المقالات

02 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً»

(يو 1: 14) خلقة الله للإنسان:- منـذ الأزل يحيـا الثالـوث القدوس: الآب والابـن والـروح القدس، في شـركة المحبة الإلهية، مكتفياً بهذه الشركـة العميقة بين أقـانيم الثالـوث القدوس في الجوهـر الإلهي الواحـد، كمُحب ومحبوب ومحبة، فجوهـره الإلهي هـو المحبة: «الله محبة» (1يو 4: 8).ولكـن الله مِـن فيـض محبتـه وعِظَـم جُـوده وصلاحه، خَلَـق الخليقة وأوجدها مـن العدم وبدون مادة موجودة سَلَفاً (كما كـان يُروِّج بعض الفلاسفة أنَّ المادة أزلية)، بل بكلمته الحيَّة، كما يقـول بـولس الرسـول: «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُـوَ ظَاهِرٌ» (عب 11: 3). ولأن الله هـو نبع الصلاح والمحبة، فقد خَلَقَ الإنسان واهباً إيَّاه نعمـة الخِلْقة على صورتـه ومثاله، مـانحاً إيَّاه الحيـاة الأبـديـة إن ظـلَّ الله في معرفـة الإنسان، طائعاً لأوامره الإلهية ووصاياه.وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي [الله صالحٌ، بل هـو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بـأيِّ شيء، وهـو لا يحسد أحداً حتى على الوجود. ولذلك خَلَقَ كلَّ الأشياء مـن العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وبنوعٍ خـاص تحنَّن على جنس البشر. ولأنـه رأى عـدم قُدرة الإنسـان أن يبقى دائماً على الحالة التي خُلِقَ عليها، أعطاه نعمةً إضافية، فلم يكتفِ بخَلْق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض؛ بـل خلقهـم على صـورتـه، وأعطاهم شركة في قوة كلمته، حتى يستطيعوا - بطريقةٍ ما، ولهم بعضٌ مـن ظِلِّ الكلمة، وقـد صاروا عُقـلاء - أن يبقـوا في سـعادةٍ ويَحْيَوْا الحيـاة الحقيقيـة، حيـاة القدِّيسين في الفردوس](1). سقوط الإنسان:- ولأن الله خَلَق الإنسـان على صورته ومثاله، ومِـن سـمات هـذه الصـورة العقل والحريـة والإرادة، دون سائر المخلوقـات الأرضية؛ أصبح الإنسان حُرّاً في اختياراته. فإن استمرَّ في طاعة الله وحِفْـظ وصايـاه سيَنْعَم بـالشركـة مـع الله، وسيصل حتماً ليكون على مثال الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها؛ ولكن إن خالَفَ وصايـا الله، ولم يكُن الله هـو مركـز حياتـه، بل ذاتـه وأنانيته هما محـور حياتـه، فحينئذ سيسقط مـن النعمة التي وُهِبَت له، وتُنزَع منه هـذه النعمة الإلهية الحافظـة له، ويُهيمن عليه الفساد، ويسود عليه الموت مع أنه خُلِقَ في البداية ليحيا: «إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَـةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ الْبِرَّ خَالـِدٌ. لكِـنَّ الْمُنَافِقِينَ هُـمُ اسْتَدْعَوُا الْمَـوْتَ بـِأَيْدِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ» (حكمة 1: 13-16) وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي[(لقد) خَلَقَ الله الإنسانَ، وكـان قصده أن يبقى في عدم فساد. أمَّا البشر، فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكَّـروا في الشـرِّ وابتدعـوه لأنفسهم فقـد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم بـه. ومِن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلِقوا، بـل إنَّ أفكارهم قادتهم إلى الفساد، ومَلَكَ عليهـم المـوت؛ لأن تعـدِّي الوصيـة أعـادهم إلى حـالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِـدوا مِـن العـدم، هكـذا أيضاً بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن](2) ولكـن القديس كيرلس الكبير يُصـرِّح أنَّ ما فَقَدَه الإنسان نتيجة لسقوطه، هـو الروح القدس عينه، ذلك الذي نَفَخَه الله في أنف آدم عندما خَلَقَه على صورتـه ومثالـه، وبـالتالي صـار الإنسان مُعرَّضاً لكلِّ عوامل الفساد والموت، فيقول[(لقـد) فـارَقَ الـروح القـدس الطبيعـة البشريـة التي صـارت مريضـة في كـلِّ البشر، ولكي تعـود الطبيعة البشريـة مـن جديـد إلى حالتها الأولى (التي خُلِقَـت عليها)، احتاجت إلى رحمة الله، لكي تُحسَـب بموجـب رحمة الله مُستحقَّة الروح القدس](3). هل التوبة وحدها تكفي لعودة الإنسان إلى حالته الأولى؟ إن الفساد الذي حـلَّ بالإنسان نتيجة للسقوط، وسيادة المـوت عليـه، قـد هيمَن على الكيـان البشري ككلٍّ. فقد تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان - ولم يفقدها - لكنه فَقَـدَ القدرة على مُشابهـة هـذه الصـورة الإلهيـة، وذلك بتَعَـرِّيـه مـن الـروح القـدس. فـأصبحت مجـرَّد التوبة، لا تكفي لعودة الكيان البشري إلى ما كـان عليه قبل السقوط، وبالتالي عـدم قدرة الإنسـان على اقتناء الروح القدس الذي فَقَده.ويُوضِّح القديس أثناسيوس الرسولي هذا الأمر بقوله [لكن التوبة تعجز عن حِفْظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقاً إنْ لم يظلَّ الإنسان في قبضة الموت (لأنـه تعدَّى فحُكِمَ عليه بـالموت كقول الله)، ولا تقـدر التوبـة أن تُغـيِّر طبيعـة الإنسان، بل كـل ما تستطيعه هـو أن تمنعهم عن أعمال الخطية. فلو كان تعدِّي الإنسان مجرَّد عملٍ خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أمَّا الآن بعد أن حـدث التعدِّي، فقد تورَّط البشر في ذلك الفساد الذي كان هـو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مُمَاثلة صورة الله](4) ولكن، ليست التوبة فقط هي التي لا يمكن أن تُجدِّد كيـان الإنسان الذي تشوَّه بـالتعدِّي، ولكن ”بعـد أن خَلَق الله الإنسـان، وصـار موجـوداً، استدعت الضرورة علاج ما هـو موجود (فعلاً)، وليس مـا هـو غير موجود“. وأيضاً لا يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تكـون لديها القدرة على تجديـد خِلْقة الإنسـان على مثال الصورة التي جُبِلَ عليها. فـالإنسان مخلوقٌ على مثال تلك الصورة الإلهية، وليس هو الصورة عينها؛ كما أنَّ أيَّة خليقـة أخرى ليست هي صورة الله التي على مثالها خُلِقَ الإنسان. هل يمكن تجديد كيان الإنسان بأَمرٍ إلهي؟ ويستطرد القديس أثناسيوس الرسولي في توضيح هذه النقاط قائلاً[في البدء لم يكـن شيءٌ موجوداً بالمرَّة. فكلُّ مـا كـان مطلوبـاً هـو مجرَّد نُطق مـع إرادة (إلهيـة) لإتمـام الخَلْق. ولكـن بعـد أن خُلِـقَ الإنسـان، واستدعت الضـرورة عـلاج ما هو موجودٌ، وليس مـا هـو غير موجود؛ عندئذٍ كـان مـن الطبيعي أن يَظهر الطـبيب والمُخلِّـص فيمـا هـو موجـودٌ، لكي يشفي الخلائق الموجودة (فعلاً) ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضاً، أنَّ الفساد الذي جرى (للطبيعة البشرية)، لم يكن خارج الجسد، بل كان مُلتصِقاً بـه. وكـان الأمر يحتـاج إلى أن تلتصـق بـه الحيـاة بـدلاً مـن الفسـاد، حتى كما صـار المـوت في الجسـد، تصـير الحياة في داخـل الجسـد أيضاً](5). وهل يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تُجدِّد كيان الإنسان؟ وفي مَثَلٍ واقعي يسرد القديس أثناسيوس الرسولي هذه القصة التي توضِّح مَقْصده [أيُّ مَلِكٍ، وهو مجرَّد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بـلاداً، (فهل) يترك مواطنيه لآخريـن يستعبدونهم؟ وهـو لا يَدَعهم يلتجئون لغيره؛ لكنه يُنذرهم برسائله، ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مـراراً، وإنْ اقتضـى الأَمـر يذهـب إليهم بشخصه، لكي يوبِّخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكـلُّ ذلك لكي لا يصيروا خُدَّاماً لغيره فيذهب عمله هباءً أَفـلا يُشفق الله بـالأَوْلَى على خليقته، كي لا تضلَّ عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يَظهر أنَّ هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟! وليس لائقاً أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرَّةً شركاء في صورة الله إذن، فما هـو الذي كـان مُمكناً أن يفعله الله؟ وماذا كـان يمكن أن يتمَّ سوى تجديـد الخليقـة التي وُجِـدَت على صـورة الله مـرَّةً أخرى ولكن كيف كـان مُمكناً لهـذا الأمـر أن يحدث إلاَّ بحضور نفس صورة الله، مُخلِّصنا يسوع المسيح؟ فذلك الأمر كـان مُستحيلاً أن يتمَّ بواسطة البشر، لأنهم هُم أيضاً خُلِقوا على مثال تـلك الصـورة (وليسوا هـم الصورة عينـها)؛ ولا أيضـاً بـواسـطة الملائكـة، لأنهـم ليسـوا صُوَراً (لله). ولهذا أتى كلمة الله بذاتـه، لكـي يستطيع، وهـو صـورة الآب، أن يُجدِّد خِلْقـة الإنسـان، على مثال الصورة (الإلهية)](6) ضرورة تجسُّد كلمة الله ذاته رأينا أنه لا توجد وسيلة واحدة تستطيع أن تُحقِّق خلاص الإنسان، وتُجدِّد صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط، كمـا يقول القديس أثناسيوس: ”لـو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كـل هـذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عـن الله“. ويستطرد قائلاً: ”لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أمَّـا الآن، وبعد السقوط، فإنَّ هـذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هي غير مضمونـة، لأن البشر أهملوهـا سابقاً؛ بـل إنهم مـا عـادوا يرفعون أعينهم إلى فوق، بـل صاروا يشخصون إلى أسفل“(7).فبسبب عدم نفع كل هـذه الوسائل، وأيضاً بسبب أن تجسُّد كلمة الله كان في فكر الله من قبل تأسيس العالم وخِلْقة الإنسان، لذلك يقول القديس كيرلس الكبير[صار الابـن الوحيد كلمة الله إنسانـاً، وظهر للذين على الأرض بجسدٍ مـن الأرض، ولكنه خـالٍ مـن الخطية، حتى فيـه وحـده تُتـوَّج الطبيعـة البشريـة بمجد عدم الخطية، وتغتني بـالروح القـدس، وتتجـدَّد بـالعودة إلى الله بالقداسة. وكما قلتُ، فـإن الطبيعة البشرية قد مُجِّـدَت فيه، وصارت فيـه مُستحقَّة للحصول على الروح القدس الذي لن يفارقها (فيما بعد) كما حدث في البدء، بـل صارت مسرَّتـه (أي الـروح القدس) أن يسـكن فينا. لـذلك أيضاً كُتِبَ أنَّ الـروح القدس حـلَّ على المسيح واستقرَّ عليه (يو 1: 32). فالمسيح هو كلمة الله الذي لأجلنا صـار مثلنا، وفي صـورة العبد، ومُسِحَ كـإنسانٍ حسـب الجسد، ولكنـه كـإله يَمْسَح بروحه الذين يؤمنون به](8)فلا يمكن أن تتجدَّد صورة الله التي تشوَّهت في الإنسان، إلاَّ بواسطة كلمـة الله نفسـه الذي جَبَل الإنسـان على مثـال هـذه الصورة. ولا يمكن أن يُغلَب الموت الذي تغلغل داخـل الكيان الإنساني إلاَّ بواسطـة مَـن هـو الحيـاة عينها، أي كلمة الله، فتتواجَه الحياة مع الموت السائد على الإنسان داخل الطبيعة البشريـة نفسها، والتي اتَّحد بها كلمة الله وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطية وحدها. ولكن كما نقول في مَرَد ثيئوطوكية الخميس من التسبحة اليوميـة: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“ويقول القديس أثناسيوس الرسولي[لقـد تحدَّثنا، إذن، وبـاختصار... عـن سبب ظهوره (أي ظهور كلمة الله) في الجسد، وأنه لم يكُن مُمكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ المُخلِّص نفسه، الذي خَلَقَ منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكُن مُمكناً أن يُعيد خَلْقَ البشر ليكونوا على صورة الله إلاَّ هـو صورة الآب. ولم يكُن مُمكناً أن يجعل الإنسان غير مائتٍ إلاَّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 3: 3. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 4: 4. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 7: 4،3. (5) ”تجسُّد الكلمة“، 44: 4،2. (6) ”تجسُّد الكلمة“، 13: 5-7. (7) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 7،5. (8) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (9) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 1.
المزيد
01 يناير 2021

شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى

"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22 مقدمة يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية: داود وشخصيته العظيمة اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات. داود الحلو الجميل الروح وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!.. داود الرقيق القلب وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!.. داود الصلب الإرادة إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!.. داود القوي الإيمان تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!.. داود الشجاع الجسور إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!. داود الغيور الملتهب كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!.. داود الواسع الصبر ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!. داود الوديع المتواضع وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!.. داود المحب الكبير ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!. داود ومدارسه الكبرى وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها: مدرسة الآباء والأجداد كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!.. مدرسة الطبيعة وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!.. مدرسة الألم لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!.. مدرسة الواجب وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!.. داود وضعفاته المحزنة لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!.. ضعف الإيمان وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!.. ضعف التسامح ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية.. السقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. داود وخدماته ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها.. خدم مؤسساً وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!. خدم معطياً ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين... خدم مرنماً لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد
31 ديسمبر 2020

لوم النفس ج2

6- يقود إلى الإتضاع:- الذي يلوم نفسه ، يصل إلي الإتضاع وانسحاق القلب ، ولا يكون كبيراً أو باراً في عيني نفسه ، لأنه بلوم لنفسه يدرك نقائصه وضعفاته . الشخص المتضع ، باتضاع يصل إلي لوم النفس . والذي يلوم نفسه ، يصل بذلك إلي الإتضاع .كل واحد من هاتين توصل إلي الأخرى ، لأنهما مراتبطان . إن بدأت بأي منهما يمكن أن تصل إلي الأخرى . وكل واحدة منهما . تكمن الأخرى في داخلها . إذ كيف يمكن لإنسان أن ينتفخ ، أو يفتخر بنفسه ، أو يكون باراً في نظر نفسه ، بينما أخطاؤه ماثلة أمام عينيه ؟! يتذكرها فتنحني نفسه في داخله و المتضع الذي يلوم نفسه ، لا شك يشفق علي غيرة أنه يدرك تماماً ضعف النفس البشرية أما هجمات الشيطان وحيله ودهائه وإغراءاته ، لذلك فإنه يعذر كل من يسقط ، ولا يقسو عليه مطلقاً في أحكامه ، متذكراً قول القديس بولس الرسول " اذكروا المقيدين ، كأنكم مقيدون معهم " " اذكروا المذلين كأنكم أنتم أيضاً في الجسد "( عب 13: 3) . من أجمل الأمور في الحياة الروحية ، أنك تكون شديداً علي نفسك ، تلومها في كل خطأ . وعلي العكس من الناحية الأخرى ، تكون شفوفاً علي المخطئين ، تحاول أن تعذرهم بقدر ما تستطيع ... وكما يقود لوم النفس إلي الإتضاع ، يقود أيضاً إلي الدموع ... 7- يقود إلى الدموع:- لذي يتذكر خطاياه ، ويحزن عليها ، ويبكت نفسه عليها ، يؤهل لموهبة الدموع . والدموع تغسل نفسه من كل خطية ، وتجعله منسحق القلب . قريباً إلي الله . أما الذي لا يلوم نفسه ، فعيناه باستمرار جافتان ، مع قسوة في القلب ... المرأة الخاطئة ، في تذكرها لخطاياها ، بللت قدمي الرب بدموعها في بيت الفريسي . وكانت دموعها مقبوله أمام الله ، فنالت المغفرة ... ونحن نتذكر دموع هذه المرأة في صلاة نصف الليل ، فيصرخ القلب قائلاً " أعطني يارب ينابيع دموع كثيرة ، كما أعطيت في القديم للمرأة الخاطئة .." ( لو 7: 38) . من فوائد لوم النفس ، أنه يؤدي إلي التوبة ، وإلي الإتضاع والانسحاق و الدموع . كذلك هو يؤدي إلي الصلح و السلام مع الناس . 8- الصلح والسلام مع الناس:- الذي يلوم نفسه يمكنه أن يعيش في سلام دائم مع الناس .حتي إن حدث خلاف ، فبلوم النفس يسهل أن يتم الصلح . إن الخصومة تشتد ، حينما يصر كل من الطرفين علي موقفه، ويبرر نفسه مدعياً أن الحق في جانبه ، وأن الجانب الأخر هو المخطئ . أما إن سلك أحدهم باتضاع ، وأتي بالملامة علي نفسه في هذه الخصومة ، حينئذ ما أسهل ان يتم الصلح ... فالخصم لا يحتمل أن يسمع منك عبارة " حقك علي . وأنا غلطان "أو قولك له " أنا آسف جداً ، لأني آلمتك أو أحزنتك " ( ... وكما قال الحكيم" أن " الجواب اللين يصرف الغضب "( أم 15: 6) . إن كثيراً من الذين يعاتبونك ، أو غالبية الذين يعاتبونك ، أو كل الذين يعاتبونك ، إنما يريدون أن يسمعوا منك كلمة واحدة ، تلوم بها نفسك ، وتعطيهم الحق ، فينتهي الموضوع عند هذا الحد . وإلا فإن تبرير النفس يقود إلي العناد . والعناد يشعل الخصومات . إن الذي يلوم نفسه ، لا يعاند ، ولا يقاوم ، ولا يخاصم ، ولا يجادل كثيرا ، ولا يرد علي الكلمة بمثلها أو بما هو أقسى ... إنما يسلك مسالماً للناس ، مراضياً لخصمه مادام معه في الطريق ... ( مت 5: 25) . إن شيطان الغضب ، وشيطان الخصومة ، شيطان العناد ، وشيطان الكبرياء ، كل أولئك يقفون في حيرة كل الحيرة أمام الشخص الذي عنده فضيله لوم النفس ، لا يعرفون كيف ينتصرون عليه . بل هم يصرون علي أسنانهم في غيظ ، مهزومين أمام هذا الذي لا يبرر نفسه أبداً ، ولا يغضب من أحد ولا يخاصم ولا صيح ، وبالجواب اللين و الكلمة الطيبة ، وجلب الملامة علي نفسه يحل كل خصومة ، ويصرف كل غضب إنه يعيش وديعاً هادئاً مسالماً ، يحبه الكل فهو لا ينازع أحداً ، ولا يسمح لنفسه أن يغضب من احد ، مهما كان الحق في جانبه ، لأنه يلوم نفسه قائلاً : إن غضبت من هذا الإنسان وثرت عليه ، أكون قد فقدت فضيلة الوداعة ، وفقدت الاحتمال الحب وفضيلة السلام مع الناس ... وأكون بهذا مخطئاً .وهكذا يلوم نفسه لا علي أخطاء أرتكبها ، إنما علي أخطاء يحذر نفسه الوقوع فيها وبهذا يكون حريصاً ومحترساً ، وتتقدم نفسه نحو الكمال . وهذه فائده أخري من فوائد لوم النفس فإنه : 9- يفتح أبواب الكمال والنمو:- لوم النفس يساعد علي التقدم في الحياة الروحية . لأن كل شئ يلوم الإنسان نفسه عليه يحاول أن يتخلص منه ، ويتنقى منه ، وهكذا يتقدم في حياته الروحية وينمو .كذلك يلوم نفسه في فضائلة ، مقارناً إياها بمستويات أعلي .كل فضيله يمارسها ، بدلاً منه ... نراه يقارن حالته بما وصل إليه القديسون في هذه الفضيلة ، فيري أنه لا شئ إلي جوارهم ، وأن كل ما فعله تافه وبسيط ، ولا يقاس بتلك القمم العالية ... فيلوم نفسه ويدفعها إلي قدام نحو الكمال ، فينمو ... وهكذا كان يفعل القديس بولس الرسول إذ يقول : ليس إني نلت أو صرت كاملاً ولكني أسمع لعلي أرك ... أيها الأخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت ، ولكني أفعل شيئاً واحداً ...ونسأله ما هو ؟ فيجيب أنسي ما هو وراء ، وأمتد إلي ما هو قدام ( في 3: 12، 13) لا يقصد أنه ينسي الخطايا التي في الماضي ، فقد كان يذكر دائماً أنه كان مضطهداً للكنيسة ... إنما هو ينسي كل الفضائل التي أتقنها من قبل ، لكي يمتد إلي ما هو قدام ، ساعياً نحو الغرض . وفي كل فضائله كان يلوم نفسه بعبارة " لست أحسب نفسي أني قد أدركت ".لهذا السبب ، كانا القديسون يعترفون بأنهم خطاة .حقيقة واضحة ندركها كلما تأملنا في بستان الرهبان ، أو سير القديسين ، أو صلواتهم : يعترفون باستمرار أنهم خطاة ، بل ويبكون علي خطاياهم ... ونسأل أنفسنا ماذا كانت خطايا القديسين ، وهم في ذلك السمو ؟ إنها ليست فقط خطايا الماضي التي غفرها الرب لهم ::: إنما بالأكثر ، نظرهم إلي الفارق الكبير الذي بينهم وبين الكمال المطلوب ، فيقول كل منهم مع الرسول لست أحسب نفسي أني قد أدركت ( في 3: 13) وهكذا بلوم النفس علي حالتها ، كان القديسون يمتدون نحو الكمال أما الذي لا يلوم نفسه ، أو يرضي بحالته التي هو فيها ، فإنه قد يعيش جامداً مجمداً في الوضع الذي هو فيه ، لا يتحرك منه إلي قدام ... لا يفكر في وضع افضل ، ولا يسعي إلي درجة أعلي ،لأنه راض عن نفسه بما قد وصل إلية ... ! مثل الذي استقر علي مجموعة من المزامير يصليها ، وانتهي به الأمر عند هذا الحد دون ان يفكر في إضافة شئ ، ودون أن يفكر في عمق الصلاة ، وحرارتها وما يمتزج بها من حب وإيمان وأتضاع ... والامتداد علي يعمق صلته بالله أكثر ...! ليتنا فى آخر هذا العام أجلس إلي ذواتنا ، ونفكر في خطايانا ، ونلوم أنفسنا علي عيوبنا ونقائصنا ، ونقارن ما وصلنا إليه بالمستويات العليا التي وصل إليها القديسون ... ولا نعذر أنفسنا مهما كانت الظروف ، بل نبعد عن تبرير الذات ، لأن هذا لا يرضي الله ، ولا ينقينا ، ولا يقودنا إلي التوبة ... وفي كل ذلك نربط لوم النفس بفضيلة هامة جداً وهي : 10- الحكمة والافراز:- ينبغي أن يرتبط لوم النفس بالحكمة والإفراز فلا يكون مجرد لوم ظاهري بعيد عن الاقتناع الداخلي ، لأن هذه الفضيلة ليست مجرد لسان ، إنما هي فضيلة قلب . كذلك ينبغي ألا يقودنا لوم النفس إلي اليأس و التعب النفسي ، إنما في كل لومنا لأنفسنا نحرص علي هذا أن يكون لوم النفس ، ممزوجاً بالرجاء نلوم أنفسنا علي أخطائها ، ونحن مملوءون رجاء في التخلص من هذه الأخطاء . ونلوم أنفسنا علي ضعفها ولنا ملء الرجاء في قوة الله العاملة معنا المعينة لضعفنا ونلوم أنفسنا علي ضعف مستوانا ، ولكن في رجاء " نمتد إلي قدام " نقول " لست أحسب أني قد أدركت "، وفي فمنا أيضاً عبارة الرسول " ولكني اسعي نحو الغرض اسعي لعلي أدرك " نلوم أنفسنا لأننا سقطنا . ولكن يقول كل منا أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني ( في 4: 13) إذن قف في ختام هذا العام لكي تعد خطاياك أمام الله ، وتبكت نفسك عليها أمامه ، وتطلب عنها مغفرة ...وفي ليلة رأس السنة ، وكلما نقول " يارب أرحم " عدداً من المرات في كل مرة أذكر خطية من خطاياك ، في ندم عليها ، طالباً العشار فتبرر قل ذلك في انسحاق قلب ، وليس في روتينية أو شكلية . وأذكر العابرة التي قالها القديس الأنبا أنطونيوس الكبير "أن ذكرنا خطايانا ، ينساها لنا الله وإن نسينا خطايانا ، يذكرها لنا الله" أذكرها جميعاً إذن ، وأطلب من الله قوة ، حتي تنتصر عليها في المستقبل . وفي لوم لنفسك أذكر أيضاً إحسانات الله إليك ، واشكره . وأبدأ العام بالشكر:- مجرد أن الله أعطاك عاماً جديداً ، أمر يستحق ان تشكره عليه ، لأنه أعطاك فرصة للتوبة ، أو لتحسين مستواك الروحي والاهتمام بأبديتك في بداية العام أيضاً ، أذكر إحسانات الله إليك تذكرها جميعاً واحدة ، واشكر الله عليها . وأذكر مزمور الشكر ( مز 103) الذي قال فيه داود النبي " باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل إحساناته ". وتأمل أيضاً في عبارات صلاة الشكر ولا تشكر فقط علي إحسانات الله إليك في العام الماضي ، إنما ايضاً في كل أيام حياتك . وكذلك إحساناته إلي أحبائك (1) له المجد إلي الأبد آمين قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب كيف نبدأ عاما ً جديداً
المزيد
30 ديسمبر 2020

لوم النفس ج1

هوذا نحن علي أبواب عام جديد ، ومن المعروف أن كل إنسان يحب أن يبدأ عامه الجديد بالتوبة و النقاوة ، وطبعاً يبدأه بالاعتراف . وهذا الأمر يحتاج منه إلي جلسة مع نفسه لكي يحاسبها ويلومها علي أخطائها . لذلك أحب أن أقول لكم كلمة مختصرة عن فضيلة لوم النفس . لأن الذي ليست له فضيلة لوم النفس ، لا يعرف أن يجلس مع نفسه وإن جلس مع نفسه لا يستفيد . ومادام لا يلوم نفسه ، إذن فسوف لا يعترف بخطاياه ، وبالتالي سوف لا يتوب ، ويظل العام الجديد كسابقه ، بنفس أخطائه ! لذلك أود أن أكلمكم عن أهمية لوم النفس ، وعن الفضائل التي يحصل عليها الإنسان من لومه لنفسه . 1- معرفة حقيقة النفس:- الذي يلوم نفسه ، يستطيع أن يعرف حقيقة نفسه كثير من الناس نفوسهم مغلقة بالتبريرات والعذار والفهم الخاطئ . وهم لا يلومون أنفسهم ، لأنهم يدللون أنفسهم ، ويعذرون أنفسهم في كل شئ . أنهم لا يقبلون إطلاقاً أن يأتوا باللائمة علي أنفسهم ، لذلك لا يعرفون حقيقة ذواتهم . وقد تبقي ذات كل منهم جميلة في عينيه ، علي الرغم من كل نقائصها ! مثل هذا الإنسان ، الذي لا يلوم نفسه ، وبالتالي لا يعرف حقيقة نفسه ، هو محتاج أن ياتية اللوم من الخارج هو في مسيس الحاجة إلي إنسان من الخارج يلومه ، ويعرفه حقيقة نفسه ويفهمه أخطاءه ومواضع الزلل في تصرفه ، بل ويعرفه مقدار عمق خطيئته ، ويبكته عليها مادام ضميره لم يبكته . وقد فعل الله مع داود ، حينما أرسل إليه ناثان ، ليلومه ويعرفه كم هو مخطئ ، ويقنعه أن يقول " أخطأت إلي الي الرب "( 2صم 12: 13 ) . وفي مرة أخري ، لم يكن داود يلوم نفسه ايضاً ، فأرسل له الله أبيجابل لتعرفه مقدار الخطأ الذي كان هو مزمعاً أن يقع فيه ، لكي تمنعه عن ذلك . وفعلاً .استجاب داود وقال لها " مبارك عقلك ، ومباركة أنت ، لأنك منعتني اليوم عن إتيان الدماء وانتقام يدي نفسي "( 1صم 25: 23) . إذن إن الإنسان لا يلوم نفسه علي أخطائه ، بعد فعلها ، أو علي أخطائه التي هو مزمع أن يفعلها ، فقد يرسل له الله من يلومه ، كما أرسل أبيجايل وكما أرسل ناثان . ولكن الأفضل أن يكون القلب من الداخل سليماً ؟، فيلوم الإنسان نفسه . ولذلك قال القدس مقاريوس الكبير أحكم يا أخي علي نفسك ، قبل أن يحكموا عليك . إن حكمت علي نفسك ، فأنك سوف تعرف حقيقتها وكم هي خاطئة . وإن عرفت حقيقة نفسك ، فإنك سوف تدينها وتحكم عليها . هذه توصل إلي تلك كل إنسان لم يحكم علي نفسه ، ولم يلم نفسه ، هو إنسان لم يعرف نفسه بعد : لم يفحصها ، لم يحاسبها ، لم يكن صريحاً معها . هناك فائدة أخري للوم النفس ، وهي : 2- عدم إدانة الآخرين:- إن الذي يلوم نفسه ، ينشغل ، ينشغل بها وبتقويمها وفي خجله . وفي أخطائها ، لا ينظر إلي خطايا غيره . وفي ذلك قال القديسون الذي ينشغل بخطاياه ، لا يكون له وقت يدين فيه خطايا أخيه إن استطاع أن يبصر الخشبة التي في عينيه ، يخجل من التحدث عن القذي التي في عين أخيه ... وغنما كلما تحدث عن غيره ، ويقول : هذا أفضل ، وهذا أبر مني ومهما كانت خطايا فلان ، فإن خطاياي أنا أكثر وأبشع ... أما الشخص البار في عيني نفسه ، فإن يجلس ويلوم الآخرين ! وربما في نقائصه وعيوبه ، يأتي باللائمة علي غيره فإذا أخطأ يأتي باللائمة علي الناس ، وعلي الظروف ، وعلي البيئة ... علي الناس الذين أوقعوه في الخطيئة ، كما حدث لآدم إذ ألصق السبب في خطيئة بحواء ... وقد يلصق الإنسان السبب ، بالظروف المحيطة ، كما برر إيليا هروبه بقوله للرب " قتلوا أنبياءك بالسيف ... وهم يطلبون نفسي ليأخذوها "( 1مل 19: 14 ) ... وقد يلصق السبب بالبيئة ، كما حدث أن آبانا إبراهيم قال عن زوجته سارة إنها أخته ! ثم حاول أن يغطي ذلك بقوله " أني قلت : ليس في هذا الموضع خوف الله البتة ، فيقتلوني لأجل إمراتي "( تك 20: 11) . ولوم كان إبراهيم يلوم نفسه ما قال هذا . وكذلك لو كان أبونا آدم يلوم نفسه ، ما لام حواء ، ولو كان إيليا النبي يلوم نفسه ، ما لام الظروف ولكن الإنسان يلوم غيره ويدينه ، لكي يبرر نفسه لأنه لا يريد أن يلوم نفسه ، ولا يريد ان يلومه الناس ، فيلصق خطيئته بغيره ليخرج هو بريئاً ...!كثيرون يغسلون أيديهم بالماء ، كما فعل بيلاطس ؟! خير للأنسان أن يلوم نفسه ، من أن يبرر نفسه والذي يلوم نفسه ضعفه ، فيعذر غيرة ولا يدينه حدث للقديس موسى السود ، الذي رفض أن يدين راهباً مخطئاً عقد له مجمع لإدانته . حمل هذا القديس علي ظهره كيساً مملوءاً بالرمل ومثقوباً . ولما سئل في ذلك قال " هذه خطاياي وراء ظهري تجري وقد جئت لإدانة خطايا أخي .." ! الذي يلوم نفسه ، إن سئل عن خطايا شخص آخر ، يقول لسائله : اسألني عني خطاياي أنا . أما ذلك الإنسان فهو أبر مني . أخاطئ هو ؟ لست أعلم ( يو 9: 25). الذي يلوم نفسه ، لا يقسو في الحكم علي خطايا الآخرين ، كما فعل الفريسيون الذين طلبوا رجم المرأة الخاطئة ، فقال لهم السيد المسيح من كان منكم بلا خطية ، فليقذفها أولاً بحجر ( يو 8 : 7) ذلك لأن الذي يقذف بالحجارة ، إنما يظن في نفسه أنه بلا خطية ، أو علي الأقل يكون في ذلك الحين ناسياً لخطاياه ، وليس في وضع من يلوم نفسه . اما الذي الأقل يكون في ذلك الحين ناسياً لخطاياه ، وليس في وضع من يلوم نفسه . اما الذي يلوم نفسه ، فإنه يقول في فكره " من أنا حتي ألوم الناس ؟ أنا الذي فعلت كذا وكذا ... الأولي بي أن أصمت مادام الله قد سترني ... تري لو سمح الله أن أنكشف ، أكنت أستطيع أن أتكلم . هذا عور من يضع خطيئته أمامه في كل حين ( مز50) . ولكن للأسف فإن كثيرين ، من أجل راحة نفسية زائفة ، أو من اجل كبرياء داخلية ومجد باطل ، وليس من أجل أبدتهم ، لا يحبون أن يتذكروا خطاياهم ،ولا أن يلوموا أنفسهم ، كما لا يقبلون أن يأتيهم اللوم من آخرين ! ... يحبون أن ينسوا خطاياهم ، وفي نفس الوقت يذكرون خطايا الناس ...! وما الفائدة لهم من كل هذا ، سواء في السماء أو علي الأرض ؟! لا شئ . حقاً ما أجمل قول القديسين إن دنا أنفسنا ، رضي الديان عنا . من فوائد لوم النفس أيضاً : إصلاح الذات وتنقيتها . 3- إصلاح الذات وتنقيتها:- الذي يلوم نفسه ، يكون مستعداً لإصلاح ذاته ما دمت أعرف أن هذه خطية ، يكون عندي إذن استعداد لكي أتركها . ولكن كيف يمكن لإنسان أن يترك شيئاً ، مادام لا يلوم نفسه إطلاقاً علي عمله ؟! إذن لوم النفس يسبق بلا شك تنقية النفس من أخطائها . هو خطوة أولي التوبة أما تبرير الذات ، فهو الذات ، فهو شيطان يلتهم التوبة ويفترسها .إن وجد الشيطان إنساناً يلوم نفسه ، ويريد أن يترك الخطية ويتوب ، يحاول الشيطان أن يخرجه من هذا النطاق الروحي ، ويقول له : لا تظلم نفسك بلا داع . في أي شئ أخطأت ؟ إن الموقف كان طبيعاً جداً . لك عذرك في هذا الأمر . والمسئولية تقع علي فلان وفلان . أو أن الظروف كانت ضاغطة . و الضغوط الخارجية نفسك بلا سبب ...! هذا هو كلام الشيطان ، أسلوب تبرير الذات . أما القديسون فيقولون في كل ضيقة تحدث لك ، قل هذا بسبب خطاياي إنك لن تخسر شيئاً إذا لمت نفسك . بل إن هذا يقودك إلي التوبة إن كنت مخطئاً ، وينميك روحياً إن كنت بريئاً . في إحدى المرات زار القديس الباب ثاوفيلس جبل نتريا ، والتقي بأب الرهبان المتوحدين في هذا الجبل ، وسأله كأب عن أعظم الفضائل التي أتقنوها طول ذلك الزمان في الوحدة القديس أب رهبان نتريا صدقني يا أبي لا يوجد أفضل من أن يرجع الإنسان باللائمة علي نفسه في كل شئ ... فائدة أخري للوم النفس ، وهي أنه يساعد علي الاعتراف : 4- المساعدة على الإعتراف:- ما هو الاعتراف في معناه الروحي ؟ الاعتراف هم أن يدين الإنسان نفسه يدين الإنسان نفسه أمام الله ، في سمع الأب الكاهن ، لينال المغفرة فإن كان الإنسان يلوم نفسه ، كيف سيعترف إذن وكيف ينال المغفرة ؟ الخطوة الأولي هي بلا شك ، أن يدين نفسه فيما بينه وبين نفسه ، في داخل قلبه وداخل فكره . حينئذ يمكنه أن يعترف بهذه الخطية أمام الله في صلواته ، ثم يمكنه أن يعترف بها أمام الكاهن ... أما الذي يفقد الخطوة الأولي ، التي هي لوم النفس ، فمن الطبيعي أنه سيفقد باقي الخطوات ... ولذلك ، فالذي لا يلوم نفسه ، لا يعترف ... علي الأقل لا يعترف بالنقط التي لا يلوم نفسه عليها ... وقد يجلس مع أب الاعتراف وقتاً طويلاً ، ومع ذلك لا يعترف ... وكيف ذلك ؟ بعض الناس تتحول اعترافاتهم إلي شكوي ، ضد غيرهم ! هم يشكون ظروفهم ، في البيت أو في العمل ، أو في الكنيسة ... مثل زوجه تجلس مع الأب الكاهن لتعترف ، فتحكي سوء معاملة زوجها لها . فتعترف بخطايا زوجها ، وليس بخطاياها هي . أو تعترف بمشاكل ومتاعب تحيط بها . أما نفسها فلا تقول عنها شيئاً ، لأنها لم تجلس أولاً لكي تلوم نفسها قبل الاعتراف ! وهناك من في اعترافه ، يدين أب الاعتراف نفسه ! يقول له : أنت يا أبانا مقصر في حقي ، لا تفتقدني ، لا تهتم بي ، لا تعطيني تداريب روحية ، لا تحل مشاكلي ، لا تتابع حياتي الروحية ، لا تصلي لأن خطاياي ومشاكلي مازالت كما هي باقية ... أنت يا أبي لا تسأل عني ..! فهل هذا يمكن أن نسميه اعترافا ؟! حيث ينسي الإنسان نفسه ونقائصها ، ولا يلوم نفسه ... بل يجعل سبب ضعفاته ، عدم اهتمام أب الاعتراف به . فيلوم أب الاعتراف ، بدلاً من أن يلوم نفسه ...ثم بعد ذلك يطلب تحليلاً ... ! تحليلاً عن ماذا ؟! إننا نريد أن تبدأوا هذا العام بالاعتراف السيلم بلوم النفس أمام الله ، في اقتناع كامل بكل أخطائها ونقائصها ، وبدون تقديم أعذار أو تبريرات للتخفيف من ثقل خطاياها ... ولا نقف أمام الله لنشكو غيرنا ، إنما لنشكو أنفسنا التي تعدت كثيراً علي وصاياه لذلك أجلسوا إلي أنفسكم وحاسبو ، وفتشوا علي نقائصكم حاولوا أن تبصروا كل ما فيكم من عيوب ، لكي تستطيعوا أن تتخلصوا منها وتتنقوا ... فالجلوس مع النفس هو تمهيد للوم النفس . ولوم النفس هو تمهيد للاعتراف والتوبة . وهذا ما نريد أن نبدأ به عامنا الجديد ...نلوم أنفسنا أمام ذواتنا ، أمام الله ، وأمام الأب الكاهن ... وهكذا لوم النفس يقودنا إلي المغفرة . وهذه فائده أخري . 5- يقود إلى المغفرة:- ما الذي يغفره لك الله ؟ هو ما تعترف بأنك أخطأت فيه أما الذي تقول انك لم تخطئ فيه ، طبيعي إنك لا تطلب عنه المغفرة ، وبالتالي لا تنال مغفرة عنه إن كان في واقعه خطأ . إن كنت تعرف أنك مريض ، فسوف تسعي إلي الطبيب لكي تشفي ... وأما إن أصررت علي أنك سليم وصحيح ، فحينئذ ستسمع قول الرب لا يحتاج الإصحاح إلي طيبي ، بل المرضي ( مت 9: 12) إن العشار الذي لام نفسه وقال " إني خاطئ " أسحق أن يخرج من الهيكل مبرراً ، بعكس الفريسى الذي لم يجد شيئاً يلوم عليه نفسه فقال : أشكرك يارب إني لست مثل سائر الناس الظالمين الخاضعين الزناة ( لو 18: 11) حقاً ما الذي يمكن ان يغفره الله لهذا الفريسى ( البار ) ؟! آيه خطيئة يغفرها لهذا البار في عيني نفسه ، الذي لم يعرض خطيئة واحدة أمام الله طالباً عنها مغفرة ... لو كان خاطئاً مثل العشار ، لكان يطلب الرحمة مثله . ولكنه يفتخر قائلاً إنني " لست مثل هذا العشار ". لم يعترف بخطايا تحتاج بخطايا تحتاج غلي غفران ، ولم يطلب غفراناً . فأبعد نفسه عن المغفرة وعن التبرير بدم المسيح . كذلك لم يقل الكتاب إن الله قد برر الابن الأكبر ، الذي هو أيضاً لم يجد شيئاً يلوم عليه نفسه ، بل أكثر من هذا غضب وألقي اللوم علي أخيه وعلي أبيه فقال له " أنا أخدمك سنين هذا عددها ، وقط لم أخالف وصيتك . وجدياً لم تعطني قط لأخرج مع أصدقائي ..." ( لو 15: 29) . حقاً أية مغفرة تعطي لمن يقول : قط لم أخالف وصيتك ونفس هذا الابن لم يطلب مغفرة ، لأنه لم يجد في تصرفاته خطأ واحداً يحتاج إلي مغفرة !! أما أخوه الأصغر فقد تبرر لأنه لام نفسه وقال لأبيه " أخطأت إلي السماء وقدامك . وليست مستحقاً أن أدعي لك أن تدعي لك أبناً .." إذن أن كنت لا تدين نفسك فأنت تبدو باراً في عيني نفسك ، بينما السيد المسيح قد قال ما جئت لأدعوا أبراراً ، بل خطاة إلي التوبة ( مت 9: 13) . وبهذا تكون خارج نطاق المسيح / ولم يأت لأخلك إنه جاء من أجل الخطاة . جاء يطلب ويخلص ما قد هلك ( لو 19: 10 ) . جاء من أجل المرضي ليشفيهم . جاء ليبشر المنكسري القلوب ... فهل أنت من هؤلاء ؟ إنك تكون منهم في حالة ما تلوم نفسك وتدينها . أما أن كنت تري نفسك باراً ومحقاً ولا عيب فيك فكأنك تقول لا شأن لي بدم المسيح وكفارته إن دم المسيح هو لمحو الخطايا . أعترف إذن بخطاياك ، لكي يكون لك نصيب فيه ولكي ينضح عليك بزوفاه فتطهر ، وتنال المغفرة . لماذا تبعد نفسك عن دم المسيح وفاعليته ؟! علي أنني أقول لكم في هذا المجال ملاحظة مؤلمة وهي كثيرون يقولون إنهم خطاة . وداخلهم لا يعترف بهذا كلمة " خاطئ " قد يقولها الواحد منهم عن نفسه ، بشفيته فقط ، ليبدو متضعاً . ولكنه في داخل نفسه غير مقتنع بأنه مخطئ . وأن قلت له إنك مخطئ ، يثور عليك ، ويدافع بشدة عن نفسه ونحن لا نقصد ان يلوم الإنسان ملامة باطلة زائفة فهذه الملامة الشكلية الباطلة ، هي غير مقبولة أمام فاحص القلوب و الكلي .. إنما حينما نقول لك أن تلوم نفسك . نقصد أن تكون مقتنعاً في أعماقك اقتناعا كاملاً بأنك مخطئ . وهذا اللوم الحقيقي للنفس هو الذي به تستحق المغفرة ... لوم النفس يقود إلي المغفرة . ويقود إيضاً إلي الإتضاع ... قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب كيف نبدأ عاما ً جديداً وللحديث بقية
المزيد
29 ديسمبر 2020

محاسبة النفس

نحن الآن في آخر العام ، ونريد أن نبدأ عاماً جديداً . ما تزال أمامنا بضعة أيام ، نريد أن نختم بها عامنا هذا ، الذي إن لم نكن قد جعلنا سيرته صالحة ، فعلي الأقل : ليتنا ننتهي من هذا العام بنهاية صالحة . فكيف إذن ننهي عامنا هذا ونبدأ آخر ؟ يحتاج كا منا إلي جلسة هادئة مع نفسه ما أكثر ما ينشغل الناس بحفلات رأس السنة وبرامجها والإعداد لها ، بحيث يكونون في مشغولية وزحام ، وفي لقاءات واهتمامات ، لا تعطيهم فرصة علي الإطلاق للجلوس مع أنفسهم . وربما في هذه البرامج يسمعون محاضرات عن أهمية الجلوس مع النفس ، دون أن يكون لهم وقت للجلوس مع النفس . أما أنتم فليتكم تجدون وقتاً أو ترتبون وقتاً ، في خلوة وهدوء ، تنفردون فيه بأنفسكم تفتشون هذه النفس ، وتفحصونها ، هي وظروفها كلها تكون جلسة حساب ، وربما جلسة عتاب ، أو جلسه عقاب ... وتكون جلسة تخطيط للمستقبل ، تفكير فيما يجب أن تكونوا عليه في العام المقبل ، في جو من الصلاة ، وعرض الأمر علي الله ، لكي تأخذوا منه معونة وإرشاداً ... جلسة يناقش فيها الإنسان كل علاقاته ، سواء مع نفسه أو مع الآخرين أو مع الله ، بكل صراحة ووضوح ويحاول أن يخرج من كل هذا بخطة جديدة للعام الجديد خطة عمل ، أو خطة عملية ، ومنهج حياة ... كما حدث للابن الضال : إذ جلس إلي نفسه ، وفحص حالته ، وخرج بقرار حاسم لما ينبغي عليه أن يعمله . أقول هذا ، لأن كثيراً من الناس يعيشون في دوامة ، لا يعرفون فيها كيف يسيرون أو إلي أين يسيرون يسلمهم الأمس إلي اليوم ، ويسلمهم اليوم إلي غد ، وهم في متاهة الأمس و اليوم و الغد ، لا يعرفون إجابة من يقول لهم : إلي أين ؟أناس يعيشون في غيبوبة عن روحياتهم وابديتهم ‍ وخط سيرهم ليس واضحاً أمامهم . وربما يهتمون بتفاصيل كثيرة ودقيقة . وكلن الهدف تائه من أمامهم . والخيوط التي تشدهم إلي واقعهم هي خيوط قوية ، كأنها سلاسل لا ينفكون منها لذلك هم في حاجة إلي جلسة هادئة مع النفس ، يفحصون فيها كل شئ ، بكل صراحة ، ويصلون إلي حل ... إني اعجب من أشخاص يأخذون عطلات من أعمالهم لأسباب كثيرة ، وربما لزيارة أو مقابلة أو لسفر أو رحلة ، أو لمجرد الراحة أو الترفيه عن النفس .... بينما لم أسمع عن أحد أنه أخذ عطلة من عمله ، لكي يجلس مع نفسه و يفحصها ..‍ ولكي يحاسبها علي عام طويل : ماذا فعلت فيه مما يرضي الله ، وماذا فعلت مما يغضبه ؟ إن بداية عام هي مناسبة هامة لمحاسبة النفس كثيرون من الروحيين يحاسبون أنفسهم في مناسبات معينة : قبل الإعتراف و التناول مثلاً ، أو في نهاية كل يوم ، أو بعد عمل معين يحتاج إلي فحص من الضمير . أما جلسة الإنسان في نهاية العام ، فهي حساب إجمالي أو حساب عام ، يتناول فيه الحياة كلها ربما يفحص الخطايا المتكررة و المسيطرة في حياته الخطايا التي تكاد تكون عنصراً ثابتاً في اعترافاته ، ونقطة ضعف مستمرة في حياته . ويفحص ما هي أسبابها ودوافعها ، وكيف يمكن أن يتخلص من هذه الأسباب ، وكيف يحيا بلا عثرة . إن الله عليه العمل الأكبر في تخليصه ، ولكن لا شك أن هناك عملاً من جانبه كإنسان لابد يعمله ، ليكون في شركة مع الله وقد يفحص الإنسان صفاته الشخصية التي يتميز بها وماذا ينبغي من هذه الصفات أو يستبدل بغيره ؟ وهل تحولت بعض الخطايا إلي هادات له ، أو إلي طباع أو صفات ثابتة... كإنسان مثلاً ، أصبحت في صفاته حساسية زائدة نحو كرامته ، فهو يغضب بسرعة لأي سبب يحس أنه يمس هذه الكرامة ... وصار هذا فيه ، أو صفة ثابتة ... وهو محتاج أن يغير هذا الطبع ، ويتخلص من هذه الحساسية ، ويصير واسع لطيفاً ومحتملاً ... هنا يفحص الصفة كلها مجرد عارضة من قصص غضبه ... ليت جلستك مع نفسك تكون مرآة روحية لك ... تعطيك صورة عن نفسك ، صورة طبيعية تماماً بغير رتوش ، بغير دفاعا بغير تبرير ، بغير مجاملة للذات ، بغير تدليل للذات . إنك قد تتأثر إذا كشفك إنسان وأظهر لك حقيقتك ، التي قد يجرحك معرفة الناس لها . ولكن لا تكون في مثل هذا التأثر ، إذا ما كشفت نفسك بنفسك ، لكي تعرفها فتصلحها . ولكي تكشف أمراضها فتعالجها . لذلك فلتكن جلستك مع نفسك ، مثل أشعة تعطي صورة حقيقة للداخل ، وتكشف ما يوجد فيه . لتكن جلستك مع نفسك ، جلسة ضمير نزيه أو جلسة قاض عادل ، يحكم بالحق ، جلسة صريحة ، حاسمة ، وحازمة . وحاسب نفسك في صراحة ، علي كل شئ : خطايا الفكر خطايا القلب و الرغبات و المشاعر ، خطايا اللسان ، خطايا الجسد ، خطاياك من جهة نفسك ومن جهة الآخرين ... علاقتك مع الله ، وتقصيراتك في الوسائط الروحية ... الخطايا الخاصة بوجوب النمو : هل أنت تنمو روحياً أم حياتك واقفة ؟ لا تترك شيئاً في حياتك دون أن تكشفه لتعرفه ، فتتخذ موقفاً تجاهه أجلس إلي نفسك لتقيمها ، وتعيد تشكيلها من جديد أهتم بروحك ، وراجع حياتك كلها . لا تقل " هكذا هي طباعي " أو هكذا هي طبيعتي " . كلا . فالذي يحتاج فيك إلي يتغير ، ينبغي أن يتغير . وليست طباعك شيئاً ثابتاً ، فكما اكتسبتها يمكن أن تكتسب عكسها . أما طبيعتك فهي صورة الله ومثاله . وكل ما فيك من أخطاء ، عبارة عن أشيئا عارضة . فارجع إلي صورتك الإلهية ، فهي طبيعتك الحقيقية . أمسك شخصيتك ، وأعد تشكيلها من جديد ، في هذه الجلسة المصرية التي تجلسها مع نفسك . والصفات الجديدة التي تلزمك ، أبحث كيف تقتنيها ، ولو بتداريب تغضب عليها إرادتك ، وتصارع فيها مع الله ليعينك وليكن العام الجديد ، عاماً جديداً في كل شئ أحرص في جلستك مع نفسك ، التي تجلس فيها مع الله ، أن تخرج منها وقد تغير فيك كل ما يجب تغييره من أخطاء ونقائض . تخرج منها بخط سير جديد في الحياة ، وبطباع جديدة ، يحس بها كل من يختلط بك وحاول أن توجه كل طاقاتك توجيهاً سليماً ...فمثلاً توجد في داخل نفسك طاقة عصيبة ، يمكن أن توجهها نحو نفسك في أخطائها ، ويمكن أن توجهها نحو الناس . فاحرص أن يكون توجيهها سليماً ، بعيداً عن الذاتية ، خالصاً من أجل الله ، وبأسلوب روحي لا أخطاء فيه . وفي داخلك أيضاً توجد طاقة حب ، حاول أن تجعلها تسير بتوجيه سليم ، فتكون لك أولاً ، وللخير ثانياً ، وللناس في نطاق حب الله وحب الخير . وأحرص في جلستك مع نفسك أن تجعل هذه الطاقة لا تنحرف . ولا تجعل حباً علي حساب حب ... كذلك كل مواهبك التي منحك الله إياها ، فلتكن موجهة توجيهاً سليماً لله والخير . كالذكاء مثلاً ، هو موهبة من الله . لا تتخذه للأضرار بغيرك ، أو للفخر والكبرياء ، أو لمجرد الانتصار في الجدل و المناقشة ، أو لتنفيذ رغباتك الخاطئة وليكن العام الجديد عاماً منتصراً في حياتك أستعرض في جلستك مع نفسك النواحي التي تنهزم فيها روحياً . وقل لنفسك ينبغي أن أحيا حياة النصرة ظن فلا أنهزم في كذا وكذا ، بل يقودني الرب في موكب نصرته ، ويعطيني الوعود التي وعد بها الغالبين ( رؤ2،3) . ليكن عاماً فيه نمو روحي ، وتقدم وصعود إلي فوق ولذلك قرر في جلستك ، أن تبعد عن العثرات وكل إنسان له في حياته ما يعثره شخصياً ، فالفحص ما هي عثراتك ، وابعد عنها " إن كانت عينك اليمين تعثرك ، فاقلعها والقها عنك ... وإن كانت يدك اليمني تعثرك ، فاقطعها والقها عنك ..." ( مت 5: 29، 30 ) . إلي هذا الحدة يريدنا الرب أن نبعد عن العثرات . فكن حاسماً في هذا الأمر . وكما تبعد عن العثرات ، أحرص أيضاً أنك لا تكون عثرة لغيرك وتذكر قول الرب أذكر من أين سقطت وتب ( رؤ2: 5) وفي ذلك لا تتساهل مطلقاً ، ولا تسامح نفسك ولا تدللها . وإن احتاج القيام من سقطتك ، أن تؤدب نفسك وتعاقبها حتي لا تعود إلي أخطائها ، فكن شديداً في تأديبك لنفسك . وخذ حق الله كاملاً منها . لأنه ينبغي أن تحب الله أكثر من نفسك . لأنه قال : من ضيع نفسه من أجلي يجدها ( مت 10 : 39) وقال إنه من أجله ينبغي أن تبغض حتي نفسك (لو 14: 26) . فبذلك تحفظها لحياة أبدية حاسب نفسك وبكتها . ولكن إحترس من شيطان اليأس كن حكيماً في محاسبتك لنفسك ، وحيكماً في تبكيتها وتأديبها . وإن وجدت في محاسبتك لنفسك أن الكآبة القاتلة ستملك عليك ، وتدفعك إلي اليأس ، تذكر حينئذ مراحم الله ، ووعود ، وتحويله الخطاة إلي قديسين ... حينئذ يمتلئ قلبك بالفرح الروحاني ، كما قال الرسول : " فرحين في الرجاء "( رو12: 12) . وفي جلستك مع نفسك ، لا تركز فقط علي التوبة ، إنما تذكر أيضاً أنه مطلوب منا القداسة والكمال ، فقد أوصانا الكتاب قائلاً كونوا قديسين كونوا كاملين " نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أياً قديسين ... لأنه مكتوب : كونوا قديسين لأني أنا قدوس " ( 1بط 1: 15، 16) . وقال الرب أيضا " فكونوا أنتم كاملين ، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل "( مت 5: 48) . إن التوبة هي مجرد الخطوة الأولي إلي الله . وهناك خطوات أخري كثيرة بعدها ، لنصل إلي حياة الكمال . فيجب ألا نركز علي التوبة وحدها ، وإلا كان جهادنا كله في التخلص من السلبيات ، دون أن ننتقل علمياً إلي الإيجابيات إن ترك الخطية هو نقطة الابتداء وعمل المبتدئين فلا نقف إذن عند هذه النقطة ، وإنما - نتجاوزها سائرين نحو القداسة . اما إن كنا لم نصل بعد إلي عمل المبتدئين هذا ، فنحن إذن لسنا أعضاء في جسد الرب كما أراد لنا أن نكون ... إن كنا ما نزال نقع ونقوم ، وبعد أن نقوم ، نقع مرة أخري ، فنحن لم نصل إلي التوبة بعد . لا يا أخوتي لا يجوز أن تسير الأمور هكذا لا يجوز أن نقضي حياتنا في مرحلة التوبة ليس من صالحنا ان نقضي عمرنا كله ، صراعاً ضد الخطية ، وجهاداً للوصول إلي التوبة . إنما علينا أن نسرع في الطريق لنصل إلي الله ، ونتمتع بعشرة الملائكة و القديسين ... وننمو في درجات القداسة وفي طريق الكمال وليكن هذا العام مباركاً عليكم ... يعطيكم الرب نعمة فيه ، توصلكم إليه . قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
28 ديسمبر 2020

لنبدأ بدءاً حسناً

الله ضابط الكل.. تمضى الايام والسنين من عمرنا ونحن ننظر الى المستقبل بعيون الرجاء فى غدا افضل، ورغم كل الظروف السياسية والدينية والاجتماعية المتغيرة التي مرت وتمر بها بلادنا ومنطقتنا والعالم من حولنا فنحن نثق ان الله ضابط الكل والكون لا يحدث شي فى عالمنا وحياتنا الا بارادته او بسماح منه. وعلينا ان نعمل فى توافق مع مشيئة الله لنا ونسعى الى تحقيق ارادته فى حياتنا لكننا وبالرغم من ذلك ايضا لا نستطيع ان نضبط أو نتحكم فى المتغيرات التي تجرى حولنا لكننا نعلم ان الله ضابط الكل يجعل كل الاشياء تعمل معنا للخير { ونحن نعلم ان كل الاشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده} (رو 8 : 28). و سواء على المستوى الفردي او الجماعي نعلم ان الله قادر ان يجعل الامور تسير نحو تحقيق ارادته مهما اراد الناس بنا شرا كما قال يوسف الصديق لاخوته الذين باعوه حسدا { انتم قصدتم لي شرا اما الله فقصد به خيرا لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعبا كثيرا }(تك 50 : 20). لقد اراد اخوة يوسف ان يتخلصوا منه وقالوا لابيهم كذبا ان وحش ردئ افترسه وباعوه عبدا ولكن الله كان معه واخرج به مصر وشعبها واهله معهم من مجاعة عظيمة. ونحن نثق ان يد الله المقتدرة والحكيمة تعمل معنا ولاجل خلاصنا وان كان علينا ان نمر باوقات ضيق او نشرب كأس الصبر والمر من يده فهي لعلاجنا وخلاصنا { يشددان انفس التلاميذ ويعظانهم ان يثبتوا في الايمان وانه بضيقات كثيرة ينبغي ان ندخل ملكوت الله} (اع 14 : 22). فنحن نعلم انه ورغم الضيقات فاننا سنغلب بالله الساكن فينا { قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا انا قد غلبت العالم} (يو 16 : 33) التوبة وتنفيذ ارادة الله ... يجب ان نقدم لله توبة عن خطايانا وذنوبنا التي فعلناها بارادتنا او بغير ارادتنا والخفية والظاهرة ونعمل ان تكون توبتنا شاملة مختلف جوانب حياتنا ومستمرة للنفس الاخير ونعمل على التخلص من ضعفاتنا فى ضوء نعمة الرب الغنية ولهذا شدد السيد المسيح على أهمية التوبة للخلاص والنجاة { ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون} (لو 13 : 3). ويحثنا الانجيل على التوبة التي هي الاقلاع عن الشر والخطأ والتصميم على عدم الرجوع اليه واصلاح نتائج الخطأ والاعتراف به ومن ثم السعي للنمو فى طاعة الله وتنفيذ ارادته فالله يريد خلاصنا جميعا { الذي يريد ان جميع الناس يخلصون والى معرفة الحق يقبلون} (1تي 2 : 4). الله يريد لنا ان نكون قديسين{ لان هذه هي ارادة الله قداستكم } (1تس 4 : 3). وهو يعمل فينا بنعمة روحة القدوس وبكلمته المقدسة ليدفعنا الى حياة الكمال وتنفيذ مشيئته { لان الله هو العامل فيكم ان تريدوا وان تعملوا من اجل المسرة }(في 2 :13) فهل نستجيب لعمل النعمة وتبكيت الروح القدس لنا لنتوب عن خطايانا ونسير فى طريق البر؟. لنبدأ بدءاً حسنا... اننا في بدء كل يوما جديد نصلي قائلين ( لنبدأ بدءاً حسناً) فهل نعمل بجدية وصدق ليكون كل يوم بدايه حسنة او مواصلة للسعى فى طريق الكمال المسيحي الذى دعانا الله اليه، كما ان بداية عام جديد هو مناسبة جيده لبداية حسنة فلا نشاكل اهل هذا العالم فى سعيهم وراء شهواتهم الجسدية أو متع العالم وبريقه بل نسعى الى عمل ارادة الله فى حياتنا { ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد اذهانكم لتختبروا ما هي ارادة الله الصالحة المرضية الكاملة} (رو 12 : 2). علينا ان نسعى فى التخلص من العادات والسلوكيات الخاطئة فى حياتنا ونكتسب بالجهاد كل ما هو حسن ومرضى لله { اخيرا ايها الاخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن ان كانت فضيلة وان كان مدح ففي هذه افتكروا }(في 4 : 8). حياتنا غربة ونحن سفراء للملكة السماء ... يجب ان نعلم اننا هنا على الارض فى فترة غربة جئنا فيها لاداء رسالة سامية ومهمة جليلة فنحن ليسوا لعبة فى يد الظروف او الناس او الاحداث بل نحن سفراء للمملكة السماء { اذا نسعى كسفراء عن المسيح كان الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله }(2كو 5 : 20). نحن رسل سلام ومصالحة فى عالم منقسم ومتصارع ولكي نحيا فى سلام يجب ان نكون فى صلة واتصال دائم مع رئيس إيماننا ومكمله الرب يسوع وان يكون هدفنا هو تنفيذ ارادته وسماع صوت كلامه فالسفير الناجح فى مهمته يقوم بتمثيل بلده فى البلد المضيف ويعمل وسط المتغيرات الكثيرة على تحقيق مصالحها واعلاء شانها وكحلقة اتصال بين البلد المضيف وبلده الاصلي يجب ان يكون امينا كحلقة اتصال بينهما. فهل نحن سفراء صالحين للملكة السماء. متأصلين فى بلادنا وسنستمر... اننا ورغم اننا لسنا غرباء او وافدين على بلاد الشرق الاوسط كمسيحيين بل متجذريين فى بلادنا منذ الاف السنين، ارتوت ارضنا بدماء اجدادنا وتخضيت ارضنا بعرقهم وجهادهم بتنا اليوم نشعر بالاغتراب أكثر فأكثر فى بلاد كانت مهد المسيحية وقلبها النابض وستبقى هكذا الى ان يرث الله الارض وما عليها، نشعر ايضا بثقل المسئولية الملقاة على عاتقنا لنكون ملح الارض ونور للعالم كما دعانا السيد المسيح { انتم ملح الارض ولكن ان فسد الملح فبماذا يملح لا يصلح بعد لشيء الا لان يطرح خارجا ويداس من الناس.انتم نور العالم لا يمكن ان تخفى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجا و يضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا اعمالكم الحسنة ويمجدوا اباكم الذي في السماوات} (مت 13:5-16). لقد عانى مسيحيوا الشرق عبر تاريخهم الطويل للحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية والاجتماعية فى تعاون وبذل مع اخوتهم فى الوطن وكنا نظن ان الربيع العربي سيأتي بما هو أفضل للجميع ولكن اذ اقبل علينا شتاء أصولي فعلينا ان نعمل بالاكثر على الانفتاح على مجتمعاتنا بروح المحبة والتعاون ونحن نعى انتمائنا الى اوطاننا متمسكين بالبقاء فيها كخيار لا رجعة فيه ونبنى انفسنا وابنائنا على الإيمان الاقدس الذى اليه دعينا { واثقا بهذا عينه ان الذي ابتدا فيكم عملا صالحا يكمل الى يوم يسوع المسيح} (في 1 : 6). اننا نضع ثقتنا فى الله الامين والقادر ان يحفظ حياتنا وكنيستنا وبلادنا كخميرة مقدسة وكنور لا يوضع تحت مكيال بل على منارة ليضئ لكل من هم فى البيت ليرى الناس اعمالنا الصالحة ويمجدوا ابانا الذى فى السماوات. خطة للنمو الروحي والعملي ... على المستوى الفردي والاسرى والكنسي لابد ان نضع خطة لحياتنا تدوم وتستمر فى متابعة يومية واسبوعية وشهرية وسنوية لكي ننمو فى النعمة والحكمة والقامة لدى الله والناس. يجب ان نسعى الى التميز والتفوق الروحي والدراسي والعملي وفى علاقاتنا الاجتماعية والروحية مع الله والناس. فلا مكان فى عالم اليوم للكسالى والخاملين ونحن نواجه منافسة حادة ومصاعب اقتصادية جمة فعلينا ان نتقدم ونأخذ بايدي بعضنا البعض فى السير فى خطى العلم والمعرفة وفى نفس الوقت العلاقة القوية والواثقة بالله فالانسان القوى روحيا والمرتبط بالسماء هو قلعة حصينة لا ينال منها الشيطان وقواته الشريرة شئ بل هو ضرورة لمجتمعه وكنيسته واسرته وياتي بالثمار الكثيرة لفائدته ولبنيان ملكوت السموات. القمص أفرايم الانبا بيشوى
المزيد
27 ديسمبر 2020

عُمق قراءات الأحد الثالث من شهر كيهك

زيارة السيدة العذراء للقديسة أليصابات مزمور العشية (مز132: 13، 14) "لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ: هذِهِ هِيَ رَاحَتِي إلى الأَبَدِ. ههُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا"يتكلم هذا المزمور عن صهيون، وهو يشير هنا بصهيون إلى السيدة العذراء التي يحل فيها كلمة الآب، وهي التي اشتهاها أن يحل فيها وتكون له مسكنًا.. لأن راحة الآب فيها إلى الأبد، ولذلك سينزل الابن ويسكن فيها، لأنه هو اشتهى حسنها وجمالها. إنجيل العشية (مر1: 23-31) "وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ قَائِلًا: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَمَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ! فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلًا: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا"هذا الفصل من الإنجيـل يتحدث عن تطهيـر السيد المسيح للشـعب الإسرائيلي من الأمراض ومن الأرواح النجسة، وهذا الشعب مُمثَّل في الرجل الذي به روح نجس، وكذلك عندما نسمع قصة شفاء حماة سمعان من الحمى جاء المسيح مخلص العالم ليُطهر الكل، ويشفي كل مـرض وكل ضعف في الشعب.. جاء ليُقيم الطبيعة الساقطة، ويُحيي الطبيعة الفاسدة التي تسلَّط عليها إبليس ووضع هذا الفصل من الإنجيل في عشية الأحد الثالث.. هو إعلان بـأن الذي بُشِّرت به السيدة العذراء هو الله الشافـي الأمـراض بكل أنواعها. هذا الطفل الذي لم يكتمل نمـوه بعد وهو مازال في بطن أمــه، والذي سوف يسجد له يوحنا المعمدان وهو في بطن أمه.. أيضًا هو الله القـادر على كل شيء.. الذي جاء ليُخلص ويُطهر الشعب من كل شيء. مزمور باكر (مز 85: 7، 8) "أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ، وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ. إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ، لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ، فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ" فهو يطلب هنا من الرب أن يرينا الخلاص الذي دبره للبشرية.. اشتياقـًا لرؤيتنا للمخلص المسيح الرب.. الخليقة كلها مشتاقـة لخـلاص إلهنـا، فتطلب أن يعطيها الخلاص، ويريها الرحمـة.. لأن إلهنا إله السلام سيعطي كل أتقائيه وشعبه السلام.. كما قالت الملائكة في بشارتها المفرحة بالميـلاد "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لو 2: 14). فالله هو المتكلم لشعبه وأتقيائه. إنجيل باكر (مت 15: 21-31) "ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً:«ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِب بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُل وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ حَتَّى تَعَجَّبَ الْجُمُوعُ إِذْ رَأَوْا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلهَ إِسْرَائِيلَ"يتكلم هذا الفصل عن المرأة الكنعانية التي ذهبت للسيد المسيح صارخة له وقائلة "ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا". فهذا الفصل يوضح إبراء المخلص لمرضى شعبه.. بدليل ذلك عندما قال لها: لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب. فَقَالَتْ: نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!ولأن الكلب من الحيوانات النجسة فكان اليهود يعتبرون الكنعانيين نجسين مثل الكلاب لأنهم ليسوا من شعب إسرائيل.. فأراد السيد المسيح أن يُذكرها بفكر اليهود عنهم بما أنه يهودي، وليوبخ اليهود أيضًا على مفاهيمهم الخاطئة والمعاملات السيئة التي كانوا يُعاملون بها الشعوب الأخرى، وليذكرها أيضًا بوضعها بالنسبة لليهود لم تُجادل المرأة في هذه المعاملة السيئة التي كانوا يُعَامَلون بها اليهود بل قالت: "وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!" فأوضحت للكل خضوعها واتضاعها وقبولها أنها تُعامل معاملة الكلاب مع كل ذلك آمنت أن السيد المسيح هو شافي الأمراض، وهو الذي سيشفي ابنتها المجنونة.. فمدح السيد المسيح إيمانها، وتسليمها الكامل، وخضوعها، وأعطاها سؤالها بعد أن مدحها قائلًا "عَظِيمٌ إِيمَانُكِ!"، ولم يكتفي بذلك بل قال لها "لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ" البولس (رو 4: 4-24) "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا. كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً». أَفَهذَا التَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى الْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى الْغُرْلَةِ أَيْضًا؟ لأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا. فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَهُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ؟ لَيْسَ فِي الْخِتَانِ، بَلْ فِي الْغُرْلَةِ! وَأَخَذَ عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْمًا لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ، لِيَكُونَ أَبًا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ، كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضًا الْبِرُّ. وَأَبًا لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ: لأَنَّ النّاموسَ يُنْشِئُ غَضَبًا، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ. لِهذَا هُوَ مِنَ الإِيمَانِ، كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ النِّعْمَةِ، لِيَكُونَ الْوَعْدُ وَطِيدًا لِجَمِيعِ النَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ النَّامُوسِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ». أَمَامَ اللهِ الَّذِي آمَنَ بِهِ، الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ:«هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ ¬ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ ¬ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا. لِذلِكَ أَيْضًا: حُسِبَ لَهُ بِرًّا». وَلكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ، بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا، الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ"يتحدث البولس عن إيمان إبراهيم بالله واحتساب هذا الإيمان برًا، فيوضح هنا الإيمان بما سيتم في المستقبل.. كمثل إبراهيم الذي آمن بمواعيد الله وهذا ما حدث مع السيدة العذراء حينما آمنت بكلام الله المبعوث لها عن طريق الملاك في بشارته لها "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لو 1: 35)فأجابت السيدة العذراء الملاك قائلة "لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" (لو 1: 38). وهذا ما حدث مع أبونا إبراهيم إذ يقول "فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ" (رو 4: 13)، "فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ" (رو 4: 18) ويستكمل مُعلمنا بولس الرسول موضحًا إيمان إبراهيم "وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا. لِذلِكَ أَيْضًا: حُسِبَ لَهُ بِرًّا" (رو 4: 20-22) ويقصد هنا بهذا الفصل أن يربط بين إيمان إبراهيم بنسله الذي سوف يأتي منه السيد المسيح، وبين إيمان السيدة العذراء التي منها سيأتي نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية "وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ" (تك 3: 15). الكاثوليكون (1يو 2: 7-17) "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لَسْتُ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً، بَلْ وَصِيَّةً قَدِيمَةً كَانَتْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ. الْوَصِيَّةُ الْقَدِيمَةُ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سَمِعْتُمُوهَا مِنَ الْبَدْءِ. أَيْضًا وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ، مَا هُوَ حَق فِيهِ وَفِيكُمْ: أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ. مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ. مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي النُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ. وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّهُ قَدْ غُفِرَتْ لَكُمُ الْخَطَايَا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الآبَ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ اللهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَقَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ. لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ"هنا يعطي يوحنا الرسول وصية جديدة للشعب وهي "أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ" (ع 8) ثم يستكمل كلامه معهم قائلًا "مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ. مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي النُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ" (ع 9، 10)، وبهذه الوصية يوضح لهم الفرق بين النور والظلمة.. لأن نور العالم سوف يأتي ليُبدد الظلمة التي يحيا فيها الشعب، ويبدد الظلام الذي تحيا فيه البشرية. الأبركسيس (أع 7: 35-50) "هذَا مُوسَى الَّذِي أَنْكَرُوهُ قَائِلِينَ: مَنْ أَقَامَكَ رَئِيسًا وَقَاضِيًا؟ هذَا أَرْسَلَهُ اللهُ رَئِيسًا وَفَادِيًا بِيَدِ الْمَلاَكِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْعُلَّيْقَةِ. هذَا أَخْرَجَهُمْ صَانِعًا عَجَائِبَ وَآيَاتٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي الْبَحْرِ الأَحْمَرِ، وَفِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. هذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ. هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ، وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالًا حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا. الَّذِي لَمْ يَشَأْ آبَاؤُنَا أَنْ يَكُونُوا طَائِعِينَ لَهُ، بَلْ دَفَعُوهُ وَرَجَعُوا بِقُلُوبِهِمْ إِلَى مِصْرَ قَائِلِينَ لِهَارُونَ: اعْمَلْ لَنَا آلِهَةً تَتَقَدَّمُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الَّذِي أَخْرَجَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ! فَعَمِلُوا عِجْلًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَأَصْعَدُوا ذَبِيحَةً لِلصَّنَمِ، وَفَرِحُوا بِأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ. فَرَجَعَ اللهُ وَأَسْلَمَهُمْ لِيَعْبُدُوا جُنْدَ السَّمَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ الأَنْبِيَاءِ: هَلْ قَرَّبْتُمْ لِي ذَبَائِحَ وَقَرَابِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْبَرِّيَّةِ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟ بَلْ حَمَلْتُمْ خَيْمَةَ مُولُوكَ، وَنَجْمَ إِلهِكُمْ رَمْفَانَ، التَّمَاثِيلَ الَّتِي صَنَعْتُمُوهَا لِتَسْجُدُوا لَهَا. فَأَنْقُلُكُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ بَابِلَ. وَأَمَّا خَيْمَةُ الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ مَعَ آبَائِنَا فِي الْبَرِّيَّةِ، كَمَا أَمَرَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى أَنْ يَعْمَلَهَا عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ رَآهُ، الَّتِي أَدْخَلَهَا أَيْضًا آبَاؤُنَا إِذْ تَخَلَّفُوا عَلَيْهَا مَعَ يَشُوعَ فِي مُلْكِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ اللهُ مِنْ وَجْهِ آبَائِنَا، إِلَى أَيَّامِ دَاوُدَ الَّذِي وَجَدَ نِعْمَةً أَمَامَ اللهِ، وَالْتَمَسَ أَنْ يَجِدَ مَسْكَنًا لإِلهِ يَعْقُوبَ. وَلكِنَّ سُلَيْمَانَ بَنَى لَهُ بَيْتًا. لكِنَّ الْعَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَاتِ الأَيَادِي، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ: السَّمَاءُ كُرْسِيٌّ لِي، وَالأَرْضُ مَوْطِئٌ لِقَدَمَيَّ. أَيَّ بَيْتٍ تَبْنُونَ لِي؟ يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَيٌّ هُوَ مَكَانُ رَاحَتِي؟ أَلَيْسَتْ يَدِي صَنَعَتْ هذِهِ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا؟"يتكلم سفر الأعمال في هذا الفصل عن موسى والعليقة قائلًا "هذَا مُوسَى الَّذِي أَنْكَرُوهُ قَائِلِينَ: مَنْ أَقَامَكَ رَئِيسًا وَقَاضِيًا؟ هذَا أَرْسَلَهُ اللهُ رَئِيسًا وَفَادِيًا بِيَدِ الْمَلاَكِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْعُلَّيْقَةِ" (ع 35) فموسى كان يرمز للسيد المسيح، والعليقة هي رمز للسيدة العذراء ويقول أيضًا "هذَا أَخْرَجَهُمْ صَانِعًا عَجَائِبَ وَآيَاتٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي الْبَحْرِ الأَحْمَرِ، وَفِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. هذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ" (ع 36، 37). فهو هنا يشير إلى مجيء السيد المسيح. وبعدها تكلم عن خيمة الشهادة التي كانت معهم في البرية والتي صنعها موسى كقول الرب. هذه الخيمة كانت ترمز للسيدة العذراء فقد حَل الله بلاهوته في بطن السيدة العذراء كما كان يحل مجده على الخيمة وهو يختم حديثه قائلًا "لكِنَّ الْعَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَاتِ الأَيَادِي" (ع48) فالسيد المسيح استراح في بطن السيدة العذراء وتجسد منها.. لأنه كما نقول في ثيئوطوكية يوم الأربعاء qeotokia "تطلع الآب من السماء فلم يجد من يشبهكِ أرسل وحيده أتى وتجسد منكِ". مزمور إنجيل القداس (مز 85: 10، 11) "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. الْحَقُّ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ، وَالْبِرُّ مِنَ السَّمَاءِ يَطَّلِعُ". هذا المزمور يوضح تجسد السيد المسيح في كونه بتجسده.. صالح الكل السمائيين مع الأرضيين.. في أن الرحمة والحق التقياعدل الله (الحق) تقابل مع الرحمة في تجسده، وعندما صُلب على الصليب تلاقى الكل.. فالحق هو السيد المسيح "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6)، خرج من الأرض (أخذ جسدًا من السيدة العذراء) والبر الذي هو عدل الله تطلع من السماء.. فهو يُعلن خلاص البشرية بتجسد السيد المسيح. إنجيل القداس (لو 1: 39-56) "فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ. فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا"يتحدث إنجيل قداس اليوم (الأحد الثالث من شهر كيهك) عن زيارة السيدة العذراء لأليصابات نسيبتها بمجرد سماع خبر حبلها بالقديس يوحنا المعمدان.. فعندما بشَّر الملاك جبرائيل الواقف أمام الله والدة الإله بالحبل المقدس وأراد أن يثبت لها صدق ما يقول بقوة الحجة والبرهان لكي تصدقهُ ولا تشك فيما يقول لها.. قال لها "وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ" (لو 1: 36، 37) لذلك بعدما انصرف من عندها الملاك ذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا لكي ترى الأمر ماذا يحدث؟ ولتقوم أيضًا بواجب التهنئة ومشاركة أليصابات فرحتها بحبلها بعد أن كانت عاقرًا فلما دخلت السيدة العذراء بيت زكريا سلَّمت على أليصابات "فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (ع 41)فلم يكن ابتهاج الطفل يوحنا في بطن أمه من طبيعته أو من نفسه لأن لم يكن في مقدرته أن يفكر في أن يبتهج أم لا.. بل حدث هذا من فعل الروح القدس الذي ملأه وهو في بطن أمه عندما سمع صوت سلام السيدة العذراء لأمه فأليصابات نفسها فهمت معنى ارتكض الجنين في بطنها وأن التي أتت إليها ليست قريبتها فقط وإنما هي أصبحت أم ربها لذلك صرخت "فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي" (ع 43، 44) وعندما أحست أليصابات بالروح القدس.. بأن الطفل الذي حبلت به القديسة مريم هو رب الكل، وأن الذي في بطنها هي هو عبده ورسوله كما سبق وقيل في البشارة به.. صرخت قائلة "فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟" (ع 43)، وكأنها تسأل كيف تستحق أن تأتي أم ربها إليها، وصرخت بعد ذلك بأن مجرد سماع صوت سَلاَم مريم إليها تحرك الجنين بِابْتِهَاج في بَطْنها وختمت أليصابات بالقول "فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (ع 45)، فهي بهذه العبارة تعطي الطوبى للسيدة العذراء التي آمنت بكلام الملاك ولم تشُك فيه.. وهي هنا كأنها تؤكد على حقيقة الإيمان وهي "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى" (عب 11: 1) بعد أن أعطت أليصابات الطوبى لمريم رأت السيدة العذراء أن ترد هذا المديح لمستحقه، وينبوعه، ومصدره وهو الرب "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ" (ع 47) فهي تُسبح وتعظم الرب لأنه أعطاها كرامة لا تستحقها، لأنه رفع مقامها لأن تصبح أم الرب ولم تقتصر مريم على إظهار شكرها لربها بشفتيها بل عبرت أيضًا في ابتهاجها بالروح أيضًا إذ قالت "َتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي" (ع 47) فدعت الله مخلصها فهو الرب الذي يُخلص شعبه من خطاياهم ومن الموت المحكوم عليهم به، وأوضحت بذلك سبب شكرها لله إذ قالت"لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ" (ع 47) فهي تقصد هنا أن الله نظر إلى ذلها ورفعها من مكانها الوضيع لكي تصبح أن للرب (أي جعلها والدة لابنه) وهكذا نسبت كل ما نالته من نِعَم إلى فضيلة الاتضاع ثم بعد ذلك تنبأت السيدة العذراء عن تقدير وتكريم جميع الشعوب لها بما استحقت أن تناله من نِعَم فقالت "فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي" (ع 48)، وهذه الطوبى حدثت بالفعل عندما طوبتها المرأة التي سمعت تعاليم السيد المسيح المحيية بعدما أخرج الشيطان من الرجُل الأعمى الأخرس صرخت المرأة قائلة "طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا" (لو 11: 27). واستكملت السيدة العذراء كلامها في تمجيد الله بتعداد أعمال قوته فقالت أنه "صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ" (ع 51). فالزراع هنا كناية عن القدرة في العمل.. يمين الرب صنعت قوة يمين الرب رفعتني "يَمِينُ الرَّبِّ مُرْتَفِعَةٌ. يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ" (مز 118: 16)، وكما قال إشعياء "هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ" (إش 40: 10) فالرب هو الذي شتت المستكبرين بفكر قلوبهم وأذلهم.. فالله يقاوم المستكبرين ويعطي المتواضعين قوة "اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً" (1بط 5: 5) فالإنسان عندما يعتمد على قوته وذراعه البشري ويستكبر ويستبد بالله ويتجاسر على الله كما فعل فرعون مصر ولذلك قالت السيدة العذراء"أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ" (ع 52)، وهذه العبارة هي نفس المعنى الذي جاء في سفر صموئيل "الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ. يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ. يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ" (1صم 2: 7، 8)، وكذلك ما قاله داود المرنم "الْمُقِيمِ الْمَسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ، الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِيُجْلِسَهُ مَعَ أَشْرَافٍ، مَعَ أَشْرَافِ شَعْبِهِ" (مز 113: 7، 8)أخيرًا قالت السيدة العذراء في ختام تسبحتها "عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً" (ع)، أي أنه أعانهُ بكل الطرق في كل زمان وفي أي مكان..فقد دبَّر حياته وهو في البرية أربعين سنة حين أعال شعب إسرائيل بعد خروجه من مصر، والآن أيضًا تعهده بالخلاص عن طريق المُخلص الذي وعدهم به وهو الإله الذي سيتجسد منها.ثم أقمات السيدة العذراء في بيت أليصابات ثلاثة أشهر الفترة المتبقية لها في حملها لكي تلد يوحنا المعمدان.. وذلك لخدمتها وإكرامًا لها لأنها كانت امرأة عجوز.. ثم عادت بعد ذلك إلى بيتها قبل أن تلد أليصابات حتى لا يخدم سيد الكل يوحنا في مولده .وعندما نتأمل الخط الروحي الذي يربط القراءات الخاصة بهذه المناسبة نجد أن مزمور العشية يتحدث عن اختيار المخلص للسيدة العذراء أن يحل في أحشائها "لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ" (مز 132: 13) ثم يحدثنا إنجيل العشية عن تطهير المخلص للشعب من الأرواح النجسة والأمراض ليعد له شعبًا مبررًا وفي مزمور باكر يتحدث على لسان المرأة الكنعانية التي سيتحدث عنها الإنجيل قائلًا "أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ، وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ" (مز 85: 7) فهي التي صرخت له في إنجيل باكر قائلة "وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!" (مت 15: 27)، فاستحقت أن تسمع "يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ!" (مت 15: 28) فتحدث الإنجيل عن إبراء المخلص لمرض شعبه.ثم تحدث البولس عن الإيمان (إيمان إبراهيم) "فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا. لِذلِكَ أَيْضًا: حُسِبَ لَهُ بِرًّا" (رو 4: 18، 20-22)، وهذا ما حدث بالفعل مع السيدة العذراء "فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (لو 1: 45) ويأتي الكاثوليكون ليوضح لنا أن "أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ" (1يو 2: 8) فيوجه نظرنا إلى قرب مجيء نور العالم، وبطلوع النور تنقشع الظلمة وتتبدد ثم يحدثنا سفر أعمال الرسل (الإبركسيس``Pra[ic ) عن موسى وأمر العليقة التي تشير إلى السيدة العذراء وكلامه عن المسيح "هذَا أَرْسَلَهُ اللهُ رَئِيسًا وَفَادِيًا بِيَدِ الْمَلاَكِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْعُلَّيْقَةِ" (أع 7 : 35) وأخيرًا يُحدثنا إنجيل القداس عن زيارة السيدة العذراء لأليصابات، وإعطائها الطوبى "فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (لو 1: 45)، وتسبحتها المشهورة "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي" (لو 1: 46، 47).فليعطنا الرب أن نتمتع بخلاصُه المُقدَّم لنا.ولإلهنا المجد في كنيسته المقدسة من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
26 ديسمبر 2020

المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها

إن بولس الرسول المشير الفاضل يعلمنا كلنا قدر بتولية النفس وطهارتها، ويحتسب درجة البتولية أفضل وأعلي من العالم لأنه قال: من له امرأة يهتم في كيف يرضي امرأته فأما المستسير بالبتولية فيهتم في أن يرضي الرب. فذاك الاهتمام يؤدي إلي العذاب وهذا يؤدي إلي الحياة الخالدة، فالطوبى للإنسان الذي يهتم في أن يرضي الرب ويحفظ جسده طاهراً ليصير هيكلاً مقدساً طاهراً للمسيح الملك. أيها الإنسان قد صرت باختيارك هيكلاً للـه لا بإلزام وغضب بل بإثرة ونشاط، وقد عرفت أن من يكن إنساناً للإله العلي يسكن روح اللـه فيه فإن كان منظفاً نقياً يقدسه ليكون استعماله مأثوراً لسيده، أسمع يا أخي المخلص ما أقول لك وأكتب ألفاظ حقارتي في قلبك، منطق ذاتك وتضرع بأمانة صافية مهذبة ورجاء ومحبة، أنتصب كالرجل الشهم لتحفظ هيكل اللـه من سائر الأفكار الدنسة والنجسة المزروعة من العدو، صر بجملة نفسك غنياً معايناً بمداومة تجارب العدو لأن تجارب الخبيث تتقاطر دائماً لتجد إنساناً مسترخياً ومتنزهاً لتفسد هيكل جسد ذاك الشقي لئلا يكون مأثوراً لاستعمال سيده، فأحذر علي نفسك لئلا توجد قابلاً بذاتك تجارب العدو، أتجهل أيها الأخ من هم المحاربون الخبثاء والمجلبون الأفكار الدنسة والشهوات الرديئة هم ” الغضب والاضطراب، السخط والمماحكة، وعبودية الآلام ” فهؤلاء هم المجربون الذين لا يخجلون، والأردياء الذين لا يكفون ولا يشبعون من الشر وإذا غلبوا يدارك برازهم دائماً لأن أصل الشهوة وقح لا يخزى، أقتلع أيها الأخ أصل الشهوة من قلبك لئلا ينبت ويينع فلو قطعتها ربوات مرات تنبت بقدر ذلك إن لم تقتلع بالجملة جدرها ، جاهد متواتراً لتكون هيكلاً للـه بلا دنس وبلا عيب، إن هيأت هيكلك للـه فالإله القدوس يعطيك عوضه الفردوس المطرب لنياحتك، صر بانتصارك علي الآلام والأفكار الدنسة حافظاً هيكلك قديساً ليكون بَهياً للـه ومقبولاً، أصغِ إلي ذاتك ألا تُدخل في الهيكل عوض السيد الأقدس الطاهر العدو النجس فيفسد هيكلك لأنه عدو ماقت الخير فإنه وقح فاسد الخلق لا يخجل تنتهره مراراً كثيرة وتخرجه إلي خارج وهو يتواقح فيلاكم ويزاحم ليدخل، أما اللـه الغير محدود الطاهر القدوس فما أبتعد هو بل أنت طردته، إذ أدخلت الدنس وصرفت القدوس، أبغضت الملك وأحببت المارد، أبعدت عين الحياة وتقلبت في الحمأة، عدمت النور وشاركت الظلمة، من أجل رخاوتك أسلمت ذاتك إلي العدو النجس، إن الإله القدوس أثر أن يسكن في هيكلك دائماً أما أنت فأحزنت السيد الصالح الرب الذي لا يشبع منه، التائق أن يعطيك ملكه لأن الصائرين هياكل لا عيب فيها وطاهرة يسكن اللـه فيهم، فإن آثرت أن يسكن اللـه في هيكل جسدك كافة أيامك التي تعيشها علي الأرض فاللـه القدوس يسكنك في فردوسه في النور الذي لا يقاس والحياة التي لا تموت إلي أبد الدهر بفرح عظيم وينجيك هناك، أتراك سمعت هذا أو قرأته أن يوماً واحداً في نور ملك اللـه كألف سنة في هذا الدهر، أفتح قلبك أيها الأخ وأقبل أن تشتاق إلي اللـه كافة أيامك فإن الاشتياق إلي اللـه هو حلاوة واستنارة وسروراً دائماً، إن صبوت إليه دائماً يسكن فيك سرمداً، إن اللـه غيور طاهر وقدوس يسكن في نفس الذين يتقونه ويصنع مراد الذين يحبونه، أتؤثر أن تكون للـه هيكلاً نظيفاً لا عيب فيه، أتخذ أيقونته في قلبك دائماً وأعني بأيقونة اللـه لا المرسومة بألوان الأصباغ علي ألواح خشب أو علي شئ آخر بل تلك الصورة المزخرفة العجيبة في النفس المرسومة فيها بالأعمال الحسنة بالأصوام بالحميات بالمسك بالاعتدال النفيس بالاسهار والصلوات، فألوان صورة السيد السمائي هي اعتدال الفضائل الأفكار النقية التعري من الأرضيات مع الطهارة والوداعة جميعاً، لا يكلل في العالم أحد خلواً من جهاد، وفي سيرة النسك بغير حرص وجهاد لا يمكن أحد أن ينال الإكليل الذي لا يذبل والحياة الخالدة، لأن هذا العالم يضاهي جلبة فالمجاهدون الكاملون بوداعتهم يضعون ذاتهم في المقام بلا خوف، أما المسترخون والخبثاء فيهربون برخاوتهم من الجهاد، فالمجاهدون الكاملون النساك وذوو الحمية والنسك قدام أعينهم الفردوس المطرب منتظرين كل حين أن يتمتعوا بكافة الخيرات في النور المؤبد والحياة الفاقدة الموت، أفتؤثر أن تجاهد وتظهر كاملاً ألبس الفضائل كثوب وإذا لبست فضيلة فجاهد ألا تنزعها، أرهب الخمر لئلا تفضحك وتعريك من الفضائل كما عرت الصديق في القديم، أتعرف قوة الخمر أم لا ؟ أسمع أنا أخبرك: نوح الرجل الصديق والبار البهي في الجيل الفاسد الذي أستحق أن يسمع من اللـه أقوالاً ومدائح لأن اللـه قال له: إياك وحدك شاهدت صديقاً في هذا الجيل الفاسد، هذا الصديق الذي غلب طوفان المياه غُلِبَ من نبيذ قليل ونام، إن المياه التي لا توصف كميتها ما غلبته والخمر اليسيرة كشفت جسد الصديق الصائر رئيس آباء الأمم، وهذا النبيذ أيضاً أسترق لوط البار في نومه لأنه سرق به من أبنتيه وحملتا منه بضد الطبيعة. الصديقون والأبرار ما شفقت عليهم الخمر، فأنت الشاب الحقير كم أولى بِها أن تغلبك، أرهب النبيذ لأنه لا يشفق علي الجسم ألبتة بل يضرم فيه نار الشهوة الرديئة، لا يتراخى جسمك بحرارته لئلا تقتنص من قبل الأفكار الرديئة والدراسة القبيحة فتكون غير فاعل بشركة الجسد وبالعقل تشارك الهذيذ الردئ، إن الخطية نفسها ضلال وصنم فإن تقدمت تمسك منها وتندم كل حين وتعانق كل وقت أصنام الخطيئة المتخائلة لناظر الذهن فتتخيل معاينتها وتكثر مناجاتها، وإذا ذقت حلاوة دراستها ترخي فكرك وتنغلب إنغلاباً لا يبرأ، وتخطئ خطأً لا يستوضح فيصيح الناظرون يشاهدونك واضحاً حاوياً كافة الوداعة وأنت في ضميرك تتعذب باطناً متندماً حزيناً بلا انقطاع لأن للإنسان ضميراً يوبخه وعادة الشهوة الرديئة المألوفة حين تكمل يتبع الحزن أثارها فيرى وجهه بالزي الظاهر وديعاً وهو من داخل لا دالة له بالكلية قدام اللـه، ترى من لا يبكي وينوح ومن لا يحزن إنه في طرفة عين واحدة يتراخى الفكر فتخطئ حينئذ إلي اللـه عمداً وتطرد منه الموهبة السماوية أعني الطهارة والبتولية، لأنه حينما يكون هيكل الجسد قديساً وطاهراً يسكن فيه الإله الأعلى فإن أنفسد الهيكل وتدنس في الحين يتركه السيد، وعوض النور السمائي والأقدس يدخل الدنس ويقطن مستوطناً تدخل لذة الشهوة الرديئة وتدنسه كل وقت، ترى من يخطر هذا في قلبه بغير دموع وهو أن الإله القدوس رفض الهيكل وسكنته الشهوة الرديئة، أتعرف ذلك فأبتعد منه لأنه من أين وإلي أين سقط إن من أصابه ذلك لا يشبع من الدموع والزفرات، من أنغلب برخاوته في الجهاد ورأى آخر غالباً في الجهاد والصراع مشهوراً بالأكلة والرايات وظافراً والجماعة يمدحونه محيطين به، تكتنفه ندامة موجعة ويعذب ذاته الحزن، فيقول في نفسه لِمَ في لحظة واحدة أنغلبت للفكر وهربت من الجهاد، فها الذين أكملوه في مجد عظيم ومدائح جسيمة وأنا أختفي بخجل لأني أنهذمت منه، كذلك يوم المجازاة إذا أبصر المسترخون والخطاة الصديقون والأبرار بسرور عظيم بعضهم في الفردوس وآخرين في الملك، آخرين في السحب يتطايرون في النور، وهم في النار التي لا تطفأ والظلمة القصوى، حينئذ تحدق بِهم ندامة عظيمة مرهوبة، وبكاء لا ينفع. فلذلك أطلب إليك يا أخي المحبوب أن تصير مشابِهاً للآباء الكاملين القديسين الذين لا عيب فيهم، أسلك علي آثار الآباء السائرين بالبتولية الطاهرة، وبالنسك المهذب، والصلاة والصوم حب النسك تُقْ إلي الصلاة مخاطباً السيد لأن كل صلاة نقية مقدسة تخاطب بها السيد، صلاة المشتاقين إلي اللـه ترتقي متواتراً بفرح عظيم إلي السماء والملائكة ورؤساء الملائكة يبتهجون بِها ويقيمونَها أمام عرش السيد الأقدس العالي سيد الكل وحينئذ يكون السرور، حين يقدمون قدام اللـه صلوات الصديقين الوادين للـه. أحرص إذاً أيها الأخ كي تصير مضاهياً سيرة الآباء القديسين وفضائلهم، أسلك في طريق سيرتهم، إنسك نظيرهم إنسك بالمعقول، إنسك بالروح، إنسك بالجسد، إنسك بالزي، في الطعام، باللسان، بالناظر، بالفكر، بالضحك، لتستبين في كل شئ كمجاهد كامل، أصغِ إلي ذاتك وأحذر أن توجد إذا صليت متنزهاً طموحاً، إذا أنتصبت تصلي إلي اللـه فقف بخشية ورعدة، أطرح من قلبك وما يحوط به الفكر والاهتمام بسائر الأرضيات، صر بكليتك أجمع في ساعة الصلاة ملاكاً سمائياً وجاهد أن تكون صلاتك مقدسة ونقية بلا وسخ ولا عيب حتى إذا بلغت الأبواب السمائية وقرعت للحين تفتح لها، وإذا أبصرها الملائكة ورؤساء الملائكة يستقبلونها كلهم مسرورين ويقدمونها إلي عرش السيد الطاهر الأقدس والشاهق، صر كل وقت في ساعة الصلاة كالشاروبيم والساروفيم ماثلاً أمام اللـه. أيها الأخ أدرس هذه الأقوال وترنم بها بخشية وبهجة فإنها ترزق النفس أغذية روحانية، وتنتزع منها مرارة العالم الباطل وتحليها وتخففها من ثقل المهمات الأرضية والأمور الوقتية، كل ما سمعته أحرص أن تحفظه بعقلك دائماً فيرتاح اللـه فيك وتجد دالة في الساعة المرهوبة المرعبة إذا جاء المسيح ليجازي كل أحد نظير عمله. له المجد دائماً وعلينا رحمته آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
25 ديسمبر 2020

زيارة واحد هادفة

زياره رعويه: هي أول عمل للمسيح بعد بشارة العذراء. " قامت بسرعه إلي الجبال إلي مدينه يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلمت علي إليصابات" (لو1: 40) (هدف الزياره) ودار الحوار الجميل. + زياره المسيح ليوحنا: زياره الجسد للجسد، ولكنها تلاقي الأرواح لبعضها!! + زياره فريده أشبعت يوحنا في البطن! + زياره عمل وإمتلاء! زياره وجد فيها المسيح مكان لراحته داخل عائله تقيه! + مع أنهم أقرباء: " هوذا أليصابات نسيبتك" (لو 1: 36) وحسب السنكسار بنات خالات، ولكن الموضوع هو أسمي بكثير... زياره عمل إلهي صرف... بدليل: + المسيح المُحب للوحده والإنفراد في الصحراء لم يزور يوحنا الذي عاش في الصحراء 30 سنة. + لقد زار الأنبا أنطونيوس الأنبا بولا وتحدثا عن عظائم الله، وأشبعا بعضهما البعض. لماذا لم يلتقي المسيح بيوحنا قبل الخدمه وذهب إليه في الصحراء ليقدم له دروس خاصه للخدام؟ + هو قال: كنت مسجونًا فزرتموني (مت 25: 36). ولكنه لم يزور يوحنا في السجن، وعندما أرسل يوحنا تلاميذه إلي المسيح ليسألوه: " هل أنت المسيا؟ قال لهم: " أنظروا وأسمعوا وقولوا له" (لو7: 22) مع أنه خطط لزياره أرض مصر، ولقاء السامريه، وتأخر لزياره حبيبه لعازر حتي مات. أثبت يوحنا نفسه: حينما قال " إني لم أعرفه. ولكن الذي أرسلني قال لي: حينما تري السماء مفتوحه والروح مستقر عليه فهذا هو" (لو3:21، 22) فهل قال له وهو في البطن؟ أم روح الله أعطاه المعرفه؟ أم كان له أحاديث في الصلاه مع الله؟ هدف الزياره: زياره العظيم. لأعظم مواليد النساء (لو7: 28). زياره روحيه من العهد الجديد ليلقي أخر شعاع للعهد القديم (تسليم وتسلم) ممثله في أليصابات المتقدمه في الأيام مع الصبيه التي سيشرق منها شمس البر علي كل المسكونة. زياره هدفها: إتمام نبوه: عند رجوع تابوت العهد كان داود النبي كل سته خطوات يقدم ذبيحه راقصًا أمام الله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى... فجاء المسيح إلي يوحنا في الشهر السادس ليعلن يوحنا أمامه راقصًا فرحة البشريه لقدوم الذبيحه الحقيقية. هدفها الخدمه: دفن الذات... لقد مكثت مريم عند أليصابات (ثلاثه أشهر = ثلاثه أيام) ثم رجعت إلي يوسف ليشك فيها، فحملت الصليب مبكرًا إلي أن قام المسيح، أي حملته علي يديها وسط تهليل وفرح السمائيين مع الأرضيين! زياره إمتلاء: فكما نقول في المديح: مد السيد القدير يده. وضعها علي يوحنا داخل الجوف كأنه عمده بالروح، وباركه لكي يقدر يوحنا أن يعمد ويضع يده علي التائبين ويعطيهم المغفره. مثال راهب أسقف يقدر أن يرهبن، وحامل إسكيم رهبنه له حق أن يعطي لأخرين. إمتلأت أليصابات بسلام مريم فصرخت أول صرخه بالروح القدس تعلن أن هذا هو المسيح = أخر صرخه للمسيح علي الصليب ليعلن قد أُكْمِل. وصلت أليصابات للقمه.امتلأت بالروح فأفاضت تسبحه جميله، وحركت مشاعر العذراء الممتلئه نعمه لتفيض تسبحه أجمل وأعمق. من أهداف الزياره: أخذت أمنا العذراء حريه للإنطلاق بالروح، ونطقت بتسبحه كشفت فيها إتضاعها وإبتهاج روحها ورحمه الرب لكل الأجيال، وأعلنت المجئ المُشبع لكل الجياع وسند الرب للفتيان (اسرائيل الجديد). لأنها لم تقدر أن تعلن هذا أمام الملاك، وتستحي أن تقول هذا أمام يوسف النجار أو عامه الشعب وكأن الرب هيأ لها فرصه وحيده... سؤال لأمنا أليصابات: + هل امتلأت بالروح مرهً واحدهً في هذه الزياره؟ أم كانت هناك زيارات بالروح ونموًا للإمتلاء؟ فتقول لنا: تعالوا نقرأ ما كتبه ابني بولس الرسول لروميه (4: 17): " أننا أبناء لأبونا إبراهيم ونسلك في خطوات إيمانه، الذي هو أب لجميعنا، كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة (تك 17: 5، 6). + لم يضعف في الإيمان: (رو 4: 19) بل كان الرب أمامه، وكأنه قبل داود النبي الذي وجد نعمه أمام الله، وألتمس أن يصنع مسكنًا لإله يعقوب، ولكن سليمان بني له بيتًا، مع أن العلي يريد أن يجد له مكان في قلوبنا (أع 7: 46 - 48) فتعلمت من أبونا أن أكون قريبه من الرب بالإيمان وأستريح به وهو فيَّ. + لم يشك في وعد الله: (رو4: 20) فلم أشك في كلام أنبيائه. ويقول (1 يو 2: 13) " كتبت إليكم أيها الأباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء ". + " تيقن وتقوي بالإيمان معطيًا مجدًا لله" (رو 4: 20) فعند مثول العذراء أمامي، وثقت وأخذت قوه وأعطيت مجدًا لله، فأمتلأت من روحه، وقلت لها: " من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟ طوبي لمن أمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب." (لو 1: 43 – 45) من أين لي أن يأتي ربي إليَّ، بل يسكن عندي ثلاثه أشهر بل يملأ إبني بروحه وزوجي بنعمته. الراهب القمص إبراهيم الأنبا بولا
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل