المقالات

23 سبتمبر 2022

رائحة المسيح الذكية

أتدري يا صديقي أنه متى كانـت لـك حيـاة روحيـة حقيقية وقلـب ممتلئ بالنعمـة لا بد أن ينعكس ذلك على حياتك العملية ، فتظهر رائحـة المسيح في كل تصرفاتك ؟ وهذا هو ما نود الحديث عنه في موضوعنا هنا إنها الخطوة السابعة في طريقك الروحي والتي تعكس نجاحك في الخطوات الست السابقة . " ولكـن شـكراً للـه الـذي يقودنا في موكب تصـرته في المسيح كـل حـين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان . لأننا رائحة المسيح الذكية لله ، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكـون لهـؤلاء رائحـة مـوت يـمـوت ، ولأوليك رائحـة حيـاة لحياة ومن هو كفوء لهذه الأمور ؟ لأننا لسنا كـالكثيرين غاشين كلمة الله ، لكن كما من إخلاص ، بل كما من الله نتكلم أمام الله في المسيح " ( ۲ کو ٢ : ١٤ - ١٧ ) تظهر فينا رائحة المسيح ، من خلال خمس فضائل :- أولا المحبة : - الإنسان المسيحي لا يعرف إلا المحبة . والعالم اليوم في أشد الحاجة إلى المحبة النقية الحقيقية ، تلك المحبة التي يقدمها الإنسان المسيحي الحقيقي في معاملاته مع الجميع . لذا على الإنسان المسيحي أن يراجع نفسه دائماً ، ويسأل نفسه : هل يوجد في قلبه فكر كراهية من جهة أي أحد ؟! وما هو مقياس المحبة تجاه كل من هـم حوله ؟! والقديس أغسطينوس له هذا القول الجميل : " حب الكل ، فيكـون لـك الكل " . ثانياً السلام :- وتسمى صناعة السلام بالصناعة الصعبة بل أنها أصعب صناعة يحتاجها العالم اليوم ، فالعالم أضحى ممتلئاً بالتوثر في كل مكان ، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط " وثمر البر يزرع في السّلام من الذين يفعلون السّلام " ( یع ۳ : ۱۸ ) . فهناك شخص مجرد وجوده يكون سبب في تهيج المشكلات ، بسبب كلامـه غير الحكيم ، ولكن نجد شخصاً آخر ، كلامه يريح الجميع بحكمته وتصرفاته التي تزرع السلام من تعلم يا صديقي فن حل المشكلات بهـدوء ، بل اجعـل نفسـك دائماً صناع السلام ، كما يقول الكتاب " طوبى لصانعي السّلام ، لأنهم أبناء الله يدعون " ( مت 5 : 9 ) . ثالثاً اليقظة :- بمعنـى التوبـة في كـل يـوم ، فالإنسان المسيحي إنسـان يقـظ ومنتبـه ومستعد واليقظة أيضاً تعني السهر والاستعداد ، فمتى تسلل الكسـل إلى حياتك الروحية عليك أن تتدارك نفسك سريعاً ، واعلم أن هذا الكسل هو حـرب من الشيطان ، يجب الانتباه له حتى لا تفسد الخطية حياتك بسبب هذا الكسل . رابعاً الحكمة :- " إن كان أحـد كـم ثـعـوزه حكمـة ، فليطلب مـن اللـه الـذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير ، فسيعطى له " ( يع 1 : 5 ) . فالفضيلة لا تكـون فضـيلة إلا بالحكمـة ، والحكمـة تتجشـد في حيـاة الإنسان بشكل عملي في حسن التصرف ، أو في عرض موضوع ما ، أو في حل مشكلة .الخ . ويحكى في التاريخ ، أن ملكاً في أحد العصور أقام حفلـة كبيرة ، ودعا إليها جميع کبار رجال الدولة ، وكان من ضمن المدعوين البابا البطريرك ، وفي نهاية الحفل ، كان كل فرد من رجال الدولة يقـوم بتقبيـل يـد الملك اليمنى ، فيضع الملك فيها كيساً من الذهب ،على سبيل الهدية . فجاء دور البابا البطريرك ، فقبل صدر الملك ! فتعجب الملك وقال له : لماذا صنعت ذلك ، فقال البابا لأنه يوجد لدينا آية في الإنجيـل تقـول : " قلـب المـلك في يد الرب " ( أم ٢١ : ١ ) . وأنا قبلت يد الرب التي تحرس قلبك يا جلالة الملك ، فارتاح الملك لهذا الكلام ، وأعطى البابا كيسين من الذهب ! وهذه هي الحكمة . فقد كرز بالإنجيل وقدم محبة وتصرف بدبلوماسية . الإنسان المسيحي الحقيقـي عـادة مـا يـكـون إنساناً حكيماً ، لأنـه يـتعلم الحكمة من حياة ربنا يسوع المسيح ، فعندما سألوا السيد المسيح عـن الجزية ، وهل يجب دفعها أم لا ؟! طلب أن يرى عملة ، ونظر إلى وجهيها ، ثـم قـال في حكمة : " لمن هذه الصورة والكتابة ؟ قالوا له : لقيصر ، فقال لهم : أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ( مت ۲۲ : ۲۰ - ۲۱ ). وأيضاً في قصة المرأة السامرية ( يو 4 ) ، تعامل السيد المسيح معها بمنتهى الحكمة ، وبدأ هو في الحديث معها ، وكان يشجعها في حديثها ببعض الكلمات المشجعة ، مثل " حسناً قلت " ، وبذلك قادها إلى التوبة والإيمان . حتى أن زكا وفي مقابلة زكا ، تقابل السيد المسيح معه بمنتهى الأطف تغيّر قلبه وتاب ، وقال : " ها أنا يارب أعطي نصف أموالي للمساكين ، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف " ( لو 19 : 8 ) . وفي قصة الابن الضال ( لو 15 ) ، كان من الممكن أن أبـاه لا يقبـل عودتـه ويطرده ، ولكنه تعامل مع ابنه بحكمة وأخذه في حضنه وقبله . وهكذا يا عزيزي القارئ ، الإنسان المسيحي يظهر رائحة المسيح في حكمته في مواجهة المواقف المختلفة . خامساً ينبوع التعزيات :- الإنسان المسيحي هو ينبوع التعزيات ، فحضـور المسيحي حضـور مـفـرح فعندما يأتي الإنسان المسيحي يأتي معه الفرح والبشاشة . وهكذا حضور الإنسان المسيحي يعكس حضـور اللـه ، بالفرح الذي يملأ قلبه . وأخيراً هذه الفضائل الخمس : المحبة ، السلام ، اليقظة ، الحكمة ، وينبـوع التعزيات . هي مظاهر حضور الله في حياتنا ، وإذا أخذنا الحرف الأول في هـذه الكلمات الخمس ، ستظهر كلمة " مسيحي " .اجلس مع نفسك قليلاً في هدوء ، وراجع حياتك ، ما هي المجالات التي يمكن أن تظهر رائحة المسيح فيها ؟ والآن سأقدم لك يا عزيزي تطبيقاً عملياً عن كيف تكون رائحة المسيح الذكية في تعاملاتك مع الآخرين .في البداية هناك ثلاثة أسئلة هامة يجب أن تضعها أمامك عنـدما تتعامل مع أي شخص : هل تعرف احتياجات الإنسان الأساسية ؟ ... هـل تعـرف أشكال التواصـل مع الآخرين ؟ ... هل تعرف مبادئ التفاعل مع الآخر ؟ السؤال الأول :هل تعرف احتياجات الإنسان الأساسية ؟ إن أي شخص منـا ، مـهـمـا كـان وضعه وسنه وعملـه ومنصبه ودراسته وتكوينه ، له احتياجات ، فما هي هذه الاحتياجات ؟! إن أي إنسـان منـا ، يحتـاج إلى أربعة احتياجات أساسية وهي : الاحتياجـات الجسدية ، والاحتياجـات النفسية والاحتياجـات العقلية ، والاحتياجات الروحية . فلا يوجد شخص لا يحتاج إلى هذه الاحتياجات .. الاحتياجات الجسدية تتلخص في : الأكل والشرب والملبس والنـوم ، وأحياناً تسمى الاحتياجات الجسدية بالاحتياجات البيولوجيـة فكلمـة " بيـو " باللغة اليونانية تعني " حياة " .أما الاحتياجات النفسية ، فهي الاحتياج إلى التقدير والحنـان ، والأمـان والحرية ، وأيضاً يحتاج الإنسان إلى الحب ، وهذه الاحتياجات تبـدأ منذ بدايـة ولادة الطفل ، وتنمو وتتغيـر بنمو الإنسان . وبالنسبة للاحتياجات العقلية ، فهي الاحتياج إلى تغذية العقـل بـالقراءة والاطلاع والمعرفة . أما الاحتياجات الروحية ، فهي الاحتياج المطلق إلى الله ، والاحتياج إلى الغفران ، أي احتياج الإنسان لعمل الله في حياته ، ومعية الله في كل أعماله . ويعد الاحتياج النفسي أحد أهـم هـذه الاحتياجات ، وهـو يـتلخص في الاحتياج للحب ، فيصير الحب هو مفتاح القلوب ، فمتى شعر الإنسان بمحبة الآخرين سيتقبل منهم أي شيء بحب واهتمام . لذلك عندما تعامل الله معنا نحن البشر ، تعامل معنا من منطلق الحب كـمـا يقـول الكتـاب : " لأنّـه هـكـذا أحـب اللـه العـالم حتّى بذل ابنه الوحيـد لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية " ( يو 3 : 16 ) . السؤال الثاني : هل تعرف أشكال التواصل مع الآخرين ؟ التواصل لـه ثلاثـة أشكال ، وهي : الشكل الفردي ، والشكل الجماعي والشكل المتعدد . الشكل الفردي : يكون في الافتقاد ، وليس شـرط أن يتم الافتقاد في المنزل ، فيمكن أن يتم في الكنيسة ، ويسمى : " جلسة حب " ، أو يتم عن طريق التليفون . الشكل الاجتماعي : يكون عن طريق الاجتماعات بكل تنوعاتها ، وتسـمي هذه الاجتماعات " لقاء حب " . أما الشكل الثالث ، فهو الشكل المتعدد : فهو شكل الأنشطة الكنسية على اختلاف أنواعها ، وهذه تسمى " أعمال حب " . تلاحظ هنا تكرار كلمة " حب " ، لأن مفتاح الإنسـان هـو الحـب ، وكلمـة " حب " هي كلمة من حرفين ، وهما : " الحاء " ومعناها " حياة " ، و " الباء " ومعناهـا " بقاء " ، فبقاء الحياة لا يكون إلا بالحب . السؤال الثالث : هل تعرف مبادئ التفاعل مع الآخر ؟! مع بمعنى كيف يتفاعل الإنسان مع أخيه الإنسان ؟! وكيف يكون كلامك الآخر مقبولاً ، وكلمة تفاعل تعني Reaction ، فقد تتقابـل مـع شخص ، ومـن أول لقاء يحدث نوع من القبول بينكما ويبدأ الحوار . مبادئ التفاعل ثلاثة مبادئ :- أولها مبدأ القبول : الإنسان المسيحي يقبل الجميع ، ولا يكـون لـه جماعـة خاصـة به ، فقلبـه مفتوح للجميع . المبدأ الثاني هو مبدأ التفاهم أو الاتصال :- بمعنى أنك تستطيع أن تصل إلى الآخر،إلى قلبه وعقله . المبدأ الثالث هو المبادرة:- فالذي يبادر بالحديث هو الذي يبادر بكسر الحواجز بينه وبين الآخرين ، وبذلك يفتح قنوات عديدة للحديث والتفاعل . المبدأ الرابع هو التشجيع : والتشجيع هـو إحـدى الاحتياجات الأساسية في التفاعـل الإنساني مثـل وهـو أيضـاً أحـد الأسباب الرئيسية لنجاح التفاعـل مع الحب تـمامـاً الآخرين . والآن أود أن أحدثك . عن ثلاث مهارات أساسية للتفاعل مع الآخرين المهارة الأولى : الحوار والمناقشة ، والسؤال والجواب . المهارة الثانية : الاستماع الإيجابي . المهارة الثالثة : القراءة والثقافة والاطلاع . 1ـ المهارة الأولى :- هي مهارة الحوار والمناقشة ، والسؤال والجواب ، بمعنى مهـارة الكلام وترتيبه . وتوجـد لغتـان للكـلام : لغـة لفظية ، ولغة جسدية ، أي بـدون ألفاظ ! الإنسان يتأثر باللغة اللفظية بنسبة 40 % ، أما اللغة الجسدية ، فيتأثر بها بنسبة 60 % ، وهذه اللغة تشمل : نظرات العين ، وطريقة الجلوس وغيرها مـن الحركات والأوضاع التي نعتمد عليها في حديثنا . مهارة الحوار أيضاً يدخل بها فترات الصمت ، بمعنى أنه أثناء حديثك مع شخص آخر ، قد يكون هناك فترة صمت لمدة ثوان ، وإذا قام الشخص الآخـر بالبكاء ، حاول أن تقدر سبب بكائه وحساسية مشاعره . أيضـاً نـبرات الصـوت لـهـا عـامـل هـام ، فـإذا أردت أن تعطي اهتمام في الحديث ، وتشعر مـن أمامـك بأهميتـه عنـدك ، يجـب أن تخفـض نـبرة صـوتك وكأنك تهمس في أذنه ، وهذا يعطي نوع من الخصوصية للآخر ، وكأنك تعطيـه رسالة خاصة ، وأنه قريب إليك جداً وأن هذه الرسالة لا تريد أن يسمعها أحـد غيره ، وحاول أن تجعل جلستك منطقية ومسلسلة ، وأنصحك أن تصلي في قلبك أثناء حديثك مع الآخر ، فصلي قائلاً : " يارب أرشدني وعلمني ماذا أقـول ، اكشـف لي يارب ما يجب أن أتحدث به " . ٢- المهارة الثانية :- هي مهارة الاستماع الإيجابي ، والإنصات الكياني . ... فاسمع بابتسامة واظهـر الاهتمام والتعبير ببعض الكلمات البسيطة ، مثل : شاطر ، أو ماذا فعلت بعد ذلك ؟ ... وهكذا من كلمات ، تبرز مدى الاهتمام .كذلك الاهتمام بلغة الجسد فهي تنقل العديد من الرسائل أبلغ وأقـوى من الكلمات . وعلى قدر استطاعتك ، عليك أن تضع الإنجيـل بينك وبين من تحدثه بالأخص في جلسات الافتقاد ، ويمكنك أن تستعين به في حديثك ، فـروح اللـه تستطيع أن ترشد الإنسان ، وتعطيه حكمة في الموضوع الذي يتحدث فيه . 3 ـ المهارة الثالثة :- وهي مهارة القراءة والثقافة والاطلاع ، فالقراءة توسّع مدارك الإنسان وتنميها ، مثل علم النفس أو علم الشخصيات ، أو كيفية مواجهة المواقف والأزمات . أخيراً يا عزيزي أود أن أهمس في أذنك ، أن اللمسات الشخصية التـي تقدمها للآخرين تصنع فارقاً كبيراً في كيفيـة مـواجهتهم للمواقف . وتذكر أن " رابح النفوس حكيم " ( أم 11 : 30 ) . قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨ عن كتاب خطوات
المزيد
22 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس نوح

نوح "اصنع لنفسك فلكاً" تك 6: 14 مقدمة قد لا يعرف الكثيرون أن قصة نوح كانت من أجمل القصص الكتابية وأعمقها وآثرها وأدناها إلى قلب الواعظ المشهور مودي، وقد لا يعرفون أن مودي لم يكن يمل على الإطلاق من ذكر تأثير هذه القصة عليه في الكثير من مواعظه وأحاديثه وكتاباته، وقد ألف مودي أن يفعل هذا، لأن هذه القصة أراحته وعزته، وكانت بمثابة نقطة التحول في خدمته، في لحظة من أدق وأحرج اللحظات التي مرت به في حياته كلها!!.. كان مودي في ذلك الوقت فاشلاً في الخدمة على أرهب وأدق ما يمكن أن تشتمل عليه كلمة الفشل من معنى، وإذ زاره أحد الأصدقاء ممن يقومون بالتعليم في مدرسة من مدارس الأحد، ورآه مهموماً كئيباً، استفسره عن سر كآبته وحزنه، وإذ أدرك أنه حزين لجدوب خدمته، وعقمها، وعدم إثمارها، أشار عليه أن يعيد تأمله في قصة نوح، قصة ذلك الإنسان الذي ظل يكرز، دون ملل، بين الناس مئة وشعرين عاماً، دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ما خلا بيته!! وإذ قرأ مودي القصة من جديد، هاله الفرق الكبير بين إيمان نوح وشجاعته وصلابته وصبره وكفاحه في مواجهة عالم شرير آثم، وإيمانه هو وصبره وجهاده، في عالم مهما يكن شره، فلا يمكن أن يكون ضريباً للعالم قبل الطوفان!! وفعلت القصة فعلها الرائع العجيب فيه، إذ زودته بإدراك ووعي جديد للخدمة، وارتفعت به من وادي الاتضاع واليأس والمذلة والقنوط الذي هبط إليه، إلى قمة النجاح والتقدم والانتصار والعظمة التي بلغها في خدمته فيما بعد!! ولم يعد من ذلك اليوم، كما ألف أن يقول، يعلق عوده على شجر الصفصاف!! وفي الواقع أن هذه القصة ليست خصبة حية عميقة الأثر في حياة الوعاظ فحسب، إذ تتحدث عن أول واعظ وكارز حدثنا عنه الكتاب، بل لعلها من أمتع وأجمل وأقوى القصص التي تتحدث عن رجل لم يكن من صناع التاريخ فحسب، بل كان هو بذاته نقطة بدء جديدة، في التاريخ، والحياة البشرية!!.. من يكون إذاً هذا الرجل العجيب؟!! وما كرازته؟!! وفلكه؟!! وميثاق الله معه؟!! هذا ما أرجو أن نضعه أمامنا ونحن نتناول شخصيته العظيمة!!. نوح من هو وما طباعه وحياته؟!! لعلنا نستطيع أن ندرس الرجل، ونتفهم طباعه وصفاته وأخلاقه في دعة وحق وجلال، إذا أتيح لنا أن نتتبعه من الداخل إلى الخارج، أو من علاقته مع الله في السريرة والنفس، إلى علاقته مع البيت، إلى علاقته مع المجتمع الخارجي، في العالم الذي يحيط به، ويبدو نوح في هذه جميعها وقد اتسم بالخلال التالية: نوح البار القديس وهنا يبدو قلب الرجل وجوهره وأعماقه، بل هنا يبدو أساس ما فيه من عظمة ورغادة وجمال ومجد: "كان نوح رجلاً باراً.. وسار نوح مع الله" "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل" والبر قبل كل شيء، هو الموقف البريء، غير المدان، من الله، أو في لغة أخرى، هو الموقف السليم، من الوجهة القانونية، إزاء حق الله وبره وعدالته وقداسته، ولكن كيف يتاح للإنسان أن يقف هذا الموقف، والكتاب يشهد: "إنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاعوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد"؟! لا سبيل لنا إلا بالبر النيابي: "بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو بالإيمان بيسوع" وقد كان نوح من المؤمنين بالذبائح التي ترمز إلى هذا الفداء، وهذه الكفارة، وما من شك بأنه درج على تقديم هذه الذبائح كما كان يفعل آدم، وهابيل، وشيث، وأخنوخ، وموسى، وهرون وداود وسائر المؤمنين قبل الصليب!! وما من شك بأنه تعلم من الله كغيره من الأقدمين الذين جاءوا قبل ناموس موسى، الفرق بين الطاهر وغير الطاهر من البهائم والطيور، وكيف تقدم الذبائح من البهائم والطيور الطاهرة دون سواها!! وقد وضح هذا فيما صنعه بعد أن خرج من الفلك إذ بنى مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور وأصعد محرقات على المذبح!!.. والبر أيضاً يعني الحياة المتميزة المستقيمة المنفصلة عن العالم، والمتصلة بالله، وقد كان نوح بهذا المعنى، باراً لدى الله في جيله، إذ لم يعش الحياة التي كان يعيشها معاصروه، وأهل جيله، إذ انفصل عن شرهم ومجونهم وطغيانهم واستبدادهم، وسار مع الله، ولعل سيره مع الله كان بمثابة الامتياز والوقاية والعلاج له من السير مع العالم!! كان نوح هنا أشبه بتلك الشجرة من الصفصاف التي لاحظ البستاني أنها تميل إلى جانب، وحاول عبثاً أن يجعلها مستقيمة منتصبة، وأخيراً ادرك السر، إذ كان هناك مجرى صغير يندفع تحت سطح الأرض، وكانت الشجرة تميل نحوه إذ هو ينبوع ريها ومصدر انتعاشها وقوتها، وما أن عرف البستاني هذا، حتى سارع إلى قفل هذا الينبوع، وتحويله إلى الجانب الآخر المهمل من الشجرة، وما أسرع ما اعتدلت واستقامت بعد ذلك!!.. وليس هناك شيء يحررنا من إغراء العالم ولهوه ومتاعه ومجونه ولذاته سوى الاتصال بالله، والالتصاق به، والسير معه، والحياة والانتعاش والري بالشركة معه!! نوح الحلو الشمائل وما من شك بأن نوحاً كان حلو الشمائل، دمث الأخلاق، رقيق المشاعر، جذاب الشخصية، أطلق عليه أبوه بروح النبوة الاسم "نوح" أي "راحة" إذ قال: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أدينيا من قبل الأرض التي لعنها الرب" وهي لغة إن تحدثت عن شيء، فإنما تكشف لنا الطباع الحلوة الجميلة التي وجد عليها ذلك الإنسان فيما بعد، في علاقته بالناس، على وجه العموم، وعلاقته بأبويه وبيته، على وجه الخصوص، ولعل أفضل مكان يكتشف فيه الإنسان على حقيقته هو بيته، بين أبويه، وأهل منزله، حيث يسقط قناع التكلفة والتظاهر والمواراه، وحيث يبين على الطبيعة دون زيادة أو نقص،.. وقد كان نوح لأبويه بمثابة الابتسامة العذبة في أرض الدموع أو النسمة الرقيقة في الجو اللافح، أو الزهرة العطرة في البرية القاحلة، أو الينبوع الحلو في القفر المجدب!! فكلما ضاق لامك بالتعب والكدح في الأرض وجد في ابنه راحة وعزاء، وكلما اضطرب في علاقته بالأشرار في العالم الذي يحيط فيه، وكادت أنفاسه تختنق، وجد في ابتسامة ابنه وشركته وحلو شمائله ما يغنيه وينسيه عن كل ما في العالم من متاعب!! وكلما أحس الإرهاق يأتيه من هذا الجانب أو ذاك، ونظر إلى ابنه العظيم الغنى بالفضائل إلى جواره ارتقى وارتفع فوق كل تعب وعنت وضيق ومشقة!! وهل هناك في الواقع أفضل من الابن المحب المطيع السامي الأخلاق عندما يتمشى مع أبيه ويشاطره الحياة في ألوانها المختلفة المتعددة!! نوح ذو الشخصية القوية وهذا يعني أن نوحاً لم يكن إنساناً عاطفياً حلو الشمائل فحسب، بل كان أكثر من ذلك إنساناً "كاملاً في أجياله" والكلمة "كاملاً" تفيد توازن الشخصية وتمامها، أي أن شخصيته لم تكن تنمو في جانب على حساب جانب آخر، أو في لغة أخرى، إن عاطفة نوح لم تنم على حساب فكره أو إرادته، والعكس صحيح، أي أن فكره لم يقو على عاطفته مثلاً فيضحى جامداً، أو على إرادته فيمسى متخلفاً!! والكمال هنا كأي كمال بشري كمال نسبي غير مطلق، إذ هو كمال بالنسبة للأجيال التي عاش فيها، وفي الحدود التي يمكن أن يبلغها الإنسان على الأرض، فالصبي عندما يأخذ درجة الكمال في الامتحان، فذلك ليس معناه أنه أصبح مثل معلمه وأستاذه، وأنه ليس في حاجة إلى كمال آخر، بل معناه أنه كامل في حدود سنه واستعداده وإمكانياته وملكاته، وكلما استعت هذه وزادت كلما طولب بالصعود في مدارج الكمال!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول، ونحن في أمن واطمئنان، أن نوحاً كان من أعظم رجال عصره حكمة وأصالة وفكراً، بل لعله كان من أعظم رجال التاريخ ذكاء وصفاء والمعية وهل يمكن أن يكون غير هذا وقد رفعه الله في التاريخ ليكون أبا البشرية كلها من بعد الطوفان؟!! وهل يسمح الله أن يكون مورث البشر إنساناً محدود المدارك ساذج التفكير؟!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أيضاً أنه كان من أعظم رجال الأجيال وأقواهم إرادة وعزماً، بل لعل التاريخ لا يعرف شخصيات كثيرة كانت لها صلابة هذا الرجل وقوة إرادته!! كيف لا وقد كانت له الشجاعة والصلابة والقوة التي تجعله يقف في جانب، والعالم كله في جانب؟! كان عصر نوح عصراً بشعاً مريعاً اتسم بخطايا متعددة، إذ كان عصر الشهوة والمجون، العصر الذي سقط فيه أبناء الله –وهم النسل المنحدر من شيث، وليس الملائكة الذين سقطوا كما يظن البعض –تحت إغراء بنات الناس- وهذا النسل المنحدر من قايين- فاتخذوا لأنفسهم منهن نساء كما قادتهم طبيعتهم الجامحة ورغبتهم المدنسة، وكان عصر التمرد والعصيان، أو العصر الذي لا يسترشد فيه الناس بفكر الله، بل كان لهم: "كل ما اختاروا" العصر الذي قيل فيه: "إن شر الإنسان قد كثر وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" وكان أيضاً عصر الظلم والطغيان، العصر الذي فيه: "امتلأت الأرض ظلماً" و"كان في الأرض طغاة في تلك الأيام" وكان أخيراً عصر التعالي والمجد العالمي، العصر الذي كان يسعى الناس إليه وراء العظمة والسؤدد والمجد ومنهم: "الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم".. في هذا العصر عاش نوح، ولو أنه كان أضعف إرادة، وأسلسل قياداً، لانهزم وانهار أمام ما لا يعد ولا يحصى من التجارب والمشاكل والصعوبات التي كانت تواجهه، ولا شك، كل يوم. لكن الرجل عاش، في وسط هذه الظروف القاسية المروعة، وكأنما يجيب ذات الإجابة التي أجاب بها فيما بعد القديس أثناسيوس عندما قالوا له: "إن العالم كله ضدك" فأجاب: "وأنا ضد العالم".. كان نوح من الأبطال وصناع التاريخ الذين إذ يؤمنون برأي أو عقيدة أو مبدأ يقفون إلى جواره، ويعيشون له، ويموتون في سبيله، حتى ولو لم يقف إلى جوارهم أحد على وجه الإطلاق، لأنهم يؤمنون بغلبة الحق، يوماً ما، طال الزمان أو قصر، وسواء رأوا هم هذه الغلبة، أم رأتها أجيال أخرى تأتي بعدهم!! نوح الصبور وهذه سمة بارزة واضحة في طبيعة هذا الرجل وأخلاقه وكان لابد أن توجد فيه، ويكون عليها، وقد خالف جميع الناس الذين عاصرهم وعاش معهم، ونهج في الحياة بأسلوب يتباعد ويتباين عن أسلوبهمعلى أن صبر الرجل، يتضح بأجلى بيان في كرازته المستمرة لمن عاش بينهم مدة مائة وعشرين عاماً دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ومع ذلك لم ييأس أو يقنط أو يكل في مجهوده معهموهل يمكن أن يوجد بعد ذلك بين الناس من يضارعه في الصبر والاحتمال والأناة؟إذا استثنيناه لا شك ذاك الذي لم يعش بيننا صابراً فحسب، بل حمل في صبره آلام الأجيال وخطاياهم في جسده على خشبة العار، ومن ثم استحق أن ينفرد وحده بلقب ابن الإنسان، وأن يكون المثال الأول في الصبر، حتى ليمكن أن يقال: "والرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح" (2تس 3: 5). نوح وكرازته ونوح هو أول وأقدم كارز حدثنا عنه الكتاب، وهو يمكن أن يدعى، من هذا القبيل، أبا الكازين والوعاظ، وقد ذكر الرسول بطرس في معرض الحديث عنه نوع الكرازة التي كان ينادي بها إذ كان "كارزاً بالبر" ولا أحسب أن هناك كلمات أروع وأجل من كلمات الكسندر هوايت، وهو يتحدث عن كرازته إذ قال ما موجزه: "لقد أعطانا الرسول بطرس إضافة هامة عن حياة نوح بعد الأربعة الأصحاحات التي ذكرها موسى عنه عندما قال: "حفظ نوح ثامناً كارزاً للبر".. وكواعظ يهمني جداً –بطبيعتي كواعظ، ولأسباب أخرى كثيرة- أن أعرف لماذا لم ينجح نوح في خدمته كواعظ؟ألأنه كان يكرز بالبر؟قد يكون هذافبخبرتي أعرف أن البر هو الشيء الوحيد الذي ينفر منه السامعون، فقد يرحب بعض الناس بأنواع أخرى من الوعظ، كالوعظ الجدلي، والوعظ الدفاعي، والوعظ التاريخي والقصصي، والوعظ العقائدي، والوعظ التبشيري، وقد يطلبونها، ولكنهم جميعاً يتفقون في مقاومة ورفض الوعظ بالبر، الوعظ بالتوبة والإصلاح الوعظ بالأخلاق والتصرف الحسن.. أجل فهذه لا يقبلونها أو يرحبون بها، ويوسيفوس يتبع موسى والرسول بطرس إذ يخبرنا أن نوحاً وعظ الناس وألحف في الحديث معهم إلى درجة أنه خاف من أن يقتلوه، وهناك شيء واحد ينبغي تأكيده، وهو أن نوحاً لم يفسد وعظه بحياته كما يفعل الكثيرون من الوعاظ، إذ له هذه الشهادة طوال كرازته ووعظه أنه سار مع الله، إذ قال له الرب وهو يأمره بصنع الفلك: "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل"على أن هوايت يستطرد فيقول أنه ربما كان لحام بن نوح أثر في إفساد رسالة أبيه إذ أنه بحياته وتصرفاته وأعماله كان يضعف من قوة تأثير هذه الرسالة على الآخرين ومع أننا نقر هذا الواعظ العظيم والكاتب الألمعي، إلى حد بعيد، في أنه ليس هناك ما يفسد أثر رسالة الكارز والواعظ أكثر من تصرفات بنيه وبناته وأهل بيته، إلا أننا لا نستطيع أن نبلغ هنا مبلغ الجزم في تحديد الأثر الذي تركه حام في رسالة أبيهوكل ما نستطيع أن نقوله هنا هو أن الناس تختلف باختلاف الأجيال في قبول الرسالة أو رفضها، والحياة الدينية موزعة بين المد والجزر باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة والأجواء التي تعيش فيها البشرية، وليس أدل على ذلك من قول السيد المسيح وهو يوازن بين المدن التي صنعت فيها أكثر قواته والمدن القديمة عندما قال: "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديماً في المسوح والرماد.. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم".. إن مأساة نوح الكارز هو أنه عاش في العصر الذي قال فيه الرب: "لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" نوح وفلكه وهل يمكن أن يذكر نوح دون أن يذكر الفلك أيضاً؟وأليس قصة نوح مرتبطة إلى حد بعيد بقصة ذلك الفلك الذي كان حداً فاصلاً بين عالم قديم وآخر جديدولعله من اللازم أن نقف قليلاً منه لنسمتع إلى ما يمكن أن يعظ به يتحدث!! وأغلب الظن أنه سيكشف لنا عن هذه الحقائق العظيمة التالية: الفلك وعدالة الله وهل هناك في التاريخ ما هو أعلى صوتاً وأقوى عبارة في الحديث عن عدالة الله كفلك نوح؟لقد أمر الله ببناء هذا الفلك لأن الأرض امتلأت ظلماً، ومن ثم كان لابد أن يضع الله نهاية لهذا الظلم، وهو السيد والملك والحاكم والديان العادل، وكان لابد في الوقت ذاته من أن يصنع تفرقة بين البار والأثيم. فلا يهلك البار مع الأثيم، وإذ وجد لديه إنساناً واحداً باراً مع بيته، أمر بصنع الفلك والدخول فيه، ليقيم بذلك حكم العدالة فلا يقال: "أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" وإذا كانت الطبيعة البشرية الناقصة، إذا أوتيت شيئاً من النبل وسمو الخلق، تمقت الظلم، وتكره الطغيان، وتنشد العدالة، وتفخر بها، وإذا كان الإغريق قد رمزوا إلى العدالة بامرأة معصوبة العينين، تمسك بيدها ميزاناً للحكم بالعدل بعيداً عن الهوى والحيز والميل، وإذا كان الرومان قد ألفوا بأن يباهوا بأنهم رجال العدالة في كل التاريخ، حتى لقد وجد بينهم بروتس القاضي الروماني، الذي حكم على ولديه بالإعدام، إذ ثبتت خيانتهما، وعصب عينيه ساعة تنفيذ الحكم لكي لا يرى موتهماوإذا كانت العصور الحديثة تعتبر العدالة أعلى مقياس للرقي والتقدم والحضارة في أمة من الأممفهل يكون الله الكامل العادل بطبيعته أقل إحساساً بها من البشر الناقصين؟ إن عدالة الله هي الملاذ الذي يلجأ إليه كل تعس شقي مظلوم في الأرض، وهو العدالة التي تجعلنا نغني مع فيبر قائلين: إن عدالتك يا رب هي الفراش الذي تهجع إليه قلوبنا القلقة، حيث تنام متاعبنا، وتنتهي ضيقاتنا!! الفلك وقداسة الله وقد تحدث الفلك أيضاً عن قداسة الله، إذ أنه تعالى قدوس يكره الخطية، ولا يتصورها، وإذا كانت السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، فهل يعقل أن يسكت على الأرض وقد امتلأت بالفساد أمام عينيه؟! لقد كانت الأرض أشبه بالثوب المتسخ، أو الوعاء القذر، الذي لابد أن يغسل وينظف؟! وقد غسلها الله بالطوفان، ليبدأ مع نوح وبيته من جديد!!.. وإذا كان داود دينس الرجل الذي أوتي شيئاً من القداسة –في قصة قلب مدلوثيان لسرولترسكوف- قد حزت في أعماق قلبه خطية ابنته، وكان يتمنى في باديء الأمر أن تظهر بريئة، ولكن لما ثبتت إدانتها اكتسى وجهه بالغضب، وظهر فيه الرجل الإلهي المقدس، فقال لأختها: "لقد ذهبت عنا، لأنها ليست منا، فلتذهب إلى حال سبيلها، وليعمل الرب معها ما يشاء!! كانت ابنة الصلاة، وكانت لا تستحق أن تطرد من ذكرانا!! ولكن لا تدعي من الآن اسمها يجري على لسانك بيني وبينك" إذا كان داود دينس يقف هذا الموقف من الخطية مع ابنته، فهل يكون موقف الله القدوس من الأرض الفاسدة أضعف وأقل؟!! حاشا وكلا!! الفلك ورحمة الله وقد كان الفلك أيضاً إعلاناً عن رحمة الله، لا بالنسبة لنوح فحسب بل بالنسبة أيضاً للذين هلكوا، كيف لا وقد أبى الله أن يباغت الناس بالطوفان بل أمهلهم مئة وعشرين سنة صنع في أثنائها الفلك، وكان كل مسمار فيه، وكل قطعة خشب، تنادي الناس وتحذرهم من الغضب الرهيب الآتي؟! وهل يمكن أن يجد المرء عذراً للعدد الكبير الهائل ممن اشتركوا في بنيانه وصنعه، من عمال وصناع ونجارين وحدادين وغيرهم، ممن كان من المحال أن يصنع الفلك بدونهم؟!! أليس هؤلاء مثالاً لمن يعيشون في جو الخدمة الدينية، أو يقومون بحكم المهنة والعمل بخدمات كثيرة في الكنيسة، والمساعي، ومدارس الأحد، وجمعيات الشبان، والشابات، والنشر، والإذاعة وغيرها من أوجه النشاط الديني، ولكنهم يطرحون آخر الأمر في جهنم النار، حيث دودهم لا يموت، والنار لا تطفأ، ولسان حالهم يقول "ويحنا وبئساً لنا أبعد ما كرزنا للآخرين نصير نحن مرفوضين؟!!". الفلك ومحبة الله على أن الفلك إن تحدث آخر الأمر فإنما يتحدث قبل كل شيء، وبعد كل شيء عن محبة الله العميقة العجيبة غير المتناهية للناس!! كيف لا والفلك ليس إلا رمزاً للخلاص المجاني الكامل المجيد الذي لنا في المسيح يسوع!! لقد صنع الفلك بترتيب الله وحكمته دون أن يكون وليد فكر الإنسان ورأيه ومشورته وتدبيره، وهكذا كان الخلاص منبعثاً من أعماق المشورة الإلهية الأزلية من دون فكر أو شركة للناس!! يضاف إلى هذا أن الخلاص من الطفوان لم يكن إلا بشيء واحد لا غير، ألا وهو الاتجاء إلى الفلك، والدخول فيه، والاحتماء به، وهكذا خلاصنا الأبدي لا يمكن أن يكون سوى بالاندماج في المسيح، فلكنا العظيم، والاحتماء به والاختباء في جنبه المطعون!! وكما احتمل الفلك جميع التيارات واللجج والأمواج المتلاطمة التي كانت تصفعه، وتحيط به من هنا ومن هناك، هكذا احتمل المسيح يوم الصليب جميع تيارات الله ولججه التي طمت عليه!! فإذا كان نوح قد غني، ولا شك، هو وأولاده وبيته، وهم داخل الفلك، لرحمة الله وجوده ومحبته التي أعدت لهم هذا الخلاص العظيم!! أفلا يجمل بنا أن نغني في المسيح لرحمة الله ومحبته الأبدية التي لا تدرك أو توصف!! نوح وميثاق الله معه وآخر ما نختم به الحديث عن نوح هو ذلك الميثاق الذي أقامه الله معه ومع نسله إلى الأبد عندما قال: "وضعت قوسي في السحاب. فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض" وقد دعا الكسندر سملي هذه القوس "مبشر الله في الجو" وفي الواقع أنها إن تحدثت عن شيء فإنما تتحدث أولاً قبل كل شيء عن وجود الله ولطفه وحنانه ورحمته.. خرج نوح من الفلك، وتأمل هنا وهناك، فإذا به يرى من المناظر ما يملأه رعباً وخوفاً وهلعاً، لقد أبصر الدنيا حوله خراباً يباباً، أبصر الله وقد قضى على كل حي!! أين الرجال الذين رآهم مراراً؟!! أين المدن المرتفعة أين الجمال والحياة البشرية العامرة الزاخرة؟!! لقد انقضت هذه كلها، وأضحت أثراً بعد عين، وانتاب نوح، ولا شك، الإحساس الغامر الرهيب بالخوف والقلق والاضطراب!! ألا يمكن أن يتكرر الطوفان مرة أخرى؟!! وألا يمكن أن تحدث هذه المأساة بين بنيه وأحفاده في المستقبل القريب أو البعيد؟!! وصلى نوح، كما يقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي، وتضرع إلى الله، ألا يحدث مثل هذا الطوفان مرة أخرى؟!! وأجاب الله على هذه الصلاة "بأن رفع عينيه إلى فوق، وأراه قوس قزح الجميلة المنظر، وكأنما يقول له لا تفزع يا نوح أو تخف، فأنا لست الإله المنتقم القاسي الرهيب الذي تظنه، بل أنا الآب المحب العطوف الجواد؟!! تأمل قوس قزح هذه، وهل تجدها تشابه قوس الحرب والقتال؟!! كلا فإنك لن تجد في هذه القوس سهماً، بل ستجد القوس نفسها، وقد تجردت من الوتر، وانحنت إلى أسفل لتمس الأرض مساً رقيقاً خفيفاً!!.. وهكذا كان عهد الله وميثاقه مع نوح، عهد الصداقة والمودة والرفق والجود والمحبة التي لا يمكن أن تقهرها خطية أو إثم!! على أن قوس قزح تتحدث مع ذلك عن كمال الله وقداسته، إذ أن هذه القوس مكونة من سبعة ألوان، والسبعة تكون مجتمعة معاً، اللون الأبيض الذي يرمز إلى القداسة والكمال، أو في لغة أخرى أن كل صفات الله تعبر مجتمعة معاً عن قداسته ونقاوته الكلية وأنه مع محبته للخاطيء، ورحمته له، لا يمكن أن يشق الطريق إليه إلا بطلب القداسة والسعي ورائها: "القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" عب 12: 14.وآخر الكل أن هذه القوس تتحدث عن جمال الله وحلاوة الشركة معه؟!! وهل رأيت مثل قوس القزح في الجمال؟!! وهل أدركت أن الميثاق مع الله يأسر القلب، ويملك اللب، ويخلب المشاعر، ويرفع النفس إلى لذة لا توصف أو تداني؟!! وهل علمت أن الحياة مع المسيح لها متعة دونها كل متع الحياة ومسراتها وملاهيها ومباهجها؟! وهل تبينت أن الوجود كله يرقص ويغني أمام عيني من عرف المسيح وعرف منه أو كما قال يوناثان ادواردس بعد تجديده: "لقد بدا جلال الله البارع أمامي في كل شيء، في الشمس، في القمر، في النجوم، في الحياة، في الطبيعة كلها،.. لقد خلق ابن الله العالم لهذه الغاية: أن يظهر من ورائه بصورة ما عظمته ومجده، فعندما نبتهج بالزهر المونق والنسيم الرقيق يمكننا أن نكتشف إحسان المسيح!! وعندما نتأمل الورود العطرة وزنابق الحقل البيضاء يمكننا أن نتبين محبته ونقاوته، وهكذا الأشجار وأغاني العصافير ليست إلا إعلاناً عن فرحة وجوده، والأنهار وتموجات المجاري ليست إلا مظهراً لوقع أقدام نعمته وجماله. وحين نلحظ لمعان الشمس والشفق الذهبي أو قوس قزح الجميلة يمكننا أن نرى جلاله وطيبته، ولهذا دعى المسيح شمس البر، وكوكب الصبح، ونرجس شارون، وسوسنة الأودية!!".
المزيد
21 سبتمبر 2022

كان يجول يصنع خيرًا

موضوعنا اليوم عن عبارة قيلت عن الرب إنه "كان يجول يصنع خيرًا"، ونص الآية هو: "الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا" (سفر أعمال الرسل 10: 38).إلهنا المحب الذي يحب البشر كان "يجول يصنع خيرًا" وهذا ليس في العهد الجديد فقط بل في العهد القديم أيضًا. الآن وكل أوان. فطريقة الله في العمل هي أن يجول يصنع خيرًا.أي الله دائمًا يسير ليفتقد الناس المتعبين ليريحهم. ويفتقد المرضى ليشفيهم. مريض بركة حسدا: كان الله يسير في أحد المرات، ووجد إنسان مريض مقعد منذ 38 سنة. 38 سنة مقعد وجالس بجوار البِركة! فتحنن الله عليه وقال له "احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ" (إنجيل مرقس 2: 11؛ إنجيل يوحنا 5: 8). المولود أعمى: رأى رجل مولود أعمى فشفاه. وبعد أن شفاه بوقت قليل وجد أن اليهود أخرجوه من المجمع فمر عليه خارج المجمع وافتقده وأعطاه الإيمان.كان يسوع يتحنن على المرضى ويشفيهم. فهو يجول يصنع خيرًا.طريقة ربنا أنه يجول يصنع خيرًا ويريح الناس."ينادي للمأسورين بالعتق وللمسبيين بالإطلاق"، ونص الآية هو: "لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ" (سفر إشعياء 61: 1). عطف الرب وتحننه على الخطاه: الله افتقد العشارين: كان الرب يسوع سائرًا في مكان الجباية ووجد عشار فقال له تعالى اتبعني، بينما العشارين كانوا مكروهين. مكروهين عند المجتمع ولكنهم غير مكروهين عند الله.مرَّ الرب على زكا رئيس العشارين وقال له: "أنا اليوم أبيت في بيتك". وتعجب زكا من هذا جدًا وكذلك اليهود. كيف يبيت يسوع عند شخص خاطئ.لم يدركوا الفرق بين الإنسان العادي بضعفه البشري عندما يبيت مع إنسان خاطئ فيضار. وبين المسيح الذي عندما يبيت عند إنسان خاطئ ينقذه من خطيئته.لذلك قال له يسوع: "اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت"، ونص الآية هو: "الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ" (إنجيل لوقا 19: 9).إلهنا يجول يصنع خيرًا مع الكل.جلس مع العشارين وكان يأكل معهم. وقد انتقده اليهود في هذا وقالوا له: "كيف تجلس مع الخطاة وكيف تأكل معهم"، ونص الآية هو: "لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"، "مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"، "لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ"؟! فقال لهم: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى" (إنجيل متى 9: 12؛ إنجيل مرقس 2: 17؛ إنجيل لوقا 5: 31) فالمرضى يحتاجون إلى من يجلس معهم.القديسين لا يحتاجون التوبة ولكن الخطاة يحتاجون إليها. هل يتمثل كل رجال الدين بيسوع؟ بعض رجال الدين إذا وجد شخص خاطئ يرفضوه وقد يطردوه. وكأنهم يقولون له: "أنت لا تصلح أن تكون ابن لله".بينما الله لا يفعل هذا مع الخطاة. الله يأخذ المطرودين ويصلحهم.نجد الله يقول حزقيال 34 "أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَطْلُبُ الضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ" (سفر حزقيال 34: 15، 16). فهذه هي طريقة الله.أحيانًا كبرياء القلب عند بعض رجال الدين تجعلهم يرتفعون عن مستوى الخطاة ويرفضوهم.أما الله فبقلبه الحنون الواسع الطيب لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا. هو الداعي الكل إلى الخلاص. طريقة الله يجول يصنع خيرًا. المرأة السامرية: مر الله على السامرية، وهذه السامرية كانت غارقة في الشر، فقد عاشت مع 5 رجال والذي كان معها ليس زوجها. ولكن السيد المسيح اقترب إليها وكلمها. واستطاع بكلماته الرقيقة الطيبة أن يجذبها للتوبة دون أن يحرجها. لدرجة أنها آمنت وذهبت لتدعو أهل بلدها للإيمان أيضًا.فلأنه يجول يصنع خيرًا. في جولانه قابل إمرأة سامرية فخلصها. المرأة الخاطئة: في جولانه مرَّ بامرأة مضبوطة في ذات الفعل، فأراد أيضًا أن يخلصها. وقال للناس: "من كان منكم بلا خطية فليرجمها أولًا بحجر"، ونص الآية هو: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ" (إنجيل يوحنا 8: 7). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وظل يكشف لكل واحد خطيئته إلى أن انسحبوا واحد وراء الآخر. وقال لها: "أين الذين أدانوك؟ لم يبق منهم أحد، وأنا أيضًا لا أدينك. اذهبي ولا تعودي تخطئي. عطف الرب وتحننه على الحزانى مثل: أرملة نايين: السيد المسيح كان يعطف ليس فقط على الخطاة بل على الكل.في أحد المرات وهو سائر يجول يصنع خيرًا وجد امرأة أرملة من مدينة نايين تبكي لأن ابنها الوحيد مات. فلم يستطع أن يتحمل بكائها. فأقام هذا الشاب ودفعه إلى أمه وقال لها لا تبكي. مريم ومرثا: ثم مر في بيت عنيا ووجد مريم ومرثا يبكون على أخيهم لعازر، الذي مات منذ 4 أيام. فطلب منهم أن يذهبوا به إلى قبره. وذهب معهم حيث دُفن لعازر وقال له: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا" (إنجيل يوحنا 11: 43).السيد المسيح يجول يمسح دموع الحزانى. ويزيل ضيق الناس. محبة الله افتقدت حتى المقاومين مثل: شاول الطرسوسي: شاول الطرسوسي كان من الذين قاوموا الرب ووقفوا ضد المسيحية، ويقول الكتاب عن شاول الطرسوسي أنه كان يجر رجالًا ونساءًا إلى السجن، بخطابات يأخدها من رؤساء الكهنة.شاول هذا المسيح مر عليه وهو في طريقه لدمشق، وقال له يا شاول لماذا تضطهدني. كان يصالحه. وليس فقط يصالحه، بل يجعله رسول. كان الله يرى فيه طاقات قوية يمكن أن يستخدمها في الخير.كان يجول يصنع خيرًا. الله يجول يصنع خيرًا من بدء الخليقة: خلاص آدم وبنيه: الله كان يجول يصنع خيرًا منذ القدم، حتى من أيام آدم.آدم أخطأ وخاف من الله وكان غير قادر على مواجهة الله.ولكن الله لم يتركه هكذا، بل ذهب إليه وبدأ بمصالحته وبدأ يتفاهم معه ومع حواء. ولم يتفاهم معهم فقط بل أعطاهم وعد بالخلاص. وكان بذلك يقول لهما "إن كانت الحية ضحكت عليكما فإن نسل المرأة سيسحق رأس الحية" (عن سفر التكوين 3: 15) الله يخلص ما قد هلك: الله لا ييأس من أحد. يجول يصنع خيرًا حتى مع الميئوس منهم في نظر الآخرين.ولذلك قال: "ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (إنجيل متى 18: 11؛ إنجيل لوقا 19: 10). الله يسعى إليك حتى دون أن تطلب. يسعى إليك دون أن تطلب. تقول له أنا يا رب خاطي وواقع ولا أستطيع أن أقوم. فيقول لك أنا أقيمك. أنا أرسل إليك وسائل نعمة. ووسائل النعمة هذه تقيمك.الله قادر على كل شيء ولا يعثر عليه أمر. خلاص لوط: لوط اشتهى الأرض المعشبة وترك إبراهيم والمذبح، وسكن وسط الأشرار في سدوم. ولكن الله لم يتركه بل جاء ليطلب ما قد هلك. وأنقذه الله مرتين. مرة عندما سُبيَ أهل سدوم، حيث أرسل له إبراهيم ليحارب عنهم وينقذهم. ومرة عندما أُحرقت سدوم، حيث أرسل الله ملاكين أخذوا لوط وأسرته وخرجوا بهم من المدينة.الله يطلب ويخلص ما قد هلك. ليس فقط من قد سقط، بل من قد هلك. الله يدعو الكل إلى الخلاص. حتى الذي لا يقبل الله، نجد الله يصبر عليه لكي يخلصه.هناك شخص لا يرجع عن خطيئته من أول محاولة ولكنه قد يعود بعد عاشر محاولة أو حتى المحاولة العشرين.أخطر ما يقع فيه الآباء الكهنة أن ييأسوا من خلاص الخطاه. فيقولون عن شخص ما: "هذا الإنسان شرير جدًا لا ينفع معه وعظ أو نصح أو إرشاد".أحد هؤلاء الآباء طرد إنسان خاطئ وكانت حجته "ابن الهلاك للهلاك يدعى" عن الآية القائلة: "وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ" (إنجيل يوحنا 17: 12). من قال هذا؟! فالله داعي الكل إلى الخلاص. ونصليها كل يوم. الله يجول يصنع خيرًا حتى مع المظلومين فالكتاب يقول:"الرب يحكم للمظلومين"، ونص الآية هو: "الْمُجْرِي حُكْمًا لِلْمَظْلُومِينَ" (سفر المزامير 146: 7). الرب يحكم للمظلومين: يوسف الصديق: من أمثلة هؤلاء المظلومين يوسف الصديق.لقد باعه إخوته كعبد وظلمته امرأة فوطيفار، وادعت عليه شرًا. وظلمه فوطيفار نفسه ووضعه في السجن. لكن الله لم يتركه، الله لم يحكم له بالخروج من السجن فقط بل الله حكم أن يكون يوسف الصديق الرجل الثاني في المملكة.وجعل الله كل الذين ظلموا يوسف الصديق يأتون ويسجدون عند قدميه. فالكتاب ذكر كيف أن إخوته الذين ظلموه جاءوا إليه وسجدوا عند قدميه. لم يكتب الكتاب عن فوطيفار أنه جاء وسجد عند قدمي يوسف، ولكن من المؤكد أن هذا حدث؛ ففي الغالب جاء فوطيفار أيضًا وسجد عند قدمي يوسف الصديق. الله يعضد الضعفاء والخائفين والذين في ضيقة: الله عجيب في أنه يجول يصنع خيرًا. يعمل في الناس بروحه القدوس ويعمل في الناس بنعمته ويعمل في الناس بملائكته ويصنع مع كل أحد خيرًا. داود النبي: نجد داود النبي يقول: "دفعت لأسقط والرب عضدني"، ونص المزمور هو: "دَحَرْتَنِي دُحُورًا لأَسْقُطَ، أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي" (سفر المزامير 118: 13) الله يقف بجوار من هم في ضيقة.أنا سأقول لكم عن واحد كان في ضيقة. هذا الواحد هو عصفور وقع في فخ الصيادين. ماذا يفعل العصفور أمام فخ الصيادين؟! الله يتدخل فينكسر الفخ ونحن نجونا، ونص الآية هو: "انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ، وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا" (سفر المزامير 124: 7). هذا هو عمل الله. الله عضد يعقوب عندما كان خائفًا: يعقوب أب الآباء كان هارب من أخيه عيسو الذي قال "أقوم وأقتل أخي"، ونص الآية هو: "فَأَقْتُلُ يَعْقُوبَ أَخِي" (سفر التكوين 27: 41).وعندما كان يعقوب هارب وتعبان، ولا يعرف حل لمشكلته، ظهر له الله في السلم السمائي وقال له: لا تخف "وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ" (سفر التكوين 28: 15). فطمأنه. الله عضد يوحنا الحبيب في المنفى: كان القديس يوحنا الحبيب في ضيقة حيث كان في المنفي في جزيرة بطمس وكان متعب. فظهر له الرب برؤى عجيبة وقال له: أنا "الْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 1: 18). ليس هذا فقط بل أظهر له السماء مفتوحة ورأى عرش الله.من كان يفكر أن يوحنا الحبيب وهو في أرض السبي يرى السماء مفتوحة ويرى عرش الله والملائكة الذين حوله ويعطيه الله رسائل. كل هذا في جزيرة بطمس مكان المنفى.لكن الله مستعد أن يعمل مع الكل، يجول ويصنع خيرًا. الله عضد التلاميذ الخائفين في العلية: المسيح وجد التلاميذ الذين هربوا وقت الصلب وكانوا خائفين ومتعبين ومختفيين في العلية.فدخل وافتقدهم وقال لهم"أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا" (إنجيل متى 14: 27؛ إنجيل مرقس 6: 50؛ إنجيل يوحنا 6: 20).وظل يفتقدهم 40 يوم إلى أن أرجعهم إليه. الله يفتقد حتى الأرض الخربة الخاوية: الله لم ينقذ العصفور الضعيف فقط من الفخ. بل الله افتقد الأرض الخربة الخاوية الله ذهب للأرض الخربة الخاوية وقال: "لِيَكُنْ نُورٌ، فَكَانَ نُورٌ، وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ" (سفر التكوين 1: 3، 4). والله يفتقد أيضًا نفوسنا الخربة: والأرض الخربة الخاوية، التي أشرق فيها الله النور من الممكن أن تقال على كل نفس.كل نفس خربة وخاوية من الفضيلة الله يقول لها ليكن نور فيصير نور ويرى الله النور أنه حسن.الله الذي يجول يصنع خيرًا مر على كل المتعبين. الله قد يخلصك بزيارات النعمة وقد يستخدم الإنذارات والتجارب: من الممكن أن يعمل الله مع الخاطئ بزيارات النعمة فتعمل فيه كلمة الله وتقربه من الله.ولكن هناك البعض لا يفيقوا إلا بالتجارب. البعض لا تحركه الكلمة الطيبة. ولكن تحركه صفعة على وجهه. فقد يلجأ الله للتجارب لخلاص البعض ولكن لا يستخدم هذا مع الكل وليس في كل الأوقات وقد يفيق الإنسان بإنذار مثل أهل نينوى، قال لهم إن لم تتوبوا ستهلك المدينة فرجعوا وتابوا. لماذا ؟ نفع معهم الإنذار. الله يجول يصنع خيرًا بأية الطرق. بالطريقة التي تصلح للشخص. الله لم يترك أوغسطينوس: أوغسطينوس كان غارقًا في الفساد. ليس الفساد فقط من جهة أخلاقه. إنما فساد من جهة العقيدة. حيث كان بعيدًا عن الله كل البعد. وأمه ظلت تبكي عليه. ولكن الذي يجول يصنع خيرًا جال وأمسك بأغسطينوس وأنقذه مما هو فيه. أرسل إليه القديس أمبروسيوس أسقف ميلان فأقنعه بكلامه، وأرسل إليه سيرة الأنبا أنطونيوس الراهب فتأثر بها. وأخيرًا تاب واعتمد وعمره 30 سنة. وقال لله "تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الذي لا ينطق به. كنت معي ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك".ظل الله وراء أوغسطينس إلى أن صالحه وأصلحه وأصلح به كثيرين. الله لم يترك ماريا القبطية وبيلاجيا وموسى الأسود: الله لا يترك أحد. لم يترك ماريا القبطية التي كانت في منتهى الفساد. ولم يترك بيلاجيا. ولم يترك موسى الأسود. هل تخاف من موسى الأسود؟ أنا سآخذه وأجعله مثال للوداعة والخدمة.الرب عجيب فهو يجول يصنع خيرًا. فلنتذكر إحسانات الرب لنا: ليت كل واحد فيكم يقرأ المزمور"بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ" (سفر المزامير 103: 2) تذكر حجم الخير الذي عمله الله في حياتك. فمشكلتنا أننا ننسى الأمور الطيبة ولا نذكر إلا الأمور المتعبة.لا يوجد شك أن الله يجول يصنع خيرًا. جال على بيتك وعلى قلبك وعلى حياتك وصنع فيها خيرًا لا يجب أن تنساه. الله لم يترك الخصي الحبشي: كان الخصي الحبشي سائرًا بمركبته فقال الرب لفيلبس سير وراء هذه المركبة. وظل الرب وراءه حتى قاده للخلاص وعمده.الله قد يعمل معك خير مباشر وقد يرسل لك شخص يقودك للخلاص.نشكر الله الذي يفعل معنا خيرًا كل حين. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
20 سبتمبر 2022

عن القدّيس يوحنا المعمدان

القديس يوحنّا المعمدان الذي نحتفل بعيد استشهاده في بداية السنّة القبطيّة هو شخصيّة فريدة في التاريخ كان هو حلقة الوصل بين العهد القديم والجديد، وكان هو الملاك الذي هيَّأ الطريق أمام الرب، وأعدّ القلوب بالتوبة لكي تستقبل المسيّا.هو النبيّ ابن النبيّ والكاهن ابن الكاهن الذي شهد للحقّ وتمّم رسالته العظيمة في زمن قصير جدًّا.. وعندما ظهر المسيح العريس أعلن يوحنا للجميع أنّ فرحَهُ قد كمل ورسالته على الأرض قد أوشكت على نهايتها لم يصنع يوحنّا آية واحدة، ولكنّه كان هو نفسه أعظم آية، وكانت كلماته الناريّة المنطلقة من قاعدة حياته المقدّسة تنفذ بقوّة إلى القلوب لتبكِّتها وتنيرها وتقودها إلى أحضان الله المفتوحة للتائبين لقد اخترت بنعمة المسيح بعض مقتطفات بديعة من تعليقات آباء الكنيسة حول فصل ميلاد القديس يوحنّا (لو1: 57: 80) وقُمت بترجمتها، مع ملاحظة أنّ الكلمات التي بين الأقواس قد أضفتُها لتوضيح المعنى. 1- متقابلات بين القديس يوحنا المعمدان والرب يسوع العجوز أليصابات ولدت آخِر الأنبياء، ومريم الفتاة الصغيرة ولدت ربّ الملائكة. ابنة هرون وَلَدَتْ الصوت المنادي في البرّيّة، ولكن ابنة داود وَلَدَتْ القوي إله كلّ الأرض. العاقر وَلَدَتْ الذي يحلّ الخطايا (ككاهن)، ولكن العذراء وَلَدَتْ الذي يمحو الخطايا. أليصابات وَلَدَتْ الذي كان يصالح الناس (على الله) بالتوبة، ولكن مريم وَلَدَتْ الذي طهّر كلّ الأرض من النجاسة. العجوز أشعلت المصباح الذي هو يوحنّا (يو5: 35) في بيت يعقوب أبيه، بينما الصغيرة قدّمت شمس البرّ لكلّ الأمم (ملا4: 2). الملاك بشّر زكريّا، لكي يُعلِن المذبوح (يقصِد يوحنّا بواسطة هيرودس) عن المصلوب.. والمكروه (مِن هيرودس) يُخبِر عن المحسود (من اليهود الذين أسلموه للصلبِ حسدًا). الذي سيعمِّد بالمياه يُعلِن عن الذي سيعمِّد بالنار والروح القدس (مت3: 11). النور الذي لم يكُن مَخْفِيًّا، يُعلِن عن شمس البِرّ. الذي امتلأ من الروح، يُنادي بالذي يعطي الروح (القُدُس). الكاهن الضارب بالبوق، يبشِّر بالذي سيأتي في نهاية الأيّام على صوت البوق. الصوت ينادي بالكلمة.. والذي رأى الحمامة يبشِّر بالذي استقرّت عليه الحمامة.. مثل البَرق الذي يسبق الرعد.القديس مار أفرام السرياني (القرن الرابع) 2- الروح القدس يفتح آذان يوحنا قد يَعتبره البعض أمرًا سخيفًا ومُضحِكًا أن يتحدّث زكريّا إلى طِفل عمرة ثمانية أيّام، ولكن إذا تمسّكنا بالحقيقة فسوف نفهم أنّ الطفل الذي سمع سلام مريم وهو جنين قبل ميلاده، كان يستطيع أن يسمع صوت أبيه (زكريّا). النبيّ (زكريّا) كان يعلم أنّ أي نبي (يقصد يوحنّا) يكون له آذان أخرى مفتوحة لروح الله، بصرف النظر عن عمره الجسدي. فالذي كان لديه القابليّة أن يبتهج (وهو جنين) كان له القدرة أيضًا على الفهم.القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان (القرن الرابع) القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء شيكاغو
المزيد
19 سبتمبر 2022

الاستشهاد انتصار على الذات

و من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه . .. ، مر ٨ : ٣٥ فبدء الطريق هو الكفر بالذات ، هذه الذات التي طالما وقفت أمام الكثيرين في لحظة الاستشهاد فأنكروا المسيح ... + أتعرفين أيتها الذات ما سر فتور الحب بين الإخوة في البيت الواحد ، في الكنيسة الواحدة ... !! ؟ السبب أنك بدل أن تفكرى في خلاص ذاتك ، فكرت في غيرك ، وبدل أن تفكري في خطيتك اهتممت بالحديث عن خطايا الآخرين . .. آه يا ذاتى لو فكرت لحظة في طاعة المسيح وصلبت ذاتك و مع المسيح صلبت ، لعم السلام في حياتك وأسرتك وكنيستك . آه یا ذاتی لو عرفت سر انزعاجك في الخدمة الواحدة ، في الكنيسة الواحدة ، في أحوال الكنيسة العامة ـ لعرفت السر أنك نسيت نفسك فتتمسكين برأيك حتى لو أدى ذلك لتحطيم الكنيسة ، لماذا كثرة الطوائف في القرن العشرين ، لماذا النقدالشديدلوصا يا يسوع والاندفاع نحو الإنجيل الاجتماعي ... السر في كل هذا هو ذاتي . ٤- المسيحية استشهاد في طاعة الوصية كل منا اليوم ينفذ الوصية لمدة معينة حسب ما يرى على قدر قامته الروحية وآرائه الشخصية ، والفرق بيننا وبين آبائنا القديسين أنهم نفذوا الوصية حتى الاستشهاد ... أي حتى النهاية ـ أما نحن اليوم فنخاف من الوصية ونحللها ، ونجد لها أكثر من مبرر للهروب منها ، الكتاب المقدس يعرض الوصية إلى الاستشهاد كما يأتي : - المحبة ... إلى الميل الثاني والخد الأيسر . .. الرحمة:- إلى إعطاء الثوب الواحد بعد الرداء . مثل ذلك القديس الذي باع كتابه المقدس الواحد العالى عليه ليعطى المحتاجين ولما سألوه لماذا هذا ـ قال إن الإنجيل هو الذي أمرنى لابيع كتابي . . انكار الذات ... إلى الهروب من كل مجد في العالم - حتى داخل الكنيسة ، إلى الاختفاء الكامل وحب المسكنة مثل مكسيموس و دوماديوس وأرسانيوس . لقد فرح أبو مقار عندما اتهموه ظلمـا ـ وعندما أرادوا رد الكرامة له هرب منها بسرعة خوفاً من وقوعه في محبة المديح .إن طاعة وصية الإنجيل لهذا الحد تدفعنا إلى : محبة طاعة المسيح إلى الاستشهاد : الإستشهاد قبل كل شيء حب ، واندفاع في الحب حتى الدم . هو حب في تنفيذ وصية المسيح محبة في المسيح , الذي يحبني يحفظ وصایای ، . ربى يسوع . . سأحب كل الناس محبة في وصية إنجيلك لأجل خاطــــرك ربى يسوع سأكره الخطية وأقاومها بنعمتك حسب وصيتك لأجل خاطرك . سأضع كل ما لي في خدمة عروسك , سأصلى كثيراً فيها ومن أجلها حبا فيك . سأتوب وأبدأ من جديد محبة فيك وفي الحياة المقدسة معك . سازهد في العالم وأدوسه بقدمى لأجل حبك ـ وسأصوم معبراً عن زهدي في العالم حبا فيك . إلهي : إنى أتكلم كثيراً وأنت تعلم عجزي ، فأنا عاجز في محبتي لك - عاجز في شكري لك . ماذا أقدم لك من أجل كثرة حسناتك ... أريد أن أقدم ذاتي حبا فيك أريد أن أحمل سمات الرب يسوع في حياتي . هل لي أن أقول مع القديس أغناطيوس إنى سوف لا أشبع من حبك إلا إذا سفك دمى من أجل خاطرك . أيتها الأم العذراء التي يجوز في قلبها سيف صلى عنا ، أيها الشهداء ولباس الصليب و المجاهدين صلوا عنا ربى يسوع أقبل طلباتهم وأعنا آمين . المتنيح القمص بيشوى كامل كاهن كنيسة مارجرجس اسبورتنج عن كتاب المسيحية هى روح الاستشهاد
المزيد
18 سبتمبر 2022

قوة الحق عند القديس يوحنا المعمدان

فِى بِداية السنة القبطيّة الكنيسة تُعيّد بِتذكار القديس العظيم يوحنا المعمدان ، لِذلك قصدت الكنيسة أنّ أول إِسبوع مِن السنة القبطيّة يُقرأ فيهِ فصل مِن إِنجيل مُعلّمنا لوقا الّذى يقول " أنّهُ ليس أحد فِى مواليد النساء أعظم مِن يوحنا المعمدان " 0 القديس يوحنا المعمدان تجمّع فِى شخصيتهُ أمور كثيرة : - 1- الحُب لله 2- التقوى وحياة البِر 3- حياة الخفاء 4- حياة الوحدة والنُسك ومع هذا كُلّهُ إِلاّ أنّ القديس يوحنا يتميّز بأمور عديدة أُخرى ، سوف نأخُذ منها حاجة واحدة فقط لأنّ الكلام عن يوحنا المعمدان كثير وجميل ، مِن الحاجات التّى تجذِب الإِنتباه فِى شخصيّة يوحنا المعمدان هى :0 قوة الحق :- القديس يوحنا المعمدان قد لا يطيق أن يرى الشر وكان يُوبّخ المُتهاونين بِقوّة ، وكان يُنادىِ بالتوبة للجميع ، وكان صوتهُ قوىِ ، لِذلك قيل عنهُ " صوت صارِخ فِى البرّيّة " مِن المُميّزات الشخصيّة لدى القديس يوحنا أنّهُ كان صوتهُ قوىِ ، فعندما يُوبّخ كان يُوبّخ بإِنتهار وبِجبروت فكانت الناس تهابه وظهرت قوّة الحق عِند القديس يوحنا المعمدان فِى الموقف الّذى تسبّب فِى إِستشهادهُ ، إِنّهُ سمع أنّ الملك هيرودس تزوّج مِن إِمرأة أخيهِ وهذهِ مِن الأمور المحظورة ولمْ يستطع أحد أبداً أن يفتح فمهُ أمام هيرودس ، لكِن القديس يوحنا وجدناهُ يصرُخ فِى هيرودس بِنفَس القوّة التّى تعوّدناها منهُ أنّهُ لا يحِلّ لك أن تتخِذّ هيروديّا إِمرأة أخيك زوجة لك 0 مِن أين تأتىِ قوّة الحق :- قوّة الحق لا تأتىِ إِلاّ مِن قناعة داخِليّة نابعة مِن داخِل الإِنسان لا تأتىِ إِلاّ لمّا يكون الإِنسان عايشها يجب أن يكون الإِنسان مُرتبِط بِها يجب أن يكون الإِنسان شاهِد لها أولاً فِى داخِل نفسه 0 لِذلك لا تجِد إِنسان بيحِب الحق إِلاّ وأن يكون هو عايش الحق لِذلك نجِد مِن ضِمن ألقاب السيّد المسيح أنّهُ قال عن نفسهِ " أنا هو الطريق والحق00" ، وأيضاً السيّد المسيح قال " أنّهُ مِن علامات مجيئه هى أن تعرِفون الحق والحق يُحرّركُم " ، بِمعنى إِذا أنتُم عِشتُم مع المسيح هتعرفوا الحق وساعِتها الحق هيحرّركُم معرِفة الحق وحياة الحق هو جُزء مِن تكوين الإِنسان الروحىِ ، الإِنسان الّذى يعيش مع ربنا يكون قوىِ وحُجّتهُ قويّة ويكون ثابت كالصخرة والتهديدات لا تنفع معهُ قوّة الحق داخِل الإِنسان تجعل الحق يشهِد لنفسه وتجعلهُ إِنسان قوىِ جبّار مِن داخلهُ ولا يستطيع أحد أن يُثنيه عن حُبّه للحق أو عن حياة الحق الّتى يعيشها حياة الحق وسلوك الحق تجعِل مِن الإِنسان فِى إِحترام وتقدير مِن الجميع ، قيل عن هيرودس بالنسبة لموقفهِ مِن يوحنا المعمدان أنّهُ كان يهابه لو تنظُر للقديس يوحنا المعمدان تجِدهُ منظر مُحتقر ، إِنسان عايش فِى البرّيّة لابِس وبر الإِبِل لكِن عِنده مهابة ، المهابة هذهِ مِن داخلهُ لأنّهُ عايش الحق ومُقتنع بهِ ، ومِن قوّة الحق المُعلنه بِداخلهُ أحد القديسين يقول عنهُ " أنّهُ فضلّ أن يكون بِلا رأس عن أن يكون بِلا ضمير " ، وأيضاً التقليد يقول " أنّ بعدما قُطِعت رأس يوحنا صرخت وقالت أنّهُ لا يحِلّ لك أن تأخُذ هيروديّا إِمرأة أخيك زوجة لك "هذهِ شِهادة حق قويّة كان مُمكِن القديس يوحنا يتنازل عن رأيهُ فِى هذا الموقف مِن أجل حياتهُ ، لكِن لا00فضّل الموت عن أن يكون بِلا ضمير الإِنسان المُتمسّك بالحق تجِد عِندهُ مبادىء قويّة أساسيّة لا يستطيع أن يتنازل عنها ،لا يتقلّب ولا يتغيّر ولا يتراجع ولا يخاف أبداً ، عِندما يكون الإِنسان عايش مِن داخلهُ الصِعاب فلا يخاف مِن الصعب لأنّهُ عايش هذهِ الحياة ولا يخاف لكِن الخوف مِن إِنسان يُحِب أن يُدلّل نفسه ، الخوف على الإِنسان الّذى يعيش حياة الإِستهتار مِن الداخِل ، هذا عِندما يُمتحن فِى الخارِج يسقُط ، لأنّ الّذى لا يعرِف أن يشهِد للحق أمام نفسه لا يعرِف أن يشهِد للحق مِن خارِج نفسه 0 الّذى لا يستطيع أن يغلِب نفسه مِن الداخِل لا يعرِف أن يغلِب نفسه مِن الخارِج ، الّذى لا يعرِف أن يقف أمام نفسه لا يستطيع أن يقف أمام الناس صوت يوحنا المعمدان صوت يُصّحىِ الضمائر ، صوت يُصّحىِ الكسالى ، صوت يُصّحىِ الناس التّى لا تُحِب الحق وتُحِب الباطِل والظُلمة ، صوت يُبكّت الخُطاه ، صوت يوقظ الضمائرلِذلك نحنُ فِى إِحتياج لصوت الحق هذا ، نحنُ فِى إِحتياج لنشهِد للحق بِلا خوف ، مُحتاجين أن يكون عِندنا قوّة القناعة التّى تجعِل الإِنسان لا يُكمِلّ شهواته داخِل نفسه ولكِن يكون مُطاوِع للحق داخِلهُ محتاج الإِنسان أن يقول لِنفسه الأول لا يحِلّ لك ، وقتها يعرِف يتكلّم مع الخارِج ويقول لا يحِلّ لك ،الإِنسان أكثر حاجة تغلِبه هى نفسه ، لِذلك يقول أحد القديسين" تعّود ألاّ يكون لك عدواً إِلاّ ذاتك " ، عايز يقول لا يكون عدو لك إِلاّ ذاتك وتُريد أن تكره إِكره خطيّتك المسيح وصّانا وقال لازِم تُبغِض نِفَسك ، النِفَس التّى تُدلّلِ نفسِها والتّى لا تكره خطيّتها تجِدها عايشة فِى صُلح مع الخطايا بِتاعِتها ، خُذ مِن النِفَس ديّه توانىِ و كسِل وتتغيّر مع كُلّ جيل ومع كُلّ لون وكُلّ مُجتمِع ، تجِدها تعيش هُنا بِشكل وهُناك بِشكل قوّة الحق لمْ تُعلن فِى داخِلها ، لا يعرِف أن يقول لِنفسه لا يحِلّ لك ، الإِنسان مُحتاج أن ينجح أولاً مع نفسه ، لِذلك يقول الإِنسان الّذى يُجاهِد فِى مخدعهُ لا يتعب فِى الخارِج ، الإِنسان الّذى يخاف على نفسه ومركزه وكرامته تجِدهُ يتغِلِب بِسهولة ، إِجعِل كنزك فِى الداخِلأيضاً تجِد أنّ السيّد المسيح عِندما لقّب الكنيسة لقّبها " بِعمود الحق وقاعِدتهُ " ، شاهِدة الحق هى الكنيسة ، سفكت دم أولادها مِن أن أجل أن تشهِد للحق ، حق المسيح القديس يوحنا ذهبىّ الفم حكوا لهُ عن أنّ الإِمبراطورة ظلمِت إِمرأة ، نجِدهُ لمْ يسكُت وبّخها وأنذرها وكان شديداً معها ، نجِد الإِمبراطورة أنّها سمعِت مِن يوحنا كلام لمْ تتعّود أن تسمعهُ أبداً ، وقالت مَنْ هذا الّذى يفعِل هكذا معىِ ، قالوا لها هذا البطرك ، فقالت مَنْ هو هذا البطرك ! أنا سوف أؤّذيه ، وأتت بِقرار نفيه 0شِهادة الحق التّى بِداخلهُ عِندهُ إِستعداد أن يتحمِل نفقتها حتى وإِن كانت مؤلِمة وإِن كانت صعبة ، لِدرجة أنّهُ يقول " أنّ كلِمة الحق لمْ تُبقىِ لى أصدقاء " القديس أثناسيوس الرسولىِ نجِدهُ يُدافِع عن الإِيمان بِقوّة رغم أنّ أعداؤه كُتار " آريوس كان مكّار وكان عِندهُ موهِبة فِى الخطابة وكان بيعمل أشعار للناس ويستميلهُم ويُثبّت الإِيمان بِتاعه هو " 00ولمّا يجى أثناسيوس يتكلّم الناس تقول أنّ آريوس صح وأنت خطأ كان مُمكِن أن يقول أنّ آريوس صح ويمشىِ الموضوع ، لكِن قوّة الحق عِندهُ أكبر بكثير مِن أعداؤه ، قوّة الشِهادة بالحق للسيّد المسيح جعلتهُ يُعادىِ كُلّ الناس مِن أجل شِهادتهُ للحق ومِن أجل شِهادة أثناسيوس للحق قال عنهُ القديسين" لولا شِهادة أثناسيوس لصار العالم كُلّهُ آريوسياً " ، " الناس قالت العالم ضِدّك يا أثناسيوس قال وأنا ضِدّ العالم " ، الإِنسان الّذى بِداخلهُ شِهادة ضمير صالِحة الّذى بِداخلهُ قوّة حق تجِدهُ عِندهُ إِستعداد أن يكون ضِدّ العالم لِذلك فِى المزمور الخمسين الّذى نُصلّيه كُلّ يوم نقوله " لأنّك هكذا أحببت الحق " ، القديس عِندما يعيش مع ربنا ويقرّب مِن ربنا نجِدهُ يكتسِب جُرءه وشجاعة ، النِفَس التّى يكون فيها قوّة عمل الله مِن الداخِل لا تعرِف الخوف 0 أمثِلة لِقديسين شهدوا للحق :0 مارِجرجس الّذى وقف أمام المنشور وكان السبب فِى إِستشهاده ، لِشهادتهُ بالحق0القديسة دميانة التّى لعنت الرِسالة وكاتبها وقارئها ، التّى كانت تستميلها إِلى التبخير لأبولّون القديس إِيليّا النبىِ الّذى وقف أمام آخاب الملك وقال لهُ " حىّ هو الرّبّ أن لا يكون طلّ ولا مطر إِلاّ عِند قولىِ " ، شِهادة للحق ولا يهمّهُ ماذا سوف يفعِل بهِ الملِك طول ما يوجِد يوحنا وإِيليّا طول ما يوجِد هيرودس وآخاب ، هيرودس وآخاب مُقاوِمين للحق وإِيليّا ويوحنا شُهداء للحق ، نحنُ فِى عالم ومُجتمع يكثُر فيهِ هيرودس وآخاب ويندُر فيهِ إِيليّا ويوحنا الكنيسة تُريد أن تقول ينبغىِ أن يكون فيكُم إِمتداد للآباء والأنبياء ، ينبغىِ أن يكون فيكُم قوّة حق مُعلنة للكُلّ ، ينبغىِ أن تشهدوا أمام الجميع بالتوبة والخلاص وبِعمل الله عِندما يتكلّم عن ربنا يسوع المسيح فِى العهد القديم يقول " هوّذا فتايا الّذى أحببتهُ ، حبيبىِ الّذى سُرّت بهِ نفسىِ ، أضع روحىِ عليه لِيُخبِر الأُمم بالحق " 00قال عليهِ أنّهُ يُخرِج الحق إِلى النُصرة وأنّهُ يُخبِر الأُمم بالحق لِذلك عِندما صلّى ربنا يسوع المسيح فِى الصلاة الوداعيّة قال " قدّسهُم فِى حقّك " ، إِجعلهُم أن يكونوا مُقدّسين للحق كيف للإِنسان أن يعيش فِى المُجتمع بِدون ما يؤثّر عليه ؟ أن تكون قوّة الحق بِداخلهُ قويّة ، أنا لىِ منهج مُعيّن ، لىِ حياة ، لىِ رجاء ، أنا مُتمسّك بوصايا ، أنا الإِنجيل يحكُمنىِ ، جميل العِبارة التّى قيلت عن دانيال النبىِ " وضعت فِى قلبىِ ألاّ أتنجّس بأطايب المِلك ولا بِخمر مشروبه " قوّة الحق التّى بِداخِل الإِنسان تجعلهُ غالِب لِنفسه مُتخطّىِ ضعفاته ، هو ده عمل نعمة ربنا التّى تعمل فيهِ كيف للإِنسان وسط شر كثير أن يكون شمعة تنّور وتُضىء للحق ، بولس الرسول وقف أمام فيلِكس الوالىِ ومكث يتكلّم معهُ عن البِر والدينونة والتعفُفّ وجعل فيلِكس الوالىِ يرتعِد ، شِهادة للحق فِى أى وقت النِفَس التّى حبّتِ أطماع العالمْ الكثيرة الإِيمان هُنا يضعُف 00النِفَس عِندما تكون مربوطة بالأرض الإِيمان يضعُف مُعلّمِنا بولس الرسول قال " حاشا لىِ أن أفتخِر إِلاّ بِصليب ربنا يسوع المسيح " ، إِوعى تِخجِل مِن إِسمك ، أو صليبك ، بل بالعكس أنا لا أستحِق أن أحمِل صليبك ، دا إِنت أعطيتنىِ مجد وكرامة لا أستحِقها ربنا يُعطينا أن يكون الحق فِى قلوبنا وضمائرنا وعقولنا ، أن نكون مُحبين للحق ، أن نكون أدوات للحق ، نُعلِن الحق فِى كُلّ مكان ربنا يُكمِلّ نقائصنا ويسنِد كُلّ ضعف فينا بِنعمتهُ لإِلهنا المجد دائماً أبدياً آمين0 القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك الاسكندرية
المزيد
17 سبتمبر 2022

إنجيل عشية الأحد الاول من شهر توت

إنجيل العشية ( مت ۱۱ : ۱۱ - ۱۹ ) شهادة المخلص عن يوحنا المعمدان مكانة يوحنا : الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان . ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه بدأ رب المجد يشير إلى عظمة يوحنا بقوله « إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم منه. . ومرد هذه العظمة هو إلى أن والده كان كاهنا باراً وأن الملاك بشر بولادته قبل الحبل به ، وأنه امتلأ من الروح القدس وهو في بطن أمه ، وأنه وضع يده على رأس السيد وعمده ، ورأى الروح القدس نازلا عليه على شكل حمامة . هذا إلى أنه تقدم أمام المخلص بصفته ملاكا يدعو له ويعد له النفوس ، فضلا عن أنه عاش في البرية عيشة النسك والطهارة والقداسة . ثم استدرك المخلص قائلا « ولكن الأصغره في ملكوت السموات أعظم منه » وقد بينا الحكمة في ذلك في إنجيل القداس لهذا اليوم . أثره:- ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغصب والغاصبون مختطفونه . لأن الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا . وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى . من له أذنان للسمع فليسمع . "مت 12:11-15" واستطرد السيد يشير إلى ما أحدثته دعوة يوحنا فقال « ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغصب » ، ومعنى ذلك أن اليهود تزاحموا عليه وعلى يسوع لسماع تعاليمهما ، وكانوا جادين في غيرتهم فاعتمد منهم كثيرون وغيروا سيرتهم وطرحوا العالم ، ونبذوا اللذات جانبا ، وقاسوا الشدائد ، وصبروا على المكاره ، ومشوا قدما في طريق السماء برغبة حارة ، فكأنهم بانتصارهم على شهواتهم وأهوائهم ، وإقلاعهم عن الشرور ، وتوبتهم الصادقة قد اغتصبوا الملكوت اغتصابا واختطفوه اختطافا ، وهذا عين قول المخلص في مناسبة أخرى « كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا . ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله وكل واحد يغتصب نفسه إليه » ( لو 16 : 16 ) . فهذا الملكوت ينال بقوة النعمة الفائقة ، لا بقوة التناسل من إبراهيم کماکان يزعم اليهود . وسر الأمر فيما تقدم أن أنبياء العهد القديم كما قال يسوع اتصلت نبواتهم بالتتابع إلى يوحنا ، كما أن كل طقوس الناموس ، وهي ظل الخيرات العتيدة » ( عب١:١٠ ) ، كانت بالمثل ترمز إلى المسيح . ولكي يحرض يسوع سامعيه على تلبية داعى الملكوت لفت أنظارهم إلى وجه الشبه بين يوحنا وإيليا بقوله « فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى » . وبيان ذلك أن يوحنا جاء في أعقاب الشريعة القديمة ، وتقدم أمام المخلص منذرا بمجيئه ، وإيليا سيأتى عند انقضاء العالم ، ويتقدم أمام السيد منذرا بمجيئه الثاني ، هذا إلى أنهما كانا يوبخان الخطاة لا فرق لديهما بين شريفهم ووضيعهم ، كما يتضح ذلك من موقف إيليا من آخاب وإيزابل ، وموقف يوحنا من هيرودس وهيروديا . وفيما يلي بعض الآيات التي تشير بوضوح إلى وجه الشبه بين الاثنين ، فالوحى يقول على لسان ملاخي النبي « هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب العظيم والمخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء . وقلب الأبناء على آبائهم قبلما آتی وأضرب الأرض بلعن ، ( ملا 5 : 4 ) . ويقول المخلص عنه « ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا . كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم . حينئذ فهموا أنه قال عن يوحنا المعمدان » ( مت ۱۷ : ۱۳-۱۲ ) . وفى مناسبة أخرى يقول الملاك عنه لزكريا ، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ . للرب شعبا مستعدا ، ( لو ۱۷ : ۱ ) . وبعد ما بين يسوع خطورة الدعوة إلى الملكوت نبه الحاضرين إلى ضرورة فتح آذان قلوبهم وفهم أقواله والعمل بها ، وذلك بقوله « من له أذنان للسمع فليسمع . تقلب اليهود : و بمن أشبه هذا الجيل . يشبه أولادا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم . ويقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا . نحنا لكم فلم تلطموا . لأنه جاء يوحنا لايأكل ولايشرب . فيقولون فيه شيطان . جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب . فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة . والحكمة تبررت من بنيها ، . الأرشيذياكون المتنيح بانوب عبده عن كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة الجزء الأول
المزيد
16 سبتمبر 2022

ذبيحة الحب الالهى

هذه المائدة هـي عضـد نفوسنا .. رباط ذهننـا .. أساس رجائنا وخلاصنا ونورنا وحياتنـا . عنـدمـا تـرى المائدة معدة قدامك قل لنفسك : من أجـل جسـده لا أعـود أكـون تراباً ورماداً ، ولا أكون سجيناً بل حراً . من أجل هذا الجسـد أترجى السماء " . ( القديس يوحنا الذهبي الفم ) مزمور لداود : " الرب راعـي فـلا يـعـوزني شيء . في مـراع خضر يربضني . إلى مياه الراحـة يوردني . يرد نفسي . يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه . أيضاً إذا سرت في وادي ظل المـوت لا أخاف شرا ، لأنك أنت معي . عصاك وعكارك هما يعزيانني . تُرتب قدامي مائدة تجاه مضايقي . مسحت بالدهن رأسي . كأسي ريا . إنّما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي ، وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام " ( مز ٢٣ ) . اقرأ المزمور السابق مرة أُخرى ثم دعنا نتأمل فيه قليلاً .يقدم لنا هذا المزمور صورة عن الحياة المسيحية ..فالمراعي الخضـر هـي كلمة الله .. وماء الراحة هو المعمودية .. بينما يمثل وادي ظل المـوت الـدفن في المعمودية ، والدهن كذلك يمثل الميرون . أما المائدة فهي سر الإفخارستيا ، والكأس هو عصير الكرمة ، وبيت الرب هو الكنيسة . إنها ذبيحة الحب الإلهي والخطوة السادسة التي تضـيء طريقنا الروحي . دعنـا في البدايـة نـرسـي معـا مبـادئ هـامـة فيما يتعلق بـسـر الإفخارستيا ، والقداس الإلهي : سر التناول أو الإفخارستيا هو نعمة غير منظـورة مـن خـلال القداس الإلهـي الـذي يمثـل قمـة الصـلوات المسيحية ، فالقداس الإلهـي سـواء بصلوات الأب الكاهن أو مـردات الشعب غنـي بـالطقوس والقراءات الكتابية .الله هو صاحب كل النعم في حياتك وليس لك فضـل في شيء ، وفي سـر الإفخارستيا كأنك تأخـذ مـما أعطاك اللـه لتشكره بـه ، فتصير ذبيحـة الخبـز والخمـر ذبيحـة شـكر ، وبعـد التقديس تصير الذبيحـة جسد ودم المسيح بالحقيقة . المسيح هنـا هـو الكاهن والذبيحـة ... ففـي كـل مـرة تحضـر القـداس الإلهي كأنك في وقت الصليب تماماً والمسيح المصلوب هـو حاضـر فهل كل مرة تتقدم لهذا السر وأنت تشعر بحضور المسيح فيه ؟! القداس الإلهـي خـارج حيـز الـزمـن وكـأن المسيح يذكرنا : " خذوا كلوا . هذا هو جسدي " ( مت ٢٦ : ٢٦ ) ، وهـذا مـا يكــرره الأب الكاهن في القداس عن فم المسيح ، وبفاعلية عمل الروح القدس . يقول الآباء : " المسيحيون يقيمون سر الإفخارستيا ، وسـر الإفخارستيا يقيم المسيحيين " . أتتساءل الآن : لماذا لا أستفيد من القداس الإلهي ؟! دعنا نناقش سويا ما يمنعك من التمتع بالقداس الإلهي : الحضور المتأخر : كـل صـلوات القداس منـذ بدايتها ( عشية - باكر - تقدمة الحمل - قداس الموعوظين ـ قداس المـؤمنين ) إلى نهايتهـا وحـدة واحـدة وعـدم حضـور أي منهم يفقـدك جـوهرة ثمينـة مـن جـواهر فضلاً عن غياب التهيئة المناسبة للحضور بالاستعداد القداس الإلهي ، الذهني والروحي والجسدي .الحضـور الروتينـي : وفي ذلـك عـدم الاشتراك في المـردات والألحـان فالقداس الإلهي هو سيمفونية مقدسة مشتركة بين الكاهن والشماس والشعب . فضلاً عـن عـدم التركيز والتأمـل والانشغال بأمور الحياة ، ويتبقـى لنـا في هـذه النقطـة ... الانشغال بالإداريـات مثـل : جمـع العطاء ، البيع ، التنظيم ... التـي بـدورها تعـوق الإنسـان عـن التمتّع بالقداس الالهي . الحضور الشكلي : ولهذه النقطة محاور عدة مثل : عـدم التناول ، عـدم الاعتراف ، وكذلك الجلوس في المؤخرة ومحادثة الآخرين . كل ما سبق يمثل أساليب عدة يحـاول بهـا عـدو الخير أن يمنعـك عـن التمتع بالقداس الإلهي ، وبالتالي عن الشبع بالمسيح . أتود أن تسألني الآن : كيف أستفيد من القداس الإلهي ؟ في خطوات عملية سأوضح لك كيف يمكنك التمتع بالقداس الإلهـي ولكن في البداية ضع في قلبك أن القداس الإلهي هو رحلة شيقة للتمتع بالمعية الإلهية . ١- افهم سر الإفخارستيا ... كـن واعياً لعظمـة السـر وعمـل المسيح فيـه وكأنك تستحضر بداخلك ما صنعه الفادي المحب لأجلك . في طريقـك إلى الكنيسـة ردد : " فرحـت بالقائلين لـي : إلى بيـت الـرب تذهب " ( مز ۱۲۲ : ۱ ) ... امـلأ قلبـك وذهنـك بالاستعداد لمقابلـة ملـك الملوك ورب الأرباب . ۲- استعد بنفسك لكي مـا تشعر بعمـق هـذا السـر في حياتك ، فالاستعداد النفسي سيهيئ قلبك ليحل المسيح فيـه ... اقـرأ قراءات القداس الإلهـي الليلة السابقة ، وخذ قسطاً كافيـاً مـن النـوم ، كي تتجنب الإرهـاق الجسدي أثناء القداس الإلهي . ۳- شارك في القداس الإلهـي بكل كيانك ... اجلس في الصفوف الأمامية .احضـر مبكراً وقوفـك في القداس الإلهـي سيملأ قلبـك بالخشـوع وكأنك تمجد الله بتلك الصحة التي منحك إياها . ٤- اشترك في صلوات القداس الإلهي ... سبح الله بالمردات والألحان . 5- عش صلوات القداس الإلهي بفاعلية ... عش مع المسيح صلبه وقيامتـه في القداس الإلهي وانتظار الكنيسة لمجيئه الثاني . 6- ارفع قلبك بالصلوات سواء التي تمجد فيها الله على عظـم صـنيعه معنا ، أو التـي تطلـب فيهـا غـفـران خطايـاك ، أو تصلي لأجـل المتألمين والمرضى والذين رقدوا . استمتع بعشرة القديسين في المجمع المقدس ، ومـن خـلال الأيقونات ... أنظر إلى نهاية سيرتهم وتمثل بإيمانهم أتركك الآن مع باقة من أقوال الآباء عن القداس الإلهي : " إن اتحادنـا بالمسيح بتناولنـا مـن جسـده ودمـه ، أسـمـى مـن كـل اتحاد "( القديس أثناسيوس الرسولي ) .أعطانا ( الله ) جسده الحقيقي ودمه ، لكي تتلاشى قوة الفساد ، ويسكن في أنفسنا بالروح القدس ، ونصير شـركاء بالقداسة وأناساً روحيين " . ( القديس البابا كيرلس عمود الدين ) " إن المائـدة السـرية جسد المسيح تمـدنا بالقوة ضـد النـزوات وضـد الشياطين ، ذلك لأن الشيطان يخـاف مـن هـؤلاء الذين يشتركون في الأسـرار بوقار وتقوى " ( القديس البابا كيرلس عمود الدين ) " المسيحيون يقيمـون الإفخارستيا ، والإفخارستيا تقيم المسيحيين " . ( الشهيد فيلكس من القرن الثالث ) " نحن الكثيرين خبز واحد ، جسـد واحـد ؛ لأننـا جميعاً نشترك في الخبـز الواحد " ( القديس يوحنا الذهبي الفم ). " إن رئيس كهنتنا الأعظـم قـدم الذبيحـة التـي تطهرنـا ( على الصليب ) ، ومـن ذلـك الوقت إلى الآن تقدم نحن أيضـاً هـذه الذبيحة نفسـها . وهذه الذبيحة غير الفانية وغير النافدة ( لأنها غير محدودة ) هي نفسها ستتمم إلى انقضاء الدهر حسب وصية المخلص : " وهذا اصنعوه لذكري " . ( القديس يوحنا الذهبي الفم ) في النهاية أود أن أقدم لك تدريباً عملياً يقـودك لعمـق صـلوات القـداس الإلهي ، سأتركك عزيزي القارئ مـع إحـدى صـلوات القسمة التـي تقـال في القداس الإلهي ؛ لتتأملها ثم تدون تأملك ، وصلاة شخصية منها : أيها الابن الوحيد ، الإلـه الكلمـة الـذي أحبنا ، وحبـه أراد أن يخلصـنـا مـن الهلاك الأبدي . ولما كان الموت في طريق خلاصنا ، اشتهى أن يجوز فيه حباً بنا . وهكذا ارتفع على الصليب ليحمل عقاب خطايانا ، نحـن الـذين أخطأنا ، وهو الذي تألم . نحن الذين صرنا مديونين للعدل الإلهي بذنوبنا ، وهـو الـذي دفع الديون عنا . لأجلنا فضل التألم على التنعم ، والشقاء على الراحة ، والهـوان على المجـد ، والصليب على العرش الذي يحمله الكاروبيم . قبل أن يربط بالحبال ، ليحلنا من رباطات خطايانا ، وتواضع ليرفعنا ، وجـاع ليشبعنا ، وعطش ليروينا ، وصعد إلى الصليب عرياناً ليكسونا بثـوب بـره ، وفتح جنبه بالحربة لكي ندخل إليه ونسكن في عرش نعمته ، ولكي يسيل الـدم مـن جسده لنغتسل من آثامنا ، وأخيراً مات ودفن في القبر ليقيمنا من موت الخطية ويحيينا حياة أبدية . فيا إلهي إن خطاياي هي الشوك الـذي يـوخز رأسـك المقدسة ، أنـا الـذي أحزنت قلبك بسروري بملاذ الدنيا الباطلة . ومـا هـذه الطريق المؤدية للمـوت التي أنت سائر فيها يا إلهـي ومخلصـي ، أي شيء تحمـل عـلى منكبيـك ؟ هـو صليب العار الذي حملته عوضاً عني . ما هذا أيها الفادي ؟ ما الذي جعلك ترضى بذلك ؟ أيهان العظيم ؟! أيـذل الممجد ؟! أيوضع المرتفع ؟! يا لعظم حبك !! نعم هو حبك العظيم الذي جعلـك تقبل احتمال كل ذلك العذاب من أجلي .أشكرك يا إلهي وتشكرك عني ملائكتك وخليقتـك جميعاً لأني عاجز عـن القيام بحمدك كما يستحق حبك ، فهل رأينـا حبـاً أعظـم مـن هـذا ؟! فـاحزني يا نفسي على خطاياك التي سببت لفاديك الحنون هذه الآلام . ارسمي جرحه أمامك ، واحتمـي فيـه عنـدما يهيج عليـك العـدو . أعطنـي يا مخلصـي أن أعتبر عذابك كنزي ، وإكليل الشوك مجـدي ، وأوجاعك تنعمي ، ومرارتك حلاوتي ، ودمك حياتي ، ومحبتك فخري وشكري . یا جراح المسيح ، اجرحيني بحربة الحب الإلهي . يا موت المسيح ، أسكرني بحب من مات من أجلي . يادم المسيح ، طهرني من كل خطية . يا يسوع حبيبي ، إذا رأيتني عضـوا يابساً ، رطبنـي بزيت نعمتـك وثبتنـي فيك غصناً حياً أيها الكرمة الحقيقية . وحينما أتقدم لتناول أسرارك ، اجعلني مستحقاً لذلك ومؤهلاً للاتحاد بك . لكي أناديك أيها الآب السماوي بنغمة البنين قائلاً : أبـانـا الذي . قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨ عن كتاب خطوات
المزيد
15 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس نحميا

نحميا " كيف لا يكمد وجهى والمدينة بيت مقابر آبائى خراب وأبوابها قد أكلتها النار "" نح 2: 3 " مقدمة هل سمعت عن أسطورة « النافذة العجيبة »؟... تلك النافذة التى يقال إنها كانت نافذة سحرية، ورآها رجل إنجليزى كان يعمل كاتباً فى لندن، واشتراها من الشرق، وأحضرها معه، ووضعها مقابله ليطل منها على المدينة وتقول القصة إن الكاتب عندما كان ينظر من النافذة، لم يكن يرى أمامه لندن المزدحمة الممتلئة بالضوضاء والضجيج والأحداث والحوادث، وكل ما يؤلم النفس ويضايقها من تعاسة الفقراء والمتعبين والمحزونين والمرضى، بل كان يبصر أمامه لندن الجميلة الرحبة ذات القصور والحدائق والناس السعداء، كما كان يرى على أعلى حصن فيها علماً أبيض يقف أسفله بطل عظيم يسهر على المدينة ويحرسها من تنين رهيب، وكان الكاتب كلما ضاق بنفسه وعمله وأحزان الناس يلقى بنظره على المدينة من النافذة ليرى صورة أخرى تشجعه وتلهمه وتقويه، صورة المدينة وقد تتحررت من التعاسة والألم أغلب الظن أن نحميا كان يتخيل فى شوشن أورشليم بعد أن عاد إليها المسبيون، وقد خرج فوجهم الأول منذ تسعين عاماً خلت،... وقد تحولت إلى مدينة استطاعت أن تنقض عنها الهوان والخراب والمذلة التى وصلت إليها عندما دكها نبوخذ ناصر دكاً، وهوى بها إلى التراب والحضيض، ولكنه روع وصعق عندما جاء أخوه ضانى، وبعض الزائرين لشوشن، ليخبروه عكس ذلك تماماً، ويحدثوه عن عارها وأبوابها والمحروقة بالنار!!... ولم يعرف نحميا بعد ذلك طعم الحياة والراحة والسعادة، قبل أن يبنى سور المدينة، ويعيد إليها الأمن والراحة والسلام والحياة!!.. إنها قصة بطل تروى فى كل جيل وعصر، لتعلم الأجيال، ما قاله دانيال وبستر عندما سأله أحدهم عما هى أعظم مسئولية تقع عليه فى الحياة؟ … فأجاب: هى مسئوليتى تجاه ابن اللّه!! وها نحن لذلك نتابع القصة فيما يلى: نحميا ومحنته كان نحميا ساقى الملك، ولم يكن يبلغ هذا المركز إلا أعظم الناس وأقربهم إلى قلوب الملوك،... وهو أشبه بمن يطلق عليه الآن وزير البلاط، أو كبير الأمناء،... وهو المسئول عن الشئون الخاصة بالملك، وعن طعامه وشرابه، ولم يكن يصل إلى هذا المركز إلا بعد البحث العميق الدقيق، الذى فيه يطمئن إلى عمق ولائه وإخلاصه، فى وقت كان يتعرض فيه الملوك عادة للموت بدس السم فى الطعام أو الشراب..!! وعندما قدم نحميا الشراب للملك، كان ممتلئاً من الألم والحزن والكآبة التى لاحظها الملك، من الوهلة الأولى، فقال له: « لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض ما هذا إلا كآبة قلب » " نح 2: 2 "... ومع أن نحميا خاف كثيراً لئلا يتسرب الشك فى ولائه إلى الملك،... إلا أن الواقعة فى حد ذاتها كانت تبدو غريبة للناظر العادى،... ولو أننا سألنا جميع الناس عن نحميا، لقالوا إنه الإنسان السعيد المحظوظ المبتهج، الذى يشغل هذا المنصب الجليل الخطير،... بما فيه من مزايا لا تحصى ولا تعد،... وقد كان غريباً أن يكون نحميا كئيباً إلى هذا الحد الملحوظ... ولو أنه كان مريضاً، لرسم المرض خطوطه على وجهه، بما يمكن أن يصاحب ذلك من ألم أو تعاسة أو أنين، لكن الملك نفسه يشهد أنه غير مريض!!... وما أكثر الذين تهون كل الأمور أمام عيونهم طالما كانوا أصحاء لا يشكون داء أو مرضاً، ولكن نحميا الصحيح، المعافى، كان عميق التعاسة والكآبة والألم!!... ومن البادى أيضاً أن حزن نحميا لم يكن بسبب مأساة أو ضيق يعانيه فى بيته وأسرته،... عندما رأى أليشع الشونمية آتية من بعيد أرسل جيحزى ليسألها: « أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد » " 2 مل 4: 26 "... وهو يعنى أنه إذا كان السلام يحيط بالثلاثة، وأنه ليس فى البيت أمر ينغص من هذا القبيل، فإن أية أخبار أخرى ستبقى أقل شأناً، وأضعف أثراً،... ويمكن للمرء أن يتقبلها بالهدوء والأناة، مهما كانت نتائجها،... ولم يكن يعانى نحميا فى حدود علمنا متاعب من هذا القبيل فى بيته، يمكن أن تعكر صفوه، أو تطبع على وجهه ما رأى الملك من حزن وكآبة!!... إن الكثير من المحن التى يتعرض لها الناس تكون عادة داخل أسوار البيت: الولد فاشل، والبنت متمردة، والزوج أحمق، والزوجة صخابة مقلقة،... ولكن يبدو أن بيت نحميا كان عظيما، وكانت حياته المنزلية ممتلئة بالرضى والهدوء والراحة،... ومع ذلك كان نحميا تعساً حزيناً، لبيته الأوسع والأعظم، فى أورشليم هناك!!... ولم يكن نحميا فى حاجة إلى مادة أو مال، مما يمكن أن يكون سبباً لمذلته وهوانه، فلم يكن يواجه مشكلة مالية، كالأرملة التى جاءت صارخة إلى أليشع لأن زوجها قد مات، وخلف ور اءه ديناً ثقيلا، وجاء المرابى ليأخذ ولديها عبدين،... والدين كما ألفنا أن نقول: هم بالليل ومذلة بالنهار!!... ومع أن خزانة نحميا كانت ممتلئة وفياضة بالكنوز، لكن هذه الكنوز لم تعطه الراحة قط،... وفقر أورشليم يطحنها طحناً، ويحولها أكواماً من الرماد والتراب!!... ولم تكن مشكلة نحميا من مشاكل الوظيفة التى كثيراً ما تقلق الموظفين، لأنهم لم يأخذوا حقهم، أو تخاطهم من هم دونهم درجة وكفاءة،... لقد كان فى مركزه المرموق، الذى سنرى أنه قد ضحى به، بحثاً عن التعب والمشقة،... ومراكز الدنيا كلها، لا تساوى شيئاً إزاءأ إحساس الإنسان بأن عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،... وأن أبسط خدمة للسيد، لا تساويها تيجان الملوك ومراكز الأمراء والسادة،... عندما دعى وليم كارى أبو المرسليات الحديثة أن يكون وزير الهند فى الوزارة البريطانية، لمعرفته بالهند، وبرجالها، إذ كان المرسل العظيم هناك، أجاب إجابة نحميا: « إنى عامل عملا عظيماً فلا أقدر أن أنزل » " نح 6: 3 "... وعندما قدمت له بلاده مائة ألف جنيه لخدمة قام بها، حول المبلغ كله للعمل المرسلى!!.. ومن الغريب أن نحميا كان مخروناً، لمشكلة تبعد عنه قرابة ألف ميل، والإنسان فى العادة يفزع ويتألم للمشكلة التى تقع على مقربة منه أو على مرمى البصر والمثل الشائع: إن القريب من العين، هو القريب من القلب، فإذا بعد الإنسان عن مكان الفاجعة، فمن السهل تصور إنه لا يعود ينظر إلى المشكلة أو ينشغل بها، ولهذا ما أكثر ما يهرب الهاربون، أو يهاجرون إلى آخر الأرض، إذا ضاقوا بالحياة، فى مكان ما، أوضاقت الحياة بهم فيه، لكن نحميا كان بعيداً عن أورشليم، ولكن أورشليم لم تكن بعيدة عن قلبه وعواطفه وأشواقه وآلامه!!... وكان يمكن لنحميا أن يستريح ويهدأ نفساً، لأن المشكلة تراث قديم، ولدت قبل أن يولد، وهو بعض ضحاياها.إذ ولد هو فى المنفى، فى السبى، وهو لا يستطيع أن يحمل هموم التاريخ،كما أنه لم يصنع هو المشكلة، ومن حقه أن لا يكون مسئولا عنها،... وما أكثر ما يفعل ذلك الكثيرون عندما تتفتح عيونهم على الشر المسيطر فى الأرض، وتحيط بهم المشكلة التى تبدو حياتهم تجاهها صغيرة ضئيلة، فيستسلمون لها استسلام الإنسان الذي لا ينهض فى فكره أن يغير من الواقع أو يبدل منه شيئاً على الاطلاق!!... كان يمكن لجميع هذه العوامل أن تنتزع الأسى والألم من نحميا، ولكن دون جدوى!!.. نحميا وقلبه وضع الملك أرتحشستا يده على سر نحميا فى عبارة واحدة: « ما هذا إلا كآبة قلب» " نح 2: 2 ". وإذا كان الطبيب يعلم بأن سر الحياة مرتبط بالقلب، فأنت صحيح على قدر ما يكون قلبك، وأنت فى خطر داهم، إذا أخذت العلة مكمنها فى هذا القلب،... فكذلك الأمر فى الحياة المعنوية والأدبية والروحية جميعاً، والتى ترتبط بالقلب أعمق الارتباط وأقواه،... فاكشف لى من قلبك، أحدثك من أنت ومن تكون!!... ولأجل هذا قال الحكيم: « فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة»... " أم 4: 23 " وإن أكبر مأساة فى الحياة أن يوصف إنسان بالقول: أنه لا قلب له!!... كان نيرون بلا قلب، غنى وهو يرى روحاً تحترق،... وقد صور تشارلس ديكنز فى قصة مدينتين رجلاً فرنسياً من الطبقة الأرستقراطية وهو يسير مسرعاً فى شوارع باريس بعربته المطهمة، فتدوس العربة فى الطريق طفلا،... وتوقف الرجل، لا ليرى ما حدث للطفل، بل ليرى ما حدث للجواد لئلا يكون قد أوذى فى قدمه، ويلقى بقطعة من النقود فى وجه أبى الطفل الذى جاء ليحمل ابنه الصريع،... إنهار منجم فى الولايات المتحدة، وبترت ذراع غلام اسمه جون ما كدويل، والذى أصبح فيما بعد خادماً شهيراً من خدام اللّه، ولكن الشئ الغريب، أنهم عندما عادوا إلى سجلات الحادث بعد سنوات من وقوعه،... وجدوا أن السجلات قد سجلت مصرع بغل غالى الثمن، كان يقوده غلام صغير،... لقد عنيت السجلات بالبغل الذى كان ثمنه فى ذلك الوقت أغلى من الغلام الذى كان يقوده!!.. وما أكثر الناس الذين يعيشون ويموتون ولو دققنا فى وصفهم لصح القول أنهم عاشوا قساة القلوب!!... بل كان الواحد منهم - فى الحقيقة - من غير قلب!!. وما أكثر القلوب الأنانية التى تغمض عينها فى الدنيا عن كل شئ سوى الدائرة الصغيرة الضيقة التى لا يتجاوز البيت والزوجة والأولاد، وليأت الطوفان بعد ذلك ليأخذ الجميع،... وما أكثر القلوب الشريرة التى لا تستريح إلا إلى عمل الشر ويجافيها النوم إن لم تفعل سوءاً،... لكن قلب نحميا كان شيئاً آخريختلف تماماً عن هذه القلوب، ويحكى السر العظيم فى حياة الرجل،... عندما وقف أمام الملك، كانت يده تحمل الشراب وكان جسمه بكامله أمام إرتحشستا، إلا أن قلبه لم يكن هناك على الإطلاق،.... كان القلب مشغولا طوال الوقت بمدينة حبه وأحلامه وأشواقه البعيدة،... ولو أن واحداً أراد أن يصف نحميا، لصوره بصورة الوطنى العظيم الذى يحن إلى تراب بلاده،... إنه دانتى آخر يسير فى أرض المنفى ولكن، أنظاره وأشواقه وأفكاره تعيش مع فلورنسا، المدينة التى أحبها حتى الموت، وحرم عليه أن يراها طوال حياته على الأرض،... لكن أورشليم، عند نحميا، كانت شيئاً أكثر من هذا،... كانت شيئاً أكثر من أن تكون المدينة التى وصفها للملك مقابر آبائه،... إنها عنده سيدة المدن، مدينة الرؤى والأحلام، إنها المدينة التى علق المسبيون أعوادهم فى بابل على الصفصاف وهم يبكون قائلين: « كيف ترنم ترنيمة الرب فى أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى - ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى » " مز 137: 4 - 6 " إن أورشليم فى تاريخها القديم ارتبطت بالرب،... وارتفع المفهوم الوطنى معها إلى المفهوم الدينى،... وقد أطلق عليها المسيح لذلك: « مدينة الملك العظيم »،... وأحبها، وبكاها، وهو يرى خرابها ودمارها الرهيب الوشيك،... وقال لها فى أعمق حديث من الحب والحنان « يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فرخها تحت جناحيها ولم تريدوا هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً » " مت 23: 37 و38 " يقول مثل قديم: « أموت حيثما يكون قلبى »... وفى الحقيقة يمكن أن نضع المثل فى صورة أقوى وأعمق إذا قلنا أعيش وأموت حيثما يكون قلبى!!... وقد عرف الرسول بولس الحقيقة بصورة أدق وأشمل عندما قال: « لأن لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح » " فى 1: 21 " وقد ارتبط نحميا بمدينته، أو بتعبير أصح وأعمق بإله مدينته، وهو لهذا لا يرى حقيقة حياته كالوزير صاحب المركز المرموق فى شوشن المدينة االعظيمة،... وإن هذا المركز لا يساوى قلامة ظفر. بالنسبة لروأه وأحلامه، وكل مجده أمام الناس لا يمكن أن يكون شيئاً تجاه الحقيقة الداخلية التى يعيشها فى شوشن أو فى أورشليم. إنه يعيش ليقول مع بولس: « لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته. لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن » " رو 14: 7 و8 " وبهذا المعنى عاش نحميا ومات،... وهو يرى تراب أورشليم وأنقاضها أعظم وأجل عنده من تبر شوشن ومجدها،... وبهذا المعنى يمكن أن يحيا المؤمن ويعيش ويموت، وهو يرى كنيسة المسيح، عمود الحق وقاعدته، فى أبسط صورها وأصغرها، أعظم وأمجد من كل قصور الملوك وأمجادها وبهذا المعنى ترك ميشيل فرداى حفلا من أعظم الحفلات، إذ تذكر أن إخوته فى ذلك الوقت يتعبدون كجماعة صغيرة أمام اللّه،... وعنده أن اجتماعهم لا يضارعه أن اجتماع فى الأرض!!... فإذا ذكرنا أن نحميا استبدل مجده وراحته وجلاله وعظمته فى شوشن، بالتعب والشقاء والضيق والأخطار والأسى فى أورشليم، عرفنا كيف تكون الحياة فى جلالها وسموها، وأدركنا معنى ما قاله ليفنجستون عندما حدثوه عن البذل والتضحية والخدمة التى يقوم بها، فقال: أنا لا أعرف أنى قدمت تضحية فى حياتى على الإطلاق!!... إن خدمة المسيح لا يمكن أن تكون تضحية يقوم بها الإنسان، بل هى شرفه العظيم التليد!!.. إن قصة نحميا تنتصب أمامنا على توالى العصور والأجيال، كأروع مثال للحياة التى أدركت هدفها الوحيد الصحيح، وثبتت النظر إليه والتفكير فيه، دون أن تتحول عنه أو تريم قيد أنمله!!... فإذا سألتنى عن حب نحميا، ذكرت لك على الفور إنه أورشليم!!... وإذا تحدثت إلى عن غيرته الملتهبة،... أقول لك إنها لا شئ غير أورشليم!!... وإذا ذكرت لى شجاعته الغريبة والعجيبة فى وسط المخاوف والأهوال والمتاعب،... لقلت لك إنها شجاعة التكريس من أجل أورشليم!!... فإذا سألتنى: ما مثاله العظيم المتكرر على مر الأجيال والعصور؟!! … لقلت لك إنه المثال الذى رأيته فى عشرات الألوف من الأبطال، الذين كرسوا حياتهم من أجل أورشليم السماوية العليا التى هى أمناً جميعاً، … كنيسة اللّه العظيمة، التى يتربص بها الأعداء، ولكن أبواب الجحيم لن تقوى عليها!!.. نحميا والصعاب القاسية أمامه لقد تحدثنا فى دراستنا السابقة عن زربابل وعزرا وغيرهما من القادة والملوك، الذين لم تكن الطريق سهلة ميسورة أمامهم، وهم يكافحون أقسى الصعاب وأرهب المشقات، فى جهادهم المرير المضنى، الموضوع أمامهم،... ولعل السؤال الذى يراود الذهن: لماذا يسمح اللّه لهؤلاء جميعاً بمثل هذه المتاعب التى تؤخر انتصار ملكوت اللّه فى الأرض!!؟... ولماذا لا يعينهم اللّه بضربة سريعة قاضية، يقضى بها على العتاة والأشرار وعمال الإثم!!؟ ولماذا يبقى المسبيون الذين خرجوا من السبى، وكان أملهم أن يعيدوا بناء مدينتهم المحبوبة، وهيكلها وسورها، فى سنوات قليلة، إلى مجدها العظيم، وإذا بهم بعدما يقرب من التسعين عاماً، يرون أبواب المدينة التى أكلتها النار والأنقاض المتراكمة باقية كما هى، تشهد عن الفشل والعار العظيم!!؟... الحقيقة أن المعركة بين الخير والشر، ليست تمثيلية تقوم على مسرح الحياة، بل هى حقيقة واقعة رهيبة، ومن المؤكد أن الخير سينتصر وسيكسب آخر الأمر، ولكن هذا لا يمكن أن يتم إلا بعد الصراع الرهيب بين كنيسة المسيح والشيطان، وبين أبناء اللّه وأبناء ابليس، وبين الخير والشر، وبعد الكر والفر، والضحايا المتناثرة التى تسقط من الجانبين، كسائر الحروب والمعارك التى نشهدها بين الدول والشعوب سواء بسواء!!... بل إن القصة العظيمة لأبطال اللّه كان من المستحيل أن تكتب، دون كفاحهم وجهادهم وتعبهم، ومدى مالاقوا من الأهوال والصعاب والشدائد!!.... فإذا ذكرنا نحميا كمثل من الأمثلة الجديرة بأن تذكر وتروى، لوجدنا أنه كان يسير فى طريق هى أشبه الكل فى أيامنا الحالية بالطريق الممتلئ بحقول الألغام فى الحروب،... لقد خرج من شوشن، وهو يحمل أمر الملك وتوصيته ورسائله، وكان من المتصور أن الطريق ستكون أمامه مفتوحة ومريحة وسهلة، ولكنه مع ذلك وجد العكس... فقد وجد أولا الأعداء المتربصين مثل سنبلط وغيره، ممن سنعرض لهم فى دراستنا التالية،... وقد وصل الأمر بهؤلاء إلى التفكير فى الحرب ضد نحميا، وهدم ما قام به، ولما لم تنجح المؤامرة، استعملوا سلاحاً آخر، ألا وهو سلاح السخرية والسخرية كثيراً ما تثبط العزيمة، وتعوق الاندفاع والتقدم، وكان جواب نحميا على السخرية هو الاستمرار فى العمل، وليس هناك ما ينتصر على السخرية كسلاح العمل الذى لا يأبه للهزء والانتقاد، إذ فشل هذا أيضاً!!... لجأوا إلى الطابور الخامس باشاعة المذمة والتذمر وما أشبه، لتثبيط الهمة وبعث روح الملل فى النفوس،... وكذلك إثارة النفعية عند من تربطهم بالأعداء وصلة من نسب أو صداقة،... وقد قضى نحميا على كل هذه الأساليب، بتحويل العمل من مجرد عمل وطنى، إلى الإحساس بالرسالة الدينية تجاه اللّه، وليس هناك حافز يدفع الإنسان إلى الخدمة القوية الملتهبة، قدر الوازع الدينى عندما يسيطر على الإنسان،... وإلى جانب هذا كله كان نحميا بمثاله العظيم، هو أول العاملين، وأول المضحين، وأول الباذلين... إذ لم يكن الإنسان الذى يجلس ليأمر، بل وقف ليشترك فى المجهود، وعندما يكون القائد بهذه الروح لابد أن يسرى حماسه ومثاله فى الجميع فيعملون بقوة ونشاط وغيره وحمارس!!.. نحميا وعمله كانت مدرسة نحميا واحدة من المدارس الكبرى التى يتعلم فيها الإنسان كيف يعمل، ويتقن العمل،... لقد كان على الرجل قبل كل شئ، أن يخطط لنفسه الأسلوب الذى ينبغى أن يعمل به، والنقطة التى منها يبدأ، ويسير، ويستمر فى العمل،... ومن ثم قام فى الليل وزار موقع العمل على الطبيعة، هو وبعض الرجال معه، ولم يخبر أحداً بما جعله اللّه فى قلبه ليعمله فى أورشليم، والنقطة الأولى فى كل عمل عظيم، هى التفكير فى هدوء وأناة فى محضر الرب، والاتفاق مع اللّه أولا على العمل، والتصميم على القيام به مهما تكلف المرء من جهد أو مخاطر أو مشاق،... أو بعبارة أخرى، أنه ذلك الاقتناع الذى يسود على حياتنا بأننا عاملون مع اللّه، قبل أن يعلم أحد على الإطلاق ما نحن مقدمون عليه، أو فى سبيله بمشيئة اللّه،... فإذا تم لنا هذا الاقتناع، فإن الخطوة التالية هى الانصراف إليه وإنجازه، أو الانتقال به من النظريات إلى العمل بدون أدنى تردد أو تراجع مهما كانت المشقات أو الصعاب أو المتاعب التى تعترض طريقه... كان ديفاليرا القائد والزعيم الإيرلندى العظيم يخطب فى جموع من مواطنيه عندما قبض عليه الانجليز وهو فى منتصف الخطاب عام 1916،.. وأخذ إلى إنجلترا وهناك حكم عليه بالإعدام، وأرسل إلى سجن ويكفيلد حتى يتم إعدامه، ومن العجيب أنه جلس فى زنزانته، وهو يفكر كيف يكمل الخطاب الذى بدأه، ونحن نعلم قصته بعد ذلك، أنه لم يعدم، بل أفرج عنه، وبعد عام تقريباً وقف يخطب، فإذا به يبدأ خطابه بالقول: كما كنت أتحدث إليكم عندما قوطعت بخشونة!!.. والعامل المسيحى قد يقاومه الناس أو يقاطعونه أو يزجون به فى السجون،... ولكنه وقد صمم على عمل اللّه، لابد أن يزيح من أمامه كل تراجع أو تقهقر أو تردد!!.. وضع نحميا فى العمل عدة مبادئ، لعل أهمها، أولا: الاتحاد فى العمل، فبناء السور لم يستأثر به فرد واحد بل كانت تتاح الفرصة للتعاون بين الجميع ومع أن نحميا كان الدافع العظيم خلف البناة، إلا أنه أدرك إدراكاً عميقاً أن العمل الذى يستند إلى مجهود فرد واحد أو قلة من الناس، لابد أن يفشل، ولأجل ذلك نجده قد ضم نفسه إلى العاملين وقال: « فبنينا ». وكل عمل فى الحياة يلزمه التعاون والاتحاد حتى يخرج إلى الوجود فى أحسن صورة، وتلك من البديهيات التى لا تحتاج إلى إيضاح، ولكننا كثيراً ما ننساها، ونحن نقوم بأعمال عظيمة، فيتراكم العمل على فرد بينما يقف آخرون متفرجين أو غير عاملين، أو على الأكثر، مشجعيين ولكن من على بعد!!.. على أن هناك أمراً ثانياً لا يقل أثره عن الإتحاد، ونعنى به تجزئة العمل أو تقسيمه بين العاملين، كل بحسب تخصصه ومقدرته، وقد قال جورج آدم سميث: إن توزيع العمل فى مصنع للدبابيس ينتج مائة ضعف مما ينتجه المصنع بدون توزيع عندما يقوم العمل بالعملية كلها من أولها إلى آخرها، وكلما ارتقت الأمة وتسامت، كلما برز فيها عنصر التخصص بكيفية أو ضح وأدق، وفى كنيسة المسيح هناك مواهب متعددة يلزم استثمارها كل بحسب ما أخذ من موهبة ووزنة،... على أن عامل التخصيص كان أدق وأهم عندما طلب نحميا أن يقوم كل واحد بالعمل فى مكان معين، مقابل بيته، وهذا أمر له دلالته، إذ فضلا عن أن كل إنسان فيه غريزة الملكية التى تجعله يميل إلى أن تكون بقعته من أجمل وأحسن البقاع، والتى تجعله ينزع إلى أن تكون بقعته أيضاً حصينة آمنة، فإن العمل مقابل بيته يثير النخوة والحركة، إذ أنه سيضحى مع الزمن عملاً تذكارياً، فهو إما مثير أبهج الذكريات، أو أقساها لدى صاحبه، كما أنه ينشئ نوعاً من التنافس بين العاملين، إذ أن كل واحد يريد أن يتمم عمله بسرعة وعلى أحسن وجه، وبذلك يحفز كل واحد أخاه على السرعة والإجادة، وفى الوقت عينه يقدم تيسيراً واضحاً لكل من يعمل، إذ أنه يكون قريباً من بيته، وبالحرى قريباً من أدواته ووسائله الخاصة التى تساعده على العمل،... وما أكثر ما تضيع الجهود المخلصة فى خدمة اللّه، إذا خلت من التنظيم الحكيم، والترتيب اللازم.على أنه من اللازم أن نتذكر أن نحميا لم ير أن نهاية عمله هى بناء سور أورشليم، إذ كان يعلم أن السور فى حد ذاته لا قيمة له إذا لم يكن هناك سور روحى يقى الشعب من جموحهم وتمردهم، ولقد كرس جهوده لبناء السور الروحى الأعظم فى حياة الشعب، ولقد استمر نحميا إثنى عشر عاماً بعد أن عينه الملك حاكماً لأورشليم، وهو يعمل على انفراد، أو مع عزرا على بناء الحياة الروحية لشعبه، وقد بدأ ذلك بالعهد الذى قطعه الشعب على نفسه بالتخلى عن الشر والفساد والتمسك باللّه ووصاياه، وقد كان على القادة أنفسهم أن يكونوا فى ذلك قدوة لغيرهم، لأن الإنسان بطبعه مقلد، ويميل للسير فى النهج وراء الرؤساء والسادة، وهذا ما فعله الشعب عندما رأوا قادتهم يسلكون سواء السبيل،.. وقد تمسك الجميع بالشريعة، وظهر هذا التمسك فى الصوم والمسوح والحزن على الخطية، وكل اقتراب إلى اللّه لا يبدو فيه الندم وتبكيت الضمير، أغلب الظن أنه مزيف وغير صحيح، ولا يلبث أن يتراجع أو يضيع مع الأيام،.. وقد بدت ظاهرة التمسك بالذهاب إلى بيت اللّه، وعدم الملل من الوجود هناك، إذ كانوا يقضون ثلاث ساعات فى قراءة الكلمة، وثلاث ساعات أخرى فى الاعتراف والتسبيح والحمد، " نح 9: 3 " على أن التمسك قد تعمق أكثر بالانفصال عن الأجنبيات اللواتى اقترنوا بهن، والتوبة الحقيقية هى التى تمد جذورها إلى أعماق البيت، إذ أن المرأة الشريرة أو الوثنية، كثيراً ما تقود البيت كله إلى الضلال،... ومن المناسب أن نلاحظ هنا أن محبة اللّه ينبغى أن تجب كل محبة أخرى تقف فى الطريق أو تعطل أو تزاحم مكانها فى القلب،.. وقد أضيف إلى هذا كله الحرص على تكريس يوم الرب، دون الانصراف إلى العالم فكراً أو عملا،.. ومن المؤسف أن يختلط هذا اليوم فى حياة الكثيرين من المسيحيين بباقى أيام الأسبوع دون تخصيص أو تقديس، ومن ثم يغطيه الغبار أو التراب الذى ينهال عليه من العالم وزحام الحياة البشرية،... مع أنه اليوم الذى نيبغى أن يكون - على العكس - لنفض التراب وإزالة الأوساخ الروحية التى قد تتراكم على المؤمن فى سيره مع اللّه!!... وقد شجع نحميا الناس على الاعتراف بالخطية والتقصير، وهذا الاعتراف ضرورى للتعمق فى حياة القداسة والسير نحو الكمال،... واهتم أن يشجعهم على الأمانة فى العشور والتقدمة، إذ أن التصرف فى المال، فى العادة، هو واحد من أدق المقاييس وأصدقها فى حياة المؤمن الصحيحة!!.. وما أكثر ما يفعل الناس ما فعله الملك لويس الحادى عشر، إذ أصدر أمراً بهبة قطعة كبيرة من مملكته للعذراء مريم، على أن يبقى ريعها قاصراً عليه، وما أكثر ما يغنى الكثيرون لسيدهم أن يمتلك حياتهم، وفضتهم وذهبهم، دون أن يقدموا شيئاً من هذه الحياة أو الفضة أو الذهب!!... هل لك أيها المؤمن أن تبنى سوراً روحياً حول نفسك الغالية، كالسور الروحى الذى وضعه نحميا قبالة عينيه وهو يبنى سور مدينة أورشليم القديم؟! نحميا ومجده قال يوسيفوس عن نحميا: « كان رجلا صالحاً وباراً، وكان طموحه الكامل أن يجعل أمته سعيدة، وقد أضحت أسوار أورشليم كالنصب التذكارى الأبدى لنفسه العظيمة »... كان مجد الرجل الحقيقى أنه أدرك أن رسالته الصحيحة والحقيقية، ليس أن يكون سياسياً فى شوشن، أو حاكماً فى أورشليم، بل أن يلمس اللّه حياته وخدمته، فتكون جملة وتفصيلا لمجد اللّه فى الأرض!!... ولعل هذا يذكرنا بما فعل نوح وبستر عندما أنهى قاموسه العظيم، وجفف الحبر من الكلمات الأخيرة، ووضع قلمه، وتحول نحو زوجته وزملائه وأمسك بأيديهم، وانحنوا جميعاً على ركبهم، وفى احترام وإجلال، شكروا اللّّّّه لأجل عنايته ومساعدتهم فى هذا العمل العظيم،... كان هذا موقف العالم المبرز، والمسيحى المتواضع، الذى رأى فى وضع قاموس عملا دينياً، لأنه أدرك أن كل عمل فى الأرض، لابد أن ينبع من الإحساس بالرسالة الدينية الموضوعة علينا من اللّه كخدمة مقدسة!!.. وما من شك فى أن نحميا شكر اللّه آلاف المرات، بعد أن وضع الحجر الأخير فى سور المدينة، وهو يدرك أنه عثر على الرسالة الحقيقية التى وضعها اللّه عليه أمام الخرائب والأنقاض!!.. وما من شك بأن مجدى، أو مجدك الحقيقى يبدأ عندما تتفتح بصائرنا على ذات الخرائب والأنقاض التى تركتها الخطية حولنا فى كل مكان ونسعى لبنائها، فهل نكون على نفس النهج أو الصورة التى ذكرها أحدهم وهو يقول: « ما أمجد أن تكون يداً أو مساعداً لما قصد اللّه أن تكون عليه فى الحياة، وما أبشعه من خطأ ألا تكون عقلا أو قائداً فى وسط الناس، وقد أعطاك اللّه الإمكانية الداخلية لأن تكون هكذا.. »...!!... ربما لا يجد المرء كلمات، آخر الأمر، يختم بها حديثه عن نحميا أفضل من كلمات ألكسندر هوايت وهو يقول: « لو أن خادماً شاباً عين للخدمة كنحميا فى شعب كشعب أورشليم فى ذلك الزمن القديم، ولو أنه جاء إلى الخدمة ليرى الأبواب المحروقة بالنار، والأسوار المنهدمة، وبيت اللّه يلحقه العار والضياع فإنه فى أمس الحاجة إلى أن يقرأ سفر نحميا ويحفظه عن ظهر قلب،... وهو فى حاجة إلى أن يجول بين الأنقاض والخرائب كما فعل الساقى القديم، دون أن يخبر أحداً، وكل ما عليه هو أن ينهض باسم « الملك » ويبنى، وأن يأخذ حجارته من محاجر « الملك » وخشبه من غاباته العظيمة، وليعلم أن يد الرب معه،... وعليه أن يعظ أفضل عظاته للشعب الذى طال جوعه أحداً بعد أحد، وعاماً وراء عام، فى خدمته الممتدة،.. وليزر ليلا ونهاراً الرعية التى طالما أهملت، وليكن مثل صموئيل رزر فورد الذى بدأ خدمته فى كنيسة صغيرة فى أسكتلندا، واليوم هى من أكبر الكنائس وأوسعها، وليكن مقصد رعيته، وعلى الدوام يدرس، وعلى الدوام إلى جانب المريض فى سرير مرضه، وعلى الدوام يصلى، وليقل ما قاله نحميا: « ولم أكن أنا ولا أخوتى ولا غلمانى ولا الحراس الذين ورائى نخلع ثيابنا. كل واحد يذهب بسلاحه إلى الماء » " نح 4: 23 ".. وليفرح عند تدشين السور بالفرح العظيم والتسبيح والتحميد بالصنوج والمزامير والقيثارات: « لأن اللّه أفرحهم فرحاً عظيماً، وفرح الأولاد والنساء أيضاً وسمع فرح أورشليم عن بعد » " نح 12: 43 " وهو سيفعل ذلك إذا كان له إيمان باللّه، وحبه لأورشليم والعمل الصعب المضنى الشاق الذى قام به من أجلها!!.. »..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل