المقالات

21 يناير 2022

عيد عرس قانا الجليل

" وفىِ اليوم الثالث كان عُرس فىِ قانا الجليل ، وكانت أُم يسوع هُناك 0 ودُعى أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العُرس 0 ولمّا فرغت الخمر قالت أُم يسوع لهُ ليس لهُم خمر 0قال لها يسوع مالىِ ولكِ يا إمرأة0 لم تأتِ ساعتىِ بعد 0 قالت أُمّهُ للخُدّام مهما قال لكُم فافعلوهُ0 وكانت ستّة أجرانٍ من حِجارةٍ موضوعةً هُناك حسب تطهير اليهود يسعُ كُلّ واحدٍ مطرين أو ثلاثة0 قال لهُم يسوع إملأوا الأجران ماء0 فملأوها إلى فوق0 ثُمّ قال لهُم إستقوا الآن وقدّموا إلى رئيس المُتّكإ 0 فقدّموا0 فلّما ذاق رئيس المُتّكإ الماء المُتحّول خمراً ولم يكُن يعلم من أين هى0 لكنّ الخُدّام الذين كانوا قد إستقوا الماء علِموا0 دعا رئيس المُتّكإ العريس0 وقال لهُ 0 كُلّ إنسانٍ إنّما يضعُ الخمر الجيّدة أولاً ومتى سكِروا فحينئذٍ الدّون0 أمّا أنت فقد أبقيت الخمر الجيّدة إلى الآن0 هذهِ بِداية الآيات فعلها يسوعُ فىِ قانا الجليل وأظهر مجدهُ فآمن بهِ تلاميذهُ " ( يو 2 : 1 – 11 ) 0 فلتحلّ علينا نعمتهُ وبركتهُ من الآن وكُلّ أوان وإلى دهر الدهور آمين 0 تحتفل الكنيسة يا أحبائىِ بعيد من أعيادها السيّديّة الصُغرى عيد " عُرس قانا الجليل " ، رُبّما يتساءل البعض لماذ مُعجزة عُرس قانا الجليل تتحّول لعيد ؟ فربنا يسوع المسيح عمل مُعجزات كثيرة ، رُبّما يكون عمل مُعجزات أكبر منها ، فإِذا كان اقام موتّى ، فإِذا كان أقام لِعازر ، فإِذا كان فتح للأعمى عينيهِ 0 أولاً أتكلّم مع حضراتكُم فىِ ثلاث نُقط :0 (1) لماذا نحتفل بعُرس قانا الجليل كعيد 0 (2) سخاء ربنا يسوع 0 (3) التحّول 0 أولاً : لماذا نحتفل بعُرس قانا الجليل كعيد :- لأنّها أول مُعجزة ربنا يسوع المسيح عملها فهى أول شىء يُعلن بِها نفسهُ أمام الناس00فقبل المُعجزة إن كان معروف فهو معروف لأخصائهُ الأقربين جداً مثل الست العدرا وتلاميذهُ لكن عِند عامة الناس لا يعرفوهُ فالست العدرا تعرف جيداً إمكانيات إبنها كون إن هى قالت ليس لهُم خمر فذلك لأنّ هى تعرف إمكانيات إبنها فطلبت المُعجزة هى أول مُعجزة يُستعلن فيها مجد لاهوت ربنا يسوع المسيح ، فالكنيسة تحتفل بِها وتجعلها بداية لحياة ربنا يسوع المسيح فتوجد كلمة فىِ الإنجيل " الثالث " فلِماذا اليوم الثالث ؟ فهو اليوم الثالث بالنسبة للعِماد 0 فهو إعتمد فىِ 11 طوبة 0 فاليوم هو اليوم الثالث للعِماد ، فنجد قِراءات 12 طوبة لا تُقال قِراءات 12 طوبة لأنّهُ ثالث يوم عيد الغِطاس وتُعطىِ لنا تعاليم خاصة بالعِماد 00فمازالت الكنيسة بتحتفل بالعيد ولكن توّج إحتفالنا بالعِماد بمُعجزة00فالثالث تُشير لقوة القيامة قوة الحياة الجديدة قوة الخلاص0 العيد يحمل معانى كثيرة :- (1) إعلان إلوهيّة ربنا يسوع المسيح 0 (2) بداية كرازتةُ وخدمتةُ 0 فهو حب أن يتعرّف علينا فىِ عُرس لأنّ هو مصدر الفرح ، وبدأ خدمتهُ فىِ عُرس ، ربنا يسوع المسيح هو العريس الحقيقىِ فهو مُشتاق أن يخطُبنا لنفسهِ ويُقدّمنا لهُ كعذراء بلا عيب 0 فإن كانت هذهِ المعرفة أولّها فىِ فرح فإنطبعت صورة مُفرحة مُعزّية قوية فىِ نفوسهُم ، لأنّهُ يُشركهُم فىِ حياتهُم ، فهو صديق لهُم ومُشاركاً لهُم فىِ حياتهُم ، فهو كان مُجامل وكان عاطفىِ وشاركهُم فىِ أحزانهُم وأفراحهُم0 والعُرس كان يأخُذ مُدّة من الزمن ، فكان يأخُذ على الأقل إن كانوا ناس بُسطاء يأخُذ إسبوع 0 " وكانت أُم يسوع هُناك 00 " فالسيد المسيح أتى ليُجامل والست العدرا كانت هُناك من قبلهُ بمُدّة ، وربنا يسوع ذهب فىِ نهاية العُرس ، فالعُرس فىِ التقليد اليهودىِ كان يُمثلّ أمر لهُ فرحة كبيرة جداً ، فبعض النساء تغيّرت أسمائهُم بعد عُرسهُم فهو يُمثلّ للشخص حياة جديدة0 وفىِ بعض تقليدات فىِ التقليد اليهودىِ إن هى بداية جديدة ، وغُفران للخطايا السابقة ، لذلك كانوا يحتفلوا بهِ بمراسيم طقسيّة وبِمُشاركة أهل أهل البلد ، لذلك ربنا يسوع هو أتى ليُعلن نفسهُ العريس والبشريّة هى العروس ، والعُرس معروف عنهُ البهجة والسرور وتجمّع الأقرباء والأحبّاء ، فهو جاء ليقول أنا أتيت فىِ وسط أحبائىِ لأصنع معهُم محبة ، وهو تنازُل رب المجد للبشريّة وإفتقادِهم0 الأعياد السيديّة هى الأعياد التى تمسّ الخلاص وفيها أحداث تمسّ الخلاص ، مثل الخِتان فهو مُناسبة خلاصيّة وهو إحتكاك للخلاص0 لذلك عُرس قانا الجليل الكنيسة بتعتبرهُ مُناسبة فيها رب المجد يسوع بيفتقد الجنس البشرىِ ، نحنُ نعرف أنّ من نتائج الخطية أنّ العقوبة التى وقعت على المرأة عامةً بأنّ بالوجع تلدين وأصبح الزواج مُرتبط بالوجع وبالأنين وبنتائج الخطية ، فهو جاء يحضر العُرس ليرفع العقوبة وليُزيل العداوة القديمة ، كما فىِ آدم يموت الجميع0 وكأنّ اليوم الكنيسة بتقول لنا عيشوا مع المسيح خدمتهُ ، فهو إتولد وإتختن وتعمدّ ، واليوم الكنيسة بتقول لكُم اليوم هو أول خطوة فىِ خدمة ربنا يسوع المسيح0 وربنا يسوع عارف أنّهُ عندما تبدأ المُعجزات تبدأ الحروب والضيقات والمكائد والصليب يظهر ، فقال لها لم يأتىِ الوقت بعد ، فالكنيسة بتعتبر أنّ المسيح أعلن مجد لاهوتهُ وسُلّطانهُ فىِ حياتنا ، وإفتقد حياتنا ويُحوّل حياتنا إلى خمر حقيقىِ0 ثانياً:التحّول:- نحنُ نعرف أنّ الخمر عندما فرغ كان موقف مُحرج ، والست العدرا كانت بتشتغل معهُم ، والست العدرا شعرت بالموقف المُحرج فقالت لربنا يسوع " ليس لهُم خمر " 00ثُمّ قالت لهُم " مهما قال لكُم فإفعلوهُ " ، ليتنا عندما نقرأ الكِتاب المُقدس لا أقول إنّ هذهِ الآية ليس لىِ شأن بِها ولكن الآية تحتاج لوقفة 0 ثُمّ قال لهُم " إملأوا الأجران ماء " فهو حّول الماء إلى خمر ، إنّهُ تحّول جوهرىِ ، فالماء عناصرهُ غير عناصر الخمر ، فالماء H2o هيدروجين وأوكسجين ، والخمر فيهِ كحُولّ فهو فيهِ كربون ، فكون الماء يتحّول ويتغيّر طبيعتهُ تماماً فهى مُعجزة 00مُعجزة خلق 00مثل مُعجزة الخمس خُبزات والسمكتين 00فهى مُعجزة خلق لأنّ ربنا يسوع هو قادر أن يُغيّر 00فهو قادر أن يُغيّر البرودة والجفاف إلى حرارة ونشاط00وقادر أن يُحّول طبيعتىِ الفاسدة وحتى وإن لم توجد إمكانيات التغيير ، أُريد أن أكون شىء لهُ قيمة ولهُ طعم مثل الخمر0 فلنفرض إن أنا لا يوجد فىّ برّ فهو قادر أن يخلق فىّ برّ " قلباً نقياً إخلق فىّ يا الله " 00ربنا يسوع المسيح جاء ليُحّول النفس الضعيفة الفاسدة إلى نفس حارّة0 فربنا يسوع المسيح لا يُجيز شُرب الخمر ، ولكن الناس هى التى تُفسد إستخدامهُ ، فالناس فىِ المناطق الباردة تشربهُ للتدّفئة ، فالمادة فىِ حد ذاتها ليست شراً ولكن الإنسان هو الذى يصنع الشر ، فهو يُريد أن يقول أنّهُ قادر أن يخلق قلب جديد نقىِ0 ربنا يسوع إستخدم فىِ إنجيلهُ كلمة " خمر" عندما قالت عذراء النشيد " أدخلنىِ إلى بيت الخمر " فهو يُشير إلى الشبع الروحىِ بالله ، وفعلاً الإنسان يا أحبائىِ بيصل لدرجة أنّهُ يسكر بمحبة ربنا ويوصل لدرجة أنّهُ يرتفع عن الفِكر البشرىِ 0 ربنا جاء ليجعل بهذهِ المُناسبة إفتقاد لجمود الإنسان ، لأنّ الإنسان إبتعد عن ربنا تماماً وعاش فىِ حياة كُلّها توانىِ وكسل ، فربنا يُريد أن يُغيرّهُ0 ومن عظمة قُدرة التحّول أنّ رئيس المُتّكإ إندهش وقال لهُم من أين أتيتُم بهِ 00والأجران كانت ثقيلة جداً00فهو قد إعتقد إن الخمر كان عندهُم وأتوا بهِ فىِ الأخر ولم يعرف بالتحّول ، كأنّ ربنا يسوع المسيح جاء ليقول أنا سأبطُل الخمر القديم وسأعطيكُم خمر جديد يُدهش عقولكُم00الخمر القديم هو الناموس والخمر الجديد هو البرّ فىِ عهد ربنا يسوع المسيح0 فيوجد فرق كبير بين الذبائح وبين النعمة التى نحنُ فيها الآن ، فنحنُ موجودين والمذبح مفتوح وبنأخُذ الجسد والدم ، نحنُ فىِ عِز الآن ، فهو يُدهش ، جميل جداً أن ندرس العهد القديم ، فتوجد أهمية لدراسة العهد القديم ، ومنها أعرف اهمية الخمر القديم وما يُشير إليهِ فىِ العهد الجديد0 فما أجمل أن أعرف أنّ الشعب عندما كانت تلدغهُ الحيّات كان موسى يُعلّق الحيّة وينظُر إليّها الإنسان فيُشفى ، فهى قوة الصليب التى تُشفىِ الإنسان من لدغة الحيّة0 موسى عبر البحر الأحمر ولكن فىِ الخمر الجديد هو المعموديّة فكما أنّهُ غرق فرعون فىِ البحر الأحمر كذلك يُسحق الشيطان فىِ المعموديّة0 ثالثاً: سخاء يسوع :- سألهُم وقال لهُم ماذا يوجد عندكُم ؟! فقالوا لهُ عندنا " ستّة أجران من حِجارة موضوعة هُناك 0حسب تطهير اليهود ، يسع كُلّ واحد مطرين أو ثلاثة " 0 فىِ الحقيقة إنّ هذا الرقم وهو " ستّة أجران " فالجُرن الواحد يسع 100 لترأو أكثر ، وكُلّهُم يعملوا 600 لتر خمر ، فلو لتر فقط فإنّهُ يشربهُ خمسة أشخاص ، فالـ 600 لتر يكفوا لعدد كثير جداً 00فما الذى يحدُث ياأحبائىِ ؟! فهو سخاء يسوع يُحّول الخمس خُبزات والسمكتين لتُقدّم فىِ وليمة مُشبعة ويتبقّى إثنىِ عشر قُفّة " الذى يمنحكُم كُل شىء بغنى للتمتُّع "0 يوجد غنى ليس فقط على المستوى المادىِ ولكن على المستوى الروحىِ ، قدّم لهُ أجرانك وسترى ماذا سيفعل ، فيقول عن مُعجزة صيد السمك " أمسكوا سمكاً كثيراً جداً فصارت شبكتهُم تتخرّق " 00غنى00تعال أنت فقط قُل لهُ " إملأ الأجران خمر " 0 الخمر هو الحرارة الروحيّة ، ليس عندنا خمر 00ليس عندنا حرارة فىِ حياتنا الروحيّة ، ربنا يسوع بيقول قدّم ماءك فأحّولهُ لخمر حتى تقولوا كفانا كفانا 0 ألّم تُجرّب أنّك فتحت الإنجيل ووجدت الكلام قوى جداً ومؤثّر جداً ، فإن كان عندك أجران أكثر لكان ملأها بمُجرّد فقط أننا نُعطىِ لهُ وهو يملأ ويملأ0 ألّم تُجرّب مرّة أنّك بتصلّىِ وتشعُر إن إنت فرحان وسعيد وغير مهموم وإرتفعت للسماء وغير قادر أن تختم000فهذا هو الماء الذى تحّول إلى خمر0 الخمر سر حياة القديسين فهُم قدّموا ماء فصار خمر فسكروا 00الشيخ الروحانىِ يقول " لدرجة أنّهُم نسوا كُل شىء 00نسوا الأب والأخ والصديق وسعوا خلف الغنى بحُبهِ "0 الكنيسة بتقول لكُم تعالوا لربنا يسوع المسيح لكى يُقدّس حياتكُم ويُقدّم لكُم خمراً روحانياً ويُقدّم لنفسهُ شعباً مُبرّراً0 ربنا يسوع المسيح يتحنّن علينا وينظُر إلى مائنا ويُحّولهُ إلى خمر يُلهب قلوبنا ونفوسنا0 ربنا يسند كُل ضعف فينا بنعمتهُ لهُ المجد دائماً أبدياً أمين0 القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديسين مارجرجس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
20 يناير 2022

شخصيات الكتاب المقدس زكريا النبى

زكريا النبى " هوذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان "" زك 9: 9 " مقدمة زكريا هو الحادى عشر بين الأنبياء الصغار الإثنى عشر، وكان معاصراً للنبى حجى، ويسميهما البعض « التوأمين بين الأنبياء »، وقد عاد الإسرائيليون من السبى البابلى، وقد عاد زكريا، وهو شاب، مع العائدين فى أول مرة، وكان كاهناً ونبياً، وقد كافح لبناء الهيكل الثانى فى أورشليم، وكان عليه أن يعمل على بناء هذا الهيكل، وفى الوقت نفسه يعد الشعب لحياة أفضل وأكمل، وإذا كان حجى - واسمه يفيد الحجج أو الذهاب إلى العيد، أو يمكن أن ندعوه فى اللغة الشائعة «عياد» الذى يعيد بعد السبى الطويل، ويعود إلى حياة الفرح والبهجة - فإن زكريا يمتد إلى أكثر من ذلك، إذ معناه « الرب يذكر » وقد كشف برؤاه الثمانى المجيدة، ونبواته الرائعة، كيف أن الرب سيذكر شعبه ويضمن سلامهم إلى آخر الأيام،... وهو من أكثر الناس لذلك حديثاً ونبوة عن يسوع المسيح ومجيئه فى الجسد، ووداعته، وصلبه، حتى تنتهى الرؤى والنبوات إلى آخر الأيام، ومن المعتقد أنه فى رؤاه وحديثه عن المسيح، لا يباريه فى هذا الشأن من الأنبياء سوى إشعياء، وأنه فى عرف الكثيرين يأتى تالياً لإشعياء فى هذا المجال!!.. ومن المعتقد أنه بدأ نبوته وهو شاب فى عام 520 ق.م.، وها نحن نراه فيما يلى: زكريا ورؤاه الثمانى المجيدة وهى ثمانى رؤى متتالية مجيدة، يقول البعض إن النبى رآها متلاحقة فى ليلة من الليالى، وقد نهض الناس لبناء الهيكل وربما كان ذلك فى تمام 025 ق.م.... ومن نعم اللّه على الإنسان أنه يعطيه الرؤيا،... وهى بركات روح اللّه التى تحدث عنها يوئيل النبى، عندما ينسكب روح اللّه على كل بشر، فيتنبأ بنوننا وبناتنا، ويرى شبابنا رؤى، ويحلم شيوخنا أحلاماً، والحياة فى الواقع، لا يمكن أن تكون صحيحة أو مجيدة بدون هذه الرؤى والأحلام، ومن ثم فإن الروائيين والكتاب والشعراء، وهم يتخيلون عالماً أفضل وأعظم وأمجد، تمتد رؤاهم عبر الواقع التعس المحزن الأليم،... وقد قال أحد الكتاب: « إن الرجل الذى يستطيع أن يتكلم إلى القلوب المهزوزة والنفوس التعسة، لابد أن يكون ذلك الإنسان الذى يعرف قلبه ونفسه، ومقدار ما عانى من اضطرابات مماثله لما يعانيه الناس الآخرون فى الحياة،.. الإنسان الذى خاض معركته، وجابه الظلام، ووصل إلى النور الذى أعطاه اللّه إياه فى مواجهة الآلام،... هذا الإنسان الذى منحة اللّه لمسة الحنان والرفق تجاه الشكوك والتعثرات والتخبطات التى تحيط بالناس حوله »... ولابد لنا أن نرى النبى بهذا المعنى، إذ أنه ليس الإنسان الذى يتلقى الوحى آلياً، أو الذى لا يدرك معنى الشكوك التى يكافحها، أو التجارب التى يندد بها، أو اليأس، أو البؤس الذى يريد أن يخلص الناس منه،... إنه الإنسان الخاضع لنفس الآلام التى يقع تحتها الآخرون، وقد جرب بتجاربهم، ولكنه بروح اللّه تعلم الانتصار والغلبة على المصاعب والمشاكل والمتاعب التى واجهها، وهو من نبع الإختبار، وبسلام الإيمان، يمكن أن يحارب فى معارك الرب، ويقود الناس إلى النصر فيها »... وبهذا المعنى كان زكريا النبى، وهو يكشف رؤى اللّه للناس!! فإذا تصور الناس فى زحام الحياة ومتاعب الأيام، أن اللّه قد ترك الأرض والقوى فيها يأكل الضعيف، والمستبد يهلك الوادع، وأن الأمور تسير فى كل شئ وفق الأهواء أو النزوات، وبدا كما لو أنه ليس هناك إله يحكم الناس، أو عناية تتمشى فى حياتهم، فإن ملاك اللّه يظهر لزكريا ليرى شجر « الآس »، وهو ذلك النوع من الشجر القصير الصغير، الظليل الجميل الدائم الاخضرار، العطرى الرائحة، وهو الاسم العبرى الذى أطلق على أستير الملكة، وربما أطلقه مردخاى عليهم إشارة إلى جمالها الفائق الفتان، وقد علته مسحة من الكابة والوحشة والتعاسة التى أورثها إياها الفقر واليتم والسبى،... وأورشليم كانت بهذا المعنى شجرة آس، وهى تعود من السبى والمنفى والألم، ولكنها ما تزال ممتلئة بالتعاسة والوحشة والبؤس،... وربما خطر على بال الناس فيها أن اللّه قد ترك الأرض،... ولكنه يؤكد أنه يرسل خيله لتجول فى الأرض كلها، وهو لا ينسى أحداً، ولا يهمل أحداً، ولا يتغاضى عن أحد.ومهما اختلف لون الخيل الحمر والشقر والشهب، ومهما كانت ترمز إلى ألوان العناية فى تعدد مظاهرها،... إلا أن المعنى المقصود هو أن اللّه لا يغفل عن شئ أو يهمل شيئاً فى الأرض!!.. وإذا كانت عناية اللّه تمتد إلى كل الأرض، فإنها تهتم على وجه الخصوص بشجرة الآس، التى ترمز إلى أورشليم، أو إلى كنيسة اللّه العلى،... التى تحيط بها المتاعب أو الضيقات ولكنها ليست متروكة على الإطلاق من اللّه.فإذا تحولنا إلى الرؤيا الثانية، فإننا نبصر هناك أربعة قرون، هى رمز للشر الذى سيطر فترة من الزمان، وبدد يهوذا وإسرائيل وأورشليم، وهذه القرون الأربعة، فى تصور الشراح، هى ممالك بابل، ومادى وفارس، واليونان، وروما، الممالك الأربع العالية التى بددت أورشليم، والتى خرج فى إثرها الصناع الأربعة وهم قوى اللّه العظيمة الأدبية، ورآها بعضهم البر، والعدالة، والضمير، والعناية، وهى التى ستتغلب آخر الأمر، وتقضى على كل المفاسد والاثام والشرور، وتؤكد أن اللّه لا يمكن أن يتخلى عن شعبه وأبنائه، وستسقط كل القوى الطاغية تحت أقدامهم، فإذا جئنا إلى الرؤيا الثالثة، فنحن أمام غلام يحاول أن يقيس أورشليم، ليرى كم طولها وكم عرضها، وقد بدت أمامه صغيرة ضعيفة مخربة، ولكن الملاك يمنعه، لأنه لا يمكن أن تقاس أورشليم التى ستتسع لكل المؤمنين فى الأرض، وهى ليست أورشليم القديمة، التى تعرضت للغزو والفتح والتدمير، بل أورشليم السماوية، كنيسة اللّه التى ستغزو وتمد أطنابها فى الأرض كلها.فإذا كان هناك خوف من آثام الماضى، وهل يمكن أن تتكرر، فنحن إزاء الرؤيا الرابعة، والتى يظهر فيها يهوشع الكاهن العظيم، وهو يمثل شعب اللّه، لابساً ثيابه القذرة، وإذا بالنعمة الإلهية تخلع عنه ثيابه، وإثمه، وتلبسه ثياباً مزخرفة، وتضع على رأسه العمامة الطاهرة، عندما يأتى عبد الرب « الغض » المسيح الذى بنعمته وروحه يزيل إثم الأرض وشرها بدم صليبه!!.. على النحو الذى قرأناه ونحن نتعرض لشخصية يهوشع فيما سبق من الشخصيات،فإذا ظهرت االصعوبات القاسية كالجبال الرواسى فى طريق بيت اللّه وعمله وخدمته، فنحن نرى فى الرؤيا الخامسة منظر المنارة التى كلها ذهب، وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها، وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان... إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره،.. ونحن هنا إزاء بيت اللّه الذى يشع منه النور ليملأ الأرض كلها، وإزاء النعمة التى تجعله دائماً مضيئاً ومنيراً، فإذا كانت هناك صعوبات هائلة، فى طريقه، فإن الجبل يضحى سهلا لا بقدرة الإنسان، أو قوته، أو جهده البشرى، بل بقوة وعمل روح اللّه، كما ذكرنا هذه الحقيقة عند دراسة شخصية زربابل التى يحسن الرجوع إليها فى هذا الموضوع،فإذا قيل: ولكن المدينة ما تزال ممتلئة بالأشرار والمجرمين واللصوص والأثمة والخطاة، فنحن هنا إزاء الدرج الطويل العريض الذى رآه فى الرؤيا السادسة والذى يحمل اللعنة والملعونين، لإبادة أسمائهم من الأرض فإذا قيل أيضاً: ولكن إلى متى يكون هذا، ومتى سيبقى الشر بعيداً عن النهوض مرة أخرى؟؟... فنحن نأتى إلى الرؤيا السابعة فى إيفة الشر التى تجلس فيها امرأة، وقد أغلق على فمها بثقل من الرصاص، وحملت على أجنحة لتدفن فى أرض شنعار، حيث لا تقوم لها قائمة بعد وحتى يبدو هذا مؤكداً فنحن آخر الأمر أمام الرؤيا الثامنة، التى تتحدث عن مركبات اللّه المنتصرة التى تخرج إلى كل مكان فى الأرض،.. ومن الواضح أن الخيل التى تقود المركبات مختلفة الألوان، فالحمر فى عرف الشراح تشير إلى الدم والمعارك التى يستخدمها اللّه كواحدة من سبل العناية وإتمام مشيئته، والدهم - وهى أقرب إلى السواد - تشير إلى الحزن والمجاعة، والشهيب الأقرب إلى البياض، تتحدث من البهجة والمسرة، والمنمرة الشقر، هى مزاج الآمال والآلام والراحة والمتاعب،... وقيل إن الحمر تتجه إلى الشمال إلى بابل، وتتبعها الدهم إلى مادى وفارس، والشهب نحو اليونان!! والنمرة نحو روما،فإذا أخذت الرؤى جميعها معاً، فإنها تبدو أمامنا فى صورة الصراع الظاهر فى سفر الرؤيا بين الخير والشر، وأن الشر مهما يفعل فسيسقط مهما بدت قوته، ومظهره، وسلطانه، وعمله!!... وأن الحق والخير والجمال والنور، مقرر لها الغلبة من أول الأمر ومن ابتداء المعركة!!.. أما زكريا نفسه، يبدو أمامنا فى صورة الرجل الذى يلمع وجهه بالرجاء، فى قلب الظلمة الداكنة!! زكريا والجواب على أسئلة الشعب عندما دمرت أورشليم وأخذ الشعب إلى السبى، وتحول الهيكل ركاماً وأنقاضاً وتراباً، فقد الشعب طقوسه وفرائضه، غير أنه فى السبى - وقد سيطر عليه الحزن، واستبد به الألم - رأى أن يأخذ نفسه بألوان من الصوم، لم تكن عنده أصلا، وعاش السبعين عاماً وهو يصوم وينوح فى الشهر الخامس والسابع،... وبعد أن انتهى السبى، كان لابد أن يسأل نفسه هذا السؤال: ترى هل يستمر فى الصوم، أو يغيره، أو يقلع عنه؟؟،.. وقد كان من المشجع على الاستمرار، أنه رغم العودة إلى أورشليم فإن الخراب الذى يسود البلاد، والحياة التى يعيشها الناس فى ضعف وفقر وجدب، وماتزال قائمة باقية، فهل يستمر فى الصوم إلى أن تنتهى وتتلاشى؟ وقد أجاب اللّه على لسان زكريا، مقرراً أن الأصل عند اللّه ليس الطقس أو الصوم، بل حياة البر والطاعة، وأنهم لو عاشوا هذه الحياة، لما جاء السبى، ولما كانت هناك حاجة إلى التزيد فى الطقوس والأصوام،... وأن السر كل السر فى الضياع هو أن الناس لم تسمع لكلمة اللّه ولا لشريعته وإرشاده، فكانت النتيجة مجئ غضب اللّه العظيم، والعقاب المروع، والنبى يكشف كيف أن الناس لم يسمعوا الشريعة، إذ أصموا آذانهم وثقلوها، وذلك سواء بالانتباه إلى أصوات أخرى تأتيهم من خداع العالم والخطية والشر، أو أنهم تمردوا على الكلمة فامتنعوا عن سمعها، بعد الإنصات أو عدم الذهاب إلى بيت اللّه، ولم يقبلوا الخدمة، فأداروا ظهورهم وأعطوا كتفاً معاندة، وكانت النتيجة أن ضاع السلام وولى، وجاء الخراب والتدمير والتشريد والنفى،والسلام لا يمكن أن يأتى بالفرائض والطقوس،... ومع أن زكريا كان يشجع على بناء هيكل اللّه، ولكنه مع ذلك لم يحاول أن يربط السلام بمجرد المساهمة فى بناء البيت أو تزيينه. إن السلام يرتبط بشئ فى الداخل فى سريرة الإنسان وأعماقه، ومن ثم فليس يكفى أن يصوم الصوم الطقسى فى شهور معينة من السنة، بل المهم أن يحب الحق ويصنع الإحسان والرحمة، ويمد يده للمساعدة، ولمعونة الأرملة واليتيم والغريب والفقير، إن مساعدة الضعيف والعاجز ثمرة من ثمرات الحياة الدينية المتعمقة مع اللّه، وهنا نجد النبى يحض على الدين العملى، وليس النظرى فحسب، وإذ قد لا يفهم الإنسان العقائد اللاهوتية العميقة، وقد يصعب عليه إدراك المباحثات الدينية البعيدة!!... لكنه يستطيع أن يحيا الحياة الدينية بممارستها!! إذ يحدث هذا، يقودنا النبى إلى العصر الذهبى المجيد الذى يتمتع فيه الناس بالحياة المبتهجة السعيدة، فنرى المدينة وقد امتلأت بصبيانها وبناتها، بشيوخها وشيخاتها، وهم يجلسون فى الراحة والأمن والسلام، دون ضيق أو إزعاج، فإذا بدت الصورة جزئياً فى العودة من السبى، إلا أن الأمر لن يقصر على شعب واحد، لأنه: « هكذا قال رب الجنود سيأتى شعوب بعد وسكان مدن كثيرة وسكان واحدة يسيرون إلى أخرى قائلين لنذهب ذهاباً لنرضى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضاً أذهب. فأتى شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود فى أورشليم وليترضوا وجه الرب. هكذا قال رب الجنود: فى تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودى قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن اللّه معكم » " زك 8: 02 - 32 " وهنا نخرج من نطاق اليهودية الضيق، إلى مجد المسيحية العظيم!!.. زكريا والنبوات عن المسيح يسوع وقد تتحدث زكريا عن المسيح فى أكثر من نبوة من نبواته، إذ تحدث عن دخوله المنتصر الظافر إلى أورشليم: « ابتهجى جداً يا ابنة صهيون اهتفى يابنت أورشليم. هو ذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان » " زك 9: 9 " وقد اقتبس هذه النبوة متى ومرقس ويوحنا، فى هذا الدخول المجيد، ولعلنا نلاحظ الفرق بين دخول هذا الملك، وغيره من ملوك الأرض،... ولقد قيل إن الإسكندر فى غزواته، وهو يقترب من المدن، كان يثير فيها الفزع والهلع والرعب أما المسيح فلا يمكن أن يقترن دخوله فى مكان ما، إلا بالبهجة والفرح والهتاف، وذلك لأنه يحل ومعه العدل والنصر والسلام،.. كيف لا وهو لا يدخل إلا وديعاً متواضعاً محباً، فوق حمار وجحش ابن أتان، كما فعل عندما دخل مدينة أورشليم ليموت هناك حبا وفداء لجنسنا البشرى الذى ضيعته الخطية، وأماته الإثم والتمرد والعصيان!! كما أن زكريا تنبأ ثانية عن المسيح المحتقر، المرفوض من شعبه: « فقلت لهم إن حسن فى أعينك فأعطونى أجرتى، وإلا فامتنعوا.، فوزنوا أجرتى ثلاثين من الفضة. فقال لى الرب ألقها إلى الفخارى. الثمن الكريم الذى تمنونى به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخارى فى بيت الرب » " زك 11: 12 و13 " ومهما قيل عن ارتباط هذه النبوة بما جاء فى نبوات إرميا فى الأصحاح الثامن عشر والتاسع عشر، حيث يصور النبى قدرة اللّه وسلطانه على الشعوب بقدرة الفخارى على قطعة الطين فى يده، كما أن اللّه - إذ يأمر النبى إرميا أن يحطم إبريق الفخارى - يكشف عما سيفعله هو، كإله مقتدر، بالأمة الخاطئة، إلا أنه واضح أن النبى زكريا كشف عن المسيح المرفوض، والذى قدره شعبه بثلاثين من الفضة، وهو الأجر الذى يعطى تعويضاً عن العبد إذا نطحه ثور ومات: « إن نطح الثور عبداً أو أمة يعطى سيده ثلاثين شاقل فضة والثور يرجم » " خر 21: 32 " ومهما يقل الناس عن صفقات بخسة فى كل التاريخ والعصور والأجيال، فلا نعرف صفقة تعسة خاسرة كالتى باع بها يهوذا الأسخريوطى يسوع المسيح!!.. قيل إن أحد الشبان الأمريكيين دخل معرضاً من معارض الشمع وإذا به يرى صورة التلاميذ مجتمعين معاً فى حضرة المسيح، فما كان منه إلا أن هوى على تمثال يهوذا الأسخريوطى وحطمه تحطيماً،... وإذا بالمشرف على المعرض يذهل ويقول له: لماذا تفعل هكذا؟!.. « إنه تمثال!، وإذا بالشاب يجيب: تمثال أو غير تمثال،... إن يهوذا الأسخريوطى لا يمكن أن يدخل ولا يتنا إلا وينال هذا المصير ». ومع أن كثيرين إلى اليوم ما يزالون وقد دخلهم الشيطان، يفعلون مثل يهوذا القديم الذى باع سيده بأتفه الأثمان، إلا أن يهوذا ذهب إلى أتعس مصير يمكن أن يصل إليه إنسان!!... وهو المصير الدائم لمن يبيع المسيح الكريم مهما كان الثمن، فكم بالحرى لو كان الثمن تافهاً حقيراً!!.. على أن زكريا عاد فتنبأ عن رجوع اليهود إلى المسيح: « وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذى طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون فى مرارة عليه كمن هو فى مرارة على بكره » " زك 12: 10 " وربما لم تعرف الأمة اليهودية حزناً عميقاً وشاملاً، كحزنها على يوشيا الملك عندما سقط فى معركة مجدو، التى أشار إليها زكريا النبى: « فى ذلك اليوم يعظم النوح فى أورشليم كنوح هدد رمون فى بقعة مجدون » "زك 12: 11".. ولم يكن هذا إلا رمزاً للألم والبكاء الذى أحسن به اليهود يوم موت المسيح على هضبة الجلجثة: « وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتى كن يلطمن أيضاً وينحن عليه... وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم "لو 23: 27 و48"... فإذا سار اليهود فى عذابهم وآلامهم ومتاعبهم، فى كل أجيال التاريخ، وعندما يفتح اللّه عيونهم ليعودوا إلى الذى طعنوه، بالألم والحزن والتوبة!!.. فإن النبوة ستتحقق على ما أشار إليه الرسول بولس فى الأصحاح الحادى عشر من رسالة رومية « فإنى لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل. كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب » " رو 11: 25 و26 "وتنبأ زكريا - إلى جانب هذا كله - عن موت المسيح: « استيقظ يا سيف على راعى وعلى رجل رفقتى يقول رب الجنود. اضرب الراعى فتتشتت الغنم وأرد يدى على الصغار » " زك 13: 7 "... ولا أظن أن هناك كلمات يمكن أن تكون أجمل من كلمات ف. ب. ماير يوم قال: « إنه السيف الذى لمع فى يد الكروبيم على باب جنة عدن لحراسة طريق شجرة الحياة، وهدد الزوجين المعتديين بلهيبه المتقلب، إنه سيف العدل، سيف كلمة اللّه المنتقم على العصيان بالموت، وقد نام فى غمده أربعة آلاف عام، وإذا جاز أن نقول، باليقين الإلهى، بأن الرحمة لابد أن تلتقى بالعدل تجاه الناموس المكسور،... كان من المحال أن ينام فى غمده إلى الأبد،... ووعد اللّه لابد أن يتم، وفى ملء الزمان جاء المسيح ليكون كفارة، ليظهر بر اللّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال اللّه لإظهاره بره فى الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » " رو 3: 25 و26 "... وقد أيد المسيح هذه الحقيقة: وهو يقول لتلاميذه، « حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فى هذه الليلة لأنه مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية " " مت 26: 31 ". ولا تنتهى نبوات زكريا قبل الحديث عن مجئ المسيح الثانى العتيد،... وليس المجال هنا للبحث فى الحرفية « أو » الرمزية التى يتتسم بها الأصحاح الرابع عشر من زكريا.. فبعض الشراح يفسر الأصحاح تفسيراً حرفياً، حيث ينشق جبل الزيتون فعلا إلى نصفين يفصلهما واد كبير،... وتحدث معركة هر مجدون آخر معارك العالم التى يحسمها المسيح بظهوره العتيد،... غير أن هناك من يأخذ « أورشليم » أو « الكنيسة » بالمعنى الرمزى، دون أن يحدد صورة حرفية معينة، قد تكون أورشليم المشار إليها فى مطلع الأصحاح الرابع عشر، هى التى دمرها الرومان، أو قد تكون الكنيسة حين انهارت الحياة الروحية وغطاها الظلام فى العصور الوسطى، على أن اللّه لا يمكن ان يتركها أو يهملها، بل سيأتى ليحارب عنها، وينتصر، ويكون الملك له وحده وسواء تم هذا بالمعنى الحرفى أو الروحى، فإنه لا يمكن أن يتم إلا بعد المعاناة والمتاعب والزلازل، والعلامات التى أكد السيد المسيح أنها لابد أن تكون قبل مجيئه الثانى العتيد، فإذا جاء فإن مجيئه سيكون أشبه بعيد المظال الذى يعيد فيه اليهود سبعة أيام، أو فى لغة أخرى، إنه الخروج من تعب الخطية وشدتها وقسوتها ومعاناتها، إلى الراحة والسلام والاطمئنان. والملك الألفى العظيم العتيد،... وسواء كان هذا الملك هو حكم المسيح لمطلق لمدة ألف عام فى الأرض، كما يذهب مذهب، قبل الألف، الذى سبقت الإشارة إليه فى بعض الدراسات السابقة، أو هو انتصار كنيسة الرب يسوع بالمعنى الروحى الذى يقدس فيه كل شئ لمجد السيد، وهو الأرجح فى نظرنا، إذ لا نستطيع أن نفهم أن يتحول كل شئ قدساً للرب: « فى ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل قدس للرب والقدور فى بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح. وكل قدر فى أورشليم وفى يهوذا تكون قدساً لرب الجنود وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها. وفى ذلك اليوم لا يكون بعد كنعانى فى بيت رب الجنود» " زك 14: 20 و21 ".. ما لم نفهم الذبيحة المعنى الروحى،... ونفهم أن تقدس أقل الأشياء كالأجراس التى تعلق على رؤوس الخيل، والتى هى للزينة أو للصوت أو الرنين الذى يحدث منها كلما سارت فى الطريق،... أى أن، يصبح كل شئ - صغر أم كبر فى الأرض - لمجد اللّه وجلاله بالمعنى المفهوم فى الحياة المملوكة بالتمام للّه!!.. على أية حال كانت نبوات زكريا عبوراً طويلاً ممتداً من أورشليم وهيكلها القديم، وقد كانت أمام عينى النبى القديم أطلالا دارسة تحاول أن تقو وتنتفض من التراب، إلى أورشليم التى صلبت يسوع المسيح، ورأت من العذاب والضيق مالم تره مدينة أخرى فى كل التاريخ، إلى أورشليم أمنا السماوية، كنيسة الرب يسوع التى ستظهر فى اليوم الأخير بمجده الأبدى الفائق، حين تنتهى اللعنة إلى الأبد، ويصبح كل شئ فى السماء وعلى الأرض قدساً للرب!!..
المزيد
19 يناير 2022

عيد الغطاس - الظهور الالهى - الثيؤفونيا

عيد الظهور الإلهى وأهميته ... أهنئكم أحبائى بعيد الظهور الإلهي راجيا لكم حياة مقدسة مثمرة فى الرب . اننا اذ نحتفل بعيد (الأبيفانيا) Epiphany (إيبيفاني) أو عيد الغطاس المجيد، فاننا نتذكر الرب فى تجسده وعمادة ليقدس ويكرس لنا الطريق الى البنوة الحقيقية لله والولادة من الماء والروح ونتذكر معموديتنا يوم تعهدنا ان نجحد الشيطان ولا نسير فى طرقه وان نعلن ايماننا المسيحى ونحيا اوفياء لعهد تبنى الله لنا فى قداسة وبر وتقوى . تعمد السيد المسيح القدوس من القديس يوحنا المعمدان بالتغطيس { وللوقت وهو صاعد من الماء } ولذلك نسمى المعمودية "الغطاس". ليؤسس لمعموديتنا نحن المؤمنين به، ففيما نال هو المسحة بالمعمودية أعطانا من خلالها الولادة من الماء والروح . لذلك يوحنا المعمدان قال للناس {هوذا حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله} (يو1:26). وشهد عنه قائلا: {إنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرعليه، وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد قال لى : الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابنالله} (يو 1: 33 – 34). + وهنا ربط بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس عليه وأنه يعمد بالروح القدس. معنى هذا أن الروح القدس حل على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد لكى يحل على المؤمنين عبر الولادة من الماء والروح ومن خلال مسحة الميرون المقدس. لهذا تحتفل الكنيسة بعيد الغطاس المجيد لما فيه من أحداث هامة وإعلانات إلهيه تخص خلاصنا. ولعل أول كل هذا ظهورالله المثلث الأقانيم وقت عماد السيد المسيح.. لذلك يطلق علي هذا العيد (عيد الظهور الالهي).. فالاب ينادي قائلاً عن الرب يسوع وهو في الماء {هذا هو أبني الحبيب الذيبه سررت} (مت 3:17)، بينما الروح يحل في شكل حمامة مستقراً علي السيد المسيح ليعلن أنه المخلص الذي أتي لخلاص العالم ليصنع الفداء العجيب. ويقول في ذلك القديس أغسطينوس: (بجوار نهر الاردن ننظر ونتأمل المنظر الالهي الموضوع أمامنا.. فلقد أعلن لنا إلهنا نفسه عن نفسه بكونه ثالوث في واحد.. أي ثلاثة أقانيم في طبيعة إلهية واحدة). معمودية السيد المسيح ومعموديتنا .. الرب يسوع المسيح لم تكن لولادته من الماء والروح لأنه لابن الوحيد للاب بالطبيعة،)هذة العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) فلم يكن نزوله فى المعمودية لكى يولد من الماء والروح لكنه كان نازلاً من أجل ان يستعلن انه المسيح الرب ويبدأ خدمته العامة لذلك سُمى بالمسيح، يسوع اسم الولادة والمسيح هذا اسم المسحة فى المعمودية، وبينما لرب يسوع يقف في إتضاع عجيب أمام يوحنا المعمدان في نهر الاردن ليعتمد منه.. أعلن الله ليوحنا عن الذي سيعمده إذ هو الابن الكلمة المتجسد . فشهد يوحنا المعمدان قائلاً: {أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه.. هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنالم أكن أعرفه لكن ليظهر لاسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.. إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فأستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو أبن الله..}(يو 1: 26 – 34). بهذه الشهادةالتي قدمها القديس يوحنا المعمدان يكون قد أعلن عن المخلص الحقيقي الذي استعلن وسط البشر في الماء ليحمل خطايا العالم.. وكأن من نزل في الماء قد ترك خطاياه واغتسل منها.. بينما إذ نزل الابن الكلمة المتجسد في الماء وهو بلا خطية قد احتمل كل خطايا البشر.. هذا هو سر الخلاص المعلن في نهر الاردن. يقول القديس اثناسيوس الرسولى عن معمودية السيد المسيح ومعمودتنا نحن وحلول الروح القدس عليه ( أن نزول الروح علي السيد المسيح في الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقيه اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا " ألستم تعلمون إنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم " (1كو16: 3). + فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته. وحينما اقتبل الروح ، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته.ولهذا السبب ، فهو ليس كهارون ، أو داود أو الباقين قد مُسح بالزيت هكذا بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه أي " بزيت الابتهاج " الذي فسر أنه يعني الروح قائلاً بالنبي: " روح الرب علىَّ لأنه مسحني" (إش1: 61)، كما قال الرسول أيضًا: " كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع38: 10). + متى قيلت عنه هذه الأشياء إلاّ عندما صار في الجسد واعتمد في الأردن، " ونزل عليه الروح " (مت16: 3). + وحقًا يقول الرب لتلاميذه إن " الروح سيأخذ ممالي" (يو14: 16)، و " أنا أرسله" (يو7: 16)، و" اقبلوا الروح القدس" (يو22: 20). إلاّأنه في الواقع، هذا الذي يُعطى للآخرين ككلمة وبهاء الآب يُقال الآن إنه يتقدسوهذا من حيث إنه قد صار إنسانًا، والذي يتقدس هو جسده ذاته. إذن فمن ذلك (الجسد) قدبدأنا نحن الحصول على المسحة والختم، مثلما يقول يوحنا " أنتم لكم مسحة من القدوس" (1يو20: 2). والرسول يقول " ختمتم بروح الموعد القدوس"(أف13: 1). + ومن ثمَّ فهذه الأقوال هي بسببنا ومن أجلنا( القديس اثناسيوس الرسولى عن العماد) لقد اعتمد السيد ليعلن لنا أنه الطبيب الحقيقي الذي جاء ليرفع خطايا البشر.. لم يقف في الماء لكي يقر بخطيئته كما فعل باقي الناس اللذين أعتمدوا من يوحنا.. فهو بلا خطية.. لهذا ذهل يوحنا حينما أعلن له عن ما هو الواقف أمامه لايعتمد.. لذلك قال له {أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي} (مت 3: 14) لقد حاول أن يمنعه من العماد لأنه بلا خطية.. فلماذا يعتمد ؟! فأجاب الرب علي يوحنا قائلاً {اسمح الان لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له} (مت3: 15). العماد في نهر الأردن + في قصة عبور بني اسرائيل ليدخلوا ارض الموعد قديما بقيادة يشوع ابن نون وفي نهر الاردن (يش20: 7 – 17) لما وضعوا تابوت العهد فى الماء انشق النهر فعبروا فيه وانتخبوا 12 رجل من أسباط اسرائيل رجل من كل سبط واخذوا حجارة ومروا عليها حتى عبروا نهر الأردن. قصة العبور كانت هذه القصة رمزا لعبورنا من خلال الرب المتجسد السماء أرض الموعد الحقيقية لذلك انفتحت السماء حين نزل الرب فى الماء كما انفتح النهر بحلول تابوت العهد فيه توافق فى الرمز والمرموز اليه . من هنا أخذت المعمودية أهمية خاصة لأنها عبور إلى ارض الموعد الحقيقية التي هي السماء. حلول الروح القدس على السيد المسيح هو حلول لأجل عمل الخلاص، الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث القدوس.(هذه العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) هذه الحادثة تؤكد أهمية هذا الرمز لما حدث في عماد الرب يسوع علي يد القديس يوحناالمعمدان لأن الرب جاء لكي يوصلنا إلي أرض الموعد الحقيقية وهي السماء.. لذلك كما كان نهر الاردن الوسيلة التي من خلالها وصل بني اسرائيل الي أرض الموعد هكذا تحقق الرمز في عماد الرب في نهر الاردن ليكون الوسيلة للوصول الي السماء.. وهكذا نفس الامر إذ بمجرد نزول الرب الي نهر الاردن انفتحت السماء ونزل الروح القدس علي هيئة جسمية في شكل حمامة وأستقر علي رأس الرب يسوع كاول إنسان يستقر فيه الروح القدس منذ غادر البشر كما جاء فيه (تك: 3) { فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الي الابد لزيغانه هو بشر وتكون أيامة مائة وعشرين سنة}.. اي لا يدوم روحي في البشر.. ولتوضيح هذا المعني أريد أن لا نخلط بين السيد المسيح والروح القدس لاهوتياً (إذ هما أقنومان في الذات الالهية الواحدة) وبين حلول القدس علي السيد المسيح ناسوتياً. ولقد سبق الوحي الالهي وتنبأ عن ذلك قائلاً: {روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لانادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب} (أش61: 1، 2) + ان الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث ولذلك هذا هو الوضع اللاهوتى، (مز45: 6،7) {كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك}. هذا الجزء الأول الخاص باللاهوت هذا عن الإبن ووضحها القديس بولس الرسول عن الإبن، {أحببت البر وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله الهك بزيت الإبتهاج أفضل من رفقائك}هذا الجزء خاص بالوضع الناسوتى وهونفسه كرسيه إلى دهر الدهور هو نفسه الذى مُسح بزيت الإبتهاج. هذا هو الهدف من المعمودية أن يحل الروح القدس على السيد المسيح ناسوتياً. الملوك يمسحون بزيت قرن المسحة ولكن فى السيد المسيح حل الروح القدس عليه معطيه كمال المسحة المقدسة. ثمار المعمودية والولادة من الماء والروح + المعمودية ولادة من فوق من الماء والروح وبها نصير ابناء وبنات لله بالتبنى والنعمة وتغفر لنا خطايانا ونؤهل للدخول للسماء { اجاب يسوع الحق الحق اقول لك ان كان احد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح } يو 5:3-6 . + وكما يقول الانجيل { بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس } وبها نلبس الرب يسوع { لأن كلكم الذين أعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح } (غلا3: 27) . وننال التطهير الكامل والبر والقداسة (ف 3: 25). لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكى يحضرها كنيسة مجيده لا دنس فيها ولا غضن ولا شيئاً من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب وبالمعمودية ندفن مع المسيح ونقوم {كل من أعتمد ليسوع المسيح قد أعتمد لموته} (رو6: 3، 4) . لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته فإن كنا قد متنا مع المسيح عن الخطية وشهوات العالم وقدمنا توبة عن اثامنا وخطايانا ننمو فى القداسة ونثمر ثمر الروح ونرث ملكوت السموات . + لهذا يحثنا القديس اغريغوريوس النزينزى ان نحتفل بهذا العيد بالتوبة والقداسة ( فلنكرم ليوم معمودية المسيح، ولنعيد عيدًا سعيدًا يفرحنا روحيًا بدلاً من أن نهتم بمعدتنا وشهواتنا. ما هي طريقة فرحنا ؟ اغتسلوا حتى تتنقوا. إذا كنتم قرمزيين من الخطيئة فصيروا بيضًا كالثلج بالاغتسال والتوبة. حاولوا أن تتنقوا لأن الله لايفرحه شئ بقدر ما تفرحه النقاوة وخلاص الإنسان الذي تجسد من أجله، ومن أجله كُتبت كل الكتب، وأعطيت كل الأسرار لكي يصبح (الإنسان) كوكبًا مشعًا بالضياء للعالم المنظور وأمام الملائكة، وقوة محيية للآخرين، ولكي تتقدموا أنتم كأنوار أمام الله النور الاعظم ، وان تدخلوا إلى مساكن النور ).
المزيد
18 يناير 2022

عيد الغطاس رؤية وشهادة

يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله. وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!! + «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا! سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان: هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة: أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6) ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...». لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8) «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»: هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة! فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟ ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟ أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟ ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس! يقين الرؤيا: إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية! ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور. هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح. هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10) فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب. وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان! وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم! ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26) أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء». أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس. يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة. + «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11) هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34) إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت». هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس! وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله. والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح. شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب. عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه». «أنا لم أكن أعرفه»: هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس! يقين الشهادة: كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33) هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30) هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15) شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20) هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت». يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله. تأثير السيرة على الشهادة: ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة. والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟ في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!! إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15) إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!! هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». رؤيتنا وشهادتنا: والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟ نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور. ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2) إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22) وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين! «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
17 يناير 2022

الأرض التي صارت سماء

إن السماء هي مكان وجود الله وحوله الملائكة.عندما سكن ربنا يسوع المذود الحقير، اشتهت الملائكة أن تعيش فيه أفضل من كل قصور العالم، فتحول المزود الأرضي الحقير إلى سماء تسبح فيه الملائكة قائلة: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". فحيث سكن يسوع وأمه تعيش الملائكة وحيث لا يسكن يسوع فهناك الشر. إذا ما هو الشر؟ ليس هناك شر في حياة الإنسان أكثر من أن يترك الإنسان إلهه ويتكل على ذاته فيتحول إلى أرض بلا إله وبلا تسبيح ملائكة. وعلى العكس فإن اللحظة التي يسكن الله فيها في مذود حياة الإنسان الخرب، تتبدد كل خطية، ويزول الشر ويحل السلام ويسمع التسبيح. من أجل هذا تجسد الرب يسوع ليكون فينا فنحيا لا نحن بل هو يحيا فينا. جميع الديانات السابقة كانت تعتمد على وصايا الله لإنسان وتأمر الإنسان أن يتخلى عن شره ولكنها فشلت، ولكن المسيحية تعتمد على وجود الله في حياة الإنسان فيتبدد الشر ويحيا الله في الإنسان ويحيا الإنسان بالله. من أجل هذا تجسد ربنا يسوع. إذا ما هو سر سقوطي وهزيمتي المتكررة؟!! إن سر سقوط الإنسان هو في اتكاله على ذاته وتركه الله- وحيث لا يوجد يسوع توجد الخطيئة. إن إهمال الصلاة والتأمل في كلمة الله وحياة التسليم وإهمال التناول ووسائط النعمة هي أساس السقوط في أشرالخطايا، لأن إنساًنا بلا إله هو إنسان سريع السقوط. إن المذود الصغير صار مكاًنا للتسبيح المستمر من أجل هذا يا إلهي عندما أردت خلاصي قلت لي: "ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل" (لو ١ :١٨ ). ويحدثنا التاريخ الكنسي عن القديسة يوستينه التي فشل الشيطان في إسقاطها مرات عديدة، واعترف بسر فشله بأنه كل مرة كان يذهب إليها كان يجدها قائمة تصلى. وما هي علامة القلب الطاهر الذي يسكن فيه يسوع باستمرار؟ "وهذه هي العلامة تجدون طفلا مقمطا مضطجعا في مذود".إن عنوان مسكنه هو المذود، والعلامة أنه مقمط مربوط ومضطجع فيه.إن هذه الأقمطة هي نظير الحبال التي ربطت بها على الصليب، أما اضطجاعك فهو أعماق تسليمك لمشيئة الآب على الصليب. ربي وإلهي: إن طريق السير وراءك هو أن أقمط أهوائي وشهواتي وميولي وإغراءات هذا العالم،وعواطفي الجسدية ومحبتي وكراهيتي للآخرين وطموحي المادي وفشلي وارتفاعي وسقوطي... أن أقمط ذاتي، وأضطجع معك بلا حركة في المذود... أي أحمل صليبي مبتدئًا من المذود حتى تعرفني الطريق إلى الجلجثة. أما المذود: - ١- فهو علامة المكان الذي تسكن فيه.إنك يا إلهي لا تسكن القصور الشامخة... لذلك يا نفسي تحولي بسرعة إلى مذود مداس من البهائم،إلى موضع احتقار الآخرين... احذري الكرامة لئلا يهرب يسوع. تعلمي الانسحاق والتذلل- اخفضي صوتك اخدمي أخوتك- كوني آخر الكل- لا تفتخري بالأمور العالية. يا ربي يسوع سوف لا اشتهي أن أكون غنيا ولكن اشتهي أن أكون فقيرا معدما محتقرا مرذولا... اشتهي أن أتحول إلى مذود حقير لتأتي وتسكن أنت في مع أمك القديسة العذراء. ٢- والمذود هو علامة غربتك عن العالم "إذ لم يوجد لهما موضع في المنزل".إن أردت يا نفسي أن يبقى يسوع فيك، فعيشي بلا منزل ولا مذود في العالم. فأنت لست من هذا العالم. لا تنسي يا نفسي هذا المبدأ عند يسوع لئلا تفشلي وتضلي الطريق. احذري احذري الإحساس بعدم الغربة. أخيرا يا نفسي بعد أن تتخلى عن ذاتك وتتكلي على إلهك، وتصيري مذودا لسكنى يسوع يمتليء قلبك فرحا ولسانك تهليلا لأنه حيث يسكن يسوع هناك يكون التسبيح."وظهر بغتة جمهور من الجند السماوي مسبحين الله...".يخيل إلينا أننا نقدر أن نتعلم التسبيح والصلاة من ذواتنا، ولكن هذه هبة طبيعية لوجود يسوع في حياتنا، ولوجودنا مع أم يسوع، ولوجودنا في بيت الله. إن التسبيح هو من طبيعة الملائكة التي اكتسبتها من وجودها في حضرة الله، والشيطان عندما طرد من حضرة الله فقد التسبيح وامتلأ قلبه بالحسد والغيرة والشر.فالنفس التي صارت مذودا ليسوع لابد أن تحب التسبيح والترتيل، إن النفس المتعالية يرفض يسوع السكنى فيها وتفقد هذه النفس قدرتها على التسبيح.فإن كنت يا نفسي قد فقدت الترتيل والتسبيح فاعلمي أن السر في ذلك هو عدم اتضاجعك لتكوني مذودا، وأن إحساسك بوجود الله في حياتك غير موجود. لذلك اجتهدي يا نفسي وافتحي أبواب مذود حياتك ليسكن يسوع فيه. فتتحول أرض حياتك الخربة إلى سماء ثانية يسمع فيها التسبيح. آمين. المتنيح القمص بيشوى كامل كاهن كنيسة مارجرجس اسبورتنج
المزيد
16 يناير 2022

خادم المهارات

ظهرت في الآونة الأخيرة مجالات كثيرة نافعة لتوظيفها لمصلحة الخدمة، مثل مجالات القيادة والإدارة والمهارات البشرية وعلم المشورة وغيرها من المجالات المتعددة التي تساعد في الكثير من أمور الخدمة.ولئلا يظن البعض أن هذه المجالات لا تحمل نفعًا للكنيسة، ونتجه إلى محاربتها أو الاستغناء عنها، فنحن نتحدث عن كيفيه توجيهها التوجيه السليم، وجعلها أداة لمزيد من فاعلية الخدمة، ولكن لابد أن نضع أمام أعيننا دائمًا أن الخدمة هي عمل روحي قبل أن يكون عمل مهاري. وقد قصد مخلصنا الصالح أن يخلّص بقليل وبكثير، أن يغير بجهالة الكرازة ما عجز عنه فلاسفة العالم، لأنه مكتوب أنه سيبيد علم العلماء. فما يشكل خطرًا حقيقيًا أن نعتبر هذه المجالات كافية لنجاح الخدمة...وبلاشك هذه مجالات لها جاذبيتها وبريقها، ولكن يُخشى علي راغبيها أن يكتفوا ويفتخروا بها، ويجعلوا منها هدفًا وليست وسيلةً، ويتبارى أطرافها في المزيد منها، وقد يعتقد راغبها أنها سر نجاح الخدمة. ولأنها تغذّي النزعة الفردية والذاتية، ولأنها أحيانًا تقدم تعويضًا عن الثغرات الروحية، فنجد أنها جاذبة لكثيرين... ودليل على ذلك تجد إقبالًا على اللقاءات المهارية أكثر من اللقاءات الروحية، وتكالبًا على الكتب أو الكورسات التي تعلم المهارات أكثر من الكتب التي تشرح الإنجيل أو الليتورجيا.أحبائي: الخدمة عمل إلهي وليست حركة بشرية. والكنيسة هي الملكوت على الأرض وإن كانت في الأرض، وهي تحتضن المعرفة وتوظّفها وتسخّرها لصالح رسالتها.ويجب أن نعرف أن العالم كله نقطة داخل الكنيسة، وليست الكنيسة نقطة داخل العالم، فهي التي تشفع في الكون كله كمسئولة عنه بكل ما فيه من بشر وبحار وأنهار وينابيع وزروع وعشب وأهوية وبهائم وثمار وغيرها.فإن كان أيُّ علم أو معرفة أو مستحدثات، فهي تُستخدم لهدف الكنيسة الأعلى وهو انتشار الملكوت على الأرض، ومعرفة الابن الوحيد الذي أحبها وأسلم نفسه لأجلها، والامتلاء من الروح القدس الذي يطهّر ويصلي ويشفع في كل أعضائها.لا نريد أن نقلّل من شأن أي علم، ونقرّ أنه نافع ولكن لقليل، وننبه لخطورة الاكتفاء به. فالكنيسة ليست مؤسسة زمنية، ولا ترتكز على العلوم البشرية، ولا تكرز ولا تخبر إلّا بفضائل مَنْ دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب. فهي تعلن ملكوت ابن محبته، وتحدّث ببرّ عريسها، وتنادي مع حزقيال النبي: «اجتَمِعوا، وتَعالَوْا، احتَشِدوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إلَى ذَبيحَتي الّتي أنا ذابِحُها لكُمْ» (حزقيال39: 17). لذلك علينا أن نستخدم كل علم بقيادة الروح القدس الفاعل فينا، ليوجّه كل معرفة لمجد المسيح وكنيسته... القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديس جوارجيوس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
15 يناير 2022

«فولدت ابنها البكر» (لو2: 7)

نصت شريعة العهد القديم على تقديس الابن البكر، حسب قول الرب: «قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي» (خر13: 2)، وكانت البكورية صفة لمن يحملها مثل «نَادَابُ البِكْرُ» (عد3: 2). فالمولود الأول يُكرَّس لله، قبل أن يُعرَف إذا ما كان له إخوة بعده أم لا. أيضًا أبكار الحصاد والكروم والزيت (خر13؛ لا23: 10-14؛ 27: 26-29؛ عد15: 19-21؛ 18: 13-20؛ 19: 23)، فبتقديم البكر للرب يتقدس الكل. لقد دعا الله في حديثه مع موسى، إسرائيل: «ابْنِي الْبِكْرُ» (خر4: 22)، وأطلق على جماعة المفديين المقدسيين اسم «َكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ» (عب12: 23).التعبير اليونانيّ prwtotokoj من الكلمات الخاصة بالترجمة السبعينية للعهد القديم، إذ أنها لم تَرِد في أية نصوص يونانيّة قبلها، وقد وردت فيها حوالي130 مرة بمعنى [الابن البكر، أو الابن المولود أولًا]. وهذه الكلمة هي ترجمة للكلمة العبرية "بوكير" ومعناها "بكر" وذلك عندما تأتي لتصف بكر الإنسان أو الحيوان، وفي الجمع ”بكوريم“ ومعناها ”أبكار“ عندما تصف أبكار المزروعات.المسيح الهنا باكورة الجميع، قد وُلد من العذراء بالروح القدس، لكي يكون متقدمًا بين الجميع «بكر كل خليقة» (كو1: 15)، ليس بمفهوم أنه واحد من الخليقة، أو الأول بين إخوة عديدين، فهو المولود الأزليّ من الآب، المولود قبل أيٍّ من المخلوقات. فالعذراء ظلت عذراء لم يكن لها ابن آخَر إلاَّ ذلك الذي هو من الآب، الذي قال عنه: «أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ» (مز89: 27). فهو البكر «اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كو1: 17). مكان الصدارة والسمو فوق كل خليقة مادية وغير مادية، وكمصدر ونبع الفداء. فالقديس بولس الرسول يؤكد على ذلك في رسالة العبرانيين، «مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ» (عب1: 6)، فإذا كان البكر قد دخل إلى العالم، هذا يعني أنه ليس من العالم، أي منفصل عن العالم، ليس من جهة المكان بقدر ما هو من جهة الطبيعة. فإنه يختلف عن سكان العالم في الطبيعة، ولكن دخل بأن صار إنسانًا، (أقنوم الكلمة اتخذ من أحشاء العذراء طبيعة إنسانيّة كاملة)، وبذلك –كما يقول القديس كيرلس الكبير– يُدعى بكرًا من جهة التدبير peri thj οikonomiaj لأنه من جهة ألوهيته هو الابن الوحيد فهو كلمة الآب؛ لأن ابن الله المساوي للآب، هو واحد ووحيد، ولكنه يصير بكرًا بتنازله إلى مستوى المخلوقات (القديس كيرلس الكبير، تفسير إنجيل لوقا). وهذا ما يؤكده القديس أثناسيوس الرسولي في رسالته (ضد الآريوسيين 2: 62،61).النعم التي نالتها البشرية من البكر: بهذا العمل التدبيريّ، أنه صار بكرًا، نلنا نحن البنوة، فيقول القديس كيرلس أيضًا: [بسبب محبة الآب لخلائقه، قد دعا الابنُ نفسَه بكرًا لكل خليقة (1كو1: 15). فهو بكر من أجلنا نحن، حتى تصير الخليقة كلها كأنها مُطعَّمة فيه، كما في أصل جديد غير مُستهدَف للموت، فتنبت من جديد من الكائن الأزلي نفسه] (الكنز في الثالوث 25). ويضيف القديس يوحنا ذهبي الفم: [هو "البكر" ونحن إخوته. هو الوارث ونحن شركاؤه في الميراث. هو الحياة ونحن الأحياء. هو القيامة ونحن القائمون. هو النور ونحن المستنيرون. كل هذه تفيد الاتحاد ولا تترك فرصة لوجود أقل فجوة بيننا وبينه] (تفسير كورنثوس الأولى، العظة الثامنة). القمص بنيامين المحرقي
المزيد
14 يناير 2022

خِتَانُكَ يَا سَيِّدُنَا

في اليوم الثامن لميلادك، عندما تمت ثمانيه أيام على ولادتك، كان ختانك، وسُميتَ يسوع كما سمّاك الملاك قبل أن يُحبل بك في البطن ... كذلك قمت من بين الأموات في اليوم الثامن لبداية الزمن الجديد، لتعطينا الختان الروحي، بمقتضى ما أمرت به رسلك الأطهار القديسين، كي يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم، ويمنحوهم الختان الروحي في المعمودية باسم الثالوث القدوس . خُتنت ثم أبطلت طقس الختان بعد ختانك أيها الختن الحقيقي ... أعطيتنا نعمة المعمودية كي لا نختتن حسب ناموس العتيقة، بل ننضم ضمن شعب أهل بيت الله ورعيه القديسين، بختم ضمانك وحمايتك وملكيتك لنا، بين ورثة وأبناء الله المتبنين. خضعت للناموس وأكملته من أجل التدبير ومن أجل السرور الموضوع أمامك، فبدأت حياتك بسفك الدم في الختان وأكملته علي الصليب، عندما سلمت الروح وقلت (قد أكمل)؛ مبطلاً بذبيحتك جميع الذبائح الدموية ... ذبيحتك التي أعلنتها أيضًا في يوم ختانك، وفي صليبك حقًا ذبيحة طاهرة ناطقة حية ورحانية غير دموية، ذبيحة؛ ليس دم الناموس حولها ولا بر الجسد. أخذت صورة العبد صائرًا في شبه الناس، بينما أنت يا يسوع المسيح ذو الأسم المخلص، وهبتنا عهد ختان العهد الجديد، ليكون ختان الروح لا الحرف ... ختان لا يحتاج إلى أي مدح أو حكم بشري، لأنه يعتمد على الشهادة التي من فوق من عندك يا أبا الأنوار ... فبختانك انتهى طقس الختان إلى الأبد؛ وذلك بدخول المعمودية التي كان الختان رمزًا لها، وبسبب المعمودية لن نعود نمارس الختان فيما بعد، لأننا عُتقنا من ناموس الخطية والموت، إذ ليس ختانه في المسيح يسوع بل خليقة جديدة. ففي اليوم الثامن يوم التطهير ونوال ختم العهد والتأهيل للدخول في عضوية شعب الله، وهو يوم الذبيحة والتقديس والتكريس، أعطيتنا فيه الختان غير المصنوع بالأيادي، بخلع جسم خطايا البشرية ، بفعل دمك الثمين الذي بروح أزلي يطهر من الأعمال الميتة ... إنه يوم أول الأسبوع بعد انقضاء سبعة أيام، الذي صار لنا بداية جديدة بعد دورة الزمن، بانقضاء القديم وبداية عهد جديد ... وفي يومك الثامن هذا أيضًا قمت من بين الأموات؛ وفيه ظهرت للتلاميذ في أحد توما، وفيه أيضًا حل روحك القدوس على التلاميذ، ونحن أيضًا لن يمكننا أن نكون أطهارًا إلا بختان معموديتك - ( أما الحمل فروحي ، وأما السكين فعقلية وغير جسمية ) - حتى نبلغ يومك الثامن في مجيئك الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجدًا. بختانك يا سيدنا أخذت محلتنا لنأخذ نحن محلتك، البار عوض الأشرار؛ والقدوس بدلاً عن الأثمة ... بختانك تممت البر وأطعت إلى كمال الوصية، وفصلت بين عهد ختان الجسد بالناموس، وبين عهد ختان القلب والحواس بالمعمودية والتقديس، وتكريس الحياة بختم سيادي لا ينفكّ، وبسِمة ملوكية موسومة لا تنحل ولا تنمحي. في يوم ختانك هذا اتخذت اسمًا - ( سُمّي يسوع ) - لتكشف لنا عن هويتك الحقيقية بأنك مخلص الجميع؛ ومن يتكل عليك لا يأتي إلى الدينونة ... فلنأتِ إليك يا سيدنا من أجل عهد ونذر ختاننا، ولنختبر ونتعرف إليك من اسمك الذي اتخذته من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، فنذوق قوة اسمك الخلاصي العجيب والمملوء مجدًا، وتتجمع فينا الحواس وننطق بكرامة اسمك الحلو المبارك الذي تمجد في أفواه قديسيك الأبرار سكان الأرض .. فإسمك في كل شيء كريم ومبارك ... وهو طيب مسكوب يقدم له البخور في كل مكان، وصعيدة طاهرة القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
المزيد
13 يناير 2022

شخصيات الكتاب المقدس زربابل

زربابل " هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلا لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود " زك 4: 6 " مقدمة أغلب الظن أن « زربابل » عندى عاد من السبى، كانت روحه أقرب الناس إلى روح ذلك المرسل، الذي جلس مع اثنين من زملائه وقد استولى عليه اليأس العميق، إذ كان كل شئ ضدهم، وكانت الظروف المحيطة بهم لا توحى بأدنى رجاء، فالعمل قاس والصعاب جسيمة، والمعونات المنظورة لا يكاد يبين لها أثر على الإطلاق،... وصاح المرسل نحن هنا أصفار، ولا أمل لنا على الإطلاق،... وقال زميله: كلا، بل نحن هنا ألف، لو أحسنا الرؤية،... وقال الآخر ساخراً: وأين هذا الألف الذى تقول عنه!!؟... فقال. نحن حقاً ثلاثة أصفار، ولكن المسيح واحد معنا، يصنع منا ألفاً، إذا وقف إلى جانبنا كثلاثة أصفار نأتى على يمينه،كانت الصعاب فى وجه زربابل، كالجبل العظيم الشامخ الذى يسد عليه كل الطريق، بل يرده إلى ما يشبه المستحيل فى الرسالة الضخمة الموضوعة أمامه،... ولعله زفر مرات كثيرة يائسا، وتمنى ألا يتحرك من مكانه فى السبى على رأس أول مجموعة ترجع منه، فهو، على الأقل، هناك يرى الصعاب بعين الخيال دون الواقع المرير الذى يواجهه فى أورشليم، ودون المسئولية التى ألقيت على كتفيه ليحملها فى قيادة الأمة، وبناء الهيكل،.. وإذا بكلمة اللّه تأتى إليه، وتؤكد المعونة التى التى حسبها تتخلى عنه - بين حجرى الأساس والزاوية أو - فى لغة أخرى - بين ابتداء العمل ونهايته،... وانتصبت روح الرجل البائس وانتصبت معه كل روح تواجه عمل اللّه الجبار فى كل العصور، وهى تسمع كلمة الرب يسوع المسيح وهو يقول لتلاميذه: « ليكن لكم إيمان باللّه لأنى الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح فى البحر ولا يشك فى قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له » " مر 11: 22 و23 "ولعلنا بعد ذلك يمكن أن نتابع قصة زربابل فيما يلى: زربابل والعمل الجبار لم يعد المسبيون من السبى دفعة واحدة إلى أورشليم، بل انقضت خمسون سنة تقريباً بين الفوج الأول والفوج الثانى من العائدين، فعندما أذن لهم كورش الفارسى بالرحيل، رجع نحو خمسين ألفا منهم تحت قيادة زربابل عام 536 ق.م. ومن الملاحظ أن المسبين لم يكن شغلهم الشاغل عند عودتهم، هو بناء بيوتهم ودورهم، أو غرس كرومهم وحدائقهم، بل كان أولا وقبل كل شئ بناء مذبح اللّه، أو بمعنى آخر، إن التفكير الدينى عندهم كان سابقاً على التفكير الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى، وقد بدأوا فى إقامة المذبح حال وصولهم، وقدموا التقدمات والمحرقات، وعيدوا الأعياد وحافظوا على الطقوس والفرائض التى أمر بها موسى وفى العام التالى وضعوا أساس هيكل اللّه وتاريخ زربابل يرتبط أولا وقبل كل شئ ببناء الهيكل، ونحن لا نسمع عنه، كقائد لأمته وشعبه، أية أفكار أو ميول أو اتجاهات أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكننا نسمع فقط عن علاقته بهيكل أورشليم واهتمامه ببنائه وإعادة العبادة فيه. ولعل قصة السبى نفسها كانت أعمق المواعظ فى نفسه، وأبعدها أثراً،... فالسبى لم يحدث للشعب بسبب أحداث أو حوادث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية - كضعف البلاد أو قلة سكانها أو عدم تسلحها أو ما إلى ذلك من الأسباب التى قد تكون هناك ويؤمن العالم أنها السر الأول والأخير فى انهيار المالك وسقوطها وزوالها - لكن السبب - على الدوام - أعمق كثيراً من ذلك، فهو الخطية والبعد عن اللّه، وستسقط أعظم الممالك وأقواها، يوم تبتعد عن السيد، أو تنحرف نحو الآثم والخطية.. كلنا يعلم من هو أرثر بلفور السياسى الانجليزى المشهور، صاحب وعد بلفور،... لقد ألقى هذا الرجل ذات يوم فى جامعة أدنبرة محاضرة عن « القيم الأدبية التى تعمل على توحيد الجنس البشرى » وكان بين المستمعين طالب يابانى، أخذ ينصت بكل إصغاء وتأمل إلى المحاضر، كما كان يدون فى مفكرته كل ما يسترعى انتباهه من النقط الرئيسية البارزة فى المحاضرة،... وبعد أن انتهى بلفور من إلقاء محاضرته، دوت القاعة بتصفيق حاد، إعجاباً بالمحاضر الذى تحدث فى إسهاب ودقة عن الروابط المختلفة التى تربط العالم، والمصالح المتشابكة فيه، كالعلم والتجارة والصناعة، وما أشبه وبعد فترة من الصمت وقف المشرف على الاجتماع ليشكر المحاضر على محاضراته، ولكنه قبل أن ينطق بكلمة واحدة وقف الشاب اليابانى، وصاح بصوت واضح مسموع. ولكن يامستر بلفور... أين يسوع المسيح!!؟ وران على القاعدة صمت بليغ، حتى ليسمع فيها وقع سقوط الإبرة، إذ كانت العبارة شديدة الوقوع على الجميع، وعلى مستر بلفور أيضاً، إذ كيف لا يشير رجل لعب دوراً هاماً فى تاريخ الإمبراطورية البريطانية، التى قيل إن الشمس لا تغرب عن ممتلكاتها، إلى المسيح كالركن الأعظم والأول فى بناء الجنس البشرى؟!،.. لم يعش بلفور، ليرى كيف تقلصت بريطانيا، وهوت من مجدها العظيم، رغم قوتها وثرائها وسيطرتها، لأنها أهملت الاتجاه الدينى الذى ساد فى أعظم وأزهى عصورها!!.. كان الهيكل أهم شئ فى أورشليم بالنسبة للأمة، فى حاضرها ومستقبلها وكان على المسبين جميعاً، الذين عادوا من السبى، أن يدركوا هذه الحقيقة، ولا يتغافلوا عنها،... وقد تحدث زكريا النبى، وكان شاباً فى ذلك الوقت، فى رؤياه عنها إذ قال: «فرجع الملاك الذى كلمنى وأيقظنى كرجل أوقظ من نومه، وقال لى ماذا ترى؟ فقلت قد نظرت وإذا بمنارة كلها ذهب وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره » " زك 4: 1 - 3 ".. كان على زكريا أن يستيقظ تماماً إلى حقيقة المنارة التى تغذيها شجرتا الزيتون بالزيت، لتبقى سرجها دائماً موقدة تعطى النور... وهذا يقودنا، فى الرؤيا الممتدة، إلى السبع المنابر الذهبية فى سفر الرويا، بل يقودنا إلى المسيحية كلها كنور للعالم، وحاجة البشرية إلى هذا النور العظيم ليهديها سواء السبيل. قال الجنرال عمر برادلى الذي كان من أبرز القواد الذين ظهروا فى الحرب العالمية الثانية، ومن أكثرهم صلة باللّه، وهو ينظر بحزن إلى العالم: « عندنا كثيرون من رجال اللّه،.. ولكننا تطلعنا لبحث أسرار الذرة ونسينا الموعظة على الجبل،.. وها الإنسان يتعثر فى الظلام الروحى الدامس، وهو يعبث بأثمن أسرار الحياة والموت،... ولقد حصل العالم على نور دون حكمة، وعلى قوة دون ضمير،.. ونحن نعلم عن الحرب أكثر مما نعلم عن الحياة، وعالمنا عالم جبابرة المادة، وأطفال االمبادئ والأخلاق » وفى الحقيقة، إن السبى لم يكن مجرد عقاب من اللّه للخطية أو انتقام من شعبه، بل إنه فى الواقع، كان عدالة من اللّه تنتهى إلى الرحمة، إذ هى عدالة الأب الذي يؤدب أبناءه ليرحمهم مما يتهددهم من المآسى والتعاسات التى يمكن أن يحصدوها من وراء حماقاتهم وشرورهم وخطاياهم. ولقد حدد اللّه مدة السبى بسبعين عاماً، لابد أن يقضيها الشعب مشرداً قبل أن ينضج ويعود إلى حياة الحق والبر والقداسة والتكريس، وحذر اللّه المسبيين على لسان إرميا، من الأنبياء العرافين المدعين الكاذبين، الذين يحاولون أن يخدعوهم بالقول إن اللّه سيرجعهم سريعاً إلى بلادهم، وطلب إليهم أن يبنوا بيوتاً، ويغرسوا جنات، ويتزوجوا، ويصلوا لأجل البلاد التى هم فيها إذ أن وقتاً متسعاً لهذا كله لابد أن ينقضى قبل رجوعهم، كما بين لهم أنه سيكون رفيقاً بهم مشفقاً عليهم، إذ سيسمح لهم بألوان سعيدة فى السبى، تجيز لهم أن يفعلوا هذه كلها، وهو يقصد بذلك أن يظلوا محتفظين بإيمانهم وشجاعتهم، وقوميتهم وعقائدهم ودينهم!!... وإذا ظن البعض أن السبى شر مطلق، فإن اللّه يؤكد لهم العكس، إذ أنه سباهم لأنه يفكر فيهم ويحبهم ويقصد لهم آخرة فياضة بالسلام والرجاء، أو كما يقول إرميا: « لأنى عرفت الأفكار التى أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء، فتدعوننى وتذهبون وتصلون إلى فأسمع لكم. وتطلبوننى فتجدوننى إذ تطلبوننى بكل قلبلكم، فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التى طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذى سبيتكم منه ».. " إر 29: 11 - 14 " كل هذه الحقائق كانت ماثلة فى ذهن زربابل بعد عودته، فأدرك أن رسالته الأولى والأخيرة فى قيادة أمته وشعبه، هى جمع الكل حول العودة إلى اللّه والرجوع من سبى الخطية والشر،... وأن الفلاح والنجاح والسعادة جميعها، مرتبطة بمدى نجاحه فى هذا العمل!!.. زربابل والجبل العظيم لا تكاد تعرف المعنى الدقيق للأسم « زربابل »، وإن كان من المرجح عند البعض أن الاسم يعنى « زرع بابل»، وعلى أية حال، إن هذا الأسم يرتبط ببابل بمعنى مؤلم عميق،... ولعله يكشف أن زربابل، الذى خرج من بابل على رأس العائدين إلى أورشليم، لم تخرج ذكريات بابل من أعماق نفسه أو وجدانه،... لقد علق المسبيون فى بابل أعوادهم على الصفصاف، وهم يبكون عند تذكر مدينتهم الحبيبة، ويفضلون أن يلتصق لسانهم بحنكهم قبل أن يرنموا ترنيمة من ترنيمات صهيون!!.. ولعل زربابل كان يمد بصره إلى بعيد، وكلما امتدت به الرحلة مقترباً من أورشليم كلما يتطلع بشغف إلى مدينة أحلامه وروأه،... وما أن وقف على مشارف المدينة، ورأى خرابها الرهيب، حتى أطلق لنفسه العنان فى البكاء والصراخ،... لقد رأى المدينة أكواماً من تراب، ورأى بقايا أكثر رهبة وأشد هولاً، ألا وهى بقايا هيكل اللّه الذى تحول أنقاضاً وركاماً، تحكى قصة عز دارس، ومجد هوى إلى الرماد والحضيض، ولست أبالغ فى القول: إن عقدة نفسية - لابد - ملأت كيانه باليأس والعجز، وهو يرى قصة بلاده المفجعة من بين الخرائب والأنقاض،.. وهنا بدأ الجبل العظيم يلوح أمام عينيه من اللحظة الأولى، ويتمكن فى وجدانه من أول دقيقة وطأت فيها قدماه أرض أورشليم!... أخذ يقارن بين حال المسبيين فى بابل، وحالهم فى أورشليم، ولعله رأى الفارق البعيد بين الحالين، إذ كان المسبيون فى بابل أشبه بالتين الجيد أذا قورن بالباقين فى أورشليم الذين تحولوا تينا رديئاً عطنا لا يؤكل، كانو قلة مبعثرة ولا قوة لهم ولا رجاء فيهم، ومأساتهم البالغة أنهم تحولوا جماعات تسعى إلى صالحها الفردى أو البيتى، وقد ضرب الهوان عليهم من كل جانب، وهم وصوليون نفعيون، لا هم لهم إلا أن يعيشوا ويأكلوا لأنهم غداً يموتون!!... كانت حياتهم أدنى إلى حياة العبيد الذين خاض ابراهام لنكولن من أجلهم الحرب الأهلية الأمريكية، وكتب لهم وثيقة التحرير، وعندما أعلن ذلك لزعيمهم فردريك دوجلاس نهض الرجل على قدميه وقال فى تأثير عميق: لقد وهبتهم يا سيدى الحرية ولكنهم يحتاجون إلى سنوات طويلة ليتذوقوها، لأنهم إذا كانوا قد خرجوا من العبودية، فإن العبودية لم تخرج منهم بعد،.. وهذه حقيقة مؤكدة بالنسبة للشعوب المغلوبة على أمرها، والتى جعلت الإسرائيليين الخارجين من مصر يحنون إلى الكرات والثوم والجلوس عند قدور اللحم، مفضلين إياها على الحرية التى كانوا فى الطريق إليها والأخذ بأسبابها!! كان زربابل فى أورشليم قائداً وحاكماً لشعب قليل فقير مبعثر ذليل،... وإلى جانب هذا كله، كان محاطاً بأعداء أقوياء، كل همهم القضاء على أية محاولة لإنهاض هذا الشعب أو إنها صورة العالم يحيط بالقطيع الصغير، كما تحيط جماعة الذئاب بالحملان التى لاقوة لها أو سلاح تدافع به عن نفسها!! وقد ظهر هذا بوضوح فى قصة زربابل عند بناء الهيكل، إذ أن زربابل بادر ببناء المذبح ليوقد الشعب عليه الذبائح، وعندما شرع فى بناء الهيكل وجد أمامه شعباً ضائعاً لا يكاد يقوى على البناء، ووجد أعداء أقوياء يمنعونه من البناء بالتآمر والسلاح،... وضع حجر الأساس، ولم يستطع طوال عشرين عاماً أن يتمم البناء أو يبلغ حجر الزاوية،... وانصبت الصعاب أمامه كالجبل العظيم، الذى يسد عليه السبيل إلى النجاح والصلاح. زربابل والمعونة الإلهية أغلب الظن أن زربابل كان يصبح ويمسى، ومنظر الجبل العظيم لا يفارق وجدانه وخياله، ولعله كان يهجس مخاطباً هذا الجيل فى العلن أو فى السريرة، وتحول الجبل إلى عدو عملاق ظاهر يواجهه على الدوام،... ومن ثم جاء صوت اللّه المقابل لهذه الحقيقة مدوياً فى أذنيه على لسان النبى، لقد دخل اللّه المعركة إلى جواره،.. كان زربابل قبل ذلك يواجه الجبل بالرعب والفزع، وأذا به بعد ذلك يواجهه بهتاف الانتصار والتحدى!!... من أنت أيها الجبل العظيم!!؟.. ومن الملاحظ أيضاً أن « الشئ » تحول فى العدو وبالعدو « شخصاً » هائلا مخيفاً يقف أمام زربابل يمكن مخاطبته: « من أنت »!! وحق لروح اللّه فى المؤمن أن يواجه كل مبدأ أو نظام أو قانون أو عقيدة أو دين غير إلهى، أو فساد أو شر متمكن فى الأرض حتى ولو تحول إلى الجبال الرواسى: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟.. وحق لروح اللّه فينا ألا يقلل من الصعوبات الرهيبة التى تحولت بالتاريخ والناس قلاعاً وحصوناً وجبالا عالية شامخة: « من أنت أيها الجبل االعظيم!!؟ »... إن زربابل هنا صورة ورمز للمسيحى فى مواجهة الصعاب والمستحيلات والأعاصير الشيطانية التى تقف تجاهه،... ولذا يمكن أن نقول هذا القول لكل تحديات العصور التى تجابهنا، بصيحة الإيمان القوية: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟ وإذا كان من حق المؤمن أن يوازن بين القوة والمقاومة، وماله وماع ليه، ومن له ومن عليه، فإنه سيجفل فى مبدأ الأمر، لأنه وهو ضئيل وضعيف أمام تراكمات الأجيال التى تحولت جبالا مرتفعة تجاه جهده المحدود، وخطة اليسير، وقدرته الراهنة،. فإن من حقه أيضاً، وهو يتلفت إلى المصدر الأزلى الأبدى يقف إلى جواره، أن يهتف: « من أنت أيها الجبل العظيم »!! إن التأثر بالمنظور هو الذى يحجب عن الإنسان هذه الرؤيا العظيمة!!... عندما تطلع زربابل إلى المال الذى فى يده، والجماعة التى معه،.. والأعداء المتربصين به، فقد الرؤيا التى كان يتعين عليه من البداءة أن يتنبه إليها... لقد خرج من بابل بأمر الرب، بعد انقضاء سبعين سنة عينها الرب لمدة السبى، وهو يرجع إلى بلاده تنفيذاً للوعد الإلهى الذي لا يخيب أو يكذب فمهما كان الجبل عظيماً أمامه من المتاعب والمشاكل المتراكمة، فإن من حقه أن يقول ما قاله الرسول بولس فيما بعد »... « فماذا نقول لهذا... إن كان الرب معنا فمن علينا »!!.. " رو 8: 31 ".فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تعمل معه قوى اللّه منذ اللحظة الأولى؟ ولماذا اعترضته الصعاب المهولة القاسية من أول الأمر عند وضع حجر الأساس!!؟.. ولماذا رأى الجبل العظيم فى شموخه وارتفاعه أمام عينيه!!؟. الحقيقة، إن هذه هى سياسة اللّه الدائمة مع أولاده المؤمنين!!.. إنه دائماً يرفع الجبل أمام عيونهم، ليصغروا فى أنفسهم ويعلموا أنهم لا شئ فى الأساس تجاه المتاعب والمشاكل والصعاب القاسية التى لابد أن تواجههم!! إنه يبلغ بهم أولا إلى النقطة الأولى التى يتعين عليهم أن يعلموها قبل كل صعوبة ومشكلة!!؟ ونعنى بها مشكلتهم أمام نفوسهم، وأنهم عدم بدون المساعدة الإلهية، أو كما قال السيد المسيح لتلاميذه: « بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً » " يو 15: 5 "... وهذا واضح على الدوام فى حياة أبطال اللّه فى كل الأجيال والعصور،... عندما دفع اللّّه موسى ليخرج الشعب من مصر، كان عليه أن يجرده - أولا وقبل كل شئ - من إحساسه بشخصه وذاته وكيانه ولذلك أبقاه فى البرية أربعين عاماً، هى ثلث عمره بالتمام، ليدرك موسى حقيقته وحجمه الصحيح، قبل أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام،.. بل كان عليه، أكثر من ذلك، أن يبلغ به نقطة اليأس الكامل فى مواجهة فرعون، فيزداد الأمر سوءاً أو تزداد الطينة بله كما يقولون، وتثقل العبودية على الشعب: « فرأى مدبرو بنى إسرائىل أنفسهم فى بلية إذ قيل لهم لا تنقصوا من لبنكم أمر كل يوم بيومه وصادفوا موسى وهرون واقفين للقائهم حين خرجوا من لدن فرعون فقالوا لهم: ينظر الرب إليكما ويقضى لأنكما أنتنتما رائحتنا فى عينى فرعون وفى عيون عبيده، حتى تعطيا سيفاً فى أيديهم ليقتلونا، فرجع موسى إلى الرب وقال ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتنى؟ فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك » " خر 5: 19 - 23 " ومن العجيب أن داود الذى واجه الدب والأسد وجليات، كل عليه أن يعيش طريداً فى البرية ليس بينه وبين الموت إلا خطوة، حتى يدرك الحقيقة دائماً أنه أشبه بالبرغوث أو الكلب الميت أو الكيان الضائع حتى تفتقده عناية اللّه ومحبته وإحساناته ورحمته!!.. كان على زربابل أن يموت أولا قبل أن يحيا لمواجهة الجبل العظيم الذى يقف أمامه ويسد عليه كل سبيل إلى التقدم والنجاح »!!.. كان على زربابل فى مواجهة الجبل العظيم أن يدرك أمرين مختلفين أحدهما سلبى، والآخر إيجابى، أما أولاهما فهو أنه: « لا بالقدرة ولا بالقوة »... ومن المعتقد أن الكلمتين مترادفتان، وتشير ان إلى الجهد البشرى المنظور، وإن كانت الفولجاتا قد ترجمت « بالقدرة » إلى « بالجيش ». وقد قيل إن القدرة تشير إلى القوة المتجمعة أو القوى المعنوية، بينما تشير القوة إلى القوة الفردية أو المادية،.. وفى الحقيقة، ليس من السهل الفصل بين مدلول الكلمتين، إذا أنهما تجمعان معاً كل الجهد البشرى المنظور، أو الذى يمكن تصوره، وإن كانت القدرة تتجه إلى المعنويات أكثر من الماديات فنحن نتحدث عن الرجل المقتدر فى إمكانياته العقلية أو الذهنية، أوسعة باعه وعن قوته المادية أو البدنية ومدى ماله من جهد من هذا القبيل.. والفارق على أية حال ليس قاطعاً أو فاصلا، فكثيراً ما تستعمل الكلمة الواحدة منهما مرادفة للأخرى أو بدلا منها،... وليس معنى العبارة كلها أن اللّه لا يستخدم فى عمله القدرة أو القوة البشرية لإنجاز ما يريد أو ما يطلب فى حياة الناس،... فما هذه القدرة أو القوة، إلا الوزنات الموهوبة للبشر، والتى عليهم أن يستثمروها لمجده فى الأرض!!... إنما يريد هنا أن يذكر أن له مطلق الحرية، فى الوصول إلى أغراضه سواء بهذه القدرة أو القوة الخفية، لإتمام أغراضه، فهو فى إخراج الشعب من مصر فعل شيئاً يختلف تماماً عما فعل لإعادتهم من السبى البابلى!!... ففى الخروج من مصر لجأ إلى القوة والقدرة الظاهرتين، عندما غنى الشعب على ضفاف البحر الأحمر: « الفرس وراكبه طرحهما فى البحر »!!.. " خر 15: 1 و21 " لكنه فى عودة المسبيين، لم تكن هناك المعركة الظاهرة بل التأثير الخفى، فهو يؤثر فى قلب كورش أو داريوس، وهو يحول قلوب الملوك كجداول مياه بين يديه!!... وهو فى كل حال الإله القادر على كل شئ!!!... وهو يفعل ذلك مرات كثيرة فى مواكب التاريخ المختلفة ومن ثم حق لأحدهم أن يقول: « لا بالقدرة ولا بالقوة استطاع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح!! ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزاء وينشئ جيش الخلاص العظيم!... ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم - وهو أعزل - نظام الرق، ويطلق القوة التى حررت - آخر الأمر - أربعة ملايين من العبيد... وياله من سجل طويل لأعظم أبطال العالم ممن يستعرضهم الذهن، وممن لم يستندوا فى شئ إلى قوة بشرية، بل استندوا على قوة روح اللّه رب الجنود فصنعوا الخوارق والمعجزات!!... لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج فى تسليح الفلاحين فى هولندا والفلاندرز للثورة ضد طغيان الملك فيليب والفا الدموية.. لقد أدهشت هذه الشجاعة الملك الأسبانى، حتى أنه تساءل عمن يمكن أن يكون من وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك، فكان له جواب وليم الشجاع: « إنك تسألنى عما إذا كنت قد دخلت فى حلف رسمى مع قوة أجنبية، ألا فاعلم بأنى قبل أن أحمل على عاتقى قضية هذه الولايات المنكوبة، قد دخلت فى الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب »... ترى، هل نستطيع أن نواجه جبال مشاكلنا، كما وقف زربابل أمام الجبل العظيم العاتى المرتفع قديماً؟!!.. زربابل والضمان الإلهى وقد ظهر هذا الضمان فى الوعد العظيم المجيد، إن يد زربابل التى وضعت حجر الأساس، هى هى التى ستضع حجر الزاوية مع الهتاف الكريم بالنصر، ولست أعلم كم كان سن زربابل عندما بدأ حجر الأساس، لكنه وقد أوقف العمل، ومرت سنوات عديدة، كان يخشى أن ينطوى عمره قبل أن يضع اللمسة الأخيرة فى بيت اللّه، حجر الزاوية،... وما أجمل أن يسمع بأنه سيبقى حتى يتم العمل، وتراه عيناه، ويسمع الهتاف المدوى بالانتصار على كل العقبات والصعاب والمشكلات التى اعترضت طريقه، ووقفت أمامه كالجبل الشامخ المرتفع العظيم،... ومن اللازم ألا نقف عند شخص زربابل، بل نرى فيه رمزاً للمسيح مخلص العالم، الذي لا يترك عملا قبل أن يقول « قد أكمل »،.. " يو 19: 30 ". فهو الخالق الذي به كل شئ كان وبغيره لم يكن شئ مما كان!!.. ولم ينته من عمل الخليقة حتى « ترنمت كواكب الصبح، وهتف جميع بنى اللّه » " أيوب 38: 7 ".. وهو فى الفداء يفعل الشئ نفسه، ولم يتركه قبل أن يقول على الصليب « قد أكمل، وهو هو الذى خرج فى موكب العصور « ليجمع أبناء اللّه المتفرقين إلى واحد، " يو 11: 52 " ولن يكل أو يعيا « حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم » " مت 12: 20 و21 "« قال اللّه: « إن يدى زربابل قد أسستا هذا البيت فيداه تتمانه » " زك 4: 8 ".. ورجل اللّه قائم حتى يتمم الرسالة الموضوعة عليه فى الأرض، ومع أن عمل اللّه فى العادة يترك اللآتين مجالا للخدمة، إلا أن اللّه أراد أن يعطى زربابل الضمان المؤكد بأنه لن ينتهى من قصته الأرضية، قبل إتمام العمل الضخم العظيم الجبار!!.. ولعله سعد كثيراً بهذه النبوة وانتعشت روحه وانتصب على قدميه، رغم ضآلة البداءة التى بدأ بها!!.. هل أمسك فى الخطوات الأولى من العمل بالزيج الذى يستخدمه البناء فى قياس استقامة الجدار وهو يرتفع؟،.... وهتف به الهاجس، هل سيحيا ويعيش حتى يرى النهاية فى حجر الزاوية الأخير!!؟ وأكد له اللّه ضمان النهاية من الابتداء!!؟... يعتقد الكثيرون أن زربابل رأى فى يوم الابتداء من يهزأ به ويسخر، ويوم الابتداء، فى العادة، هو يوم الأمور الصغيرة، يوم الزارع يزرع البذار فى الأرض، يوم البانى يبنى الأساس الذى يغطيه التراب،... يوم المخترع حين لا يكون الاختراع، فى خطواته الأولى، سوى محاولات تتأرجح بين النجاح والفشل، يوم المتعلم وهو يقف على أعقاب الدراسة، قبل أن يضرب فى خضم البحر الغزير بحر العلم الواسع العميق الممتد،... يوم الطفل حين يحبو قبل أن يصبح شاباً أو بطلا فى مستقبل الأيام والتاريخ!!. هذا اليوم قد يزدرى به الكثيرون،... ولكن اللّه لا يمكن أن يزدرى به بل أعين اللّه السبع تفرح بالعمل فيه: « لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة فتفرح أولئك السبع ويرون الزيج بيد زربابل، إنما هى أعين الرب الجائلة فى الأرض كلها » " زك 4: 10 ".أدنى الشاب إلى أذنه بذرة من بذار شجرة البلوط، وتخيل نفسه وهو يتحدث معها، ويسمعها وهى تقول له: « يوماً ما ستأتى الطيور وتبنى أعشاشها فى، ويوماً ما سأكون ملجأ للمحتمين بى عندما يستظلون بظلى ويوماً ما سأكون ألواحاً قوية توضع فى سفينة كبيرة، من عابرات البحار، وسأهزأ من ضربات الأمواج، وأنا أنقل الناس من قارة إلى أخرى ».. وما أن سمعت هذا - قال المتحدث - حتى صحت أيتها البذرة الحقيرة أتفعلين كل هذا؟!! أجابت: « نعم.. اللّه وأنا نفعل كل هذا ».. عندما أراد اللّه أن يغير تاريخ العالم كله، أرسل اللّه ابنه مولوداً ن امرأة، مولوداً تحت الناموس،... أرسل اللّه وليد بيت لحم بين الناس!!.ما أسعد زربابل عندما خلف وراءه قصة الجبل العظيم الذى أضحى سهلا، واستمع إلى الهتاف المدوى فى يوم حجر الزاوية كالهتاف الذى سمعه منذ سنوات عديدة عند وضع حجر الأساس،!!.. وعتد بين الخالدين من الرجال، لأن رسالته كانت فى قوامها الصحيح إنهاض أمة، وإقامة شعب، بهذا الشئ الواحد، ببناء بيت اللّه فى أورشليم!!
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل