المقالات

22 أغسطس 2022

الحديث الروحي

تميزت العذراء مريم ضمن صفاتها الرائعة بالحديث الروحي مع الملاك الذي بشرها إذ قالت: «هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك» (لو1: 38)، وكذا في حديثها مع أليصابات حين زارتها، وقولها في التسبحة الجميلة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى أتضاع أمته...» (لو1: 46-56).ونود ونحن في صوم العذراء -الذي صامه التلاميذ الاثنا عشر لكي يروا صعود جسدها إلى السماء بعد نياحتها- أن نتعلم من العذراء كيف نتكلم مع الله والناس، ولا شك أن المصدر هو الروح القدس الذي يقودنا حين نتكلم كلامًا روحيًا لائقًا بالسيرة الروحية، وأما سمات هذا الحديث الروحي:1- الكلام الإيجابي: بمعنى أن يكون مُفْعَمًا بالفضيلة، مثل المحبة وطول الأناة والرحمة والرغبة في الاحتواء والتهدئة وامتصاص متاعب الآخرين وحل مشاكلهم، وروح المغفرة للإساءات من الآخرين، وكذلك اللطف مع الوداعة تقدم حديثًا هادئًا موضوعيًا خاليًا من الغضب والانفعال السلبي.2- التعلُّم من القدوة الصالحة: فالسيد المسيح هو المثل الأعلى لنا في أحاديثه وكلماته الرائعة جدًا، ففي حديثة عن التطوبيات وتركيزه على فضائل هامة مثل المسكنة بالروح (الاتضاع) والرحمة والوداعة وصنع السلام واحتمال الإساءات كالطرد والتعيير والاتهامات زورًا والفرح بالإهانات لأن الأجر عظيم في ملكوت السماوات، وتقديم الأنبياء كأمثلة في كل هذه الفضائل، دليل أنها عملية ويمكن تنفيذها في الحياة.3- المواقف العملية: حين أتوا إلى المسيح بالخاطئة التي أُمسِكت في ذات الفعل قال لهم: «مَنْ منكم بلا خطية فليرمها بأول حجر»، وجلس يكتب خطية كل مَنْ يتقدم بحجر ليرجمها حتى انصرف الجميع وألقوا بالحجارة بعيدًا، ولم يبقَ سوى المرأة في خجل شديد من الموقف، ولكن الرب قال لها في رفق وحنو «اذهبي ولا تخطئي..."، بعد أن قال لها: «ولا أنا أدينك»، وهنا الأمثولة الرائعة. وفي موقف آخر حين تقدمت له أم غريبة الجنس تطلب شفاء ابنتها بإيمان، قال لها: «ليكن لك ما تريدين»، فشُفِيت أبنتها في تلك اللحظة.. ما أروع هذه المواقف المملوءة محبة قوية علوية.4- روح الخدمة التلقائية: فكل محتاج ذهب للسيد المسيح قدم له احتياجه، سواء فرد أو مجموع. فحين تقابل مع الجموع: قبلهم وتكلم معهم بكلام الحياة الأبدية ساعات طويلة، ثم قدم لهم طعامًا بالبركة في خمس خبزات وسمكتين حتى شبع الجميع وفضل عنهم اثنتا عشرة قفة مملوءة. وحين ذهبت إليه مرثا ثم مريم أختا لعازر حين مرض ومات، أتى وأقامه بعد أن أنتن في القبر. وفي لقاء المرأة الخاطئة في المدينة أتت إليه من ورائه وأمسكت برجليه (مشطي القدم) وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها، فمدحها السيد المسيح ووصف محبتها الفائقة أنها رغبة في التوبة والمغفرة وقال عنها «هذه أحبت كثيرًا» لذلك غُفِر لها كثير، وحين أدانها الفريسي، بل أدان السيد المسيح لأنه سمح لها أن تلمسه، يقول لوقا البشير «فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا: لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ» (لو7: 39).حقًا كان الرب المتجسد مثالًا في الخدمة، مقدِّرًا النفس البشرية التي اعتبرها الهدف من كل ما فعله الله من إعطاء للوصية أو الفداء على الصليب بعد التجسد، وهذا يكشف عن كرامة الإنسان عند الله لأنه مخلوق على صورته ومثاله وموضوع اهتمامه دائمًا. يا ليتنا نتعلم من مخلصنا الصالح روح الخدمة بالحديث الروحي والمواقف العملية وروح الخدمة التلقائية، ووضع كل الإمكانيات لخدمة كل نفس سواء المال كوسيلة أو مباني الخدمة التي تقيمها الكنائس كمجمعات الخدمة ومرافق كثيرة للحضانات والخدمة الريفية وباقي الخدمات. نيافة الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
21 أغسطس 2022

أشياء تميزت بها العذراء مريم ( ٢ )

نستكمل باقي صفات السيدة العذراء مريم التي بها جذبت قلب الله ليأتي منها مولود من امرأة 4- فضيلة التسليم :- كانت السيدة العذراء تعيش حياة التسليم كاملة لإرادة الله منذ صغرها ووجودها في الهيكل ونجد ذلك واضحاً بشكل كبير أيضاً أثناء بشارة الملاك لها حيث أنها ردت قائلة ” لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ ” ( لو 1 : 38 ) ، دون أن تنظر إلى المتاعبِ والمشقات التي من الممكن أن تتعرض لها من شك يوسف أو نظرة الناس لها . ولكنها سلمت إلى مشيئة الله وخضعت لاختياره لها كان التسليم عجيباً إلى المنتهي حتى وقت الصلب واتمام قصة الخلاص “أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك ، الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا أبني وإلهي “.. إنه تسليم في كل مراحل الحياة.. لتكن مشيئتك يا رب.. 5- فضيلة إنكار الذات :- لم تعيش السيدة العذراء يوماً طالبه كرامة أو نعمة في عيون الأخرين ولكنها كانت ناكرة ذاتها منذ أن كانت طفلة وهي تخدم في الهيكل . وفي البشارة حين قالت : ” هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ ” ( لو 1 : 38 ) أي عبدة ( خادمة ) لم تعطي ذاتها كرامة بل قللت من شأنها وهكذا عاشت حياتها . فانكار الذات و الانكسار أمام الله هو طريق الانتصار ومن يتواضع يرفعه الله “أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِين ” ( لو 1 : 52 ) . 6- فضيلة الأحتمال :- وهنا أقصد الأحتمال من ناحيتين ( احتمال الآلام و احتمال الكرامة ) قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج إلى مجهود اكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين : “هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات ” ونجد أن السيدة العذراء منذ صغرها وهي كانت محتملة لكل الأمور حتي في حياتها داخل الهيكل ولم يكن من السهل أن تعيش طفلة عمرها 3 سنوات بداخله وأحتملت أيضاً البشارة وفرحتها بأن تكون أم المخلص وأحتملت الأهانات والمطاردة من هيردوس وأحتملت مشاق الولادة في مزود وأحتملت الآلام التي جازت في نفسها وقت الصلب وفراق وحيدها . 7- حياة الإيمان :- يقول القديس بولس الرسول ” جربوا أنفسكم ، هل أنتم في الإيمان . امتحنوا أنفسكم ” ( 2كو 13 : 5) أنه ليس مجرد الإيمان العقلي ، بل هو إيمان حقيقي ، هو حياة يحياها الانسان فالله يسلمه حياته تسليماً كاملا في يده ونجد أن السيدة العذراء مريم تعجبت أثناء بشارة الملاك لها قائلة : ” كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً ؟ ” ( لو 1 : 34 ) . ولكنها وثقت بالايمان من بشارة الملاك لها بالرغم من أنها عذراء ( ليكن لك حسب ايمانك ) ” عب 11 ” لايمكن ارضاء الرب بدون الايمان . هذا الايمان الذي عاشته السيدة العذراء مستلمه اياه من أبويها وإزداد نموًا بوجودها في الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الرب الذي كانت تخبئه في قلبها محتفظه به وقد شهدت لها أليصابات قائلة : ” فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ “( لو 1 : 45 ) . 8- حياة الخدمة :- عاشت السيدة العذراء مريم منذ طفولتها حياة الخدمة . عاشت تخدم الآخرين حياة مبنية على المحبة والتواضع . منذ أن كانت في الهيكل وعمرها 3 سنوات تخدم الجميع . وبعد أن تركت الهيكل عاشت تخدم يوسف النجار خطيبها والعجيب أن السيدة لعذراء مريم ذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح , إلا إنها لم تمنعها كرامتها من تذهب إليها في رحلة مضنية شاقة عبر الجبال وتمكث عندها 3 شهور تخدمها حتى ولدت يوحنا ( لو 1: 39-56 ) وقالت لها : ” فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ ؟ ” ( لو 1 : 43 ) فعلت ذلك وهي حبلى برب المجد لذلك تعجبت اليصابات من اين لي أن تأتي الي وتخدمني . وهكذا أستمرت طوال حياتها تخدم الجميع دون كلل أو تعب . بل كانت مثمرة وأمينة في وزنتها ومن هذه النقطة ننتقل الي الفضيلة التاسعة . 9- أمينة في وزنتها :- عاشت السيدة العذراء مريم طوال أيام حياتها وأثناء خدمتها بأمانة شديدة جداً في وزنتها عاملة بالوصايا العشر التي حفظتها منذ طفولتها ولم تكسرها أبداً ” وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا ” ( لو 2 : 19 ) كانت أمينة في كل شئ وتعطي بحب ، كانت تقدم كل ماتملك وليس العشر فقط . كل ماتملك تقدمه . وذلك لأنه كما سبق وذكرنا قلبها حنون أمها اسمها حَنَة و قلبها يقيم فيه الله لأن أبوها يواقيم . فعاشت في مخافة الرب أمينة في كل وزنتها ( كل ما تملك ) . 10- عاشت حياة التقوي حياة روحية كالقديسين :- عاشت السيدة العذراء مريم مزروعة علي مجاري المياه تشرب من ينبوع الله . حياة العذراء مريم عاشتها من الكتب المقدسة التي كان تقرأها من العهد القديم . ” فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ . وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ ” ( مز 1 : 3 ) اثناء خدمتها في الهيكل كانت تري بعض الأخطاء ولكنها لم تتحدث عنها مع أحد أو تنتقدها ولم تدين أحد . و الانسان الذي يسير مع الله لا يخشي وان صار في وسط ضلال الموت لان الله معه ” أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا ، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي . عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ” ( مز 23 : 4 ) و كانت لاتخشي أخطاء الأخرين ” لأَنِّي أَنَا مَعَكَ ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ ” ( أع 18 : 10 ) كانت توزع طعامها وتصوم هي كانت لا تغلق قلبها علي الأخرين امينة جدا جدا الي المنتهي كانت أناء مقدس جعلت نفسها مكان وهيكل لسكنى الروح القدس ” أمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ ؟ ” ( 1كو 3 : 16 ) إذن النعمة التي عاشت فيها السيدة العذراء مريم هي عمل الروح القدس . فهي منذ أن كانت طفلة كانت في الهيكل . فتحت قلبها لعمل الروح القدس ، لذا كان طبيعيًا أن يحل فيها الروح القدس .ويأتي ليتجسد منها أبن الله عاشت حياتها متبعة للبر والقداسة ” اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ ” ( عب 12 : 14 ) الانسان الروحي يحكم في كل شئ ” وَأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَيُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ” ( 1كو 2 : 15 ) عاشت تغذي الروح و تنميها ، تشم البخور تسمع العظة داخل الهيكل فتتقدس . عاشت تقوي يالحياة الروحية علي الحياة الجسدية وأخيراً يا أحبائي مهما أن تحدثنا وذكرنا من نقاط وفضائل عاشتها السيدة العذراء لم نوفيها حقها لأن حقاً كانت أنجيل معاش ، استطاعت أن يختارها الآب أماً له. تطلع الآب من السماء فلم يجد مَن يُشبهكِ أرسل وحيده أتى وتجسد منكِ أتمني يا أحبائي أن ننظر إلى سيرتها العطرة فنتمثل بإيمانها السيدة العذراء كانت ممتلئة نعمة . تحاور الله في دالة متواضعة ، تسلم حياتها لله كل الأيام . عاشت تعاليم الأنجيل ” فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ ” ( في 1 : 27 ) ولإلهنا كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد . آمـــــيــن . نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات الأنبا أثناسيوس أسقف بني مزار والبهنسا
المزيد
20 أغسطس 2022

الإيمان في حياة العذراء: «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38)

إن كلمة إيمان في اللغة العبرية nāma تعني "أن يكون أمينًا"، كما جاء في سفر التثنية: «فَاعْلمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ اللهُ الإِلهُ الأَمِينُ الحَافِظُ العَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلى أَلفِ جِيلٍ» (تث7: 9). وكذلك: يؤتمن على. واُختُصَّ بها الله الذي هو الأساس والمصدر الحقيقيّ للأمن.وفي اللغة اليونانيّة ίστιϛπ تعني الثقة التي لدى الشخص في الله، أو في آخرين. وكان الإيمان في العهد الجديد يتضمن إدماج الإيمان بابن الله، والتوبة عن الأعمال التي تؤدي للموت، والمعمودية: «لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ، غَيْرَ وَاضِعِينَ أَيْضًا أَسَاسَ التَّوْبَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ» (عب6: 1). هكذا كانت العذراء القديسة مريم تحيا حياة الإيمان، الذي ظهر جليًا، إذ كانت تحيا حياة التسليم الكامل. لمشيئة الله، في هدوء، بدون جدال.السيدة العذراء آمنت وصدقت لكنها كانت تستوضح: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (لو1: 34)، إنها طاعة واعية واثقة، في كل ما احتملته لم تتذمر اطلاقا. بالرغم من ذلك قالت للملاك: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38). يقول القديس أمبروسيوس: [لم ترفض مريم الإيمان بكلام الملاك، ولا اعتذرت عن قبوله، بل أبدت استعدادها له، أما عبارة: "كيف يكون هذا؟ فلا تنم عن الشك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر... إنها تحاول أن تجد حلًا للقضيّة... فمن حقِّها أن تعرف كيف تتم الولادة الإعجازيّة العجيبة]. أمام هذا الإعلان أعلنت العذراء خضوعها بالطاعة. إن طاعة العذراء مريم قد حلت محل عصيان حواء أمها. ونلاحظ أن العذراء كانت إجابتها كلها اتضاع، فهي قد علمت أن من في بطنها هو الله، لكنها ها هي تقول هوذا أنا أمة الرب. إنه في اللحظة التي قبلت فيها العذراء كلام الملاك وقدمت الطاعة لله، قبلت سرّ التجسد، فالله يقدس الحرية الإنسانيّة، وكان غير ممكنًا أن يتجسد المسيح منها وهي لا تقبل هذا.ففى قولها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ» (أى عبدة أو جارية)؛ يعنى استسلام والتزام تام لمشيئة الله وحضوره غير المفحوص. هو في نفس الوقت تجاوب مع النعمة، واستسلام لعطية الله. فهى لم تسعَ لفحص كلام الله، ولم تضعه تحت مجهر العقل، بل كان كلامها وتجاوبها إعلان للإيمان والتسليم الكامل. فلم تطلب أن ترى دليلًا ماديًّا، بل ولم تسعَ لحظة بالشك، كما فعل بعض الأنبياء من العهد القديم، مثل موسى النبي، وجدعون (قض6)، وأيضًا حزقيا الملك (2مل20: 9). وكذلك هنا ظَهر الفرق بينها وبين زكريا الكاهن، العالم بالشريعة، والذي من المفترض أن يكون على علاقة شخصية حياتية مع الله، ولكن نجده يضع كلام الله تحت المجهر العقلي، فأجاب الملاك: «كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟». (لو1: 18). ألم تعرف يا زكريا أنه «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ» (لو18: 27)، ألم تقرأ يا زكريا كيف أعطى الله إبراهيم نسل، وغيره مما كتب في التوراة، وأنت العالم بالناموس والأنبياء؟عاشت العذراء حياة الإيمان والتسليم، رغم رحلة الصليب التي عانتها في الألم والمتاعبِ المتنوعة: شك يوسف.. الولادة في مذود حيوانات .. الهروب من وجه هيرودس إلى أرض مصر.. كما احتملت أن ترى آلام السيد المسيح وصلبه. في كل هذا عاشت «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ». وبذلك استمرت القديسة مريم العذراء في كل حين، تعيش بالإيمان والطاعة والتسليم المطلق، من يوم البشارة ليوم انتقالها. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
19 أغسطس 2022

حول التجلي الإلهي

صعد ربنا يسوع المسيح إلى جبل ثابور برفقة ثلاثة من تلاميذه وإذا به يصير مشعاً بكليته أمامهم، ورأوا برفقته موسى وإيليا يتحدثان إليه. ثم سمعوا صوتاً من السحابة يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.لقد وقع البعض في فخ تفسير التجلي تفسيراً سطحياً، وقالوا إنه مجرد نور حسِّي، كما فعل بعض الهراطقة، ولكن القديس بالاماس دحض مزاعمهم واستفاض في الرد عليهم في ثلاثياته المشهورة. ومما كتب القديس“… أن هذا النور… يسمو على سائر الكائنات فكيف نقدر أن نحتسب حسياً ما يسمو على سائر الكائنالت؟ أي كائن حسي ليس مخلوقاً؟ فكيف يكون ضياء الله مخلوقاً؟ فهذا النور ليس بحصر المعنى حسياً”[1]. يقع جبل ثابور في منطقة الجليل السفلي وعلوه حوالي 600 م. إن قلنا “الرب تجلى” لا نقصد بهذا أنه قد حصل أي تغيير للمسيح يسوع، فهو منذ البدء يلبس الألوهة، وقد ظهر للتلاميذ وللجميع كإنسان لابساً جسداً، بحسب ما تؤمن به الكنيسة أنه إله وإنسان معاً. إذن بالتجلي لم يحصل للرب أي تغيير، بل أنه كشف النقاب عن ألوهته المستترة تحت غطاء الجسد.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “… اليوم تُرى أمور غير منظورة للعيون البشرية، جسد أرضي عاكساً تألقاً إلهياً، جسد مائت يدفق مجد الألوهة… تجلى أمامهم الذي هو على الدوام ممجد وساطع ببريق الألوهة، لأنه، إذ هو مولود من الآب من دون بداية، فهو يملك شعاع الألوهة الطبيعي الذي لا بدء له، وهو لم يكتسب في وقت لاحق الكيان ولا المجد…… إنه يتجلى إذن، فلا يأخذ ما لم يكن عليه، بل يظهر ما هو عليه لتلاميذه، فاتحاً أعينهم، وجاعلاً إياهم مبصرين بعد أن كانوا عمياناً…”[2] نلاحظ بدايةً في النص الإنجيلي أن الرب يسوع يطلق عبارة “ملكوت الله” على نور تجليه: “…إن بعضاً من الموجودين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن البشر آتياً في ملكوته” (متى 16: 28، ولوقا 9: 27) لهذا ربط الآباء التجلي بالحياة الأبدية.قبل السقوط، كان آدم، الإنسان الأول، يتأمل في المجد الإلهي، ولكنه تحوَّل عن الجمال الأول وصار اهتمامه منصباً على كل ما هو أرضي. أما بالتجلي فقد أعاد الله للإنسان هذه الخاصيّة، هذه الرفعة، وسمح لبشر مائتين بأن يعاينوا مجده وجماله. بالتجلي شعّ يسوع بمحبته للبشر، و”دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9)، هو الشمس التي لا تغيب. وقد قال الكتاب: “النور يظهر للصديقين والفرح لمستقيمي القلوب” (مز 66: 11) وأيضاً يترنم داود قائلاً للرب: “ثابور وحرمون باسمك يتهللان” (138: 13) متنبأً عن الفرح الذي يحل على الجبل بالتجلي. الله يحوّل الذين ينيرهم إلى شموس أخرى لأن متى يقول أيضاً “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى 13: 43). ما هذا النور الساطع؟ لمَ تشبهونه بالشمس وهو صانعها و”المتسربل بالنور كالثوب”، و”كوكب الصبح”، وهو “النور المولود من النور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الذي لا يُقارن؟ هل أراد أن يريهم “المجد الذي كان له “من قبل إنشاء العالم”؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أراهم مجده”. ولكن، لماذا كتم الإله الذي قبل كل الدهور، ملك الملوك ورب الأرباب، عظمتَه ومجده كل الفترة التي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلا بهذه الطريقة؟ هل وجد أنهم كانوا، حتى تلك الساعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟ يقول القديس افرام السرياني إنه بهذا “أراهم كيف ينبغي أن يأتي في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته، وكيف سيتمجدون هم أيضاً”[3]. لم يكن هذا التجلي من أجله، بل من أجل تلاميذه (من أجل الكنيسة كلها). بسبب تواضعه أظهر لهم ألوهته ليروا مجده حتى لا يقعوا في الشك حين يرونه متألماً بالجسد ومائتاً على الصليب، عارياً مرذولاً. “عرفوه ابناً لمريم وأظهر لهم على الجبل أنه ابن الله. شاهدوه يأكل ويشرب، يتعب ويستريح، ينعس وينام، يخاف ويعرق، الأمر الذي لا يتناسب مع ألوهيته”[4]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “صعد إلى الجبل وتجلّى أمامهم، ولمع وجهه كالنور وصارت ثيابه بيضاء كالثلج. لقد شقّ جزئياً باب الألوهة وأراهم الإله الذي يسكن فيه وتجلى أمامهم… لماذا قال الإنجيلي: “أكثر من الشمس” لأنه ليس من كوكب أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: “أكثر بياضاً من الثلج”، لأنه ليس من مادة أكثر بياضاً، ولكنه لم يشعّ هكذا، إذ “وقع التلاميذ أرضاً”. فلو كان يشع كالشمس لما وقع التلاميذ أرضاً، إذ كانوا يرون الشمس كل يوم ولا يقعون أرضاً، بل لأنه شعّ أكثر من الشمس وأكثر من الثلج، فلهذا، ولكونهم ما استطاعوا احتمال بهائه، وقعوا أرضاً…”والحقيقة أنه، إذ أشفق على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله، “بحسب ما استطاعوا”، تقول الكنيسة في قنداق العيد. فماذا كان حدث لو أنه أراهم مجده الحقيقي؟ أما كانت الدنيا فنيت، لأنه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنه أبدى جوهره، أما كانت الشمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلف نفسه بجسد وأتى بعذوبة ودون صخب.إلا أن بطرس، وقد استنار فكره بهذه الرؤيا المغبوطة جداً… لم يعد يريد أن ينفصل عن هذا النور، فقال للرب: “حسن أن نكون هنا….” (لو 9: 33). في الحقيقة لم تكن ساعة التجديد قد حلت بعد: ولكن حين تحلّ فإننا لن نعود بحاجة إلى مظال صنع أيدي الناس. وأكثر من ذلك فإنه ما كان يجب مساواة العبدَين بالسيد، بصنع ثلاث مظال متشابهة، فإن المسيح، كابن حقيقي، هو في حضن الآب (يو 1: 18)، بينما النبيّان، كخادمَين حقيقيَّين لإبراهيم، سوف يسكنان في أحضان إبراهيم. وإذ كان بطرس لا يفقه ما يقول، اقتربت غمامة مضيئة وظللتهم بظلها، قاطعةً حديث بطرس ومظهرةً أية مظلة هي التي تليق بالمسيح. (القديس غريغوريوس بالاماس). (الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[5] ولكن ما هي هذه الغمامة؟ وكيف تظللهم بظلها وهي مضيئة؟ يتساءل القديس غريغوريوس بالاماس: أليست هي النور الذي لا يدنى منه الذي يسكن فيه الله (1 تيم 6: 16) والذي “يلبسه كالثوب” (مز 53: 2-3) لأنه “جعل السماء مركبة له” (مز 53: 2-3) و”جعل الظلمة خباءً له” (مز 17: 12). غير أن الرسول بولس يقول إن الله هو “الوحيد الذي يملك الخلود… الساكن النور الذي لا يدنى منه” (1 تيم 6: 16)، أي إن النور والظلمات هي حقيقة واحدة، وإن كانت الغمامة تظللهم بظلها فبسبب سموّ شعاعها. إلا أن اللاهوتيين يؤكدون أيضاً أن هذا النور – الذي رآه الرسل فيما مضى – لا يدنى منه… كما يؤكد ديونيسيوس العظيم أن النور الذي لا يدنى منه الذي يقال إن فيه يسكن الله هو ظلمة ويضيف: “فيه يولد كل من هو أهل لأن يعرف ويتأمل الله”.(ديونيسيوس الأريوباغي، الرسالة الخامسة) (من الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[6] لقد برهن لنا الرسل أنه يتعذر على أي طبيعة مخلوقة حتى التحديق بالمجد الإلهي، لأنهم ما استطاعوا تحمّل هذه الرؤية الظاهرة لهم على الجبل، بل وقعوا أرضاً، وما كانوا قد رأوا سوى جزء بسيط من المجد الإلهي.يقول الدمشقي: “المجد لم يأتِ على الجسد من خارج بل من الداخل، من ألوهية كلمة الله الفائقة الألوهية والمتحدة بالجسد بحسب الأقنوم على نحو يتعذر وصفه”[7]. وقال فم الذهب إن النور كان على وجه موسى عابراً، مستشهداً بقول الرسول بولس في (2 كور 3: 7).الآب والكلمة والروح القدس يملكون هذا النور بالطبيعة أما الآخرون فيشتركون في النور بالنعمة. وهذا ما نراه في موسى وإيليا. ليست أول مرة يشترك موسى بالنور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضاً حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكنوا من التحديق فيه (خر 34: 29) هذا ما يبرهنه أحد الآباء الذي يقول: “موسى تلقى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت”.“هذا المجد وهذا البهاء سوف يراهما الجميع حين يظهر الرب مشعاً من الشرق إلى الغرب. اليوم رآه الذين صعدوا مع يسوع، إلا أن أحداً لم يرَ جوهر الله ولا طبيعته. وهذا النور الإلهي قد أُعطي بمقياس، ومقسَّماً بدون تجزئة بحسب استحقاق الذين يتلقونه. والبرهان هو أن وجه يسوع يشع أكثر من الشمس وأصبحت ثيابه بيضاء كالثلج. ثم ظهر موسى وإيليا في المجد نفسه إلا أن أحداً منهما لم يشعّ بالقوة نفسها، كالشمس. أما التلاميذ فقد رآوا هذا النور لكنهم لم يتمكنوا من التحديق فيه. بالنتيجة فإن هذا النور يُعطى بمقياس وتجزئة ولكن من دون تقسيم. إنه يجعل الآخرين يعرفونه جزئياً الآن وجزئياً فيما بعد. لهذا يقول الرسول بولس الإلهي: “الآن نعرف جزئياً ونتنبأ جزئياً” (1 كور 13: 9). طبيعة الله لا تتجزأ على الإطلاق ولا هي قابلة للفهم على الإطلاق. ونحن، إذ ندير ظهرنا لهراطقة الأمس واليوم، نؤمن بأن القديسين يرون ويتلقون بالمشاركة ملكوت الله ومجده وبهاءه ونوره الذي لا يدنى منه ونعمته، ولكن لا جوهره…” (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[8] كما ينقل القديس بالاماس، في ثلاثياته، عن القديس مكسيموس قوله إن “التلاميذ انتقلوا من الجسد إلى الروح القدس حتى قبل انتقالهم من هذه الحياة، وذلك من جراء تغيير قد طرأ على عمل حواسّهم أحدثه فيهم الروح القدس”[9]. لمَ سقط الرسل أرضاً؟ ولكن حين تلتمع السحابة المضيئة ويدوي صوت الآب من السحابة يختفي النبيّان ويسقط الرسل أرضاً ويبقى الرب يسوع وحده: حتى يعرف الرسل أن المقصود بابن الله هو وحده وعليهم أن يسمعوا له.“وقع التلاميذ أرضاً ووجوههم نحو الأرض” (متى 17: 6)، ولم يكن ذلك بسبب الصوت، فقد سمعوه مرات كثيرة في مناسبات أخرى: على الأردن، ولكن أيضاً في أورشليم عند اقتراب الآلام الخلاصية، فقد قال يسوع: “يا أبتِ مجِّد اسمك” فجاءه صوت من السماء يقول: “قد مجَّدتُ وسأمجِّد أيضاً” (يو 12: 28) وسمعه الجمع كله ولكن أحداً منهم لم يقع أرضاً. ولكن هنا لم يُسمع الصوت فقط، بل كان هناك أيضاً نور لا يُحتمل يلتمع في الوقت نفسه مع الصوت الذي يدوي. هكذا اعتبر الآباء الحاملو الإله بحصافة أن الرسل سقطوا على وجوههم ليس بسبب الصوت بل إشعاع النور الفائق الطبيعة “خوفاً” كما يقول مرقس (يو 9: 6) بسبب هذا الظهور الإلهي بالتأكيد. (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[10] ماذا يفعل هنا موسى وايليا؟ ظهر لهما موسى وإيليا لأنهما يعتبران قطبين مهمَّين في العهد القديم، ولكنهما وهما يقفان الآن كخادمَين أمام سيد الكل ورب الأرباب.لقد أُحضر موسى من الجحيم (كل القديسين من العهد القديم كانوا في الجحيم، بحسب القديس أبيفانيوس في عظته الشهيرة في نزول المسيح إلى الجحيم) للدلالة على أنه إله الأحياء والأموات.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “اليوم موسى يخدم كعبدٍ المسيح… وهذا ما يعنيه برأيي ظهرُ الله (خر 33: 23)، ويعاين بجلاء مجد الألوهة مخبوءاً في فجوة الصخرة كما يقول الكتاب. ولكن الصخرة إنما هي المسيح الإله المتجسد كما علّمنا بولس: “هذه الصخرة كانت المسيح” (1 كور 10: 4)”[11]. لقد كانا يتباحثان مع يسوع بخصوص آلامه وصلبه وقيامته، بخصوص “العمل الذي أعطاه إياه الآب” (يو 17: 4)، أي مجيئه إلى هذا العالم من أجل إتمام خلاص البشر. يسوع أتى وتجسد وليس في فكره غير الجلجلة، أي خلاصنا. يسوع ممتلئ بالمجد على ثابور وفكره في الجلجلة. وكذا كل من ودّ أن يتجلى فعليه أن يمر بالجلجلة. الذي به سررتُ يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: “الذي به سررت” تعني بحسب القديس بالاماس، حسب مشيئة الله السابقة في سر تدبير ابنه بالجسد”[12]. لماذا غلب عليهم النوم؟ أليس هذا مفاجئاً؟ أن يناموا فجأة هكذا، على الجبل فيما هم يشهدون أموراً فائقة الوصف؟ يقول القديس اندراوس الكريتي: “… فهم، إذ عجزوا عن احتمال شعاع هذه البشرة التي لا عيب فيها، الذي انبجس كما من نبع، من ألوهة الكلمة، بطريقة فائقة الطبيعة من خلال البشرة التي اتحد بها بحسب الأقنوم، سقطوا على وجوههم، يا للمعجزة! في خروج كامل جداً خارج من الطبيعة، مأخوذين بنوم ثقيل وفزع، مغلقين حواسهم، موقفين تماماً كل حركة فكرية وكل فهم، هكذا كانوا سوية مع الله، في عمق هذه الظلمات الإلهية الفائقة النور وغير المنظورة…”[13] صوت الآب رفعهم يقول القديس افرام السرياني إن “صوت الآب أسقطهم وأما صوت الابن فقد رفعهم بالقدرة الإلهية لأجل تلك الألوهة الحالّة في جسده والمتحدة به بلا تغيّر”[14]. ماذا يعلّمنا التجلي؟ يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “… أنا أشعر بأنه سوف يأتي بالجسد كما ظهر للتلاميذ على الجبل حيث استعلن، والألوهة تنتصر على الجسد الشقي[15].. ويوافقه ذيونيسيوس الأريوباغي الذي يؤكد: “سوف يظهر الرب لخدامه الكاملين (في ذلك اليوم) كما رآه الرسل تماماً على جبل ثابور”. لنتأمل بعيوننا الداخلية هذا المشهد العظيم: طبيعتنا تستقر أبدياً مع نار الألوهة اللاهيولية، ولنترك هنا أقمصتنا الجلدية التي نلبسها منذ معصية آدم وسقوطه، ولنقف في أرض مقدسة مظهرين كل واحد منا بأن أرضه مقدسة بفضيلته وشوقه إلى الله، وبثقة من يقف في نور الله لنهرع كي نستنير من بهائه ونعيش إلى الأبد مستضيئين في مجد البهاء المثلث الشموس والواحد في آن، الآن وإلى دهر الدهور، آمين.
المزيد
18 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس ملاخى

ملاخى " ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها "" ملا 4: 2 " مقدمة لعل من أطرف ما يقال أن بقالا أخذ يكيل المدح لأحد الرعاة، وكان هذا الراعى قد نصب حديثاً على كنيسة فى المدينة التى يعيش فيها البقال، وإذ سئل البقال عما إذا كان قد سمع الراعى وهو يعظ!!؟ فأجاب، كلا.. ولكنه منذ أن وفد على المدينة وجميع الزبائن الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة يدفعون فواتيرهم … أو فى لغة أخرى أن البقال رأى حياة الأعضاء فى تصرفاتهم وأسلوبهم الجديد فى الحياة!!.. وقد لخص احدهم خدمة ملاخى كتب نبوته فى عام 432 ق. م. فى ذلك الوقت الذى عاد فيه نحميا حين استدعاه الملك أرتحشستا حيث يقول فى سفره: « وفى كل هذا لم أكن فى أورشليم لأنى فى السنة الاثنتين والثلاثين لأرتحشستا ملك بابل دخلت إلى الملك وبعد أيام استأذنت من الملك وأتيت إلى أورشليم وفهمت الشر الذى عمله ألياشيب لأجل طوبيا بعمله له مخدعاً فى ديار بيت الرب » " نح 13: 6 و7 " وكان الارتداد رهيباً فى فترة غياب نحميا، وظهر ملاخى لالينادى بعودة نحميا فجأة ليواجه الفساد والشر الذى عاد إليه الشعب بصورة رهيبة، بل من هو أعظم من نحميا، شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته، … إن آخر كلمة فى العهد القديم كانت كلمة « بلعنٍ » … وأول كلمة فى العهد الجديد تواجه هذه اللعنة: « كتاب ميلاد يسوع المسيح » … والمسيح وحده وفيه تتحول اللعنة إلى بركة ويدخل الأمل الضائع فى العهد القديم، فى الرجاء الأبدى فى العهد الجديد، … ولهذا يحسن أن نرى ملاخى من النواحى التالية: ملاخى ومن هو!!؟ يعد ملاخى النبى الثانى عشر من الأنبياء الصغار، وآخر أنبياء العهد القديم - والكلمة - « ملاخى » تعنى « ملاكى » أو « رسولى ». ونحن لانكاد نعرف عن هذا النبى شيئاً خلا اسمه وسفره، وقد ظن البعض أن اسمه لا يشير إلى شخص بقدر ما يشير إلى رسالة، ومن قالوا إن الكلمة « ملاخى » ليست اسم علم بل هى صفة لنبى أو رسول، ولذا قالوا إن عزرا الكاتب هو صاحب سفر ملاخى، غير أن هذا الرأى مردود لاختلاف أسلوب السفر عن سفر عزرا، ومن العجيب أن أوريجانوس كان يعتقد أن كاتب السفر ملاك من السماء!!... غير أن معظم الشراح ودارسى الكتاب يعتقدون أن ملاخى اسم علم لشخص حقيقى، عاش معاصراً لنحميا وتنبأ فى الشطر الأخير من حياة هذا الحاكم العظيم، ووهناك تقليد يقول إنه كان عضواً هو وزكريا فى مجمع اليهود العظيم، وأنه ولد فى بلدة صوفا من سبط زبولون، وأنه مات ولما يزل فى عنفوان شبابه. وقد تنبأ هذا النبى بعد الرجوع من السبى وبناء الهيكل، ومع أن أسلوبه ربما لا يرقى إلى أسلوب أنبياء ما قبل السبى، لكنه قد يتفوق فى الصراحة والقوة وجمال التشبيه وبراعة الحوار، ومن الغريب أنه كان معاصراً سقراط، ودعاه بعضهم «سقراط العبرانى »، إذ كان كالفيلسوف اليونانى العظيم فى طريق العرض والاعتراض والنقاش واستخلاص النتيجة.وفى الواقع إن ملاخى تأثر فى أسلوبه وتفكيره بالأحداث العظيمة التى كانت تجرى فى العالم فى أيامه، الأحداث التى كان لها ولا شك أكبر الأثر فى أمته وشعبه رسالته... ففى النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية تجتاز مرحلة حاسمة فى تاريخها، فلقد بسط داريوس سلطانه على مصر، وإن كان قد انهزم أمام اليونان فى موقعة الماراثون. وفى عام 485 اعتلى ابنه زركسيس « أحشويرش » حفيد كورش، وأراد أن يثأر لمعركة الماراثون، وجهز أكبر جيش عرف فى التاريخ القديم، ولكنه خسر معركة سلاميس عام 480 ق... كما أن معركة بلاتيه أجهزت على سلطان الفرس الأخير فى أوربا، وفتحت الباب أمام ظهور اليونان كالدولة التى تحل محلها. وفى غمرة هذا الصراع بين الشرق والغرب، سرت فى العالم كله موجة من القلق والفوضى والمادية التى استولت على الشعوب، بما فيها الشعب الإسرائيلى الراجع من السبى، وفى الواقع أن الشعب قد عاد من السبى، وهو يظن أن كل شئ سيتغير إلى الأفضل، ولما لم يحدث هذا التغير سريعاً، انقلب الشعب إلى النقيض وارتد، وفقد كل حماس وغيرة وروحانية، فقل عنده الاعتبار الدينى، وضعفت روح العبادة، وانطوت نفوس الكهنة على إهمال واحتقار خدمة الهيكل، وانحطت حياة الشعب إلى الدرك الأسفل، ووقف ملاخى أمام أمة كانت فى طريقها إلى النقاهة، ولكن مضاعفات المرض ونكسته قاداها إلى ما هو أسوأ وأقسى وأشر!!.. ملاخى والحوار بين اللّه وشعبه قامت نبوة ملاخى على الحوار بين اللّه وشعبه، فإذا كان سقراط فى أثينا يجمع الناس حوله ويناقشهم فى فلسفة الحياة، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان فى عالم ضرب فيه الفساد فى أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود، حتى أنهم حكموا على سقوط أن يشرب كأساً من السم، ولفظوا الرجل الذى كان أحكم إنسان فى وسطهم،... لكن أورشليم كانت تواجه حواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان، بل بين اللّه والإنسان، ولم يكن وحى ملاخى إلا تسجيلا لهذا الحوار، والكلمة « وحى » فيها معنى الحمل أو العبء أو الثقل أو المسئولية، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين، بل هو فى الحقيقة الحديث الجدى العميق الباهظ الثقل لما فيه من أهمية ومسئولية، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكب الطريق عنه،... وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع، فأما طرفاه فهما: اللّه، والإنسان، أو بتعبير أدق هما: « اللّه » فى وضعه « كأب » و« كسيد »، والإنسان فى وضعه كإبن وعبد،... أما من حيث الموضوع فهو اسمى موضوع فى الوجود: « الحب »، واللّه من جانبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحوار، إذ أن « اللّه محبة »، وهو بطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة، سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد،... وهل ننسى ذلك الحوار الذى حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرات: « يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... ورد بطرس مثلثا: « يارب أنت تعلم أنى أحبك » « يارب أنت تعلم أنى أحبك »... « يارب أنت تعلم كل شئ. أنت تعرف أنى أحبك » " يو 21: 15 - 17 "..، وليس عند اللّه بديل أو نظير للمحبة!!... أجل!! فهذا حق، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول: « أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء »... ولعله ليست هناك مأساة تعادل فقدان الإحساس بالمحبة، الأمر الذى قاله الشعب فى وجه اللّه بجرأة لا يحسد عليها: « بم أحببتنا ». " مل 1: 2 ". وفى الحقيقة لا يبقى للإنسان شئ فى الحياة بعد ذلك، يوم يعجز عن إدراك أن اللّه أحبه وما يزال يحبه!!... ومع ذلك فقد كان اللّه كريماً إذ دخل فى حوار المحبة!!..عاد اللّه بالشعب إلى التاريخ القديم، والتاريخ فى العادة - لمن يعود إليه - أعظم برهان عملى وواقعى على محبة اللّه الفائقة العظيمة، تاريخ الأمة أو البيت أو الفرد،... ويكفى أن يعود شعب اللّه إلى تاريخ يعقوب وعيسو، ومهما نحاول أن نبحث، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى عمق الاختبار الإلهى، وقد تحدثنا فيما سبق عند التعرض لقصة عيسو ويعقوب، عن هذه الحقيقة العجيبة،... والأمل أن يرجع من يرغب فى المزيد من التأمل إلى الشخصيتين اللتين درسناهما فيما سبق بين شخصيات الكتاب،... ولكننا نلاحظ أن الحب الإلهى تأسس أولا على عدم الاستحقاق، إذ أن النعمة وحدها هى التى يستطيع يعقوب أن يرد الأمر إليها فى قصة اختياره دون أخيه، أولا لأن هذا الاختيار حدث قبل أن يفعلا خيراً أو شراً، فهو اختيار أسبق من كل عمل أو تصرف، فإذا قسناه بحسب المنصرف الذى جاء فيما بعد، فإن تصرف يعقوب فى غشه وخداعه وأنانيته وخبثه، كان فى كثير من الأوضاع أبعد من كل تصرف وصل إليه عيسو الذى هو آدوم.وكان الحب الإلهى أكثر من ذلك - منحازاً، إذ أخذ من عيسو ما يبدو أنه حقه باعتباره البكر، ليعطى ليعقوب،... ولم يتعلق الأمر بالاختيار فحسب، بل بالضمان والحراسة والبركة،... ومن المؤكد أن هناك أشياء كثيرة فى عيسو كان يمقتها اللّه ويكرهها، لأنه مهما يبدو فى الظاهر من فضائل فيه، قد لا يصل إليها يعقوب، إلا أنه كان يملك رذيلة الرذائل ومستنقع الأوحال، إذ كان هو الشخص الذى يمكن أن يطلق عليه القول « بلا إله » وهو على أية حال حيوان حتى ولو بدا كالزرافة أو الحمار الوحشى أو أى حيوان جميل الشكل،... ولكنه فى أية صورة هو حيوان، ولا يمكن أن يقارن بالإنسان!!... وكان يعقوب، على العكس، إنساناً به النقائص التى ظل اللّه يعمل على إخراجها منه، وتنقيته منها حتى، أضحى إسرائيل الذى جاهد مع اللّه والناس وغلب..هذه المحبة الإلهية، كانت أكثر من ذلك، المحبة التى باركت يعقوب وأخربت عيسو، أو فى لغة أخرى كانت المعطية للواحد والمقاومة للآخر، فهى تعطى ليعقوب إلى الدرجة التى يقول معها: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك. فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين » " تك 32: 10 "... على العكس من عيسو الذى يقول عنه ملاخى: « وأبغضت عيسو وجعلت جباله خراباً وميراثه لذئاب البرية. لأن أدوم قال قد هدمنا فنعود ونبنى الخرب، هكذا قال رب الجنود هم يبنون وأنا أهدم ويدعونهم تخوم الشر والشعب الذى غضب الرب عليه إلى الأبد »... " مل 1: 3 و4 " وشتان بين إنسان يجد المعونة والقوة من اللّه، وآخر يجد الهدم، والتدمير منه كلما فكر فى النهوض للتعمير والبناء،... واللّه فى هذا كله، لابد أن يلتقى حبه بعدالته، إذ أن الهدم الذى يلحق آدوم إلى الأبد، مرتبط بإصراره على أن يكون تخوم الشر. ومن هنا نعلم أن الغضب الإلهى له أسباب ومقوماته!! إنتظر اللّه من شعبه حباً بحب، وشركة بشركة،.. ولكن الشعب لم يرد على اللّه صدى هذه المحبة العظيمة، وخاب انتظار اللّه فيه،... وإذا كان للمرء أن يسأل: وماذا ينتظر اللّه جواباً على حبه؟ إنه ينتظر ما ينتظره كل أب من ابنه، وهل أقل من أن يفعل ما فعله هنرى هفلوك وهو صبى صغير، إذ أطاع أباه، ورفض أن يتزحزح من مكانه فى شوارع لندن المزدحمة ساعات طويلة حتى جاء الليل، وعاد الأب إلى بيته وكان قد نسى ابنه، فى زحام عمله، ولم يتذكر ذلك إلا بعد عودته، فأسرع إلى المكان ليجد ابنه هناك فى انتظار أبيه!!.. « أن أفعل مشيئتك يا إلهى سررت وشريعتك فى وسط أحشائى » "مز 40: 8 " « لأجل ذلك حسبت كل وصاياك فى كل شئ مستقيمة كل طريق كذب أبغضت ».. " مز 119: 128 " وليس الأمر مجرد الطاعة، بل « نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا،.. "1 يو 4: 19 " إننا من هامة الرأس إلى إخمص القدم مدينون له كخالق، وكمعتن، وكفار وهو يستحق كل حب وولاء، أن يكون هو صاحب المركز الأول والأخير فى قلوبنا وحياتنا!!.. ومن حقه علينا أن نغار لمجده وكرامته، وإذا كان الابن لا يقبل قط أن يهان أبوه الأرضى أمام عينيه بأية صورة من الصور، فكم بالأولى الآب السماوى المستحق كل إكرام وإجلال ومجد، ولسنا نصنع فضلا إذ نجند أنفسنا لخدمته، بل هذه هى رسالتنا الوحيدة فى الأرض أو السماء!!!.. ملاخى والكهنة فى أيامه وليست هناك صورة أسوأ من صورة الكهنة فى أيام ملاخى، وحتى يمكن أن نفهم الصورة على وضعها الصحيح، كشف لنا اللّه عن رسالة الكاهن العظيمة: « كان عهدى معه للحياة والسلام وأعطيته إياهما للتقوى فاتقانى ومن اسمى ارتاع هو. شريعة الحق كانت فيه واثم لم يوجد فى شفتيه. سلك معى فى السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم. لأن شفتى الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » " مل 2: 5 - 7 " وأية صورة أجمل وأروع من هذه الصورة لخادم اللّه، إذ أنه: أولا: الخادم المدعو من اللّه الذى دخل فى ميثاق مع اللّه: « فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل يكون غار غيرتى فى وسطهم حتى لم أفن بنى إسرائيل بغيرتى. لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقى ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدى لأجل أنه غار للّه وكفر عن بنى « إسرائيل »... " عد 25: 11 - 13 " وما أجمل أن يحس الكاهن أو خادم اللّه أنه إذ يدخل الخدمة مدعواً من اللّه، إنما يدخلها بميثاق وعهد أبدى مع القدير،..ومن ثم تأخذ الخدمة. ثانياً: أعلى مكانة فى ذهنه، إذ هى خدمة اللّه العلى الجدير بكل إجلال واحترام: « ومن اسمى ارتاع.. ثالثا: الخدمة، ينبغى أن تحاط بالمهابة والجلال والاحترام والقدسية.. إذ هى للّه العظيم القدوس،.. ولذا من الواجب أن يكون الممسك بها هو الإنسان الصادق الأمين: « سريعة الحق كانت فيه وإثم لم يجد فى شفتيه » ورجل اللّه لا ينبغى أن تكون هناك شبهة فى صدقه وأمانته وحقه. والخدمة رابعاً: لا يجوز أن يقوم بها إلا من كان سلوكه العملى واضحاً وثابتاً أمام الجميع، وهو مع اللّه فى سلام، ومع نفسه والناس فى استقامة: « سلك معى فى السلام والاستقامة ». وهو خامساً: الإنسان النافع: « وأرجع كثيرين عن الإثم »... إذ هذه هى رسالته العظيمة فى الحياة. وأخيراً هو الإنسان الواسع الإدراك والمعرفة، الذى يطلبه الحائر والمتعثر عندما تبهم أمامه الأمور وتستغلق: « لأن شفتى الكاهن تتحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود ». هذه هى الصورة الوضيئة للكاهن وخادم اللّه،... والتى كان الكهنة فى أيام ملاخى على عكسها تماماً،... ولعل أدق الأوصاف للكاهن فى ذلك الوقت أن: أولا: « الكاهن المحتقر الدنئ »... وما أكثر صور الدناءة التى كان عليها،... ولكن أقساها وأشدها، هو فى تعامله مع الذبيحة التى تقدم للّه إذ كانت تقدم له الذبيحة السليمة، فكان يستبدلها بالعمياء أو العرجاء أو السقيمة، ليحتفظ بفرق الثمن، وهو أشبه بذلك الرجل الذي جاءت قصته فى الأدب الروسى، الذى قيل إنه كان فلاحاً، ومرض ابنه للموت، فنذر للّه حصانه إن شفى الولد وكان الحصان فى ذلك الوقت يساوى عشرين جنيهاً، وشفى الابن، ولكن عز عليه أن يبيع الحصان ويقدم ثمنه كما نذر، وفكر ثم فكر، وأخيراً ذهب إلى السوق ومعه حصانه، وديك أيضاً، وقرر أن يبيع الاثنين معاً، وإذ سأله أحدهم عن الثمن قال: الحصان ثمنه عشرون قرشاً، وإذ هم الرجل أن يدفع الثمن، قال له: لا.. أنا أبيع الاثنين معاً،.. فسأله: وما ثمن الديك؟: قال: عشرون جنيهاً، واشترى المشترى الاثنين وعاد الرجل ليقدم ثمن الحصان كما باعه بمبلغ عشرين قرشاً، لأنه باعه فى السوق بهذا الثمن!!.. وكان الكاهن ثانياً: « الكاهن النفعى » الذى يقبل على الخدمة ويقدرها على قدر ما ينتفع منها، وهو لا ينظر إليها كعهد سام بينه وبين اللّه، بل على قدر ما تعطيه من مغنم أو مكسب مادى. وهو ثالثاً: « الخادم الملول » الذى يتأفف من الخدمة، وهى ثقيلة عليه، ويؤديها كرهاً،... وليس أقسى على النفس من أن نجد خادماً بهذه الصورة، فهو يخدم لأنه مضطر للخدمة، أما بسبب الحاجة أو التقليد، أو العيب أمام المجتمع إذا تخلى عنها، وهو يعظ بدون حياة أو روح أو ثقة فى صدق ما نقول!!.. وهى مأساة من أكبر المآسى التى يتردى فيها الخدام فى كل عصور التاريخ!!.. ملاخى وخطايا الشعب فإذا كان الكهنة بهذه الصورة، فكم يكون الشعب إذاً؟؟.. كانت خطايا الشعب حقاً قاسية وثقيلة، ولعل من أظهرها: أولا: تفشى الطلاق، والزواج بالأجنبيات، وهو الأمر الذى يكرهه اللّه من كل قلبه، ويرى فيه غدراً بالزوجة وغدراً بشخصه هو أيضاً!!.. أما الغدر بالزوجة، فواضح من أن الإنسان يطوح بامرأة شبابه التى ارتبط بها بعهد مقدس أمام اللّه،... واللّه يكره الغدر ويستأصل الغادر، ولكن الأمر هنا أكثر من ذلك، إذ أن الغدر هو أيضاً باللّه ذاته، الذى منع إسرائيل من الاختلاط بالشعوب ليحفظ الزرع المقدس، فلا يأتى أولاد ترتبط أمهاتهم بالوثنية التى - لا شك - ستلحق الأولاد إن آجلا أو عاجلاً: « غدر يهوذا وعمل الرجس فى إسرائيل وفى أورشليم. لأن يهوذا قد نجس قدس الرب الذى أحبه وتزوج بنت إله غريب »... " مل 2: 11 "ولا نظن أن هناك كلمات أقسى من هذه الكلمات فى كل الكتاب المقدس، حتى جاء يسوع المسيح ليقف ضد الطلاق ويرجع الوصية إلى مكانها الأول فى قصد اللّه!!.. وكانت الخطية الثانية عند الشعب: هى عدم المبالاة فى فعل الشر، إلى درجة أنهم تصوروا أن اللّه لا يزجر الشر بل يسر بمن يفعله!!.. وأنه لا يوجد إله عادل يفرق بين الخير والشر فى الأرض: « قد أتعبتم الرب بكلامكم، وقلتم بم أتعبناه؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب وهو يسر بهم. أو أين إله العدل؟ »... " مل 2: 17 " وهذا كلام متعب حقاً لقلب اللّه،... ولكن من الحقيقى أيضاً أنه يتردد على اللسان مرات كثيرة عندما نرى الأوضاع مقلوبة فى الأرض،... وقد يأتى سؤال أين إله العدل على لسان الخاطئ الذى ينشد التوبة، ويجد جوابه فى الصليب الذى استوفى فيه اللّه عدله،!!.. زار أحد خدام اللّه من الشباب يوحنا نيوتن وهو فى ضجعة الموت، وكان نيوتن قبل مجيئه للمسيح تاجراً للعبيد، وغارقاً فى أوحال الإثم والخطية!!.. ولكنه عندما جاء للخدمة أصبح الخادم العظيم، والشاعر المسيحى،... وعندما تأسف الخادم الشاب، لأنه سيفارق خادماً عظيماً كهذا الخادم، قال له نيوتن: ياابنى: سأذهب أمامك فى الطريق، وبعد ذلك ستأتى أنت، وعندما تصل إلى السماء وتبحث عنى فإنك ستجدنى غالباً هناك عند قدمى المسيح مع اللص التائب حيث هناك مكانى.فالذين لا يصدقون عدالة اللّه لينظروا إلى الصليب،.. لأن ديان كل الأرض لابد أن يصنع عدلا!!.. وكانت الخطية الثالثة: سلب اللّه فى حقه فى العشور والتقدمة - ولعل ما قاله دكتور ج. كامبل فى هذا الصدد، يوضح لنا الفكرة: « إن طلب اللّه من شعبه يبدو محدداً وهو، أن يعطى العشور.. ومن واجبهم أن يطيعوه.. لكن لا ينبغى أن تخطئ فالشعب فى العادة يقول إن اللّه يطلب العشور. وهذا يغاير تماماً الوضع الحقيقى،.. اللّه طلب العشور - كحد أدنى - وهم فى إهمالهم لا يعطون العشور والتقدمة، فقد سلبوا اللّه بعدم الاستجابة إلى مطلبه وأنا أسأل: ما هو المطلب الإلهى بالنسبة للمسيحى والمسيحية!!؟.. إن اللّه لا يسألك العشور.. البعض يقدم العشور من دخله وقد يكون هذا صحيحاً، لكن إذا كانت هناك مظاهر الصحة من جانب، فإن هناك أيضاً مظاهر الشح من الجانب الآخر،.. بعض الناس لا يهتمون بتقديم العشور، ولهذا لا يقدمونها.. غير أنه يوجد أيضاً من يسلب اللّه لأنه لا يقدم سوى عشور دخله، واللّه لا يقبل العشور إذا كنت تقدمها بمعنى آلى دون شعور.. العشر حسن تماماً إذا كنت تقدمه للّه بكل إحساس... لكن ما أكثر الذين يقدمون وهم ينتظرون الوعد دون أن يحققوا الشروط: أن يفتح كوى السموات ويفيض عليهم بركة... واللّه إذ يقول هاتوا العشور. كأنما يقول: إن بيدك أنت أن تفتح كوى السموات!!.. ولا تتصور أنك مادمت تعيش بالناموس الروحى، فأنت لست مرتبطاً بعطايا مادية.. ويلزم أن نعطى العشور!!.. واللّه لا يطلب العشور منك فحسب لكنه يطلب كل شئ.. وهنا لا ينبغى أن ننسى أن العشور والتقدمة مصحوبان بوعد البركة التى لا توسع!!..وكانت خطايا الشعب اللاحقة لهذا الخطايا، « الحياة المستبيحة »، إذ كان بينهم السحرة والفاسقون، والحالفون زوراً والسالبون أجرة الأجير، الأرملة، واليتيم، ومن يصد الغريب. والسحر طبعاً يلجأ فيه المرؤ إلى طلب الأرواح الشريرة وغايته ليست إلا غاية فاسدة، وقد حاربه الكتاب لأنه يفسد ثقة الإنسان فى اللّه والتطلع إليه، والاعتماد عليه دون الاعتماد على الشيطان!!.. والفسق خطية شنيعة كما نعلم، تلوث جسد الإنسان ونفسه، والكذب مع الأصرار الذى يستند إلى الحلف، دليل على بشاعة الاستهتار والاستهانة باسم اللّه القدوس. والظلم الذي يقع على الأرملة واليتيم والغريب، هو إهانة للّه نفسه، كالسيد والحاكم الأدبى الأبدى بين الناس!!. ملاخى ونبوته عن السيد المسيح وملاخى - كآخر أنبياء العهد القديم - لا يجد حلا لقضية الإثم والفساد والشر والمرض الذى تسببه الخطية، سوى فى اللّه نفسه: « ها أنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى ويأتى بغتة إلى هيكله السيد الذى تطلبونه وملاك العهد الذى تسرون به هوذا يأتى قال رب الجنود ».. " مل 3: 1 " ولا بد من الملاحظة هنا أن رب الجنود هو الذى يتكلم، وهو يتكلم عن شخصه المبارك: « فيهيئ الطريق أمامى، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذى ننتظره ونسر به »... وقد أوضح السيد المسيح أن هذه النبوة تمت فيه، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لتهيئة الطريق أمامه،... اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بلاده، وقام بثورة عارمة ضد الفساد الذى استشرى، لكن نحميا لم يكن إلا صورة ورمزاً إلى السابق الذى جاء ينادى بمجئ المسيح،... ومن الملاحظ أيضاً أنه فى هذه النبوة، كما يقول أغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثانى ليسوع المسيح، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق للخطية والإثم، فإن مجيئه الثانى سيفصل بين الحق والباطل، والشر والخير، فصلا أبدياً!!.. وقد بين كيف يلجأ السيد إلى التطهير، إذ يعمد إلى النار والغسل، فهو بالنار يمحص وبالغسل يجمل وينظف كما يفعل القصار فى الثياب بالاشنان المنظفة المبيضة، وهو إذ يبدأ بالتطهير، يبدأ بخدامه مباشرة قبل الجميع!!.. وقد ذكر النبى أن إيليا سيأتى قبل مجئ يوم المسيح العظيم المخوف الذى يقضى فيه السيد على كل فساد وشر، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليا مرة ثانية، غير أن أغلب الشراح المسيحيين يتفقون على أن هذه النبوة إشارة إلى المعمدان الذى جاء بروح إيليا كما أشار السيد المسيح، غير أنه وجد من المفسرين من قال إن إيليا سيأتى مرة أخرى قبل يوم الدينونة ومجئ المسيح الثانى، وأنه إذا كانت النبوة قد تمت مبدئياً فى المعمدان، فإنها ستتم نهائياً وأخيراً بمجئ إيليا ذاته، وستكون رسالته رد قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء. والبعض يعتقد أن معنى « على » هنا هو « مع » فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لنداء النبى، ويوجد من يقول إن الآباء إشارة إلى الآباء الأقديمن، وإن الأبناء سيرجعون بقلوبهم إلى قلوب آبائهم وإيمانهم.وأيان يتجه تيار التفسير وهل هو عن المجئ الأول للمسيح بمفرده أو مجيئيه الأول والثانى، كما يذهب أوغسطينوس، وهل يوحنا المعمدان، هو رسول المسيح الذى جاء سابقاً له بروح إيليا،.. أم أن إيليا سيأتى مرة أخرى الأمر الذى لا نعتقده أو نرجحه.. إلا أن التفسير، مهما اختلف، فهو مركز فى شخص المسيح... وإذا كانت آخر كلمة فى العهد القديم هى كلمة « بلعن » كما سبقت الإشارة، فإن انتزاع الخطية من الأرض، والقضاء على اللعنة، والفصل بين الشر والخير إلى الأبد، لا يمكن أن تكون إلا فى إسمه المجيد العظيم المبارك، له المجد، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين!!..
المزيد
17 أغسطس 2022

أمنا وسيدتنا كلنا القديسة العذراء مريم

القديسة العذراء هي أول مؤمنة في المسيحية:- آمنت بأنها ستكون أم لابن الله، حتى أن أليصابات قالت لها "طوبى لمن آمنت بما قيل لها من قبل الرب"، ونص الآية هو: "فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (إنجيل لوقا 1: 45)قيل لها أنها وهي عذراء ستلد فآمنت بهذا قيل لها القدوس المولود منك يدعى ابن الله، فآمنت بهذا قيل لها إن الروح القدس يحل عليك وقوة العلي يظللك، فآمنت بهذا. حلول الروح القدس على السيدة العذراء:- والروح القدس له علاقة كبيرة بالسيدة العذراء. حل عليها ولم يكن حلول الروح القدس عليها لمباركتها فقط ولكن الأكثر من ذلك أنها هي الوحيدة التي حل عليها الروح القدس حلولًا أقنوميًا. وما معنى حلولًا أقنوميًا؟ أي حلولًا كإله يعمل في داخلها عملًا إلهيًا. وما هو العمل الإلهي الذي عمله فيها؟ أولًا: أوجد في داخلها جنين بشري من غير زرع بشر. وهذه معجزة. ثانيًا: قدس مستودعها بحيث أن هذا الجنين لا يرث شيئًا من الخطية الجدية (الخطية الأصلية). لذلك قيل لها القدوس المولود منك (بلا خطية). ثالثًا: اتحد هذا الناسوت داخلها باللاهوت. كل هذه أعمال إلهية عملها الروح القدس في السيدة العذراء فكلمة "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ" (إنجيل لوقا 1: 35) لا تعني حلول عادي، كالذي يمكن أن يحل على أي شخص، أو كما حل الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين، بل حلول الروح القدس عليها كان حلولًا أقنوميًا. وهناك ألقاب كثيرة للعذراء:- العظيمة بين النساء:- السيدة العذراء هي أعظم امرأة في الوجود فهي أعظم من جميع النساء بل أعظم أيضًا من الملائكة. ونحن نقول لها: "علوتِ يا مريم فوق الشاروبيم، وسموتِ يا مريم فوق السيرافيم" وعندما نقول الهيتينات في الكنيسة ونتشفع، نذكر العذراء أولًا قبل أن نذكر رؤساء الملائكة. فهي فوق رؤساء الملائكة يكفي أنها الوحيدة من نساء العالم كله على مر الأجيال التي اختارها الرب لكي تكون حاملة له هي التي انتظرها ملء الزمان والتي تكلم عنها بولس الرسول عندما قال"وفي ملء الزمان، نزل الله مولودًا من إمرأة"، ونص الآية هو: "وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 4: 4) نساء كثيرات مرَّ عليهن التاريخ والرب لم يختر واحدة منهن، إلى أن جاءت العذراء. لذلك نرتل ونقول: "نساء كثيرات نلن كرامات ولم تنل مثلك واحدة منهن" وهذه العبارة مأخوذة من سفر الأمثال، ونص الآية هو: "بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلًا، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا" (سفر الأمثال 31: 29) إن عظمة السيدة العذراء أنها لم تكن فقط مملوءة من الروح القدس وإنما أيضًا كان وجودها يمنح الروح القدس. ففي زيارتها لأليصابات حين صار سلامها في أذن أليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس ليس فقط أليصابات التي امتلأت من الروح القدس وإنما الجنين الذي في بطن أليصابات يمتلئ أيضًا من الروح القدس ويتحرك بابتهاج في بطنها وفي إنجيل لوقا 1: 15 قيل في النبوءة بالمعمدان "وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (إنجيل لوقا 1: 15) وفعلًا امتلأ من الروح القدس بمجرد أن مريم العذراء أعطت السلام لأمه أليصابات لذلك أليصابات قالت لها: "مِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟!" (إنجيل لوقا 1: 43) أي أنا لا أستحق هذا الشرف العظيم أن تأتي أم ربي إلي وكيف عرفتِ يا أليصابات أنها أم ربك؟! عندما حل الروح القدس عليها بسلام مريم بدأ ينكشف أمامها أمور وتتنبأ بأمور فعرفت أن العذراء أم ربها وعرفت أنها آمنت بما قيل لها من قبل الرب بالروح القدس عبارة "أم ربي" أخذها مجمع أفسس المسكوني سنة 431 م. برئاسة القديس كيرلس الكبير ووضع لنا مقدمة قانون الإيمان "نعظمك يا أم النور الحقيقي القديسة العذراء مريم لأنك ولدتي لنا مخلص العالم" إذًا تعظيم وتمجيد السيدة العذراء قرار مجمع مسكوني. وليس مجرد إيمان عادي. الكنيسة كلها تمجد العذراء وتحبها:- لذلك نجد أن الكنيسة كلها لا تمجد العذراء فقط، بل تحبها. وتسمي باسمها كثير من بناتنا فنجد من هي إسمها مريم، ماري، ماريام، مارينا، آن ماري، ماريانا، فكثير من البنات اسمهم على اسم العذراء مريم وتجد أيقونة العذراء موجودة في كل مكان، ويندر أن يخلو بيت من أيقونة العذراء. والكنيسة دائمًا بها أيقونة العذراء. الحمامة الحسنة:- لكن أهم أيقونة للعذراء الأيقونة الموجودة في الجزء البحري من حامل الأيقونات (إيقونستات Iconostasis) على يمين الكاهن عندما يخرج من الهيكل ويبخر. حيث يبخر على اليمين ويقول: "السلام لك أيتها العذراء الحمامة الحسنة"وكلمة حمامة تذكرنا بالحمامة التي أتت بغصن الزيتون إعلان للسلام للفلك في الطوفان. بمجرد أن استلمها نوح، علم أن الخير قد جاء. فالعذراء هي الحمامة التي أتت بالسلام للعالم. التي عند البشارة بميلاد المسيح قيل "وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ" (إنجيل لوقا 2: 14) والحمامة في بساطتها وبراءتها حتى إن في النشيد يشبه بساطة ونقاوة الحبيبة بالحمامة "عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ" (سفر نشيد الأنشاد 1: 15؛ 4: 1) رمز للطهر والبساطة السيدة العذراء ليس من ألقابها العظمة أو الحمامة الحسنة فقط. ولكن من ألقابها أيضًا أنها دائمة البتولية. الدائمة البتولية:- دائمة البتولية تعني أنجبت وهي بتول وكانت قبل الإنجاب بتولًا وبعد الإنجاب بتولًا أيضًا فهي دائمة البتولية. الملكة:- ومن ألقابها أيضًا الملكة ونسميها ملكة ولذلك في أيقوناتها الطقسية هناك تاج فوق رأسها وتاج فوق رأس المسيح وتكون هي عن يمينه في الصورة الطقسية ليتم القول "قامت الملكة عن يمينك أيها الملك"، ونص الآية هو "جُعِلَتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ" (سفر المزامير 45: 9) يقول عنها المزمور "كل مجد ابنة الملك من داخلها"، ونص الآية هو: "كُلُّهَا مَجْدٌ ابْنَةُ الْمَلِكِ فِي خِدْرِهَا" (سفر المزامير 45: 13). السماء الثانية:- ولأنها حملت المسيح وهو ساكن السماء لذلك أصبح من ألقابها السماء الثانية أي كما أن السماء فيها ربنا كذلك العذراء فيها ربنا. مدينة الله أو صهيون:- لذلك سميت أيضًا مدينة الله أو صهيون المزمور يقول "صهيون الأم تقول إن إنسانًا وإنسانًا ولد فيها" والنص كما ورد في الكتاب المقدس "وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: «هذَا الإِنْسَانُ، وَهذَا الإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ الْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا» (سفر المزامير 87: 5). العذراء في الكتاب المقدس:- وكثير من نبوات العهد القديم تشير إلى السيدة العذراء وأهم ما ورد عن العذراء الآية التي في سفر أشعياء النبي "هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا"، ونص الآية هو: "هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا" (سفر إشعياء 7: 14؛ إنجيل متى 1: 23). رموز العذراء في العهد القديم:- رموز كثيرة جدًا من العهد القديم. (العليقة):- من الرموز المشهورة في العهد القديم (العليقة) "العليقة التي رآها موسى النبي في البرية والنار تشعل جواها ولم تصيبها بأذية". (المجمرة الذهبية):- ومن ضمن الرموز إليها المجمرة الذهبية (المجمرة أي الشورية) المجمرة بداخلها الفحم المتحد بالنار. الفحم يمثل الطبيعة البشرية والنار يمثل الطبيعة الإلهية. لأن الكتاب يقول "إِلهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ" (رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 12: 29)؛ "الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ نَارٌ آكِلَةٌ" (سفر التثنية 4: 24). والنار والفحم متحدين داخل المجمرة. كما اتحد اللاهوت بالناسوت داخل بطن العذراء. (شورية هارون):- ولذلك أيضًا يسمونها شورية هارون. وشورية كلمة قبطية ]ourh تعني مجمرة. (عصا هارون):- وترمز إليها أيضًا عصا هارون التي أفرخت. عصا هارون خشبة ليس بها شيء ولكن خرج منها فروع حية، كذلك البتول. (تابوت العهد):- وشبهت أيضًا بتابوت العهد المغطي بالذهب وبداخله قسط المن. (قسط المن):- وشبهت بقسط المن. لأن قسط المن بداخله خبز المن الذي يرمز إلى المسيح. وهناك أسماء كثيرة أيضًا للعذراء: (الكرمة الحقانية):- وسميت بالكرمة الحقانية التي وجد بها عنقود الحياة. (أم النور، أم المخلص، أم القدوس، أم الفادي):- وسميت أيضًا بأم النور لأن المسيح هو نور العالم. وكل صفة للمسيح يضعون لها كلمة "أم" تكون العذراء. المسيح هو الفادي فتكون العذراء أم الفادي. والمسيح المخلص فتكون العذراء أم المخلص. المسيح النور فتكون العذراء أم النور. المسيح القدوس فتكون العذراء أم القدوس. كل هذه أسماء للعذراء. ولا توجد من سميت بهذه الأسماء الكثيرة مثل العذراء. العذراء في التسبحة:- العذارء توجد كثيرًا في التسبحة. على الأقل لحن "السلام لك يا مريم شيري ني ماريا" نكرر في كل مقطع اسم مريم وكله عن أسماء العذراء وكل تماجيد شهر كيهك عن العذراء. وإخوتنا الكاثوليك يسمون هذا الشهر (الشهر المريمي). أعياد العذراء:- السيدة العذراء تحتفل لها الكنيسة بأعياد كثيرة جدًا كل قديس من القديسين تحتفل له الكنيسة بعيد أو عيدين على الأكثر. في تاريخ استشهاده أو نياحته. وقد تحتفل الكنيسة بتاريخ تأسيس أول كنيسة على اسمه لكن الكنيسة تحتفل بأعياد كثيرة للعذراء مثل: (عيد البشارة بولادتها) فقد كان والديها لا ينجبان، والله بشرهم بولادتها. عيد ميلادها عيد دخولها الهيكل عيد دخولها أرض مصر. عيد نياحتها عيد صعود جسدها للسماء عيد العذراء حالة الحديد التي بشفاعتها انحلت قيود متياس الرسول. عيد ظهورها في كنيسة العذراء بالزيتون فالعذراء لها أعياد كثيرة جدًا، ولها معجزات لا حصر لها كما نحتفل بظهوراتها عمومًا على الأقل في مصر فبالإضافة لظهورها بالزيتون ظهرت في أرض بابا دبلو وفي أسيوط وفي الوراق. زيارة العذراء لمصر:- لذلك العذراء لها أهمية بالنسبة لمصر خصوصًا بالإضافة إلى أهميتها في العالم كله يكفي أنها قضت في مصر 3 سنين ونصف وجزء منهم في منطقة دير المحرق، لذلك الكثير من الأثيوبيين يذهبون للتبرك بدير المحرق كما يذهبون للقدس وفي مصر تنقلت العذراء في أماكن عديدة، فالعائلة المقدسة كانت كلما تذهب إلى مدينة تقع الأصنام على الأرض من جلال لاهوت السيد المسيح فيطردوهم من المدينة، فتذهب إلى مدينة أخرى فتقع الأصنام فيطردون أيضًا. فتنقلت العذراء والعائلة المقدَّسة من مدينة إلى مدينة. فضائل العذراء:- السيدة العذراء لها فضائل كثيرة جدًا، في مقدمتها: فضيلة التواضع:- المسيح المتواضع بحث عن إنسانة متواضعة لكي يولد منها. ولذلك (ماري اسحق) عندما سؤل عن التواضع قال: "أريد أن أتكلم عن التواضع ولكني خائف كمن يتكلم عن الله" لأن التواضع هو الحلة التي لبسها اللاهوت حينما ظهر بيننا المسيح المتواضع ولد من فتاة متواضعة ولذلك العذراء في تسبحتها تقول: "إن الله نظر إلى إتضاع أمته"، ونص الآية هو: "لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ" (إنجيل لوقا 1: 48)، وعجيبة أنها تقول عن نفسها أمة الرب، بالرغم من أن الملاك قال لها ستكونين أم الرب ولكنها تقول له أنا أمة الرب أي عبدته ولهذا العذراء لم يرتفع قلبها أبدًا بولادة السيد المسيح. ولم يرتفع قلبها بنشيد الملائكة ولا بالمعجزات التي صاحبت الميلاد ولا بمجيء المجوس وسجودهم له ولا بالنور الذي كان يحيط بالمسيح باستمرارومن تواضع العذراء أنها ذهبت لتخدم أليصابات في حبلها. الملاك قال لها اليصابات نسيبتك حبلى في الشهر السادس فإذا بهذه الفتاة الصغيرة التي كان عمرها 16 سنة تقريبًا تمشي وسط الجبال والأودية حتى تصل لأليصابات التي كانت حبلى في الشهر السادس وظلت تخدمها حتى الشهر التاسع فقد أمضت ثلاثة أشهر تخدم أليصابات العجوز في فترة حبلها. ما هذه العظمة! أم الإله تخدم أليصابات! للأسف نجد بعض الذين يصلون وظيفة كبيرة أو وضع كبير يفتخرون بذلك حتى يظنون أن الدنيا تعجز عن حملهم. وكما يقول المثل "يا أرض ما عليك مُن مثلي" (يا أرض اتهدي، ما عليكي أدّي)!. لكن العذراء أم الإله عبرت الجبال والأودية لتخدم أليصابات العجوزولم يطلب منها أحد أن تفعل ذلك، بل فعلت هذا من نفسها، ومن قلبها المحب للخدمة الذي يخدم دون أن يُطلب منه.وتواضع العذراء جعلها تقبل ما هو ضد رغبتها. فلم تفكر أبدًا أن تلد. كانت تريد أن تعيش بتول. لذلك عندما بشرها الملاك قالت له "كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟!" (إنجيل لوقا 1: 34) أي ليس من شأني الولادة. ولكنها قبلت ما هو ضد رغبتها. وكانت متضعة رغم الأمجاد الكثيرة التي تحيط بها. فضيلة الاحتمال:- من فضائل العذراء الاحتمال فقد احتملت كل شيء احتملت أولًا اليتم. فمن سن 8 سنين كانت يتيمة الأب والأم ولذلك دخلت الهيكل وعاشت حياة الوحدة في الهيكل. فكل بنت في هذه السن تريد أن تجول وتلعب هنا وهناك، وتتمتع بالدنيا ولكن العذراء ظلت في الهيكل منذ أن كان سنها 8 سنين إلى أن خطبت ليوسف النجار. ظلت هذه الفترة في بيت للعذارى بالهيكل وكانت تحفظ آيات الكتاب المقدس والمزامير. ولذلك تسبحتها مليئة بالآيات والمزاميراحتملت الفقر بلا تزمر. وفيما بعد احتملت المجد بلا افتخار. عاشت في فقر فلم تتزمر وعاشت في مجد فلم تفتخراحتملت المسئولية وهي في سنة صغيرة، حيث أنجبت وهي في سنة صغيرة واحتملت المسئولية. احتملت التعب في الذهاب إلى أرض مصر والتعب في الرجوع من أرض مصر. ومن أشهر المناطق التي مكثت بها السيدة العذراء في أرض مصر منطقة المطرية حيث توجد "شجرة مريم" احتملت أن تلد في مزود وفي الشتاء القارص. فنحن نحتفل بعيد الميلاد في الشتاء احتملت آلام صلب المسيح إن كنا نحب العذراء مريم فيجب أن نحاول أن نقتني فضائلها. قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
16 أغسطس 2022

ولم يعرفــها

«ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» (مت1: 25). هي آية أعيت عقول الكثيرين فاستغلوها سندًا للتشكيك في بتولية العذراء. أمّا القديس كيرلس الكبير، الذي تربطه بالسيدة العذراء علاقة وطيدة، فقد علّق ببراعة على هذه الآية في ميمر له على نياحة السيدة العذراء قائلًا: "حقًا قال عنكِ الإنجيلي الطاهر أيتها العذراء أن «يوسف لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعي اسمه يسوع» أي أنه لم يعرف مقدار مجدك وكرامتك والنعمة التي تحلّيتِ بها إلا بعد ميلادك السيد له المجد ورأى الملائكة صاعدة ونازلة تسبح المولود منكِ قائلة: «المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة»، والرب دعاكِ بوالدته الحبيبة". يعني ذلك أن القديس كيرلس الكبير فسّر كلمة "يعرفها" بمعناها البسيط، أي لم يعرف مقدار كرامتها.يوجد في الحقيقة نصٌّ رائع في ميمر آخر على "بشارة الملاك جبرائيل للسيدة العذراء" عثر عليه البابا كيرلس الخامس في دير المحرق وقام بطباعته سنة 1902م في كتاب "ميامر وعجائب السيدة العذراء مريم". هذا النص يصف ببراعة عجيبة حال يوسف النجار لما اكتشف حملها فيقول: "وعندما وقع نظره عليها وإذا هي حبلى تعجب يوسف واستغرب ذلك الأمر، ووقع في دهشة وتاه في بحور الأفكار وهو ما بين مُصدِّق ومُكذِّب. ثم لما فاق من دهشته والتفت وتأمل وجد أن أيام حملها تقدمت وقد ظهر حملها للعيان. فقال لها: يا مريم لم يسعني أن أمكث هنا وأحتمل العار من بني إسرائيل ومن الكهنة ومن شيوخ الشعب، وكاد يلطم على وجهه وبكي بكاء مرًا وينتحب ويحزن ويندب سوء حظه ويقول: ويلي أنا الشقي، كيف يكون حالي وماذا أقول؟ نعم إني سأصير عبرة في بني إسرائيل، وبماذا أجاوب وأي عذر لي وأنتِ معي في منزلي وتسليمي؟".والآن من السهل أن نضع النصين السابقين بجانب بعضهما البعض لندرك أن ظهور الملاك ليوسف في الحلم ليطمئنه من جهة العذراء لم يكن كافيًا ليستوعب مقدار كرامتها، بل أن ميلاد المسيح منها وما صحبه من عجائب كان هو وحده الحدث الجوهري الذي أضاء بصيرة يوسف الروحية فانفتحت على غنى كرامة ومجد العذراء. بالتالي، كل من يحاول تكريم العذراء لشخصها وفضائلها بمنأى عن ربط كرامتها بميلاد المسيح منها فإنه لابد وأن يقع فيما وقع فيه يوسف من شك وحيرة. لقد تشبّهت السيدة العذراء بابنها وتحولت إلى تلك الصورة عينها. فكما صار ذاك، الذي لم يعرف خطية، خطية من أجلنا، هكذا صار حبل تلك التي لم تعرف رجلًا بالسيد المسيح صليبها الذي عُلِّقت عليه بلا خطية منها. وكما تمجد السيد المسيح في أعين تلاميذه بقيامته فانفتحت أعينهم وعرفوه، هكذا صارت حادثة ميلاد المسيح من العذراء قيامةً لها حيث تمجدت في عيني يوسف الذي انفتحت عندئذ عيناه "فعرفها". بالتالي يكون لقب "والدة الإله" هو مجد قيامة العذراء!! نيافة الانبا يوسف أسقف جنوب الولايات المتحدة الأمريكية
المزيد
15 أغسطس 2022

الطاعة والقداسة

ارتبطت فضيلة الطاعة بحياة القداسة والقديسين، إذ ظهرت كفضيلة هي الأبرز في حياة كل مَنْ هم قدوة لنا، وأولهم السيد المسيح الذي أطاع الآب السماوي حتى الموت موت الصليب، وكذلك العذراء التي أطاعت في أمر يصعب استيعابه حين بشرها رئيس الملائكة غبريال المبشر بأنها ستحبل وتلد ابن الله الكلمة متجسدًا منها، وقالت «هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لو1: 38)... ومن هنا صارت الطاعة مرتبطة بالقداسة.(1) هي دليل الإيمان القلبي: كما ظهر في حياة أبينا إبراهيم إذ قيل: «بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلي أين يأتي، وبالإيمان تغرّب في أرض الموعد كأنها غريبة» (عب11: 8)، فطاعة أحد رجال الإيمان جعلته يسير وراء الله وهو واثق أنه سيصل، حتى وان كان لا يعلم إلى أين يذهب، وبذلك يتضح أن فضيلة الطاعة ترجمة قوية للإيمان القلبي في عمل الله وقيادته له ولأسرته في كل أموره الحياتية...(2) هي دليل الحرية الحقيقية الداخلية: فالطاعة هي الشكل الأكمل للحرية القلبية الداخلية من تسلط الأهواء الخاطئة والرغبات الشريرة، والشهوات القلبية التي توقع الإنسان في المعصية، وقمتها في انغلاق الذات على نفسها فلا تسمع لصوت الله ولا تصدق وعود الله ولا تريد حتى الاتصال بالله... من هنا كانت الطاعة دليلًا قويًا على التحرُّر من المشيئة الذاتية التي تكمن وراءها كل الأخطاء والشهوات. ولعل هذا هو دور الروح القدس الذي يقود المؤمن إلى خطوات الطاعة الإرادية التي تدل على حرية قلبية من شهوات أو أخطاء أو قيود يضع فيها الإنسان نفسه نتيجة عدم الطاعة أو رفض الاستماع القلبي الداخلي الذي تحدثنا عنه في فضيلة الطاعة الإرادية.(3) دليل رفض المشورات الشريرة: يتلقى الإنسان طوال حياته الزمنية كثيرًا من المعارف والأفكار من مصادر عديدة، بعضها صالح أو غير صالح، وهنا تظهر أهمية فضيلة الطاعة في إنقاذ المؤمن من أي مشورة شريرة، لذلك جاءت الوصية الإلهية «أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يُعطون حسابًا، لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنّين لأن هذا غير نافع لكم» (عب13: 17). وهنا نرى أن الطاعة تهب المؤمن الإنقاذ من الشر من خلال إرشاد روح الله له. لذلك يقول ذهبي الفم: "كيف يثبت ما يقدمه الخورس إذا أُلغي دور قائده؟ وكيف ينتصر جيش إذا أُبعد قائده؟ وكيف تصل سفينة إلى البر إذا عدمت مديرها؟ وكيف يستمر قطيع الخراف إذا اختفى الراعي عنه؟ وهكذا واضح أن الطاعة تُنجي المؤمن من الشر والأشرار".(4) الطاعة ذبيحة حب تقدس النفس: فمجرد استعداد الإنسان لتنفيذ مشيئة الله في طاعة حقيقية، يقود إلي تقديس المشيئة كما في قول الكتاب: «ولكم محبه واحدة بنفس واحده مفتكرين شيئًا واحدًا... حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. فلا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو للآخرين أيضًا» (فيلبي2: 2، 3). ويؤكد القديس بولس: «إذًا يا أحبائي كما أطعتم كل حين، تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة» (في2: 12). وهكذا تقود الطاعة إلى القداسة بكل ما تحمله الطاعة من فضائل الإيمان والحرية ورفض الشر وتقديس الحب لإتمام الخلاص للنفوس الساعية للفضيلة. نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية
المزيد
14 أغسطس 2022

أشياء تميزت بها العذراء مريم

تطلع الآب من السماء فلم يجد مَن يُشبهكِ أرسل وحيده أتى وتجسد منكِ ربع من أرباع التسبحة جعلني أتسأل فيه ما هي الأشياء التي ظهرت في حياة القديسة العذراء مريم وجذبت قلب الله ليأتي منها كمولود من امرأة ؟ كيف لها أن تزينت للحمل ؟ كما نقول في لبش يوم الخميس من أجل هذا تمدح مع يوحنا البتول قائلين طاهرة هي هذه العروسة التي تزينت للحمل .كيف رفعت من شأن النساء بعد أن كانت البشرية مضطربة بعد سقوط أمنا حواء وسماعها لكلام الحية . فالسيدة العذراء بمشورتها استطاعت أن تمحو ما فعلته حواء و بمجئ السيد المسيح متجسد من العذراء أزال عنا سلطان الموت والفساد ورجع ادم إلي رئاسته الأولي .وما الذي جعل داوود النبي يسمي العذراء مريم مدينة الله لأن الله في السماء ولما نزل وتجسد من العذراء مريم صارت العذراء سماء ثانية ؟ ولماذا تشبهت برموز كثيرة في العهد القديم ( عصا هارون – شورية موسي – باب حزقيال – فلك نوح – لوحا الشريعة – سلم يعقوب … ) فحقاً السيدة العذراء هي الواسطة التي جعلت هناك علاقة بين السماء والأرض وبقدسيتها استحقت أن تلد الرب يسوع الوسيط بين الله والناس فخر جنسنا . أكليل فخرنا . رأس خلاصنا . ثبات ظهرنا . السيدة مريم العذراء التي ولدت لنا الله الكلمة ما الذي جعلها مستحة أن يقال لها أفرحي يا مريم العبده والأم ؟ ولابد أن نعرف إن السيدة العذراء مريم في حاجة إلي الخلاص مثلنا ولكنها تميزت عن باقي النساء لتصبح والدة الإله ترفعها الكنيسة فوق مرتبة رؤساء الملائكة فنقول عنها في تسابيحها وألحانها : علوت يا مريم فوق الشاروبيم وسموت يا مريم فوق السيرافيم ويجب علينا نحن أيضاً أن نأخذ من صفاتها لنسلك هياكل للروح القدس يسكن فينا كما أن السيد المسيح سكن في أحشائها ونعرض الآن بعض الفضائل متمثلة في بعض النقاط وأهم الأشياء التي تميزت بها السيدة العذراء مريم . 1- نشأتها في أسرة مقدسة :- ولدت القديسة العذراء مريم من أب طيب وأم حنونة رباها في تقوي وبر ومخافة الله . والدها اسمه يواقيم ( يهوه يقيم ) وزوجته اسمها حَنَة ( الحنون ) وقد كانا متقدمين في السن ولم يرزقا بذرية. ولأن بني إسرائيل كانوا يعيرون من لا ولد له لهذا كانا القديسان حزينين ومداومين على الصلاة والطلب من الله نهارًا وليلًا أن يعطيهما ابنًا يخدمه في بيته كصموئيل . فاستجاب الرب الدعاء فظهر ملاك الرب جبرائيل ليواقيم وبشره بان امرأته حَنَة ستحبل وتلد مولودًا يسر قلبه ، كما ظهر جبرائيل الملاك لحَنَة وزف إليها البشرى بأنها ستلد ابنة مباركة تطوبها جميع الأجيال لان منها يكون خلاص آدم وذريته . وقضت حَنَة أيام حملها في صلوات و أصوام إلى أن ولدت بنتًا وسمياها مريم يستطيع الرب أن يختار من الأسرة المقدسة من هو مقدس .لذا نسمي القديسة العذراء مريم أم الخلاص ولكنها لم تشترك في الخلاص وهي مولودة من أب وأم ونحن لا نؤمن بحبل أمها فيها بلا دنس هذا الكلام ليس له مدلول تاريخياً والكنيسة تكرم العذراء لأنها ولدت السيد المسيح مشتهي الأجيال ولأنها حملته فقط , وربته فقط أماً له و يقول السيد الرب في أشعياء ( 63 : 3 )( قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي ، وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ ) جزت المعصرة وحدي ولم يكن معي أحداً من البشر السيد المسيح وحده هو الذي أتم عملية الخلاص وهو ابن الله المتجسد والجسد الذي أخذه لكي يشابهنا في كل شئ محال الخطية وحدها نحن الذين أخطائنا فنستحق الموت مات السيد المسيح عوضاً عنا ولكن بلاهوته مسح خطايانا وغفر كل خطايا العالم من الشرق إلي الغرب ومن الشمال إلي الجنوب من أدم والي أخر الدهر وهذا العمل عمله السيد المسيح ابن الله المتجسد وحده ومات الإنسان يسوع المسيح والله لا يموت فالإنسان يسوع المسيح هو الذي أخذ عقوبتنا بجسده الذي أخده من السيدة العذراء مريم هي أم ابن الله ونسميها ثيؤتوكوس أم الله لأن المسيح هو ابن الله وهو الله نفسه لأن لاهوت السيد المسيح هو لاهوت الأب هو لاهوت الروح القدس والثلاثة هم واحد هذا هو الأيمان السليم منذ سفر التكوين نجد أن الثلاثة أقانيم ظاهرين في الإصحاح الأول عدد 1 و 2 و 3 ( في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياه وقال الله : ليكن نور، فكان نور ) ( تك 1 : 1 – 3 ) الله مثلث الأقانيم منذ الأزل ولكنه عندما أراد أن يأخذ جسد ظهر في ملء الزمان مولوداً من امرأة ( غلاطية 4 : 4 ) ” وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ ” وهي السيدة العذراء مريم التي ولدت مشتهي الأجيال لذلك نطلب من السيدة العذراء لأنها قريبة منه جدا لأنه يوجد داله أمومة . 2- الاتضاع :- وهي من ضمن الفضائل الأساسية التي جعلت الرب ينظر إليها أنها كانت وديعة وظهر ذلك أثناء بشارة الملاك جبرائيل لها ( سلام لك أيتها المنعم عليها الرب معك مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما عسى أن تكون هذه التحية فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله و ها أنت ستحبلين و تلدين ابنا و تسمينه يسوع هذا يكون عظيماً و ابن العلي يدعى و يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد و لا يكون لملكه نهاية . فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا و انا لست اعرف رجلاً . فأجاب الملاك و قال لها الروح القدس يحل عليك و قوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله و هوذا اليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها و هذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله . فقالت مريم هوذا انا امة الرب ليكن لي كقولك فمضى من عندها الملاك )( لو 1 : 28 -38 ) .فالسيدة العذراء ممتلئة نعمة ولا يوجد من بين النساء من يشبهها وبعد هذه البشارة أظهرت السيدة العذراء تواضعها الشديد إذ قالت ( لأنه نظر إلى اتضاع أمته )( لو 1 : 48 ) . وليس لفضل فيها ولا أحد خرج البشرية من الفردوس غير الكبرياء فالكبرياء أم الرزايل كما أن الاتضاع أم الفضائل كما أن المسيحية في جوهرها تبدأ بالتواضع وإنكار الذات .الاتضاع في مظهره هدوء ولكن في داخله أفعال . أولها الطاعة ومن هذه النقطة ننتقل إلي النقطة الثالثة . 3- الطاعة :- كانت السيدة العذراء مريم مطيعة في كل شئ فالإنسان المتضع من السهل جدا أن يسمع ويطيع لأن الاتضاع يولد الطاعة وهي ارتضت وقبلت أن تخدم في الهيكل وهي لا تزال طفلة صغيرة عمرها 3 سنوات حتى بلغت 12 سنة من عمرها , وكان أبواها قد ماتا وعندما بلغت سن الزواج تشاور الكهنة معًا على زواجها فاختار زكريا الكاهن من شيوخ وشبان يهوذا واخذ عصيهم وكتب عل كل واحدة اسم صاحبها ووضعهم داخل الهيكل فصعدت حمامة فوق العصا التي كانت ليوسف النجار ثم استقرت على رأسه فعقد الكهنة خطبتها على يوسف وعاشت في بيته الذي في الناصرة ووسط كل هذه الأحداث لم تعترض أو تفرض رائياً بل كانت مطيعة إلي أبعد حد . وأيضاً أطاعت وقبلت بشارة الملاك بأن تحوى بداخلها الغير المحوى فلقد تجملت بالفضائل الكثيرة التي أهلتها لذلك . نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات الأنبا أثناسيوس أسقف بني مزار والبهنسا وللحديث بقية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل