المقالات

08 نوفمبر 2019

لأنه سترنا

إن الطلبات التي قيل عنها في الكتاب المقدس أن تُطلَب "كل حين" هي: الصلاة (لوقا 18: 1)، والشكر (أفسس 5: 20)، والفرح كل حين (فيلبي 4:4) والشكر في كنيستنا نعبّر عنه في "صلاة الشكر"ومن مميزات هذه الصلاة أنها تُصلّى بصيغة جماعية، ويصليها كل الناس، ونشكر ربنا على كل ما يقدمة لنا هذه الصلاة تبدأ بشكر الله سبع نِعم يعطيها لنا، يعطيها لنا مهما كان حالنا "فلنشكر صانع الخيرات لأنك سترتنا، وأعنتنا، وحفظتنا، وقبلتنا إليك، وأشفقت علينا، وعضدتنا، وأتيت بينا اإلى هذه الساعة" هذه النِعم يجب أن يشعر بها كل إنسان ويشعر بقيمتها وأهميتها في حياة كل واحد فينا. نتأمل في النعمة الأولى نعمة الستر:- أحد الصفات التي نصف بها إلهنا أنه الله الساتر، الذي يستر. وستر الله لا يوجد في مفردات اللغة، فلا توجد كلمات تقدر أن تصفه. يستر علينا كلنا، ولا يستطيع إنسان أن يقف أمام الله ويقول إنه لا يحتاج إلى الستر، حتى الذين يعيشون في الخطية والبعيدين، وحتى الذين ينكرون وجود الله؛ الله يستر عليهم. حتى الناس الذين فرغت قلوبهم من كل شيء، والذي يستخدم لسانه في استخدامات شريرة؛ الله يستر عليه... بل حتى اللص عندما يسرق يقول: ربنا يستر. وفي التقليد الشعبي نجد أن كل ما يريده الإنسان هو الستر والصحة. ولا يمكن أن نحصر كم مرة ستر الله علينا، لكن داود النبي يقول في مزمور ١٧ «احفظني مثل حدقة العين، بظلّ جناحيك استرني»، ويقول في مزمور ٦٤ "«استرني من الأشرار، من مؤامرت الإشرار، من جمهور فاعلي الإثم». أولًا: لماذا يستر الله علينا؟ الله الذي خلقنا وأعطانا نعمة الحياة يستر علينا لثلاث صفات فيه: ١- هو واهب الغفران. ٢- لأنه كلي المحبة. ٣- لأنه نبع الأبوة. 1) الله يستر علينا لأنه واهب الغفران: هو الذي غفر لنا، من يغفر خطية الإنسان إلا الله الذي خلق الإنسان، فجاء الله «الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا»، تجسد الله ثم صُلِب وخلصنا وفدانا من أجل غفران خطية الإنسان، ولا يوجد شيء آخر أو إنسان آخر يستطيع أن يغفر خطيئة الإنسان، لذلك ربنا يستر علينا. «تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص وكساني رداء البر»، وكساني تعني ستر الله عليّ. وستر الله للإنسان من أيام آدم. خطية آدم وحواء بدأت باللسان والشهوة، ودخلت الحيّة من هذا الباب، وانزلق الإنسان وكسر الوصية، وستر الله عليهما وألبسهما أقمصة من جلد. وفي سفر حزقيال يشبّه النفس البشرية بالإنسان المُلقى في الشارع ويريد من يأتي ويستر عليه «فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ، وَحَلَفْتُ لَكِ، وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي» (حز١٦: ٨)، وكأن النفس البشرية من أيام آدم صارت كالإنسان الملقى في الشارع وفقدت كل شيء وصار حالها صعب جدًا. في سفر القضاة عندما كانت تحدث مشكلة لبني إسرائيل، كانوا يختارون قاضيًا (مخلصًا)، فيحل المشكلة ثم يعودون للخطية مرة ثانية، وهكذا حياة الإنسان. وكذلك داود النبي وخطيته المشهورة مع امرأة أوريا الحثي، وتاب عنها فيقول «استر وجهك عن خطاياي، وامحُ كل آثامي»... هذا هو الله واهب الغفران للإنسان من الأمثلة المشهورة "المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي" (لوقا 7)، وكان سمعان مُعجَبًا بنفسه، ودخلت المرأة وانحنت وسكبت دموعها وقدمت توبة. سمعان قال: "لو كان هذا نبيًا لعرف أن هذه المرأة خاطئة "، والإنجيل يقول إن السيد المسيح غفر لها وستر عليها لأنها أحبت كثيرًا، وصارت مثالًا، ونصلي بهذه القطعة في نصف الليل. 2) يستر علينا لأنه كليّ المحبة: الله محبة إي أن تفصيل شرح الله أنه محبة دائمة وحركة دائمة، في محبته يستر، ويعلن هذه المحبة، وتجلّت مع يعقوب ومع إيليا، ومحبة الله فيّاضة ليس لها حدود. ٣) الله يستر علينا لأنه نبع الأبوة: نقف دائمًا ونقول: "يا أبانا الذي في السموات"، وعندما نرشم شماسًا ويصير كاهنًا يصبح "أبونا".. كلمة الأبوة مفتاح، والله هو نبع الأبوة، ونحن نستمد هذه الأبوة من الله. والأبوة في أصلها ومعناها هي الستر والحماية. أروع مثال في الكتاب يشرح لنا الأبوة مثل الابن الضال، وكيف أن هذا الابن الذي أخطأ كل هذه الخطايا، عندما عاد وجد أحضان أبيه مفتوحة «وإذا كان لم يزل بعيدًا، رآه أبوة، فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله»، الأب يستقبل الابن، ويقدم له الهدايا، ويذبح العجل المُسمّن، ولكن الأهم يقدم له الحضن ويقبله، ولا يتأفّف منه. ولكن نرى في نفس القصة موقف الأخ الكبير فاقد الأبوة، ويتكلم على أخيه بكلمات ردية «ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني»، وفضح أخاه، وكأنه يقول لأبيه: إنك لم تحسن تربيته. لكن الأب ستر وأرجع ابنه إلى رتبته الأولى. مثال آخر المرأة السامرية، هذه المرأة سُمِّيت باسم بلدها، لقد ستر الله عليها ولم يذكرها بالاسم حتي لا يفضحها، وكان الحوار معها كله مليء بالستر والحنان والعذوبة، وبدّل الله هذه الإنسانة التي كانت بعيدة جدًا وجعلها قديسة وكارزة ، ستر الرب عليها، وقادها إلى توبة، وصارت كارزة.. وهذا دور الله للإنسان، الله الذي يستر على الخليقة كلها صباحًا ومساءً ونأتي لدور الإنسان نحو أخيه الإنسان، يقول الرب يسوع: «لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟».. لا يمكن أن تستر على أخيك بينما أنت تدينه، ومجالات ستر الإنسان على الإنسان: أ- ستر خصوصيات الآخر: كل واحد فينا له عائلة وأصدقاء ومعارف، ليس لك الحق في نقل خصوصيات الآخر ونقل أخباره. ويجب على المتزوجين أن يحافظوا على خصوصياتهم لأنه «بكلامك تتبرّر وبكلامك تُدان». مثال لذلك المرأة التي أُمسِكت في ذات الفعل، وأراد الناس أن يرجموها ولا ينظروا لخطيتهم، أمّا السيد المسيح فعالج الأمر بمنتهي الستر إذ انحنى وكان يكتب على الأرض، وبعض الآباء يقولون إنه كتب خطيتهم، وعندما رأوا خطيتهم أنزلوا الحجارة ومضوا، «وقال: إما دانك أحد؟... اذهبي ولا تخطئي»، وانتهت القصة. ب- حفظ خصوصيات سر الاعتراف: سر الاعتراف أحد الأسرار الأساسية في حياة كنيستنا، وهو يضبط ميزان ومسار الحياة الروحية للإنسان، ويضبط الطريق الروحي. وأب الاعتراف هو الكاهن والمرشد، وكل ما يسمعه في سر الاعتراف يجب أن يُحفَظ تمامًا. والكاهن الذي يفشي أسرار الاعتراف يستوجب العقاب. ولكن بعض الناس يعتقدون أن الكاهن يفشي سر الاعتراف لأنه قال حكاية في عظة، وقالها بدون تفاصيل، ولكن الناس تكون حساسة. سرية سر الاعتراف هي أحد صور الستر، ولذلك ممارسة سر الاعتراف من أصعب الممارسات التي يمارسها الكاهن، لأنه تتجمع عنده أحوال وخصوصيات آخرين، ولا يستطيع أن ينطق بحرف. وأحيانًا يكون في مأزق خطير عندما يسأله أحد في موضوع الارتباط، فيكون هناك نزاع بداخله. وأنصح الكاهن أن يتحلّى بالحكمة دون أن يفشي أي سر. استر على غيرك ما دمت محتاجًا للستر. كيف نقتني فضيلة الستر؟ أ- تذكر ستر الله لك: الله يستر علينا جميعًا، ومن لا يشعر بستر الله ويشكره عليه كل يوم هو إنسان جاحد. ب- تعلم أن تحب الآخرين مهما كانوا: أحبب الجانب الحلو الذي في الإنسان، الله عندما تحدث مع زكا والسامرية واللص اليمين اهتم بالكلمة الحسنة التي قالوها اعتبرها توبة، وركز في هذه الكلام ولم يركز في باقي الأخطاء السابقة، «لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا»، و مار أفرام السرياني يقول: "التلذذ بعيوب الآخرين يدل أننا ممتلئين بغضة"، والقديس مكاريوس الكبير يقول: "يا أخي احكم على نفسك قبل أن يحكموا عليك"، والقديس موسي الأسود عندما سألوه ان يحضر محاكمة واحد من الرهبان، دخل معه جوال من الرمل وقال: "هذه خطاياي تجرى وارئي ولا أبصرها، وقد جئت اليوم لأحكم على غيرى". يجب أن نعيش بهذا الكلام، ونغيّر من سلوكنا، ونعرف أن الذي يسير في طريق السماء يتمتع بنعمة الستر من الله، وهو أيضا يستر على الآخرين. ج- تعلم أن لا تدين غيرك: وقد يتساءل البعض لماذا يوجد مجالس تأديب؟ ولكن هذا نظام في إدارة العمل. الأنبا أنطونيوس يقول: "لا تدن غيرك لئلا تقع في أيدي أعدائك". الذي يدين يقع في نفس الخطية التي أدان عليها، و"إذا أدنّا أنفسنا، لا يبقي لنا وقت لندين الآخرين"، "ليس أفضل أن يرجع الإنسان بالملامة على نفسه في كل شيء" العبارات كثيرة جدًا في موضوع الستر، لكن خلاصة الأمر أنك عندما تصلي صلاة الشكر وتقول "أشكرك يا رب لأنك سترتنا"، سترت حياتي في الماضي والحاضر، وسترت أسرتي الكبير والصغير فيها، وسترت على أصدقائي وعلى خدمتي وكنيستي ومجتمعي نعمة الستر نعمة غالية، حاول أن تشعر بها، واستر على كل من تعرفهم، وتعلم هذه الفضيلة. قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
07 نوفمبر 2019

التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سفر التكوين ج6

15- وبين اصحاح 6 : 13 " فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد اتت امامي لان الارض امتلات ظلما منهم فها انا مهلكهم مع الارض." وعدد 14 – 22 " اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر تجعل الفلك مساكن و تطليه من داخل و من خارج بالقارو هكذا تصنعه ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك و خمسين ذراعا عرضه و ثلاثين ذراعا ارتفاعه و تصنع كوا للفلك و تكمله الى حد ذراع من فوق و تضع باب الفلك في جانبه مساكن سفلية و متوسطة و علوية تجعله فها انا ات بطوفان الماء على الارض لاهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء كل ما في الارض يموت و لكن اقيم عهدي معك فتدخل الفلك انت و بنوك و امراتك و نساء بنيك معك و من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل الى الفلك لاستبقائها معك تكون ذكرا و انثى من الطيور كاجناسها و من البهائم كاجناسها و من كل دبابات الارض كاجناسها اثنين من كل تدخل اليك لاستبقائها و انت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل و اجمعه عندك فيكون لك و لها طعاما ففعل نوح حسب كل ما امره به الله هكذا فعل "ففى الاول قال الله (نهايه كل بشر قد اتت امامى) وفى الثانى انه استثنى نوحا واولاده. فنجيب ان الامر الاول مقدر فيه كل بشر شرير لا كل بشر على الاطلاق. 16- وبين تك 8 : 4 "و استقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال اراراط" .وعدد5"و كانت المياه تنقص نقصا متواليا الى الشهر العاشر و في العاشر في اول الشهر ظهرت رؤوس الجبال" .ففى الاول يقول (واستقر الفلك فى الشهر السابع فى اليوم السابع من الشهر على جبال اراراط) وفى الثانى يقول (فى اول الشهر العاشر ظهرت رؤوس الجبال) فكيف استقر الفلك على جبال اراراط فى الشهر السابع ولم تظهر رؤوس الجبال الا فى الشهر العاشر؟ فنجيب ان ارتفاع جبل اراراط 17750 قدما عن سطح الارض فهو اعلى جبال تلك الجهه، فاذا استقر الفلك على هذا الجبل لا تظهر رؤوس الجبال التى هى اقل ارتفاعا فى مده اقل من ثلاثه اشهر. 17- وبين اصحاح 9: 25 " فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لاخوته " .وحز 18: 2 – 4 " ما لكم انتم تضربون هذا المثل على ارض اسرائيل قائلين الاباء اكلوا الحصرم و اسنان الابناء ضرست حي انا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد ان تضربوا هذا المثل في اسرائيل ها كل النفوس هي لي نفس الاب كنفس الابن كلاهما لي النفس التي تخطئ هي تموت". حز19:18-20" و انتم تقولون لماذا لا يحمل الابن من اثم الاب اما الابن فقد فعل حقا و عدلا حفظ جميع فرائضي و عمل بها فحياة يحيا النفس التي تخطئ هي تموت الابن لا يحمل من اثم الاب و الاب لا يحمل من اثم الابن بر البار عليه يكون و شر الشرير عليه يكون" . ففى الاول ان نوحا لعن كنعان عوضا عن ابيه وفى الثانى يقال النفس التى تخطىء هى تموت. فنجيب لم يقل نوح ان كنعان يهلك بخطيئه حام الذى ينافى ما جاء فى الثانى، فقول نوح نبوءه عن بمصير الكنعانيين لا كنعان نفسه فاريد بكنعان الكنعانيون كما اريد بيعقوب واسرائيل الشعب كله. 18- وبين 14: 12 " و اخذوا لوطا ابن اخي ابرام و املاكه و مضوا اذ كان ساكنا في سدوم".وص 14: 14 "فلما سمع ابرام ان اخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاث مئة و ثمانية عشر و تبعهم الى دان".ففى الاول ان لوطا ابن اخى ابراهيم وفى الثانى انه اخوه. فنجيب ان كلمه اخ فى اللغه العبريه وفى كل لغه تحمل ان يراد بها كل قريب سواء كانت القرابه جسديه او روحيه (قابل ايضا بين 2 مل 24: 17 و2 اى 36: 10) ويعقوب دعى اخا الرب يسوع اى قريبه (غل 1: 19) وكذلك بوعز لابيمالك (را 4:13) المتنيح القس منسى يوحنا عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
06 نوفمبر 2019

مفهوم الخطية

كثيرون يقولون كلمة ( أخطأت ) بسهولة عجيبة !ّ دون أن يدركوا مفهومها ، ولا عمق معناها ونحن جميعا نكرر هذه العبارة فى الصلاة الربانية ( إغفر لنا خطايانا ) ونقولها أيضا فى المزمور الخمسين ( إليك وحدك أخطأت واشر قدامك صنعت ) ونفس العبارات نقولها فى صلاة الثلاثة تقديسات ( إغفر لنا خطايانا ، وآثامنا ، وزلاتنا ) نقول هذا كله فى هدوء ، دون أن ندرك خطورة مدلولاته ‍‍‍‍!! فما هى الخطية إذن ؟ الخطية ضد الله:- خطورة الخطية إنها أولا موجهة ضد الله لذلك فإن داود يقول للرب فى مزمور التوبة ( إليك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت ) ( مز 50 ) ويقول عن الخطاة ( لم يسبقوا أن يجعلوك أمامهم ) أى لم يفكروا أنك أمامهم ، تراهم وتسمعهم فالخاطئ كأنه فى غيبوبة لا يدرى ماذا يفعل يحتاج إلى من يوقظه ويجعله يفيق ، لكى يدرى ما يفعل تدل الخطية على أنك لا تشعر بوجود الله فلو كنت تشعر بوجود الله ، ما كنت ترتكبها قدامه ، بدون خجل ‍‍‍‍‍‍‍!! ولعل هذا ما كان يجول بذهن يوسف الصديق وهو يقول ( كيف أفعل هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ) ( تك 39 : 10 ) إذن أنت فى الخطية ، إنما تخطئ إلى الله قبل كل شئ : تقاومه وتعصاه وتتحداه ، تحزن روحه القدوس تدنس سكناه فى قلبك إلخ هل تشعر بكل هذا ، وأنت تخطئ ، أو وأنت تعترف بخطيتك ؟ أم أنت تذكر الخطية ببساطة ، دون أن تشعر بخطورتها وبشاعتها ! كإنسان مريض تسأله عن صحته ، فيقول لك ( شئ بسيط 0 مجرد سرطان مجرد إيدز ) !! وهو لا يدرى سرطان أو معنى إيدز !! أولا : الخطية هى التعدى ( 1يو 3 : 4 ) هى التعدى على وصايا الله ، كسر الوصايا ، عدم الإهتمام بها أو هى التعدى على حقوق الله ، وعلى كرامته وعلى أبوته معنى الخطية يؤخذ من ناحتين من جهة الله ، ومن جهة الناس الخطية من جهة الله ، هى تمرد عليه ثورة على الله ، وعصيان ، وتمرد تصوروا حينما يثور التراب والرماد ، ويتمرد على الله خالق السماء والأرض لاشك أنه لون من الكبرياء ، أن يتمرد التراب أمام الله إنه قبل أن يكسر الوصية ، تكون الكبرياء قد كسرت قلبه من الداخل 0 الخطية إذن هى كبرياء وتشامخ :- ولذلك حسنا قيل فى سفر الأمثال ( قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح )( أم 16 : 18 ) وبهذا الكبرياء يسقط الإنسان إن المتضع الذى لصقت بالتراب نفسه ، لا يسقط أما المتكبر ، فإنه يرتفع إلى فوق ثم يسقط 0 الخطية أيضا هى عدم محبة لله :- وفى هذا يقول القديس يوحنا الرسول ( إن أحب أحد العالم ، فليست فيه محبة الآب )( 1يو 3 : 15 ) إذن فالإنسان أمامه أحد طريقين إما محبة العالم ، أو محبة الله وواضح أن الخاطئ يفضل محبة العالم على محبة الله ، أو قل يحب ذاته أكثر من محبته لله ( وطبعا ذاته بطريقة تهلكها ) 0 وطبيعى أن الخطية عدم محبة لله ، لأن الخاطئ يعصى الله ويتمرد عليه 0 الخطية عداوة لله ، أو خصومة معه :- وواضح هذا من قول القديس يعقوب الرسول ( أما تعلمون أن محبة العلم عداوة لله ؟! )( يع 4 : 4 ) فإن كانت كلمة( عداوة ) صعبة فلنستخدم على الأقل كلمة خصومة ولهذا فإن حال الخطاة يحتاج إلى مصالحة وهكذا يقول القديس بولس الرسول إن الله ( أعطانا المصالحة ) لذلك ( نسعى كسفراء عن المسيح نطلب تصالحوا مع الله ) ( 2كو 5 : 18 ، 20 ) لذلك إن كنت إنسانا خاطئا ، فأنت محتاج أن تتصالح مع الله0 وكخصومة ، الخطية هى انفصال عن الله :- لأنه ( أية شركة للنور مع الظلمة ؟! ) ( 2كو 16 : 14 ) فالله نور ، والخطاة يعيشون فى الظلمة الخارجية ، إذا قد أحبوا الظلمة أكثر من النور ، لأن أعمالهم كانت شريرة )( لأن كل من يحب السيئات يبغض النور ، ولا يأتى إلى النور ، لئلا توبخ أعماله )( يو 3 : 19 ، 20 )الإبن الضال ، حينما أحب الخطية ، ترك بيت أبيه ، وانفصل عنه ، وذهب إلى كورة بعيدة( لو 15 : 13 ) هكذا ينفصل عن الله ، بقلبه وبفكره وبأعماله وعن هذا الإنفصال يقول الرب( أما قلبهم فمبتعد عنى بعيدا ) ( مر 7 : 6 ) وبقاء الخاطئ فى هذا الإنفصال ، وفى هذا البعد معناه أن عشرة الله لا تهمه ولا تروق له !! وهكذا فإنه يفض شركته مع الله ، وينهى علاقته به ، ولا تكون له بعد شركة مع الروح القدس ، طالما هو يحيا فى الخطية 0 وبالخطية نحزن روح الله القدوس ( أف 4 : 30 ):- وهكذا حال الخطية منذ البدء ففى قصة الطوفان يقول الكتاب( فحزن الله وتأسف فى قلبه ) ( تك 6 :6 ) إن الله يحزن إذ يجد خليقته التى صنعها على صورته ومثاله ، تتحطم أمامه ، وتتدنس أمامه وفى الخطية لا نحزن فقط روح الله ، إنما أيضا نقاومه ونعانده كما قال القديس اسطفانوس الشماس لليهود فى وقت استشهاده أنتم دائما تقاومون الروح القدس كما كان آباؤكم ( أع 7 : 51 ) بل قد يصل الخاطئ إلى حد يفارقه فيه روح الله كما قال الكتاب عن شاول الملك ( وفارق روح الرب شاول ، وبغته روح ردئ من قبل الله )( 1صم 16 : 14 ) ما أصعب هذا الأمر ، أن يفارق روح الرب إنسانا !!وإن كان هذا الكلام صعبا عليك ، وتقول فى احتجاج ( كيف هذا : إن روح الله يفارقنى ؟! ) سأورد لك الأمر بطريقة أسهل فبدلا من عبارة ( روح الله يفارقك ) نقول أنت الذى تفارق روح الله وفى كلا الحالتين حدثت مفارقة ، انفصال ، بعد بينك وبين روح الله إن القديس بولس الرسول يتكلم كلاما صعبا جدا ، وبخاصة من جهة خطية الزنا يقول ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح أفآخذ أعضاء المسيح ، وأجعلها زانية ؟! حاشا ) ( 1كو 6 : 15 ) إذن الإنسان فى هذه الخطية يدنس هيكل الله وهكذا يقول الرسول( أما تعلمون أنكم هيكل الله ، وروح الله يسكن فيكم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! إن كان أحد يفسد هيكل الله ، فسيفسده الله ، لأن هيكل الله مقدس ، الذى أنتم هو ) ( 1كو 3 : 16 ، 17 ) إذن حينما تقول ( أخطأت ) حلل هذه العبارة ، لتعرف ماذا تحوى داخلها أتراها تحمل كل ما ذكرناه من خطايا ، أم تراها تحمل أكثر وأكثر ، وبخاصة ما تحويه من تفاصيل بشعة 00 والإضافة إلى هذا ، فإن الخطية تدل على معنى آخر . الخطية هى استهانة بالبنوة لله :- فإن كنت حقا إبنا لله ، وعلى صورته ومثاله ، فإنك لا يمكن أن تخطئ كما يقول القديس يوحنا الرسول إن ( المولود من الله لا يخطئ ، بل لا يستطيع أن يخطئ والشرير لا يمسه )( 1يو 3 : 9 ) ( 1يو 5 : 18 ) ويقول عن الرب ( إن علمتم أنه بار هو ، فاعلموا أن كل من يفعل البر مولود منه ) ( 1يو 2 : 29 )هل الخاطئ – وهو يخطئ – يكون متذكرا أنه إبن الله وصورة الله ؟! أم يكون وقتذاك متنازلا عن هذه البنوة وصفاتها هذه التى يقول عنها الرسول ( بهذا أولا الله ظاهرون ، وأولاد ابليس ظاهرون ) ( 1يو 3 : 10 ) لهذا وبخ القديس بولس المخطئين ، بأنهم ( نغول لا بنون )( عب 12 : 8 ) 0 الخطية هى أيضا خيانة لله :- لأن الخاطئ أثناء خطيته يكون منضما لأعداء الله ضده ، أى لإبليس وجنوده بل للأسف يكون قد صار واحدا منهم 0 كما قال الرب موبخا اليهود ( لو كنتم أولاد إبراهيم ، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا )( يو 8 : 39 ، 44 ) ويوحنا المعمدان وبخهم قائلا ( يا أولاد الأفاعى ) ( مت 3 : 7 ) أى أولاد الشيطان 0 الخطية هى أيضا صلب للسيد المسيح :- وفى ذلك يقول القديس بولس الرسول ( لأن الذين استنيروا مرة ، وذاقوا الموهبة السمائية ، صاروا شركاء الروح القدس وسقطوا ، لا يمكن تجديدهم أيضا للتوبة ، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه ) ( عب 6 : 4 – 6 ) على الأقل ، فإن كل خطاياك لا تغفر إلا إذا حملها المسيح على صليبه 0 كأنك بخطاياك تضيف ثقلا عل صليب المسيح ، وتضيف قطرات مرة فى الكأس التى شربها وبخطاياك تضع رجاسات على المسيح فى صلبه ! فهو الذى حمل خطايا العالم كله ليمحوها بدمه ويكون كفارة عنها ( 1يو 2 : 2 ، 2 ) ومن ضمن هذه الخطايا ، ما ارتكبته وما ترتكبه من خطايا إستمع إذن فى خوف إلى القديس بولس الرسول ( من خالف ناموس موسى ، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة 0 فكم عقابا تظنون أنه يحسب مستحقا ، من داس ابن الله ، وحسب دم العهد الذى قدس به دنسا ، وازدرى بروح النعمة ) ؟! ( عب 10 : 28 ، 29 ) تأمل إذن هذه العبارات ، لتعرف مقدار بشاعة الخطية داس ابن الله حسب دم العهد الذى قدس به دنسا أزدرى بروح النعمة يصلبون ابن الله ثانية ويشهرونه حقا إنها خيانة لله ، وخيانة للنعمة التى نلناها فى المعمودية ، حيث يقول الرسول ( لأن جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح ، قد لبستم المسيح ) ( غل 3 : 27 ) هل تظنون أن يهوذا وحده هو الذى خان المسيح ؟‍! كلا ، بل أن كل من يخطئ ، يخون المسيح 0 يخون معموديته وميرونه ، ويخزن الدم الكريم الذى طهرنا من كل خطية ( 1يو 1 : 7 ) 0 الخطية من حهة الإنسان:- الخطية أيضا هى فقدان للصورة الإلهية خلقنا الله على صورته ومثاله وفقدنا هذه الصورة بسقوط أبوينا الأولين ثم اعيدت إلينا فى نعم العهد الجديدولكننا نعود فنفقدها كلما أخطأنا فالخاطئ لا يمكن أن يكون على صورة الله ، لأن الله قدوس 0 والخطية هى كذلك حرمان من الله :- أنت غصن فى الكرمة ، طالما أنت ثابت فيها ، تجرى فيك عصارة الكرمة ، فتحيا وتثمر والله ينقيك لتأتى بثمر أكثر أما الغصن الذى ينفصل عن الكرمة بحياته فى الخطية ، فإنه يقطع ويجف ويلقى فى النار ( يو 15 : 1 – 6 ) وفى حالة الخطية تتعرض لتلك العبارة المخيفة التى قالها السيد الرب لفاعلى الإثم ( إنى لا أعرفكم قط ، اذهبوا عنى ) ( مت 7 : 23 ) والعجيب أنه قال هذه العبارة لأشخاص قالوا ( يارب ، أليس تنبأنا ، وباسمك أخرجنا شياطين ، وباسم صنعنا قوات كثيرة )! أمر مؤلم ، أن يتبرأ الرب من معرفتنا !! نفس العبارة قالها للعذارى الجاهلات ( الحق أقول لكن إنى لا أعرفكن ) ( مت 25 : 12 ) وأغلق الباب ، وبقيت هؤلاء خارجا ، منفصلات عن القديسات اللائى حضرن العرس 0 الخطية فساد للطبيعة البشرية :- تصورا حالة آدم وحواء قبل السقوط ، البراءة العجيبة ، والبساطة والنقاوة 00ولكن الخطية غيرت القلب ، وغيرت النظرة ( رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل ، وأنها بهجة للعيون ، وأن الشجرة شهية للنظر ) ( تك 3 : 6 ) وكانت أمامها الشجرة من قبل ، ولكن لم تكن تنظر إليها هكذا الخطية غيرت النظرة ، وأوجدت الشهوة ففسدت الطبيعة دخل الإنسان فى ثنائية الخير والشر ، والحلال والحرام ، وفقد بساطته ، وعرف شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة ( 1يو 2 : 16 ) وأصبح الجسد يشتهى ضد الروح والروح تشتهى ضد الجسد ، ويقاوم أحدهما الآخر ) ( غل 5 : 7 ) صدقنى ، حتى ملامح الوجه تتغير بالخطية نوع النظرة ، والإبتسامة ، ولهجة الصوت ، وشكل الإنسان جملة يتغير حتى أن الرسول ينصحنا فيقول ( تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم ) ( رو 12 : 2 ) فإن عاش صديق لك فى الخطية ، ورأيته بعد مدة ، تكاد تقول ليس هذا هو الإنسان الذى كنت أعرفه من قبل الآن كل شئ فيه قد تغير حتى ملامحه ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! الخطية هى هزيمة وسقوط وضعف :- مهما ظن الخاطئ أنه نال من العالم شيئا إن شاول الملك لم يكن قويا وهو يطارد داود من برية إلى برية بل كان مهزوما من ذاته ومن غيرته 0 وأخيرا أحس بهزيمته ، فرفع صوته وبكى وقال لداود ( أنت أبر منى ، لأنك جازيتنى خيرا ، وأنا جازيتك شرا ) ( 1صم 24 : 16 ، 17 ) الإنسان الخاطئ إنسان ضعيف ، لم يستطع أن يقاوم الخطية فغلبه الشر ، وغلبته شهوته فسقط وانهزم أمامها وأصبح غير مستحق لوعود الله للغالبين ، كما ذكرها الرب فى رسالته للكنائس السبع ( رؤ 2 : 3 ) إنه إنسان مهزوم ، ليس فقط من الخطية التى تحاربه من الخارج ، بل بالأكثر من الخطية التى تسكن فى أعماقه 0 أخيرا ، الخطية هى موت :- لست أجد فى وصفها أروع من قول الرب لراعى كنيسة ساردس( إن لك إسما أنك حى ، وأنت ميت ) ( رؤ 3 : 1 ) وهكذا قال الآب عن توبة إبنه الضال ( إبنى هذا كان ميتا فعاش ، وكان ضالا فوجد ) ( لو 15 : 24 ) قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
05 نوفمبر 2019

المسيح في سفر التكوين - المسيح في حياة أبينا يعقوب

يُعتبر أبونا يعقوب رأس الكنيسة القديمة، إذ هو أبو الأسباط، وكذلك السيد المسيح هو رأس ورئيس الكنيسة الجديدة إذ هو أب الجميع وكما كان ليعقوب اثنا عشر ابنًا هم رؤوس الآباء الأولين وأساس كنيسة العهد القديم كذلك للمسيح أيضًا اثنا عشر تلميذًا ورسولاً أسسوا كنيسته المقدسة وهم أصل الإيمان وجذر الآباء "مَبنيينَ علَى أساسِ الرُّسُلِ والأنبياءِ، ويَسوعُ المَسيحُ نَفسُهُ حَجَرُ الزّاويَةِ" (أف2: 20)دعنا الآن نتتبع أوجه الرمزية في حياة أبينا يعقوب التي تشير بوضوح إلى سيدنا وإلهنا ربنا يسوع المسيح: (1) بكر بين أخوة كثيرين:- كان يعقوب توأمًا لأخ آخر هو عيسو، وكان عيسو الأخ الأكبر ومع ذلك صار يعقوب بكرًا بدلاً منه. عيسو هو رمز لآدم الذي نزل أولاً على الأرض "لذلكَ دُعيَ اسمُهُ أدومَ" (تك25: 30). ثم تعقبه في ملء الزمان مجيء المسيح على الأرض ومع ذلك صار المسيح "بكرًا بَينَ إخوَةٍ كثيرينَ" (رو8: 29) بدلاً من آدم لقد فقد آدم بكوريته بسبب أكلة واحدة "لئلا يكون أحذ زانيًا أو مستبيحًا كعيسو، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته" (عب12: 16)، وأيضًا فقد آدم بكوريته بسبب أكلة واحدة "فأخَذَتْ مِنْ ثَمَرِها وأكلَتْ، وأعطَتْ رَجُلها أيضًا معها فأكلَ" (تك3: 6) واكتسب يعقوب البكورية لأنه ضبط شهوة الأكل، وكان مترقبًا ومتلهفًا أن ينال هذه البكورية ليأخذ شرف أن يأتي المسيح من نسله وكذلك أخذ المسيح البكورية من آدم إذ بدأ خدمته بالصوم وضبط الجسد أما عيسو "فأكلَ وشَرِبَ وقامَ ومَضَى. فاحتَقَرَ عيسو البَكوريَّةَ" (تك25: 34) حقًا قيل في يعقوب وعيسو "شَعبٌ يَقوَى علَى شَعبٍ" (تك25: 23)، أي أن شعب المسيح يقوى على شعب العالم، "وكبيرٌ يُستَعبَدُ لصَغيرٍ" (تك25: 23) أي آدم (الكبير سنًا) يستعبد للمسيح (الذي جاء متأخرًا في ملء الزمان) وقد تعتبر أن عيسو يرمز للعهد القديم ويعقوب للعهد الجديد أو يرمزان للجسد والروح أو يرمزان للفضائل والرذائل التي توجد معًا في داخل القلب ويجب علينا أن نقوي الفضائل ونُميت الرذائل ونستعبد الجسد للروح "أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بَعدَ ما كرَزتُ للآخَرينَ لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفوضًا" (1كو9: 27) لقد قيل "كانَ عيسو إنسانًا يَعرِفُ الصَّيدَ، إنسانَ البَريَّةِ، ويعقوبُ إنسانًا كامِلاً يَسكُنُ الخيامَ" (تك25: 27)، الأول إنسان وحشي دموي صياد، والثاني رجل كامل (كمال ناسوت المسيح)، يسكن الخيام (التجسد حيث سكن المسيح في خيمة جسدنا البشري). (2) ابن الله وابن الإنسان:- مع أن يعقوب قد نال البركة من أبيه بخداع ومكر.. الأمر الذي عاقبه عليه الله فيما بعد.. ولكن الله وافق على هذه البركة بسبب أحقية يعقوب فيها إذ قد صار البكر.. وكذلك ليعطي لنا معنى وتفسيرًا يشير إلى السيد المسيح:- أ- عندما "فقالَ يعقوبُ لأبيهِ: أنا عيسو بكرُكَ" (تك27: 19).. يشير إلى السيد المسيح الذي أخذ مكان آدم أمام الآب السماوي ليحمل عنا عقاب خطايانا وليأخذ لنا فيه البركة. ب - عندما قال يعقوب لأبيه اسحق: "قد فعَلتُ كما كلَّمتَني" (تك27: 19).. وهذه ترمز إلى الطاعة التي أكملها الابن المسيح بدلاً عن آدم الذي تأخر في الطاعة بل قدّم العصيان. ج - عندما قال اسحق لابنه "الصَّوْتُ صوتُ يعقوبَ، ولكن اليَدَينِ يَدا عيسو" (تك27: 22)، كأن الآب السماوي يقول: "الصوت صوت ابني الحبيب الوحيد اللوغوس، والجسد جسد آدم". إنه هنا يتكلم عن اتحاد اللاهوت (الابن) بالناسوت (الطبيعة البشرية). (3) "نَعَمْ، ويكونُ مُبارَكًا" (تك27: 33):- كلمات البركة التي نطق بها أبونا اسحق فيها إشارات مبدعة إلى السيد المسيح:- أ- "رائحَةُ ابني كرائحَةِ حَقلٍ قد بارَكَهُ الرَّبُّ" (تك27: 27).. ما هذا الحقل إلا الكنيسة المقدسة التي فيها الكرمة الحقيقية: جذرها المسيح وأغصانها نحن، والآب السماوي هو الكرام.. "أن الكَرمَةُ الحَقيقيَّةُ وأبي الكَرّامُ" (يو15: 1)، "أنا الكَرمَةُ وأنتُمُ الأغصانُ" (يو15: 5) حقًا إن الكنيسة هي حقل قد باركه الرب، ورائحة البخور المتصاعدة منها هي رائحة الصلاة والطهارة، وكل فضيلة تدل وتكشف عن هذه الكنيسة الحقل المقدس المرعى الخصيب. ب- "فليُعطكَ الله من ندى السماء" (تك27: 28).. إن ندى السماء هو النعمة النازلة على الكنيسة بفعل الروح القدس من السماء. ت- "ومِنْ دَسَمِ الأرضِ. وكثرَةَ حِنطَةٍ وخمرٍ" (تك27: 28).. دسم الأرض هو الجسد الذي اتحد به الابن الوحيد.. لقد اتحد بطبيعتنا الترابية، فأعطى لنا كرامة وصار للأرض دسم وقيمة. أما الحنطة والخمر فهما سر الإفخارستيا المقدس.. الحنطة هي الجسد المقدس والخمر هو الدم الكريم لم تكن البركة – التي نطق بها الأب اسحق بالروح القدس – يُقصد بها القمح والعنب في حد ذاتهما – وإلاَّ لكان قد منحهما أبونا اسحق مرة أخرى لابنه عيسو عندما طلب البركة "أما أبقَيتَ لي بَرَكَةً؟. فأجابَ إسحاقُ وقالَ لعيسو: إني قد جَعَلتُهُ سيدًا لكَ، ودَفَعتُ إليهِ جميعَ إخوَتِهِ عَبيدًا، وعَضَدتُهُ بحِنطَةٍ وخمرٍ. فماذا أصنَعُ إلَيكَ يا ابني؟" (تك27: 36-37) قيل "عَضَدتُهُ بحِنطَةٍ وخمرٍ".. ماذا يمنع أن تعضدني أنا أيضًا بحنطة وخمر؟ إن الحنطة والخمر هنا هما جسد الرب ودمه، فإذا جاء المسيح من نسل يعقوب فكيف يأتي من نسل عيسو؟ وبالفعل لم تتحقق ليعقوب البركة بالمعنى المادي الحسي حيث أننا نعلم أنه نزل إلى مصر في شيخوخته ليشتري قمحًا ويقتات من خير مصر. فهذه البركة تحققت في ملء الزمان عندما جاء المسيح من نسله وأعطانا جسده ودمه المقدسين في صورة حنطة وخمر. ج- "ليُستَعبَدْ لكَ شُعوبٌ، وتسجُدْ لكَ قَبائلُ. كُنْ سيدًا لإخوَتِكَ، وليَسجُدْ لكَ بَنو أُمكَ. ليَكُنْ لاعِنوكَ مَلعونينَ، ومُبارِكوكَ مُبارَكينَ" (تك27: 29).. لقد اُستعبد يعقوب للابان خاله، ولم يتمتع بهذه السيادة طوال عمره، بل تحققت هذه النبوة بمجيء السيد المسيح من نسله، فصارت كل الشعوب وكل الأمم وكل القبائل وكل الألسن تتعبد لاسمه القدوس. (4) سلم يعقوب:- رأى يعقوب حلمًا "وإذا سُلَّمٌ مَنصوبَةٌ علَى الأرضِ ورأسُها يَمَسُّ السماءَ، وهوذا مَلائكَةُ اللهِ صاعِدَةٌ ونازِلَةٌ علَيها" (تك28: 12) إن هذا السلم يرمز إلى التجسد الإلهي حيث نزل إلينا الله، ويرمز أيضًا إلى الصليب المجيد إذ أنه منصوب على الأرض ورأسه يمس السماء، ويرمز ثالثة إلى العذراء مريم الوسيلة التي نزل عليها الله إلينا.. والتي صارت صلة تصل السماء بالأرض أما الملائكة الصاعدة والنازلة عليها فتشير إلى أن البعض سيصعد بالمسيح إلى السماء "ليس أحَدٌ يأتي إلَى الآبِ إلا بي" (يو14: 6)، والبعض الآخر سيُعثر فيه وينزل من مكانته السمائية "إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم" (لو2: 34). وهذا السلم أشار إليه السيد المسيح عندما قال لنثنائيل: "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: مِنَ الآنَ ترَوْنَ السماءَ مَفتوحَةً، ومَلائكَةَ اللهِ يَصعَدونَ ويَنزِلونَ علَى ابنِ الإنسانِ" (يو1: 51) إنه السلم النازل من السماء علامة اتضاع الله ونزوله إلينا ضد كبرياء بابل التي أرادت أن تبني برجًا من الأرض إلى السماء للارتفاع والتكبر على الله نفسه لقد أقام أبونا يعقوب في مكان هذه الرؤية أول كنيسة، ودشنها بالزيت، وأسماها بيت إيل (أي بيت الله) "وخافَ وقالَ: ما أرهَبَ هذا المَكانَ! ما هذا إلا بَيتُ اللهِ، وهذا بابُ السماءِ" (تك28: 17) وكان الحجر الذي نام عليه هو العمود التذكاري لهذه الكنيسة وهذا الحجر يرمز إلى جسد المسيح الذي صار رأس الزاوية وحجر عثرة وصخرة شك للذين لا يؤمنون.. "كما هو مَكتوبٌ: ها أنا أضَعُ في صِهيَوْنَ حَجَرَ صَدمَةٍ وصَخرَةَ عَثرَةٍ، وكُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ لا يُخزَى" (رو9: 33) بينما صار المسيح أصل البنيان للكنيسة "مَبنيينَ علَى أساسِ الرُّسُلِ والأنبياءِ، ويَسوعُ المَسيحُ نَفسُهُ حَجَرُ الزّاويَةِ" (أف2: 20)، أما الزيت المصبوب على رأس الحجر فيشير إلى انسكاب الروح القدس على الكنيسة وامتلاء جسد المسيح - الذي هو نحن - بالنعمة. (5) زواج يعقوب:- أ- لقد أرسل اسحق يعقوب ابنه ليأخذ لنفسه زوجة... وكأن الآب السماوي قد أرسل ابنه الوحيد ليأخذ لنفسه عروساً هى الكنيسة المقدسة.. "قم اذهب إلى فدان أرام، إلى بيت بتوئيل أبي أمك، وخذ لنفسك زوجة من هناك، من بنات لابان أخي أمك". (تك28: 2). ب- لقد حدّد اسحق العائلة التى يأخذ منها يعقوب زوجة، وكأن الآب السماوي قد اختار بيت آدم (أبى أمك)، بل ونسل إبراهيم بالذات، ومن بيت داود ليأخذ زوجة هي الكنيسة (البشرية)... فالعذراء مريم (أم الرب يسوع) هي ابنة آدم، وابنة إبراهيم وداود، وكأنك تقرأ الآية بالمعنى النبوي كالآتي: "قم اذهب إلى الأرض إلى بيت آدم أبي أمك (العذراء)، وخذ لنفسك زوجة (الكنيسة) من هناك من بنات لابان أخي أمك (أي من الأمة اليهودية)". فقد جاء المسيح إلى خاصته في البداية ليأخذ منهم لنفسه شعباً مستعداً مبرراً. ج - ثم كمّل اسحق بركته ليعقوب قائلاً: "والله القدير يُباركك، ويجعلك مُثمراً، ويُكثِّرك فتكون جمهوراً من الشعوب" (تك28: 3).. وكأن هذه البركة هي نبوءة عن المسيح الذي سيصير بالتجسد جمهوراً من الشعوب فبالرغم من أن السيد المسيح قد جاء إلى خاصته ولكن خاصته لم تقبله. وعدم القبول هذا فتح الباب على مصراعيه لباقي الأمم ليكون لهم نصيب في المسيح بالإيمان، ويصير المسيح أبًا لجمهور كثير، وليس لشعب واحدوقد تحقق هذا بالفعل عندما هتف المؤمنون بعد معمودية كرنيليوس: "إذاً أعطى الله الأمم أيضاً التوبة للحياة" (أع11: 18)، وما قاله معلمنا بولس وبرنابا: "كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم، وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع13: 46)، وأيضاً قيل عن اليهود الذين رفضوا المسيح: "وإذ كانوا يُقاومون ويُجدفون نفض ثيابه وقال لهم دمكم على رؤوسكم أنا بريء. من الآن أذهب إلى الأمم" (أع18: 6) هنا تحققت النبوءة التي قالها اسحق: "ويعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك معك" (تك28: 4)، وبركة إبراهيم هي "فأجعلك أمة عظيمة وأُباركك وأُعظم اسمك، وتكون بركة. وأُبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك12: 2-3) حقاً في المسيح قد تباركت كل جميع قبائل الأرض. وهنا أيضاً تحققت النبوءة "لترث أرض غربتك التي أعطاها الله لإبراهيم" (تك28: 4)إن الدارس سيجد أن يعقوب لم يرث أرض الموعد بل تغرب في أرض مصر إلى أن مات ولكن تحققت هذه البركة في نسله الذي هو المسيح حيث ورث الأرض كلها، وورّثنا السماء أيضاً بموته على الصليب، وعندما رد سبي بني آدم من سلطان الشيطان (رئيس هذا العالم)، وصار المسيح هو الملك الحقيقي للبشر المؤمنين به وصارت "للرب الأرض وملؤها" (مز24: 1)، "قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه" (رؤ11: 15) لقد تغرب الرب يسوع في أرضنا كغريب ولكنه مَلَك عليها وصارت له، ونحن أيضاً صرنا له بكل الحب. ح- تقابل يعقوب مع راحيل عروسه في الحقل عند البئر (تك29: 2) وتقابل الرب يسوع مع الكنيسة – عروسه - في حقل العالم عند بئر المعمودية. خ- وكان هناك عند البئر ينتظر مجيء راحيل ثلثة قطعان من الغنم وكأنها عصور الآباء ثم الناموس ثم الأنبياء ينتظرون مجيء كنيسة المسيح عروس العهد الجديد لقد جاءت هذه القطعان ولكن كان البئر مغلقاً بحجر كبير، إشارة إلى أن المعمودية كانت مغلقة في العهد القديم حتى يجيء المسيح ليدحرج الحجر، ويفتح لنا باب المعمودية، ليسقي ويروي خراف راحيل أي شعبه الجديد. د- وجاءت راحيل مع الغنم لترعاها وترويها.. وكذلك تعمل الكنيسة كراعية أغنام ترعى وتربي وتعول وتروي أغنامها الحية المقدسة وقبّل يعقوب راحيل عروسه.. كما قبّل المسيح الكنيسة عندما نفخ فيها نفخة الروح القدس تحقيقاً لنبوءة سفر النشيد"ليُقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر" (نش1: 2)، "نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت" (يو20: 22-23). ذ- "وأخبر يعقوب راحيل أنه أخو أبيها وأنه ابن رفقة" (تك29: 12) والمسيح هو أخو آدم (بالتجسد)، وابن امرأة (نسل المرأة). ر- "فقال له لابان: إنما أنتَ عظمي ولحمي" (تك29: 14)، وهي نفس الكلمة التي قالها آدم عن حواء: "هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك2: 23)، وأيضاً هي نفس الكلمة التي قالها معلمنا بولس عن الكنيسة والمسيح: "لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه" (أفس5: 30). ز- عند الزواج أُعطيت ليئة ليعقوب أولاً بدلاً من راحيل التي أُعطيت له فيما بعد.. إشارة إلى ارتباط الله بكنيسة العهد القديم أولاً ثم كنيسة العهد الجديد فيما بعد وليئة تشير إلى كنيسة العهد القديم، فقد كانت عيناها ضعيفتين إشارة إلى عدم وضوح الرؤية عند آباء وأنبياء العهد القديم.. بسبب عدم تمتعهم برؤية السيد المسيح بالجسد بعكس كنيسة العهد الجديد (راحيل) التي كانت قوية النظر وحسنة الصورة وحسنة المنظر إنها الكنيسة المحبوبة وكانت ليئة كثيرة الإنجاب كمثل كنيسة العهد القديم التي أنجبت لنا الآباء والأنبياء، وكان لديها العهود والاشتراع والذبائح والكهنوت بينما كانت راحيل عاقراً كمثل كنيسة الأمم التي ما كانت تنجب قديساً أو فضيلة بل كانت غارقة في عبادة الأوثان وعندما فُتح رحم راحيل أعطاها الله أعظم الأبناء يوسف ثم بنيامين، وكذلك عندما بدأت الأمم في الإيمان صار منها أعظم القديسين وأفضل الآباء. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
04 نوفمبر 2019

فلسَي الأرملة

إنها قصة عجيبة حدثت فى وجود الرب يسوع فى الهيكل: "جاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع. فدعا تلاميذه وقال لهم: الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12 42- 44) والأسئلة التى قد تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الواقعة المؤثرة هى كما يلى أولاً: كيف تتبرع أرملة فقيرة فى خزانة بيت الرب وهى تحتاج إلى مساعدة؟ ثانياً: كيف تتبرع بكل ما عندها، كل معيشتها. مع أن الناموس طالبها بالعشور فقط؟! ثالثاً: لماذا سمح السيد المسيح لهذه الأرملة أن تفعل ذلك، ثم تخرج وليس معها ما تقتات به وهى أرملة فقيرة؟! رابعاً: لماذا لم يأمر تلاميذه بمنحها مبلغاً من المال لمساعدتها بعد أن صارت لا تملك شيئاً بل "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)؟ إن القصة قد بدأت هكذا "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقى الجمع نحاساً فى الخزانة. وكان أغنياء كثيرون يلقون كثيراً فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع" (مر12: 41، 42)أراد السيد المسيح أن يلقن تلاميذه درساً فى العطاء، وأن يعطيهم فكرة عن مقاييسه التى تختلف عن مقاييس عامة البشرأراد أن يفهموا أن قيمة عمل الإنسان فى نظره لا تتوقف على حجم هذا العمل، ولكن على المشاعر والدوافع التى تقترن به، وأن كل فضيلة تخلو من الحب والاتضاع لا تحسب فضيلة عند الله لاشك أن هذه الأرملة قد امتلأ قلبها بمحبة الله ولهذا أعطت كل ما عندها، كل معيشتها. وبالفعل عاشت الوصية التى تقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" (مت22: 37)وفى تواضعها لم تخجل من أن تضع قدر ضئيل جداً من المال فى وسط الأغنياء الذين يملكون الكثير ووضعوا نقوداً كثيرة. لقد عرضت نفسها لسخرية واحتقار الآخرين، ولكن دافع الحب عندها جعلها تقدم أقصى ما عندها حتى ولو بدا ضئيلاً فى أعين الآخرين لقد عاشت هذه المرأة الوصية بغض النظر عن حالتها الشخصية فبالرغم من فقرها الشديد إلا أنها أرادت أن تنال بركة العطاء وتقديم العشور. ولكن ماذا تكون عشورها؟!.. ربما لا توجد عملة متاحة من النقود تساوى عشر الفلسين. وحتى لو وُجدت فإنها أرادت أن تقدم تكريماً لرب الجنود يتخطى الحد الأدنى للعطاء وهو العشور.. لذلك "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)، ولسان حالها يقول {اقبل يا رب تقدمتى المتواضعة التى لا تليق بجلالك.. ولكن هذا هو كل ما عندى}0 موقف السيد المسيح كان عطاء هذه المرأة عظيماً جداً فى عينى الرب لذلك لم يعترضها ولم يمنعها ولم يجرح مشاعرها بأن يمنحها صدقة فى ذلك التوقيت بالذات كانت الملائكة تسبح بتسابيح البركة وكان المشهد عظيماً إهتزت له أعتاب السماء على مثال سلم يعقوب حاضراً بملائكته الأطهار صاعدين ونازلين وسجّل الإنجيل المقدس هذا المشهد العجيب ليكون عبرة للكنيسة فى جميع الأجيال إنها أنشودة حب ابتهج لها قلب السيد المسيح وأراد أن يلفت أنظار تلاميذه ليقفوا مبهورين أمام هذا المشهد العظيم الذى كان حضوره فيه هو مصدر جلاله وعظمته وخرجت الأرملة الفقيرة بكل وقار القداسة، محاطة بجماهير الملائكة الذين اجتذبهم حب هذه المرأة وتواضعها إن هذه الأرملة الفقيرة التى كانت غنية بمحبتها وتواضعها هى رمز للكنيسة التى ترملت بعد خروجها من الفردوس وقال لها الرب بفم اشعياء النبى "لا تخافى لأنك لا تخزين. ولا تخجلى لأنك لا تستحين. فإنك تنسين خزى صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لأن بعلك هو صانعك رب الحنود اسمه ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى. لأنه كإمرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك لحظة، وبإحسان أبدى سأرحمك قال وليّك الرب.." (أش54: 4-8) لاشك أن الرب قد أحسن كثيراً إلى هذه المرأة الأرملة الفقيرة بعد خروجها من الهيكل وتولاها بعنايته بعد أن قدّمت له كل ما عندها.. كل معيشتها وهكذا أيضاً الكنيسة من خلال القديسة مريم العذراء قد قدّمت كل ما عندها بكل الحب والاتضاع جسداً وروحاً إنسانياً عاقلاً إتخذه الرب ناسوتاً كاملاً من العذراء مريم ليدخل به مع البشرية فى عهد جديد. وكان هذا الجسد والروح الإنسانى اللذين إتخذهما الرب هو ما يرمز إليه فلسَي الأرملة اللذان لهما أعظم قيمة فى عينى الرب "ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة" (مر12: 43) وهكذا نسمع الرب يقول هذه الأنشودة الشعرية بفم اشعياء النبى "أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية: هأنذا أبنى بالإثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك وأجعل شُرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيراً" (أش54: 11- 13) بعد ميلاد الرب البتولى من العذراء مريم بفعل الروح القدس، صار السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها. وليس للعذراء مريم فقط بل للكنيسة كلها كان السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها كما نقول فى أوشية الإنجيل {لأنك أنت هو حياتنا كلنا}وجاء يوم الفداء وقدّمت العذراء مريم راضية على الصليب ابنها الوحيد ناسوتياً، وقدّمت الكنيسة كل ما عندها، كل معيشتها فى خزانة الرب.. وقبل الآب تقدمة البشرية إليه، التى هى نفسها عطية الآب للبشرية.. وكانت أعظم تقدمة.. وكان سلم يعقوب.. وكان رضى الآب نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير السيدة العفيفة دميانة بلقاس
المزيد
03 نوفمبر 2019

ملابس رئيس الكهنة ج5

وَصْف الجُبَّة :- ﴿ وَتَصْنَعُ جُبَّةَ الرِّدَاءِ كُلَّهَا مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ . وَتَكُونُ فَتْحَةُ رَأْسِهَا فِي وَسَطِهَا . وَيَكُونُ لِفَتْحَتِهَا حَاشِيَةٌ حَوَالَيْهَا صَنْعَةَ الْحَائِكِ . كَفَتْحَةِ الدِّرْعِ يَكُونُ لَهَا . لاَ تُشَقُّ ﴾ ( خر 28 : 31 – 32 ) الجُبَّة ثَوْب وَاسِعْ طَوِيلٌ يَصِل إِلَى القَدَمَيْن بِدُون أكْمَام وَتَنْتَهِي أذْيَالُه بِرُّمَانَات مِنْ أسْمَانْجُونِي وَأُرْجُوَان وَقِرْمِز وَجَلاَجِل مِنْ الذَّهَبْ الخَالِص وَتُسَمَّى " جُبَّة الرِّدَاء "لأِنَّ الرِّدَاء يُلْبَس فَوْقَهَا وَكَانَتْ كُلَّهَا مِنْ أسْمَانْجُونِي " أزْرَق سَمَاوِي " إِشَارَة إِلَى الصِفَة السَّمَاوِيَّة لِرَئِيس الْكَهَنَة الَّتِي تَتَنَاسَبْ مَعَ رِسَالِة الكَهَنُوت إِذْ كَانَ لاَبُدْ أنْ يَتَحَلَّى بِالصِفَات السَّمَاوِيَّة لأِنَّهُ خَادِم الأُمور السَّمَاوِيَّة بَلْ قِيلَ عَنْ رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الأعْظَمْ أنَّهُ إِجْتَازَ السَّموَات وَصَارَ أعْلَى مِنَ السَّموَات ( عب 7 : 26 ) وَجُبَّة الرِّدَاء يَلْبِسْهَا رَئِيسُ الْكَهَنَة تَحْتَ الرِّدَاء مُبَاشَرَةً وَكَأنَّهَا تُشِير إِلَى طَبِيعِة الكَاهِن الدَّاخِلِيَّة حَيْثُ الفِكْر السَّمَاوِي الَّذِي يَتَأصَّل فِي الدَّاخِل فَنَجِدُه يُقَدِّم السَّمَاء المُعَاشَة دَاخِلِياً لَيْسَ مُجَرَّدٌ مَادَّة لِلوَعْظ وَلكِنَّهَا تَمْلأ قَلْبُه وَفِكْرُه وَكُلَّ أحْشَائُه وَكَانَتْ قِطْعَة وَاحِدَة مَنْسُوجَة كُلَّهَا مِنْ فَوْق لاَ تُشَقّ وَعَدَم شَقَّهَا إِشَارَة إِلَى أنَّ السَّمَاوِي فِي طَبِيعَتِهِ غِير مُنْقَسِمْ فِي كَمَالُه وَهذَا مَا يُرِيدْ أنْ يُعَلِّمْنَا إِيَّاه رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الأعْظَم أنْ تَكُون أفْكَارْنَا وَمَشَاعِرْنَا وَاتِجَاهَاتْنَا تُعَبِّر عَنْ أشْوَاق سَمَاوِيَّة غِير مُنْقَسِمَة فَنُقَدِّم كُلَّ القَلْب وَالقَلْب الوَاحِدٌ ( Single Heart ) فِي مَحَبِّتُه وَمَخَافَتُه . شَقّ الجُبَّة :- فَتْحَة وَحَاشِيَة :- وَكَانَ لِفَتْحَتِهَا حَاشِيَة حَوَالِيهَا صَنْعِة الحَائِك لِتَكُون قَوِيَّة حَتَّى أنَّهَا تُشَبَّه بِفَتْحِة الدِّرْع وَالدِّرْع مِنْ أدَوَات الحَرْب إِذْ تُوضَعْ بِهَا حَوَاشَي مَتِينَة لِتَقْوِيَتْهَا وَكَأنَّ مَلاَبِس رَئِيسُ الْكَهَنَة هِيَ كَالأسْلِحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُعَلِّمْنَا بُولِس الرَّسُول الدِّرْع ( الجُبَّة ) الخُوذَة ( الْعَمَامَة ) المَنْطِقَة إِنَّهَا تُعَبِّر عَنْ حَالِة الإِسْتِعْدَادٌ الكَامِل لِلدُخُول فِي الحَرْب مَعَ أجْنَادٌ الشَّر الرُّوحِيَّة وَهكَذَا لاَ تُوْجَدٌ أيَّة قُوَّة تَسْتَطِيعْ أنْ تُؤَثِّر عَلَى تِلْكَ الجُبَّة الكَهَنُوتِيَّة المَتِينَة فَلاَ تَتَمَزَق بِسَبَبْ لِبْس الجُبَّة وَخَلْعِهَا إِذْ كَانَ مَحْظُوراً تَمْزِيق هذِهِ الجُبَّة .. وَكَانَتْ عَاقِبَة هذَا الأمر المَوْت . لاَ تَشُّقُوا ثِيَابَكُمْ :- هكَذَا نَجِدٌ فِي سِفْر اللاَّوِيِّين ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِهَارُون وَأَلِعَازَارَ وَإِيثَامَارَ ابْنَيْهِ لاَ تَكْشِفُوا رُؤُوسَكُمْ وَلاَ تَشُقُّوا ثِيَابَكُمْ لِئَلاَّ تَمُوتُوا وَيُسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ ﴾ ( لا 10 : 6 ) وَهُنَا نَجِدٌ إِبْدَاع الوَحْي الإِلهِي فِي تَحْقِيقٌ قَصْدٌ الله مِنْ إِنْتِهَاء مُمَارَسَة كَهَنُوت العَهْد القَدِيم رَأيْنَا أنَّ قِيَافَا رَئِيسُ الْكَهَنَة رُبَّمَا دُونَ أنْ يَشْعُر أثْنَاء مُحَاكَمِة رَبَّنَا يَسُوع يَشُقٌ جُبَّتَهُ ( مر 14 : 63 ) .. فَكَانَ إِعْلاَناً عَلَى أنَّ قِيَافَا لَمْ يَعُدٌ رَئِيسُ الْكَهَنَة .. وَكَأنَّهُ يُشِير إِلَى قِيَام كَهَنُوت آخَر جَدِيد عِوَض هذَا المَحْكُوم عَلَيْهِ بِالمَوْت لأِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ المَكْتُوب ﴿ لاَ تَشُقُّوا ثِيَابَكُمْ لِئَلاَّ تَمُوتُوا ﴾ .. فَجَاءَ يَسُوع رَئِيسُ كَهَنَتْنَا الحَقِيقِي الَّذِي لَمْ تُشَقٌ ثِيَابُه .. إِذْ هُوَ حَي كُلَّ حِينٍ .. وَسُنُوهُ لاَ تَفْنَى وَكَهَنُوتُه لاَ يَنْتَهِي .. وَأتَى لَنَا بِكَنِيسَتَهُ المُقَدَّسَة الَّتِي هِيَ عَرُوسُه الحَقَّانِيَّة الَّتِي تَحْمِل صِفَاتُه فَنَجِدٌ أنَّ كَنِيسَتُه أهَمْ مَا يُمَيِزُهَا أنَّهَا وَاحِدَة وَحِيدَة .. إِنَّهَا تُمَثِّل ثَوْب يَسُوع الَّذِي قِيلَ عَنْهُ ﴿ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ ﴾ ( يو 19 : 23 ) . رُمَّانَات وَجَلاَجِل :- وَضْع الرُّمَانَات وَالجَلاَجِل :- ﴿ وَتَصْنَعُ عَلَى أَذْيَالِهَا رُمَّانَاتٍ مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ وَأَرْجَُوَانٍ وَقِرْمِزٍ . عَلَى أَذْيَالِهَا حَوَالَيْهَا وَجَلاَجِلَ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَهَا حَوَالَيْهَا . جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً عَلَى أَذْيَالِ الْجُبَّةِ حَوَالَيْهَا . فَتَكُونُ عَلَى هَارُون لِلْخِدْمَةِ لِيُسْمَعَ صَوْتُهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ أَمَامَ الرَّبِّ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ ﴾ ( خر 28 : 33 – 35 ) .. وَالجُبَّة تُوضَعْ عَلَى أذْيَالُهَا رُمَّانَات وَهيَ عِبَارَة عَنْ كُرَات صَغِيرَة مَصْنُوعَة مِنْ خُيُوط مَجْدُولَة مُلَوَنَة بِذَات الألْوَان البَدِيعَة الَّتِي لِلرِّدَاء .. وَجَلاَجِل أي أجْرَاس صَغِيرَة مِنْ الذَّهَبْ وَكَانَتْ الرُّمَانَات وَالجَلاَجِل تُوضَعْ بِالتَّوَالِي حَوَالَي ذَيْل الجُبَّة .. وَيُقَال أنَّ عَدَد كُلٍّ مِنْهَا كَانَ إِثْنَيْنِ وَسَبْعِين . رَمْز الرُّمَانَات :- وَهُنَا نَتَعَجَّبْ لِمَاذَا يَهْتَمْ الله بِهذِهِ التَّفَاصِيل الدَّقِيقَة وَالعَجِيبَة .. إِلَى أي شَيْءٍ تَرْمُز الرُّمَانَات وَجَلاَجِل الذَّهَب ؟ الرُّمَان مَذْكُور فِي الكِتَاب المُقَدَّس بِصِفَة خَاصَّة كَثَمَر لأِرْض المَوْعِد وَهذَا مَا يُدْرِكَهُ الشَّعْب جَيِّداً .. وَحِينَ أرْسَلَ مُوسَى النَّبِي جَوَاسِيس إِلَى أرْض المَوْعِد أحْضَرُوا مَعَهُمْ ثَمَر الرُّمَان .. ﴿ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَانِ وَالتِّينِ ﴾ ( عد 13 : 23 ) .. وَمِنْ المَعْرُوف أيْضاً عَنْ الأرْض الجَيِّدَة الَّتِي أدْخَلَهُمْ الرَّبَّ إِلَيْهَا أنَّهَا ﴿ أَرْضِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَكَرْمٍ وَتِينٍ وَرُمَّانٍ . أَرْضِ زَيْتُونِ زَيْتٍ وَعَسَلٍ ﴾ ( تث 8 : 8 ) .وَالمُلاَحَظْ أنَّ هذِهِ الثِّمَار لاَ تُذْكَر عَنْ أرْض مِصْر بَلْ يُذْكَر ﴿ الْقُِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ ﴾ ( عد 11 : 5 ) .. وَهيَ ثِمَار تَظْهَر عَلَى سَطْح الأرْض مُبَاشَرَةً أوْ فِي بَاطِنْهَا .. فَطَعَام مِصْر مِنْ مَصَادِر أرْضِيَّة مُنْخَفِضَة .. بَيْنَمَا ثَمَر الأرْض المُقَدَّسَة مُرْتَفِعْ فَوْقَ الأرْض .. يَنْضُج فِي الهَوَاء النَقِي وَالرُّمَان يُشِير إِلَى الحَيَاة المُثْمِرَة العَامِلَة يَحْتَوِي عَلَى حَبَّات صَغِيرَة يُحِيطُ بِهَا سَائِل أحْمَر حُلْو المَذَاق قَدْ تُشِير إِلَى مَفْعُول دَمٌ الذَّبَائِح فِي حَيَاة الخَاطِئ وَبِالتَّالِي تَرْمُز إِلَى دَمٌ الْمَسِيح الَّذِي أعْطَى حَيَاة لِكُلَّ العَالَمْ . رَمْز الجَلاَجِل الذَّهَبِيَّة : تُشِير لِلتَّسْبِيح وَالكِرَازَة الَّتِي يَسْمَعْهَا العَالَمْ .. وَرَئِيسُ الْكَهَنَة حِينَ يُصَلِّي وَيُسَبِّح يَسْمَعَهُ الشَّعْب وَيُصَلِّي وَرَاءَهُ فَلاَ يَمُوْت .. وَهكَذَا فَمَنْ يَحْيَا سَمَاوِيّاً يَكُون لَهُ ثَمَر يِفَرَّح الله ( رُمَّانَات ) وَتَسْبِيح وَكِرَازَة فَيُنْقِذ أُلُوف مِنْ مُوْت مُحَقَّقٌ . إِقْتِرَان الرُّمَانْ بِالجَلاَجِل : الرُّمَانَات مِنْ أسْمَانْجُونِي وَأُرْجُوَان وَقِرْمِز وَبُوصٌ مَبْرُومٌ .. إِنَّهَا تُعَبِّر عَنْ ثِمَار نَقِيَّة صَادِرَة مِنْ إِنْسَان سَمَاوِي .. وَبَيْنَ كُلُّ رُمَّانَتَيْن هُنَاكَ جِلْجِل ذَهَبْ فَكَانَ الصَوْت الذَّهَبِي يَقْتَرِنْ بِالثَمَر الشَهِي وَإِقْتِرَان الرُّمَان بِالأَجْرَاس إِشَارَة إِلَى إِقْتِرَان السُلُوك بِالشِّهَادَة .. وَالشَّهَادَة بِالحَيَاة فَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى خِدْمِة رَبَّ المَجْد يَسُوع نَجِدٌ أنَّ كُلَّ مَا عَلَّمَ بِهِ عَمَلَ بِهِ .. فِي الحُبْ .. وَالإِتِضَاع وَالبَذْل .. وَالصُّوم وَالصَّلاَة وَالسَّهَر هكَذَا وَجَدْنَا رُمَّان مُتَفِقٌ مَعَ جَلاَجِل .. وَهكَذَا يَجِبْ فِي أوْلاَدٌ الله أنْ يَقْتَرِن كَلاَمَهُمْ بِأفْعَالِهِمْ وَإِلاَّ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْل أبُونَا إِسْحَق لِيَعْقُوب ﴿ الصَّوْتُ صَوْتُ يَعْقُوبَ وَلكِنَّ الْيَدَيْنِ يَدَا عِيسُو ﴾ ( تك 27 : 22 ) .. وَ" اليَدَيْن " تُشِير إِلَى الأعْمَال .. فَلْنَحْرِص عَلَى ألاَّ نَحْيَا هذَا التَنَاقُض .. بَلْ لِيَكُنْ لَنَا صَوْت يَعْقُوب وَأيْضاً يَدَيّ يَعْقُوب ( رُمَّان وَجَلاَجِل ) . رَنِينْ القَدَاسَة وَالسَّلاَم : وَسَبَقٌ أنْ ذَكَرْنَا أنَّ رَئِيسُ الْكَهَنَة لاَ يَدْخُل بِهذِهِ المَلاَبِس إِلَى قُدْس الأقْدَاس بَلْ كَانَ يَدْخُل لِيَرُش الدَّمٌ يَوْم الكَّفَّارَة العَظِيمْ لاَبِساً ثِيَاب كِتَّان فَقَطْ وَلَيْسَ ثِيَاب المَجْد وَالبَهَاء وَبِذلِك لَمْ تَكُنْ هُنَاك جَلاَجِل دَاخِل قُدْس الأقْدَاس وَمِنْ هُنَا فَالإِعْتِقَادٌ السَائِدٌ بِأنَّ هذِهِ الجَلاَجِل لِيَطْمَئِنْ الشَّعْب أنَّ رَئِيسُ الْكَهَنَة لاَ يَزَال حَيّاً هُوَ إِعْتِقَادٌ خَاطِئ بَلْ بِحَسَبْ النَّص ﴿ لِيُسْمَعَ صَوْتُهَا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ أَمَامَ الرَّبِّ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ لِئَلاَّ يَمُوتَ ﴾ ( خر 28 : 35 ) .. أي أنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْت الجَلاَجِل أمَام الله فَإِنَّهُ يَمُوْت وَلَيْسَ لِكَيْ يَعْلَمْ الشَّعْب أنَّهُ لَمْ يَمُتْ .. وَهكَذَا كَانَ هَارُون يُزَوَدٌ بِتِلْكَ الجَلاَجِل الذَّهَبِيَّة الَّتِي تُعْطِي رَنِيناً إِلَهِيّاً عَذْباً عِنْدَمَا يَدْخُل إِلَى القُدْس .. فَلاَ يَكُون صَوْت خَطَوَاتُه كَصَوْت إِنْسَانٍ عَادٍ بَلْ يُعَبِّر عَنْ سُلُوك سَمَاوِي لِئَلاَّ يَمُوْت .. وَهكَذَا فِي خُرُوجِهِ إِلَى المَحَلَّة كَانَتْ خَطَوَاتُه تُعْلِنْ نَفْس الحَقّ فَيَكُون سُلُوكُه مُبَارَكاً فِيهِ رَنِينْ القَدَاسَة وَالسَّلاَم وَيُعَلِّقٌ العَلاَّمَة أُورِيچَانُوس عَلَى عَمَل هذِهِ الجَلاَجِل قَائِلاً .. ﴿ هذِهِ الجَلاَجِل الَّتِي يَنْبَغِي أنْ تُعْطِي صَوْتاً كُلَّ حِين كَانَتْ مُثَبَتَة حَوْل ذِيل جُبَّتِهِ وَالغَرْض مِنْ ذلِك كَمَا أظُنْ هُوَ أنَّهُ يَنْبَغِي ألاَّ تَصْمُتُوا قَطٌ عَنْ الكَلاَم عَنْ الأيَّام الأخِيرَة وَالدَّيْنُونَة .. بَلْ يَلْزَم أنْ تُذِيعُوا دَائِماً هذِهِ الأُمور .. وَبِهذَا يَصِير إِنْسَانَكُمْ الدَّاخِلَي مُزَيَناً مِثْلَ رَئِيسُ الْكَهَنَة الَّذِي يُمْكِنَهُ أنْ يَدْخُل لَيْسَ فَقَطْ إِلَى القُدْس بَلْ أيْضاً إِلَى قُدْس الأقْدَاس .. وَهكَذَا يَقْدِر أنْ يَقْتَرِبْ مِنْ كُرْسِي الرَّحْمَة حَيْثُ الشَّارُوبِيم وَحَيْثُ يَتَرَاءَى لَهُ الله وَيُكَلِّمَهُ .. وَقَدْ يَكُون القُدْس هُوَ تِلْكَ الأشْيَاء الَّتِي يُمْكِنْ الحُصُول عَلَيْهَا فِي الزَّمَنْ الحَاضِر بِالسُلُوك المُقَدَّس فِي العَالَمْ الحَاضِر .. أمَّا قُدْس الأقْدَاس الَّذِي يَدْخُلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَة مَرَّة وَاحِدَة فَقَطْ فَهُوَ الطَّرِيقٌ إِلَى السَّمَاء حَيْثُ كُرْسِي الرَّحْمَة وَالكَارُوبَيْنِ قَائِمَيْن .. حَيْثُ يُمْكِنْ أنْ يُسْتَعْلَنْ الله لأِنْقِيَاء القُلُوب ﴾ . ثَمَر الرُّوح : وَالْمَسِيح حِينَ دَخَلَ لِلسَّمَاء حَلَّ الرُّوح القُدُس فِي دَاخِلْنَا فَكَانَ صَوْت كِرَازِة الرُّسُلٌ الذَّهَبِي وَكَانَ حُلُول الرُّوح القُدُس فَكَانَتْ الحَيَاة لِلعَالَمْ وَثِمَار حُلُول الرُّوح القُدُس فِينَا .. وَلاَحِظْ أنَّ لُونْ عَصِير الرُّمَان الأحْمَر الَّذِي سَبَقٌ وَتَكَلَّمْنَا عَنْهُ إِشَارَة لِدَمٌ الْمَسِيح الَّذِي سُفِكَ مِنْ أجْل شَعْبِهِ .. فَأرَادَ شَعْبُ الْمَسِيح أنْ يَسْفِكُوا دِمَائِهِمْ حُبّاً لأِجْلِهِ .. فَهُوَ عَصِير الحُبْ .. وَكَثِيراً مَا نَجِدٌ الرُّمَان وَالكُرُوم فِي الكِتَاب المُقَدَّس يُخْبِرَان عَنْ ثِمَار مَحَبِّة الله .. فَنَجِدٌ مُنَاجَاة لِعَرُوس النَّشِيد ﴿ هَلْ أَقْعَلَ الْكرْمُ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَانُ ﴾( نش 6 : 11 ) .. وَأيْضاً يَقْتَرِن عَصِيرَهُمَا مَعاً .. ﴿ أَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي ﴾( نش 8 : 2 ) .. هذِهِ هِيَ الثِّمَار الَّتِي تُبْهِجُ قَلْبَ الحَبِيبْ .. وَهيَ تَرْمُز إِلَى ثَمَر الرُّوح الَّذِي هُوَ ﴿ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ ﴾ ( غل 5 : 22 – 23 ) .. وَكَأنَّ هذِهِ الثِّمَار مُجْتَمِعَة مُرْتَبِطَة مَعاً كَمَا فِي عَنْقُودٌ وَاحِدٌ وَلِذلِك تُسَمَّى ثَمَر الرُّوح وَلَيْسَ ثِمَار الرُّوح . صُوْت الكِرَازَة وَالثَّمَر : وَهكَذَا نَجِدٌ أنَّهُ فِي صَوْت الكِرَازَة نَجِدٌ رَنِينْ الفَرَحٌ الَّذِي لاَبُدْ أنْ يَقْتَرِن بِالثَّمَر المُفْرِح ( الرُّمَان ) أرَادَ الله أنْ يَذْكُر جِلْجِل ذَهَبْ وَرُمَّانَة بِهذَا التَّرْتِيبْ الإِلَهِي فَكَأنَّ الشِّهَادَة الصَّحِيحَة لِحَقَائِق الإِنْجِيل لاَبُدْ أنْ تُنْشِئ فِينَا أثْمَاراً صَالِحَة لِمَجْدِهِ وَخِدْمَتِهِ .. مِنْ هُنَا نَرَى أنَّ صَوْت الرُّوح القُدُس أوَّلاً وَنَتِيجِة الإِسْتِجَابَة ثِمَار مُفْرِحَة وَهذَا مَا رَأيْنَاهُ يَحْدُث مَعَ الأبَاء الرُّسُلٌ الأطْهَار حِينَ سُمِعَ صَوْت الجَلاَجِل فِي يَوْم الخَمْسِين فِي الشِّهَادَة الَّتِي أعْطَاهَا رُوح الله عَلَى أفْوَاه الرُّسُلٌ وَكَانَتْ تِلْكَ الشِّهَادَة مُقْتَرِنَة أيْضاً بِثَمَر الرُّوح فِي حَيَاة وَسُلُوك الَّذِينَ آمَنُوا بِوَاسِطَة تِلْكَ الشِّهَادَة .. فَنَجِدٌ أنَّ كِرَازِة الأبَاء الرُّسُلٌ أي صَوْت جَلاَجِلْهُمْ بَلَغَتْ إِلَى أقَاصِي الأرْض لِمَجْد الله وَنَشْر مَلَكُوتُه .. فَأتَتْ بِثِمَار كَثِيرَة وَلاَزَالَتْ الكَنِيسَة تَدُق أجْرَاسُهَا عَلَى الدَوَام رَمْزاً لِعَدَمٌ سُكُوت الْكَهَنَة عَنْ الكِرَازَة وَالتَّحَدُّث عَنْ التَوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الله . الجُبَّة رِدَاء المُلُوك :- وَنُلاَحِظْ أنَّ الجُبَّة كَانَتْ أيْضاً مِنْ مَلاَبِس المُلُوك ( 1أخ 15 : 27 ) وَهذَا يُؤَكِّدْ أنَّ الله أرَادَ أنْ يَجْعَل مَقَام رَئِيسُ الْكَهَنَة فِي مَقَام المُلُوك وَالرُّؤَسَاء .. وَهذَا الأمر لاَ يَتَحَقَّقٌ بِدَرَجَة مُطْلَقَة إِلاَّ فِي الْمَسِيح .. فَهُوَ فِي ذَاتُه المَلِك وَالكَاهِن فَهُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ سِبْط يَهُوذَا ( يَخُص المُلُوك ) وَأيْضاً عَلَى رُتْبِة مَلْكِي صَادِق ( الكَهَنُوت ) .. إِذْ لَهُ المَجْدٌ المُلُوكِي وَلَهُ أيْضاً القَلْب الكَهَنُوتِي . القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك الاسكندرية عن كتاب مَلاَبِس رَئِيس الكَهَنَة
المزيد
02 نوفمبر 2019

إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!! على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!.. إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.. إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،.. هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!.. فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً".. كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى.. لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!.. لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
01 نوفمبر 2019

مكانة الكتاب المقدس في التعليم الكنسي

في الآونة الأخيرة أُثيرت بعض الموضوعات الخاصة بالتعليم. ودائمًا نقول إن حياة الكنيسة القبطية تسير على قدمين، القدم الأول اسمه التعليم، والقدم الثاني اسمه التكريس. لذلك التعليم له المجال الأول، مثلما نطلق على السيد المسيح "المعلم الصالح" وأول شيء نتعلمه في الكنيسة هو مصادر التعليم في الكنيسة والمراجع الرئيسية والأساسية، وهي تشبة مثلثًا في قمته الكتاب المقدس، والنقطتان التاليتان هما: (1) الليتوجيات والأسرار التي حُفِظت فيها الصلوات ووُضِعت فيها الإيمانيات، (2) والنقطة الثانية أقوال وشروحات الآباء. أولاً: الكتاب المقدس «اليومَ، إنْ سمِعتُمْ صوتَهُ (في الإنجيل)، فلا تُقَسّوا قُلوبَكُمْ...» (العِبرانيّينَ 3: 15). هناك صيحات في العالم الآن تتكلم على الإنجيل وتقلّل من قدره، وتدّعي أن الإنجيل به حكايات غير حقيقية وخيالية، به عبارات غير مرغوبة، وهناك أسفار قديمة الفكر، وهناك من يشوه معاني بعض الآيات... الخ. سوف نتكلم عن مكانة الكتاب المقدس في التعليم، لنفهم وضعية الكتاب المقدس وعمله في حياتنا كلنا. هناك ثلاث عبارات هامة... العبارة الأولى للقديس جيروم: "إن جهلنا بالكتاب هو جهلنا بالمسيح"، أي أن الذي لا يعرف الكتاب المقدس لا يعرف المسيح، فالكتاب المقدس وثيقة تقدم لنا من هو شخص المخلّص، من هو المسيح. هناك من يجهل الإنجيل ولا يعيش في الإنجيل، يعيش في فكره الخاص، وكما قال بولس الرسول "سمو الحكمة البشرية"، وعلى قدر معرفتك بالإنجيل على قدر معرفتك بالسيد المسيح. العبارة الثانية للقديس أغسطينوس: "الكتاب المقدس هو فم المسيح"، ولا يستطيع أحد أن يقلّل من قدر سلطة الكتاب المقدس في التعليم. الكتاب المقدس كما هو من سفر التكوين لسفر الرؤيا، كل أسفاره قانونية، وكل كلمة في هي من فم المسيح. العبارة الثالثة القديس يوحنا ذهبي الفم: "عدم معرفة الكتب المقدسة هو علّة كل الخطايا". لماذا يعيش الناس في الخطية؟ لأن الإنجيل لا يعيش بداخلهم، «فلنَجتَهِدْ أنْ نَدخُلَ تِلكَ الرّاحَةَ(التي هي في لإنجيل)، لئَلّا يَسقُطَ أحَدٌ في عِبرَةِ العِصيانِ هذِهِ عَينِها» (العِبرانيّينَ 4: 11)، أي أن يعصى الإنسان كلمة الرب وينساها ولا يعطيها قدسيتها واحترامها.. وبعدها يقول الرسول: «لأنَّ كلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وفَعّالَةٌ وأمضَى مِنْ كُلِّ سيفٍ ذي حَدَّينِ، وخارِقَةٌ إلَى مَفرَقِ النَّفسِ والرّوحِ والمَفاصِلِ والمِخاخِ، ومُمَيِّزَةٌ أفكارَ القَلبِ ونيّاتِهِ» (العِبرانيّينَ 4: 12)... اعرف هذه الثلاث عبارات. لدينا جميعًا الإنجيل، ونحن في زمن يتوفر فيه الإنجيل بكل الأشكال والأحجام. فيما مضى كان الإنجيل غير متوفر في كل مكان، وقبل اختراع الطباعة كان الكتاب المقدس يُنسَخ في سنوات، أمّا الآن فهو متاح للجميع بكل الصور. المستويات الثلاثة للإنجيل في التعليم: ١- القراءة في الكتاب المقدس هي اكتشاف أن تكتشف المعنى والكلمة والعمق الذي يدخلك فيه الكتاب. أول مستوى أن تعيش في الكتاب، أنك تكتشف وتعرف، تكتشف النص والكلمة والمعنى وربط الآيات، وآخر آية في الكتاب المقدس هي «آمينَ. تعالَ أيُّها الرَّبُّ يَسوعُ» (رؤيا 22: 10).. مع كل كلمة تقرأها ليقل قلبك "آمينَ. تعالَ أيُّها الرَّبُّ يَسوعُ.. أريد أن أراك يا رب في نص الإنجيل". ويُقال أننا بينما نقرأ الإنجيل فنحن نبحث على الكلمة في وسط الكلمات، نبحث عن المسيح بين كلمات الإنجيل، تقرأ النص لأكثر من مرة لتكتشف أعماقه، وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "الكتاب المقدس منجم لآلئ". اقرأ الإنجيل وعلى قدر أمانتك يكشف لك الله لآلئ. عندما تقرأ الإنجيل أنت تتنفس أنفاس الله، لأن الكتاب المقدس مكتوب بالوحي الإلهي من خلال الرسل والأنبياء المسوقين بالروح القدس، وأنت تتنفس كاتبه. أنت تتقابل مع من وضع الكتاب المقدس مباشرةً، وهذا الاكتشاف يحتاج إلى دراسة لتفهم، وهناك الكثير من الكتب تساعدك على الفهم، وسوف يكون شيئًا مخجلًا أن تقف أمام السيد المسيح وأنت تجهل الكتاب. 2- القراءة صلاة يجب أن تصلّي قبل القراءة وبعدها، وما تقرأه حوِّله إلى مادة صلاة. القراءة صلاة... وما نقرأه يعطينا مادة صلاة. القداس والتسبحة والليتورجيات عبارة عن آيات من الإنجيل. إذا أردت أن تعيش الإنجيل وتُعلّم به يجب أن يكون بالنسبة لك صلاة، والصلاة هي التي سوف تجعلك تفهم. يقول المرنم عن الإنسان البار إنه «في ناموسِهِ يَلهَجُ نهارًا وليلًا» (مزمور 1: 2)، أي أن كلمة الله في حياته وفي قلبه. صلِّ لكي تفهم الكتاب أكثر. 3- القراءة حياة حياتك تكون بحسب الإنجيل.. الضلع الثالث هو أن تعيش الكتاب، فالكتاب المقدس ليس كتابًا نظريًا، بل يجب أن تعيشه. هناك من يربّي أولاده كما يسمع، وهناك من يربي أولاده بالإنجيل، وتُسمّى تربية النعمة «فقط عيشوا كما يَحِقُّ لإنجيلِ المَسيحِ» (فيلبي 1: 27). الكتاب المقدس متجدد في كل يوم، ويصلح لكل الأزمان، هو كتاب خلاص، ولذلك عندما نشرح العقيدة أو الإيمان أو الطقس أو المعرفة في الكنيسة، يجب أن تكون معتمده على الإنجيل أولاً، ثم يأتي بعده شروحات الآباء. وإذا شرحت العقيدة من خلال الكتاب المقدس هذا يكفي جدًا، لأن الكتاب وُجِّه لكل البشر. في سفر الرؤيا يقول: «طوبَى للّذي يَقرأُ ولِلّذينَ يَسمَعونَ أقوالَ النُّبوَّةِ، ويَحفَظونَ ما هو مَكتوبٌ فيها، لأنَّ الوقتَ قريبٌ» (رؤيا يوحَنا 1: 3). من ضعفات هذا الزمان أن الناس انشغلت بدراسات في مجالات كثيرة وليس في الإنجيل، لذلك ضعوا الكتاب المقدس أمامكم قبل كل شيء، اقرأ واسمع واحفظ الإنجيل، وحفظك للإنجيل ينقّي ويطهّر قلبك من أفكار وشرور كثيرة، وعندما تحفظ سوف تشبع من كلمة الله (اقرأ- اسمع – احفظ – اشبع – استعد ). الكتاب المقدس ينطبق عليه آيات كثيرة منهم «تكلَّمْ يا رَبُّ لأنَّ عَبدَكَ سامِعٌ» (1صموئيل 3: 9)، اجعلها أمامك عندما تقرأ الكتاب المقدس، فقد يكلمك الله وأنت مشغول ولا تسمعه. ومن العبارات الجميلة «لا أُطلِقُكَ إنْ لَمْ تُبارِكني» (تكوين 32: 26)، وبعد القرأة تشعر بالتعزية «نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا.وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ.خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا أَشْهي مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ» (مزمور 19). الكتاب المقدس له المكانه الأولى في التعليم، وهو المرجع الأول والأساسي. نحتاج باستمرار أن نقرأ الكتاب ونكتشف ونصلي ونفهم ونعيش لتصير حياتنا كلها بحسب الكتاب المقدس. ضع الكتاب المقدس دائمًا أمامك، علّم بيتك كيف يقرأ الإنجيل، ضع أمامك خطة بمشورة أب اعترافك لتعرف طريقك وتعيش فيه. يعطينا الله أن نكون في هذه الكلمة المقدسة ثابتين على الدوام، لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. قداسة البابا المعظم الانبا تواضروس الثانى
المزيد
31 أكتوبر 2019

التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سفر التكوين ج5

11- وبين اصحاح 5 : 32 " و كان نوح ابن خمس مئة سنة و ولد نوح ساما و حاما و يافث" و اصحاح11 : 10 "هذه مواليد سام لما كان سام ابن مئة سنة ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين".ففى الاول (وكان نوح ابن 500 سنه وولد نوح ساما وحاما ويافث) وفى الثانى (لما كان سام ابن مائه سنه ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين) مع ان الطوفان حصل اذ كان نوح ابن 600 سنه (تك 7 : 11) فنجيب لا يفهم من قوله (ولد نوح ساما وحاما ويافث) ان ساما كان الاكبر لانه لا عبره بتقديم الاسماء فذكر ساما الاول باعتباره سيكون ابا لابراهيم واسرائيل وداود والمسيح وفى اصحاح10 ذكرت المواليد الثلاثه فذكر اولا يافث عد 2 وثانيا حام عد 6 وثالثا عد 21 فاذا لا عبره من تقديم الاسماء وتاخيرها. ويفهم من (تك : 21) ان اكبر اولاد نوح يافث ومن (تك 9: 24) ان اصغر اولاد حام. فاذا يكون سام الابن الثانى. وقول الكتاب (وكان نوح ابن 500 سنه وولد نوح ساما ويافث) اى لم كان ابن 500 سنه ابتدا ان يلد اولاده فولد اولا يافث سنه 500 وسام سنه 501 ثم ولد سام ابنه ارفكشاد لما كان عمره 100 سنه اى فى منتصف السنه 101 فيكون انه ولده بعد الطوفان بسنتين، باعتبار ان السنه التى ولد فيها هو والسنه التى ولد فيها ابنه تتوسطهما 100 سنه التى جاء بعدها الطوفان لما كان نوح ابن 500 سنه. 12- وبين اصحاح 6: 3 "فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الى الابد لزيغانه هو بشر و تكون ايامه مئة و عشرين سنة".وص 11: 10 الخ ففى الاول قال الله عن الانسان : (وتكون ايامه مائه وعشرين سنه) وفى الثانى ان اناسا كثيرون عاشوا اكثرمن ذلك بعد هذا القول. فنجيب ان الله كان عازما على اهلاك الانسان بالطوفان بشره لم يشا ان يهلكه حالا بعد التانى عليه وحدد مده ذلك التانى 120 سنه فلم يقصد ان عمر الانسان سيكون 120 سنه بل ان الطوفان لا ياتى لهلاك البشر حينئذ الا بعد 120 سنه وبعد ذلك ينجو التائب من الهلاك وتهلك كل نفس عاصيه. واذا اعترض بانه ذكر فى تك 5 : 32 ان نوحا كان ابن 500 سنه ثم ان الطوفان جاء وعمره 600 سنه فيكون الفرق هو 100 لا 120 فنجيب. لا ريب ان قول الرب عن الانسان (وتكون ايامه 120 سنه) كان قبل ان يبلغ عمر نوح 500 سنه. وان كان قيل فى اصحاح5 : 32 (وكان نوح ابن 500 سنه) قبل ان يقول الرب عن الانسان (وتكون ايامه 120 سنه) الا اننا نجزم ان القول الثانى قيل قبل الاول لان اصحاح 5 خصص كله للمواليد، من عدد 1- 5 كان قبل ان يبلغ نوح السنهالـ500 من ميلاده لان الكلام من اصحاح 6 : 1الىص 7 : 9 تاريخ لمائه وعشرين سنه وكل ما قيل فى اصحاح 5 : 32 من ان عمر نوح كان 500 سنه حين ابتدا ان يلد بنيه من المحتمل جدا ان الانذار بالطوفان حصل قبله. 13- وبين اصحاح 6 : 9 " هذه مواليد نوح كان نوح رجلا بارا كاملا في اجياله و سار نوح مع الله".ورو 3 : 10 " كما هو مكتوب انه ليس بار و لا واحد". ففى الاول قيل (وكان نوح رجلا بارا) وفى الثانى (ليس بارا ولا واحد) فنجيب ان القولين صادقان لان الاول يقصد ان نوحا كان بارا بالنسبه لاهل جيله، بينما الثانى يقصد انه فى الحقيقه ليس بار ولا واحد، لاستيلاء النقص على الجميع بالنسبه لكمال الله غير المتناهى. 14- وبين اصحاح 6 : 19 و20 "و من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل الى الفلك لاستبقائها معك تكون ذكرا و انثى.من الطيور كاجناسها و من البهائم كاجناسها و من كل دبابات الارض كاجناسها اثنين من كل تدخل اليك لاستبقائها".وص 7 : 2 و3 "من جميع البهائم الطاهرة تاخذ معك سبعة سبعة ذكرا و انثى و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و انثى.و من طيور السماء ايضا سبعة سبعة ذكرا و انثى لاستبقاء نسل على وجه كل الارض".ففى الاول قيل ان الله امر نوحا ان ياخذ من كل ذى جسد اثنين ذكرا وانثى من الطيور كاجناسها ومن البهائم كاجناسها، وفى الثانى ان الله امره ان ياخذ من البهائم الطاهره سبعه ذكرا وانثى ومن البهائم التى ليست بطاهره اثنين ذكر وانثى. فنجيب ان الامر الاول اجمالى والثانى تفصيلى. ولا مجال للاعتراض لان الامر باخذ سبعه عقب الامر باخذ اثنين. المتنيح القس منسى يوحنا عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل