المقالات

27 أغسطس 2022

امتحان إيمانكم (يع 1: 3)

كلمة امتحان: تأتي في اللغة اليونانية πειρασμός، بمعنى تجربة ناجمة عن ضيقات من الخارج، مثل «مَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ» (مت5:10)، امتحان يهدف إلى غاية، محاولة، يُجرّب شخصٌ ما أي يقيس قوته. كذلك كلمة δοκίμιον وتأخذ معنى عملة أصيلة غير زائفة، نقية من كل زغل أو شوائب. فعندما تحقّق التجربة هدفها من تقدم طبيعيّ، يسمح بها الله لغرض نافع وصالح، يؤدي إلى التنقية والتطهير، مثل تجربة أبينا إبراهيم (تك22). كذلك لم يطرد الله الأمم الذين في أرض فلسطين، عندما جاء بنة إسرائيل «لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ» (قض3:1). ما هو الإيمان؟ الإيمان هو «الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عب11:1)، وهو شيء معنوي مرتبط بالنفس ارتباطًا كيانيًا. ولكننا نجد الكتاب المقدس يعبّر عنه كأنه شيء مرئي، فالذين حملوا المفلوج قيل عنهم: «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ» (مت9:2)، كما يضع درجات للإيمان: عدم الإيمان (مت13:58)، إيمان قليل (مت6:30؛ 8:26،14،31)، إيمان مثل حبة الخردل (مت17:20)، إيمان عظيم (مت15:28). فما هو مقياس الإيمان؟ مقياس الإيمان هو الأعمال: فالإيمان ليس مجرد فكر إطلاقًا، ولكنه حياتيّ، فإذا كنت تؤمن بوجود الله، هذا جيد، ولكن هل ممكن بعد ذلك أن تتجنّب القلق، وتعيش السلام والطمأنينة، لكون الله يدبّر مجرى حياتك؟في التجربة، علينا أن نكفّ عن التفكير بصورة سلبية: يحاول الكثيرون أن يكون كل رد فعلهم موجهًا لتبرير موقفهم، وآخرون يدخلون في كآبة وحزن قد يؤذي النفس، ويستسلم فيه الإنسان بخنوع. بينما يوصينا يعقوب الرسول «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ» (يع1:2). ليتنا نبحث عن الهدف المرجو من التجربة، ونفكر بصورة إيجابية. لماذا سمح الله بالتجربة؟ نتقبّلها بفرح وبشكر لا بحزنٍ وتذمر. يقول القديس أثناسيوس الرسوليّ: [لنفرح عالمين أن خلاصنا يحدث في وقت الألم، لأن مخلصنا لم يخلصنا بغير ألم، بل تألم من أجلنا مبطلًا الموت، لهذا أخبرنا قائلًا: «في العالم سيكون لكم ضيق»، وهو لم يقل هذا لكل إنسان بل للذين يخدمونه خدمة صالحة بجهاد وإيمان، أي الذين يعيشون بالتقوى].نُمتحَن فنجاهد، ننتصر فنُكافَأ: نُمتَحن فنجاهد، لكي نهزم التجارب، فينصحنا سليمان الحكيم، قائلًا: «إِنِ ارْتَخَيْتَ فِي يَوْمِ الضِّيقِ؛ ضَاقَتْ قُوَّتُكَ» (أم24:10)، نُمتَحن، فنصير أكثر نقاءً، وننمو ونسير أكثر نحو الهدف الذي حسب إرادة الله، فإن «الذهب يُمحَّص في النار، والمرضيين من الناس يُمحَّصون في آتون الاتضاع» (سي2:5)، فالشخص الذي يجاهد في التجربة، يصير أقوى وأكثر نقاء، هكذا قال أيوب الصديق: «إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ» (أي23:10). ننتصر فنُكافَأ: «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (2كو4:17)، و«مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ» (رؤ2:7)، فأبناء الملكوت: «هُمُ الَّذِينَ أَتُوا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ» (رؤ7:14)، هم الذين دخلوا من الباب الضيق (مت7:13). الصوم تكثر فيه التجارب، لذا لنكثر من تجاوبنا مع النعمة، لكي نسمع «أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي» (لو22:28). القمص بنيامين المحرقي
المزيد
26 أغسطس 2022

وجدت كلامك كالشهد

" هل يدفعك الشوق والحب المقدس للمسيح إلى القراءة في الكتاب المقدس ؟ إن كان ذلك فطوباك .. وإن لم يكـن .. فما زلت بعيداً عن الطريق " . ( القمص بیشوی کامل ) " لأن كلمـة اللـه حيـة وفعالة وأمضـى مـن كـل سـيـف ذي حـدين ، وخارقـة إلى مفـرق الـنّفس والـروح والمفاصـل والمخـاخ ، ومميـزة أفـكـار القلـب ونياتـه . وليست خليقـة غـيـر ظـاهرة قدامـه ، بـل كـل شـيء غريان ومكشوف لعيني ذلـك الـذي مـعـه أمرنـا فـإذ لـنـا رئيس كهنـة عـظـيـم قـد اجتــاز السّماوات ، يسـوع ابـن الله ، فلنتمسك بـالإقرار .لأن ليس لنـا رئيس كهنـة غـيـر قـادر أن يرثى لضـعفاتنا ، بل مجرب في كل شيء مثلنا ، بلا خطية . فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكى ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه " ( عب ٤ : ١٢ - ١٦ ) . الكتاب المقدس خطوتنـا الثالثة في الطريق الروحـي ... في كلـمات بسيطة يمكننا أن نعرف الكتاب المقدس ، أنه : 1 ـ هو كلام الله ( هو رسالة الله وحديثه للإنسان ) . ٢ ـ هو تاريخ البشرية ( حياة الإنسان على الأرض ) . 3 ـ هو قانون الدينونة ( دستور يوم الحساب الأخيـر ) . 4 ـ هو موضع لقاء ( مكان يلتقي فيه الإنسان مع الله ) .ولـكـي تشـعر بأهمية الكتـاب المقدس وضـرورة وجـوده ، يـلـزم أن تجيب على هذه الأسئلة الثلاثة بالترتيب : ۱ ـ هل لك " اعتراف " بأهمية وجود الكتاب المقدس في الحياة البشرية ؟ ٢ ـ هل لك " اقتناع " بضرورة استخدام الكتاب المقدس شخصياً ؟ 3 ـ هل لك " إيمان " بقدرة الكتاب المقدس ، وقوة تأثيـره ؟ - فـإذا اعتـرفت بأهميـة وجـود الكتـاب المقدس في الحيـاة البشـرية واعترفت بضرورة استخدام الكتاب المقدس شخصياً ، وآمنت بقدرتـه وقـوة تأثيره .. فلم لا تستفيد من هذه القوة وتستأثرها لصالحك ؟! يقول القديس أمبروسيوس : " نخاطب الله إذ تصلي ، ونصغي إليـه إذ نقـرأ الكتاب المقدس " . دعني أقدم لك مثالاً عمليـاً عـلى قـوة وتأثيـر الكتاب المقدس في حياة الكنيسة والقديسيـن عبـر العصور : داود النبـي يقـول : " لو لم تكن شريعتك لذتى ، لهلكت حينئذ في مذلتی " ( مز ۱۱۹ : 92) الرهبان قديماً : كانوا يقرأون سفر المزامير كل يوم ... - الكنيسة قديماً : كانت تقرأ الكتاب كله خلال أسبوع الآلام . يوحنا الذهبي الفم : كان يقرأ رسائل بولس كلها كل يوم . - الأنبا ابرام : كان يقرأ الكتاب كله كل 40 يوماً .والسؤال الآن ، ما الذي يمنعني عن الاستفادة من الكتاب المقدس ؟ سنحاول أيها القارئ الحبيب أن نحلل معاً بعض المشاكل والمعوقات التي تعوق استفادتنا من الكتاب المقدس ، وبنعمة المسيح نحاول أن نستعرض حلولاً لهذه العقبات . 1 ـ مشكلة الوقت : لعلك تقول : " مشغولياتي اليومية كثيرة ومتنوعة ، مما يسبب ضيق شديد في الوقت ، ولذلك لا أجد وقتاً للقراءة اليومية أو الدراسة ... وعادة أتـرك الأمـر للظروف " . أُجيبك : هذا معطل وهمي لكل العبادات الروحية ، وهـو عادة وسيلة يغطي بها الإنسان على كسله وتوانيه ، فالذي يقول أنه ليس لديه وقت لقراءة الكتاب المقدس ، يمكنه أن يقول بنفس المنطق أنه ليس لديه وقت يذهب فيـه إلى الملكوت .. وإن لم تكن قراءة الإنجيل مستطاعة لديك ، فأنـت بـذلك تجعـل قلبـك مسكناً خالياً وجاهزاً لسـكنى عـدو الخيـر ... إذ لا يوجـد فيـه تأمـل ولا قراءة ولا أفكار روحية . نصيحتي لك : لا بد أن تجد وقتاً لنفسك ولكتابك المقدس ... اجمع فتات الوقت الضائع في كل يوم وسوف تجده ليس بقليـل ... فكـر وحـاول ، وقطعاً سوف تجد وقتاً ضائعاً . واعلم أن الله ليس محتاجاً إلى هذا الوقت الذي ستقرأ فيـه .. بـل أنـت المحتاج إليه أولاً ودائماً ، كما تصلي في القداس الإلهي ( الإغريغوري ) : " لم تكـن أنت محتاجاً إلى عبوديتي ، بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك " .إليك ثلاث خطوات عملية للتغلب على مشكلة الوقت : اختـر وقتاً مناسباً للقراءة : مـن أجمـل فـتـرات القراءة هـي أول النهار ، حيث تأخذ بركة تدوم اليوم كلـه ... البعض يختار وقـت مـا قـبـل النـوم ، وهذا وإن كان مناسباً للبعض إلا أن وقت النـوم عـادة مـا يكـون الإنسان مرهقاً ، ومن ثم تكون الاستفادة قليلة . اختـر وقتاً ثابتاً للقـراءة : ابـدأ على سبيل المثال بعشـر دقائق تـزداد تدريجياً ... ولا تربط هذا الوقت المحدد بـأي عـادة أخـرى ( مثـل القـراءة قبل المذاكرة المسائية وعندما تبدأ الإجازات أو تنتهي فترة الدراسة - - - لا يكون لقراءة الكتاب وقت ثابت ) ، بل أجعله عادة تتربى فيك . اختـر وقتاً كافياً للقراءة : ضع دائماً في قلبـك أن تمتلئ روحياً وتشعر بمعية الله من خلال قراءاتك . ٢ ـ مشكلة الكم : لعلك تتساءل : كم أصحاح أقرأ كل يوم ؟ هل أكتفي بقراءة أصحاح واحــد أم اثنين ( أصـحاح مـن كـل عـهـد ) ؟ هـل أركـز وأكتفـي بجـزء مـن أصـحاح أو عدة آيات فقط ؟ نصيحتي لك : إن تحديد كم القراءة لا بد أن يكون تبعاً لحالة الإنسان الروحية ، وذلك تحت إرشاد أب الاعتـراف . ولكن للمبتدئين ينصح دائماً بقراءة أصحاح مـن العـهـد القـديم ، وأصحاح مـن العـهـد الجديـد كـل يـوم ... ويمكـن قـراءة الكتـاب كلـه في سـنة بواقع أصحاحين من العهد القديم + أصحاح من العهد الجديد كل يوم . + وللمتقدمين على الطريق يمكنهم قراءة سفر ( أو عدة أسفار صغيـرة ) كل شهر ، وذلك من أجل التركيز . ويمكن القراءة بحسب جداول القراءات اليومية التي تقدمها دار الكتاب المقدس كل سنة ، ولكنها موزعة على الكتاب المقدس بدون ترتيب . 3 ـ مشكلة الكيف : لعله يدور في ذهنك : " كيف أقرأ الإنجيل ؟ .. هل قراءته تختلف عن قراءة باقي الكتـب ؟ هـل يستلزم ذلك وضعاً معيناً أو تهيئة معينة ؟ هـل أكتفي بالقراءة بالعين أم بصـوت مسموع ؟ هـل أكتـب الآيـات التـي تجـذبني في نوتة خارجية ، أم أكتفي بأن أضع تحتها خطأ في الكتاب المقدس ؟ ... " . نصيحتي لك : أن تضع في قلبـك دائماً أن قراءة الكتاب المقدس هي للفهم ... ليس بالعقل ولكن بالقلب والفكر والإرادة والقدرة هي قراءة للفهم وليس للفحص أو المحاجـاة أو الاستذكار . والمرتـل يـقـول : " لكل كمال رأيت حداً ، أما وصيتك فواسعة جداً " ( مز 119 : 96 ) . فهم الكتاب المقدس ليس ذلك الفهـم الـذي يتأمل في جمال الكلمات ويشرح معانيها .. ولكنه الفهم النابع من الخبرة واختبار المسيح في حياتك . هذا الذي بدوره يتحول إلى حياة أبدية ، ويجعل للإنسان صلة حية بالمسيح . .... هذا الفهم العملي يتطلب منك أن تقرأ الكتاب المقدس : بالروح ... لأن هذا الكلام هو روح وحياة . • بخشوع . ... اكشف عن عيني ... فعندما تقرأه أنت في حضـرة اللـه . قراءته تختلف عن أي كتاب آخر . • باتضاع : فأرى عجائب من شريعتك . • بإرشاد الروح القدس : على فهمك لا تعتمد . يفضل أن تربط بين القراءة والكتابة في دراستك الكتابية مثل : • وضع عناوین جانبية لكل جزء تقرأه . • وضع خطوطاً تحت الآيات المختارة ( يفضل استخدام الألوان ) . كتابة الآيات المختارة في كراسات خاصة أو نوت صغيرة . التعليق بتأملات وصلوات على هذه الآيات . . • كتابة آية اليوم في ورقة صغيرة تضعها في جيبك طوال اليوم . ٤ ـ مشكلة المداومة والاستمرار : لعلك أيضاً تتساءل : أنا اقرأ الكتاب ولكن ليس كل يوم ، أنا أواظـب عـلى القراءة وقت الدراسة ... أما فترة الإجازة فتمر دون فتح الإنجيل . فماذا أفعل ؟ ضع في ذهنك أن نقطة الماء إذا نزلت بمداومة على صخرة ، فإنهـا تحفـر فيها مجرى وطريق ، وكلمة الله هي تلك القطرة التي بمداومة القراءة لا بد أن تحفر في قلبك طريق يغير من حياتك بجملتها ، فالقراءة والفهم والمعرفة هـي للعمل والسلوك قبل أن تكون للكلام والوعظ والأحاديث والتأملات . فضلاً . عن أن السبب الرئيسي للضعف الروحي والهزيمة المستمرة أمام الخطية يعود إلى إهمال كلمة الله ، فالذي لا يداوم على قراءة كلمة الله تذبل حياته الروحية وتجف ويقع في خطايا عديدة ويساق إلى الدينونة . نصيحتي لك : إن شعرت بصعوبة في المداومة والاستمرار على قراءة كلمـة اللـه ، أن ترتبط بمجموعة في القراءة والدراسة ، فذلك يشجع كثيـراً عـلى الاستمرار وعدم الإهمال . ه ـ مشكلة الفهم والمعرفة : تتساءل أيضاً : " كثيـراً مـا أقـرأ ولا أفهـم ، وأحياناً أستصعب الجـزء الـذي أقرأه ، وهناك أجزاء من الكتاب المقدس لم أحاول التطرق إليها ، لأننـي أسـمع على مدى صعوبتها بالإضافة أني لا أفهمها . لماذا ؟ " . أجيبك عزيزي القارئ : ! السبب في ذلك هـو تقصيرنا أولاً وأخيـراً ... فهل تصلي وتطلب من الرب قبل أن تقرأ ؟ وإذا تعسـر عليـك أمـر ، هـل تصـلي من أجله ليكشفه الرب لك ؟ وهل تُعطي وقتاً كافياً في الجزء الذي تقرأه ؟ وهل تختار السفر المناسب لحالتك الروحية والمناسبة الكنسية ؟ وهل تستعيـن بقراءة التفاسيـر وسيـر الشخصيات الكتابية ؟ وهـل تستعيـن بالجـداول والخرائط والأشكال التوضيحية التي تساعدك ؟ وهل تسأل الآباء والإخـوة فيما استعصى عليك ؟ إليك بعض الكتب المساعدة لك في الفهم والمعرفة : • الكتاب المقدس بشواهد . قاموس الكتاب المقدس ( كلمات أبجدية ) . • فهرس الكتاب المقدس ( آيات أبجدية ) . أطلس الكتاب المقدس ( خرائط وجداول ) . • مرشد الكتاب المقدس ( مقدمات للأسفار ) . 6 ـ مشكلة النمو والتقدم : أقرأ في الكتاب ولا أشعر بأي نمو في حياتي .. فخطاياي ما زالت كما هـي . أقرأ ولكنني سريعاً ما أنسى ما قرأته ... ماذا أفـعـل ؟ يقـول اللـه عـن كلمته : " السّماء والأرض تزولان ولكـن كلامي لا يزول " ( مت ٢٤ : ٣٥ ) ، وهذا معناه أن كلمـة اللـه ذات مفعول حتمي . ويوضـح الـرب قصده من كلمته فيقول : " هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي . لا ترجع إلي فارغة ، بل تعمل ما سررت به وتنجح في ما أرسلتُهـا لـه " ( إش 55 : 11 ) . على هذا الأساس فأن مجرد قراءة الكتاب هو قوة ، وأيضاً كشـف لطريـق حياتي : " سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي " ( مز 119 : ١٠٥ ) . ولكي تشعر بنمو في حياتك الروحية : • حـاول أن تحفـظ بعـض الأجـزاء والآيـات التـي تفيـدك في حياتـك العملية .. خاصة وقت التجارب . • إذا جلسـت لمحاسبة نفسـك ، فـافتح كتابـك ، وأطلـب مـن اللـه أن يكشف لك نفسك على ضوء كلمته . • ادرس الكتاب بحب ، فهو رسالة الله لك أنت شخصياً ... قبـل أن تقـرأ صل قائلاً : " يارب أعطني القوة الكامنة في كتابك " . ۷ ـ مشكلة الاستخدام : بقي لك أن تسألني ، فيم أستخدم معرفتي بالكتاب المقدس ؟ ما هي الفائدة التي تعود علي من قراءة الكتاب المقدس ؟ إن أسوأ استخدام للكتاب المقدس هو أن نجعله مصـدراً لاقتباس الآيات وحسب ، فالكتاب المقدس هو بمثابة مرشد عملي لحياة الإنسان فهو : • يبني شخصية الإنسان ويكونها : لأن من يقرأ عن أبطال الإيمان وسيـر حياتهم يصير كواحد منهم ، تماماً كمـن يـقـرأ عـن الرياضييـن فيصيـر واحداً منهم . إن هذه القراءة المقدسة تكون جـزءاً كبيـراً مـن شخصية القارئ وتقدس فيه المشاعر والمبادئ والصور هذه القراءة المقدسة تقدس معارف الإنسان وتبني روحياته ، وتساعده كثيراً في الصلاة . • يساعد الإنسان في خدمة الآخرين وتقديم الكلمة المعزيـة لهـم في كل مناسبات الافتقاد .. ويجعل الإنسان في حضرة الله على الدوام . ... • يعزي الإنسان في طريق الحياة في مختلف المواقف ، ويجعـل كلمـة الله لا تفارق فمه ، لأنها أحلى من الشهد . أخيراً أود أن أقدم لك بعض التداريب الخاصة بقراءة الكتاب المقدس : كتابة فصول الآحاد في كراسات خاصة مع تأملات حولها . حفظ آيات على الحروف أو المواقف . القراءة بهدف " كعناية الله بالإنسان " أو استخراج الصلوات الكتابية . الخرائط وتصميم الجداول والأشكال التوضيحية . رسم دراسة موضوع تحت عنوان : " ماذا يقول الكتاب عن ... ؟ " . البحث الخاص أو المشترك مع بعض الإخوة . كل عمل تعمله يكون لك شاهد عليه من الكتب . سأتركك الآن يا عزيزي مع بعـض الأقـوال " للقمص بيشـوى كامـل " عـن الكتاب المقدس : + دراسة الكتاب المقدس هي اشتياق للاستماع إلى الله . + دراسة الكتاب المقدس هي أقوى عامل للتوبة . + عليك أن تقيس قراءاتك بهذا الترمومتر لعلك تستطيع أن تُدرك هـل أنت حار أم فاتر ؟ + إن الذي سيسهل لنا طريق الحب ويجعلنا ضمن جماعة المحبيـن للـه هو الاستزادة المتعطشة لكلمات الإنجيل . + الإنجيل هو كلمة الآب المقدمة لأبنائه . فكيف نستعذب قراءته إن لم نكتشف أبوة الله لنا ؟! + كلمـة اللـه تلين القلب ، وتذيب قساوته ، وتعلم الاتضاع والمسكنة والتوبة والبحث عن خلاص النفس . + إهمال الكتاب المقدس كارثة للسائر في غربة هـذا العـالم . إنّه لا بد أن يضل الطريق . ربنا يسوع المسيح كانت ردوده على الشيطان من الكتاب المقدس كذلك عدو الخيـر كان يتحدث بكلمات وآيات ناقصة من الكتاب المقدس . قداسة البابا تواضروس الثانى البابا ال١١٨ عن كتاب خطوات
المزيد
25 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس موسى

موسى " بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "عب 11: 24 مقدمة قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!.. من هو موسى؟!! عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!.. موسى الجميل لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!.. موسى المتعلم وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!.. موسى المقتدر لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!.. موسى الحالم كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا". موسى الحليم لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!.. موسى صديق الله لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!! موسى والبيت القديم ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر":..هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!. ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى. على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!.. موسى والرفض العظيم وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!.. كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!.. إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!.. موسى ومدرسة مديان الكبرى كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق. وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!.. وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!.. موسى والدعوة العليا كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!.. وقت الدعوة فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!.. مكان الدعوة لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!.. مظهر الدعوة ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!.. هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!.. نداء الدعوة لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن". وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!. هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!
المزيد
24 أغسطس 2022

ما بين السرعة والبطء

هل من الصالح السرعة في العمل أم البطء فيه؟ إنه سؤال حير الكثيرين‏,‏ وتعددت فيه الآراء وتناقضت‏,‏ وبقي الناس حائرين‏.‏ فنسمع أحد الشعراء يشجع علي التروي والتأني وهو مرحلة ما بين السرعة والبطء فيقول‏. قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الذلل ولكن هذا الكلام لا يعجب شاعرًا آخر فيرد عليه قائلًا: وكم اضر ببعض الناس بطؤهم وكان خيرا لهم ولو أنهم عجلوا وهكذا بقي الأمر كما هو موضع حيرة: هل نبت في الأمر بسرعة؟ أم نتأنى ونتروى؟ فما هو الحل؟! ولاشك أن كثير من الأمور لا يمكن أن تقبل التباطؤ. وقد يكون البطء فيها مجالا للخطر والخطأ. ويحسن فيها البت السريع.فمثلا التباطؤ في معالجة بعض الأمراض الجسدية، قد ينقلها إلي مراحل من الخطر، يصعب فيها علاجها أو يستحيل... وبالمثل في مسائل التربية. حيث يؤدي التباطؤ في تقويم الطفل أو الشاب إلي إفساده بينما لو عولج في طفولته بالهداية لكان الأمر سهلا مثل غصن الشجرة الذي يمكن عدله في بادئ الأمر، أما إذا تقادم فإنه يتخشب ويصعب تعديله. وفي ذلك قال الشاعر: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب وعلي ذلك لا يصح أن يتباطأ إنسان في التوبة. لأن كل أمر يمر عليه في الخطيئة، إنما يزيد استعبادها له. فيتحول الخطأ إلي عادة. وقد تتحول العادة إلي طبع. وحينئذ قد يحاول الخاطئ أن ينحل من رباط خطيئته أو شهوته فلا يستطيع. أو قد يستطيع بنعمة الله أن ينحل من هذه الرباطات بعد مدة، ولكن بمرارة وصعوبة، وبعد جهاد مميت... كل ذلك لأنه تباطأ في توبته وفي معالجة أخطائه.هناك إذا مواقف تحتاج إلي بت سريع وإلي حزم، قبل أن تتطور إلي أسوأ، وقبل أن يسبق السيف العزل. وبعض التصرف السريع قد يكون مؤلمًا، ولكن يكون لازما بقدر ما يكون سريعا وحاسما. وهناك علاقات ضارة وصداقات معثرة، ينبغي أن تؤخذ من أولها بحزم. كما قد توجد اتجاهات فكرية مخربة، أو اتجاهات سلوكية منحرفة. إن لم يسرع المجتمع في التخلص منها، فقد تقاسي من هذا التباطؤ أجيال وأجيال... ومن الناحية الأخرى هناك مواقف عكسية كثيرة تحتاج إلي التأني، ويتلفها الإسراع أو الاندفاع. فمتي يصلح التباطؤ إذن؟ يعجبني ذلك القول الحكيم: 'ليكن كل إنسان مسرعًا إلي الاستماع، مبطئا في التكلم، مبطئا في الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله'، ونص الآية هو: "لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ. لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ" (رسالة يعقوب 1: 19، 20) ... نعم إن التباطؤ في الغضب فضيلة كبيرة. فإن الإنسان سريع الغضب، قد يصل به الغضب إلي الاندفاع. وفي اندفاعه قد يفقد سيطرته علي أعصابه، أو قد يفقد سيطرته علي لسانه، ويقع في أخطاء كثيرة...لذلك احذر من أن تأخذ قرارًا حاسمًا في ساعة غضبك. لئلا تضر نفسك أو تضر غيرك. إنما حاول أن تهدئ نفسك أولًا. ثم بعد ذلك فكر وأنت في حالة هدوء،أو تباطأ في الوضع أو أجل الأمر إلي أن تهدأ. فإن القرارات السريعة التي تصدر في حالة غضب، قد تكون غالبيتها عرضة للخطأ.قد يطلق إنسان امرأته، إن أسرع باتخاذ قرار في ساعة غضب. وقد يفقد أعز أصدقائه، وقد يتخلى عن عمله، بل قد يهاجر أيضا من وطنه... كل ذلك لأنه أخذ قرارا سريعا في ساعة انفعال، دون أن يتباطأ ويفكر، ودون أن يؤجل الموضوع إلي أن يهدأ.بل قد ينتحر إنسان ويفقد حياته، لأنه أسرع باتخاذ قرار ساعة انفعال! أو قد يسرع بقتل غيره آخذا بثأره منه. كل ذلك في ساعة انفعال. لذلك من الخير أن يكون الإنسان مبطئا في غضبه. وإذا غضب لا يقرر شيئًا بسرعة.وإذا قرر إنسان شيئًا بسرعة، فلا مانع من أن يرجع في قراره. أو قد يظن البعض أن الرجوع في القرار حينئذ، ليس هو من الرجولة أو من حسن السمعة... ولكن الحكمة تقتدي منا أن يراجع الإنسان نفسه فيما اتخذه من قرارات سريعة. اترك القيادة لعقلك لا لأعصابك. وإن أسرعت في التصرف في حالة انفعال، تكون وقتذاك منقادا بأعصابك لا بعقلك. وهذا خطر عليك وعلي غيرك.أحذر أيضا من أن تكتب رسالة إلي غيرك في ساعة غضب. لأنك ستندم علي ما كتبته، ويؤخذ وثيقة ضدك. فإن لم تستطع أن تقاوم نفسك وكتبت مثل هذه الرسالة، فنصيحتي لك أن تتباطأ في إرسالها. أتركها علي مكتبك يومين أو ثلاثة. ثم عاود قراءتها مرة أخري. فستجد أنها تحتاج إلي تعديل وتغيير، أو قد تجد أنك قد استغنيت عنها ولم تعد تتحمس لإرسالها.إن التباطؤ في الغضب قد يصرفه. كذلك البطء في التكلم نافع ومفيد. استمع كثيرًا قبل أن تتكلم. حاول أن تفهم غيرك، أو أن تلم بالموضوع إلماما كاملا. وأعط نفسك فرصة للتفكير ولمعرفة ما ينبغي أن تقوله. حينئذ يكون كلامك عن دراسة وبهدوء فلا تخطئ. إن الكلمة الخاطئة التي تقولها، لا تستطيع أن تسترجعها مرة أخري، فقد تسجلت وحسبت عليك.علي أن الإنسان يجب أن يكون مسرعًا في التوبة. ويجب أن يكون مسرعا في إنقاذ غيره. فأنت لا تستطيع مطلقا أن تبطئ في إنقاذ غريق، كما لا يستطيع المجتمع أن يبطئ في إنقاذ من هم في حريق. ولذلك فإن عربات الإسعاف، وعربات إطفاء الحرائق لها في غالبية البلاد وضع آخر في حركة المرور. فحياة الناس والحفاظ عليها، لا يصح لها الإبطاء أبدًا.كذلك في أمور الإدارة، هناك موضوعات لابد من الحزم فيها بسرعة قبل أن تتحول الشكوى إلي تمرد، ويتحول التمرد إلي مظاهرات وإلي مشاحنات وما لا يليق. قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
23 أغسطس 2022

النجار ابن مريم

يصف لنا القديس مرقس الرسول بدقة أحد الأحداث المهمة في حياة السيد المسيح والسيدة العذراء في الأصحاح السادس من إنجيله. فهوذا السيد المسيح قد جاء من كفرناحوم بعدما كان قد أقام ابنة يايرس وأتى إلى وطنه أي إلى الناصرة. لقد جاء إلى مدينته كواحد من معلمي الناموس متبوعًا بتلاميذه، وابتدأ يعلم في المجمع في يوم السبت. عندئذ بُهِت السامعون من تعليمه وحكمته وتساءلوا: «أليس هذا هو النجار ابن مريم؟» (مر6: 3). ومن المعروف بين اليهود أن الابن (والابنة) يُنسب لأبيه وليس لأمه حتى ولو كان أبوه ميتًا. فنرى مثلًا: يوحنا ويعقوب ابني زبدي، وسمعان بن يونا، وحنة بنت فنوئيل... إلخ. أمّا أن يُنسب الابن لأمه فكان ذلك يحمل إشارة لكونه ابنًا غير شرعي لا يُعرف اسم أبيه! بالتالي، يكون هذا اللقب "النجار ابن مريم" الذي سُمِّي به يسوع من قِبَل أهل بلدته حاملًا إساءة خفية للسيد المسيح وأمه. وأيّة إساءة أعظم وأمرّ من أن ترى الأم القديسة ابنها يُهان، وأن يرى الابن أمه كلية الطهر تُطعن في بتوليتها وطهارتها؟!لكن على النقيض توجد حالة أخرى وحيدة يُنسب فيها الابن إلى أمه وهو أن يكون واحدًا من ملوك يهوذا. فقد لاحظ دارسو الكتاب المقدس أنه في سفري الملوك الأول والثاني، بينما كان يوثّق كاتبهما سيرة وتتابع كل من ملوك يهوذا وملوك إسرائيل بعد انقسام مملكة داود، تعمّد الكاتب أن يذكر أسماء أمهات ملوك يهوذا وأن يُغفل ذكر أسماء أمهات ملوك إسرائيل. والاستثناء الوحيد في ذلك هو يهورام وآحاز ملكا يهوذا اللذان وُصِفا بأنهما سلكا في طريق ملوك إسرائيل وبالتالي لم يُذكر اسم أم كليهما. واستنتج الشُرّاح أن السبب في ذلك هو أن أم الملك ، وليست زوجته، كانت تحصل على لقب الملكة، وكانت تُسمى "الملكة الأم"، وكان لها الكلمة العليا في القصر بعد ابنها الملك، كما كانت تجلس في مجلس القضاء معه عن يمينه. أما كون ملوك يهوذا فقط هم الذين حُفظت أسماء أمهاتهم في سفر الملوك لأن ذلك له تفسير مسياني. فقد كان من المنتظر أن يجيء المسيا من سبط يهوذا. وبالتالي، كان من المتوقع أن تكون إحدى أمهات ملوك يهوذا تلك هي المرأة التي يسحق نسلها رأس الحية بحسب الوعد الإلهي لحواء. من هنا نرى كل العجب في كلام مار مرقس المــُلهم بالروح القدس. فهو الإنجيلي الوحيد من بين الإنجيليين الثلاثة الذين وصفوا تلك الحادثة الذي ذكر أن أهل الناصرة لقّبوه "بالنجار ابن مريم". ففي إنجيل لوقا قالوا: «أليس هذا ابن يوسف؟» (لو4: 22)، بينما نجدهم في إنجيل متى يقولون: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أنه تُدعى مريم» (مت13: 55).ما أحلى عمل الله العجيب الذي جعل أهل الناصرة يشهدون دون أن يدروا للملك المسيا النجار الذي ملك على خشبة، ولأمه الملكة. فبينما أرادوا الإساءة لها والتشهير بسيرتها الطاهرة، كرّموها كرامة الملكة أم ملك الملوك ورب الأرباب. نيافة الانبا يوسف أسقف جنوب الولايات المتحدة الأمريكية
المزيد
22 أغسطس 2022

الحديث الروحي

تميزت العذراء مريم ضمن صفاتها الرائعة بالحديث الروحي مع الملاك الذي بشرها إذ قالت: «هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك» (لو1: 38)، وكذا في حديثها مع أليصابات حين زارتها، وقولها في التسبحة الجميلة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى أتضاع أمته...» (لو1: 46-56).ونود ونحن في صوم العذراء -الذي صامه التلاميذ الاثنا عشر لكي يروا صعود جسدها إلى السماء بعد نياحتها- أن نتعلم من العذراء كيف نتكلم مع الله والناس، ولا شك أن المصدر هو الروح القدس الذي يقودنا حين نتكلم كلامًا روحيًا لائقًا بالسيرة الروحية، وأما سمات هذا الحديث الروحي:1- الكلام الإيجابي: بمعنى أن يكون مُفْعَمًا بالفضيلة، مثل المحبة وطول الأناة والرحمة والرغبة في الاحتواء والتهدئة وامتصاص متاعب الآخرين وحل مشاكلهم، وروح المغفرة للإساءات من الآخرين، وكذلك اللطف مع الوداعة تقدم حديثًا هادئًا موضوعيًا خاليًا من الغضب والانفعال السلبي.2- التعلُّم من القدوة الصالحة: فالسيد المسيح هو المثل الأعلى لنا في أحاديثه وكلماته الرائعة جدًا، ففي حديثة عن التطوبيات وتركيزه على فضائل هامة مثل المسكنة بالروح (الاتضاع) والرحمة والوداعة وصنع السلام واحتمال الإساءات كالطرد والتعيير والاتهامات زورًا والفرح بالإهانات لأن الأجر عظيم في ملكوت السماوات، وتقديم الأنبياء كأمثلة في كل هذه الفضائل، دليل أنها عملية ويمكن تنفيذها في الحياة.3- المواقف العملية: حين أتوا إلى المسيح بالخاطئة التي أُمسِكت في ذات الفعل قال لهم: «مَنْ منكم بلا خطية فليرمها بأول حجر»، وجلس يكتب خطية كل مَنْ يتقدم بحجر ليرجمها حتى انصرف الجميع وألقوا بالحجارة بعيدًا، ولم يبقَ سوى المرأة في خجل شديد من الموقف، ولكن الرب قال لها في رفق وحنو «اذهبي ولا تخطئي..."، بعد أن قال لها: «ولا أنا أدينك»، وهنا الأمثولة الرائعة. وفي موقف آخر حين تقدمت له أم غريبة الجنس تطلب شفاء ابنتها بإيمان، قال لها: «ليكن لك ما تريدين»، فشُفِيت أبنتها في تلك اللحظة.. ما أروع هذه المواقف المملوءة محبة قوية علوية.4- روح الخدمة التلقائية: فكل محتاج ذهب للسيد المسيح قدم له احتياجه، سواء فرد أو مجموع. فحين تقابل مع الجموع: قبلهم وتكلم معهم بكلام الحياة الأبدية ساعات طويلة، ثم قدم لهم طعامًا بالبركة في خمس خبزات وسمكتين حتى شبع الجميع وفضل عنهم اثنتا عشرة قفة مملوءة. وحين ذهبت إليه مرثا ثم مريم أختا لعازر حين مرض ومات، أتى وأقامه بعد أن أنتن في القبر. وفي لقاء المرأة الخاطئة في المدينة أتت إليه من ورائه وأمسكت برجليه (مشطي القدم) وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها، فمدحها السيد المسيح ووصف محبتها الفائقة أنها رغبة في التوبة والمغفرة وقال عنها «هذه أحبت كثيرًا» لذلك غُفِر لها كثير، وحين أدانها الفريسي، بل أدان السيد المسيح لأنه سمح لها أن تلمسه، يقول لوقا البشير «فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا: لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ» (لو7: 39).حقًا كان الرب المتجسد مثالًا في الخدمة، مقدِّرًا النفس البشرية التي اعتبرها الهدف من كل ما فعله الله من إعطاء للوصية أو الفداء على الصليب بعد التجسد، وهذا يكشف عن كرامة الإنسان عند الله لأنه مخلوق على صورته ومثاله وموضوع اهتمامه دائمًا. يا ليتنا نتعلم من مخلصنا الصالح روح الخدمة بالحديث الروحي والمواقف العملية وروح الخدمة التلقائية، ووضع كل الإمكانيات لخدمة كل نفس سواء المال كوسيلة أو مباني الخدمة التي تقيمها الكنائس كمجمعات الخدمة ومرافق كثيرة للحضانات والخدمة الريفية وباقي الخدمات. نيافة الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
21 أغسطس 2022

أشياء تميزت بها العذراء مريم ( ٢ )

نستكمل باقي صفات السيدة العذراء مريم التي بها جذبت قلب الله ليأتي منها مولود من امرأة 4- فضيلة التسليم :- كانت السيدة العذراء تعيش حياة التسليم كاملة لإرادة الله منذ صغرها ووجودها في الهيكل ونجد ذلك واضحاً بشكل كبير أيضاً أثناء بشارة الملاك لها حيث أنها ردت قائلة ” لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ ” ( لو 1 : 38 ) ، دون أن تنظر إلى المتاعبِ والمشقات التي من الممكن أن تتعرض لها من شك يوسف أو نظرة الناس لها . ولكنها سلمت إلى مشيئة الله وخضعت لاختياره لها كان التسليم عجيباً إلى المنتهي حتى وقت الصلب واتمام قصة الخلاص “أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك ، الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا أبني وإلهي “.. إنه تسليم في كل مراحل الحياة.. لتكن مشيئتك يا رب.. 5- فضيلة إنكار الذات :- لم تعيش السيدة العذراء يوماً طالبه كرامة أو نعمة في عيون الأخرين ولكنها كانت ناكرة ذاتها منذ أن كانت طفلة وهي تخدم في الهيكل . وفي البشارة حين قالت : ” هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ ” ( لو 1 : 38 ) أي عبدة ( خادمة ) لم تعطي ذاتها كرامة بل قللت من شأنها وهكذا عاشت حياتها . فانكار الذات و الانكسار أمام الله هو طريق الانتصار ومن يتواضع يرفعه الله “أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِين ” ( لو 1 : 52 ) . 6- فضيلة الأحتمال :- وهنا أقصد الأحتمال من ناحيتين ( احتمال الآلام و احتمال الكرامة ) قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج إلى مجهود اكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين : “هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات ” ونجد أن السيدة العذراء منذ صغرها وهي كانت محتملة لكل الأمور حتي في حياتها داخل الهيكل ولم يكن من السهل أن تعيش طفلة عمرها 3 سنوات بداخله وأحتملت أيضاً البشارة وفرحتها بأن تكون أم المخلص وأحتملت الأهانات والمطاردة من هيردوس وأحتملت مشاق الولادة في مزود وأحتملت الآلام التي جازت في نفسها وقت الصلب وفراق وحيدها . 7- حياة الإيمان :- يقول القديس بولس الرسول ” جربوا أنفسكم ، هل أنتم في الإيمان . امتحنوا أنفسكم ” ( 2كو 13 : 5) أنه ليس مجرد الإيمان العقلي ، بل هو إيمان حقيقي ، هو حياة يحياها الانسان فالله يسلمه حياته تسليماً كاملا في يده ونجد أن السيدة العذراء مريم تعجبت أثناء بشارة الملاك لها قائلة : ” كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً ؟ ” ( لو 1 : 34 ) . ولكنها وثقت بالايمان من بشارة الملاك لها بالرغم من أنها عذراء ( ليكن لك حسب ايمانك ) ” عب 11 ” لايمكن ارضاء الرب بدون الايمان . هذا الايمان الذي عاشته السيدة العذراء مستلمه اياه من أبويها وإزداد نموًا بوجودها في الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الرب الذي كانت تخبئه في قلبها محتفظه به وقد شهدت لها أليصابات قائلة : ” فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ “( لو 1 : 45 ) . 8- حياة الخدمة :- عاشت السيدة العذراء مريم منذ طفولتها حياة الخدمة . عاشت تخدم الآخرين حياة مبنية على المحبة والتواضع . منذ أن كانت في الهيكل وعمرها 3 سنوات تخدم الجميع . وبعد أن تركت الهيكل عاشت تخدم يوسف النجار خطيبها والعجيب أن السيدة لعذراء مريم ذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح , إلا إنها لم تمنعها كرامتها من تذهب إليها في رحلة مضنية شاقة عبر الجبال وتمكث عندها 3 شهور تخدمها حتى ولدت يوحنا ( لو 1: 39-56 ) وقالت لها : ” فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ ؟ ” ( لو 1 : 43 ) فعلت ذلك وهي حبلى برب المجد لذلك تعجبت اليصابات من اين لي أن تأتي الي وتخدمني . وهكذا أستمرت طوال حياتها تخدم الجميع دون كلل أو تعب . بل كانت مثمرة وأمينة في وزنتها ومن هذه النقطة ننتقل الي الفضيلة التاسعة . 9- أمينة في وزنتها :- عاشت السيدة العذراء مريم طوال أيام حياتها وأثناء خدمتها بأمانة شديدة جداً في وزنتها عاملة بالوصايا العشر التي حفظتها منذ طفولتها ولم تكسرها أبداً ” وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا ” ( لو 2 : 19 ) كانت أمينة في كل شئ وتعطي بحب ، كانت تقدم كل ماتملك وليس العشر فقط . كل ماتملك تقدمه . وذلك لأنه كما سبق وذكرنا قلبها حنون أمها اسمها حَنَة و قلبها يقيم فيه الله لأن أبوها يواقيم . فعاشت في مخافة الرب أمينة في كل وزنتها ( كل ما تملك ) . 10- عاشت حياة التقوي حياة روحية كالقديسين :- عاشت السيدة العذراء مريم مزروعة علي مجاري المياه تشرب من ينبوع الله . حياة العذراء مريم عاشتها من الكتب المقدسة التي كان تقرأها من العهد القديم . ” فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ . وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ ” ( مز 1 : 3 ) اثناء خدمتها في الهيكل كانت تري بعض الأخطاء ولكنها لم تتحدث عنها مع أحد أو تنتقدها ولم تدين أحد . و الانسان الذي يسير مع الله لا يخشي وان صار في وسط ضلال الموت لان الله معه ” أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا ، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي . عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ” ( مز 23 : 4 ) و كانت لاتخشي أخطاء الأخرين ” لأَنِّي أَنَا مَعَكَ ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ ” ( أع 18 : 10 ) كانت توزع طعامها وتصوم هي كانت لا تغلق قلبها علي الأخرين امينة جدا جدا الي المنتهي كانت أناء مقدس جعلت نفسها مكان وهيكل لسكنى الروح القدس ” أمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ ؟ ” ( 1كو 3 : 16 ) إذن النعمة التي عاشت فيها السيدة العذراء مريم هي عمل الروح القدس . فهي منذ أن كانت طفلة كانت في الهيكل . فتحت قلبها لعمل الروح القدس ، لذا كان طبيعيًا أن يحل فيها الروح القدس .ويأتي ليتجسد منها أبن الله عاشت حياتها متبعة للبر والقداسة ” اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ ” ( عب 12 : 14 ) الانسان الروحي يحكم في كل شئ ” وَأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَيُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ” ( 1كو 2 : 15 ) عاشت تغذي الروح و تنميها ، تشم البخور تسمع العظة داخل الهيكل فتتقدس . عاشت تقوي يالحياة الروحية علي الحياة الجسدية وأخيراً يا أحبائي مهما أن تحدثنا وذكرنا من نقاط وفضائل عاشتها السيدة العذراء لم نوفيها حقها لأن حقاً كانت أنجيل معاش ، استطاعت أن يختارها الآب أماً له. تطلع الآب من السماء فلم يجد مَن يُشبهكِ أرسل وحيده أتى وتجسد منكِ أتمني يا أحبائي أن ننظر إلى سيرتها العطرة فنتمثل بإيمانها السيدة العذراء كانت ممتلئة نعمة . تحاور الله في دالة متواضعة ، تسلم حياتها لله كل الأيام . عاشت تعاليم الأنجيل ” فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ ” ( في 1 : 27 ) ولإلهنا كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد . آمـــــيــن . نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات الأنبا أثناسيوس أسقف بني مزار والبهنسا
المزيد
20 أغسطس 2022

الإيمان في حياة العذراء: «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38)

إن كلمة إيمان في اللغة العبرية nāma تعني "أن يكون أمينًا"، كما جاء في سفر التثنية: «فَاعْلمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ اللهُ الإِلهُ الأَمِينُ الحَافِظُ العَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلى أَلفِ جِيلٍ» (تث7: 9). وكذلك: يؤتمن على. واُختُصَّ بها الله الذي هو الأساس والمصدر الحقيقيّ للأمن.وفي اللغة اليونانيّة ίστιϛπ تعني الثقة التي لدى الشخص في الله، أو في آخرين. وكان الإيمان في العهد الجديد يتضمن إدماج الإيمان بابن الله، والتوبة عن الأعمال التي تؤدي للموت، والمعمودية: «لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ، غَيْرَ وَاضِعِينَ أَيْضًا أَسَاسَ التَّوْبَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ» (عب6: 1). هكذا كانت العذراء القديسة مريم تحيا حياة الإيمان، الذي ظهر جليًا، إذ كانت تحيا حياة التسليم الكامل. لمشيئة الله، في هدوء، بدون جدال.السيدة العذراء آمنت وصدقت لكنها كانت تستوضح: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (لو1: 34)، إنها طاعة واعية واثقة، في كل ما احتملته لم تتذمر اطلاقا. بالرغم من ذلك قالت للملاك: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38). يقول القديس أمبروسيوس: [لم ترفض مريم الإيمان بكلام الملاك، ولا اعتذرت عن قبوله، بل أبدت استعدادها له، أما عبارة: "كيف يكون هذا؟ فلا تنم عن الشك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر... إنها تحاول أن تجد حلًا للقضيّة... فمن حقِّها أن تعرف كيف تتم الولادة الإعجازيّة العجيبة]. أمام هذا الإعلان أعلنت العذراء خضوعها بالطاعة. إن طاعة العذراء مريم قد حلت محل عصيان حواء أمها. ونلاحظ أن العذراء كانت إجابتها كلها اتضاع، فهي قد علمت أن من في بطنها هو الله، لكنها ها هي تقول هوذا أنا أمة الرب. إنه في اللحظة التي قبلت فيها العذراء كلام الملاك وقدمت الطاعة لله، قبلت سرّ التجسد، فالله يقدس الحرية الإنسانيّة، وكان غير ممكنًا أن يتجسد المسيح منها وهي لا تقبل هذا.ففى قولها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ» (أى عبدة أو جارية)؛ يعنى استسلام والتزام تام لمشيئة الله وحضوره غير المفحوص. هو في نفس الوقت تجاوب مع النعمة، واستسلام لعطية الله. فهى لم تسعَ لفحص كلام الله، ولم تضعه تحت مجهر العقل، بل كان كلامها وتجاوبها إعلان للإيمان والتسليم الكامل. فلم تطلب أن ترى دليلًا ماديًّا، بل ولم تسعَ لحظة بالشك، كما فعل بعض الأنبياء من العهد القديم، مثل موسى النبي، وجدعون (قض6)، وأيضًا حزقيا الملك (2مل20: 9). وكذلك هنا ظَهر الفرق بينها وبين زكريا الكاهن، العالم بالشريعة، والذي من المفترض أن يكون على علاقة شخصية حياتية مع الله، ولكن نجده يضع كلام الله تحت المجهر العقلي، فأجاب الملاك: «كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟». (لو1: 18). ألم تعرف يا زكريا أنه «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ» (لو18: 27)، ألم تقرأ يا زكريا كيف أعطى الله إبراهيم نسل، وغيره مما كتب في التوراة، وأنت العالم بالناموس والأنبياء؟عاشت العذراء حياة الإيمان والتسليم، رغم رحلة الصليب التي عانتها في الألم والمتاعبِ المتنوعة: شك يوسف.. الولادة في مذود حيوانات .. الهروب من وجه هيرودس إلى أرض مصر.. كما احتملت أن ترى آلام السيد المسيح وصلبه. في كل هذا عاشت «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ». وبذلك استمرت القديسة مريم العذراء في كل حين، تعيش بالإيمان والطاعة والتسليم المطلق، من يوم البشارة ليوم انتقالها. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
19 أغسطس 2022

حول التجلي الإلهي

صعد ربنا يسوع المسيح إلى جبل ثابور برفقة ثلاثة من تلاميذه وإذا به يصير مشعاً بكليته أمامهم، ورأوا برفقته موسى وإيليا يتحدثان إليه. ثم سمعوا صوتاً من السحابة يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.لقد وقع البعض في فخ تفسير التجلي تفسيراً سطحياً، وقالوا إنه مجرد نور حسِّي، كما فعل بعض الهراطقة، ولكن القديس بالاماس دحض مزاعمهم واستفاض في الرد عليهم في ثلاثياته المشهورة. ومما كتب القديس“… أن هذا النور… يسمو على سائر الكائنات فكيف نقدر أن نحتسب حسياً ما يسمو على سائر الكائنالت؟ أي كائن حسي ليس مخلوقاً؟ فكيف يكون ضياء الله مخلوقاً؟ فهذا النور ليس بحصر المعنى حسياً”[1]. يقع جبل ثابور في منطقة الجليل السفلي وعلوه حوالي 600 م. إن قلنا “الرب تجلى” لا نقصد بهذا أنه قد حصل أي تغيير للمسيح يسوع، فهو منذ البدء يلبس الألوهة، وقد ظهر للتلاميذ وللجميع كإنسان لابساً جسداً، بحسب ما تؤمن به الكنيسة أنه إله وإنسان معاً. إذن بالتجلي لم يحصل للرب أي تغيير، بل أنه كشف النقاب عن ألوهته المستترة تحت غطاء الجسد.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “… اليوم تُرى أمور غير منظورة للعيون البشرية، جسد أرضي عاكساً تألقاً إلهياً، جسد مائت يدفق مجد الألوهة… تجلى أمامهم الذي هو على الدوام ممجد وساطع ببريق الألوهة، لأنه، إذ هو مولود من الآب من دون بداية، فهو يملك شعاع الألوهة الطبيعي الذي لا بدء له، وهو لم يكتسب في وقت لاحق الكيان ولا المجد…… إنه يتجلى إذن، فلا يأخذ ما لم يكن عليه، بل يظهر ما هو عليه لتلاميذه، فاتحاً أعينهم، وجاعلاً إياهم مبصرين بعد أن كانوا عمياناً…”[2] نلاحظ بدايةً في النص الإنجيلي أن الرب يسوع يطلق عبارة “ملكوت الله” على نور تجليه: “…إن بعضاً من الموجودين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن البشر آتياً في ملكوته” (متى 16: 28، ولوقا 9: 27) لهذا ربط الآباء التجلي بالحياة الأبدية.قبل السقوط، كان آدم، الإنسان الأول، يتأمل في المجد الإلهي، ولكنه تحوَّل عن الجمال الأول وصار اهتمامه منصباً على كل ما هو أرضي. أما بالتجلي فقد أعاد الله للإنسان هذه الخاصيّة، هذه الرفعة، وسمح لبشر مائتين بأن يعاينوا مجده وجماله. بالتجلي شعّ يسوع بمحبته للبشر، و”دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9)، هو الشمس التي لا تغيب. وقد قال الكتاب: “النور يظهر للصديقين والفرح لمستقيمي القلوب” (مز 66: 11) وأيضاً يترنم داود قائلاً للرب: “ثابور وحرمون باسمك يتهللان” (138: 13) متنبأً عن الفرح الذي يحل على الجبل بالتجلي. الله يحوّل الذين ينيرهم إلى شموس أخرى لأن متى يقول أيضاً “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى 13: 43). ما هذا النور الساطع؟ لمَ تشبهونه بالشمس وهو صانعها و”المتسربل بالنور كالثوب”، و”كوكب الصبح”، وهو “النور المولود من النور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الذي لا يُقارن؟ هل أراد أن يريهم “المجد الذي كان له “من قبل إنشاء العالم”؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أراهم مجده”. ولكن، لماذا كتم الإله الذي قبل كل الدهور، ملك الملوك ورب الأرباب، عظمتَه ومجده كل الفترة التي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلا بهذه الطريقة؟ هل وجد أنهم كانوا، حتى تلك الساعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟ يقول القديس افرام السرياني إنه بهذا “أراهم كيف ينبغي أن يأتي في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته، وكيف سيتمجدون هم أيضاً”[3]. لم يكن هذا التجلي من أجله، بل من أجل تلاميذه (من أجل الكنيسة كلها). بسبب تواضعه أظهر لهم ألوهته ليروا مجده حتى لا يقعوا في الشك حين يرونه متألماً بالجسد ومائتاً على الصليب، عارياً مرذولاً. “عرفوه ابناً لمريم وأظهر لهم على الجبل أنه ابن الله. شاهدوه يأكل ويشرب، يتعب ويستريح، ينعس وينام، يخاف ويعرق، الأمر الذي لا يتناسب مع ألوهيته”[4]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “صعد إلى الجبل وتجلّى أمامهم، ولمع وجهه كالنور وصارت ثيابه بيضاء كالثلج. لقد شقّ جزئياً باب الألوهة وأراهم الإله الذي يسكن فيه وتجلى أمامهم… لماذا قال الإنجيلي: “أكثر من الشمس” لأنه ليس من كوكب أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: “أكثر بياضاً من الثلج”، لأنه ليس من مادة أكثر بياضاً، ولكنه لم يشعّ هكذا، إذ “وقع التلاميذ أرضاً”. فلو كان يشع كالشمس لما وقع التلاميذ أرضاً، إذ كانوا يرون الشمس كل يوم ولا يقعون أرضاً، بل لأنه شعّ أكثر من الشمس وأكثر من الثلج، فلهذا، ولكونهم ما استطاعوا احتمال بهائه، وقعوا أرضاً…”والحقيقة أنه، إذ أشفق على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله، “بحسب ما استطاعوا”، تقول الكنيسة في قنداق العيد. فماذا كان حدث لو أنه أراهم مجده الحقيقي؟ أما كانت الدنيا فنيت، لأنه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنه أبدى جوهره، أما كانت الشمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلف نفسه بجسد وأتى بعذوبة ودون صخب.إلا أن بطرس، وقد استنار فكره بهذه الرؤيا المغبوطة جداً… لم يعد يريد أن ينفصل عن هذا النور، فقال للرب: “حسن أن نكون هنا….” (لو 9: 33). في الحقيقة لم تكن ساعة التجديد قد حلت بعد: ولكن حين تحلّ فإننا لن نعود بحاجة إلى مظال صنع أيدي الناس. وأكثر من ذلك فإنه ما كان يجب مساواة العبدَين بالسيد، بصنع ثلاث مظال متشابهة، فإن المسيح، كابن حقيقي، هو في حضن الآب (يو 1: 18)، بينما النبيّان، كخادمَين حقيقيَّين لإبراهيم، سوف يسكنان في أحضان إبراهيم. وإذ كان بطرس لا يفقه ما يقول، اقتربت غمامة مضيئة وظللتهم بظلها، قاطعةً حديث بطرس ومظهرةً أية مظلة هي التي تليق بالمسيح. (القديس غريغوريوس بالاماس). (الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[5] ولكن ما هي هذه الغمامة؟ وكيف تظللهم بظلها وهي مضيئة؟ يتساءل القديس غريغوريوس بالاماس: أليست هي النور الذي لا يدنى منه الذي يسكن فيه الله (1 تيم 6: 16) والذي “يلبسه كالثوب” (مز 53: 2-3) لأنه “جعل السماء مركبة له” (مز 53: 2-3) و”جعل الظلمة خباءً له” (مز 17: 12). غير أن الرسول بولس يقول إن الله هو “الوحيد الذي يملك الخلود… الساكن النور الذي لا يدنى منه” (1 تيم 6: 16)، أي إن النور والظلمات هي حقيقة واحدة، وإن كانت الغمامة تظللهم بظلها فبسبب سموّ شعاعها. إلا أن اللاهوتيين يؤكدون أيضاً أن هذا النور – الذي رآه الرسل فيما مضى – لا يدنى منه… كما يؤكد ديونيسيوس العظيم أن النور الذي لا يدنى منه الذي يقال إن فيه يسكن الله هو ظلمة ويضيف: “فيه يولد كل من هو أهل لأن يعرف ويتأمل الله”.(ديونيسيوس الأريوباغي، الرسالة الخامسة) (من الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[6] لقد برهن لنا الرسل أنه يتعذر على أي طبيعة مخلوقة حتى التحديق بالمجد الإلهي، لأنهم ما استطاعوا تحمّل هذه الرؤية الظاهرة لهم على الجبل، بل وقعوا أرضاً، وما كانوا قد رأوا سوى جزء بسيط من المجد الإلهي.يقول الدمشقي: “المجد لم يأتِ على الجسد من خارج بل من الداخل، من ألوهية كلمة الله الفائقة الألوهية والمتحدة بالجسد بحسب الأقنوم على نحو يتعذر وصفه”[7]. وقال فم الذهب إن النور كان على وجه موسى عابراً، مستشهداً بقول الرسول بولس في (2 كور 3: 7).الآب والكلمة والروح القدس يملكون هذا النور بالطبيعة أما الآخرون فيشتركون في النور بالنعمة. وهذا ما نراه في موسى وإيليا. ليست أول مرة يشترك موسى بالنور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضاً حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكنوا من التحديق فيه (خر 34: 29) هذا ما يبرهنه أحد الآباء الذي يقول: “موسى تلقى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت”.“هذا المجد وهذا البهاء سوف يراهما الجميع حين يظهر الرب مشعاً من الشرق إلى الغرب. اليوم رآه الذين صعدوا مع يسوع، إلا أن أحداً لم يرَ جوهر الله ولا طبيعته. وهذا النور الإلهي قد أُعطي بمقياس، ومقسَّماً بدون تجزئة بحسب استحقاق الذين يتلقونه. والبرهان هو أن وجه يسوع يشع أكثر من الشمس وأصبحت ثيابه بيضاء كالثلج. ثم ظهر موسى وإيليا في المجد نفسه إلا أن أحداً منهما لم يشعّ بالقوة نفسها، كالشمس. أما التلاميذ فقد رآوا هذا النور لكنهم لم يتمكنوا من التحديق فيه. بالنتيجة فإن هذا النور يُعطى بمقياس وتجزئة ولكن من دون تقسيم. إنه يجعل الآخرين يعرفونه جزئياً الآن وجزئياً فيما بعد. لهذا يقول الرسول بولس الإلهي: “الآن نعرف جزئياً ونتنبأ جزئياً” (1 كور 13: 9). طبيعة الله لا تتجزأ على الإطلاق ولا هي قابلة للفهم على الإطلاق. ونحن، إذ ندير ظهرنا لهراطقة الأمس واليوم، نؤمن بأن القديسين يرون ويتلقون بالمشاركة ملكوت الله ومجده وبهاءه ونوره الذي لا يدنى منه ونعمته، ولكن لا جوهره…” (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[8] كما ينقل القديس بالاماس، في ثلاثياته، عن القديس مكسيموس قوله إن “التلاميذ انتقلوا من الجسد إلى الروح القدس حتى قبل انتقالهم من هذه الحياة، وذلك من جراء تغيير قد طرأ على عمل حواسّهم أحدثه فيهم الروح القدس”[9]. لمَ سقط الرسل أرضاً؟ ولكن حين تلتمع السحابة المضيئة ويدوي صوت الآب من السحابة يختفي النبيّان ويسقط الرسل أرضاً ويبقى الرب يسوع وحده: حتى يعرف الرسل أن المقصود بابن الله هو وحده وعليهم أن يسمعوا له.“وقع التلاميذ أرضاً ووجوههم نحو الأرض” (متى 17: 6)، ولم يكن ذلك بسبب الصوت، فقد سمعوه مرات كثيرة في مناسبات أخرى: على الأردن، ولكن أيضاً في أورشليم عند اقتراب الآلام الخلاصية، فقد قال يسوع: “يا أبتِ مجِّد اسمك” فجاءه صوت من السماء يقول: “قد مجَّدتُ وسأمجِّد أيضاً” (يو 12: 28) وسمعه الجمع كله ولكن أحداً منهم لم يقع أرضاً. ولكن هنا لم يُسمع الصوت فقط، بل كان هناك أيضاً نور لا يُحتمل يلتمع في الوقت نفسه مع الصوت الذي يدوي. هكذا اعتبر الآباء الحاملو الإله بحصافة أن الرسل سقطوا على وجوههم ليس بسبب الصوت بل إشعاع النور الفائق الطبيعة “خوفاً” كما يقول مرقس (يو 9: 6) بسبب هذا الظهور الإلهي بالتأكيد. (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[10] ماذا يفعل هنا موسى وايليا؟ ظهر لهما موسى وإيليا لأنهما يعتبران قطبين مهمَّين في العهد القديم، ولكنهما وهما يقفان الآن كخادمَين أمام سيد الكل ورب الأرباب.لقد أُحضر موسى من الجحيم (كل القديسين من العهد القديم كانوا في الجحيم، بحسب القديس أبيفانيوس في عظته الشهيرة في نزول المسيح إلى الجحيم) للدلالة على أنه إله الأحياء والأموات.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “اليوم موسى يخدم كعبدٍ المسيح… وهذا ما يعنيه برأيي ظهرُ الله (خر 33: 23)، ويعاين بجلاء مجد الألوهة مخبوءاً في فجوة الصخرة كما يقول الكتاب. ولكن الصخرة إنما هي المسيح الإله المتجسد كما علّمنا بولس: “هذه الصخرة كانت المسيح” (1 كور 10: 4)”[11]. لقد كانا يتباحثان مع يسوع بخصوص آلامه وصلبه وقيامته، بخصوص “العمل الذي أعطاه إياه الآب” (يو 17: 4)، أي مجيئه إلى هذا العالم من أجل إتمام خلاص البشر. يسوع أتى وتجسد وليس في فكره غير الجلجلة، أي خلاصنا. يسوع ممتلئ بالمجد على ثابور وفكره في الجلجلة. وكذا كل من ودّ أن يتجلى فعليه أن يمر بالجلجلة. الذي به سررتُ يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: “الذي به سررت” تعني بحسب القديس بالاماس، حسب مشيئة الله السابقة في سر تدبير ابنه بالجسد”[12]. لماذا غلب عليهم النوم؟ أليس هذا مفاجئاً؟ أن يناموا فجأة هكذا، على الجبل فيما هم يشهدون أموراً فائقة الوصف؟ يقول القديس اندراوس الكريتي: “… فهم، إذ عجزوا عن احتمال شعاع هذه البشرة التي لا عيب فيها، الذي انبجس كما من نبع، من ألوهة الكلمة، بطريقة فائقة الطبيعة من خلال البشرة التي اتحد بها بحسب الأقنوم، سقطوا على وجوههم، يا للمعجزة! في خروج كامل جداً خارج من الطبيعة، مأخوذين بنوم ثقيل وفزع، مغلقين حواسهم، موقفين تماماً كل حركة فكرية وكل فهم، هكذا كانوا سوية مع الله، في عمق هذه الظلمات الإلهية الفائقة النور وغير المنظورة…”[13] صوت الآب رفعهم يقول القديس افرام السرياني إن “صوت الآب أسقطهم وأما صوت الابن فقد رفعهم بالقدرة الإلهية لأجل تلك الألوهة الحالّة في جسده والمتحدة به بلا تغيّر”[14]. ماذا يعلّمنا التجلي؟ يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “… أنا أشعر بأنه سوف يأتي بالجسد كما ظهر للتلاميذ على الجبل حيث استعلن، والألوهة تنتصر على الجسد الشقي[15].. ويوافقه ذيونيسيوس الأريوباغي الذي يؤكد: “سوف يظهر الرب لخدامه الكاملين (في ذلك اليوم) كما رآه الرسل تماماً على جبل ثابور”. لنتأمل بعيوننا الداخلية هذا المشهد العظيم: طبيعتنا تستقر أبدياً مع نار الألوهة اللاهيولية، ولنترك هنا أقمصتنا الجلدية التي نلبسها منذ معصية آدم وسقوطه، ولنقف في أرض مقدسة مظهرين كل واحد منا بأن أرضه مقدسة بفضيلته وشوقه إلى الله، وبثقة من يقف في نور الله لنهرع كي نستنير من بهائه ونعيش إلى الأبد مستضيئين في مجد البهاء المثلث الشموس والواحد في آن، الآن وإلى دهر الدهور، آمين.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل