جَاءَ الكَامِل عِنْدَمَا يَتَضِحٌ النَّهَار وَتَنْهَزِم الظِّلاَل وَمِنْ الوَاضِح أنَّهُمَا يُشِيرَان إِلَى الله ذَاتُه لِذلِك قِيلَ عَنْهُمَا ﴿ تُمِّيمُكَ وَأُورِيمُكَ ﴾ ( تث 33 : 8 )أي يَخُصَّانْ الله ذَاتُه وَيَرَى القِدِيس كِيرْلُس الكَبِير ﴿ أنَّ حَجَرَيَّ الأُورِيم وَالتُّمِّيم بِوَضْعِهِمَا فِي وَسَطْ الأحْجَار الكَرِيمَة الإِثْنَى عَشَر المَنْقُوشَيْنِ عَلَيْهَا أسْمَاء الأسْبَاط الإِثْنَى عَشَر وَالَّتِي كَانَتْ مُعَلَّقَة عَلَى صَدْرِة رَئِيسُ الْكَهَنَة تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ قِطْعَة مِنْ ثِيَابِهِ الخَاصَّة بِهِ فَقَطْ وَالَّتِي يَتَمَيَّز بِهَا إِنَّمَا تُمَثِّل فِي لُغْز رَبِّنَا يَسُوع الْمَسِيح الَّذِي هُوَ عَمَانُوئِيل إِلَهْنَا فِي وَسَطْ تَلاَمِيذُه الإِثْنَى عَشَر القِدِّيسِينْ وَحَيْثُ أنَّهُ هُوَ الإِسْتِعْلاَن وَالحَقٌّ الَّذِي أعْلَنْ الحَقٌّ الكَامِلٌ فَأبْطَل العِبَادَة لله بِالرُّمُوز وَالظِّلاَل ﴾ . طَلَبْ المَشُورَة بِالأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ :- كَانَ إِسْتِخْدَام الأُورِيم وَالتُّمِّيم فِي مَعْرِفَة إِرَادِة الله فِي مَوَاقِفْ هَامَّة وَتَمِس الأُمور الكَهَنُوتِيَّة أوْ السِيَاسِيَّة نَذْكُر مِنْهَا :- يَقُول الله لِمُوسَى عَنْ يَشُوع ﴿ فَيَقِفَ أَمَامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ فَيَسْأَلُ لَهُ بِقَضَاءِ الأُورِيمِ أَمَامَ الرَّبِّ. حَسَبَ قَوْلِهِ يَخْرُجُونَ وَحَسَبَ قَوْلِهِ يَدْخُلُونَ هُوَ وَكُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ ﴾( عد 27 : 21 ) وَفِي حَرْب الفِلِسْطِينِيِّين مَعَ شَاوِل حَيْثُ خَافَ وَاضْطَرَبَ قَلْبَهُ جِدّاً ﴿ فَسَأَلَ شَاوُلُ مِنَ الرَّبِّ فَلَمْ يُجِبْهُ الرَّبُّ لاَ بِالأَحْلاَمِ وَلاَ بِالأُورِيمِ وَلاَ بِالأَنْبِيَاءِ ﴾ ( 1صم 28 : 6 ) وَأيْضاً فِي سِفْر عَزْرَا﴿ وَقَالَ لَهُمُ التِّرْشَاثَا أَنْ لاَ يَأْكُلُوا مِنْ قُدْسِ الأَقْدَاسِ حَتَّى يَقُومَ كَاهِنٌ لِلأُورِيمِ وَالتُّمِّيمِ ﴾ ( عز 2 : 63 ) وَيُرَجَحٌ أنَّ الله ظَلَّ يُجِيبَهُمْ بِالأُورِيم وَالتُّمِّيم مُبَاشَرَةً مُدِّة العِبَادَة بِالخَيْمَة وَلكِنْ بَعْد إِقَامِة الهَيْكَل كَانَ يُكَلِّمَهُمْ بِالأنْبِيَاء . الْمَسِيح وَالأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ :- كَلِمَة " أُورِيم " جَمْع " أُورْمِي " العِبْرِيَّة وَمَعْنَاهَا " أنْوَار " وَ" التُّمِّيم " جَمْع " تَمْ " وَمَعْنَاهَا " الكَمَالاَت " وَقَدْ وُرِدَتَا فِي التَّرْجَمَة السَّبْعِينِيَّة " الإِعْلاَن وَالحَقٌّ "وَهذَا يُوَجِه أفْكَارْنَا فِي الحَال إِلَى شَخْص رَبَّنَا يَسُوع المُبَارَك الَّذِي فِيهِ كُلَّ الأنْوَار وَكُلَّ الكَمَالاَت كُلَّ النِّعْمَة وَالحَقٌّ هُوَ النُّور هُوَ بَهَاء مَجْدٌ الله هُوَ وَحْدُه الَّذِي أعْلَنْ لَنَا الآب وَبِحَسَبْ تَعْبِير القِدِيس إِغْرِيغُورْيُوس فِي القُدَّاس الإِلَهِي ﴿ الَّذِي أظْهَر لَنَا نُور الآب ﴾ . مَعْرِفِة النُّور وَالحَقَّ :- إِذْ كَانَ رَئِيسُ الْكَهَنَة وَالأُورِيم وَالتُّمِّيم فِي صَدْرَتِهِ المَوْضُوعَة عَلَى قَلْبِهِ هِيَ الوَاسِطَة لإِظْهَار أفْكَار الله وَمَقَاصِدَهُ فَهُوَ يَحْمِل جَمِيعْ قَضَايَاهِمْ وَضِيقَاتِهِمْ فِي قَلْبِهِ لِيَعْرِضْهَا أمَام الله طَالِباً الحُكْمٌ وَالإِرْشَادٌ بِشَأنَهَا وَرَبِّنَا يَسُوع رَئِيسُ الْكَهَنَة الأعْظَمْ إِذْ هُوَ النُّور الحَقِيقِي يُعْلِنْ لِقِدِّيسِيه كُلَّ أفْكَار الله وَمَقَاصِدُه وَمَشُورَاتُه وَهُوَ أيْضاً الحَقٌّ وَالمَحَبَّة وَالقَدَاسَة وَجَمِيعَهَا مُتَحِدَة وَغَيْر مُنْفَصِلَة فَإِنْ كَانَ رَئِيسُ كَهَنِة العَهْد القَدِيم قَدْ أخَذَ وَظَائِفْ هَامَّة وَخَطِيرَة وَعَظِيمَة القِيمَة فَلَنَا كُلَّ هذِهِ الأُمور بِكَمَالِهَا الإِلَهِي وَلَيْسَ رُمُوزْهَا فِي شَخْص رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الأعْظَمْ يَسُوع الْمَسِيح الَّذِي إِجْتَازَ السَّموَات فَهُوَ يَحْمِل قَضَاء شَعْبِهِ عَلَى قَلْبِهِ دَائِماً كَمَا أنَّهُ بِالرُّوح القُدُس يُعْلِنْ لَنَا فِكْر الله مِنْ جِهِة جَمِيعْ قَضَايَانَا الَّتِي نَجْتَازَهَا يَوْمِياً فَفِي الْمَسِيح نَجِدٌ التَّحْقِيقٌ الكَامِل لِكُلَّ مَعَانِي الأُورِيم وَالتُّمِّيم فَهُوَ الَّذِي قَالَ عَنْ نَفْسِهِ﴿ أنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ . مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ ﴾ ( يو 8 : 12) وَهُوَ أيْضاً الَّذِي قَالَ عَنْ نَفْسِهِ ﴿ أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاة . لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي ﴾( يو 14 : 6 ) وَقَالَ أيْضاً ﴿ تَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ ﴾ ( يو 8 : 32 ) فَهُوَ ﴿ الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ ﴾ ( كو 2 : 3 ) وَهكَذَا بِثَبَاتِنَا فِي الْمَسِيح رَئِيسُ الْكَهَنَة الحَقِيقِي نَعْرِفُ الحَقَّ ( التُّمِّيم ) وَنَسِير فِي النُّور ( الأُورِيم ) وَنَتَقَبَّل مِنْهُ جَمِيع كُنُوز الحِكْمَة وَالعِلْم وَفِي سِفْر الرُؤْيَا حَيْثُ كَمَال إِسْتِعْلاَن مَجْدٌ الْمَسِيح الَّتِي تُعَبِّر عَنْ التُّمِّيم نَجِدَهُ مَاشِياً وَسَطْ المَنَائِر الذَّهَبِيَّة وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبُ نَارٍ الَّتِي تُعَبِّر عَنْ " الأُورِيم " حَيْثُ أنْوَارُه وَكَمَالاَتُه تَفْحَص طُرُقٌ الجَمِيعْ حَتَّى أنَّهُ يُنَادِي كُلُّ وَاحِدٌ ﴿ أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ ﴾ ( رؤ 2 : 2 ) حَقّاً إِنَّهُ أبُو الأنْوَار " الأُورِيم "الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ " التُّمِّيم " ( يع 1 : 17) . الأُورِيمَ وَالتُّمِّيمَ وَنِعْمَة العَهْد الجَدِيد :- فَإِنْ كَانَ الله قَدِيماً جَعَلَ إِعْلاَن مَشُورَتَهُ وَكَلِمَتَهُ عَنْ طَرِيقٌ الأُورِيم وَالتُّمِّيم المَوْضُوعَان عَلَى صَدْرَة رَئِيسُ الْكَهَنَة فَقَطْ عَنْ دُونْ جَمِيعْ أفْرَادٌ الشَّعْب وَأيْضاً جَعَلَ كَلِمَتَهُ تُعْلَنْ مِنْ خِلاَل الكَارُوبَان المَوْضُوعَان عَلَى غِطَاء التَّابُوت دَاخِل قُدْس الأقْدَاس ثُمَّ جَعَلَ كَلِمَتَهُ فِي فَمْ الأنْبِيَاء إِلَى أنْ أرْسَلَ لَنَا كَلِمَتَهُ فِي إِبْنِهِ بِحَسَبْ تَعْبِير القِدِيس بُولِس الرَّسُول ﴿ اللهُ بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ ﴾ ( عب 1 : 1 – 2 ) . أُورِيمِي وَتِمِّيمِي :- جَعَلَ الله رُوحُه القُدُّوس النَّاطِقٌ فِي الأنْبِيَاء يَسْتَقِر فِي كُلَّ أفْرَادٌ الكَنِيسَة المُقَدَّسَة فَلَمْ يَعُدْ هُنَاك فَرْداً وَاحِداً لَهُ أُورِيم وَتِمِّيم عَلَى صَدْرِهِ بَلْ كُلُّ فَرْدٍ لَهُ أُورِيماً وَتِمِّيماً دَاخِل قَلْبِهِ لَيْسَ خَارِجَه فَأعْطَانَا رُوح البُنُّوَة وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ تُرْشِدْنَا وَتُعَزِّينَا فِي دَاخِلْنَا تُحَكِّمْ خَطَوَاتْنَا وَتُنِير سُبُلَنَا إِنَّهَا نِعْمَة العَهْد الجَدِيد الَّتِي لاَ يُعَبَّر عَنْهَا فَجَعَلَنَا نَتَمَتَّعْ بِسَمَاع صَوْت مَشُورَتِهِ مِنْ المَذْبَح المُقَدَّس الَّذِي تُحِب الكَنِيسَة أنْ تَدْعُوه " النَّاطِقُ السَّمَائِي "وَأيْضاً نَسْمَعْ صَوْتَهُ مِنْ خِلاَل القِرَاءَات الكَنَسِيَّة الَّتِي تُحِبْ الكَنِيسَة أنْ تَدْعُوهَا " فَمْ الْمَسِيح " فَنَسْمَعْ مَا تَسْتَرِيح إِلَيْهِ قُلُوبْنَا .. وَأيْضاً أعْطَانَا آبَاء مُرْشِدِينْ نَلْتَمِس مِنْهُمْ تَأيِيدْ الصَوْت الدَّاخِلِي .. حَقّاً إِنَّهَا إِحْسَانَات العَهْد الجَدِيد حَيْثُ التَّمَتُّعْ الكَامِل بِالأُورِيم وَالتُّمِّيم الدَّاخِلِي الَّذِي يَجْعَل أبْنَاء العَهْد الجَدِيد يَعْرِفُونَ الحَقَّ وَكَيْفَ يُمَيِزُون بَيْنَ الأُمور المُتَخَالِفَة وَلاَ يَنْقَادُون وَرَاء أي رُوحٌ غَرِيب وَلاَ يَلْتَمِسُون مَشُورَة غَيْر مَشُورِة صَوْت الله السَّاكِنْ وَمُسْتَقِر دَاخِلْهُمْ فَلَمْ يَعُدْ يُقَال " أُورِيمَك وَتِمِّيمَك " بَلْ " أُورِيمِي وَتِمِّيمِي " . القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك الاسكندرية عن كتاب مَلاَبِس رَئِيس الكَهَنَة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل